بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
هدى من الله | ||||
لولو حسن | ||||
روز | ||||
هنا سيد | ||||
توتى بدر | ||||
fola | ||||
روضة البدر | ||||
ام دهب و مصطفى | ||||
امة الرحمن | ||||
لولا |
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
صفحة 7 من اصل 20
صفحة 7 من اصل 20 • 1 ... 6, 7, 8 ... 13 ... 20
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 70 ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
قوله تعالى: « ألم يأتهم نبأ » أي خبر « الذين من قبلهم » الألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. « قوم نوح وعاد وثمود » بدل من الذين. « وقوم إبراهيم » أي نمرود بن كنعان وقومه. « وأصحاب مدين » مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. « والمؤتفكات » قيل: يراد به قوم لوط، لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة. وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. « أتتهم رسلهم بالبينات » يعني جميع الأنبياء. وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: « والمؤتفكة » [ النجم: 53 ] على طريق الجنس. وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] ولم يكن في عصره غيره.
قلت: وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين ) الحديث. وقد تقدم في « البقرة » . والمراد جميع الرسل، والله أعلم.
قوله تعالى: « فما كان الله ليظلمهم » أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.
الآية: 71 ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )
قوله تعالى: « بعضهم أولياء بعض » أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين « بعضهم من بعض » لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.
قوله تعالى: « يأمرون بالمعروف » أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. « وينهون عن المنكر » عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة « المائدة » و « آل عمران » والحمد لله.
قوله تعالى: « ويقيمون الصلاة » تقدم في أول « البقرة » القول فيه. وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
قوله تعالى: « ويطيعون الله » في الفرائض « ورسوله » فيما سن لهم. والسين في قوله: « سيرحمهم الله » مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.
الآية: 72 ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات » أي بساتين « تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في « البقرة » أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. « خالدين فيها ومساكن طيبة » قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. « في جنات عدن » أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني: « جنات عدن » هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. « ورضوان من الله أكبر » أي أكبر من ذلك. « ذلك هو الفوز العظيم » .
الآية: 73 ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير )
قوله تعالى: « يا أيها النبي جاهد الكفار » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
قوله تعالى: « واغلظ عليهم » الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) . ومنه قوله تعالى: » ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك « [ آل عمران: 159 ] . ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: » واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين « [ الشعراء: 215 ] . » واخفض لهما جناح الذل من الرحمة « [ الإسراء: 24 ] . وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.»
الآية: 74 ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير )
قوله تعالى: « يحلفون بالله ما قالوا » روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل: « وهموا بما لم ينالوا » . قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، « وهموا بما لم ينالوا » . وقيل: إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.
قوله تعالى: « ولقد قالوا كلمة الكفر » قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل: « كلمة الكفر » قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبدالله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. « وكفروا بعد إسلامهم » أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: « ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا » [ المنافقون: 3 ] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا: من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك.
قوله تعالى: « وهموا بما لم ينالوا » يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة: سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: ( أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة ) . قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: ( شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه ) . فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.
قوله تعالى: « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال: نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر:
ما نقِموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقَم
ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور: اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » .
قوله تعالى: « فإن يتوبوا يكن خيرا لهم » روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية. والله أعلم.
قوله تعالى: « وإن يتولوا » أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة « يعذبهم الله عذابا أليما » في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. « وما لهم في الأرض من ولي » أي مانع يمنعهم « ولا نصير » أي معين. وقد تقدم.
الآيتان: 75 - 76 ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون )
قوله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ( فسماه ) قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام ( ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت ) فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا ويح ثعلبة ) ثلاثا. ثم نزل « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما: ( مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما ) فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث، وهو مشهور. وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قاله ابن عبدالبر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه « ومنهم من عاهد الله... » الآية؛ إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية: « فأعقبهم نفاقا في قلوبهم » الآية.
قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت.
قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير.
قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله « فأعقبهم نفاقا » يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: « إلى يوم يلقونه » على ما يأتي.
قال علماؤنا: لما قال الله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و « من » رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم.
العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الإيمان والكفر.
قلت: وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء. هذا هو الأشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح في النظر وطريق الأثر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد ) .
إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته ) أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها.
قوله تعالى: « لئن آتانا من فضله لنصدقن » دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ) لفظ الترمذي. وقال: وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ابن العربي: وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية.
قوله تعالى: « فلما آتاهم من فضله » أي أعطاهم. « بخلوا به » أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في « آل عمران » . « وتولوا » أي عن طاعة الله. « وهم معرضون » أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه.
=============
الآية: 70 ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
قوله تعالى: « ألم يأتهم نبأ » أي خبر « الذين من قبلهم » الألف لمعنى التقرير والتحذير، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل. « قوم نوح وعاد وثمود » بدل من الذين. « وقوم إبراهيم » أي نمرود بن كنعان وقومه. « وأصحاب مدين » مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب، أهلكوا بعذاب يوم الظلة. « والمؤتفكات » قيل: يراد به قوم لوط، لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي انقلبت، قاله قتادة. وقيل: المؤتفكات كل من أهلك، كما يقال: انقلبت عليهم الدنيا. « أتتهم رسلهم بالبينات » يعني جميع الأنبياء. وقيل: أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم، فعلى هذا رسولهم لوط وحده، ولكنه بعث في كل قرية رسولا، وكانت ثلاث قريات، وقيل أربع. وقوله تعالى في موضع آخر: « والمؤتفكة » [ النجم: 53 ] على طريق الجنس. وقيل: أراد بالرسل الواحد، كقوله « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] ولم يكن في عصره غيره.
قلت: وهذا فيه نظر، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين ) الحديث. وقد تقدم في « البقرة » . والمراد جميع الرسل، والله أعلم.
قوله تعالى: « فما كان الله ليظلمهم » أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء. « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.
الآية: 71 ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )
قوله تعالى: « بعضهم أولياء بعض » أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. وقال في المنافقين « بعضهم من بعض » لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم.
قوله تعالى: « يأمرون بالمعروف » أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك. « وينهون عن المنكر » عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك. وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال: كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة « المائدة » و « آل عمران » والحمد لله.
قوله تعالى: « ويقيمون الصلاة » تقدم في أول « البقرة » القول فيه. وقال ابن عباس: هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة. ابن عطية: والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض.
قوله تعالى: « ويطيعون الله » في الفرائض « ورسوله » فيما سن لهم. والسين في قوله: « سيرحمهم الله » مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز.
الآية: 72 ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات » أي بساتين « تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار. وقد تقدم في « البقرة » أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود. « خالدين فيها ومساكن طيبة » قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام. « في جنات عدن » أي في دار إقامة. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن. وقال عطاء الخراساني: « جنات عدن » هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز. وقال ابن مسعود: هي بطنان الجنة، أي وسطها. وقال الحسن: هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك. وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله. « ورضوان من الله أكبر » أي أكبر من ذلك. « ذلك هو الفوز العظيم » .
الآية: 73 ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير )
قوله تعالى: « يا أيها النبي جاهد الكفار » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده. قيل: المراد جاهد بالمؤمنين الكفار. وقال ابن عباس: أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم. وقال الحسن: جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود. ابن العربي: أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
قوله تعالى: « واغلظ عليهم » الغلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) . ومنه قوله تعالى: » ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك « [ آل عمران: 159 ] . ومنه قول النسوة لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب. فهي ضد قوله تعالى: » واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين « [ الشعراء: 215 ] . » واخفض لهما جناح الذل من الرحمة « [ الإسراء: 24 ] . وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح.»
الآية: 74 ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير )
قوله تعالى: « يحلفون بالله ما قالوا » روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار. وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب. وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت. وقيل: إن الذي سمعه عاصم بن عدي. وقيل حذيفة. وقيل: بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق. وقال غيره: اسمه مصعب. فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل: « وهموا بما لم ينالوا » . قال مجاهد: وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك. قال، ذلك هي الإشارة بقوله، « وهموا بما لم ينالوا » . وقيل: إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني. فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة. وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن. ابن العربي: وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي.
قوله تعالى: « ولقد قالوا كلمة الكفر » قال النقاش: تكذيبهم بما وعد الله من الفتح. وقيل: « كلمة الكفر » قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير. وقول عبدالله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال القشيري: كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. « وكفروا بعد إسلامهم » أي بعد الحكم بإسلامهم. فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى: « ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا » [ المنافقون: 3 ] دليل قاطع. ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا: من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة. ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك.
قوله تعالى: « وهموا بما لم ينالوا » يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة: سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم. فقلت: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: ( أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة ) . قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: ( شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه ) . فكان كذلك. خرجه مسلم بمعناه. وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه. وقد تقدم قول مجاهد في هذا.
قوله تعالى: « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال: نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر:
ما نقِموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقَم
ينشد بكسر القاف وفتحها. قال الشعبي: كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا. ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا. ويقال: إن القتيل كان مولى الجلاس. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. وهذا المثل مشهور: اتق شر من أحسنت إليه. قال القشيري أبو نصر: قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه؟ قال نعم، « وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله » .
قوله تعالى: « فإن يتوبوا يكن خيرا لهم » روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب. فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق. وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي: تقبل توبته. وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول: أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه. فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية. والله أعلم.
قوله تعالى: « وإن يتولوا » أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة « يعذبهم الله عذابا أليما » في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. « وما لهم في الأرض من ولي » أي مانع يمنعهم « ولا نصير » أي معين. وقد تقدم.
الآيتان: 75 - 76 ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون )
قوله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور. وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ( فسماه ) قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا. فقال عليه السلام ( ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت ) فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا ويح ثعلبة ) ثلاثا. ثم نزل « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما: ( مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما ) فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا. الحديث، وهو مشهور. وقيل: سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له. قاله ابن عبدالبر: قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه « ومنهم من عاهد الله... » الآية؛ إذ منع الزكاة، فالله أعلم. وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية: « فأعقبهم نفاقا في قلوبهم » الآية.
قلت: وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه. فلما سلم بخل بذلك فنزلت.
قلت: وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح. قال أبو عمر: ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم. وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير.
قلت: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله « فأعقبهم نفاقا » يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: « إلى يوم يلقونه » على ما يأتي.
قال علماؤنا: لما قال الله تعالى: « ومنهم من عاهد الله » احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه. واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها. و « من » رفع بالابتداء والخبر في المجرور. ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد. ومنهم من قال: إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم.
العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا. ابن العربي: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال: يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. قال ابن العربي: وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال: عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية. أصله الإيمان والكفر.
قلت: وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به. قال أبو عمر: ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء. هذا هو الأشهر عن مالك. وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه. والأول أصح في النظر وطريق الأثر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد ) .
إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية. وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق. بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة. نعوذ بالله من ذلك.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته ) أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها. وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها.
قوله تعالى: « لئن آتانا من فضله لنصدقن » دليل على أن من قال: إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة: وقال الشافعي: لا يلزمه. والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق. وقال أحمد بن حنبل: يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة. احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ) لفظ الترمذي. وقال: وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ابن العربي: وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية.
قوله تعالى: « فلما آتاهم من فضله » أي أعطاهم. « بخلوا به » أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وقد مضى البخل في « آل عمران » . « وتولوا » أي عن طاعة الله. « وهم معرضون » أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآيتان: 77 - 78 ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب )
قوله تعالى: « فأعقبهم نفاقا » مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال: « بخلوا به » . « إلى يوم يلقونه » في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال: أنت تلقي غدا عملك. وقيل: « إلى يوم يلقونه » أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. « بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون » كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.
قوله تعالى: « نفاقا » النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) خرجه البخاري. وقد مضى في « البقرة » اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فقالت طائفة: إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي: مالي أراكما ثقيلين؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين ( إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ) فقال علي: أفلا سألتماه؟ فقالا: هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكني سأسأله؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال: ( قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون ) ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. وقالت طائفة: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا: يا رسول الله، إنك قلت ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق ) فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس؛ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل « إذا جاءك المنافقون... » [ المنافقون: 1 ] - الآية - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا: لا. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي « ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله » - الآيات الثلاث - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال... » [ الأحزاب: 72 ] - الآية - ( فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء ) . وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة. قالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد.
قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان.
قوله تعالى: « ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم » هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم.
الآية: 79 ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )
قوله تعالى: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة: « يلمزون » يعيبون. قال: وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » . وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل « والذين لا يجدون إلا جهدهم » الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة - قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا - قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم » . يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب. والجهد: شيء قليل يعيش به المقل. والجُهد والجَهد بمعنى واحد. وقد تقدم. و « يلمزون » يعيبون. وقد تقدم. و « المطوعين » أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم. « والذين » في موضع خفض عطف على « المؤمنين » . ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. « فيسخرون » عطف على « يلمزون » . « سخر الله منهم » خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم. وقال ابن عباس: هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في « البقرة » .
الآية: 80 ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين )
قوله تعالى: « استغفر لهم » يأتي بيانه عند قوله تعالى: « ولاتصل على أحد منهم مات أبدا » [ التوبة: 84 ] .
الآية: 81 ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون )
قوله تعالى: « فرح المخلفون بمقعدهم » أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس. وأقعده غيره؛ عن الجوهري. والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك. « خلاف رسول الله » مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ « خلف رسول الله » أراد التأخر عن الجهاد. « وقالوا لا تنفروا في الحر » أي قال بعضهم لبعض ذلك. « قل نار جهنم » قل لهم يا محمد نار جهنم. « أشد حرا لو كانوا يفقهون » ابتداء وخبر. « حرا » نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار.
الآية: 82 ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « فليضحكوا قليلا » أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن: « فليضحكوا قليلا » في الدنيا « وليبكوا كثيرا » في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. « جزاء » مفعول من أجله؛ أي للجزاء.
من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم: ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد ) خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر: ( أن كثرته تميت القلب ) وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام: ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ) خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا.
الآية: 83 ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين )
قوله تعالى: « فإن رجعك الله إلى طائفة منهم » أي المنافقين. وإنما قال: « إلى طائفة » لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. « فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا » أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في « سورة الفتح » : « قل لن تتبعونا » [ الفتح: 15 ] . و « الخالفين » جمع خالف؛ كأنهم خلقوا الخارجين. قال ابن عباس: « الخالفين » من تخلف من المنافقين. وقال الحسن: مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر. وقيل: المعنى فأقعدوا مع الفاسدين؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم؛ من خلوف فم الصائم. ومن قولك: خلف اللبن؛ أي فسد بطول المكث في السقاء؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين. وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز.
الآية: 84 ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون )
روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » الآية؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه. والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال: فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [ براءة ] « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » ونحوه عن ابن عمر؛ خرجه مسلم. قال ابن عمر: لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما خيرني الله تعالى فقال: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة » [ التوبة: 80 ] وسأزيد على سبعين ) قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فترك الصلاة عليهم. وقال بعض العلماء: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه. ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
إن قال قائل فكيف قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث. وجاء: في أربع. وقد تقدم في البقرة. فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم » [ التوبة: 80 ] الآية. لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم. والله أعلم.
قلت: ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة: 113 ] لأنها نزلت بمكة. وسيأتي القول فيها.
قوله تعالى: « استغفر لهم » الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري: ولم يثبت ما يروي أنه قال: ( لأزيدن على السبعين ) .
قلت: وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث ابن عباس ( لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها ] . قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري.
واختلف العلماء في تأويل قوله: « استغفر لهم » هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى: « فلن يغفر الله لهم » [ التوبة: 80 ] . وذكر السبعين وفاق جرى، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله. لا أكلمه أبدا. ومثله في الإغياء قوله تعالى: « في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا » [ الحاقة:32 ] وقوله عليه السلام: ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ) . وقالت طائفة: هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر. ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر: أتصلي على عدو الله، القائل يوم كذا كذا وكذا؟ فقال: ( إني خيرت فاخترت ) . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل « سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم » [ المنافقون: 6 ] « ذلك بأنهم كفروا » [ التوبة: 80 ] أي لا يغفر الله لهم لكفرهم.
قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة:113 ] الآية. وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه. وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا. وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله: ( إنما خيرني الله ) وهذا مشكل. فقيل: إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة. وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه. وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له. والله أعلم.
واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل: إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل: إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والأول أصح؛ خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي ] كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: ( رجال من قومه ) . ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.
لما قال تعالى: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى: « إنهم كفروا بالله ورسوله » فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى: « كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] يعني الكفار؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون؛ فذلك مثله. والله أعلم. أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الأحاديث الواردة في الباب، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه. روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه ) قال: فقمنا فصففنا صفين؛ يعني النجاشي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. والحمد لله. وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم؛ وإلا في أهل البدع والبغاة.
والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين: كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة: يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي: ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد: ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم ) .
ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة؛ لقوله عليه السلام: ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) حملا له على عمومه. وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة. وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة. وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت. ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم. قال شيخنا أبو العباس: وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند. والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام: ( لا صلاة ) وبين إخلاص الدعاء للميت. وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء. والله أعلم.
وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها.
قوله تعالى: « ولا تقم على قبره » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه [ في التذكرة ] والحمد لله.
=============
الآيتان: 77 - 78 ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب )
قوله تعالى: « فأعقبهم نفاقا » مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم. وقيل: أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال: « بخلوا به » . « إلى يوم يلقونه » في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال: أنت تلقي غدا عملك. وقيل: « إلى يوم يلقونه » أي يلقون الله. وفي هذا دليل على أنه مات منافقا. وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها. « بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون » كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.
قوله تعالى: « نفاقا » النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر. فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ) خرجه البخاري. وقد مضى في « البقرة » اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها. واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فقالت طائفة: إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها. وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي: مالي أراكما ثقيلين؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين ( إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف ) فقال علي: أفلا سألتماه؟ فقالا: هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكني سأسأله؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال: ( قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون ) ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. وقالت طائفة: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا: يا رسول الله، إنك قلت ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق ) فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس؛ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل « إذا جاءك المنافقون... » [ المنافقون: 1 ] - الآية - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا: لا. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي « ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله » - الآيات الثلاث - ( أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به. قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي « إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال... » [ الأحزاب: 72 ] - الآية - ( فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك ) ؟ قلنا لا قال: ( لا عليكم أنتم من ذلك براء ) . وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة. قالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال. ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة. قال ابن العربي: والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد.
قال علماؤنا: إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين. قال عطاء بن أبي رباح: قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة. وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان.
قوله تعالى: « ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم » هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم.
الآية: 79 ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )
قوله تعالى: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » هذا أيضا من صفات المنافقين. قال قتادة: « يلمزون » يعيبون. قال: وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف. فقال قوم: ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله: « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات » . وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل « والذين لا يجدون إلا جهدهم » الآية. وخرج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة - قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا - قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت « الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم » . يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب. والجهد: شيء قليل يعيش به المقل. والجُهد والجَهد بمعنى واحد. وقد تقدم. و « يلمزون » يعيبون. وقد تقدم. و « المطوعين » أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم. « والذين » في موضع خفض عطف على « المؤمنين » . ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه. « فيسخرون » عطف على « يلمزون » . « سخر الله منهم » خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم. وقال ابن عباس: هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار. ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم. وقد تقدم في « البقرة » .
الآية: 80 ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين )
قوله تعالى: « استغفر لهم » يأتي بيانه عند قوله تعالى: « ولاتصل على أحد منهم مات أبدا » [ التوبة: 84 ] .
الآية: 81 ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون )
قوله تعالى: « فرح المخلفون بمقعدهم » أي بقعودهم. قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس. وأقعده غيره؛ عن الجوهري. والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك. « خلاف رسول الله » مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا. والخلاف المخالفة. ومن قرأ « خلف رسول الله » أراد التأخر عن الجهاد. « وقالوا لا تنفروا في الحر » أي قال بعضهم لبعض ذلك. « قل نار جهنم » قل لهم يا محمد نار جهنم. « أشد حرا لو كانوا يفقهون » ابتداء وخبر. « حرا » نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار.
الآية: 82 ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « فليضحكوا قليلا » أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها. قال الحسن: « فليضحكوا قليلا » في الدنيا « وليبكوا كثيرا » في جهنم. وقيل: هو أمر بمعنى الخبر. أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا. « جزاء » مفعول من أجله؛ أي للجزاء.
من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا. قال صلى الله عليه وسلم: ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد ) خرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر: ( أن كثرته تميت القلب ) وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام: ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ) خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا.
الآية: 83 ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين )
قوله تعالى: « فإن رجعك الله إلى طائفة منهم » أي المنافقين. وإنما قال: « إلى طائفة » لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا. وسيأتي. « فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا » أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا. وهو كما قال في « سورة الفتح » : « قل لن تتبعونا » [ الفتح: 15 ] . و « الخالفين » جمع خالف؛ كأنهم خلقوا الخارجين. قال ابن عباس: « الخالفين » من تخلف من المنافقين. وقال الحسن: مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر. وقيل: المعنى فأقعدوا مع الفاسدين؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم؛ من خلوف فم الصائم. ومن قولك: خلف اللبن؛ أي فسد بطول المكث في السقاء؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين. وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز.
الآية: 84 ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون )
روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » الآية؛ فأنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه. والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال: فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من [ براءة ] « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » ونحوه عن ابن عمر؛ خرجه مسلم. قال ابن عمر: لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما خيرني الله تعالى فقال: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة » [ التوبة: 80 ] وسأزيد على سبعين ) قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فترك الصلاة عليهم. وقال بعض العلماء: إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه. ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
إن قال قائل فكيف قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم. قيل له: يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث. وجاء: في أربع. وقد تقدم في البقرة. فيكون هذا من ذلك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى: « استغفر لهم أو لا تستغفر لهم » [ التوبة: 80 ] الآية. لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم. والله أعلم.
قلت: ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة: 113 ] لأنها نزلت بمكة. وسيأتي القول فيها.
قوله تعالى: « استغفر لهم » الآية. بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار. قال القشيري: ولم يثبت ما يروي أنه قال: ( لأزيدن على السبعين ) .
قلت: وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث ابن عباس ( لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها ] . قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه البخاري.
واختلف العلماء في تأويل قوله: « استغفر لهم » هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى: « فلن يغفر الله لهم » [ التوبة: 80 ] . وذكر السبعين وفاق جرى، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله. لا أكلمه أبدا. ومثله في الإغياء قوله تعالى: « في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا » [ الحاقة:32 ] وقوله عليه السلام: ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ) . وقالت طائفة: هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر. ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر: أتصلي على عدو الله، القائل يوم كذا كذا وكذا؟ فقال: ( إني خيرت فاخترت ) . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل « سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم » [ المنافقون: 6 ] « ذلك بأنهم كفروا » [ التوبة: 80 ] أي لا يغفر الله لهم لكفرهم.
قوله تعالى: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » [ التوبة:113 ] الآية. وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه. وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا. وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله: ( إنما خيرني الله ) وهذا مشكل. فقيل: إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة. وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه. وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له. والله أعلم.
واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل: إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر. وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل: إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه. والأول أصح؛ خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي ] كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: ( رجال من قومه ) . ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج.
لما قال تعالى: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » قال علماؤنا: هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين. واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين. يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى: « إنهم كفروا بالله ورسوله » فإذا زال الكفر وجبت الصلاة. ويكون هذا نحو قوله تعالى: « كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] يعني الكفار؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون؛ فذلك مثله. والله أعلم. أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الأحاديث الواردة في الباب، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه. روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه ) قال: فقمنا فصففنا صفين؛ يعني النجاشي. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات. وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا. والحمد لله. وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم؛ وإلا في أهل البدع والبغاة.
والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع. قال ابن سيرين: كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة. وقالت طائفة: يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم. وعن علي: ست تكبيرات. وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد: ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم ) .
ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة؛ لقوله عليه السلام: ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) حملا له على عمومه. وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة. وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة. وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت. ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم. قال شيخنا أبو العباس: وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند. والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام: ( لا صلاة ) وبين إخلاص الدعاء للميت. وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء. والله أعلم.
وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها.
قوله تعالى: « ولا تقم على قبره » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه [ في التذكرة ] والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 85 ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )
كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه.
الآية: 86 ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين )
انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون. فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان. و « أن » في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا. و « الطول » الغني؛ وقد تقدم. وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور. « وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين » أي العاجزين عن الخروج.
الآيات: 87 - 89 ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم )
قوله تعالى: « رضوا بأن يكونوا مع الخوالف » « الخوالف » جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال. وقد يقال للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم. يقال: فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس: وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين: « وأولئك لهم الخيرات » قيل: النساء الحسان؛ عن الحسن. دليله قوله عز وجل: « فيهن خيرات حسان » [ الرحمن: 70 ] . ويقال: هي خيرة النساء. والأصل خيرة فخفف؛ مثل هينة وهينة. وقيل: جمع خير. فالمعنى لهم منافع الدارين. وقد تقدم معنى الفلاح. والجنات: والبساتين. وقد تقدم أيضا.
الآية: 90 ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم )
قوله تعالى: « وجاء المعذرون من الأعراب » قرأ الأعرج والضحاك « المعْذِرون » مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقرأ « وجاء المعْذرون » مخففة، من أعذر. ويقول: والله لهكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما « المعذرون » بالتشديد ففيه قولان: أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا. فيكون « المعذرون » على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ « يخصمون » [ يس: 49 ] بفتح الخاء. ويجوز « المعذرون » بكسر العين لاجتماع الساكنين. ويجوز ضمها اتباعا للميم. ذكره الجوهري والنحاس. إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد. ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال؛ ويكونون الذين لهم عذر. قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري: فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره: يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين. كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس: قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس: وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب: من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال: « وقعد الذين كذبوا الله ورسوله » والمراد بكذبهم قولهم: إنا مؤمنون. و « ليؤذن » نصب بلام كي.
الآية: 91 ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم )
قوله تعالى: « ليس على الضعفاء » الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » [ البقرة: 286 ] وقوله: « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج » [ النور: 61 ] . وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) . قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: ( حبسهم العذر ) . فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال: ليس على هؤلاء حرج. « إذا نصحوا لله ورسوله » إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » [ آل عمران: 144 ] . هذه عزائم القوم. والحق يقول: « ليس على الأعمى حرج » [ النور: 61 ] وهو في الأول. « ولا على الأعرج حرج » [ النور:61 ] وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام: ( إن الله قد عذرك ) فقال: والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبدالله بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
قوله تعالى: « إذا نصحوا » النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين النصيحة ) ثلاثا. قلنا لمن؟ قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) . قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
قوله تعالى: « ما على المحسنين من سبيل » « من سبيل » في موضع رفع اسم « ما » أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها.
الآية: 92 ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )
قوله تعالى: « ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم » روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل: نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم. بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ « تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون » فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل: بل هو عبدالله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر. قالوا: يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال: « لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن: نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال: « والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال: ( إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) . »
قلت: وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. وفي مسلم: فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى... الحديث. وفي آخره: ( فانطلقوا فإنما حملكم الله ) . وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله: نزلت في عبدالله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله. قال الجرجاني: التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد. فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب « تولوا » . « وأعينهم تفيض من الدمع » الجملة في موضع نصب على الحال. « حزنا » مصدر. « ألا يجدوا » نصب بأن. وقال النحاس: قال الفراء يجوز أن لا يجدون؛ يجعل لا بمعنى ليس. وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون.
والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا: إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم.
قوله تعالى: « وأعينهم تفيض من الدمع » ما يستدل به على قرائن الأحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد. فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام: « وجاؤوا أباهم عشاء يبكون » [ يوسف: 16 ] . وهم الكاذبون؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » [ يوسف: 18 ] . ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها. وقال الشاعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
وسيأتي هذا المعنى في « يوسف » مستوفى إن شاء الله تعالى.
الآية: 93 ( إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون )
قوله تعالى: « إنما السبيل » أي العقوبة والمأثم. « على الذين يستأذنونك وهم أغنياء » والمراد المنافقون. كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
الآية: 94 ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « يعتذرون إليكم » يعني المنافقين. « لن نؤمن لكم » أي لن نصدقكم. « قد نبأنا الله من أخباركم » أي أخبرنا بسرائركم. « وسيرى الله عملكم » فيما تستأنفون. « ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون » أي يجازيكم بعملكم. وقد مضى هذا كله مستوفى.
الآية: 95 ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم » أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. « لتعرضوا عنهم » أي لتصفحوا عن لومهم. وقال ابن عباس: أي لا تكلموهم. وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك: ( ولا تجالسوهم ولا تكلموهم ) . « إنهم رجس » أي عملهم رجس؛ والتقدير: إنهم ذوو رجس؛ أي عملهم قبيح. « ومأواهم جهنم » أي منزلهم ومكانهم. قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، على فعول، وإواء. ومنه قوله تعالى: « سآوي إلى جبل يعصمني من الماء » [ هود: 43 ] . وآويته أنا إيواء. وأويته إذا أنزلته بك؛ فعلت وأفعلت، بمعنى؛ عن أبى زيد. ومأوي الإبل « بكسر الواو » لغة في مأوى الإبل خاصة، وهو شاذ.
الآية: 96 ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين )
حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه.
الآية: 97 ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم )
لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب؛ فقال كفرهم أشد. قال قتادة: لأنهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل: لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم: « وأجدر » أي أخلق. « ألا يعلموا » « أن » في موضع نصب بحذف الباء؛ تقول: أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ « أن » وإن أتيت بالباء صلح بـ « أن » وغيره؛ تقول: أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت: أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع « أن » لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. « حدود ما أنزل الله » أي فرائض الشرع. وقيل: حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم.
ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة:
أولها: لا حق لهم في الفيء والغنيمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة، وفيه: ( ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ) .
وثانيها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة؛ لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا؛ وهو الصحيح لما بيناه في « البقرة » . وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة: أحدها: بالكفر والنفاق. والثاني: بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر. والثالث: بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في « النساء » .
وثالثها: أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي. وقال مالك: لا يؤم وإن كان أقرأهم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي: الصلاة خلف الأعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة.
قوله تعالى: « أشد » أصله أشدد؛ وقد تقدم. « كفرا » نصب على البيان. « ونفاقا » عطف عليه. « وأجدر » عطف على أشد، ومعناه أخلق؛ يقال: فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون. وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله: هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. « ألا يعلموا » أي بألا يعلموا. والعرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط؛ وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به؛ كقولك: ليل لائل. وربما قالوا: العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم. والعُرب والعَرب واحد؛ مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب؛ قال الشاعر:
ومكن الضباب طعام العريب ولا تشتهيه نفوس العجم
إنما صغرهم تعظيما؛ كما قال: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري. وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب. والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها.
الآية: 98 ( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم )
قوله تعالى: « ومن الأعراب من يتخذ » « من » في موضع رفع بالابتداء. « ما ينفق مغرما » مفعولان؛ والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم. « مغرما » معناه غرما وخسرانا؛ وأصله لزوم الشيء؛ ومنه: « إن عذابها كان غراما » [ الفرقان: 65 ] أي لازما، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا. « ويتربص بكم الدوائر » التربص الانتظار؛ وقد تقدم. والدوائر جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب. « عليهم دائرة السوء » قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح، وفتحها الباقون. وأجمعوا على فتح السين في قوله: « ما كان أبوك امرأ سوء » [ مريم: 28 ] . والفرق بينهما أن السُوء بالضم المكروه. قال الأخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشر. وقال الفراء: أي عليهم دائرة العذاب والبلاء. قالا: ولا يجوز امرأ سُوء بالضم؛ كما لا يقال: هو امرؤ عذاب ولا شر. وحكي عن محمد بن يزيد قال: السَوء بالفتح الرداءة. قال سيبوبه: مررت برجل صدق، ومعناه برجل صلاح. وليس من صدق اللسان، ولو كان من صدق اللسان لما قلت: مررت بثوب صدق. ومررت برجل سوء ليس هو من سُؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد. وقال الفراء: السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية. قال غيره: والفعل منه ساء يسوء. والسوء بالضم اسم لا مصدر؛ وهو كقولك: عليهم دائرة البلاء والمكروه.
الآية: 99 ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم )
قوله تعالى: « ومن الأعراب من يؤمن بالله » أي صدق. والمراد بنو مقرن من مزينة؛ ذكره المهدوي. « قربات » جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات؛ حكاه النحاس. والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى؛ تقول منه: قربت لله قربانا. والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات، وللكثير قرب. وكذلك جمع كل ما كان على فعلة؛ مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن؛ حكاه الجوهري. وقرأ نافع في رواية ورش « قربة » بضم الراء وهي الأصل. والباقون بسكونها تخفيفا؛ مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ « ألا إنها قربة لهم » . ومعنى « وصلوات الرسول » استغفاره ودعاؤه. والصلاة تقع على ضروب؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة؛ قال الله تعالى: « هو الذي يصلي عليكم وملائكته » [ الأحزاب:43 ] والصلاة من الملائكة الدعاء، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: « وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم » [ التوبة:103 ] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة. « ألا إنها قربة لهم » أي تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم.
الآية: 100 ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )
لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ « والأنصار » رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما. والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار.
نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقال الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم.
وأما أفضلهم فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال: أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبدالله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس. وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر.
والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة.
لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد ) . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته. والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف.
قرأ عمر « والأنصارُ » رفعا. « الذين » بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا؛ فرجع إليه عمر وقال: ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة: « وآخرين منهم لما يلحقوا بهم » [ الجمعة: 3 ] وفي سورة الحشر: « والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان » [ الحشر: 10 ] . وفي سورة الأنفال بقوله: « والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم » [ الأنفال: 74 ] . فثبتت القراءة بالواو. وبين تعالى بقوله: « بإحسان » ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم.
واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل: إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ لما ثبت أن عبدالرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: ( دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . ومن العجب عد الحاكم أبو عبدالله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم. والله أعلم. وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد؛ وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال:
فخذهم عبيدالله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب؛ فقيل له: فعلقمة والأسود. فقال: سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود. وعنه أيضا أنه قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضا: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم؛ وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء. وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال: طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي السميط، وبكير بن عبدالله الأشج. وذكر غيرهم قال: وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين. وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان، لقي عبدالله بن عمر وأنسا. وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبدالرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب، والأحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله جل وعز: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] على ما تقدم، وقوله عز وجل: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وددت أنا لو رأينا إخواننا... ) . الحديث. فجعلنا إخوانه؛ إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله.
الآية: 101 ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم )
قوله تعالى: « وممن حولكم من الأعراب منافقون » ابتداء وخبر. أي قوم منافقون؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع. « ومن أهل المدينة مردوا على النفاق » أي قوم مردوا على النفاق. وقيل: « مردوا » من نعت المنافقين؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى. ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك. ومعنى: « مردوا » أقاموا ولم يتوبوا؛ عن ابن زيد. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره؛ والمعنى متقارب. وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد. فكأنهم تجردوا للنفاق. ومنه رملة مرداء لا نبت فيها. وغصن أمرد لا ورق عليه. وفرس أمرد لا شعر على ثنته. وغلام أمرد بين المرد؛ ولا يقال: جارية مرداء. وتمريد البناء تمليسه؛ ومنه قوله: « صرح ممرد » [ النمل: 44 ] . وتمريد الغصن تجريده من الورق؛ يقال: مرد يمرد مرودا ومرادة. « لا تعلمهم نحن نعلمهم » هو مثل قوله: « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] على ما تقدم. وقيل: المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها؛ وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار.
قوله تعالى: « سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم » قال ابن عباس: بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة. فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة. وقيل: العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين. والعذاب الثاني عذاب القبر. الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ابن زيد: الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والثاني عذاب القبر. مجاهد: الجوع والقتل. الفراء: القتل وعذاب القبر. وقيل: السباء والقتل. وقيل: الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر. وقيل: أحد العذابين ما قال تعالى: « فلا تعجبك أموالهم - إلى قول - إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا » [ التوبة: 55 ] . والغرض من الآية اتباع العذاب، أو تضعيف العذاب عليهم.
الآية: 102 ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم )
أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين. وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] ؛ ذكره المهدوي. وقال زيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة؛ وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه. يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت؛ فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله؛ ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا. وقال أشهب، عن مالك: نزلت « وآخرون » في شأن أبي لبابة وأصحابه، وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي؟ فقال: ( يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطرهم وتزكيهم بها » [ التوبة 103 ] ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك. والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ) فأنزل الله هذه الآية؛ فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم. فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] الآية. قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها. فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة. واختلفوا في الصالح؛ فقال الطبري وغيره: الاعتراف والندم. وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا. وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة؛ فهي ترجى. ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا » .
وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ( أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: أذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا: أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم ) . وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال: ( ثم صعد بي إلى السماء... ) ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا: ( حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم. فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله. وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا ) وذكر الحديث. والواو في قوله: « وآخر سيئا » قيل: هي بمعنى الباء، وقيل: بمعنى مع؛ كقولك استوى الماء والخشبة. وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا: لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و « آخر » في الآية يجوز تقديمه على الأول؛ فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن.
=============
الآية: 85 ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )
كرره تأكيدا. وقد تقدم الكلام فيه.
الآية: 86 ( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين )
انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون. فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان. و « أن » في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا. و « الطول » الغني؛ وقد تقدم. وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور. « وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين » أي العاجزين عن الخروج.
الآيات: 87 - 89 ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم )
قوله تعالى: « رضوا بأن يكونوا مع الخوالف » « الخوالف » جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال. وقد يقال للرجل: خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم. يقال: فلان خالفة أهله إذا كان دونهم. قال النحاس: وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه. وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك. وقوله تعالى في وصف المجاهدين: « وأولئك لهم الخيرات » قيل: النساء الحسان؛ عن الحسن. دليله قوله عز وجل: « فيهن خيرات حسان » [ الرحمن: 70 ] . ويقال: هي خيرة النساء. والأصل خيرة فخفف؛ مثل هينة وهينة. وقيل: جمع خير. فالمعنى لهم منافع الدارين. وقد تقدم معنى الفلاح. والجنات: والبساتين. وقد تقدم أيضا.
الآية: 90 ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم )
قوله تعالى: « وجاء المعذرون من الأعراب » قرأ الأعرج والضحاك « المعْذِرون » مخففا. ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقرأ « وجاء المعْذرون » مخففة، من أعذر. ويقول: والله لهكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك. وأما « المعذرون » بالتشديد ففيه قولان: أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا. فيكون « المعذرون » على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ « يخصمون » [ يس: 49 ] بفتح الخاء. ويجوز « المعذرون » بكسر العين لاجتماع الساكنين. ويجوز ضمها اتباعا للميم. ذكره الجوهري والنحاس. إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد. ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال؛ ويكونون الذين لهم عذر. قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له. قال الجوهري: فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. قال غيره: يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه. والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري: وكان ابن عباس يقول: لعن الله المعذرين. كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر. النحاس: قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس. ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال: لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال النحاس: وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر. وقول العرب: من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته. فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم. وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال: « وقعد الذين كذبوا الله ورسوله » والمراد بكذبهم قولهم: إنا مؤمنون. و « ليؤذن » نصب بلام كي.
الآية: 91 ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم )
قوله تعالى: « ليس على الضعفاء » الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » [ البقرة: 286 ] وقوله: « ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج » [ النور: 61 ] . وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) . قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: ( حبسهم العذر ) . فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال: ليس على هؤلاء حرج. « إذا نصحوا لله ورسوله » إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء: فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » [ آل عمران: 144 ] . هذه عزائم القوم. والحق يقول: « ليس على الأعمى حرج » [ النور: 61 ] وهو في الأول. « ولا على الأعرج حرج » [ النور:61 ] وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش. قال له الرسول عليه السلام: ( إن الله قد عذرك ) فقال: والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم. وقال عبدالله بن مسعود: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
قوله تعالى: « إذا نصحوا » النصح إخلاص العمل من الغش. ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص. ونصح له القول أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين النصيحة ) ثلاثا. قلنا لمن؟ قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) . قال العلماء: النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
قوله تعالى: « ما على المحسنين من سبيل » « من سبيل » في موضع رفع اسم « ما » أي من طريق إلى العقوبة. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن. ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه: إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه. وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تلزمه لمالكه القيمة. قال ابن العربي: وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها.
الآية: 92 ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )
قوله تعالى: « ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم » روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية. وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو. وقيل: نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم. بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندق كلهم. وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ « تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون » فسموا البكائين. وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة. وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام من بني سلمة. وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل: بل هو عبدالله بن عمرو المزني. وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له. وفيهم اختلاف. قال القشيري: معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر. قالوا: يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك. فقال: « لا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا وهم يبكون. وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق. وقال الحسن: نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال: « والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال: ( إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) . »
قلت: وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه. وفي مسلم: فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى... الحديث. وفي آخره: ( فانطلقوا فإنما حملكم الله ) . وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله: نزلت في عبدالله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله. قال الجرجاني: التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد. فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب « تولوا » . « وأعينهم تفيض من الدمع » الجملة في موضع نصب على الحال. « حزنا » مصدر. « ألا يجدوا » نصب بأن. وقال النحاس: قال الفراء يجوز أن لا يجدون؛ يجعل لا بمعنى ليس. وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون.
والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه. وقال علماؤنا: إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد. والله أعلم.
قوله تعالى: « وأعينهم تفيض من الدمع » ما يستدل به على قرائن الأحوال. ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد. فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات. وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام: « وجاؤوا أباهم عشاء يبكون » [ يوسف: 16 ] . وهم الكاذبون؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » [ يوسف: 18 ] . ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها. وقال الشاعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
وسيأتي هذا المعنى في « يوسف » مستوفى إن شاء الله تعالى.
الآية: 93 ( إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون )
قوله تعالى: « إنما السبيل » أي العقوبة والمأثم. « على الذين يستأذنونك وهم أغنياء » والمراد المنافقون. كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
الآية: 94 ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « يعتذرون إليكم » يعني المنافقين. « لن نؤمن لكم » أي لن نصدقكم. « قد نبأنا الله من أخباركم » أي أخبرنا بسرائركم. « وسيرى الله عملكم » فيما تستأنفون. « ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون » أي يجازيكم بعملكم. وقد مضى هذا كله مستوفى.
الآية: 95 ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم » أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. « لتعرضوا عنهم » أي لتصفحوا عن لومهم. وقال ابن عباس: أي لا تكلموهم. وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك: ( ولا تجالسوهم ولا تكلموهم ) . « إنهم رجس » أي عملهم رجس؛ والتقدير: إنهم ذوو رجس؛ أي عملهم قبيح. « ومأواهم جهنم » أي منزلهم ومكانهم. قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا. وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، على فعول، وإواء. ومنه قوله تعالى: « سآوي إلى جبل يعصمني من الماء » [ هود: 43 ] . وآويته أنا إيواء. وأويته إذا أنزلته بك؛ فعلت وأفعلت، بمعنى؛ عن أبى زيد. ومأوي الإبل « بكسر الواو » لغة في مأوى الإبل خاصة، وهو شاذ.
الآية: 96 ( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين )
حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه.
الآية: 97 ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم )
لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب؛ فقال كفرهم أشد. قال قتادة: لأنهم أبعد عن معرفة السنن. وقيل: لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم: « وأجدر » أي أخلق. « ألا يعلموا » « أن » في موضع نصب بحذف الباء؛ تقول: أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ « أن » وإن أتيت بالباء صلح بـ « أن » وغيره؛ تقول: أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام. ولو قلت: أنت جدير القيام كان خطأ. وإنما صلح مع « أن » لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف. « حدود ما أنزل الله » أي فرائض الشرع. وقيل: حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم.
ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة:
أولها: لا حق لهم في الفيء والغنيمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة، وفيه: ( ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ) .
وثانيها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة؛ لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا؛ وهو الصحيح لما بيناه في « البقرة » . وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة: أحدها: بالكفر والنفاق. والثاني: بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر. والثالث: بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل. وقد مضى الكلام في هذا في « النساء » .
وثالثها: أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة. وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي. وقال مالك: لا يؤم وإن كان أقرأهم. وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي: الصلاة خلف الأعرابي جائزة. واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة.
قوله تعالى: « أشد » أصله أشدد؛ وقد تقدم. « كفرا » نصب على البيان. « ونفاقا » عطف عليه. « وأجدر » عطف على أشد، ومعناه أخلق؛ يقال: فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون. وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء. فقوله: هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به. « ألا يعلموا » أي بألا يعلموا. والعرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سكان البادية خاصة. وجاء في الشعر الفصيح أعاريب. والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط؛ وإنما العرب اسم جنس. والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به؛ كقولك: ليل لائل. وربما قالوا: العرب العرباء. وتعرب أي تشبه بالعرب. وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا. والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة. ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم. والعُرب والعَرب واحد؛ مثل العجم والعجم. والعريب تصغير العرب؛ قال الشاعر:
ومكن الضباب طعام العريب ولا تشتهيه نفوس العجم
إنما صغرهم تعظيما؛ كما قال: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري. وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب. والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب. والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب. وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها. وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها.
الآية: 98 ( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم )
قوله تعالى: « ومن الأعراب من يتخذ » « من » في موضع رفع بالابتداء. « ما ينفق مغرما » مفعولان؛ والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم. « مغرما » معناه غرما وخسرانا؛ وأصله لزوم الشيء؛ ومنه: « إن عذابها كان غراما » [ الفرقان: 65 ] أي لازما، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا. « ويتربص بكم الدوائر » التربص الانتظار؛ وقد تقدم. والدوائر جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب. « عليهم دائرة السوء » قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح، وفتحها الباقون. وأجمعوا على فتح السين في قوله: « ما كان أبوك امرأ سوء » [ مريم: 28 ] . والفرق بينهما أن السُوء بالضم المكروه. قال الأخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشر. وقال الفراء: أي عليهم دائرة العذاب والبلاء. قالا: ولا يجوز امرأ سُوء بالضم؛ كما لا يقال: هو امرؤ عذاب ولا شر. وحكي عن محمد بن يزيد قال: السَوء بالفتح الرداءة. قال سيبوبه: مررت برجل صدق، ومعناه برجل صلاح. وليس من صدق اللسان، ولو كان من صدق اللسان لما قلت: مررت بثوب صدق. ومررت برجل سوء ليس هو من سُؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد. وقال الفراء: السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية. قال غيره: والفعل منه ساء يسوء. والسوء بالضم اسم لا مصدر؛ وهو كقولك: عليهم دائرة البلاء والمكروه.
الآية: 99 ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم )
قوله تعالى: « ومن الأعراب من يؤمن بالله » أي صدق. والمراد بنو مقرن من مزينة؛ ذكره المهدوي. « قربات » جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات؛ حكاه النحاس. والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى؛ تقول منه: قربت لله قربانا. والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات، وللكثير قرب. وكذلك جمع كل ما كان على فعلة؛ مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن؛ حكاه الجوهري. وقرأ نافع في رواية ورش « قربة » بضم الراء وهي الأصل. والباقون بسكونها تخفيفا؛ مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ « ألا إنها قربة لهم » . ومعنى « وصلوات الرسول » استغفاره ودعاؤه. والصلاة تقع على ضروب؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة؛ قال الله تعالى: « هو الذي يصلي عليكم وملائكته » [ الأحزاب:43 ] والصلاة من الملائكة الدعاء، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: « وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم » [ التوبة:103 ] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة. « ألا إنها قربة لهم » أي تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم.
الآية: 100 ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )
لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم. وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم. ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى. وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ « والأنصار » رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما. والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار.
نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقال الشعبي. وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر. واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم.
وأما أفضلهم فقال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال: أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي. وقيل: أول من أسلم علي؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم. قال الحاكم أبو عبدالله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما. وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري. وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس. وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال. والله أعلم. وذكر محمد بن سعد قال: أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا. قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين. وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين. وقيل: ابن عشر.
والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه. قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة.
لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق. وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد ) . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام. وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة. وكان عمر يقول له: أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وأجرهم عليه. وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته: لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته. والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف.
قرأ عمر « والأنصارُ » رفعا. « الذين » بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا؛ فرجع إليه عمر وقال: ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد. فقال أبي: إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة: « وآخرين منهم لما يلحقوا بهم » [ الجمعة: 3 ] وفي سورة الحشر: « والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان » [ الحشر: 10 ] . وفي سورة الأنفال بقوله: « والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم » [ الأنفال: 74 ] . فثبتت القراءة بالواو. وبين تعالى بقوله: « بإحسان » ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم.
واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية. وقد قيل: إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ لما ثبت أن عبدالرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: ( دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . ومن العجب عد الحاكم أبو عبدالله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم. والله أعلم. وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد؛ وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال:
فخذهم عبيدالله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيب؛ فقيل له: فعلقمة والأسود. فقال: سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود. وعنه أيضا أنه قال: أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين. وقال أيضا: كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم؛ وأبهم. وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال: سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء. وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال: طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وبكير بن أبي السميط، وبكير بن عبدالله الأشج. وذكر غيرهم قال: وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين. وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان، لقي عبدالله بن عمر وأنسا. وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك. وأم خالد بنت خالد بن سعيد. وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبدالرحمن بن مل. وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة. وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب، والأحنف بن قيس. فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكفانا نحن قوله جل وعز: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] على ما تقدم، وقوله عز وجل: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وددت أنا لو رأينا إخواننا... ) . الحديث. فجعلنا إخوانه؛ إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله.
الآية: 101 ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم )
قوله تعالى: « وممن حولكم من الأعراب منافقون » ابتداء وخبر. أي قوم منافقون؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع. « ومن أهل المدينة مردوا على النفاق » أي قوم مردوا على النفاق. وقيل: « مردوا » من نعت المنافقين؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى. ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك. ومعنى: « مردوا » أقاموا ولم يتوبوا؛ عن ابن زيد. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره؛ والمعنى متقارب. وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد. فكأنهم تجردوا للنفاق. ومنه رملة مرداء لا نبت فيها. وغصن أمرد لا ورق عليه. وفرس أمرد لا شعر على ثنته. وغلام أمرد بين المرد؛ ولا يقال: جارية مرداء. وتمريد البناء تمليسه؛ ومنه قوله: « صرح ممرد » [ النمل: 44 ] . وتمريد الغصن تجريده من الورق؛ يقال: مرد يمرد مرودا ومرادة. « لا تعلمهم نحن نعلمهم » هو مثل قوله: « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] على ما تقدم. وقيل: المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها؛ وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار.
قوله تعالى: « سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم » قال ابن عباس: بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة. فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة. وقيل: العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين. والعذاب الثاني عذاب القبر. الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ابن زيد: الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والثاني عذاب القبر. مجاهد: الجوع والقتل. الفراء: القتل وعذاب القبر. وقيل: السباء والقتل. وقيل: الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر. وقيل: أحد العذابين ما قال تعالى: « فلا تعجبك أموالهم - إلى قول - إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا » [ التوبة: 55 ] . والغرض من الآية اتباع العذاب، أو تضعيف العذاب عليهم.
الآية: 102 ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم )
أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين. وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] ؛ ذكره المهدوي. وقال زيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة؛ وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه. يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت؛ فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله؛ ذكره الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا. وقال أشهب، عن مالك: نزلت « وآخرون » في شأن أبي لبابة وأصحابه، وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي؟ فقال: ( يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطرهم وتزكيهم بها » [ التوبة 103 ] ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك. والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ) فأنزل الله هذه الآية؛ فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم. فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » [ التوبة: 103 ] الآية. قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها. فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة. واختلفوا في الصالح؛ فقال الطبري وغيره: الاعتراف والندم. وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا. وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة؛ فهي ترجى. ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا » .
وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ( أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم: أذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا: أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم ) . وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال: ( ثم صعد بي إلى السماء... ) ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا: ( حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم. فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله. وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا ) وذكر الحديث. والواو في قوله: « وآخر سيئا » قيل: هي بمعنى الباء، وقيل: بمعنى مع؛ كقولك استوى الماء والخشبة. وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا: لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و « آخر » في الآية يجوز تقديمه على الأول؛ فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 103 ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم )
قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » اختلف في هذه الصدقة المأمور بها؛ فقيل: هي صدقة الفرض؛ قال جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: ( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) . ابن العربي: أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » [ المائدة: 6 ] وقوله: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » [ البقرة: 183 ] ونحوه. ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] وقوله: « خالصة لك » [ الأحزاب: 50 ] . ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا؛ كقوله « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] الآية. وقوله: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله » [ النحل: 98 ] وقوله: « وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة » [ النساء: 102 ] فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة. وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها » . وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: « يا أيها النبي اتق الله » [ الأحزاب: 1 ] و « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » [ الطلاق: 1 ] .
قوله تعالى: « من أموالهم » ذهب بعض العرب وهم دوس: إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض. ولا تسمي العين مالا. وقد جاء هذا المعنى في السنة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع. الحديث. وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق. وقيل: الإبل خاصة؛ ومنه قولهم: المال الإبل. وقيل: جميع الماشية. وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال: ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال؛ وأنشد:
والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال
قال أبو عمر: والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق فأمضي ) . وقال أبو قتادة: فأعطاني الدرع فابتعث به مخرفا في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن؛ إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه. وقد قيل: إن ذلك على أموال الزكاة. والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا. والله أعلم.
قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه. وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع. حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال. وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض. وسيأتي ذكر الخيل والعسل في « النحل » إن شاء الله. روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ) . وقد مضى الكلام في « الأنعام » في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى. وفي المعادن في « البقرة » وفي الحلي في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما؛ فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم. وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام: ( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) . أخرجه الترمذي. وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر؛ هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد. وروي ذلك عن علي وابن عمر. وقالت طائفة: لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما؛ فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها. هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة.
وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة؛ على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا. وقال الباجي في المنتقى: وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم. وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا. وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الأربعين دينارا دينارا؛ على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر.
اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه. فإذا بلغت خمسا ففيها شاة. والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا. وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة؛ وهي فريضتها. وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين؛ أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وكله متفق عليه. والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك: المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين. وقال ابن القاسم: وقال ابن شهاب: فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون. قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن شهاب. وذكر ابن حبيب أن عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالعزيز بن ابن حازم وابن دينار يقولون بقول مالك. وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم، وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة؛ فإن الحسن بن صالح بن حي قال: فيها أربع شياه. وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه؛ وهكذا كلما زادت، في كل مائة شاة. وروي عن إبراهيم النخعي مثله. وقال الجمهور: في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه؛ ثم كلما زادت مائة ففيها شاة؛ إجماعا واتفاقا. قال ابن عبدالبر: وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر، وحكى فيها عن العلماء الخطأ، وخلط وأكثر الغلط.
لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر. وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة. قال أبو عمر: وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه. وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس. وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات. ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه. وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس؛ ذكره عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر؛ ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه. قال أبو عمر. ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل: في ثلاثين بقرة تبيع، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة؛ فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين. فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه. ويأتي ذكر الخلطة في سورة [ ص ] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « صدقة » مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات. « تطهرهم وتزكيهم بها » حالين للمخاطب؛ التقدير: خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها. ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة؛ أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في « بها » على الموصوف المنكر. وحكى النحاس ومكي أن « تطهرهم » من صفة الصدقة « وتزكيهم بها » حال من الضمير في « خذ » وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة. وقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم؛ ومنه قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقرأ الحسن تطهرهم « بسكون الطاء » وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته.
قوله تعالى: « وصل عليهم » أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة. روى مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ( اللهم صل عليهم ) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال: ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) . ذهب قوم إلى هذا، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » [ التوبة: 84 ] . قالوا: فلا يجوز أن يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة؛ لأنه خص بذلك. واستدلوا بقوله تعالى: « لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا » [ النور: 63 ] الآية. وبأن عبدالله بن عباس كان يقول: لا يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح؛ فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم؛ ويأتي في الآية بعد هذا. فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به؛ لأنه كان يمتثل قوله: « وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم » أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به. وقد روى جابر بن عبدالله قال: أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؛ فقالت: يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا! فقالت: يا رسول الله؛ صل على زوجي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلى الله عليك وعلى زوجك ) . والصلاة هنا الرحمة والترحم. قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ومنه الصلاة على الجنائز. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: « إن صلاتك » بالتوحيد. وجمع الباقون. وكذلك الاختلاف في « أصلاتك تأمرك » [ هود: 87 ] وقرئ « سكن » بسكون الكاف. قال قتادة: معناه وقار لهم. والسكن: ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب.
الآية: 104 ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم )
قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا؛ فنزلت: « ألم يعلموا » فالضمير في « يعلموا » عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ابن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالى: « هو » تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك.
قوله تعالى: « ويأخذ الصدقات » هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: « خذ من أموالهم صدقة » ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم: روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله « وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات » « ويمحق الله الربا ويربي الصدقات » . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم: ( لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ) الحديث. وروي ( إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها؛ كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني... ) الحديث. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » . وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه؛ فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة؛ كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى ( تربو في كف الرحمن ) عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أمِرّوها بلا كيف؛ قال الترمذي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
الآية: 105 ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « وقل اعملوا » خطاب للجميع. « فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون » أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم. وفي الخبر: ( لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان ) .
الآية: 106 ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم )
نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع؛ وقيل: ابن ربعي العمري؛ ذكره المهدوي. كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر؛ على ما يأتي من ذكرهم. والتقدير: ومنهم آخرون مرجون؛ من أرجأته أي أخرته. ومنه قيل: مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل. وقرأ حمزة والكسائي « مرجون » بغير همزة؛ فقيل: هو من أرجيته أي أخرته. وقال المبرد: لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء. « إما يعذبهم وإما يتوب عليهم » « إما » في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون؛ أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.
=============
الآية: 103 ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم )
قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » اختلف في هذه الصدقة المأمور بها؛ فقيل: هي صدقة الفرض؛ قال جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: ( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) . ابن العربي: أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » [ المائدة: 6 ] وقوله: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » [ البقرة: 183 ] ونحوه. ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] وقوله: « خالصة لك » [ الأحزاب: 50 ] . ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا؛ كقوله « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] الآية. وقوله: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله » [ النحل: 98 ] وقوله: « وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة » [ النساء: 102 ] فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة. وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها » . وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: « يا أيها النبي اتق الله » [ الأحزاب: 1 ] و « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » [ الطلاق: 1 ] .
قوله تعالى: « من أموالهم » ذهب بعض العرب وهم دوس: إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض. ولا تسمي العين مالا. وقد جاء هذا المعنى في السنة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع. الحديث. وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق. وقيل: الإبل خاصة؛ ومنه قولهم: المال الإبل. وقيل: جميع الماشية. وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال: ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال؛ وأنشد:
والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال
قال أبو عمر: والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي أو تصدق فأمضي ) . وقال أبو قتادة: فأعطاني الدرع فابتعث به مخرفا في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن؛ إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه. وقد قيل: إن ذلك على أموال الزكاة. والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا. والله أعلم.
قوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة » مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه. وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع. حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال. وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض. وسيأتي ذكر الخيل والعسل في « النحل » إن شاء الله. روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ) . وقد مضى الكلام في « الأنعام » في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى. وفي المعادن في « البقرة » وفي الحلي في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما؛ فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم. وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام: ( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) . أخرجه الترمذي. وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر؛ هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد. وروي ذلك عن علي وابن عمر. وقالت طائفة: لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما؛ فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها. هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة.
وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة؛ على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا. وقال الباجي في المنتقى: وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم. وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا. وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الأربعين دينارا دينارا؛ على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر.
اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه. فإذا بلغت خمسا ففيها شاة. والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا. وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة؛ وهي فريضتها. وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين؛ أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وكله متفق عليه. والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك: المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين. وقال ابن القاسم: وقال ابن شهاب: فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون. قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن شهاب. وذكر ابن حبيب أن عبدالعزيز بن أبي سلمة وعبدالعزيز بن ابن حازم وابن دينار يقولون بقول مالك. وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم، وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة؛ فإن الحسن بن صالح بن حي قال: فيها أربع شياه. وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه؛ وهكذا كلما زادت، في كل مائة شاة. وروي عن إبراهيم النخعي مثله. وقال الجمهور: في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه؛ ثم كلما زادت مائة ففيها شاة؛ إجماعا واتفاقا. قال ابن عبدالبر: وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر، وحكى فيها عن العلماء الخطأ، وخلط وأكثر الغلط.
لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر. وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة. قال أبو عمر: وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه. وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس. وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات. ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه. وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس؛ ذكره عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر؛ ذكره الدارقطني وأبو عيسى الترمذي وصححه. قال أبو عمر. ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل: في ثلاثين بقرة تبيع، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة؛ فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين. فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه. ويأتي ذكر الخلطة في سورة [ ص ] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « صدقة » مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات. « تطهرهم وتزكيهم بها » حالين للمخاطب؛ التقدير: خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها. ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة؛ أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في « بها » على الموصوف المنكر. وحكى النحاس ومكي أن « تطهرهم » من صفة الصدقة « وتزكيهم بها » حال من الضمير في « خذ » وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة. وقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم؛ ومنه قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقرأ الحسن تطهرهم « بسكون الطاء » وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته.
قوله تعالى: « وصل عليهم » أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة. روى مسلم عن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ( اللهم صل عليهم ) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال: ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) . ذهب قوم إلى هذا، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا » [ التوبة: 84 ] . قالوا: فلا يجوز أن يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة؛ لأنه خص بذلك. واستدلوا بقوله تعالى: « لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا » [ النور: 63 ] الآية. وبأن عبدالله بن عباس كان يقول: لا يُصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح؛ فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم؛ ويأتي في الآية بعد هذا. فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به؛ لأنه كان يمتثل قوله: « وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم » أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به. وقد روى جابر بن عبدالله قال: أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؛ فقالت: يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا! فقالت: يا رسول الله؛ صل على زوجي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلى الله عليك وعلى زوجك ) . والصلاة هنا الرحمة والترحم. قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ومنه الصلاة على الجنائز. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: « إن صلاتك » بالتوحيد. وجمع الباقون. وكذلك الاختلاف في « أصلاتك تأمرك » [ هود: 87 ] وقرئ « سكن » بسكون الكاف. قال قتادة: معناه وقار لهم. والسكن: ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب.
الآية: 104 ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم )
قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا؛ فنزلت: « ألم يعلموا » فالضمير في « يعلموا » عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ابن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالى: « هو » تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك.
قوله تعالى: « ويأخذ الصدقات » هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: « خذ من أموالهم صدقة » ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم: روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله « وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات » « ويمحق الله الربا ويربي الصدقات » . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم: ( لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية - فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ) الحديث. وروي ( إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها؛ كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني... ) الحديث. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » . وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه؛ فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة؛ كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى ( تربو في كف الرحمن ) عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أمِرّوها بلا كيف؛ قال الترمذي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
الآية: 105 ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « وقل اعملوا » خطاب للجميع. « فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون » أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم. وفي الخبر: ( لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان ) .
الآية: 106 ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم )
نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع؛ وقيل: ابن ربعي العمري؛ ذكره المهدوي. كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر؛ على ما يأتي من ذكرهم. والتقدير: ومنهم آخرون مرجون؛ من أرجأته أي أخرته. ومنه قيل: مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل. وقرأ حمزة والكسائي « مرجون » بغير همزة؛ فقيل: هو من أرجيته أي أخرته. وقال المبرد: لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء. « إما يعذبهم وإما يتوب عليهم » « إما » في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون؛ أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 107 ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون )
قوله تعالى: « والذين اتخذوا مسجدا » معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم « يعذبون » أو نحوه. ومن قرأ « الذين » بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر « لا تقم » التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء « لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم » [ التوبة: 110 ] . وقيل: الخبر « يعذبون » كما تقدم. ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه؛ فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه ) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال: ( انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ) فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف. وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم. قال أبو عمر بن عبدالبر: وفيه نظر؛ لأنه شهد بدرا. وقال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال: أعنت فيه بسارية. فقال: أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم.
قوله تعالى: « ضرارا » مصدر مفعول من أجله. « وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا » عطف كله. وقال أهل التأويل: ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه ) . قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد.
قال علماؤنا: لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا. لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال: لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار. قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال: لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال: ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم. وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضررا منع. فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول. مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله. قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه. والقرآن والسنة يردان هذا القول. وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة. وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
قوله تعالى: « وكفرا » لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي. وقيل: « وكفرا » أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره.
قوله تعالى: « وتفريقا بين المؤمنين » أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
قوله تعالى: « وإرصادا لمن حارب الله ورسوله » يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة. والإرصاد: الانتظار؛ تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به. قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى: « من قبل » أي من قبل بناء مسجد الضرار. « وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال: « وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » . « والله يشهد إنهم لكاذبون » أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
الآية: 108 ( لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين )
قوله تعالى: « لا تقم فيه أبدا » يعني مسجد الضرار؛ أي لا تقم فيه للصلاة. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام؛ يقال: فلان يقوم الليل أي يصلي؛ ومنه الحديث الصحيح: ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) . أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال...، فذكره. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات.
قوله تعالى: « أبدا » « أبدا » ظرف زمان. وظرف الزمان على قسمين: ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت؛ والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر.
وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن « أبدا » وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال: لا تقم، لكفي في الانكفاف المطلق. فإذا قال: « أبدا » فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان. فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا: لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة.
قوله تعالى: « لمسجد أسس على التقوى » أي بنيت جدره ورفعت قواعده. والأسس أصل البناء؛ وكذلك الأساس. والأسس مقصور منه. وجمع الأس إساس؛ مثل عس وعساس. وجمع الأساس أسس؛ مثل قذال وقذل. وجمع الأسس أساس؛ مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسيسا. وقولهم: كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر؛ ثلاث لغات؛ أي على قدم الدهر ووجه الدهر. واللام في قوله « لمسجد » لام قسم. وقيل لام الابتداء؛ كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا؛ وهي مقتضية تأكيدا. « أسس على التقوى » نعت لمسجد. « أحق » خبر الابتداء الذي هو « لمسجد » ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم.
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقالت طائفة: هو مسجد قباء؛ يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن. وتعلقوا بقول: « من أول يوم » ، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم؛ فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: قال تماري رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؛ فقال رجل هو مسجد قباء، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هو مسجدي هذا ) . قال حديث صحيح. والقول الأول أليق بالقصة؛ لقوله: « فيه » وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين؛ فهو مسجد قباء. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال الشعبي: هم أهل مسجد قباء، أنزل الله فيهم هذا.. وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ( إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون ) ؟ قالوا: إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء؛ رواه أبو داود. وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » فقال: ( يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ) ؟ قالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فهل مع ذلك من غيره ) ؟ فقالوا: لا غير، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: ( هو ذاك فعليكموه ) . وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه. وقد روى أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبدالله بن بريدة في قوله عز وجل: « في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه » [ النور: 36 ] قال: إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « من أول يوم » « من » عند النحويين مقابلة منذ؛ فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان. فقيل: إن معناه هنا معنى منذ؛ والتقدير: منذ أول يوم ابتدئ بنيانه. وقيل: المعنى من تأسيس أول الأيام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس؛ كما قال:
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
أي من مر حجج ومن مر دهر. وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن « من » لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم، ولا تقول: من شهر ولا من سنة ولا من يوم. فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت. ابن عطية. ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون « من » تجر لفظة « أول » لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال: من مبتدأ الأيام.
قوله تعالى: « أحق أن تقوم فيه » أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب. و « أحق » هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية. على الآخر؛ فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا؛ ومثل هذا قوله تعالى: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [ الفرقان: 24 ] ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون. وليس هذا من قبيل: العسل أحلى من الخل؛ فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو؛ ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف.
قوله تعالى: « فيه » من قال: إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في « أحق أن تقوم فيه » عائد إليه. و « فيه رجال » له أيضا. ومن قال: إنه مسجد قباء، فالضمير في « فيه » عائد إليه على الخلاف المتقدم.
أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: ( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم ) . قال: حديث صحيح. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يحمل الماء معه في الاستنجاء؛ فكان يستعمل الحجارة تخفيفا ) الماء تطهيرا. ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء.
اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير. وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه؛ وبه قال عامة العلماء. وشذ ابن حبيب فقال: لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء. والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده.
واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا؛ روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري؛ إلا أن الطبري قال: إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر. وقالت طائفة: إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض. قالوا: ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه؛ هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه. وقال مالك في يسير الدم: لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث. وقال ابن القاسم عنه: تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان؛ وهي من مفرداته. والقول الأول أصح إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله... ) . الحديث، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك. وسيأتي في سورة [ سبحان ] . قالوا: ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب؛ وهذا ظاهر. وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثر عذاب القبر من البول ) . احتج الآخرون ( بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى... ) الحديث. خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي في سورة [ طه ] إن شاء الله تعالى. قالوا: ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال. والله أعلم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة ففاسد من وجهين؛ أحدهما: أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير. الثاني: أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه.
الآية: 109 ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين )
قوله تعالى: « أفمن أسس » أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير. و « من » بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره « خير » . وقرأ نافع وابن عامر وجماعة « أسس بنيانه » على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة « أسس بنيانه » على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما. وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه. وقرأ نصر بن عاصم بن علي « أفمن أسس » بالرفع « بنيانه » بالخفض. وعنه أيضا « أساس بنيانه » وعنه أيضا « أس بنيانه » بالخفض. والمراد أصول البناء كما تقدم. وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي « أفمن أساس بنيانه » قال النحاس: وهذا جمع أس؛ كما يقال: خف وأخفاف، والكثير « إساس » مثل خفاف. قال الشاعر:
أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس
قوله تعالى: « على تقوى من الله » قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر:
يستن في علقي وفي مكور
وأنكر سيبويه التنوين، وقال: لا أدري ما وجهه. « على شفا » الشفا: الحرف والحد، وقد مضى في ( آل عمران ) مستوفى. و « جرف » قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله. « هار » ساقط؛ يقال. تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال: هار وهائر، قال الزجاج. ومثله لاث الشيء به إذا دار؛ فهو لاث أي لائث. وكما قالوا: شاكي السلاح وشائك السلاح. قال العجاج:
لاث به الأشاء والعبري
الأشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار. ومعنى لاث به مطيف به. وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار. وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال: تهور وتهير.
قلت: ولهذا يمال ومفتح.
قوله تعالى: « فانهار به في نار جهنم » فاعل انهار الجرف؛ كأنه قال: فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر. ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على « من » وهو الباني؛ والتقدير: فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى. وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق. وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. والشفا: الشفير. وأشفى على كذا أي دنا منه.
في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » [ الرحمن: 27 ] على أحد الوجهين. ويخبر عنه أيضا بقوله: « والباقيات الصالحات » [ الكهف: 46 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في قوله تعالى: « فانهار به في نار جهنم » هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ [ الأول ] أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أَرسل إليه فهُدم رئي الدخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جبير. وقال بعضهم: كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة. وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا « فانهار به في نار جهنم » . وقال جابر بن عبدالله: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ والثاني ] أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى: « فأمه هاوية » [ القارعة: 9 ] . والظاهر الأول، إذ لا إحالة في ذلك. والله أعلم.
الآية: 110 ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم )
قوله تعالى: « لا يزال بنيانهم الذي بنوا » يعني مسجد الضرار. « ريبة » أي شكا في قلوبهم ونفاقا؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
وقال الكلبي: حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه. وقال السدي وحبيب والمبرد: « ريبة » أي حزازة وغيظا. « إلا أن تقطع قلوبهم » قال ابن عباس: أي تنصدع قلوبهم فيموتوا؛ كقوله: « لقطعنا منه الوتين » [ الحاقة: 46 ] لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين؛ وقاله قتادة والضحاك ومجاهد. وقال سفيان: إلا أن يتوبوا. عكرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبدالله بن مسعود يقرؤونها: « ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم » . وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم « إلى أن تقطع » على الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا. واختلف القراء في قوله « تقطع » فالجمهور « تقطع » بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء. وروي عن يعقوب وأبي عبدالرحمن « تقطع » على الفعل المجهول مخفف القاف. وروي عن شبل وابن كثير « تقطع » خفيفة القاف « قلوبهم » نصبا، أي أنت تفعل ذلك بهم. وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبدالله. « والله عليم حكيم » تقدم.
الآية: 111 ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » قيل: هذا تمثيل؛ مثل قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] . ونزلت الآية في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: ( الجنة ) قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ فنزلت: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » الآية. ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه. وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره؛ لأن ماله له وله انتزاعه.
أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء. وروى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فوق كل بِرٍّ بِرٌّ حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك ) . وقال الشاعر في معنى البر:
الجود بالماء جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه:
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
قال الحسن: ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » فقال: كلام من هذا؟ قال: ( كلام الله ) قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله. فخرج إلى الغزو واستشهد.
قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة. ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه. ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر.
قوله تعالى: « يقاتلون في سبيل الله » بيان لما يقاتل له وعليه؛ وقد تقدم. « فيقتلون ويقتلون » قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل؛ ومنه قول امرئ القيس:
فإن تقتلونا نقتلكم...
أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
قوله تعالى: « وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن » إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام. و « وعدا » و « حقا » مصدران موكدان.
قوله تعالى: « ومن أوفى بعهده من الله » أي لا أحد أو في بعهده من الله. وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل؛ فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى.
قوله تعالى: « فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به » أي أظهروا السرور بذلك. والبشارة إظهار السرور في البشرة. وقد تقدم. وقال الحسن: والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. « وذلك هو الفوز العظيم » أي الظفر بالجنة والخلود فيها.
الآية: 112 ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين )
قوله تعالى: « التائبون العابدون » التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. « العابدون » أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. « الحامدون » أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال. « السائحون » الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالى: « عابدات سائحات » [ التحريم: 5 ] . وقال سفيان بن عيينة: إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال أبو طالب:
وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل
وقال آخر:
برا يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا
وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام؛ أسنده الطبري. ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سياحة أمتي الصيام ) . قال الزجاج: ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض. وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) . صححه أبو محمد عبدالحق. وقيل: السائحون المهاجرون قاله عبدالرحمن بن زيد. وقيل: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم؛ قال عكرمة. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: « إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل » [ غافر: 71 ] وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع.
قلت: لفظ « س ي ح » يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا. وفي الحديث: ( إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي ) ويروى « صياحين » بالصاد، من الصياح. « الراكعون الساجدون » يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها. « الآمرون بالمعروف » أي بالسنة، وقيل: بالإيمان. « والناهون عن المنكر » قيل: عن البدعة. وقيل: عن الكفر. وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر. « والحافظون لحدود الله » أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه.
واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة: الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة: هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: « التائبون العابدون » رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال: وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: « اشترى من المؤمنين » لكان الوعد خاصا للمجاهدين. وفي مصحف عبدالله « التائبين العابدين » إلى آخرها؛ ولذلك وجهان: أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع. والثاني النصب على المدح.
واختلف العلماء في الواو في قوله: « والناهون عن المنكر » فقيل: دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى: « حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب. وقابل التوب » [ غافر: 1، 2، 3 ] فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها. وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة. وقيل: دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا. وكذلك قوله: « ثيبات وأبكارا » [ التحريم: 5 ] . ودخلت في قوله: « والحافظون » لقربه من المعطوف. وقد قيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له. وقيل: هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح. وكذلك قالوا في قوله: « ثيبات وأبكارا » [ التحريم: 5 ] . وقول في أبواب الجنة: « وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] وقوله: « ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم » [ الكهف: 22 ] وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله: « وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] وأنكرها أبو علي. قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبدالله الكفيف المالقي، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمس ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو. قلت: هي لغة قريش. وسيأتي بيانه ونقضه في سورة [ الكهف ] إن شاء الله تعالى وفي « الزمر ] أيضا بحول الله تعالى.»
الآية: 113 ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم )
روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك ) فأنزل الله عز وجل: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين » [ القصص: 56 ] . فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح. وقال الحسين بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل: فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين. قيل له: إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبدالله قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم. والله أعلم. والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام؛ على ما يأتي بيانه في سورة [ هود ] إن شاء الله. وقيل: إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة. قال بعضهم: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » الآية. قال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث: وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين. وقد قال كثير من العلماء: لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين. فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له. قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا.
قال أهل المعاني: « ما كان » في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] ، « وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله » [ آل عمران: 145 ] . والآخر بمعنى النهي كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب: 53 ] ، و « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
الآية: 114 ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم )
روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » . والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة. وقال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله: « إياه » ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه. وقيل: الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه. ودل على هذا الوعد قوله: « سأستغفر لك ربي » [ مريم: 47 ] . قال القاضي أبو بكر بن العربي: تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: « سأستغفر لك ربي » [ مريم: 47 ] فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا.
ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء؟ قال: ( نعم ) . وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب « التذكرة » .
قوله تعالى: « إن إبراهيم لأواه حليم » اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا:
[ الأول ] أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني: أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود. والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس. الثالث: إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس. الرابع: أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا. [ الخامس ] أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب. [ السادس ] أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال: ( إنه لأواه ) .
[ السابع ] أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس.
قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها.
[ الثامن ] أنه المتأوه؛ قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول: ( آه من النار قبل ألا تنفع آه ) . وقال أبو ذر: كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه؛ فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( دعه فإنه أواه ) فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. [ التاسع ] أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي. [ العاشر ] أنه المتضرع الخاشع رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أنس: تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوها فإنها أواهة ) قيل: يا رسول الله، وما الأواهة؟ قال: ( الخاشعة ) . [ الحادي عشر ] أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب. [ الثاني عشر ] أنه الكثير التأوه من الذنوب قال الفراء. [ الثالث عشر ] أنه المعلم للخير قاله سعيد بن جبير. [ الرابع عشر ] أنه الشفيق قاله عبدالعزيز بن يحيى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته. [ الخامس عشر ] أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال كعب: كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه. قال الجوهري: قولهم عند الشكاية أوه من كذا ساكنة الواو إنما هو توجع. قال الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن ب عد أرض بيننا وسماء
وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أو من كذا بلا مد. وبعضهم يقول: آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوتاه يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
والحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى. وقيل: الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين.
=============
الآية: 107 ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون )
قوله تعالى: « والذين اتخذوا مسجدا » معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم « يعذبون » أو نحوه. ومن قرأ « الذين » بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر « لا تقم » التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء « لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم » [ التوبة: 110 ] . وقيل: الخبر « يعذبون » كما تقدم. ونزلت الآية فيما روي في أبو عامر الراهب؛ لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه؛ فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة والليلة المطيرة، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه ) فلما أنصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة، فقال: ( انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ) فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن الأزعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف. وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بن الحارث، وبحزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم. قال أبو عمر بن عبدالبر: وفيه نظر؛ لأنه شهد بدرا. وقال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال: أعنت فيه بسارية. فقال: أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم.
قوله تعالى: « ضرارا » مصدر مفعول من أجله. « وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا » عطف كله. وقال أهل التأويل: ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق الله عليه ) . قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد.
قال علماؤنا: لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا. لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال: لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار. قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم.
قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال: لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال: ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم. وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضررا منع. فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول. مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الإطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه فلحرمه الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافا للشافعي ومن قال بقوله. قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه. والقرآن والسنة يردان هذا القول. وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة. وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
قوله تعالى: « وكفرا » لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي. وقيل: « وكفرا » أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره.
قوله تعالى: « وتفريقا بين المؤمنين » أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
قوله تعالى: « وإرصادا لمن حارب الله ورسوله » يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة. والإرصاد: الانتظار؛ تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به. قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى: « من قبل » أي من قبل بناء مسجد الضرار. « وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال: « وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » . « والله يشهد إنهم لكاذبون » أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
الآية: 108 ( لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين )
قوله تعالى: « لا تقم فيه أبدا » يعني مسجد الضرار؛ أي لا تقم فيه للصلاة. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام؛ يقال: فلان يقوم الليل أي يصلي؛ ومنه الحديث الصحيح: ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) . أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال...، فذكره. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات.
قوله تعالى: « أبدا » « أبدا » ظرف زمان. وظرف الزمان على قسمين: ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت؛ والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر.
وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن « أبدا » وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال: لا تقم، لكفي في الانكفاف المطلق. فإذا قال: « أبدا » فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان. فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا: لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة.
قوله تعالى: « لمسجد أسس على التقوى » أي بنيت جدره ورفعت قواعده. والأسس أصل البناء؛ وكذلك الأساس. والأسس مقصور منه. وجمع الأس إساس؛ مثل عس وعساس. وجمع الأساس أسس؛ مثل قذال وقذل. وجمع الأسس أساس؛ مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسيسا. وقولهم: كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر؛ ثلاث لغات؛ أي على قدم الدهر ووجه الدهر. واللام في قوله « لمسجد » لام قسم. وقيل لام الابتداء؛ كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا؛ وهي مقتضية تأكيدا. « أسس على التقوى » نعت لمسجد. « أحق » خبر الابتداء الذي هو « لمسجد » ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم.
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقالت طائفة: هو مسجد قباء؛ يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن. وتعلقوا بقول: « من أول يوم » ، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم؛ فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري: قال تماري رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؛ فقال رجل هو مسجد قباء، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هو مسجدي هذا ) . قال حديث صحيح. والقول الأول أليق بالقصة؛ لقوله: « فيه » وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين؛ فهو مسجد قباء. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. قال الشعبي: هم أهل مسجد قباء، أنزل الله فيهم هذا.. وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ( إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون ) ؟ قالوا: إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء؛ رواه أبو داود. وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » فقال: ( يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ) ؟ قالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فهل مع ذلك من غيره ) ؟ فقالوا: لا غير، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال: ( هو ذاك فعليكموه ) . وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه. وقد روى أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبدالله بن بريدة في قوله عز وجل: « في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه » [ النور: 36 ] قال: إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « من أول يوم » « من » عند النحويين مقابلة منذ؛ فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان. فقيل: إن معناه هنا معنى منذ؛ والتقدير: منذ أول يوم ابتدئ بنيانه. وقيل: المعنى من تأسيس أول الأيام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس؛ كما قال:
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
أي من مر حجج ومن مر دهر. وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن « من » لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم، ولا تقول: من شهر ولا من سنة ولا من يوم. فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت. ابن عطية. ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون « من » تجر لفظة « أول » لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال: من مبتدأ الأيام.
قوله تعالى: « أحق أن تقوم فيه » أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب. و « أحق » هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية. على الآخر؛ فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا؛ ومثل هذا قوله تعالى: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [ الفرقان: 24 ] ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون. وليس هذا من قبيل: العسل أحلى من الخل؛ فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو؛ ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف.
قوله تعالى: « فيه » من قال: إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في « أحق أن تقوم فيه » عائد إليه. و « فيه رجال » له أيضا. ومن قال: إنه مسجد قباء، فالضمير في « فيه » عائد إليه على الخلاف المتقدم.
أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: ( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم ) . قال: حديث صحيح. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يحمل الماء معه في الاستنجاء؛ فكان يستعمل الحجارة تخفيفا ) الماء تطهيرا. ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء.
اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير. وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه؛ وبه قال عامة العلماء. وشذ ابن حبيب فقال: لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء. والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده.
واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا؛ روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري؛ إلا أن الطبري قال: إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر. وقالت طائفة: إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض. قالوا: ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه؛ هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه. وقال مالك في يسير الدم: لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث. وقال ابن القاسم عنه: تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان؛ وهي من مفرداته. والقول الأول أصح إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله... ) . الحديث، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك. وسيأتي في سورة [ سبحان ] . قالوا: ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب؛ وهذا ظاهر. وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثر عذاب القبر من البول ) . احتج الآخرون ( بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى... ) الحديث. خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي في سورة [ طه ] إن شاء الله تعالى. قالوا: ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال. والله أعلم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة ففاسد من وجهين؛ أحدهما: أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير. الثاني: أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه.
الآية: 109 ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين )
قوله تعالى: « أفمن أسس » أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير. و « من » بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره « خير » . وقرأ نافع وابن عامر وجماعة « أسس بنيانه » على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة « أسس بنيانه » على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما. وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه. وقرأ نصر بن عاصم بن علي « أفمن أسس » بالرفع « بنيانه » بالخفض. وعنه أيضا « أساس بنيانه » وعنه أيضا « أس بنيانه » بالخفض. والمراد أصول البناء كما تقدم. وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي « أفمن أساس بنيانه » قال النحاس: وهذا جمع أس؛ كما يقال: خف وأخفاف، والكثير « إساس » مثل خفاف. قال الشاعر:
أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس
قوله تعالى: « على تقوى من الله » قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر:
يستن في علقي وفي مكور
وأنكر سيبويه التنوين، وقال: لا أدري ما وجهه. « على شفا » الشفا: الحرف والحد، وقد مضى في ( آل عمران ) مستوفى. و « جرف » قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله. « هار » ساقط؛ يقال. تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال: هار وهائر، قال الزجاج. ومثله لاث الشيء به إذا دار؛ فهو لاث أي لائث. وكما قالوا: شاكي السلاح وشائك السلاح. قال العجاج:
لاث به الأشاء والعبري
الأشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار. ومعنى لاث به مطيف به. وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار. وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال: تهور وتهير.
قلت: ولهذا يمال ومفتح.
قوله تعالى: « فانهار به في نار جهنم » فاعل انهار الجرف؛ كأنه قال: فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر. ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على « من » وهو الباني؛ والتقدير: فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى. وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق. وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. والشفا: الشفير. وأشفى على كذا أي دنا منه.
في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » [ الرحمن: 27 ] على أحد الوجهين. ويخبر عنه أيضا بقوله: « والباقيات الصالحات » [ الكهف: 46 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في قوله تعالى: « فانهار به في نار جهنم » هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ [ الأول ] أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أَرسل إليه فهُدم رئي الدخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جبير. وقال بعضهم: كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة. وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا « فانهار به في نار جهنم » . وقال جابر بن عبدالله: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ والثاني ] أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى: « فأمه هاوية » [ القارعة: 9 ] . والظاهر الأول، إذ لا إحالة في ذلك. والله أعلم.
الآية: 110 ( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم )
قوله تعالى: « لا يزال بنيانهم الذي بنوا » يعني مسجد الضرار. « ريبة » أي شكا في قلوبهم ونفاقا؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. وقال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
وقال الكلبي: حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه. وقال السدي وحبيب والمبرد: « ريبة » أي حزازة وغيظا. « إلا أن تقطع قلوبهم » قال ابن عباس: أي تنصدع قلوبهم فيموتوا؛ كقوله: « لقطعنا منه الوتين » [ الحاقة: 46 ] لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين؛ وقاله قتادة والضحاك ومجاهد. وقال سفيان: إلا أن يتوبوا. عكرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبدالله بن مسعود يقرؤونها: « ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم » . وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم « إلى أن تقطع » على الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا. واختلف القراء في قوله « تقطع » فالجمهور « تقطع » بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول. وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء. وروي عن يعقوب وأبي عبدالرحمن « تقطع » على الفعل المجهول مخفف القاف. وروي عن شبل وابن كثير « تقطع » خفيفة القاف « قلوبهم » نصبا، أي أنت تفعل ذلك بهم. وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبدالله. « والله عليم حكيم » تقدم.
الآية: 111 ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » قيل: هذا تمثيل؛ مثل قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] . ونزلت الآية في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: ( الجنة ) قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ فنزلت: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » الآية. ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه. وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره؛ لأن ماله له وله انتزاعه.
أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء. وروى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فوق كل بِرٍّ بِرٌّ حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك ) . وقال الشاعر في معنى البر:
الجود بالماء جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه:
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
قال الحسن: ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » فقال: كلام من هذا؟ قال: ( كلام الله ) قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله. فخرج إلى الغزو واستشهد.
قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة. ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه. ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر.
قوله تعالى: « يقاتلون في سبيل الله » بيان لما يقاتل له وعليه؛ وقد تقدم. « فيقتلون ويقتلون » قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل؛ ومنه قول امرئ القيس:
فإن تقتلونا نقتلكم...
أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول.
قوله تعالى: « وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن » إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام. و « وعدا » و « حقا » مصدران موكدان.
قوله تعالى: « ومن أوفى بعهده من الله » أي لا أحد أو في بعهده من الله. وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل؛ فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى.
قوله تعالى: « فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به » أي أظهروا السرور بذلك. والبشارة إظهار السرور في البشرة. وقد تقدم. وقال الحسن: والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. « وذلك هو الفوز العظيم » أي الظفر بالجنة والخلود فيها.
الآية: 112 ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين )
قوله تعالى: « التائبون العابدون » التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. « العابدون » أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. « الحامدون » أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال. « السائحون » الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالى: « عابدات سائحات » [ التحريم: 5 ] . وقال سفيان بن عيينة: إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال أبو طالب:
وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل
وقال آخر:
برا يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا
وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام؛ أسنده الطبري. ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سياحة أمتي الصيام ) . قال الزجاج: ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون القرض. وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) . صححه أبو محمد عبدالحق. وقيل: السائحون المهاجرون قاله عبدالرحمن بن زيد. وقيل: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم؛ قال عكرمة. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: « إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل » [ غافر: 71 ] وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع.
قلت: لفظ « س ي ح » يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا. وفي الحديث: ( إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي ) ويروى « صياحين » بالصاد، من الصياح. « الراكعون الساجدون » يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها. « الآمرون بالمعروف » أي بالسنة، وقيل: بالإيمان. « والناهون عن المنكر » قيل: عن البدعة. وقيل: عن الكفر. وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر. « والحافظون لحدود الله » أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه.
واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة: الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة: هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: « التائبون العابدون » رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال: وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: « اشترى من المؤمنين » لكان الوعد خاصا للمجاهدين. وفي مصحف عبدالله « التائبين العابدين » إلى آخرها؛ ولذلك وجهان: أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع. والثاني النصب على المدح.
واختلف العلماء في الواو في قوله: « والناهون عن المنكر » فقيل: دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى: « حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب. وقابل التوب » [ غافر: 1، 2، 3 ] فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها. وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة. وقيل: دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منها مفردا. وكذلك قوله: « ثيبات وأبكارا » [ التحريم: 5 ] . ودخلت في قوله: « والحافظون » لقربه من المعطوف. وقد قيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له. وقيل: هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح. وكذلك قالوا في قوله: « ثيبات وأبكارا » [ التحريم: 5 ] . وقول في أبواب الجنة: « وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] وقوله: « ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم » [ الكهف: 22 ] وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله: « وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] وأنكرها أبو علي. قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبدالله الكفيف المالقي، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمس ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم. ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو. قلت: هي لغة قريش. وسيأتي بيانه ونقضه في سورة [ الكهف ] إن شاء الله تعالى وفي « الزمر ] أيضا بحول الله تعالى.»
الآية: 113 ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم )
روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك ) فأنزل الله عز وجل: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين » [ القصص: 56 ] . فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح. وقال الحسين بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل: فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين. قيل له: إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبدالله قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم. والله أعلم. والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام؛ على ما يأتي بيانه في سورة [ هود ] إن شاء الله. وقيل: إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة. قال بعضهم: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » الآية. قال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث: وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين. وقد قال كثير من العلماء: لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين. فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له. قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا.
قال أهل المعاني: « ما كان » في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] ، « وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله » [ آل عمران: 145 ] . والآخر بمعنى النهي كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب: 53 ] ، و « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .
الآية: 114 ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم )
روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » . والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة. وقال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له فالكناية في قوله: « إياه » ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه. وقيل: الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه. ودل على هذا الوعد قوله: « سأستغفر لك ربي » [ مريم: 47 ] . قال القاضي أبو بكر بن العربي: تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: « سأستغفر لك ربي » [ مريم: 47 ] فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا.
ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء؟ قال: ( نعم ) . وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب « التذكرة » .
قوله تعالى: « إن إبراهيم لأواه حليم » اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا:
[ الأول ] أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني: أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود. والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس. الثالث: إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس. الرابع: أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا. [ الخامس ] أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب. [ السادس ] أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال: ( إنه لأواه ) .
[ السابع ] أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس.
قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها.
[ الثامن ] أنه المتأوه؛ قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول: ( آه من النار قبل ألا تنفع آه ) . وقال أبو ذر: كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه؛ فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( دعه فإنه أواه ) فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. [ التاسع ] أنه الفقيه قاله مجاهد والنخعي. [ العاشر ] أنه المتضرع الخاشع رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أنس: تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوها فإنها أواهة ) قيل: يا رسول الله، وما الأواهة؟ قال: ( الخاشعة ) . [ الحادي عشر ] أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها قاله أبو أيوب. [ الثاني عشر ] أنه الكثير التأوه من الذنوب قال الفراء. [ الثالث عشر ] أنه المعلم للخير قاله سعيد بن جبير. [ الرابع عشر ] أنه الشفيق قاله عبدالعزيز بن يحيى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته ورأفته. [ الخامس عشر ] أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى قاله عطاء وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء. قال كعب: كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه. قال الجوهري: قولهم عند الشكاية أوه من كذا ساكنة الواو إنما هو توجع. قال الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ومن ب عد أرض بيننا وسماء
وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أو من كذا بلا مد. وبعضهم يقول: آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوتاه يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
والحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى. وقيل: الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 115 ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم )
قوله تعالى: « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم » أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال.
قلت: ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكب وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى. نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه. وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله: « حتى يبين لهم » أي حتى يحتج عليهم بأمره؛ كما قال: « وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها » [ الإسراء: 16 ] وقال مجاهد: « حتى يبين لهم » أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة. وروي انه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى: « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » وهذه الآية رد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بخلق هداهم وإيمانهم كما تقدم.
الآية: 116 ( إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير )
تقدم معناه غير مرة.
الآية: 117 ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم )
روى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطول قال: ( فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال: ( أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتي عليك منذ ولدتك أمك ) فقلت: يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: ( بل من عند الله - ثم تلا هذه الآية - « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إن الله هو التواب الرحيم » قال: وفينا أنزلت أيضا « اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » [ التوبة: 119 ] ... ) وذكر الحديث. وسيأتي بكمال من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: « عفا الله عنك لم أذنت لهم » [ التوبة: 43 ] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه. وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة. وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحال الأولى. وقال أهل المعاني: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله: « فأن لله خمسه وللرسول » [ الأنفال: 41 ] .
قوله تعالى: « الذين اتبعوه في ساعة العسرة » أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها. وقيل: ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الأمر. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: ( خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: ( أتحب ذلك ) ؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ) . وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افعلوا ) فجاء عمر وقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. قال: ( نعم ) ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال: ( خذوا في أوعيتكم ) فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد شاك فيهما فيحجب عن الجنة ) . خرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله.
وقال ابن عرفة: سمي جيش تبوك جيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة. قال: وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية. وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون: خلفه بغضا له؛ فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لأن المدار على أمر الشارع. وإنما قيل لها: غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: ( ما زلتم تبوكونها بوكا ) فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك. الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري.
قوله تعالى: « من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم » « قلوب » رفع بـ « تزيغ » عند سيبويه. ويضمر في « كاد » الحديث تشبيها بكان؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان. وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير: من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص « يزيغ » بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ « يزيغ » بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء رحب البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز واختلف في معنى تزيغ، فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة. وقال ابن عباس: تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة. وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به.
قوله تعالى: « ثم تاب عليهم » قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم. وينشد:
منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأرض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجوع وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ فتيقنت أنني بك أنجو
وقال في حق الثلاثة: « ثم تاب عليهم ليتوبوا » فقيل: معنى « ثم تاب عليهم » أي وفقهم للتوبة ليتوبوا. وقيل: المعنى تاب عليهم؛ أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة. وقيل: المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا؛ دليله قوله عليه السلام: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) .
الآية: 118 ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )
قوله تعالى: « وعلى الثلاثة الذين خلفوا » قيل: عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك. وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحكي عن محمد بن زيد معنى « خلفوا » تركوا؛ لأن معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد « خلفوا » أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ « خالفوا » . وقيل: « خلفوا » أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فبذلك قال الله عز وجل: « وعلى الثلاثة الذين خلقوا » وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره.
والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار. وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أترحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ( ما فعل كعب بن مالك ) ؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كن أبا خيثمة ) فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: ( تعال ) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ( ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ) ؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) . فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس. وقال: وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة؛ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال فقلت، حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ( لا ولكن لا يقربنك ) فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) . قال: فقلت أمن عند الله يا رسول الله أم من عندك؟ قال: ( لا بل من عند الله ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) . قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي فأنزل الله عز وجل: « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين أتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم - حتى بلغ - اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » . قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، وقال الله تعالى: « سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنه فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين » [ التوبة: 95 - 96 ] . قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: « وعلى الثلاثة » وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا تَخَلُفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
قوله تعالى: « حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت » أي بما اتسعت يقال: منزل رجب ورحيب ورحاب. و « ما » مصدرية؛ أي ضاقت عليهم الأرض برحبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون. وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا. « وضاقت عليهم أنفسهم » أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، « وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. » وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه « أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الوراق. التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب وصاحبيه. »
قوله تعالى: « ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم » فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني؛ قال الله تعالى: « يحبهم ويحبونه » [ المائدة: 54 ] . وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني؛ قال الله تعالى: « رضي الله عنهم ورضوا عنه » [ المائدة: 119 ] . وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني؛ قال الله تعالى: « ولذكر الله أكبر » . وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب على؛ قال الله تعالى: « ثم تاب عليهم ليتوبوا » . وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة؛ كما قال تعالى: « يا أيها الذين آمنوا آمنوا » [ النساء: 136 ] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم؛ قال جل وعز: « فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم » [ النساء: 160 ] .
الآية: 119 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
قوله تعالى: « وكونوا مع الصادقين » هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف.
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال؛ فقيل: هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب. وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين؛ أي اتقوا مخالفة أمر الله « وكونوا مع الصادقين » أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين. أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم. وقيل: هم الأنبياء؛ أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة. وقيل: هم المراد بقوله: « ليس البر أن تولوا وجوهكم - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا » [ البقرة: 177 ] . وقيل: هم الموفون بما عاهدوا؛ وذلك لقوله تعالى: « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » وقيل: هم المهاجرون؛ لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال: « للفقراء المهاجرين » [ الحشر: 8 ] الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال: « والذين تبوؤوا الدار والإيمان » [ الحشر: 9 ] الآية. وقيل: هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم. وأما من قال: إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ومتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب. وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة.
حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء، في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) . والكذب على الضد من ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) خرجه مسلم. فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها. قال معمر: لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس. وسئل شريك بن عبدالله فقيل له: يا أبا عبدالله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه؟ قال لا. وعن ابن مسعود قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه، أقرؤوا إن شئتم « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » هل ترون في الكذب رخصة؟ وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: يقبل حديثه. والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه؛ فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات.
الآيتان: 120 - 121 ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله » ظاهره خبر ومعناه أمر؛ كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب: 53 ] وقد تقدم. « أن يتخلفوا » في موضع رفع اسم كان. وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها؛ كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. والمعنى: ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا؛ فإن النفير كان فيهم، بخلاف غيرهم فإنهم لن يستنفروا؛ في قول بعضهم. ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم، وخصى هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم.
قوله تعالى: « ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه » أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة. يقال: رغبت عن كذا أي ترفعت عنه. « ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ » أي عطش. وقرأ عبيد بن عمير « ظماء » بالمد. وهما لغتان مثل خطأ وخطاء. « ولا نصب » عطف، أي تعب، ولا زائدة للتوكيد. وكذا « ولا مخمصة » أي مجاعة. وأصله ضمور البطن؛ ومنه رجل خميص وامرأة خمصانة. وقد تقدم. « في سبيل الله » أي في طاعته. « ولا يطؤون موطئا » أي أرضا. « يغيظ الكفار » أي بوطئهم إياها، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ، أي غائظا. « ولا ينالون من عدو نيلا » أي قتلا وهزيمة. وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت. قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل منه؛ وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته العطية. قال غيره: نلت أنول من العطية، من الواو والنيل من الياء، تقول: نلته فأنا نائل، أي أدركته. « ولا يقطعون وادي » العرب تقول: واد وأودية، على غير قياس. قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه، والقياس أن يجمع ووادي؛ فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة، حتى قالوا: أقتت في وقتت. وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره. وحكى الفراء في جمع واد أوداء. قلت: وقد جمع أوداه؛ قال جرير:
عرفت ببرقة الأوداه رسما محيلا طال عهدك من رسوم
« إلا كتب لهم به عمل صالح » قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وفي الصحيح: ( الخيل ثلاثة... - وفيه - وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات... ) . الحديث. هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو، فإن مات بعد ذلك فله سهمه؛ وهو قول أشهب وعبدالملك، وأحد قولي الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: لا شيء له؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم.
قلت: الأول أصح لأن الله تعالى: جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر؛ وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا. والله أعلم.
هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة: 122 ] وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء؛ قاله ابن زيد. وقال مجاهد: بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا؛ فأنزل الله: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » . وقال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر؛ فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. وقول ثالث: أنها محكمة؛ قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبدالعزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها.
قلت: قول قتادة حسن؛ بدليل غزاة تبوك، والله أعلم.
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة.؟ قال: ( حبسهم العذر ) . خرجه مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض ) . فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. وقد قال بعض الناس: إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف، ويضاعف للعامل المباشر. قال ابن العربي: وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال: إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات، وهذا أمر مغيب، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه.
قلت: الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر؛ منها قوله عليه السلام: ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وقوله: ( من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ) . وهو ظاهر قوله تعالى: « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » [ النساء:100 ] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه؛ لقوله عليه السلام: ( نية المؤمن خير من عمله ) . والله أعلم.
=============
الآية: 115 ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم )
قوله تعالى: « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم » أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال.
قلت: ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكب وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى. نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه. وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله: « حتى يبين لهم » أي حتى يحتج عليهم بأمره؛ كما قال: « وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها » [ الإسراء: 16 ] وقال مجاهد: « حتى يبين لهم » أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة. وروي انه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى: « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » وهذه الآية رد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بخلق هداهم وإيمانهم كما تقدم.
الآية: 116 ( إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير )
تقدم معناه غير مرة.
الآية: 117 ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم )
روى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطول قال: ( فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال: ( أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتي عليك منذ ولدتك أمك ) فقلت: يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: ( بل من عند الله - ثم تلا هذه الآية - « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إن الله هو التواب الرحيم » قال: وفينا أنزلت أيضا « اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » [ التوبة: 119 ] ... ) وذكر الحديث. وسيأتي بكمال من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: « عفا الله عنك لم أذنت لهم » [ التوبة: 43 ] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه. وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة. وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحال الأولى. وقال أهل المعاني: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله: « فأن لله خمسه وللرسول » [ الأنفال: 41 ] .
قوله تعالى: « الذين اتبعوه في ساعة العسرة » أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها. وقيل: ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الأمر. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: ( خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: ( أتحب ذلك ) ؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ) . وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افعلوا ) فجاء عمر وقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. قال: ( نعم ) ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال: ( خذوا في أوعيتكم ) فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبد شاك فيهما فيحجب عن الجنة ) . خرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله.
وقال ابن عرفة: سمي جيش تبوك جيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة. قال: وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية. وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون: خلفه بغضا له؛ فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لأن المدار على أمر الشارع. وإنما قيل لها: غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: ( ما زلتم تبوكونها بوكا ) فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك. الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري.
قوله تعالى: « من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم » « قلوب » رفع بـ « تزيغ » عند سيبويه. ويضمر في « كاد » الحديث تشبيها بكان؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان. وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير: من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ. وقرأ الأعمش وحمزة وحفص « يزيغ » بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ « يزيغ » بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال النحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء رحب البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز واختلف في معنى تزيغ، فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة. وقال ابن عباس: تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة. وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به.
قوله تعالى: « ثم تاب عليهم » قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم. وينشد:
منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأرض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجوع وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ فتيقنت أنني بك أنجو
وقال في حق الثلاثة: « ثم تاب عليهم ليتوبوا » فقيل: معنى « ثم تاب عليهم » أي وفقهم للتوبة ليتوبوا. وقيل: المعنى تاب عليهم؛ أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة. وقيل: المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا؛ دليله قوله عليه السلام: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) .
الآية: 118 ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم )
قوله تعالى: « وعلى الثلاثة الذين خلفوا » قيل: عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك. وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحكي عن محمد بن زيد معنى « خلفوا » تركوا؛ لأن معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد « خلفوا » أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ « خالفوا » . وقيل: « خلفوا » أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فبذلك قال الله عز وجل: « وعلى الثلاثة الذين خلقوا » وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره.
والثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار. وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أترحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ( ما فعل كعب بن مالك ) ؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كن أبا خيثمة ) فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال: ( تعال ) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ( ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ) ؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) . فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة؛ قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس. وقال: وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة؛ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطيٌ من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال فقلت، حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. قال: فأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ( لا ولكن لا يقربنك ) فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) . قال: فقلت أمن عند الله يا رسول الله أم من عندك؟ قال: ( لا بل من عند الله ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) . قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي فأنزل الله عز وجل: « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين أتبعوه في ساعة العسرة - حتى بلغ - إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم - حتى بلغ - اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » . قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، وقال الله تعالى: « سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنه فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين » [ التوبة: 95 - 96 ] . قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: « وعلى الثلاثة » وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا تَخَلُفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
قوله تعالى: « حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت » أي بما اتسعت يقال: منزل رجب ورحيب ورحاب. و « ما » مصدرية؛ أي ضاقت عليهم الأرض برحبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون. وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا. « وضاقت عليهم أنفسهم » أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة، « وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. » وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه « أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الوراق. التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب وصاحبيه. »
قوله تعالى: « ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم » فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني؛ قال الله تعالى: « يحبهم ويحبونه » [ المائدة: 54 ] . وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني؛ قال الله تعالى: « رضي الله عنهم ورضوا عنه » [ المائدة: 119 ] . وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني؛ قال الله تعالى: « ولذكر الله أكبر » . وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب على؛ قال الله تعالى: « ثم تاب عليهم ليتوبوا » . وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة؛ كما قال تعالى: « يا أيها الذين آمنوا آمنوا » [ النساء: 136 ] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم؛ قال جل وعز: « فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم » [ النساء: 160 ] .
الآية: 119 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
قوله تعالى: « وكونوا مع الصادقين » هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف.
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال؛ فقيل: هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب. وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين؛ أي اتقوا مخالفة أمر الله « وكونوا مع الصادقين » أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين. أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم. وقيل: هم الأنبياء؛ أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة. وقيل: هم المراد بقوله: « ليس البر أن تولوا وجوهكم - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا » [ البقرة: 177 ] . وقيل: هم الموفون بما عاهدوا؛ وذلك لقوله تعالى: « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » وقيل: هم المهاجرون؛ لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال: « للفقراء المهاجرين » [ الحشر: 8 ] الآية، ثم سماكم بالمفلحين فقال: « والذين تبوؤوا الدار والإيمان » [ الحشر: 9 ] الآية. وقيل: هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم. وأما من قال: إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ومتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب. وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة.
حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء، في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) . والكذب على الضد من ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) خرجه مسلم. فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها. قال معمر: لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس. وسئل شريك بن عبدالله فقيل له: يا أبا عبدالله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه؟ قال لا. وعن ابن مسعود قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه، أقرؤوا إن شئتم « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين » هل ترون في الكذب رخصة؟ وقال مالك: لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: يقبل حديثه. والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه؛ فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات.
الآيتان: 120 - 121 ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله » ظاهره خبر ومعناه أمر؛ كقوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » [ الأحزاب: 53 ] وقد تقدم. « أن يتخلفوا » في موضع رفع اسم كان. وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها؛ كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. والمعنى: ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا؛ فإن النفير كان فيهم، بخلاف غيرهم فإنهم لن يستنفروا؛ في قول بعضهم. ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم، وخصى هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم.
قوله تعالى: « ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه » أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة. يقال: رغبت عن كذا أي ترفعت عنه. « ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ » أي عطش. وقرأ عبيد بن عمير « ظماء » بالمد. وهما لغتان مثل خطأ وخطاء. « ولا نصب » عطف، أي تعب، ولا زائدة للتوكيد. وكذا « ولا مخمصة » أي مجاعة. وأصله ضمور البطن؛ ومنه رجل خميص وامرأة خمصانة. وقد تقدم. « في سبيل الله » أي في طاعته. « ولا يطؤون موطئا » أي أرضا. « يغيظ الكفار » أي بوطئهم إياها، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ، أي غائظا. « ولا ينالون من عدو نيلا » أي قتلا وهزيمة. وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت. قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل منه؛ وليس هو من التناول، إنما التناول من نلته العطية. قال غيره: نلت أنول من العطية، من الواو والنيل من الياء، تقول: نلته فأنا نائل، أي أدركته. « ولا يقطعون وادي » العرب تقول: واد وأودية، على غير قياس. قال النحاس: ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه، والقياس أن يجمع ووادي؛ فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة، حتى قالوا: أقتت في وقتت. وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره. وحكى الفراء في جمع واد أوداء. قلت: وقد جمع أوداه؛ قال جرير:
عرفت ببرقة الأوداه رسما محيلا طال عهدك من رسوم
« إلا كتب لهم به عمل صالح » قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وفي الصحيح: ( الخيل ثلاثة... - وفيه - وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات... ) . الحديث. هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو، فإن مات بعد ذلك فله سهمه؛ وهو قول أشهب وعبدالملك، وأحد قولي الشافعي. وقال مالك وابن القاسم: لا شيء له؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم.
قلت: الأول أصح لأن الله تعالى: جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر؛ وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا. والله أعلم.
هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة: 122 ] وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء؛ قاله ابن زيد. وقال مجاهد: بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا؛ فأنزل الله: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » . وقال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر؛ فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. وقول ثالث: أنها محكمة؛ قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبدالعزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها.
قلت: قول قتادة حسن؛ بدليل غزاة تبوك، والله أعلم.
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ) قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة.؟ قال: ( حبسهم العذر ) . خرجه مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: ( إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض ) . فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. وقد قال بعض الناس: إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف، ويضاعف للعامل المباشر. قال ابن العربي: وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال: إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات، وهذا أمر مغيب، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه.
قلت: الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر؛ منها قوله عليه السلام: ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وقوله: ( من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ) . وهو ظاهر قوله تعالى: « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » [ النساء:100 ] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه؛ لقوله عليه السلام: ( نية المؤمن خير من عمله ) . والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة التوبة
=============
الآية: 122 ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )
قوله تعالى: « وما كان المؤمنون » وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم؛ إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: « إلا تنفروا » [ التوبة: 39 ] وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد.
هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده. « فلو لا نفر » بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. « من كل فرقة منهم طائفة » وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا؛ فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفى هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 43 ] . فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن.
قوله تعالى: « فلولا نفر » قال الأخفش: أي فهلا نفر. « من كل فرقة منهم طائفة » الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة. وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى: « إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة » [ التوبة: 66 ] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين؛ أحدهما عقلا، والآخر لغة. أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: « ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم » فجاء بضمير الجماعة. قال ابن العربي: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة ههنا واحد، ويعتضون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة. أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر.
قلت: أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى: « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا » [ الحجرات: 9 ] يعني نفسين. دليله قوله تعالى: « فأصلحوا بين أخويكم » [ الحجرات: 9 ] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في « اقتتلوا » وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء.
قوله تعالى: « ليتفقهوا » الضمير في « ليتفقهوا ، ولينذروا » للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة؛ واختاره الطبري. ومعنى « ليتفقهوا في الدين » أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين. « ولينذروا قومهم » من الكفار. « إذا رجعوا إليهم » من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قلت: قول مجاهد وقتادة أبين، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا. وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام؛ إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته؛ قاله أبو بكر بن العربي.
طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان؛ كالصلاة والزكاة والصيام.
قلت: وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي ( إن طلب العلم فريضة ) . روى عبدالقدوس بن حبيب: أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) . قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.
وفرض على الكفاية؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.
طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل؛ روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ) . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي عن الحسن قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير. والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم ) . أسنده أبو عمر في كتاب بيان العلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي ) . وقال ابن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجدا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة. رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجدا فتقرئ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه. وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة. وقوله عليه السلام: ( إن الملائكة لتضع أجنحتها... ) الحديث يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تعطف عليه وترحمه؛ كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله: « واخفض لهما جناح الذل من الرحمة » [ الإسراء: 24 ] أي تواضع لهما. والوجه الآخر: أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها؛ لأن في بعض الروايات ( وإن الملائكة تفرش أجنحتها ) أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها؛ فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشيا ولا يعيا، وتقرب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق. وقد مضى شيء من هذا المعنى في « آل عمران » عند قوله تعالى: « شهد الله... » الآية. روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) . قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟.
قلت: وهذا قول عبدالرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث؛ ذكره الثعلبي. سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام: ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) إنهم العلماء؛ قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فيضة من الدمع. فمعنى ( لا يزال أهل الغرب ) أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين؛ الحديث. قال الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء » [ فاطر: 28 ] .
قلت: وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم: ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) . وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره. والله أعلم.
الآية: 123 ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )
فيه مسألة واحدة: وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام. وقال الحسن: نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين؛ فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله » [ التوبة: 29 ] . وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم. وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم؟ فقال بالروم. وقال الحسن: هو قتال الديلم والترك والروم. وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى.
قلت: قول قتادة هو ظاهر الآية، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم؛ على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه. [ أحدها ] أنهم أهل كتاب، فالحجة عليهم أكثر وأكد. الثاني: أنهم إلينا أقرب أعني أهل المدينة. الثالث: أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب. والله أعلم.
قوله تعالى: « وليجدوا فيكم غلظة » أي شدة وقوة وحمية. وروى الفضل عن الأعمش وعاصم « غَلظة » بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد بكسر الغين، ولغة بني تميم « غُلظة » بضم الغين.
الآية: 124 ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون )
« ما » صلة، والمراد المنافقون. « أيكم زادته هذه إيمانا » قد تقدم القول في زيادة الإيمان ونقصانه في سورة « آل عمران » . وقد تقدم معنى السورة في مقدمة الكتاب، فلا معنى للإعادة. وكتب الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز ( إن للإيمان سننا وفرائض من استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ) قال عمر بن عبدالعزيز: ( فإن أعش فسأبينها لكم وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص ) . ذكره البخاري. وقال ابن المبارك لم أجد بدا من أن أقول بزيادة الإيمان وإلا رددت القرآن.
الآية: 125 ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون )
قوله تعالى: « وأما الذين في قلوبهم مرض » أي شك وريب ونفاق. وقد تقدم. « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » أي شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم. وقال مقاتل: إثما إلى إثمهم؛ والمعنى متقارب.
الآية: 126 ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون )
قوله تعالى: « أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين » قراءة العامة بالياء، خبرا عن المنافقين. وقرأ حمزة ويعقوب بالتاء خبرا عنهم وخطابا للمؤمنين. وقرأ الأعمش « أو لم يروا » . وقرأ طلحة بن مصرف « أولا ترى » وهي قراءة ابن مسعود، خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. و « يفتنون » قال الطبري: يختبرون. قال مجاهد: بالقحط والشدة. وقال عطية: بالأمراض والأوجاع؛ وهي روائد الموت. وقال قتادة والحسن ومجاهد: بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما وعد الله من النصر « ثم لا يتوبون » لذلك « ولا هم يذكرون » .
الآية: 127 ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون )
قوله تعالى: « وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض » « ما » صلة، والمراد المنافقون؛ أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير؛ يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد؛ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه. وقيل إن « نظر » في هذه الآية بمعنى أنبأ. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: « نظر » في هذه الآية موضع قال.
قوله تعالى: « ثم انصرفوا » أي انصرفوا عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم؛ فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته؛ « إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون » [ الأنفال: 22 ] . « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » [ محمد: 24 ] .
قوله تعالى: « صرف الله قلوبهم » دعاء عليهم؛ أي قولوا لهم هذا. ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم. وهي كلمة يدعي بها؛ كقوله: « قاتلهم الله » [ التوبة: 30 ] والباء في قوله: « بأنهم » صلة لـ « صرف » .
قال ابن عباس: يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة؛ لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة؛ أسنده البري عنه. قال ابن العربي: وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال: لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة؛ فإن قوما قيل فيهم: « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم » . أخبرنا محمد بن عبدالملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله فقال: لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم: « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم » ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: « فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء » [ آل عمران: 174 ] .
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها؛ ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإراداتهم واختيارهم؛ ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب: ما أبين هذا في الرد على القدرية « لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم » [ التوبة: 110 ] . وقوله عز وجل لنوح: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول.
الآيتان: 128 - 129 ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
هاتان الآيتان في قول أُبي أقرب القرآن بالسماء عهدا. وفي قول سعيد بن جبير: آخر ما نزل من القرآن « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] على ما تقدم. فيحتمل أن يكون قول أُبيّ: أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » . والله أعلم والخطاب للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك؛ إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه، وشرفوا به غابر الأيام. وقال الزجاج: هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى: لقد جاءكم رسول من البشر؛ والأول أصوب. قال ابن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل. والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به.
قوله تعالى: « من أنفسكم » يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها. وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني من نكاح ولست من سفاح ) . معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى. وقرأ عبدالله بن قُسيط المكي من « أنْفَسِكم » بفتح الفاء من النفاسة؛ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. وقيل: من أنفسكم أي أكثركم طاعة.
قوله تعالى: « عزيز عليه ما عنتم » أي يعز عليه مشقتكم. والعنت: المشقة؛ من قولهم: أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة. وقال ابن الأنباري: أصل التعنت التشديد؛ فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه. وقد تقدم في « البقرة » . « وما » في « ما عنتم » مصدرية، وهي ابتداء و « عزيز » خبر مقدم. ويجوز أن يكون « ما عنتم » فاعلا بعزيز، و « عزيز » صفة للرسول، وهو أصوب. وكذا « حريص عليكم » وكذا « رؤوف رحيم » رفع على الصفة. قال الفراء: ولو قرئ عزيزا عليه، ما عنتم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا على الحال جاز. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبدالله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت عبدالله بن داود الخريبي يقول في قوله عز وجل: « لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم » قال: أن تدخلوا النار، « حريص عليكم » أن تدخلوا الجنة. وقيل: حريص عليكم أن تؤمنوا. وقال: الفراء: شحيح بأن تدخلوا النار. والحرص على الشيء: الشح عليه أن يضيع ويتلف. « بالمؤمنين رؤوف رحيم » الرؤوف: المبالغ في الرأفة والشفقة. وقد تقدم في « البقرة » معنى « رؤوف رحيم » مستوفى. وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال: « بالمؤمنين رؤوف رحيم » وقال: « إن الله بالناس لرؤوف رحيم » [ الحج: 65 ] . وقال عبدالعزيز بن يحيى: نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته؛ فانه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة.
قوله تعالى: « فإن تولوا فقل حسبي الله » أي إن اعرض الكفار يا محمد بعد هذه النعم التي من الله عليهم بها فقل حسبي الله أي كافي الله تعالى. « عليه توكلت » أي اعتمدت وإليه فوضت جميع أموري. « وهو رب العرش العظيم » خص العرش لأنه أعظم المخلوقات فيدخل فيه ما دونه إذا ما ذكره. وقراءة العامة بخفض « العظيم » نعتا للعرش. وقرئ بالرفع صفة للرب، رويت عن ابن كثير، وهي قراءة ابن محيصن وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال: ( من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا ) . وفي نوادر الأصول عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال عشر كلمات عند دبر كل صلاة وجد الله عندهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وخمس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغى علي حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بسوء حسبي الله عند الموت حسبي الله عند المسألة في القبر حسبي الله عند الميزان حسبي الله عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب ) . وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » إلى آخر السورة؛ وقد بيناه. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس بن أن آخر ما نزل من القرآن « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » وهذه الآية؛ ذكره الماوردي. وقد ذكرنا عن ابن عباس خلافه؛ على ما ذكرناه في « البقرة » وهو أصح. وقال مقاتل: تقدم نزولها بمكة. وهذا فيه بعد لأن السورة مدنية والله أعلم. وقال يحيى بن جعدة: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاءه رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة براءة « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » فقال عمر: والله لا أسألك عليهما بينة كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فأثبتهما. قال علماؤنا: الرجل هو خزيمة بن ثابت وإنما أثبتهما عمر رضي الله عنه بشهادته وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » [ الأحزاب: 23 ] فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وخزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم هذا المعنى في مقدمة الكتاب. والحمد لله.
=============
الآية: 122 ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )
قوله تعالى: « وما كان المؤمنون » وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم؛ إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع، وما تجدد نزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: « إلا تنفروا » [ التوبة: 39 ] وللآية التي قبلها؛ على قول مجاهد وابن زيد.
هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم؛ لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده. « فلو لا نفر » بعد ما علموا أن النفير لا يسع جميعهم. « من كل فرقة منهم طائفة » وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا؛ فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفى هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 43 ] . فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن.
قوله تعالى: « فلولا نفر » قال الأخفش: أي فهلا نفر. « من كل فرقة منهم طائفة » الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة. وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى: « إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة » [ التوبة: 66 ] رجل واحد. ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين؛ أحدهما عقلا، والآخر لغة. أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب، وأما اللغة فقوله: « ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم » فجاء بضمير الجماعة. قال ابن العربي: والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة ههنا واحد، ويعتضون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح لا من جهة. أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر.
قلت: أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى: « وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا » [ الحجرات: 9 ] يعني نفسين. دليله قوله تعالى: « فأصلحوا بين أخويكم » [ الحجرات: 9 ] فجاء بلفظ التثنية، والضمير في « اقتتلوا » وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء.
قوله تعالى: « ليتفقهوا » الضمير في « ليتفقهوا ، ولينذروا » للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله قتادة ومجاهد. وقال الحسن: هما للفرقة النافرة؛ واختاره الطبري. ومعنى « ليتفقهوا في الدين » أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين. « ولينذروا قومهم » من الكفار. « إذا رجعوا إليهم » من الجهاد فيخبرونهم بنصرة الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم لا يدان لهم بقتالهم وقتال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.
قلت: قول مجاهد وقتادة أبين، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا. وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام؛ إذ ليس ذلك في قوة الكلام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته؛ قاله أبو بكر بن العربي.
طلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان؛ كالصلاة والزكاة والصيام.
قلت: وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي ( إن طلب العلم فريضة ) . روى عبدالقدوس بن حبيب: أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) . قال إبراهيم: لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث.
وفرض على الكفاية؛ كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه؛ إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم؛ فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته.
طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل؛ روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ) . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي عن الحسن قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل، أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير. والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم ) . أسنده أبو عمر في كتاب بيان العلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي ) . وقال ابن عباس: أفضل الجهاد من بنى مسجدا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة. رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي قال: أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد، تأتي مسجدا فتقرئ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه. وقال الربيع سمعت الشافعي يقول: طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة. وقوله عليه السلام: ( إن الملائكة لتضع أجنحتها... ) الحديث يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تعطف عليه وترحمه؛ كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله: « واخفض لهما جناح الذل من الرحمة » [ الإسراء: 24 ] أي تواضع لهما. والوجه الآخر: أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها؛ لأن في بعض الروايات ( وإن الملائكة تفرش أجنحتها ) أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضات الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها؛ فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشيا ولا يعيا، وتقرب عليه الطريق البعيدة ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق. وقد مضى شيء من هذا المعنى في « آل عمران » عند قوله تعالى: « شهد الله... » الآية. روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) . قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟.
قلت: وهذا قول عبدالرزاق في تأويل الآية، إنهم أصحاب الحديث؛ ذكره الثعلبي. سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام: ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) إنهم العلماء؛ قال: وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس، ويطلق على فيضة من الدمع. فمعنى ( لا يزال أهل الغرب ) أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين؛ الحديث. قال الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء » [ فاطر: 28 ] .
قلت: وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم: ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ) . وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره. والله أعلم.
الآية: 123 ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين )
فيه مسألة واحدة: وهو أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام. وقال الحسن: نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين؛ فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله » [ التوبة: 29 ] . وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم. وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم؟ فقال بالروم. وقال الحسن: هو قتال الديلم والترك والروم. وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى.
قلت: قول قتادة هو ظاهر الآية، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم؛ على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه. [ أحدها ] أنهم أهل كتاب، فالحجة عليهم أكثر وأكد. الثاني: أنهم إلينا أقرب أعني أهل المدينة. الثالث: أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب. والله أعلم.
قوله تعالى: « وليجدوا فيكم غلظة » أي شدة وقوة وحمية. وروى الفضل عن الأعمش وعاصم « غَلظة » بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد بكسر الغين، ولغة بني تميم « غُلظة » بضم الغين.
الآية: 124 ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون )
« ما » صلة، والمراد المنافقون. « أيكم زادته هذه إيمانا » قد تقدم القول في زيادة الإيمان ونقصانه في سورة « آل عمران » . وقد تقدم معنى السورة في مقدمة الكتاب، فلا معنى للإعادة. وكتب الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز ( إن للإيمان سننا وفرائض من استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ) قال عمر بن عبدالعزيز: ( فإن أعش فسأبينها لكم وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص ) . ذكره البخاري. وقال ابن المبارك لم أجد بدا من أن أقول بزيادة الإيمان وإلا رددت القرآن.
الآية: 125 ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون )
قوله تعالى: « وأما الذين في قلوبهم مرض » أي شك وريب ونفاق. وقد تقدم. « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » أي شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم. وقال مقاتل: إثما إلى إثمهم؛ والمعنى متقارب.
الآية: 126 ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون )
قوله تعالى: « أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين » قراءة العامة بالياء، خبرا عن المنافقين. وقرأ حمزة ويعقوب بالتاء خبرا عنهم وخطابا للمؤمنين. وقرأ الأعمش « أو لم يروا » . وقرأ طلحة بن مصرف « أولا ترى » وهي قراءة ابن مسعود، خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم. و « يفتنون » قال الطبري: يختبرون. قال مجاهد: بالقحط والشدة. وقال عطية: بالأمراض والأوجاع؛ وهي روائد الموت. وقال قتادة والحسن ومجاهد: بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما وعد الله من النصر « ثم لا يتوبون » لذلك « ولا هم يذكرون » .
الآية: 127 ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون )
قوله تعالى: « وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض » « ما » صلة، والمراد المنافقون؛ أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير؛ يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد؛ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه. وقيل إن « نظر » في هذه الآية بمعنى أنبأ. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: « نظر » في هذه الآية موضع قال.
قوله تعالى: « ثم انصرفوا » أي انصرفوا عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم؛ فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته؛ « إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون » [ الأنفال: 22 ] . « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » [ محمد: 24 ] .
قوله تعالى: « صرف الله قلوبهم » دعاء عليهم؛ أي قولوا لهم هذا. ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم. وهي كلمة يدعي بها؛ كقوله: « قاتلهم الله » [ التوبة: 30 ] والباء في قوله: « بأنهم » صلة لـ « صرف » .
قال ابن عباس: يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة؛ لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة؛ أسنده البري عنه. قال ابن العربي: وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال: لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة؛ فإن قوما قيل فيهم: « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم » . أخبرنا محمد بن عبدالملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله فقال: لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم: « ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم » ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: « فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء » [ آل عمران: 174 ] .
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها؛ ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإراداتهم واختيارهم؛ ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب: ما أبين هذا في الرد على القدرية « لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم » [ التوبة: 110 ] . وقوله عز وجل لنوح: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول.
الآيتان: 128 - 129 ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
هاتان الآيتان في قول أُبي أقرب القرآن بالسماء عهدا. وفي قول سعيد بن جبير: آخر ما نزل من القرآن « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] على ما تقدم. فيحتمل أن يكون قول أُبيّ: أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » . والله أعلم والخطاب للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك؛ إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه، وشرفوا به غابر الأيام. وقال الزجاج: هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى: لقد جاءكم رسول من البشر؛ والأول أصوب. قال ابن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل. والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به.
قوله تعالى: « من أنفسكم » يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها. وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني من نكاح ولست من سفاح ) . معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى. وقرأ عبدالله بن قُسيط المكي من « أنْفَسِكم » بفتح الفاء من النفاسة؛ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. وقيل: من أنفسكم أي أكثركم طاعة.
قوله تعالى: « عزيز عليه ما عنتم » أي يعز عليه مشقتكم. والعنت: المشقة؛ من قولهم: أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة. وقال ابن الأنباري: أصل التعنت التشديد؛ فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه. وقد تقدم في « البقرة » . « وما » في « ما عنتم » مصدرية، وهي ابتداء و « عزيز » خبر مقدم. ويجوز أن يكون « ما عنتم » فاعلا بعزيز، و « عزيز » صفة للرسول، وهو أصوب. وكذا « حريص عليكم » وكذا « رؤوف رحيم » رفع على الصفة. قال الفراء: ولو قرئ عزيزا عليه، ما عنتم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا على الحال جاز. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبدالله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت عبدالله بن داود الخريبي يقول في قوله عز وجل: « لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم » قال: أن تدخلوا النار، « حريص عليكم » أن تدخلوا الجنة. وقيل: حريص عليكم أن تؤمنوا. وقال: الفراء: شحيح بأن تدخلوا النار. والحرص على الشيء: الشح عليه أن يضيع ويتلف. « بالمؤمنين رؤوف رحيم » الرؤوف: المبالغ في الرأفة والشفقة. وقد تقدم في « البقرة » معنى « رؤوف رحيم » مستوفى. وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال: « بالمؤمنين رؤوف رحيم » وقال: « إن الله بالناس لرؤوف رحيم » [ الحج: 65 ] . وقال عبدالعزيز بن يحيى: نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رؤوف رحيم، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته؛ فانه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة.
قوله تعالى: « فإن تولوا فقل حسبي الله » أي إن اعرض الكفار يا محمد بعد هذه النعم التي من الله عليهم بها فقل حسبي الله أي كافي الله تعالى. « عليه توكلت » أي اعتمدت وإليه فوضت جميع أموري. « وهو رب العرش العظيم » خص العرش لأنه أعظم المخلوقات فيدخل فيه ما دونه إذا ما ذكره. وقراءة العامة بخفض « العظيم » نعتا للعرش. وقرئ بالرفع صفة للرب، رويت عن ابن كثير، وهي قراءة ابن محيصن وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال: ( من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا ) . وفي نوادر الأصول عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال عشر كلمات عند دبر كل صلاة وجد الله عندهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وخمس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغى علي حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بسوء حسبي الله عند الموت حسبي الله عند المسألة في القبر حسبي الله عند الميزان حسبي الله عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب ) . وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » إلى آخر السورة؛ وقد بيناه. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس بن أن آخر ما نزل من القرآن « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » وهذه الآية؛ ذكره الماوردي. وقد ذكرنا عن ابن عباس خلافه؛ على ما ذكرناه في « البقرة » وهو أصح. وقال مقاتل: تقدم نزولها بمكة. وهذا فيه بعد لأن السورة مدنية والله أعلم. وقال يحيى بن جعدة: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاءه رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة براءة « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » فقال عمر: والله لا أسألك عليهما بينة كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فأثبتهما. قال علماؤنا: الرجل هو خزيمة بن ثابت وإنما أثبتهما عمر رضي الله عنه بشهادته وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » [ الأحزاب: 23 ] فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وخزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم هذا المعنى في مقدمة الكتاب. والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة يونس للقرطبى
===========
*مقدمة السورة
سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى: « فإن كنت في شك » [ يونس: 94 ] إلى آخرهن. وقال مقاتل: إلا آيتين وهي قوله: « فإن كنت في شك » نزلت بالمدينة. وقال الكلبي: مكية إلا قوله: « ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به » [ يونس: 40 ] نزلت بالمدينة في اليهود. وقالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم )
قوله تعالى: « الر » قال النحاس: قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسن بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس: الر، وحم، ونون حروف الرحمن مفرقة؛ فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني به؟. وعن ابن عباس أيضا قال: « الر » أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول؛ لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد:
بالخير خيرات وإن شرافا ولا أريد الشر إلا أن تا
وقال الحسن وعكرمة: « الر » قسم. وقال سعيد عن قتادة: « الر » اسم السورة؛ قال: وكذلك كل هجاء في القرآن. وقال مجاهد: هي فواتح السور. وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه، وكذا حروف التهجي. وقرئ « الر » من غير إمالة. وقرئ بالإمالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف.
قوله تعالى: « تلك آيات الكتاب الحكيم » ابتداء وخبر؛ أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة؛ فإن « تلك » إشارة إلى غائب مؤنث. وقيل: « تلك » بمعنى هذه؛ أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الأعشى:
تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب؛ لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولأن « الحكيم » من نعت القرآن. دليله قوله تعالى: « الر كتاب أحكمت آياته » [ هود: 1 ] وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة « البقرة » . والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام؛ قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم؛ أي إنه حاكم بالحلال والحرام، وحاكم بين الناس بالحق؛ فعيل بمعنى فاعل. دليله قوله: « وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » [ البقرة: 213 ] . وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه؛ أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه؛ فهو فعيل بمعنى المفعول؛ قاله الحسن وغيره. وقال مقاتل: الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف؛ فعيل بمعنى مفعل، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
الآية: 2 ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين )
قوله تعالى: « أكان للناس عجبا » استفهام معناه التقرير والتوبيخ. « وعجبا » خبر كان، واسمها « أن أوحينا » وهو في موضع رفع؛ أي كان إيحاؤنا عجبا للناس. وفي قراءة عبدالله « عجب » على أنه اسم كان. والخبر « أن أوحينا » . « إلى رجل منهم » قرئ « رَجْل » بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب؛ فنزلت: « أكان للناس » يعني أهل مكة « عجبا » . وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث.
قوله تعالى: « أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا » في موضع نصب بإسقاط الخافض؛ أي بأن أنذر الناس، وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. « أن لهم قدم صدق » اختلف في معنى « قدم صدق » فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى: « وقل رب أدخلني مدخل صدق » [ الإسراء: 80 ] . وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضا « قدم صدق » سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة:
لكم قدر لا ينكر الناس أنها مع الحسب العالي طمت على البحر
قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضا: هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم؛ كما قال: ( أنا فرطكم على الحوض ) . وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: ( هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم ) . وقال الترمذي الحكيم: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضا: مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالعزيز بن يحيى: « قدم صدق » قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء: 101 ] وقال مقاتل: أعمالا قدموها؛ واختاره الطبري. قال الوضاح:
صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل
وقيل: هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق ) . وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكني عنه بالقدم كما يكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي: القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج:
زل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: « وخاتم النبيين » [ الأحزاب: 40 ] .
قوله تعالى: « قال الكافرون إن هذا لساحر مبين » قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش « لساحر » نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون « لسحر » نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في « البقرة » .
الآية: 3 ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش » تقدم في الأعراف. « يدبر الأمر » قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل: يبعث بالأمر. وقيل: ينزل به. وقيل: يأمر به ويمضيه؛ والمعنى متقارب. فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الأمور في عواقبها، واشتقاقه من الدبر. والأمر اسم لجنس الأمور. « ما من شفيع » في موضع رفع، والمعنى ما شفيع « إلا من بعد إذنه » وقد تقدم في « البقرة » معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: « هؤلاء شفعاؤنا عند الله » [ يونس: 18 ] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل.
قوله تعالى: « ذلكم الله ربكم فاعبدوه » أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره. « فاعبدوه » أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. « أفلا تتذكرون » أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه.
الآية: 4 ( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
قوله تعالى: « إليه مرجعكم » رفع بالابتداء. « جميعا » نصب على الحال. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه. « وعد الله حقا » مصدران؛ أي وعد الله ذلك وعدا وحققه « حقا » صدقا لا خلف فيه. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « وعد الله حق » على الاستئناف.
قوله تعالى: « إنه يبدأ الخلق » أي من التراب. « ثم يعيده » إليه. مجاهد: ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد ابن القعقاع « أنه يبدأ الخلق » تكون « أن » في موضع نصب؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق. ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق؛ كما يقال: لبيك إن الحمد والنعمة لك؛ والكسر أجود. وأجاز الفراء أن تكون « أن » في موضع رفع فتكون اسما. قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق.
قوله تعالى: « ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط » أي بالعدل. « والذين كفروا لهم شراب من حميم » أي ماء حار قد انتهى حره، والحميمة مثله. يقال: حممت الماء احمه فهو حميم، أي محموم؛ فعيل بمعنى مفعول. وكل مسخن عند العرب فهو حميم. « وعذاب أليم » أي موجع، يخلص وجعه إلى قلوبهم. « بما كانوا يكفرون » أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم؛ فاحتج عليهم بهذا فقال: من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء.
الآية: 5 ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )
قوله تعالى: « هو الذي جعل الشمس ضياء » مفعولان، أي مضيئة، ولم يؤنث لأنه مصدر؛ أو ذات ضياء « والقمر نورا » عطف، أي منيرا، أو ذا نور، فالضياء ما يضيء الأشياء، والنور ما يبين فيخفى، لأنه من النار من أصل واحد. والضياء جمع ضوء؛ كالسياط والحياض جمع سوط وحوض. وقرأ قنبل عن ابن كثير « ضئاء » بهمز الياء ولا وجه له، لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام. قال المهدوي: ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب، قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ضئايا، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة. وكذلك إن قردت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال. ويقال: إن الشمس والقمر تضيء وجوهها لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.
قوله تعالى: « وقدره منازل » أي ذا منازل، أو قدر له منازل. ثم قيل: المعنى وقدرهما، فوحد إيجازا واختصارا؛ كما قال: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » . وكما قال:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقيل: إن الإخبار عن القمر وحده؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها، كما تقدم في « البقرة » . وفي سورة يس: « والقمر قدرناه منازل » [ يس: 39 ] أي على عدد الشهر، وهو ثمانية وعشرون منزلا. ويومان للنقصان والمحاق، وهناك يأتي بيانه.
قوله تعالى: « لتعلموا عدد السنين والحساب » قال ابن عباس: لو جعل شمسين، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور. وواحد « السنين » سنة، ومن العرب من يقول: سنوات في الجمع ومنهم من يقول: سنهات. والتصغير سنية وسنيهة.
قوله تعالى: « ما خلق الله ذلك إلا بالحق » أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب، وإظهارا لصنعته وحكمته، ودلالة على قدرته وعلمه، ولتجزى كل نفس بما كسبت؛ فهذا هو الحق. « يفصل الآيات لقوم يعلمون » تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب؛ فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب « يفصل » بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله من قبله: « ما خلق الله ذلك إلا بالحق » وبعده « وما خلق الله في السموات والأرض » فيكون متبعا له. وقرأ ابن السميقع « تفصل » بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، « والآيات » رفعا. الباقون « نفصل » بالنون على التعظيم.
الآية: 6 ( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون )
تقدم في « البقرة » وغيرها معناه، والحمد لله. وقد قيل: إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها؛ قاله ابن عباس. « لقوم يتقون » أي الشرك؛ فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية.
===========
*مقدمة السورة
سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى: « فإن كنت في شك » [ يونس: 94 ] إلى آخرهن. وقال مقاتل: إلا آيتين وهي قوله: « فإن كنت في شك » نزلت بالمدينة. وقال الكلبي: مكية إلا قوله: « ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به » [ يونس: 40 ] نزلت بالمدينة في اليهود. وقالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم )
قوله تعالى: « الر » قال النحاس: قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسن بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس: الر، وحم، ونون حروف الرحمن مفرقة؛ فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني به؟. وعن ابن عباس أيضا قال: « الر » أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول؛ لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد:
بالخير خيرات وإن شرافا ولا أريد الشر إلا أن تا
وقال الحسن وعكرمة: « الر » قسم. وقال سعيد عن قتادة: « الر » اسم السورة؛ قال: وكذلك كل هجاء في القرآن. وقال مجاهد: هي فواتح السور. وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه، وكذا حروف التهجي. وقرئ « الر » من غير إمالة. وقرئ بالإمالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف.
قوله تعالى: « تلك آيات الكتاب الحكيم » ابتداء وخبر؛ أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة؛ فإن « تلك » إشارة إلى غائب مؤنث. وقيل: « تلك » بمعنى هذه؛ أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الأعشى:
تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب؛ لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولأن « الحكيم » من نعت القرآن. دليله قوله تعالى: « الر كتاب أحكمت آياته » [ هود: 1 ] وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة « البقرة » . والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام؛ قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم؛ أي إنه حاكم بالحلال والحرام، وحاكم بين الناس بالحق؛ فعيل بمعنى فاعل. دليله قوله: « وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » [ البقرة: 213 ] . وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه؛ أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه؛ فهو فعيل بمعنى المفعول؛ قاله الحسن وغيره. وقال مقاتل: الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف؛ فعيل بمعنى مفعل، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
الآية: 2 ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين )
قوله تعالى: « أكان للناس عجبا » استفهام معناه التقرير والتوبيخ. « وعجبا » خبر كان، واسمها « أن أوحينا » وهو في موضع رفع؛ أي كان إيحاؤنا عجبا للناس. وفي قراءة عبدالله « عجب » على أنه اسم كان. والخبر « أن أوحينا » . « إلى رجل منهم » قرئ « رَجْل » بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب؛ فنزلت: « أكان للناس » يعني أهل مكة « عجبا » . وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث.
قوله تعالى: « أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا » في موضع نصب بإسقاط الخافض؛ أي بأن أنذر الناس، وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. « أن لهم قدم صدق » اختلف في معنى « قدم صدق » فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى: « وقل رب أدخلني مدخل صدق » [ الإسراء: 80 ] . وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضا « قدم صدق » سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة:
لكم قدر لا ينكر الناس أنها مع الحسب العالي طمت على البحر
قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضا: هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم؛ كما قال: ( أنا فرطكم على الحوض ) . وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: ( هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم ) . وقال الترمذي الحكيم: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضا: مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالعزيز بن يحيى: « قدم صدق » قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء: 101 ] وقال مقاتل: أعمالا قدموها؛ واختاره الطبري. قال الوضاح:
صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل
وقيل: هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق ) . وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكني عنه بالقدم كما يكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي: القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج:
زل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: « وخاتم النبيين » [ الأحزاب: 40 ] .
قوله تعالى: « قال الكافرون إن هذا لساحر مبين » قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش « لساحر » نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الباقون « لسحر » نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في « البقرة » .
الآية: 3 ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش » تقدم في الأعراف. « يدبر الأمر » قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل: يبعث بالأمر. وقيل: ينزل به. وقيل: يأمر به ويمضيه؛ والمعنى متقارب. فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الأمور في عواقبها، واشتقاقه من الدبر. والأمر اسم لجنس الأمور. « ما من شفيع » في موضع رفع، والمعنى ما شفيع « إلا من بعد إذنه » وقد تقدم في « البقرة » معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: « هؤلاء شفعاؤنا عند الله » [ يونس: 18 ] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل.
قوله تعالى: « ذلكم الله ربكم فاعبدوه » أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره. « فاعبدوه » أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. « أفلا تتذكرون » أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه.
الآية: 4 ( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
قوله تعالى: « إليه مرجعكم » رفع بالابتداء. « جميعا » نصب على الحال. ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى أجزائه. « وعد الله حقا » مصدران؛ أي وعد الله ذلك وعدا وحققه « حقا » صدقا لا خلف فيه. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « وعد الله حق » على الاستئناف.
قوله تعالى: « إنه يبدأ الخلق » أي من التراب. « ثم يعيده » إليه. مجاهد: ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث؛ أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال. وقرأ يزيد ابن القعقاع « أنه يبدأ الخلق » تكون « أن » في موضع نصب؛ أي وعدكم أنه يبدأ الخلق. ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق؛ كما يقال: لبيك إن الحمد والنعمة لك؛ والكسر أجود. وأجاز الفراء أن تكون « أن » في موضع رفع فتكون اسما. قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق.
قوله تعالى: « ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط » أي بالعدل. « والذين كفروا لهم شراب من حميم » أي ماء حار قد انتهى حره، والحميمة مثله. يقال: حممت الماء احمه فهو حميم، أي محموم؛ فعيل بمعنى مفعول. وكل مسخن عند العرب فهو حميم. « وعذاب أليم » أي موجع، يخلص وجعه إلى قلوبهم. « بما كانوا يكفرون » أي بكفرهم، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم؛ فاحتج عليهم بهذا فقال: من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء.
الآية: 5 ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )
قوله تعالى: « هو الذي جعل الشمس ضياء » مفعولان، أي مضيئة، ولم يؤنث لأنه مصدر؛ أو ذات ضياء « والقمر نورا » عطف، أي منيرا، أو ذا نور، فالضياء ما يضيء الأشياء، والنور ما يبين فيخفى، لأنه من النار من أصل واحد. والضياء جمع ضوء؛ كالسياط والحياض جمع سوط وحوض. وقرأ قنبل عن ابن كثير « ضئاء » بهمز الياء ولا وجه له، لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام. قال المهدوي: ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب، قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف ضئايا، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة. وكذلك إن قردت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال. ويقال: إن الشمس والقمر تضيء وجوهها لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.
قوله تعالى: « وقدره منازل » أي ذا منازل، أو قدر له منازل. ثم قيل: المعنى وقدرهما، فوحد إيجازا واختصارا؛ كما قال: « وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » . وكما قال:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقيل: إن الإخبار عن القمر وحده؛ إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها، كما تقدم في « البقرة » . وفي سورة يس: « والقمر قدرناه منازل » [ يس: 39 ] أي على عدد الشهر، وهو ثمانية وعشرون منزلا. ويومان للنقصان والمحاق، وهناك يأتي بيانه.
قوله تعالى: « لتعلموا عدد السنين والحساب » قال ابن عباس: لو جعل شمسين، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور. وواحد « السنين » سنة، ومن العرب من يقول: سنوات في الجمع ومنهم من يقول: سنهات. والتصغير سنية وسنيهة.
قوله تعالى: « ما خلق الله ذلك إلا بالحق » أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب، وإظهارا لصنعته وحكمته، ودلالة على قدرته وعلمه، ولتجزى كل نفس بما كسبت؛ فهذا هو الحق. « يفصل الآيات لقوم يعلمون » تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب؛ فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب « يفصل » بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله من قبله: « ما خلق الله ذلك إلا بالحق » وبعده « وما خلق الله في السموات والأرض » فيكون متبعا له. وقرأ ابن السميقع « تفصل » بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، « والآيات » رفعا. الباقون « نفصل » بالنون على التعظيم.
الآية: 6 ( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون )
تقدم في « البقرة » وغيرها معناه، والحمد لله. وقد قيل: إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها؛ قاله ابن عباس. « لقوم يتقون » أي الشرك؛ فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
==============
الآيتان: 7 - 8 ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « إن الذين لا يرجون لقاءنا » « يرجون » يخافون؛ ومنه قول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل
وقيل يرجون يطمعون؛ ومنه قول الآخر:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع؛ أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما. وقيل: يجري اللقاء على ظاهره، وهو الرؤية؛ أي لا يطمعون في رؤيتنا. وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ كقوله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] . وقال بعضهم: بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى.
قوله تعالى: « ورضوا بالحياة الدنيا » أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها. « واطمأنوا بها » أي فرحوا بها وسكنوا إليها، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل، ذكره الغزنوي. « والذين هم عن آياتنا » أي عن أدلتنا « غافلون » لا يعتبرون ولا يتفكرون. « أولئك مأواهم » أي مثواهم ومقامهم. « النار بما كانوا يكسبون » أي من الكفر والتكذيب.
الآية: 9 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم )
قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي صدقوا. « وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم » أي يزيدهم هداية؛ كقوله: « والذين اهتدوا زادهم هدى » [ محمد: 17 ] . وقيل: « يهديهم ربهم بإيمانهم » إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار. وقال أبو روق: يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة. وقال عطية: « يهديهم » يثيبهم ويجزيهم. وقال مجاهد: « يهديهم ربهم » بالنور على الصراط إلى ا الجنة، يجعل لهم نورا يمشون به. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال: ( يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله ) . هذا معنى الحديث. وقال ابن جريج: يجعل عملهم هاديا لهم. الحسن: « يهديهم » يرحمهم.
قوله تعالى: « تجري من تحتهم الأنهار » قيل: في الكلام واو محذوفة، أي وتجري من نحتهم، أي من نحت بساتينهم. وقيل: من تحت أسرتهم؛ وهذا أحسن في النزهة والفرجة.
الآية: 10 ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )
قوله تعالى: « دعواهم فيها سبحانك اللهم » دعواهم: أي دعاؤهم؛ والدعوى مصدر دعا يدعو، كالشكوى مصدر شكا يشكو؛ أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل: إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل: نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاؤوا ثم سبحوا. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى « ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] أي ما تتمنون. والله أعلم. « وتحيتهم فيها سلام » أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض: سلام. وقد مضى في « النساء » معنى التحية مستوفى. والحمد لله.
قيل: إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا: سبحانك اللهم؛ فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد. ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف « أن » ورفع ما بعدها؛ قال: وإنما نراهم مم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل: « أن لعنة الله » و « أن غضب الله » لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله. قال النحاس: مذهب الخليل وسيبويه أن « أن » هذه مخففة من الثقيلة. والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد: ويجوز « أن الحمد لله » يعملها خفيفة عملها ثقيلة؛ والرفع أقيس. قال النحاس: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ « وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين » .
قلت: وهى قراءة ابن محيصن، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه.
التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء؛ روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ( لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ) . قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول ( إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) . والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعوة ذي النون إذا دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له ) .
من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة؛ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ) .
الرابعة: يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين؛ وحسن أن يقرأ آخر « والصافات » فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين.
الآية: 11 ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون )
قوله تعالى: « ولو يعجل الله للناس الشر » قيل: معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا، لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وليس هم كذا يوم القيامة؛ لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. وقيل: المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم؛ وهو معنى « لقضي إليهم أجلهم » . وقيل: إنه خاص بالكافر؛ أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة؛ قال ابن إسحاق. مقاتل: هو قول النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء؛ فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب: اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه، أو نحو هذا؛ فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم. فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر؛ فلو عجل لهم لهلكوا.
واختلف في إجابة هذا الدعاء؛ فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه ) . وقال شهر بن حوشب: قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد: لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا؛ لطفا من الله تعالى عليه. قال بعضهم: وقد يستجاب ذلك الدعاء، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب، قال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركب، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن؛ فقال له: شأ؛ لعنك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من هذا اللاعن بعيره ) ؟ قال: أنا يا رسول الله؛ قال: ( انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ) .
في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال: ( أين الذي لعن ناقته ) ؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله؛ فقال: ( أخرها عنك فقد أجبت فيها ) ذكره الحليمي في منهاج الدين. « شأ » يروى بالسين والشين، وهو زجر للبعير بمعنى سر.
قوله تعالى: « ولو يعجل الله » قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. وقال أبو علي: هما من الله؛ وفي الكلام حذف؛ أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول ضربت زيدا ضربك، أي كضربك. وقرأ ابن عامر « لقضى إليهم أجلهم » . وهي قراءة حسنة؛ لأنه متصل بقوله: « ولو يعجل الله للناس الشر » .
قوله تعالى: « فنذر الذين لا يرجون لقاءنا » أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. « في طغيانهم يعمهون » أي يتحيرون. والطغيان: العلو والارتفاع؛ وقد تقدم في « البقرة » . وقد قيل: إن المراد بهذه الآية أهل مكة، وإنها نزلت حين قالوا: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] الآية، على ما تقدم والله أعلم.
الآية: 12 ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه » قيل: المراد بالإنسان هنا الكافر، قيل: هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك، تصيبه البأساء والشدة والجهد. « دعانا لجنبه » أي على جنبه مضطجعا. « أو قاعدا أو قائما » وإنما أراد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم: إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر، فهو يدعو أكثر، واجتهاده أشد، ثم القاعد ثم القائم. « فلما كشفنا عنه ضره مر » أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ.
قلت: وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته. العافية مر على ما كان عليه من المعاصي؛ فالآية تعم الكافر وغيره. « كأن لم يدعنا » قال الأخفش: هي « كأن » الثقيلة خففت، والمعنى كأنه وأنشد:
وي كأنْ من يكن له نشب يُحْـ ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
« كذلك » أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء. « زين للمسرفين » أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي. وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر.
الآية: 13 ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين )
قوله تعالى: « ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا » يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم. « لما ظلموا » أي كفروا وأشركوا. « وجاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات. « وما كانوا ليؤمنوا » أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون. يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية؛ أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان. وقيل: معنى « ما كانوا ليؤمنوا » أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم؛ ويدل على هذا أنه قال: « كذلك نجزي القوم المجرمين » .
الآية: 14 ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون )
قوله تعالى: « ثم جعلناكم خلائف » مفعولان. والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم آخر « الأنعام » أي جعلناكم سكانا في الأرض. « من بعدهم » أي من بعد القرون المهلكة. « لننظر » نصب بلام كي، وقد تقدم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبا. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و « كيف » نصب بقوله: تعملون: لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله.
الآية: 15 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا » « تتلى » تقرأ، و « بينات » نصب على الحال؛ أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال. « قال الذين لا يرجون لقاءنا » يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب. قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. « ائت بقرآن غير هذا أو بدله » والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه؛ وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا؛ قاله ابن جرير الطبري.
الثاني: سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ قاله ابن عيسى.
الثالث: أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور؛ قاله الزجاج.
قوله تعالى: « قل ما يكون لي » أي قل يا محمد ما كان لي « أن أبدله من تلقاء نفسي » ومن عندي، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب. « إن أتبع إلا ما يوحى إلي » أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي. « وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة؛ لأنه تعالى قال: » قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي « وهذا فيه بعد؛ فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ؛ ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من عند الله تعالى. » إني أخاف إن عصيت ربي « أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به. » عذاب يوم عظيم « يعني يوم القيامة.»
الآية: 16 ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون )
قوله تعالى: « قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به » أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به؛ يقال: دريت الشيء وأدراني الله به، ودريته ودريت به. وفي الدراية معنى الختل؛ ومنه دريت الرجل أي ختلته، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف. وقرأ ابن كثير: « ولأدراكم به » بغير ألف بين اللام والهمزة؛ والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم؛ فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقرأ ابن عباس والحسن « ولا أدراتكم به » بتحويل الياء ألفا، على لغة بني عقيل؛ قال الشاعر:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقال آخر:
ألا آذنت أهل اليمامة طيء بحرب كناصات الأغر المشهر
قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء: هل لقراءة الحسن « ولا أدراتكم به » وجه؟ فقال لا. وهل أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن « ولا أدراتكم به » إلا الغلط. قال النحاس: معنى قول أبي عبيد: لا وجه، إن شاء الله على الغلط؛ لأنه يقال: دريت أي علمت، وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت؛ فيقع الغلط بين دريت ودرأت. قال أبو حاتم: يريد الحسن فيما أحسب « ولا أدريتكم به » فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها؛ مثل: « إن هذان لساحران » [ طه: 63 ] . قال المهدوي: ومن قرأ « أدرأتكم » فوجهه أن أصل الهمزة ياء، فأصله « أدريتكم » فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة؛ كما قال: يايس في ييس وطايء في طيء، ثم قلبت الألف همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم. قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن « ولا أدرأتكم » بالهمزة، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت؛ أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن.
قوله تعالى: « فقد لبثت فيكم عمرا » ظرف، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة. « من قبله » أي من قبل القرآن، تعرفونني بالصدق والأمانة، لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. « أفلا تعقلون » أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي. وقيل: معنى « لبثت فيكم عمرا » أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله، وأغير ما ينزله علي. قال قتادة: لبث فيهم أربعين سنة، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة.
الآية: 17 ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون )
هذا استفهام بمعنى الجحد؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله. وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه. وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم. وقيل: هو من قول الله ابتداء. وقيل: المفتري المشرك، والمكذب بالآيات أهل الكتاب. « إنه لا يفلح المجرمون » .
الآية: 18 ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون )
قوله تعالى: « ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم » يريد الأصنام. « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » وهذه غاية الجهالة منهم؛ حيث ينتظرون الشفاعة في المال ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل: « شفعاؤنا » أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا. « قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض » قراءة العامة « تنبئون » بالتشديد. وقرأ أبو السمال العدوي « أتنبئون الله » مخففا، من أنبأ ينبئ. وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة؛ وهما بمعنى واحد، جمعهما قوله تعالى: « من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير » [ التحريم: 3 ] أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه، والله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض؛ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه. نظيره قوله: « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » [ الرعد: 33 ] ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال: « سبحانه وتعالى عما يشركون » أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل: المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » فيكذبون؛ وهل يتهيأ لكم أن تنبؤه بما لا يعلم، سبحانه وتعالى عما يشركون!. وقرأ حمزة والكسائي « تشركون » بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد. الباقون بالياء.
الآية: 19 ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون )
تقدم في « البقرة » معناه فلا معنى للإعادة. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقيل: كل مولود يولد عل الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ. « ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون » إشارة إلى القضاء والقدر؛ أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل موعدهم القيامة؛ قال الحسن. وقال أبو ورق: « لقضي بينهم » لأقام عليهم الساعة. وقيل: لفرغ من هلاكهم. وقال الكلبي: « الكلمة » أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا. هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة. والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به. وقيل: الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل؛ كما قال: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] وقيل: الكلمة قوله: ( سبقت رحمتي غضبي ) ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة. وقرأ عيسى « لقضى » بالفتح.
الآية: 20 ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين )
يريد أهل مكة؛ أي هلا أنزل عليه آية، أي معجزة غير هذه المعجزة، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون ل بيت من زخرف، ويحيى لنا من مات من آبائنا. وقال الضحاك: عصا كعصا موسى. « فقل إنما الغيب لله » أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب. « فانتظروا » أي تربصوا. « إني معكم من المنتظرين » لنزولها. وقيل: انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل.
الآية: 21 ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )
يريد كفار مكة. « رحمة من بعد ضراء مستهم » قيل: رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب. « إذا لهم مكر في آياتنا » أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله: « وإذا أذقنا » : « إذا لهم » على قول الخليل وسيبويه. « قل الله أسرع مكرا » ابتداء وخبر. « مكرا » على البيان؛ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر. « إن رسلنا يكتبون ما تمكرون » يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة « تمكرون » بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي « يمكرون » بالياء؛ لقول: « إذا لهم مكر في آياتنا » قيل: قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم.
الآيتان: 22 - 23 ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم » أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي: يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في « البقرة » . « يسيركم » قراءة العامة. ابن عامر « ينشركم » بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه. وقوله: « وجربن بهم » خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى: « وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » [ الإنسان: 21 - 22 ] فأبدل الكاف من الهاء.
قوله تعالى « بريح طيبة وفرحوا بها » تقدم الكلام فيها في البقرة. « جاءتها ريح عاصف » الضمير في « جاءتها » للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة؛ يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر:
حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل
وقال « عاصف » بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. « وجاءهم الموج من كل مكان » والموج ما ارتفع من الماء « وظنوا » أي أيقنوا « أنهم أحيط بهم » أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. « دعوا الله مخلصين له الدين » أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في « النمل » إن شاء الله تعالى. وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا؛ أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم.
مسألة: هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء... الحديث. وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو، وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مستوفى والحمد لله. وقد تعدم في آخر « الأعراف » حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه؛ فتأمله هناك.
قوله تعالى: « لئن أنجيتنا من هذه » أي هذه الشدائد والأهوال. وقال الكلبي: من هذه الريح. « لنكونن من الشاكرين » أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. « فلما أنجاهم » أي خلصهم وأنقذهم.. « إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق » أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. والبغي: الفساد والشرك؛ من بغى الجرح إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. « بغير الحق » أي بالتكذيب؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها.
قوله تعالى: « يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم » أي وباله عائد عليكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: « متاع الحياة الدنيا ثم إلي مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون » أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له. قال النحاس: « بغيكم » رفع بالابتداء وخبره « متاع الحياة الدنيا » . و « على أنفسكم » مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره « على أنفسكم » وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر « بغيكم » فالمعنى. إنما بغي بعضكم على بعض؛ مثل: « فسلموا على أنفسكم » [ النور: 61 ] وكذا « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] . وإذا كان الخبر « على أنفسكم » فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم؛ مثل « وإن أسأتم فلها » . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا؛ كما يقال: البغي مصرعة. وقرأ ابن أبي إسحاق « متاع » بالنصب على أنه مصدر؛ أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. أو ينزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين. أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي. و « على أنفسكم » مفعول ذلك المعنى.
==============
الآيتان: 7 - 8 ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )
قوله تعالى: « إن الذين لا يرجون لقاءنا » « يرجون » يخافون؛ ومنه قول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل
وقيل يرجون يطمعون؛ ومنه قول الآخر:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع؛ أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا. وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما. وقيل: يجري اللقاء على ظاهره، وهو الرؤية؛ أي لا يطمعون في رؤيتنا. وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد؛ كقوله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] . وقال بعضهم: بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى.
قوله تعالى: « ورضوا بالحياة الدنيا » أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها. « واطمأنوا بها » أي فرحوا بها وسكنوا إليها، وأصل اطمأن طأمن طمأنينة، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل، ذكره الغزنوي. « والذين هم عن آياتنا » أي عن أدلتنا « غافلون » لا يعتبرون ولا يتفكرون. « أولئك مأواهم » أي مثواهم ومقامهم. « النار بما كانوا يكسبون » أي من الكفر والتكذيب.
الآية: 9 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم )
قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي صدقوا. « وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم » أي يزيدهم هداية؛ كقوله: « والذين اهتدوا زادهم هدى » [ محمد: 17 ] . وقيل: « يهديهم ربهم بإيمانهم » إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار. وقال أبو روق: يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة. وقال عطية: « يهديهم » يثيبهم ويجزيهم. وقال مجاهد: « يهديهم ربهم » بالنور على الصراط إلى ا الجنة، يجعل لهم نورا يمشون به. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال: ( يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله ) . هذا معنى الحديث. وقال ابن جريج: يجعل عملهم هاديا لهم. الحسن: « يهديهم » يرحمهم.
قوله تعالى: « تجري من تحتهم الأنهار » قيل: في الكلام واو محذوفة، أي وتجري من نحتهم، أي من نحت بساتينهم. وقيل: من تحت أسرتهم؛ وهذا أحسن في النزهة والفرجة.
الآية: 10 ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )
قوله تعالى: « دعواهم فيها سبحانك اللهم » دعواهم: أي دعاؤهم؛ والدعوى مصدر دعا يدعو، كالشكوى مصدر شكا يشكو؛ أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل: إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد. وقيل: نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاؤوا ثم سبحوا. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى « ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] أي ما تتمنون. والله أعلم. « وتحيتهم فيها سلام » أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض: سلام. وقد مضى في « النساء » معنى التحية مستوفى. والحمد لله.
قيل: إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا: سبحانك اللهم؛ فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد. ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف « أن » ورفع ما بعدها؛ قال: وإنما نراهم مم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل: « أن لعنة الله » و « أن غضب الله » لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله. قال النحاس: مذهب الخليل وسيبويه أن « أن » هذه مخففة من الثقيلة. والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد: ويجوز « أن الحمد لله » يعملها خفيفة عملها ثقيلة؛ والرفع أقيس. قال النحاس: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ « وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين » .
قلت: وهى قراءة ابن محيصن، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه.
التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء؛ روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ( لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ) . قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول ( إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) . والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعوة ذي النون إذا دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له ) .
من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة؛ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ) .
الرابعة: يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين؛ وحسن أن يقرأ آخر « والصافات » فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه، والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين.
الآية: 11 ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون )
قوله تعالى: « ولو يعجل الله للناس الشر » قيل: معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا، لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا، وليس هم كذا يوم القيامة؛ لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. وقيل: المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم؛ وهو معنى « لقضي إليهم أجلهم » . وقيل: إنه خاص بالكافر؛ أي ولو يجعل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة؛ قال ابن إسحاق. مقاتل: هو قول النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء؛ فلو عجل لهم هذا لهلكوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب: اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه وألعنه، أو نحو هذا؛ فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم. فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر؛ فلو عجل لهم لهلكوا.
واختلف في إجابة هذا الدعاء؛ فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه ) . وقال شهر بن حوشب: قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد: لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا؛ لطفا من الله تعالى عليه. قال بعضهم: وقد يستجاب ذلك الدعاء، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب، قال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركب، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن؛ فقال له: شأ؛ لعنك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من هذا اللاعن بعيره ) ؟ قال: أنا يا رسول الله؛ قال: ( انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ) .
في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال: ( أين الذي لعن ناقته ) ؟ فقال الرجل: أنا هذا يا رسول الله؛ فقال: ( أخرها عنك فقد أجبت فيها ) ذكره الحليمي في منهاج الدين. « شأ » يروى بالسين والشين، وهو زجر للبعير بمعنى سر.
قوله تعالى: « ولو يعجل الله » قال العلماء: التعجيل من الله، والاستعجال من العبد. وقال أبو علي: هما من الله؛ وفي الكلام حذف؛ أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم، ثم حذف الكاف ونصب. قال الفراء: كما تقول ضربت زيدا ضربك، أي كضربك. وقرأ ابن عامر « لقضى إليهم أجلهم » . وهي قراءة حسنة؛ لأنه متصل بقوله: « ولو يعجل الله للناس الشر » .
قوله تعالى: « فنذر الذين لا يرجون لقاءنا » أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن. « في طغيانهم يعمهون » أي يتحيرون. والطغيان: العلو والارتفاع؛ وقد تقدم في « البقرة » . وقد قيل: إن المراد بهذه الآية أهل مكة، وإنها نزلت حين قالوا: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] الآية، على ما تقدم والله أعلم.
الآية: 12 ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه » قيل: المراد بالإنسان هنا الكافر، قيل: هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك، تصيبه البأساء والشدة والجهد. « دعانا لجنبه » أي على جنبه مضطجعا. « أو قاعدا أو قائما » وإنما أراد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاثة. قال بعضهم: إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر، فهو يدعو أكثر، واجتهاده أشد، ثم القاعد ثم القائم. « فلما كشفنا عنه ضره مر » أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ.
قلت: وهذه صفة كثير من المخلطين الموحدين، إذا أصابته. العافية مر على ما كان عليه من المعاصي؛ فالآية تعم الكافر وغيره. « كأن لم يدعنا » قال الأخفش: هي « كأن » الثقيلة خففت، والمعنى كأنه وأنشد:
وي كأنْ من يكن له نشب يُحْـ ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
« كذلك » أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء. « زين للمسرفين » أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي. وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله، ويجوز أن يكون من الشيطان، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر.
الآية: 13 ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين )
قوله تعالى: « ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا » يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم. « لما ظلموا » أي كفروا وأشركوا. « وجاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات. « وما كانوا ليؤمنوا » أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون. يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية؛ أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان. وقيل: معنى « ما كانوا ليؤمنوا » أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم؛ ويدل على هذا أنه قال: « كذلك نجزي القوم المجرمين » .
الآية: 14 ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون )
قوله تعالى: « ثم جعلناكم خلائف » مفعولان. والخلائف جمع خليفة، وقد تقدم آخر « الأنعام » أي جعلناكم سكانا في الأرض. « من بعدهم » أي من بعد القرون المهلكة. « لننظر » نصب بلام كي، وقد تقدم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبا. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و « كيف » نصب بقوله: تعملون: لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله.
الآية: 15 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا » « تتلى » تقرأ، و « بينات » نصب على الحال؛ أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال. « قال الذين لا يرجون لقاءنا » يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب. قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. « ائت بقرآن غير هذا أو بدله » والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه؛ وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا، والحلال حراما والحرام حلالا؛ قاله ابن جرير الطبري.
الثاني: سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ قاله ابن عيسى.
الثالث: أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور؛ قاله الزجاج.
قوله تعالى: « قل ما يكون لي » أي قل يا محمد ما كان لي « أن أبدله من تلقاء نفسي » ومن عندي، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب. « إن أتبع إلا ما يوحى إلي » أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد، وتحريم وتحليل، وأمر ونهي. « وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة؛ لأنه تعالى قال: » قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي « وهذا فيه بعد؛ فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ؛ ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه، بل كان من عند الله تعالى. » إني أخاف إن عصيت ربي « أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به. » عذاب يوم عظيم « يعني يوم القيامة.»
الآية: 16 ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون )
قوله تعالى: « قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به » أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به؛ يقال: دريت الشيء وأدراني الله به، ودريته ودريت به. وفي الدراية معنى الختل؛ ومنه دريت الرجل أي ختلته، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف. وقرأ ابن كثير: « ولأدراكم به » بغير ألف بين اللام والهمزة؛ والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم؛ فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل. وقرأ ابن عباس والحسن « ولا أدراتكم به » بتحويل الياء ألفا، على لغة بني عقيل؛ قال الشاعر:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقال آخر:
ألا آذنت أهل اليمامة طيء بحرب كناصات الأغر المشهر
قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء: هل لقراءة الحسن « ولا أدراتكم به » وجه؟ فقال لا. وهل أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن « ولا أدراتكم به » إلا الغلط. قال النحاس: معنى قول أبي عبيد: لا وجه، إن شاء الله على الغلط؛ لأنه يقال: دريت أي علمت، وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت؛ فيقع الغلط بين دريت ودرأت. قال أبو حاتم: يريد الحسن فيما أحسب « ولا أدريتكم به » فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها؛ مثل: « إن هذان لساحران » [ طه: 63 ] . قال المهدوي: ومن قرأ « أدرأتكم » فوجهه أن أصل الهمزة ياء، فأصله « أدريتكم » فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة؛ كما قال: يايس في ييس وطايء في طيء، ثم قلبت الألف همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم. قال النحاس: وهذا غلط، والرواية عن الحسن « ولا أدرأتكم » بالهمزة، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت؛ أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن.
قوله تعالى: « فقد لبثت فيكم عمرا » ظرف، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة. « من قبله » أي من قبل القرآن، تعرفونني بالصدق والأمانة، لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. « أفلا تعقلون » أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي. وقيل: معنى « لبثت فيكم عمرا » أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله، وأغير ما ينزله علي. قال قتادة: لبث فيهم أربعين سنة، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة.
الآية: 17 ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون )
هذا استفهام بمعنى الجحد؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله. وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه. وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم. وقيل: هو من قول الله ابتداء. وقيل: المفتري المشرك، والمكذب بالآيات أهل الكتاب. « إنه لا يفلح المجرمون » .
الآية: 18 ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون )
قوله تعالى: « ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم » يريد الأصنام. « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » وهذه غاية الجهالة منهم؛ حيث ينتظرون الشفاعة في المال ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل: « شفعاؤنا » أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا. « قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض » قراءة العامة « تنبئون » بالتشديد. وقرأ أبو السمال العدوي « أتنبئون الله » مخففا، من أنبأ ينبئ. وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة؛ وهما بمعنى واحد، جمعهما قوله تعالى: « من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير » [ التحريم: 3 ] أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه، والله لا يعلم لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض؛ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه. نظيره قوله: « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » [ الرعد: 33 ] ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال: « سبحانه وتعالى عما يشركون » أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل: المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » فيكذبون؛ وهل يتهيأ لكم أن تنبؤه بما لا يعلم، سبحانه وتعالى عما يشركون!. وقرأ حمزة والكسائي « تشركون » بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد. الباقون بالياء.
الآية: 19 ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون )
تقدم في « البقرة » معناه فلا معنى للإعادة. وقال الزجاج: هم العرب كانوا على الشرك. وقيل: كل مولود يولد عل الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ. « ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون » إشارة إلى القضاء والقدر؛ أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل موعدهم القيامة؛ قال الحسن. وقال أبو ورق: « لقضي بينهم » لأقام عليهم الساعة. وقيل: لفرغ من هلاكهم. وقال الكلبي: « الكلمة » أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا. هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة. والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به. وقيل: الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل؛ كما قال: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] وقيل: الكلمة قوله: ( سبقت رحمتي غضبي ) ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة. وقرأ عيسى « لقضى » بالفتح.
الآية: 20 ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين )
يريد أهل مكة؛ أي هلا أنزل عليه آية، أي معجزة غير هذه المعجزة، فيجعل لنا الجبال ذهبا ويكون ل بيت من زخرف، ويحيى لنا من مات من آبائنا. وقال الضحاك: عصا كعصا موسى. « فقل إنما الغيب لله » أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب. « فانتظروا » أي تربصوا. « إني معكم من المنتظرين » لنزولها. وقيل: انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل.
الآية: 21 ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون )
يريد كفار مكة. « رحمة من بعد ضراء مستهم » قيل: رخاء بعد شدة، وخصب بعد جدب. « إذا لهم مكر في آياتنا » أي استهزاء وتكذيب. وجواب قوله: « وإذا أذقنا » : « إذا لهم » على قول الخليل وسيبويه. « قل الله أسرع مكرا » ابتداء وخبر. « مكرا » على البيان؛ أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر. « إن رسلنا يكتبون ما تمكرون » يعني بالرسل الحفظة. وقراءة العامة « تمكرون » بالتاء خطابا. وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي « يمكرون » بالياء؛ لقول: « إذا لهم مكر في آياتنا » قيل: قال أبو سفيان قحطنا بل بدعائك فان سقيتنا صدقناك؛ فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا، فهذا مكرهم.
الآيتان: 22 - 23 ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم » أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك. وقال الكلبي: يحفظكم في السير. والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر. وقد مضى الكلام في ركوب البحر في « البقرة » . « يسيركم » قراءة العامة. ابن عامر « ينشركم » بالنون والشين، أي يبثكم ويفرقكم. والفلك يقع على الواحد والجمع، ويذكر ويؤنث، وقد تقدم القول فيه. وقوله: « وجربن بهم » خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير؛ قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب؛ قال الله تعالى: « وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » [ الإنسان: 21 - 22 ] فأبدل الكاف من الهاء.
قوله تعالى « بريح طيبة وفرحوا بها » تقدم الكلام فيها في البقرة. « جاءتها ريح عاصف » الضمير في « جاءتها » للسفينة. وقيل للريح الطيبة. والعاصف الشديدة؛ يقال: عصفت الريح وأعصفت، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة، قال الشاعر:
حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل
وقال « عاصف » بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر، وهي القاصف أيضا. والطيبة غير عاصف ولا بطيئة. « وجاءهم الموج من كل مكان » والموج ما ارتفع من الماء « وظنوا » أي أيقنوا « أنهم أحيط بهم » أي أحاط بهم البلاء؛ يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به، كأن البلاء قد أحاط به؛ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله. « دعوا الله مخلصين له الدين » أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه، وإن كان كافرا؛ لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب؛ على ما يأتي بيانه في « النمل » إن شاء الله تعالى. وقال بعض المفسرين: إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا؛ أي يا حي يا قيوم. وهي لغة العجم.
مسألة: هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء... الحديث. وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو، وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مستوفى والحمد لله. وقد تعدم في آخر « الأعراف » حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه؛ فتأمله هناك.
قوله تعالى: « لئن أنجيتنا من هذه » أي هذه الشدائد والأهوال. وقال الكلبي: من هذه الريح. « لنكونن من الشاكرين » أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص. « فلما أنجاهم » أي خلصهم وأنقذهم.. « إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق » أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي. والبغي: الفساد والشرك؛ من بغى الجرح إذا فسد؛ وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. « بغير الحق » أي بالتكذيب؛ ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها.
قوله تعالى: « يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم » أي وباله عائد عليكم؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: « متاع الحياة الدنيا ثم إلي مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون » أي هو متاع الحياة الدنيا؛ ولا بقاء له. قال النحاس: « بغيكم » رفع بالابتداء وخبره « متاع الحياة الدنيا » . و « على أنفسكم » مفعول معنى فعل البغي. ويجوز أن يكون خبره « على أنفسكم » وتضمر مبتدأ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا؛ وبين المعنيين حرف لطيف، إذا رفعت متاعا على أنه خبر « بغيكم » فالمعنى. إنما بغي بعضكم على بعض؛ مثل: « فسلموا على أنفسكم » [ النور: 61 ] وكذا « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » [ التوبة: 128 ] . وإذا كان الخبر « على أنفسكم » فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم؛ مثل « وإن أسأتم فلها » . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا؛ كما يقال: البغي مصرعة. وقرأ ابن أبي إسحاق « متاع » بالنصب على أنه مصدر؛ أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا. أو ينزع الخافض، أي لمتاع، أو مصدر، بمعنى المفعول على الحال، أي متمتعين. أو هو نصب على الظرف، أي في متاع الحياة الدنيا، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي. و « على أنفسكم » مفعول ذلك المعنى.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآية: 24 ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
قوله تعالى: « إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء » معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في « الكهف » إن شاء الله تعالى. « أنزلناه من السماء » نعت لـ « ماء » . « فاختلط » روي عن نافع أنه وقف على « فاختلط » أي فاختلط الماء بالأرض، « به نبات الأرض » أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على « فاختلط » مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: « مما يأكل الناس » من الحبوب والثمار والبقول. « والأنعام » من الكلأ والتبن والشعير. « حتى إذا أخذت الأرض زخرفها » أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. « وازينت » أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب « وتزينت » على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية « وازينت » أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا « وازيانت » وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي « وازاينت » والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة « وازيانت » مثل أفعلت. وقرأ عثمان النهدي « وازينت » مثل أفعلت، وعنه أيضا « وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه » ازيأنت « بالهمزة؛ ثلاث قراءات. »
قوله تعالى: « وظن أهلها » أي أيقن. « أنهم قادرون عليها » أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل: رد إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. « أتاها أمرنا » أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. « ليلا أو نهارا » ظرفان. « فجعلناها حصيدا » مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال « حصيدا » ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصل. « كأن لم تغن بالأمس » أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبيد:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقراءة العامة « تغن » بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة « يغن » بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. « نفصل الآيات » أي نبينها. « لقوم يتفكرون » في آيات الله.
الآية: 25 ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
قوله تعالى: « والله يدعو إلى دار السلام » لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه « السلام » ، وقد بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) . ويأتي في سورة « الحشر » إن شاء الله. وقيل: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة؛ قاله الزجاج. قال الشاعر:
تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام
وقيل: أراد والله يدعو إلى دار التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع، عن أهل الجنة، وهو تحيتهم؛ كما قال: « وتحيتهم فيها سلام » [ يونس: 10 ] . وقال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال ابن عباس: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم.
قوله تعالى: « ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم، قيل: كتاب الله؛ رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الصراط المستقيم كتاب الله تعالى ) . وقيل: الإسلام؛ رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الحق؛ قاله قتادة ومجاهد. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وروى جابر بن عبدالله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ( رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها ) ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم « . ثم تلا قتادة ومجاهد: » والله يدعو إلى دار السلام « . وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية؛ لأنهم قالوا: هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، والله قال: « ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » فردوا على الله نصوص القرآن.»
الآية: 26 ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « وزيادة » قال: ( للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ) وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية. وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين، وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ) وفي رواية ثم تلا « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم ) . وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الأشعري موقوفا، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب، والحمد لله. وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله: حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله؛ في قول « للذين أحسوا الحسنى وزيادة » قال: ( النظر إلى وجه الرحمن ) وعن قوله: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] قال: ( عشرون ألفا ) . وقد قيل: إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك؛ روي عن ابن عباس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب. وقال مجاهد: الحسنى حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الحسنى الجنة، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقال عبدالرحمن بن سابط: الحسنى البشرى، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم؛ قال الله تعالى: « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 22 - 23 ] . وقال يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها، وتقول: يا أهل الجنة، ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطر لهم إياه. وقيل: الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط؛ فسبحان الواسع العليم الغني الحميد العلي الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي لا تتناهى مقدوراته. وقيل: « أحسنوا » أي معاملة الناس، « الحسنى » : شفاعتهم، والزيادة: إذن الله تعالى فيها وقبوله.
قوله تعالى: « ولا يرهق وجوههم » قيل: معناه يلحق؛ ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وقيل: يعلو. وقيل: يغشى؛ والمعنى متقارب. « قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » « قتر » غبار. « ولا ذلة » أي مذلة؛ كما يلحق أهل النار؛ أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة. وأنشد أبو عبيدة للفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقرأ الحسن « قتر » بإسكان التاء. والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد؛ قاله النحاس. وواحد القتر قترة؛ ومنه قوله تعالى: « ترهقها قترة » [ عبس: 41 ] أي تعلوها غبرة. وقيل: قتر كآبة وكسوف. ابن عباس: القتر سواد الوجوه. ابن بحر: دخان النار؛ ومنه قتار القدر. وقال ابن ليلى: هو بعد نظرهم إلى ربهم عز وجل.
قلت: هذا فيه نظر؛ فإن الله عز وجل يقول: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » إلى قوله « لا يحزنهم الفزع الأكبر » [ الأنبياء: 101 - 103 ] وقال في غير آية: « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ البقرة: 62 ] وقال: « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا » [ فصلت: 30 ] الآية. وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره. « وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون » [ آل عمران: 107 ] .
الآية: 27 ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « والذين كسبوا السيئات » أي عملوا المعاصي. وقيل: الشرك. « جزاء سيئة بمثلها » « جزاء » مرفوع بالابتداء، وخبره « بمثلها » . قال ابن كيسان: الباء زائدة؛ والمعنى جزاء سيئة مثلها. وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها؛ كقولك: إنما أنابك؛ أي وإنما أنا كائن بك. ويجوز أن تتعلق بجزاء، التقدير: جزاء السيئة بمثلها كائن؛ فحذف خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون « جزاء » مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة؛ فيكون مثل قوله: « فعدة من أيام أخر » [ البقرة: 184 ] أي فعليه عدة، وشبهه؛ والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة.
ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة. « وترهقهم ذلة » أي يغشاهم هوان وخزي. « ما لهم من الله » أي من عذاب الله. « من عاصم » أي مانع يمنعهم منه. « كأنما أغشيت » أي ألبست. « وجوههم قطعا » جمع قطعة، وعلى هذا يكون « مظلما » حال من « الليل » أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وقرأ الكسائي وابن كثير « قطعا » بإسكان الطاء؛ فـ « مظلما » على هذا نعت، ويجوز أن يكون حالا من الليل. والقطع اسم قطع فسقط. وقال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل؛ وسيأتي في « هود » إن شاء الله تعالى.
الآية: 28 ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون )
قوله تعالى: « ويوم نحشرهم جميعا » أي نجمعهم، والحشر الجمع. « جميعا » حال. « ثم نقول للذين أشركوا » أي اتخذوا مع الله شريكا. « مكانكم » أي الزموا واثبتوا مكانكم، وقفوا مواضعكم. « أنتم وشركاؤكم » وهذا وعيد. « فزيلنا بينهم » أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا؛ يقال: زيلته فتزيل، أي فرقته فتفرق، وهو فعلت؛ لأنك تقول في مصدره تزييلا، ولو كان فيعلت لقلت زيلة. والمزايلة المفارقة؛ يقال: زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه. والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم « فزايلنا بينهم » ؛ يقال: لا أزايل فلانا، أي لا أفارقه؛ فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر، معناه لا أخاتله. « وقال شركاؤهم » عنى بالشركاء الملائكة. وقيل: الشياطين، وقيل: الأصنام؛ فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة. وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا. قال مجاهد: ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، وما أمرناكم بعبادتنا. وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص، وقد يجري مثل هذا غدا؛ وإن صارت المعارف ضرورية.
الآية: 29 ( فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين )
قوله تعالى: « فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم » « شهيدا » مفعول، أي كفى الله شهيدا، أو تمييز، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم. « إن كنا » أي ما كنا « عن عبادتكم لغافلين » إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا.
=============
الآية: 24 ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
قوله تعالى: « إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء » معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع. وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في « الكهف » إن شاء الله تعالى. « أنزلناه من السماء » نعت لـ « ماء » . « فاختلط » روي عن نافع أنه وقف على « فاختلط » أي فاختلط الماء بالأرض، « به نبات الأرض » أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على « فاختلط » مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندى وحسن وأخضر. والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: « مما يأكل الناس » من الحبوب والثمار والبقول. « والأنعام » من الكلأ والتبن والشعير. « حتى إذا أخذت الأرض زخرفها » أي حسنها وزينتها. والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف. « وازينت » أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به. وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب « وتزينت » على الأصل. وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية « وازينت » أي أتت بالزينة عليها، أي الغلة والزرع، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت. وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا « وازيانت » وزنه اسوادت. وفي رواية المقدمي « وازاينت » والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم. وقرأ الشعبي وقتادة « وازيانت » مثل أفعلت. وقرأ عثمان النهدي « وازينت » مثل أفعلت، وعنه أيضا « وازيانت مثل أفعالت، وروى عنه » ازيأنت « بالهمزة؛ ثلاث قراءات. »
قوله تعالى: « وظن أهلها » أي أيقن. « أنهم قادرون عليها » أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنى النبات إذ كان مفهوما وهو منها. وقيل: رد إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة. « أتاها أمرنا » أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها. « ليلا أو نهارا » ظرفان. « فجعلناها حصيدا » مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها. وقال « حصيدا » ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول. قال أبو عبيد: الحصيد المستأصل. « كأن لم تغن بالأمس » أي لم تكن عامرة؛ من غني إذا أقام فيه وعمره. والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس. وقال قتادة: كأن لم تنعم. قال لبيد:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقراءة العامة « تغن » بالتاء لتأنيث الأرض. وقرأ قتادة « يغن » بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا. « نفصل الآيات » أي نبينها. « لقوم يتفكرون » في آيات الله.
الآية: 25 ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
قوله تعالى: « والله يدعو إلى دار السلام » لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال: إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام، أي إلى الجنة. قال قتادة والحسن: السلام هو الله، وداره الجنة؛ وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. ومن أسمائه سبحانه « السلام » ، وقد بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) . ويأتي في سورة « الحشر » إن شاء الله. وقيل: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة. والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة؛ قاله الزجاج. قال الشاعر:
تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام
وقيل: أراد والله يدعو إلى دار التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام، وكذلك من الملائكة. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع، عن أهل الجنة، وهو تحيتهم؛ كما قال: « وتحيتهم فيها سلام » [ يونس: 10 ] . وقال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها. وقال ابن عباس: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنة النعيم.
قوله تعالى: « ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » عم بالدعوة إظهارا لحجته، وخص بالهداية استغناء عن خلقه. والصراط المستقيم، قيل: كتاب الله؛ رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الصراط المستقيم كتاب الله تعالى ) . وقيل: الإسلام؛ رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الحق؛ قاله قتادة ومجاهد. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وروى جابر بن عبدالله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: ( رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها ) ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم « . ثم تلا قتادة ومجاهد: » والله يدعو إلى دار السلام « . وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية؛ لأنهم قالوا: هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، والله قال: « ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » فردوا على الله نصوص القرآن.»
الآية: 26 ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « وزيادة » قال: ( للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ) وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية. وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين، وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ) وفي رواية ثم تلا « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم ) . وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الأشعري موقوفا، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب، والحمد لله. وخرج الترمذي الحكيم أبو عبدالله رحمه الله: حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله؛ في قول « للذين أحسوا الحسنى وزيادة » قال: ( النظر إلى وجه الرحمن ) وعن قوله: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] قال: ( عشرون ألفا ) . وقد قيل: إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك؛ روي عن ابن عباس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب. وقال مجاهد: الحسنى حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الحسنى الجنة، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقال عبدالرحمن بن سابط: الحسنى البشرى، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم؛ قال الله تعالى: « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 22 - 23 ] . وقال يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها، وتقول: يا أهل الجنة، ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطر لهم إياه. وقيل: الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط؛ فسبحان الواسع العليم الغني الحميد العلي الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي لا تتناهى مقدوراته. وقيل: « أحسنوا » أي معاملة الناس، « الحسنى » : شفاعتهم، والزيادة: إذن الله تعالى فيها وقبوله.
قوله تعالى: « ولا يرهق وجوههم » قيل: معناه يلحق؛ ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وقيل: يعلو. وقيل: يغشى؛ والمعنى متقارب. « قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » « قتر » غبار. « ولا ذلة » أي مذلة؛ كما يلحق أهل النار؛ أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة. وأنشد أبو عبيدة للفرزدق:
متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقرأ الحسن « قتر » بإسكان التاء. والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد؛ قاله النحاس. وواحد القتر قترة؛ ومنه قوله تعالى: « ترهقها قترة » [ عبس: 41 ] أي تعلوها غبرة. وقيل: قتر كآبة وكسوف. ابن عباس: القتر سواد الوجوه. ابن بحر: دخان النار؛ ومنه قتار القدر. وقال ابن ليلى: هو بعد نظرهم إلى ربهم عز وجل.
قلت: هذا فيه نظر؛ فإن الله عز وجل يقول: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » إلى قوله « لا يحزنهم الفزع الأكبر » [ الأنبياء: 101 - 103 ] وقال في غير آية: « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ البقرة: 62 ] وقال: « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا » [ فصلت: 30 ] الآية. وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره. « وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون » [ آل عمران: 107 ] .
الآية: 27 ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « والذين كسبوا السيئات » أي عملوا المعاصي. وقيل: الشرك. « جزاء سيئة بمثلها » « جزاء » مرفوع بالابتداء، وخبره « بمثلها » . قال ابن كيسان: الباء زائدة؛ والمعنى جزاء سيئة مثلها. وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها؛ كقولك: إنما أنابك؛ أي وإنما أنا كائن بك. ويجوز أن تتعلق بجزاء، التقدير: جزاء السيئة بمثلها كائن؛ فحذف خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون « جزاء » مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة؛ فيكون مثل قوله: « فعدة من أيام أخر » [ البقرة: 184 ] أي فعليه عدة، وشبهه؛ والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة.
ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة. « وترهقهم ذلة » أي يغشاهم هوان وخزي. « ما لهم من الله » أي من عذاب الله. « من عاصم » أي مانع يمنعهم منه. « كأنما أغشيت » أي ألبست. « وجوههم قطعا » جمع قطعة، وعلى هذا يكون « مظلما » حال من « الليل » أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وقرأ الكسائي وابن كثير « قطعا » بإسكان الطاء؛ فـ « مظلما » على هذا نعت، ويجوز أن يكون حالا من الليل. والقطع اسم قطع فسقط. وقال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل؛ وسيأتي في « هود » إن شاء الله تعالى.
الآية: 28 ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون )
قوله تعالى: « ويوم نحشرهم جميعا » أي نجمعهم، والحشر الجمع. « جميعا » حال. « ثم نقول للذين أشركوا » أي اتخذوا مع الله شريكا. « مكانكم » أي الزموا واثبتوا مكانكم، وقفوا مواضعكم. « أنتم وشركاؤكم » وهذا وعيد. « فزيلنا بينهم » أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا؛ يقال: زيلته فتزيل، أي فرقته فتفرق، وهو فعلت؛ لأنك تقول في مصدره تزييلا، ولو كان فيعلت لقلت زيلة. والمزايلة المفارقة؛ يقال: زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه. والتزايل التباين. قال الفراء: وقرأ بعضهم « فزايلنا بينهم » ؛ يقال: لا أزايل فلانا، أي لا أفارقه؛ فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر، معناه لا أخاتله. « وقال شركاؤهم » عنى بالشركاء الملائكة. وقيل: الشياطين، وقيل: الأصنام؛ فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة. وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا. قال مجاهد: ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون، وما أمرناكم بعبادتنا. وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى أنهم يقولون ذلك دهشا، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص، وقد يجري مثل هذا غدا؛ وإن صارت المعارف ضرورية.
الآية: 29 ( فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين )
قوله تعالى: « فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم » « شهيدا » مفعول، أي كفى الله شهيدا، أو تمييز، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم. « إن كنا » أي ما كنا « عن عبادتكم لغافلين » إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل؛ لأنا كنا جمادا لا روح فينا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآية: 30 ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون )
قوله تعالى: « هنالك » في موضع نصب على الظرف. « تبلو » أي في ذلك الوقت. « تبلو » أي تذوق. وقال الكلبي: تعلم. مجاهد: تختبر. « كل نفس ما أسلفت » أي جزاء ما عملت وقدمت. وقيل: تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها. وقرأ حمزة والكسائي « تتلو » أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها. وقيل: « تتلو » تتبع؛ أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا؛ قاله السدي. ومنه قول الشاعر:
إن المريب يتبع المريبا كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قوله تعالى: « وردوا إلى الله مولاهم الحق » بالخفض على البدل أو الصفة. ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات؛ يكون التقدير: وردوا حقا، ثم جيء بالألف واللام. ويجوز أن يكون التقدير: مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه. والوجه الثالث أن يكون مدحا؛ أي أعني الحق. ويجوز أن يرفع « الحق » ، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه. ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه؛ أي كل عدل وحق فمن قبله، وقال ابن عباس: « مولاهم بالحق » أي الذي يجازيهم بالحق. « وضل عنهم » أي بطل. « ما كانوا يفترون » « يفترون » في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤهم. فإن قيل: كيف قال: « وردوا إلى الله مولاهم الحق » وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم. قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم.
الآية: 31 ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )
المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والأرض لا بد لهما من خالق؛ ولا يتمارى في هذا عاقل. وهذا قريب من مرتبة الضرورة. « من السماء » أي بالمطر. « والأرض » بالنبات. « أمن يملك السمع والأبصار » أي من جعلهما وخلقهما لكم. « ومن يخرج الحي من الميت » أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر. « ومن يدبر الأمر » أي يقدره ويقضيه. « فسيقولون الله » لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله؛ أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا « فقل » لهم يا محمد. « أفلا تتقون » أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة.
الآية: 32 ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون )
قوله تعالى: « فذلكم الله ربكم الحق » أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه. « فماذا بعد الحق » « ذا » صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال. وقال بعض المتقدمين: ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها « فذلكم الله ربكم الحق » وآخرها « فماذا بعد الحق إلا الضلال » فهذا في الإيمان والكفر، ليس في الأعمال. وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى؛ فالحرام ضلال والمباح هدى؛ فإن الله هو المبيح والمحرم. والصحيح الأول؛ لأن قبل « قل من يرزقكم من السماء والأرض » ثم قال « فذلكم الله ربكم الحق » أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو. « ربكم الحق » أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.
قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » [ المائدة: 48 ] ، وقوله عليه السلام: ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ) . والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها.
ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: ( اللهم لك الحمد ) الحديث. وفيه ( أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق ) الحديث. فقوله: ( أنت الحق ) أي الواجب الوجود؛ وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب. وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه. وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى: « كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون » [ القصص: 88 ] .
مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا؛ قال الله تعالى: « ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل » [ لقمان: 30 ] . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق؛ أخذ من ضلال الطريق، وهو العدول عن سمته. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد؛ يقال: ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه. وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال؛ ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك، وعليه حمل العلماء قوله تعالى: « ووجدك ضالا فهدى » [ الضحى: 7 ] أي غافلا، في أحد التأويلات، يحققه قوله تعالى: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » [ الشورى: 52 ] .
روى عبدالله بن عبدالحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى: « فماذا بعه الحق إلا الضلال » قال: اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال. وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة؛ فقال مالك: ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » . وروى يونس عن أشهب قال: سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه، وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أحبها.
اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته. وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج، إذا كان عدلا في جميع أصحابه، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم. قال ابن العربي: قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة. والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام.
قال علماؤنا: النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه. والنرد هو الذي يعرف بالباطل، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويرف أيضا بالنردشير. وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه ) . قال علماؤنا: ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز؛ يبينه قوله تعالى: ( من لعب بالنرد فقد. عصى الله ورسوله ) رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة، وكذلك الشطرنج، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال، وأخبر. أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار؛ لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار. وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله. قال أبو عبدالله الحليمي في كتاب منهاج الدين: ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله ) . وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: ( أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم ) . وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؛ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها. وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد. وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية. وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله ) . وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار، والله اعلم. وقد ذكرنا في « المائدة » بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به، والله أعلم.
قال ابن العربي في قبسه: وقد جوزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول: هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد. وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها؛ وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون: إنها تشحذ الذهن، والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة: إنها تعلم الحرب. فقال له الطرطوشي: بل تفسد تدبير الحرب؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله، وفي الشطرنج تقول: شاه إياك: الملك نحه عن طريقي؛ فاستضحك الحاضرين. وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » وتارة استهان بالقليل منها والأهون، والقول الأول أصح والله أعلم. فإن قال قائل: روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج؟ فقيل له: إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه؛ فقالت: كيف يكون هذا أرونيه عيانا؛ فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من آلة الحرب؛ قيل له: هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب. وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال: لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم. قال الحليمي: وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافة.
ذكر ابن وهب بإسناده أن عبدالله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها، قال: فسدها ابن عمر ونهاهم عنها. وذكر الهروي في باب ( الكاف مع الجيم ) في حديث ابن عباس: في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة؛ قال ابن الأعرابي: هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها. وكج إذا لعب بالكجة.
قوله تعالى: « فأنى تصرفون » أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت.
الآية: 33 ( كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون )
قوله تعالى: « كذلك حقت كلمة ربك » أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق. « على الذين فسقوا » أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا. « أنهم لا يؤمنون » أي لا يصدقون. وفي هذا أوفى دليل على القدرية. وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها « كذلك حقت كلمات ربك » وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة. الباقون بالإفراد و « أن » في موضع نصب؛ أي بأنهم أو لأنهم. قال الزجاج: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء: يجوز « إنهم » بالكسر على الاستئناف.
الآية: 34 ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون )
قوله تعالى: « قل هل من شركائكم » أي آلهتكم ومعبوداتكم. « من يبدأ الخلق ثم يعيده » أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير؛ فإن أجابوك وإلا فـ « قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده » وليس غيره يفعل ذلك. « فأنى تؤفكون » أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل.
الآية: 35 ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يَهِدِّي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون )
قوله تعالى: « قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق » يقال: هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد؛ وقد تقدم. أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام؛ فإذا قالوا لا ولا بد منه فـ « قل » لهم « الله يهدي للحق » ثم قل لهم موبخا ومقررا. « أفمن يهدي » أي يرشد. « إلى الحق » وهو الله سبحانه وتعالى. « أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون » يريد الأصنام التي لا تهدي أحدا، ولا تمشي إلا أن تحمل، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل. قال الشاعر:
للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه
وقيل: المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا.
وفي « يهدي » قراءات ست: الأولى: قرأ أهل المدينة إلا ورشا « يَهْدِّي » بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال؛ فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: « لا تعْدُّوا » وفي قوله: « يخْصِّمون » . قال النحاس: والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. الثانية: قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس. الثالثة: قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن « يَهَدِّي » بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدى أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء. الرابعة: قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا: لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. الخامسة: قرأ أبو بكر عن عاصم يِهِدِّي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لاتباع الكسر كما تقدم في البقرة في « يخطف » [ البقرة: 20 ] وقيل: هي لغة من قرأ « نستعين » ، و « لن تمسنا النار » ونحوه. وسيبويه لا يجيز « يهدي » ويجيز « تهدي » و « نهدي » و « اهدي » قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. السادسة: قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش « يَهْدِي » بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال؛ من هدى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا: « يهدي » بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، ثم الكلام، ثم قال: « إلا أن يهدى » استأنف من الأول، أي لكنه يحتاج أن يهدى؛ فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع. وقال أبو إسحاق: « فما لكم » كلام تام، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأوثان. ثم قيل لهم: « كيف تحكمون » أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؛ فموضع « كيف » نصب بـ « تحكمون » .
=============
الآية: 30 ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون )
قوله تعالى: « هنالك » في موضع نصب على الظرف. « تبلو » أي في ذلك الوقت. « تبلو » أي تذوق. وقال الكلبي: تعلم. مجاهد: تختبر. « كل نفس ما أسلفت » أي جزاء ما عملت وقدمت. وقيل: تسلم، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها. وقرأ حمزة والكسائي « تتلو » أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها. وقيل: « تتلو » تتبع؛ أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا؛ قاله السدي. ومنه قول الشاعر:
إن المريب يتبع المريبا كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قوله تعالى: « وردوا إلى الله مولاهم الحق » بالخفض على البدل أو الصفة. ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات؛ يكون التقدير: وردوا حقا، ثم جيء بالألف واللام. ويجوز أن يكون التقدير: مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه. والوجه الثالث أن يكون مدحا؛ أي أعني الحق. ويجوز أن يرفع « الحق » ، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه. ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه؛ أي كل عدل وحق فمن قبله، وقال ابن عباس: « مولاهم بالحق » أي الذي يجازيهم بالحق. « وضل عنهم » أي بطل. « ما كانوا يفترون » « يفترون » في موضع رفع وهو بمعنى المصدر، أي افتراؤهم. فإن قيل: كيف قال: « وردوا إلى الله مولاهم الحق » وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم. قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم.
الآية: 31 ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )
المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السموات والأرض لا بد لهما من خالق؛ ولا يتمارى في هذا عاقل. وهذا قريب من مرتبة الضرورة. « من السماء » أي بالمطر. « والأرض » بالنبات. « أمن يملك السمع والأبصار » أي من جعلهما وخلقهما لكم. « ومن يخرج الحي من الميت » أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر. « ومن يدبر الأمر » أي يقدره ويقضيه. « فسيقولون الله » لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله؛ أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا « فقل » لهم يا محمد. « أفلا تتقون » أي أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة.
الآية: 32 ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون )
قوله تعالى: « فذلكم الله ربكم الحق » أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق، لا ما أشركتم معه. « فماذا بعد الحق » « ذا » صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال. وقال بعض المتقدمين: ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال؛ لأن أولها « فذلكم الله ربكم الحق » وآخرها « فماذا بعد الحق إلا الضلال » فهذا في الإيمان والكفر، ليس في الأعمال. وقال بعضهم: إن الكفر تغطية الحق، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى؛ فالحرام ضلال والمباح هدى؛ فإن الله هو المبيح والمحرم. والصحيح الأول؛ لأن قبل « قل من يرزقكم من السماء والأرض » ثم قال « فذلكم الله ربكم الحق » أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو. « ربكم الحق » أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.
قال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » [ المائدة: 48 ] ، وقوله عليه السلام: ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ) . والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها.
ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: ( اللهم لك الحمد ) الحديث. وفيه ( أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق ) الحديث. فقوله: ( أنت الحق ) أي الواجب الوجود؛ وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب. وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه. وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى: « كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون » [ القصص: 88 ] .
مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا؛ قال الله تعالى: « ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل » [ لقمان: 30 ] . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق؛ أخذ من ضلال الطريق، وهو العدول عن سمته. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد؛ يقال: ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه. وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال؛ ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك، وعليه حمل العلماء قوله تعالى: « ووجدك ضالا فهدى » [ الضحى: 7 ] أي غافلا، في أحد التأويلات، يحققه قوله تعالى: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » [ الشورى: 52 ] .
روى عبدالله بن عبدالحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى: « فماذا بعه الحق إلا الضلال » قال: اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال. وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة؛ فقال مالك: ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » . وروى يونس عن أشهب قال: سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه، وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل. وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أحبها.
اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته. وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج، إذا كان عدلا في جميع أصحابه، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل. وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم. قال ابن العربي: قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة. والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام.
قال علماؤنا: النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه. والنرد هو الذي يعرف بالباطل، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويرف أيضا بالنردشير. وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه ) . قال علماؤنا: ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز؛ يبينه قوله تعالى: ( من لعب بالنرد فقد. عصى الله ورسوله ) رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة، وكذلك الشطرنج، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال، وأخبر. أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار؛ لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار. وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله. قال أبو عبدالله الحليمي في كتاب منهاج الدين: ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله ) . وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: ( أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم ) . وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؛ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها. وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد. وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ. وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية. وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله ) . وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار، والله اعلم. وقد ذكرنا في « المائدة » بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به، والله أعلم.
قال ابن العربي في قبسه: وقد جوزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول: هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد. وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها؛ وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي. ويقولون: إنها تشحذ الذهن، والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة: إنها تعلم الحرب. فقال له الطرطوشي: بل تفسد تدبير الحرب؛ لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله، وفي الشطرنج تقول: شاه إياك: الملك نحه عن طريقي؛ فاستضحك الحاضرين. وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » وتارة استهان بالقليل منها والأهون، والقول الأول أصح والله أعلم. فإن قال قائل: روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج؟ فقيل له: إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه؛ فقالت: كيف يكون هذا أرونيه عيانا؛ فعمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك. ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من آلة الحرب؛ قيل له: هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب. وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال: لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روى عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم. قال الحليمي: وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافة.
ذكر ابن وهب بإسناده أن عبدالله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجّة، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها، قال: فسدها ابن عمر ونهاهم عنها. وذكر الهروي في باب ( الكاف مع الجيم ) في حديث ابن عباس: في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة؛ قال ابن الأعرابي: هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها. وكج إذا لعب بالكجة.
قوله تعالى: « فأنى تصرفون » أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت.
الآية: 33 ( كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون )
قوله تعالى: « كذلك حقت كلمة ربك » أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق. « على الذين فسقوا » أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا. « أنهم لا يؤمنون » أي لا يصدقون. وفي هذا أوفى دليل على القدرية. وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها « كذلك حقت كلمات ربك » وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة. الباقون بالإفراد و « أن » في موضع نصب؛ أي بأنهم أو لأنهم. قال الزجاج: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء: يجوز « إنهم » بالكسر على الاستئناف.
الآية: 34 ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون )
قوله تعالى: « قل هل من شركائكم » أي آلهتكم ومعبوداتكم. « من يبدأ الخلق ثم يعيده » أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير؛ فإن أجابوك وإلا فـ « قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده » وليس غيره يفعل ذلك. « فأنى تؤفكون » أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل.
الآية: 35 ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يَهِدِّي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون )
قوله تعالى: « قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق » يقال: هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد؛ وقد تقدم. أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام؛ فإذا قالوا لا ولا بد منه فـ « قل » لهم « الله يهدي للحق » ثم قل لهم موبخا ومقررا. « أفمن يهدي » أي يرشد. « إلى الحق » وهو الله سبحانه وتعالى. « أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون » يريد الأصنام التي لا تهدي أحدا، ولا تمشي إلا أن تحمل، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل. قال الشاعر:
للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه
وقيل: المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا.
وفي « يهدي » قراءات ست: الأولى: قرأ أهل المدينة إلا ورشا « يَهْدِّي » بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال؛ فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: « لا تعْدُّوا » وفي قوله: « يخْصِّمون » . قال النحاس: والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. الثانية: قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس. الثالثة: قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن « يَهَدِّي » بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدى أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء. الرابعة: قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا: لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. الخامسة: قرأ أبو بكر عن عاصم يِهِدِّي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لاتباع الكسر كما تقدم في البقرة في « يخطف » [ البقرة: 20 ] وقيل: هي لغة من قرأ « نستعين » ، و « لن تمسنا النار » ونحوه. وسيبويه لا يجيز « يهدي » ويجيز « تهدي » و « نهدي » و « اهدي » قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. السادسة: قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش « يَهْدِي » بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال؛ من هدى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا: « يهدي » بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، ثم الكلام، ثم قال: « إلا أن يهدى » استأنف من الأول، أي لكنه يحتاج أن يهدى؛ فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع. وقال أبو إسحاق: « فما لكم » كلام تام، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأوثان. ثم قيل لهم: « كيف تحكمون » أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته؛ فموضع « كيف » نصب بـ « تحكمون » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
==============
الآية: 36 ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون )
قوله تعالى: « وما يتبع أكثرهم إلا ظنا » يريد الرؤساء منهم؛ أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا. « إن الظن لا يغني من الحق شيئا » أي من عذاب الله؛ فالحق هو الله. وقيل « الحق » هنا اليقين؛ أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد. « إن الله عليم بما يفعلون » من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد.
الآية: 37 ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين )
قوله تعالى: « وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله » « أن » مع « يفترى » مصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء؛ كما تقول: فلان يحب أن يركب، أي يحب الركوب، قاله الكسائي. وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى؛ كقوله: « وما كان لنبي أن يغل » [ آل عمران: 161 ] « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة: 122 ] . وقيل: « أن » بمعنى اللام، تقديره: وما كان هذا القرآن ليفترى. وقيل: بمعنى لا، أي لا يفترى. وقيل: المعنى ما كان يتهيأ لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه؛ لوصفه ومعانيه وتأليفه. « ولكن تصديق الذي بين يديه » قال الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان: التقدير ولكن كان تصديق؛ ويجوز عندهم الرفع بمعنى: ولكن هو تصديق. « الذي بين يديه » أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فإنها قد بشرت به فجاء مصدقا لها في تلك البشارة، وفي الدعاء إلى التوحيد والإيمان بالقيامة. وقيل: المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن. « وتفصيل » بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق. والتفصيل التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة. والكتاب اسم الجنس. وقيل: أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام. « لا ريب فيه » الهاء عائدة للقرآن، أي لا شك فيه أي في نزول من قبل الله تعالى.
الآية: 38 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » أم ههنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها. وقيل: هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة؛ كقوله تعالى: « الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه » [ السجدة: 1، 2، 3 ] أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو، مجازة: ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير: أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع. « قل فأتوا بسورة مثله » ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله؛ لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدمة الكتاب، والحمد لله.
الآية: 39 ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )
قوله تعالى: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال؛ فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله: « ولما يأتهم تأويله » أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب؛ قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن ( من جهل شيئا عاداه ) قال نعم، في موضعين: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » وقوله: « وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم » [ الأحقاف: 11 ] . « كذلك كذب الذين من قبلهم » يريد الأمم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. « فانظر كيف كان عاقبة الظالمين » أي أخذهم بالهلاك والعذاب.
الآية: 40 ( ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين )
قوله تعالى: « ومنهم من يؤمن به » قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه؛ لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعداء. و « من » رفع بالابتداء والخبر في المجرور. وكذا. « ومنهم من لا يؤمن به » والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت؛ كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل: المراد أهل الكتاب. وقيل: هو عام في جميع الكفار؛ وهو الصحيح. وقيل. إن الضمير في « به » يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لأن منهم من سيؤمن. « وربك أعلم بالمفسدين » أي من يصر على كفره؛ وهذا تهديد لهم.
الآية: 41 ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون )
قوله تعالى: « وإن كذبوك فقل لي عملي » رفع بالابتداء، والمعنى: لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى. « ولكم عملكم » أي جزاؤه من الشرك. « أنتم بريؤون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون » مثله؛ أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. وهذه الآية منسوخة بآية السيف؛ في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد.
الآيتان: 42 - 43 ( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون )
قوله تعالى: « ومنهم من يستمعون إليك » يريد بظواهرهم، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن؛ ولهذا قال: « أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون » أي لا تسمع؛ فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى. وكذا المعنى في: « ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون » أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته. وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم؛ كما تقدم في غير موضع. وقال: « يستمعون » على معنى « من » و « ينظر » على اللفظ؛ والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا. ومعنى: « ينظر إليك » أي يديم النظر إليك؛ كما قال: « ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت » [ الأحزاب: 19 ] قيل: إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم.
الآية: 44 ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه؛ لأنه مصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل. « ولكن الناس أنفسهم يظلمون » بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي « ولكن » مخففا « الناس » رفعا. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت « ولكن » بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاؤوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لأنها « إن » زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد؛ وأنشد:
ولكنني من حبها لعميد
فجاء باللام لأنها « إن » .
الآية: 45 ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين )
قوله تعالى: « ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا » بمعنى كأنهم خففت، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم. « إلا ساعة من النهار » أي قدر ساعة: يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث؛ دليله قولهم: « لبثنا يوما أو بعض يوم » [ الكهف: 19 ] . وقيل: إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر. ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. « يتعارفون بينهم » في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في « يحشرهم » . ويجوز أن يكون منقطعا، فكأنه قال فهم يتعارفون. قال الكلبي: يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم؛ وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح؛ يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر؛ وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال: « ولا يسأل حميم حميما » [ المعارج: 10 ] . وقيل: يبقى تعارف التوبيخ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى: « ولو ترى إذ الظالمون موقوفون » إلى قوله « وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا » [ سبأ: 31 - 33 ] وقوله: « كلما دخلت أمة لعنت أختها » [ الأعراف: 38 ] الآية، وقوله: « ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا » [ الأحزاب: 67 ] الآية. فأما قوله: « ولا يسأل حميم حميما » وقوله: « فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم » [ المؤمنون: 101 ] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم. وقيل: القيامة مواطن. وقيل: معنى « يتعارفون » يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم؛ كما قال: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] وهذا حسن. وقال الضحاك: ذلك تعارف تعاطف المؤمنين؛ والكافرون لا تعاطف عليهم؛ كما قال: « فلا أنساب بينهم » . والأول أظهر، والله أعلم.
قوله تعالى: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » أي بالعرض على الله. ثم قيل: يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي خسروا ثواب الجنة. وقيل: خبروا في حال لقاء الله؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم، يقولون هذا. « وما كانوا مهتدين » بريد في علم الله.
الآية: 46 ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون )
قوله تعالى: « وإما نرينك » شرط. « بعض الذي نعدهم » أي من إظهار دينك في حياتك. وقال المفسرون: كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر. « أو نتوفينك » عطف على « نريك » أي نتوفينك قبل ذلك. « فإلينا مرجعهم » جواب « إما » . والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. « ثم الله شهيد » أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد. « على ما يفعلون » من محاربتك وتكذيبك. ولو قيل: « ثم الله شهيد » بمعنى هناك، جاز.
==============
الآية: 36 ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون )
قوله تعالى: « وما يتبع أكثرهم إلا ظنا » يريد الرؤساء منهم؛ أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا. « إن الظن لا يغني من الحق شيئا » أي من عذاب الله؛ فالحق هو الله. وقيل « الحق » هنا اليقين؛ أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد. « إن الله عليم بما يفعلون » من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد.
الآية: 37 ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين )
قوله تعالى: « وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله » « أن » مع « يفترى » مصدر، والمعنى: وما كان هذا القرآن افتراء؛ كما تقول: فلان يحب أن يركب، أي يحب الركوب، قاله الكسائي. وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى؛ كقوله: « وما كان لنبي أن يغل » [ آل عمران: 161 ] « وما كان المؤمنون لينفروا كافة » [ التوبة: 122 ] . وقيل: « أن » بمعنى اللام، تقديره: وما كان هذا القرآن ليفترى. وقيل: بمعنى لا، أي لا يفترى. وقيل: المعنى ما كان يتهيأ لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه؛ لوصفه ومعانيه وتأليفه. « ولكن تصديق الذي بين يديه » قال الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان: التقدير ولكن كان تصديق؛ ويجوز عندهم الرفع بمعنى: ولكن هو تصديق. « الذي بين يديه » أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فإنها قد بشرت به فجاء مصدقا لها في تلك البشارة، وفي الدعاء إلى التوحيد والإيمان بالقيامة. وقيل: المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن. « وتفصيل » بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق. والتفصيل التبيين، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة. والكتاب اسم الجنس. وقيل: أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام. « لا ريب فيه » الهاء عائدة للقرآن، أي لا شك فيه أي في نزول من قبل الله تعالى.
الآية: 38 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » أم ههنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها. وقيل: هي أم المنقطعة التي تقدر بمعنى بل والهمزة؛ كقوله تعالى: « الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه » [ السجدة: 1، 2، 3 ] أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو، مجازة: ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير: أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع. « قل فأتوا بسورة مثله » ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله؛ لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدمة الكتاب، والحمد لله.
الآية: 39 ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )
قوله تعالى: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال؛ فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر في التأويل. وقوله: « ولما يأتهم تأويله » أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم. أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب؛ قاله الضحاك. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن ( من جهل شيئا عاداه ) قال نعم، في موضعين: « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » وقوله: « وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم » [ الأحقاف: 11 ] . « كذلك كذب الذين من قبلهم » يريد الأمم الخالية، أي كذا كانت سبيلهم. والكاف في موضع نصب. « فانظر كيف كان عاقبة الظالمين » أي أخذهم بالهلاك والعذاب.
الآية: 40 ( ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين )
قوله تعالى: « ومنهم من يؤمن به » قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه؛ لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعداء. و « من » رفع بالابتداء والخبر في المجرور. وكذا. « ومنهم من لا يؤمن به » والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت؛ كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل: المراد أهل الكتاب. وقيل: هو عام في جميع الكفار؛ وهو الصحيح. وقيل. إن الضمير في « به » يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لأن منهم من سيؤمن. « وربك أعلم بالمفسدين » أي من يصر على كفره؛ وهذا تهديد لهم.
الآية: 41 ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون )
قوله تعالى: « وإن كذبوك فقل لي عملي » رفع بالابتداء، والمعنى: لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى. « ولكم عملكم » أي جزاؤه من الشرك. « أنتم بريؤون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون » مثله؛ أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر. وهذه الآية منسوخة بآية السيف؛ في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد.
الآيتان: 42 - 43 ( ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون )
قوله تعالى: « ومنهم من يستمعون إليك » يريد بظواهرهم، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن؛ ولهذا قال: « أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون » أي لا تسمع؛ فظاهره الاستفهام ومعناه النفي، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى. وكذا المعنى في: « ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون » أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته. وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم؛ كما تقدم في غير موضع. وقال: « يستمعون » على معنى « من » و « ينظر » على اللفظ؛ والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا. ومعنى: « ينظر إليك » أي يديم النظر إليك؛ كما قال: « ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت » [ الأحزاب: 19 ] قيل: إنها نزلت في المستهزئين، والله أعلم.
الآية: 44 ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم، وأن تقدير الشفاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه؛ لأنه مصرف في ملكه بما شاء، وهو في جميع أفعاله عادل. « ولكن الناس أنفسهم يظلمون » بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم. وقرأ حمزة والكسائي « ولكن » مخففا « الناس » رفعا. قال النحاس: زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت « ولكن » بالواو آثرت التشديد، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف، واعتل في ذلك فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل، وإذا جاؤوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها، لأنها « إن » زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحد؛ وأنشد:
ولكنني من حبها لعميد
فجاء باللام لأنها « إن » .
الآية: 45 ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين )
قوله تعالى: « ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا » بمعنى كأنهم خففت، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم. « إلا ساعة من النهار » أي قدر ساعة: يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث؛ دليله قولهم: « لبثنا يوما أو بعض يوم » [ الكهف: 19 ] . وقيل: إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر. ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. « يتعارفون بينهم » في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في « يحشرهم » . ويجوز أن يكون منقطعا، فكأنه قال فهم يتعارفون. قال الكلبي: يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم؛ وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح؛ يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر؛ وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال: « ولا يسأل حميم حميما » [ المعارج: 10 ] . وقيل: يبقى تعارف التوبيخ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى: « ولو ترى إذ الظالمون موقوفون » إلى قوله « وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا » [ سبأ: 31 - 33 ] وقوله: « كلما دخلت أمة لعنت أختها » [ الأعراف: 38 ] الآية، وقوله: « ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا » [ الأحزاب: 67 ] الآية. فأما قوله: « ولا يسأل حميم حميما » وقوله: « فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم » [ المؤمنون: 101 ] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم. وقيل: القيامة مواطن. وقيل: معنى « يتعارفون » يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم؛ كما قال: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] وهذا حسن. وقال الضحاك: ذلك تعارف تعاطف المؤمنين؛ والكافرون لا تعاطف عليهم؛ كما قال: « فلا أنساب بينهم » . والأول أظهر، والله أعلم.
قوله تعالى: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » أي بالعرض على الله. ثم قيل: يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور، أي خسروا ثواب الجنة. وقيل: خبروا في حال لقاء الله؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم، يقولون هذا. « وما كانوا مهتدين » بريد في علم الله.
الآية: 46 ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون )
قوله تعالى: « وإما نرينك » شرط. « بعض الذي نعدهم » أي من إظهار دينك في حياتك. وقال المفسرون: كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر. « أو نتوفينك » عطف على « نريك » أي نتوفينك قبل ذلك. « فإلينا مرجعهم » جواب « إما » . والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. « ثم الله شهيد » أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد. « على ما يفعلون » من محاربتك وتكذيبك. ولو قيل: « ثم الله شهيد » بمعنى هناك، جاز.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآية: 47 ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون )
قوله تعالى: « ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط » يكون المعنى: ولكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم؛ مثل. « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد » [ النساء: 41 ] . وقال ابن عباس: تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم، فيؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتكم الرسالة؛ فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب. دليله قوله: « ويكون الرسول عليكم شهيدا » . ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم؛ فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذب. دليله قوله تعالى: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] . والقسط: العدل. « وهم لا يظلمون » أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة.
الآية: 48 ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين )
يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب؛ أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد. وقيل: هو عام في كل أمة كذبت رسولها.
الآية: 49 ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )
قوله تعالى: « قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا » لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له: قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا؛ أي ليس ذلك لي ولا لغيري. « إلا ما شاء الله » أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا. « لكل أمة أجل » أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه. « إذا جاء أجلهم » أي وقت انقضاء أجلهم. « فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون.
الآية: 50 ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون )
قوله تعالى: « قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا » ظرفان، وهو جواب لقولهم: « متى هذا الوعد » وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب؛ أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه، ولا ينفعكم الإيمان حينئذ. « ماذا يستعجل منه المجرمون » استفهام معناه التهويل والتعظيم؛ أي ما أعظم ما يستعجلون به؛ كما يقال لمن يطلب أم أمرا يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك! والضمير في « منه » قيل: يعود على العذاب، وقيل: يعود على الله سبحانه وتعالى. قال النحاس: إن جعلت الهاء في « منه » تعود على العذاب كان لك في « ماذا » تقديران: أحدهما أن يكون « ما » في موضع رفع بالابتداء، و « ذا » : بمعنى الذي، وهو خبر « ما » والعائد محذوف. والتقدير الآخر أن يكون « ماذا » اسما واحدا في موضع بالابتداء، والخبر في الجملة، قاله الزجاج. وإن جعلت الهاء في « منه » تعود على اسم الله تعالى جعلت « ما » ، و « ذا » شيئا واحدا، وكانت في موضع نصب بـ « يستعجل » ؛ والمعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون عن الله عز وجل.
الآية: 51 ( أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون )
قوله تعالى: « أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن » في الكلام حذف، والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل: آلآن آمنتم به؟ قيل: هو من قول الملائكة استهزاء بهم. وقيل: هو من قول الله تعالى، ودخلت ألف الاستفهام على « ثم » والمعنى: التقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى. وقيل: إن « ثم » ههنا بمعنى: « ثم » بفتح الثاء، فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك؛ وهو مذهب الطبري، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام. و « الآن » قيل: أصله فعل مبني مثل حان، والألف واللام لتحويله إلى الاسم. الخليل: بنيت لالتقاء الساكنين، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت، وهو حد الزمانين. « وقد كنتم به » أي بالعذاب « تستعجلون » .
الآية: 52 ( ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون )
قوله تعالى: « ثم قيل للذين ظلموا » أي تقول لهم خزنة جهنم. « ذوقوا عذاب الخلد » أي الذي لا ينقطع. « هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون » أي جزاء كفركم.
الآية: 53 ( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين )
قوله تعالى: « ويستنبئونك » أي يستخبرونك يا محمد عن كون العذاب وقيام الساعة. « أحق » ابتداء. « هو » سد مسد الخبر؛ وهذا قول سيبويه. ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ، و « أحق » خبره. « قل إي » « إي » كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم. « وربي » قسم. « إنه لحق » جوابه، أي كائن لا شك فيه. « وما أنتم بمعجزين » أي فائتين عن عذابه ومجازاته.
الآية: 54 ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون )
قوله تعالى: « ولو أن لكل نفس ظلمت » أي أشركت وكفرت. « ما في الأرض » أي ملكا. « لافتدت به » أي من عذاب الله، يعني ولا يقبل منها؛ كما قال: « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به » [ آل عمران: 91 ] وقد تقدم.
قوله تعالى: « وأسروا الندامة » أي أخفوها؛ يعني رؤساءهم، أي أخفوا ندامتهم عن اتباعهم. « لما رأوا العذاب » وهذا قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع؛ بدليل قولهم: « ربنا غلبت علينا شقوتنا » [ المؤمنون: 106 ] . فبين أنهم لا يكتمون ما بهم. وقيل: « أسروا » أظهروا، والكلمة من الأضداد، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر. وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها. قال كثير:
فأسررت الندامة يوم نادى بسرد جمال غاضرة المنادي
وذكر المبرد فيه وجها ثالثا: أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة، واحدها سرار. والندامة: الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء، وأصلها اللزوم؛ ومنه النديم لأنه يلازم المجالس. وفلان نادم سادم. والسدم اللهج بالشيء. وندم وتندم بالشيء أي اهتم به. قال الجوهري: السدم ( بالتحريك ) الندم والحزن؛ وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم، وندمان سدمان؛ وقيل: هو اتباع. وماله هم ولا سدم إلا ذلك. وقيل: الندم مقلوب الدمن، والدمن اللزوم؛ ومنه فلان مدمن الخمر. والدمن: ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار؛ سمي به للزومه. والدمنة: الحقد الملازم للصدر، والجمع دمن. وقد دمنت قلوبهم بالكسر؛ يقال: دمنت على فلان أي ضغنت. « وقضي بينهم بالقسط » أي بين الرؤساء والسفل بالعدل. « وهم لا يظلمون » .
الآية: 55 ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون )
« ألا » كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام؛ أي انتبهوا لما أقول لكم: « إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق » « له ملك السماوات والأرض » [ الحديد: 2 ] فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ذلك.
الآية: 56 ( هو يحيي ويميت وإليه ترجعون )
بين المعنى. وقد تقدم
الآية: 57 ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين )
قوله تعالى: « يا أيها الناس » يعني قريشا. « قد جاءتكم موعظة » أي وعظ. « من ربكم » بعني القرآن، فيه مواعظ وحكم. « وشفاء لما في الصدور » أي من الشك والنفاق والخلاف، والشقاق. « وهدى » أي ورشدا لمن اتبعه. « ورحمة » أي نعمة. « للمؤمنين » خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان؛ والكل صفات القرآن، والعطف لتأكيد المدح. قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
الآية: 58 ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
قوله تعالى: « قل بفضل الله وبرحمته » قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام. وعنهما أيضا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن؛ على العكس من القول الأول. وقيل: غير هذا. « فبذلك فليفرحوا » إشارة إلى الفضل والرحمة. والعرب تأتي « بذلك » للواحد والاثنين والجمع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « فبذلك فلتفرحوا » بالتاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما؛ وفي الحديث ( لتأخذوا مصافكم ) . والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الفرج في مواضع؛ كقوله: « لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين » [ القصص: 76 ] وقوله: « إنه لفرح فخور » [ هود: 10 ] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما؛ لقوله: « فرحين بما آتاهم الله من فضله » [ آل عمران: 170 ] وههنا قال تبارك وتعالى: « فبذلك فليفرحوا » أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا؛ فقيد. قال هارون: وفي حرف أبي « فبذلك فافرحوا » . قال النحاس: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا؛ إلا أنهم يحذفون، من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاؤوا به على الأصل؛ منه « فبذلك فلتفرحوا » . « هو خير مما يجمعون » يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين؛ وروي عن ابن عامر أنه قرأ « فليفرحوا » بالياء « تجمعون » بالتاء خطابا للكافرين. وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول؛ و « يجمعون » بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا « قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون » .
الآية: 59 ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون )
قوله تعالى: « قل أرأيتم » يخاطب كفار مكة. « ما أنزل الله لكم من رزق » « ما » في موضع نصب بـ « أرأيتم » . وقال الزجاج: في موضع نصب بـ « أنزل » . « وأنزل » بمعنى خالق؛ كما قال: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » [ الزمر: 6 ] . « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » [ الحديد: 25 ] . فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. « فجعلتم منه حراما وحلالا » قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو قول الله تعالى: « وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا » [ الأنعام: 136 ] . « قل أآلله أذن لكم » أي في التحليل والتحريم. « أم على الله » « أم » بمعنى بل. « تفترون » هو قولهم إن الله أمرنا بها.
استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد؛ فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
الآية: 60 ( وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون )
قوله تعالى: « وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة » « يوم » منصوب على الظرف، أو بالظن؛ نحو ما ظنك زيدا؛ والمعنى: أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به. « إن الله لذو فضل على الناس » أي في التأخير والإمهال. وقيل: أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن. « ولكن أكثرهم » يعني الكفار. « لا يشكرون » الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم. وقيل: « لا يشكرون » لا يوحدون.
=============
الآية: 47 ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون )
قوله تعالى: « ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط » يكون المعنى: ولكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم؛ مثل. « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد » [ النساء: 41 ] . وقال ابن عباس: تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم، فيؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتكم الرسالة؛ فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب. دليله قوله: « ويكون الرسول عليكم شهيدا » . ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم؛ فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذب. دليله قوله تعالى: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] . والقسط: العدل. « وهم لا يظلمون » أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة.
الآية: 48 ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين )
يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب؛ أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد. وقيل: هو عام في كل أمة كذبت رسولها.
الآية: 49 ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )
قوله تعالى: « قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا » لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له: قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا؛ أي ليس ذلك لي ولا لغيري. « إلا ما شاء الله » أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا. « لكل أمة أجل » أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه. « إذا جاء أجلهم » أي وقت انقضاء أجلهم. « فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون.
الآية: 50 ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون )
قوله تعالى: « قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا » ظرفان، وهو جواب لقولهم: « متى هذا الوعد » وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب؛ أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه، ولا ينفعكم الإيمان حينئذ. « ماذا يستعجل منه المجرمون » استفهام معناه التهويل والتعظيم؛ أي ما أعظم ما يستعجلون به؛ كما يقال لمن يطلب أم أمرا يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك! والضمير في « منه » قيل: يعود على العذاب، وقيل: يعود على الله سبحانه وتعالى. قال النحاس: إن جعلت الهاء في « منه » تعود على العذاب كان لك في « ماذا » تقديران: أحدهما أن يكون « ما » في موضع رفع بالابتداء، و « ذا » : بمعنى الذي، وهو خبر « ما » والعائد محذوف. والتقدير الآخر أن يكون « ماذا » اسما واحدا في موضع بالابتداء، والخبر في الجملة، قاله الزجاج. وإن جعلت الهاء في « منه » تعود على اسم الله تعالى جعلت « ما » ، و « ذا » شيئا واحدا، وكانت في موضع نصب بـ « يستعجل » ؛ والمعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون عن الله عز وجل.
الآية: 51 ( أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون )
قوله تعالى: « أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن » في الكلام حذف، والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل: آلآن آمنتم به؟ قيل: هو من قول الملائكة استهزاء بهم. وقيل: هو من قول الله تعالى، ودخلت ألف الاستفهام على « ثم » والمعنى: التقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى. وقيل: إن « ثم » ههنا بمعنى: « ثم » بفتح الثاء، فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك؛ وهو مذهب الطبري، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام. و « الآن » قيل: أصله فعل مبني مثل حان، والألف واللام لتحويله إلى الاسم. الخليل: بنيت لالتقاء الساكنين، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت، وهو حد الزمانين. « وقد كنتم به » أي بالعذاب « تستعجلون » .
الآية: 52 ( ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون )
قوله تعالى: « ثم قيل للذين ظلموا » أي تقول لهم خزنة جهنم. « ذوقوا عذاب الخلد » أي الذي لا ينقطع. « هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون » أي جزاء كفركم.
الآية: 53 ( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين )
قوله تعالى: « ويستنبئونك » أي يستخبرونك يا محمد عن كون العذاب وقيام الساعة. « أحق » ابتداء. « هو » سد مسد الخبر؛ وهذا قول سيبويه. ويجوز أن يكون « هو » مبتدأ، و « أحق » خبره. « قل إي » « إي » كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم. « وربي » قسم. « إنه لحق » جوابه، أي كائن لا شك فيه. « وما أنتم بمعجزين » أي فائتين عن عذابه ومجازاته.
الآية: 54 ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون )
قوله تعالى: « ولو أن لكل نفس ظلمت » أي أشركت وكفرت. « ما في الأرض » أي ملكا. « لافتدت به » أي من عذاب الله، يعني ولا يقبل منها؛ كما قال: « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به » [ آل عمران: 91 ] وقد تقدم.
قوله تعالى: « وأسروا الندامة » أي أخفوها؛ يعني رؤساءهم، أي أخفوا ندامتهم عن اتباعهم. « لما رأوا العذاب » وهذا قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع؛ بدليل قولهم: « ربنا غلبت علينا شقوتنا » [ المؤمنون: 106 ] . فبين أنهم لا يكتمون ما بهم. وقيل: « أسروا » أظهروا، والكلمة من الأضداد، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر. وقيل: وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها. قال كثير:
فأسررت الندامة يوم نادى بسرد جمال غاضرة المنادي
وذكر المبرد فيه وجها ثالثا: أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم، وهي تكاسير الجبهة، واحدها سرار. والندامة: الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء، وأصلها اللزوم؛ ومنه النديم لأنه يلازم المجالس. وفلان نادم سادم. والسدم اللهج بالشيء. وندم وتندم بالشيء أي اهتم به. قال الجوهري: السدم ( بالتحريك ) الندم والحزن؛ وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم، وندمان سدمان؛ وقيل: هو اتباع. وماله هم ولا سدم إلا ذلك. وقيل: الندم مقلوب الدمن، والدمن اللزوم؛ ومنه فلان مدمن الخمر. والدمن: ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار؛ سمي به للزومه. والدمنة: الحقد الملازم للصدر، والجمع دمن. وقد دمنت قلوبهم بالكسر؛ يقال: دمنت على فلان أي ضغنت. « وقضي بينهم بالقسط » أي بين الرؤساء والسفل بالعدل. « وهم لا يظلمون » .
الآية: 55 ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون )
« ألا » كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام؛ أي انتبهوا لما أقول لكم: « إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق » « له ملك السماوات والأرض » [ الحديد: 2 ] فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ذلك.
الآية: 56 ( هو يحيي ويميت وإليه ترجعون )
بين المعنى. وقد تقدم
الآية: 57 ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين )
قوله تعالى: « يا أيها الناس » يعني قريشا. « قد جاءتكم موعظة » أي وعظ. « من ربكم » بعني القرآن، فيه مواعظ وحكم. « وشفاء لما في الصدور » أي من الشك والنفاق والخلاف، والشقاق. « وهدى » أي ورشدا لمن اتبعه. « ورحمة » أي نعمة. « للمؤمنين » خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان؛ والكل صفات القرآن، والعطف لتأكيد المدح. قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
الآية: 58 ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
قوله تعالى: « قل بفضل الله وبرحمته » قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام. وعنهما أيضا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن؛ على العكس من القول الأول. وقيل: غير هذا. « فبذلك فليفرحوا » إشارة إلى الفضل والرحمة. والعرب تأتي « بذلك » للواحد والاثنين والجمع. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « فبذلك فلتفرحوا » بالتاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما؛ وفي الحديث ( لتأخذوا مصافكم ) . والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الفرج في مواضع؛ كقوله: « لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين » [ القصص: 76 ] وقوله: « إنه لفرح فخور » [ هود: 10 ] ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما؛ لقوله: « فرحين بما آتاهم الله من فضله » [ آل عمران: 170 ] وههنا قال تبارك وتعالى: « فبذلك فليفرحوا » أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا؛ فقيد. قال هارون: وفي حرف أبي « فبذلك فافرحوا » . قال النحاس: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا؛ إلا أنهم يحذفون، من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاؤوا به على الأصل؛ منه « فبذلك فلتفرحوا » . « هو خير مما يجمعون » يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين؛ وروي عن ابن عامر أنه قرأ « فليفرحوا » بالياء « تجمعون » بالتاء خطابا للكافرين. وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول؛ و « يجمعون » بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا « قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون » .
الآية: 59 ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون )
قوله تعالى: « قل أرأيتم » يخاطب كفار مكة. « ما أنزل الله لكم من رزق » « ما » في موضع نصب بـ « أرأيتم » . وقال الزجاج: في موضع نصب بـ « أنزل » . « وأنزل » بمعنى خالق؛ كما قال: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » [ الزمر: 6 ] . « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » [ الحديد: 25 ] . فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. « فجعلتم منه حراما وحلالا » قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو قول الله تعالى: « وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا » [ الأنعام: 136 ] . « قل أآلله أذن لكم » أي في التحليل والتحريم. « أم على الله » « أم » بمعنى بل. « تفترون » هو قولهم إن الله أمرنا بها.
استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد؛ فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
الآية: 60 ( وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون )
قوله تعالى: « وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة » « يوم » منصوب على الظرف، أو بالظن؛ نحو ما ظنك زيدا؛ والمعنى: أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به. « إن الله لذو فضل على الناس » أي في التأخير والإمهال. وقيل: أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن. « ولكن أكثرهم » يعني الكفار. « لا يشكرون » الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم. وقيل: « لا يشكرون » لا يوحدون.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآية: 61 ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )
قوله تعالى: « وما تكون في شأن » « ما » للجحد؛ أي لست في شأن، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك. والشأن الخطب، والأمر، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب ما شانت شأنه، أي ما عملت عمله. « وما تتلو منه من قرآن » قال الفراء والزجاج: الهاء في « منه » تعود على الشأن، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. وقال الطبري: « منه » أي من كتاب الله تعالى. « من قرآن » أعاد تفخيما؛ كقوله: « إني أنا الله » [ القصص: 30 ] . « ولا تعملون من عمل » يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة. وقوله: « وما تكون في شأن » خطاب له والمراد هو وأمته؛ وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه. وقيل: المراد كفار قريش. « إلا كنا عليكم شهودا » أي نعلمه؛ ونظيره « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 4 ] « إذ تفيضون فيه » أي تأخذون فيه، والهاء عائدة على العمل؛ يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه. قال الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
ابن عباس: « تفيضون فيه » تفعلونه. الأخفش: تتكلمون. ابن زيد: تخوضون. ابن كيسان: تنشرون القول. وقال الضحاك: الهاء عائدة على القرآن؛ المعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. « وما يعزب عن ربك » قال ابن عباس: يغيب. وقال أبو روق: يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب. وقرأ الكسائي « يعزب » بكسر الزاي حيث وقع؛ وضم الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان؛ نحو يعرش ويعرش. « من مثقال » « من » صلة؛ أي وما يعزب عن ربك مثقال « ذرة » أي وزن وذرة، أي نميلة حمراء صغيرة؛ وقد تقدم في النساء. « في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » عطف على لفظ مثقال، وإن شئت على ذرة. وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لأن من زائدة للتأكيد. وقال الزجاج: ويجوز الرفع على الابتداء. وخبره « إلا في كتاب مبين » يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به. قال الجرجاني « إلا » بمعنى واو النسق، أي وهو في كتاب مبين؛ كقوله تعالى: « إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم » [ النمل:10 - 11 ] أي ومن ظلم. وقوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » [ البقرة: 150 ] أي والذين ظلموا منهم؛ فـ « إلا » بمعنى واو النسق، وأضمر هو بعده كقوله: « وقولوا حطة » [ البقرة: 58 ] . أي هي حطة. وقوله: « ولا تقولوا ثلاثة » [ النساء: 171 ] أي هم ثلاثة. ونظير ما نحن فيه: « وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » [ الأنعام: 59 ] وهو في كتاب مبين.
الآية: 62 ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
قوله تعالى: « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم » أي في الآخرة. « ولا هم يحزنون » لفقد الدنيا. وقيل: « لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن؛ قال الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها » أي عن جهنم « مبعدون » إلى قوله « لا يحزنهم الفزع الأكبر » [ الأنبياء:101 - 103 ] . وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أولياء الله؟ فقال: ( الذين يذكر الله برؤيتهم ) . وقال عمر بن الخطاب، في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى ) . قيل: يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: ( هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الجوع، يبس الشفاه من الذوي. وقيل: « لا خوف عليهم » في ذريتهم، لأن الله يتولاهم. « ولا هم يحزنون » على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم.
الآية: 63 ( الذين آمنوا وكانوا يتقون )
هذه صفة أولياء الله تعالى؛ فيكون: « الذين » في موضع نصب على البدل من اسم « إن » وهو « أولياء » . وإن شئت على أعني. وقيل: هو ابتداء، وخبره. « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » فيكون مقطوعا مما قبله. أي يتقون الشرك والمعاصي.
الآية: 64 ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » عن أبي الدرداء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ( ما سألني أحد عتها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) خرجه الترمذي في جامعه. وقال الزهري وعطاء وقتادة: هي البشارة التي تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: ( السلام عليك ولي الله الله يقرئك السلام ) . ثم نزع بهذه الآية: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم » [ النحل: 32 ] ذكره ابن المبارك. وقال قتادة والضحاك: هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت. وقال الحسن: هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه؛ لقوله: « يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان » [ التوبة: 21 ] ، وقوله: « وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات » [ البقرة: 25 ] . وقوله: « وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون » [ فصلت: 30 ] ولهذا قال: « لا تبديل لكلمات الله » أي لا خلف لمواعيده، وذلك لأن مواعيده بكلماته. « وفي الآخرة » قيل: بالجنة إذا خرجوا من قبورهم. وقيل: إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله. وذكر أبو إسحاق الثعلبي: سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله الجوزقي يقول: رأيت أبا عبدالله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة، فسلمت عليه وقلت له: أهلا بك، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك؛ فقال: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » الثناء الحسن: وأشار بيده. « لا تبديل لكلمات الله » أي لا خلف لوعده. وقيل: لا تبديل لأخباره، أي لا ينسخها بشيء، ولا تكون إلا كما قال. « ذلك هو الفوز العظيم » أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم.
الآية: 65 ( ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم )
قوله تعالى: « ولا يحزنك قولهم » أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك، ثم ابتداء فقال: « إن العزة لله » أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده؛ فهو ناصرك ومعينك ومانعك. « جميعا » نصب على الحال، ولا يعارض هذا قوله: « ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين » [ المنافقون: 8 ] فإن كل عزة بالله فهي كلها لله؛ قال الله سبحانه: « سبحان ربك رب العزة عما يصفون » [ الصافات: 180 ] . « هو السميع العليم » السميع لأقوالهم وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم.
الآية: 66 ( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )
قوله تعالى: « ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض » أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه!.
قوله تعالى: « وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء » « ما » للنفي، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع. وقيل: « ما » استفهام، أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم، ثم أجاب فقال: « إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون » أي يحدسون ويكذبون، وقد تقدم.
الآية: 67 ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون )
قوله تعالى: « هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه » بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شيء. « لتسكنوا فيه » أي مع أزواجكم وأولادكم ليزول التعب والكلال بكم. والسكون: الهدوء عن الاضطراب.
قوله تعالى: « والنهار مبصرا » أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم. والمبصر: الذي يبصر، والنهار يبصر فيه. وقال: « مبصرا » تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم: « ليل قائم، ونهار صائم » . وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال قطرب: قال أظلم الليل أي صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر.
قوله تعالى: « إن في ذلك لآيات » أي علامات ودلالات. « لقوم يسمعون » أي سماع اعتبار؟
الآية: 68 ( قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون )
قوله تعالى: « قالوا اتخذ الله ولدا » يعني الكفار. وقد تقدم. « سبحانه » نزه نفسه عن الصحابة والأولاد وعن الشركاء والأنداد. « هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض » ثم أخبر بغناه المطلق، وأن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا؛ « إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا » [ مريم: 93 ] . « إن عندكم من سلطان بهذا » أي ما عندكم من حجة بهذا.
قوله تعالى: « أتقولون على الله ما لا تعلمون » من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه شيئا.
الآيتان: 69 - 70 ( قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون )
قوله تعالى: « قل إن الذين يفترون » أي يختلقون. « على الله الكذب لا يفلحون » أي لا يفوزون ولا يأمنون؛ وتم الكلام. « متاع في الدنيا » أي ذلك متاع، أو هو متاع في الدنيا؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش: لهم متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا. « ثم إلينا مرجعهم » أي رجوعهم. « ثم نذيقهم العذاب الشديد » أي الغليظ. « بما كانوا يكفرون » أي بكفرهم.
الآية: 71 ( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون )
قوله تعالى: « واتل عليهم نبأ نوح » أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم. وحذفت الواو من « اتل » لأنه أمر؛ أي اقرأ عليهم خبر نوح. « إذ قال لقومه » « إذ » في موضع نصب. « يا قوم إن كان كبر عليكم » أي عظم وثقل عليكم. « مقامي » المقام ( بفتح الميم ) : الموضع الذي يقوم فيه. والمقام ( بالضم ) الإقامة. ولم يقرأ به فيما علمت؛ أي إن طال عليكم لبثي فيكم. « وتذكيري » إياكم، وتخويفي لكم. « بآيات الله » وعزمتم على قتلي وطردي. « فعلى الله توكلت » أي اعتمدت. وهذا هو جواب الشرط، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال؛ ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم؛ أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني.
قوله تعالى: « فأجمعوا أمركم وشركاءكم » قراءة العامة « فأجمعوا » بقطع الألف « شركاءكم » بالنصب. وقرأ عاصم الجحدري « فاجمعوا » بوصل الألف وفتح الميم؛ من جمع يجمع. « شركاءكم » بالنصب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب « فأجمعوا » بقطع الألف « شركاؤكم » بالرفع. فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه. وقال الفراء: أجمع الشيء أعده. وقال المؤرج: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
قال النحاس: وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه؛ قال الكسائي والفراء: هو بمعنى وادعوا شركاءكم لنصرتكم؛ وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل. وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى؛ كما قال:
يا ليت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد، إلا أنه محمول كالسيف. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى مع شركائكم على تناصركم؛ كما يقال: التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية من الجمع، اعتبارا بقوله تعالى: « فجمع كيده ثم أتى » [ طه: 60 ] . قال أبو معاذ: ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد، « وشركاءكم » على هذه القراءة عطف على « أمركم » ، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وإن شئت بمعنى مع، قال أبو جعفر النحاس: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة تبعد؛ لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو، ولم ير في المصاحف واو في قوله « وشركاءكم » ، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع. قال المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخير محذوف، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبص ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها.
قوله تعالى: « ثم لا يكن أمركم عليكم غمة » اسم يكن وخبرها. وغمة وغم سواء، ومعناه التغطية؛ من قولهم: غم الهلال إذا استتر؛ أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم؛ لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد. قال طرفة:
لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد
الزجاج: غمة ذا غم، والغم والغمة كالكرب والكربة. وقيل: إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه. وفي الصحاح: والغمة الكربة. قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكتمون بغمة لو لم تفرج غموا
يقال: أمر غمة، أي مبهم ملتبس؛ قال تعالى: « ثم لا يكن أمركم عليكم غمة » . قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق. والغمة أيضا: قعر النحي وغيره. قال غيره: وأصل هذا كله مشتق من الغمامة.
قوله تعالى: « ثم اقضوا إلي ولا تنظروني » ألف « اقضوا » ألف وصل، من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي: وهو مثل: « وقضينا إليه ذلك الأمر » [ الحجر: 66 ] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وروي عن ابن عباس « ثم اقضوا إلي ولا تنظرون » قال: امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة؛ ومنه: قضى الميت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه، وهذا من دلائل النبوات. وحكى الفراء عن بعض القراء « ثم افضوا إلي » بالفاء وقطع الألف، أي توجهوا؛ يقال: أفضت الخلافة إلى فلان، وأفضى إلي الوجع. وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا، ومن كيدهم غير خائف؛ علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون. وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه.
=============
الآية: 61 ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )
قوله تعالى: « وما تكون في شأن » « ما » للجحد؛ أي لست في شأن، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك. والشأن الخطب، والأمر، وجمعه شؤون. قال الأخفش: تقول العرب ما شانت شأنه، أي ما عملت عمله. « وما تتلو منه من قرآن » قال الفراء والزجاج: الهاء في « منه » تعود على الشأن، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. وقال الطبري: « منه » أي من كتاب الله تعالى. « من قرآن » أعاد تفخيما؛ كقوله: « إني أنا الله » [ القصص: 30 ] . « ولا تعملون من عمل » يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة. وقوله: « وما تكون في شأن » خطاب له والمراد هو وأمته؛ وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه. وقيل: المراد كفار قريش. « إلا كنا عليكم شهودا » أي نعلمه؛ ونظيره « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 4 ] « إذ تفيضون فيه » أي تأخذون فيه، والهاء عائدة على العمل؛ يقال: أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه. قال الراعي:
فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
ابن عباس: « تفيضون فيه » تفعلونه. الأخفش: تتكلمون. ابن زيد: تخوضون. ابن كيسان: تنشرون القول. وقال الضحاك: الهاء عائدة على القرآن؛ المعنى: إذ تشيعون في القرآن الكذب. « وما يعزب عن ربك » قال ابن عباس: يغيب. وقال أبو روق: يبعد. وقال ابن كيسان: يذهب. وقرأ الكسائي « يعزب » بكسر الزاي حيث وقع؛ وضم الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان؛ نحو يعرش ويعرش. « من مثقال » « من » صلة؛ أي وما يعزب عن ربك مثقال « ذرة » أي وزن وذرة، أي نميلة حمراء صغيرة؛ وقد تقدم في النساء. « في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » عطف على لفظ مثقال، وإن شئت على ذرة. وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع مثقال لأن من زائدة للتأكيد. وقال الزجاج: ويجوز الرفع على الابتداء. وخبره « إلا في كتاب مبين » يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به. قال الجرجاني « إلا » بمعنى واو النسق، أي وهو في كتاب مبين؛ كقوله تعالى: « إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم » [ النمل:10 - 11 ] أي ومن ظلم. وقوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » [ البقرة: 150 ] أي والذين ظلموا منهم؛ فـ « إلا » بمعنى واو النسق، وأضمر هو بعده كقوله: « وقولوا حطة » [ البقرة: 58 ] . أي هي حطة. وقوله: « ولا تقولوا ثلاثة » [ النساء: 171 ] أي هم ثلاثة. ونظير ما نحن فيه: « وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » [ الأنعام: 59 ] وهو في كتاب مبين.
الآية: 62 ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
قوله تعالى: « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم » أي في الآخرة. « ولا هم يحزنون » لفقد الدنيا. وقيل: « لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن؛ قال الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها » أي عن جهنم « مبعدون » إلى قوله « لا يحزنهم الفزع الأكبر » [ الأنبياء:101 - 103 ] . وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أولياء الله؟ فقال: ( الذين يذكر الله برؤيتهم ) . وقال عمر بن الخطاب، في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى ) . قيل: يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: ( هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الجوع، يبس الشفاه من الذوي. وقيل: « لا خوف عليهم » في ذريتهم، لأن الله يتولاهم. « ولا هم يحزنون » على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم.
الآية: 63 ( الذين آمنوا وكانوا يتقون )
هذه صفة أولياء الله تعالى؛ فيكون: « الذين » في موضع نصب على البدل من اسم « إن » وهو « أولياء » . وإن شئت على أعني. وقيل: هو ابتداء، وخبره. « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » فيكون مقطوعا مما قبله. أي يتقون الشرك والمعاصي.
الآية: 64 ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » عن أبي الدرداء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ( ما سألني أحد عتها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) خرجه الترمذي في جامعه. وقال الزهري وعطاء وقتادة: هي البشارة التي تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: ( السلام عليك ولي الله الله يقرئك السلام ) . ثم نزع بهذه الآية: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم » [ النحل: 32 ] ذكره ابن المبارك. وقال قتادة والضحاك: هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت. وقال الحسن: هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه؛ لقوله: « يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان » [ التوبة: 21 ] ، وقوله: « وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات » [ البقرة: 25 ] . وقوله: « وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون » [ فصلت: 30 ] ولهذا قال: « لا تبديل لكلمات الله » أي لا خلف لمواعيده، وذلك لأن مواعيده بكلماته. « وفي الآخرة » قيل: بالجنة إذا خرجوا من قبورهم. وقيل: إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله. وذكر أبو إسحاق الثعلبي: سمعت أبا بكر محمد بن عبدالله الجوزقي يقول: رأيت أبا عبدالله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة، فسلمت عليه وقلت له: أهلا بك، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك؛ فقال: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » الثناء الحسن: وأشار بيده. « لا تبديل لكلمات الله » أي لا خلف لوعده. وقيل: لا تبديل لأخباره، أي لا ينسخها بشيء، ولا تكون إلا كما قال. « ذلك هو الفوز العظيم » أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم.
الآية: 65 ( ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم )
قوله تعالى: « ولا يحزنك قولهم » أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك، ثم ابتداء فقال: « إن العزة لله » أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده؛ فهو ناصرك ومعينك ومانعك. « جميعا » نصب على الحال، ولا يعارض هذا قوله: « ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين » [ المنافقون: 8 ] فإن كل عزة بالله فهي كلها لله؛ قال الله سبحانه: « سبحان ربك رب العزة عما يصفون » [ الصافات: 180 ] . « هو السميع العليم » السميع لأقوالهم وأصواتهم، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم.
الآية: 66 ( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )
قوله تعالى: « ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض » أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه!.
قوله تعالى: « وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء » « ما » للنفي، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع. وقيل: « ما » استفهام، أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء تقبيحا لفعلهم، ثم أجاب فقال: « إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون » أي يحدسون ويكذبون، وقد تقدم.
الآية: 67 ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون )
قوله تعالى: « هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه » بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شيء. « لتسكنوا فيه » أي مع أزواجكم وأولادكم ليزول التعب والكلال بكم. والسكون: الهدوء عن الاضطراب.
قوله تعالى: « والنهار مبصرا » أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم. والمبصر: الذي يبصر، والنهار يبصر فيه. وقال: « مبصرا » تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم: « ليل قائم، ونهار صائم » . وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال قطرب: قال أظلم الليل أي صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر.
قوله تعالى: « إن في ذلك لآيات » أي علامات ودلالات. « لقوم يسمعون » أي سماع اعتبار؟
الآية: 68 ( قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون )
قوله تعالى: « قالوا اتخذ الله ولدا » يعني الكفار. وقد تقدم. « سبحانه » نزه نفسه عن الصحابة والأولاد وعن الشركاء والأنداد. « هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض » ثم أخبر بغناه المطلق، وأن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا؛ « إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا » [ مريم: 93 ] . « إن عندكم من سلطان بهذا » أي ما عندكم من حجة بهذا.
قوله تعالى: « أتقولون على الله ما لا تعلمون » من إثبات الولد له، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه شيئا.
الآيتان: 69 - 70 ( قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون )
قوله تعالى: « قل إن الذين يفترون » أي يختلقون. « على الله الكذب لا يفلحون » أي لا يفوزون ولا يأمنون؛ وتم الكلام. « متاع في الدنيا » أي ذلك متاع، أو هو متاع في الدنيا؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش: لهم متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا. « ثم إلينا مرجعهم » أي رجوعهم. « ثم نذيقهم العذاب الشديد » أي الغليظ. « بما كانوا يكفرون » أي بكفرهم.
الآية: 71 ( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون )
قوله تعالى: « واتل عليهم نبأ نوح » أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم. وحذفت الواو من « اتل » لأنه أمر؛ أي اقرأ عليهم خبر نوح. « إذ قال لقومه » « إذ » في موضع نصب. « يا قوم إن كان كبر عليكم » أي عظم وثقل عليكم. « مقامي » المقام ( بفتح الميم ) : الموضع الذي يقوم فيه. والمقام ( بالضم ) الإقامة. ولم يقرأ به فيما علمت؛ أي إن طال عليكم لبثي فيكم. « وتذكيري » إياكم، وتخويفي لكم. « بآيات الله » وعزمتم على قتلي وطردي. « فعلى الله توكلت » أي اعتمدت. وهذا هو جواب الشرط، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال؛ ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم؛ أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني.
قوله تعالى: « فأجمعوا أمركم وشركاءكم » قراءة العامة « فأجمعوا » بقطع الألف « شركاءكم » بالنصب. وقرأ عاصم الجحدري « فاجمعوا » بوصل الألف وفتح الميم؛ من جمع يجمع. « شركاءكم » بالنصب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب « فأجمعوا » بقطع الألف « شركاؤكم » بالرفع. فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه. وقال الفراء: أجمع الشيء أعده. وقال المؤرج: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وأنشد:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
قال النحاس: وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه؛ قال الكسائي والفراء: هو بمعنى وادعوا شركاءكم لنصرتكم؛ وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل. وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى؛ كما قال:
يا ليت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد، إلا أنه محمول كالسيف. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى مع شركائكم على تناصركم؛ كما يقال: التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية من الجمع، اعتبارا بقوله تعالى: « فجمع كيده ثم أتى » [ طه: 60 ] . قال أبو معاذ: ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد، « وشركاءكم » على هذه القراءة عطف على « أمركم » ، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، وإن شئت بمعنى مع، قال أبو جعفر النحاس: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة تبعد؛ لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو، ولم ير في المصاحف واو في قوله « وشركاءكم » ، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع. قال المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخير محذوف، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبص ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها.
قوله تعالى: « ثم لا يكن أمركم عليكم غمة » اسم يكن وخبرها. وغمة وغم سواء، ومعناه التغطية؛ من قولهم: غم الهلال إذا استتر؛ أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم؛ لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد. قال طرفة:
لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد
الزجاج: غمة ذا غم، والغم والغمة كالكرب والكربة. وقيل: إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه. وفي الصحاح: والغمة الكربة. قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكتمون بغمة لو لم تفرج غموا
يقال: أمر غمة، أي مبهم ملتبس؛ قال تعالى: « ثم لا يكن أمركم عليكم غمة » . قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق. والغمة أيضا: قعر النحي وغيره. قال غيره: وأصل هذا كله مشتق من الغمامة.
قوله تعالى: « ثم اقضوا إلي ولا تنظروني » ألف « اقضوا » ألف وصل، من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي: وهو مثل: « وقضينا إليه ذلك الأمر » [ الحجر: 66 ] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه. وروي عن ابن عباس « ثم اقضوا إلي ولا تنظرون » قال: امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة؛ ومنه: قضى الميت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه، وهذا من دلائل النبوات. وحكى الفراء عن بعض القراء « ثم افضوا إلي » بالفاء وقطع الألف، أي توجهوا؛ يقال: أفضت الخلافة إلى فلان، وأفضى إلي الوجع. وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا، ومن كيدهم غير خائف؛ علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون. وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآية: 72 ( فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين )
قوله تعالى: « فإن توليتم فما سألتكم من أجر » أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي. « إن أجري إلا على الله » في تبليغ رسالته. « وأمرت أن أكون من المسلمين » أي الموحدين لله تعالى. فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء « أجري » حيث وقع، وأسكن الباقون.
الآية: 73 ( فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين )
قوله تعالى: « فكذبوه » يعني نوحا. « فنجيناه ومن معه » أي من المؤمنين « في الفلك » أي السفينة، وسيأتي ذكرها. « وجعلناهم خلائف » أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق. « فانظر كيف كان عاقبة المنذرين » يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.
الآية: 74 ( ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين )
قوله تعالى: « ثم بعثنا من بعده » أي من بعد نوح. « رسلا إلى قومهم » كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم. « فجاؤوهم بالبينات » أي بالمعجزات. « فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل » التقدير: بما كذب به قوم نوح من قبل. وقيل: « بما كذبوا به من قبل » أي من قبل يوم الذر، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع: بلى. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم؛ مثل: « أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » . [ البقرة: 6 ] « كذلك نطبع » أي نختم. « على قلوب المعتدين » أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا. وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم.
الآية: 75 ( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين )
قوله تعالى: « ثم بعثنا من بعدهم » أي من بعد الرسل والأمم. « موسى وهارون إلى فرعون وملئه » أي أشراف قومه. « بآياتنا » يريد الآيات التسع، وقد تقدم ذكرها. « فاستكبروا » أي عن الحق. « وكانوا قوما مجرمين » أي مشركين.
الآيتان: 76 - 77 ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون )
قوله تعالى: « فلما جاءهم الحق من عندنا » يريد فرعون وقومه « قالوا إن هذا لسحر مبين » حملوا المعجزات على السحر. قال لهم موسى: « أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا » قيل: في الكلام حذف، المعنى: أتقولون للحق هذا سحر. فـ « أتقولون » إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال: أسحر هذا! فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه. وقال الأخفش: هو من فولهم، ودخلت الألف حكاية لقولهم؛ لأنهم قالوا أسحر هذا. فقيل لهم: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا؛ وروي عن الحسن. « ولا يفلح الساحرون » أي لا يفلح من أتى به.
الآية: 78 ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين )
قوله تعالى: « قالوا أجئتنا لتلفتنا » أي تصرفنا وتلوينا، يقال: لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه. قال الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
ومن هذا التفت إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه. « عما وجدنا عليه آباءنا » يريد من عبادة الأصنام. « وتكون لكما الكبرياء » أي العظمة والملك والسلطان « في الأرض » يريد أرض مصر. ويقال للملك: الكبرياء لأنه أعظم ما يطلب في الدنيا. « وما نحن لكما بمؤمنين » . وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما « ويكون » بالياء لأنه تأنيت غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضي اليوم امرأتان.
الآية: 79 ( وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم )
إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش « سحار » وقد تقدم في الأعراف القول فيهما.
الآية: 80 ( فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون )
أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم. وقد تقدم في الأعراف القول في هذا مستوفى.
الآية: 81 ( فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين )
قوله تعالى: « فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر » تكون « ما » في موضع رفع بالابتداء، والخبر « جئتم به » والتقدير: أي شيء جئتم به، على التوبيخ والتصغير لما جاؤوا به من السحر. وقراءة ضبي عمرو « السحر » على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، التقدير: السحر جئتم به. ولا تكون « ما » على قراءة من استفهم بمعنى الذي، إذ لا خبر لها. وقرأ الباقون « السحر » على الخبر، ودليل هذه القراءة ابن مسعود: « ما جئتم به سحر » . وقراءة أبي: « ما أتيتم به سحر » ؛ فـ « ما » بمعنى الذي، و « جئتم به » الصلة، وموضع « ما » رفع بالابتداء، والسحر خبر الابتداء. ولا تكون « ما » إذا جعلتها بمعنى الذي نصبا لأن الصلة لا تعمل في الموصول. وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون لا للشرط، وجئتم في موضع جزم بما والفاء محذوفة؛ التقدير: فإن الله سيطلبه. ويجوز أن ينصب السحر على المصدر، أي ما جئتم به سحرا، ثم دخلت الألف واللام زائدتين، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء. واختار هذا القول النحاس، وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر؛ كما قال:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
بل ربما قال بعضهم: إنه لا يجوز البتة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثني محمد بن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الأصمعي يقول: غير النحويون هذا البيت، وإنما الرواية:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره
وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز. قال: والدليل على ذلك « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم » . « وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم » قراءتان مشهورتان معروفتان. « إن الله لا يصلح عمل المفسدين » يعني السحر. قال ابن عباس: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. ( ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) لم يضره كيد ساحر. ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.
الآية: 82 ( ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون )
قوله تعالى: « ويحق الله الحق » أي يبينه ويوضحه. « بكلماته » أي بكلامه وحججه وبراهينه. وقيل: بعداته بالنصر. « ولو كره المجرمون » من آل فرعون.
الآية: 83 ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين )
قوله تعالى: « فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه » الهاء عائدة على موسى. قال مجاهد: أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا؛ وهذا اختيار الطبري. والذرية أعقاب الإنسان وقد تكثر. وقيل: أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف. وقال ابن عباس أيضا: « من قومه » يعني من قوم فرعون؛ منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل: هم أقوام آباؤهم من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الأبناء؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم؛ قال الفراء. وعلى هذا فالكناية في « قومه » ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الأمهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط.
قوله تعالى: « على خوف من فرعون » لأنه كان مسلطا عليهم عاتبا. « وملئهم » ولم يقل وملئه؛ وعنه ستة أجوبة: أحدها: أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع. الثاني: أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره، فعاد الضمير عليه وعليهم؛ وهذا أحد قولي الفراء. الثالث: أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود. الرابع: أن يكون التقدير: على خوف من آل فرعون؛ فيكون من باب حذف المضاف مثل: « واسأل القرية » ، [ يوسف: 82 ] وهو القول الثاني للفراء. وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ، لا يجوز عندهما قامت هند، وأنت تريد غلامها. الخامس: مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية، أي ملأ الذرية؛ وهو اختيار الطبري. السادس: أن يكون الضمير يعود على قومه. قال النحاس: وهذا الجواب كأنه أبلغها. « أن يفتنهم » وحد « يفتنهم » على الإخبار عن فرعون، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ « خوف » . ولم ينصرف فرعون لأنه اسم أعجمي وهو معرفة. « وإن فرعون لعال في الأرض » أي عات متكبر « وإنه لمن المسرفين » أي المجاوزين الحد في الكفر؛ لأنه كان عبدا فادعى الربوبية.
الآيتان: 84 - 85 ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين )
قوله تعالى: « وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم » أي صدقتم. « بالله فعليه توكلوا » أي اعتمدوا. « إن كنتم مسلمين » كرر الشرط تأكيدا، وبين أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله. « فقالوا على الله توكلنا » أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره. « ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين » أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم. وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم؛ فيفتنوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحا: يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا.
الآية: 86 ( ونجنا برحمتك من القوم الكافرين )
قوله تعالى: « ونجنا برحمتك » أي خلصنا. « من القوم الكافرين » أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة.
=============
الآية: 72 ( فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين )
قوله تعالى: « فإن توليتم فما سألتكم من أجر » أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي. « إن أجري إلا على الله » في تبليغ رسالته. « وأمرت أن أكون من المسلمين » أي الموحدين لله تعالى. فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء « أجري » حيث وقع، وأسكن الباقون.
الآية: 73 ( فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين )
قوله تعالى: « فكذبوه » يعني نوحا. « فنجيناه ومن معه » أي من المؤمنين « في الفلك » أي السفينة، وسيأتي ذكرها. « وجعلناهم خلائف » أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق. « فانظر كيف كان عاقبة المنذرين » يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.
الآية: 74 ( ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين )
قوله تعالى: « ثم بعثنا من بعده » أي من بعد نوح. « رسلا إلى قومهم » كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم. « فجاؤوهم بالبينات » أي بالمعجزات. « فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل » التقدير: بما كذب به قوم نوح من قبل. وقيل: « بما كذبوا به من قبل » أي من قبل يوم الذر، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع: بلى. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم؛ مثل: « أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » . [ البقرة: 6 ] « كذلك نطبع » أي نختم. « على قلوب المعتدين » أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا. وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم.
الآية: 75 ( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين )
قوله تعالى: « ثم بعثنا من بعدهم » أي من بعد الرسل والأمم. « موسى وهارون إلى فرعون وملئه » أي أشراف قومه. « بآياتنا » يريد الآيات التسع، وقد تقدم ذكرها. « فاستكبروا » أي عن الحق. « وكانوا قوما مجرمين » أي مشركين.
الآيتان: 76 - 77 ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون )
قوله تعالى: « فلما جاءهم الحق من عندنا » يريد فرعون وقومه « قالوا إن هذا لسحر مبين » حملوا المعجزات على السحر. قال لهم موسى: « أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا » قيل: في الكلام حذف، المعنى: أتقولون للحق هذا سحر. فـ « أتقولون » إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال: أسحر هذا! فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه. وقال الأخفش: هو من فولهم، ودخلت الألف حكاية لقولهم؛ لأنهم قالوا أسحر هذا. فقيل لهم: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا؛ وروي عن الحسن. « ولا يفلح الساحرون » أي لا يفلح من أتى به.
الآية: 78 ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين )
قوله تعالى: « قالوا أجئتنا لتلفتنا » أي تصرفنا وتلوينا، يقال: لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه. قال الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
ومن هذا التفت إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه. « عما وجدنا عليه آباءنا » يريد من عبادة الأصنام. « وتكون لكما الكبرياء » أي العظمة والملك والسلطان « في الأرض » يريد أرض مصر. ويقال للملك: الكبرياء لأنه أعظم ما يطلب في الدنيا. « وما نحن لكما بمؤمنين » . وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما « ويكون » بالياء لأنه تأنيت غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضي اليوم امرأتان.
الآية: 79 ( وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم )
إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش « سحار » وقد تقدم في الأعراف القول فيهما.
الآية: 80 ( فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون )
أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم. وقد تقدم في الأعراف القول في هذا مستوفى.
الآية: 81 ( فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين )
قوله تعالى: « فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر » تكون « ما » في موضع رفع بالابتداء، والخبر « جئتم به » والتقدير: أي شيء جئتم به، على التوبيخ والتصغير لما جاؤوا به من السحر. وقراءة ضبي عمرو « السحر » على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، التقدير: السحر جئتم به. ولا تكون « ما » على قراءة من استفهم بمعنى الذي، إذ لا خبر لها. وقرأ الباقون « السحر » على الخبر، ودليل هذه القراءة ابن مسعود: « ما جئتم به سحر » . وقراءة أبي: « ما أتيتم به سحر » ؛ فـ « ما » بمعنى الذي، و « جئتم به » الصلة، وموضع « ما » رفع بالابتداء، والسحر خبر الابتداء. ولا تكون « ما » إذا جعلتها بمعنى الذي نصبا لأن الصلة لا تعمل في الموصول. وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون لا للشرط، وجئتم في موضع جزم بما والفاء محذوفة؛ التقدير: فإن الله سيطلبه. ويجوز أن ينصب السحر على المصدر، أي ما جئتم به سحرا، ثم دخلت الألف واللام زائدتين، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء. واختار هذا القول النحاس، وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر؛ كما قال:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
بل ربما قال بعضهم: إنه لا يجوز البتة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثني محمد بن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الأصمعي يقول: غير النحويون هذا البيت، وإنما الرواية:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره
وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز. قال: والدليل على ذلك « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم » . « وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم » قراءتان مشهورتان معروفتان. « إن الله لا يصلح عمل المفسدين » يعني السحر. قال ابن عباس: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. ( ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) لم يضره كيد ساحر. ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.
الآية: 82 ( ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون )
قوله تعالى: « ويحق الله الحق » أي يبينه ويوضحه. « بكلماته » أي بكلامه وحججه وبراهينه. وقيل: بعداته بالنصر. « ولو كره المجرمون » من آل فرعون.
الآية: 83 ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين )
قوله تعالى: « فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه » الهاء عائدة على موسى. قال مجاهد: أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا؛ وهذا اختيار الطبري. والذرية أعقاب الإنسان وقد تكثر. وقيل: أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف. وقال ابن عباس أيضا: « من قومه » يعني من قوم فرعون؛ منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه. وقيل: هم أقوام آباؤهم من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الأبناء؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم؛ قال الفراء. وعلى هذا فالكناية في « قومه » ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الأمهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط.
قوله تعالى: « على خوف من فرعون » لأنه كان مسلطا عليهم عاتبا. « وملئهم » ولم يقل وملئه؛ وعنه ستة أجوبة: أحدها: أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع. الثاني: أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره، فعاد الضمير عليه وعليهم؛ وهذا أحد قولي الفراء. الثالث: أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود. الرابع: أن يكون التقدير: على خوف من آل فرعون؛ فيكون من باب حذف المضاف مثل: « واسأل القرية » ، [ يوسف: 82 ] وهو القول الثاني للفراء. وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ، لا يجوز عندهما قامت هند، وأنت تريد غلامها. الخامس: مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية، أي ملأ الذرية؛ وهو اختيار الطبري. السادس: أن يكون الضمير يعود على قومه. قال النحاس: وهذا الجواب كأنه أبلغها. « أن يفتنهم » وحد « يفتنهم » على الإخبار عن فرعون، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ « خوف » . ولم ينصرف فرعون لأنه اسم أعجمي وهو معرفة. « وإن فرعون لعال في الأرض » أي عات متكبر « وإنه لمن المسرفين » أي المجاوزين الحد في الكفر؛ لأنه كان عبدا فادعى الربوبية.
الآيتان: 84 - 85 ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين )
قوله تعالى: « وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم » أي صدقتم. « بالله فعليه توكلوا » أي اعتمدوا. « إن كنتم مسلمين » كرر الشرط تأكيدا، وبين أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله. « فقالوا على الله توكلنا » أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره. « ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين » أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم. وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم؛ فيفتنوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحا: يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا.
الآية: 86 ( ونجنا برحمتك من القوم الكافرين )
قوله تعالى: « ونجنا برحمتك » أي خلصنا. « من القوم الكافرين » أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
==============
الآية: 87 ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين )
قوله تعالى: « وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا » أي اتخذا. « لقومكما بمصر بيوتا » يقال: بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا. والمبوأ المنزل الملزوم؛ ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه؛ ومنه الحديث: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) قال الراجز:
نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك
ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية؛ في قول مجاهد. وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر.
قوله تعالى: « واجعلوا بيوتكم قبلة » قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة؛ فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذوا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة. هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. والقول الأول أصح؛ أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة؛ قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم؛ قال ابن بحر. وقيل الكعبة. عن ابن عباس قال: وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة؛ فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة. وقيل: المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا؛ وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله: « قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا » الآية. وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم. قال ابن العربي: والأول أظهر القولين؛ لأن الثاني دعوى.
قلت: قوله: « دعوى » صحيح؛ فإن في الصحيح قوله عليه السلام: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) وهذا مما خص به دون الأنبياء؛ فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة؛ إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها. وقبل الصلوات المفروضات وبعدها؛ إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى. روى مسلم عن عبدالله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت: ( كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين.. ) الحديث. وعن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب مجدتين؛ فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته. وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب؛ فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: ( هذه صلاة البيوت ) .
واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي. وذهب ابن عبدالحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل. وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه. والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) خرجه البخاري. احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم: ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم ) . ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سنة.
وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة. والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه؛ وقد فعل ذلك ابن عمر.
قوله تعالى: « وبشر المؤمنين » قيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم.
الآية: 88 ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم )
قوله تعالى: « وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه » « آتيت » أي أعطيت. « زينة وأموالا في الحياة الدنيا » أي مال الدنيا، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت.
قوله تعالى: « ربنا ليضلوا عن سبيلك » اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة؛ وفي الخبر ( إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب ) . أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا. وقيل: هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا. وقيل: هي لام أجل، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم. وزعم قوم أن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عز وجل: ( يبين الله لكم أن تضلوا ) . والمعنى: لأن لا تضلوا. قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف « لا » إلا مع أن؛ فموه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل: « أن تضلوا » . وقيل: اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك؛ لأن بعده: « اطمس على أموالهم واشدد » . وقيل: الفعل معنى المصدر أي إضلالهم كقوله عز وجل « لتعرضوا عنهم » قرأ الكوفيون: « ليضلوا » بضم الياء من الإضلال، وفتحها الباقون.
قوله تعالى: « ربنا اطمس على أموالهم » أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم. قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى؛ يقال: عين مطموسة، وطمس الموضع إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين؛ قال: وسألني عمر بن عبدالعزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة. وقال السدي: وكانت إحدى الآيات التسع. « واشدد على قلوبهم » قال ابن عباس: أي امنعهم الإيمان. وقيل: قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان؛ والمعنى واحد. « قلا يؤمنوا » قيل: هو عطف على قوله: « ليضلوا » أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا؛ قاله الزجاج والمبرد. وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شيء. وقوله: ( ربنا اطمس، واشدد ) كلام معترض. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم؛ أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا. ومنه قول الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
أي لا انبسط. ومن قال « ليضلوا » دعاء - أي ابتلهم بالضلال - قال: عطف عليه « فلا يؤمنوا » . وقيل: هو في موضع نصب لأنه جواب الأمر؛ أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا. وهذا قول الأخفش والفراء أيضا، وأنشد الفراء:
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب. « حتى يروا العذاب الأليم » قال ابن عباس: هو الغرق. وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؛ فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن؛ دليله قوله لنوح عليه السلام: « إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] وعند ذلك قال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » الآية [ نوح: 26 ] . والله أعلم.
الآية: 89 ( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )
قوله تعالى: « قال قد أجيبت دعوتكما » قال أبو العالية: دعا موسى وأمن هارون؛ فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا. والتأمين على الدعاء أن يقول آمين؛ فقولك آمين دعاء، أي لا رب استجب لي. وقيل: دعا هارون مع موسى أيضا. وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين؛ قال الشاعر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله فاجتز شيحا
وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام « ربنا » ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي « دعواتكما » بالجميع. وقرأ ابن السميقع « أجبت دعوتكما » خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده. وتقدم القول في « آمين » في آخر الفاتحة مستوفى. وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام. روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد تقدم في الفاتحة.
قوله تعالى: « فاستقيما » قال الفراء وغيره: أمر بالاستقامة. على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. قال محمد بن علي وابن جريح: مكث فرعون وقومه به هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا. وقيل: « استقيما » أي على الدعاء؛ والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. « ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون » بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي. وقيل: هو حال من استقيما؛ أي استقيما غير متبعين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.
الآية: 90 ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين )
قوله تعالى: « وجاوزنا ببني إسرائيل البحر » تقدم القول فيه في « البقرة » في قوله: « وإذ فرقنا بكم البحر » . وقرأ الحسن « وجوزنا » وهما لغتان. « فأتبعهم فرعون وجنوده » يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه. وأتبع ( بالتشديد ) إذا سار خلفه. وقال الأصمعي: أتبعه ( بقطع الألف ) إذا لحقه وأدركه، وأتبعه ( بوصل الألف ) إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه. وكذلك قال أبو زيد. وقرأ قتادة « فاتبعهم » بوصل الألف. وقيل: « اتبعه » ( بوصل الألف ) في الأمر اقتدى به. وأتبعه ( بقطع الألف ) خيرا أو شرا؛ هذا قول أبي عمرو. وقد قيل هما بمعنى واحد. فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. وقد تقدم. « بغيا » نصب على الحال. « وعدوا » معطوف عليه؛ أي في حال بغي واعتداء وظلم؛ يقال: عدا يعدو عدوا؛ مثل غزا يغزو غزوا. وقرأ الحسن « وعدوا » بضم العين والدال وتشديد الواو؛ مثل علا يعلو علوا. وقال المفسرون: « بغيا » طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، « وعدوا » في الفعل؛ فهما نصب على المفعول له. « حتى إذا أدركه الغرق » أي ناله ووصله. « قال آمنت » أي صدقت. « أنه » أي بأنه. « لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل » فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب. وقرئ بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف. وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والإيمان لا ينفع حينئذ؛ والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في « النساء » بيانه.
ويقال: إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى؛ فجاء جبريل على فرس وديق أي شهي في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل؛ فدس جبريل في فمه حال البحر. وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. حال البحر: الطين الأسود الذي يكون في أرضه؛ قال أهل اللغة. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: ( أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه ) . قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عون بن عبدالله: بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: « آمنت » الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه. وقيل: إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي. وقال كعب الأحبار: أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه. فقالت له القبط: إن كنت ربنا فأجر لنا الماء؛ فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون عل درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه؛ فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر؛ فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناول جبريل عليه السلام خطه. وقد مضى هذا في « البقرة » عن عبدالله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا؛ وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في « البقرة » أيضا فلا معنى للإعادة. « وأنا من المسلمين » أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة.
الآية: 91 ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )
قيل: هو من قول الله تعالى. وميل: هو من قول جبريل. وقيل: ميكائيل، صلوات الله عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم. وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة؛ ونظيره. « إنما نطعمكم لوجه الله » [ الإنسان: 9 ] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب.
الآية: 92 ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون )
قوله تعالى: « فاليوم ننجيك ببدنك » أي نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه قال أوس بن حجر يصف مطرا:
فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقرأ اليزيدي وابن السميقع « ننحيك » بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور. وحكى علقمة عن عبدالله أنه قرأ « بندائك » من النداء. قال أبو بكر الأنباري: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسماوات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين؛ والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكره الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى، أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم. وقيل: من الذهب وكان يعرف بها. وقيل: من حديد؛ قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة. وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب:
ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان
وقال كعب بن مالك:
ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا
أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة. قال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا
وقيل « ببدنك » بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد. قال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء. قال أبو بكر: لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روج فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم! يا موسى هذا فرعون وقد غرق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا « ننجيك ببدنك » احتمل معنيين: أحدهما - نلقيك على نجوة من الأرض. والثاني - نظهر جسدك الذي لا روج فيه. والقراءة الشاذة « بندائك » يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها: « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين » [ يونس: 90 ] على موضع رفيع. والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له. قال أبو بكر الأنباري: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها.
قوله تعالى: « لتكون لمن خلفك آية » أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر. « وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون » أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها. وقرئ « لمن خلفك » ( بفتح اللام ) ؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ علي بن أبي طالب « لمن خلقك » بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك.
الآية: 93 ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )
قوله تعالى: « ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق » أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر. وقيل: الأردن وفلسطين. وقال الضحاك: هي مصر والشام. « ورزقناهم من الطيبات » أي من الثمار وغيرها. وقال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل؛ فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه؛ ولهذا قال: « فما اختلفوا » أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. « حتى جاءهم العلم » أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. والعلم بمعنى المعلوم؛ لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه؛ قال ابن جرير الطبري. « إن ربك يقضي بينهم » أي يحكم بينهم ويفصل. « يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون » في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
==============
الآية: 87 ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين )
قوله تعالى: « وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا » أي اتخذا. « لقومكما بمصر بيوتا » يقال: بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا. والمبوأ المنزل الملزوم؛ ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه؛ ومنه الحديث: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) قال الراجز:
نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك
ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية؛ في قول مجاهد. وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر.
قوله تعالى: « واجعلوا بيوتكم قبلة » قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة؛ فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذوا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة. هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. والقول الأول أصح؛ أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة؛ قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم؛ قال ابن بحر. وقيل الكعبة. عن ابن عباس قال: وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة؛ فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة. وقيل: المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا؛ وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله: « قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا » الآية. وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم. قال ابن العربي: والأول أظهر القولين؛ لأن الثاني دعوى.
قلت: قوله: « دعوى » صحيح؛ فإن في الصحيح قوله عليه السلام: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) وهذا مما خص به دون الأنبياء؛ فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة؛ إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها. وقبل الصلوات المفروضات وبعدها؛ إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى. روى مسلم عن عبدالله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت: ( كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين.. ) الحديث. وعن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب مجدتين؛ فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته. وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب؛ فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: ( هذه صلاة البيوت ) .
واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي. وذهب ابن عبدالحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل. وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه. والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) خرجه البخاري. احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم: ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم ) . ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سنة.
وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة. والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه؛ وقد فعل ذلك ابن عمر.
قوله تعالى: « وبشر المؤمنين » قيل: الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم.
الآية: 88 ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم )
قوله تعالى: « وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه » « آتيت » أي أعطيت. « زينة وأموالا في الحياة الدنيا » أي مال الدنيا، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت.
قوله تعالى: « ربنا ليضلوا عن سبيلك » اختلف في هذه اللام، وأصح ما قيل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة؛ وفي الخبر ( إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب ) . أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا. وقيل: هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا. وقيل: هي لام أجل، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم. وزعم قوم أن المعنى: أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا، فحذفت لا كما قال عز وجل: ( يبين الله لكم أن تضلوا ) . والمعنى: لأن لا تضلوا. قال النحاس: ظاهر هذا الجواب حسن، إلا أن العرب لا تحذف « لا » إلا مع أن؛ فموه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل: « أن تضلوا » . وقيل: اللام للدعاء، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك؛ لأن بعده: « اطمس على أموالهم واشدد » . وقيل: الفعل معنى المصدر أي إضلالهم كقوله عز وجل « لتعرضوا عنهم » قرأ الكوفيون: « ليضلوا » بضم الياء من الإضلال، وفتحها الباقون.
قوله تعالى: « ربنا اطمس على أموالهم » أي عاقبهم عل كفرهم بإهلاك أموالهم. قال الزجاج: طمس الشيء إذهابه عن صورته. قال ابن عباس ومحمد بن كعب: صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى؛ يقال: عين مطموسة، وطمس الموضع إذا عفا ودرس. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة. محمد بن كعب: وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين؛ قال: وسألني عمر بن عبدالعزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة. وقال السدي: وكانت إحدى الآيات التسع. « واشدد على قلوبهم » قال ابن عباس: أي امنعهم الإيمان. وقيل: قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان؛ والمعنى واحد. « قلا يؤمنوا » قيل: هو عطف على قوله: « ليضلوا » أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا؛ قاله الزجاج والمبرد. وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شيء. وقوله: ( ربنا اطمس، واشدد ) كلام معترض. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: هو دعاء، فهو في موضع جزم عندهم؛ أي اللهم فلا يؤمنوا، أي فلا آمنوا. ومنه قول الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
أي لا انبسط. ومن قال « ليضلوا » دعاء - أي ابتلهم بالضلال - قال: عطف عليه « فلا يؤمنوا » . وقيل: هو في موضع نصب لأنه جواب الأمر؛ أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا. وهذا قول الأخفش والفراء أيضا، وأنشد الفراء:
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب. « حتى يروا العذاب الأليم » قال ابن عباس: هو الغرق. وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؛ فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن؛ دليله قوله لنوح عليه السلام: « إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] وعند ذلك قال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » الآية [ نوح: 26 ] . والله أعلم.
الآية: 89 ( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون )
قوله تعالى: « قال قد أجيبت دعوتكما » قال أبو العالية: دعا موسى وأمن هارون؛ فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا. والتأمين على الدعاء أن يقول آمين؛ فقولك آمين دعاء، أي لا رب استجب لي. وقيل: دعا هارون مع موسى أيضا. وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين؛ قال الشاعر:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله فاجتز شيحا
وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام « ربنا » ولم يقل رب. وقرأ علي والسلمي « دعواتكما » بالجميع. وقرأ ابن السميقع « أجبت دعوتكما » خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده. وتقدم القول في « آمين » في آخر الفاتحة مستوفى. وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام. روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون ) ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد تقدم في الفاتحة.
قوله تعالى: « فاستقيما » قال الفراء وغيره: أمر بالاستقامة. على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة. قال محمد بن علي وابن جريح: مكث فرعون وقومه به هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا. وقيل: « استقيما » أي على الدعاء؛ والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب. « ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون » بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي. وقيل: هو حال من استقيما؛ أي استقيما غير متبعين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي.
الآية: 90 ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين )
قوله تعالى: « وجاوزنا ببني إسرائيل البحر » تقدم القول فيه في « البقرة » في قوله: « وإذ فرقنا بكم البحر » . وقرأ الحسن « وجوزنا » وهما لغتان. « فأتبعهم فرعون وجنوده » يقال: تبع وأتبع بمعنى واحد، إذا لحقه وأدركه. وأتبع ( بالتشديد ) إذا سار خلفه. وقال الأصمعي: أتبعه ( بقطع الألف ) إذا لحقه وأدركه، وأتبعه ( بوصل الألف ) إذا أتبع أثره، أدركه أو لم يدركه. وكذلك قال أبو زيد. وقرأ قتادة « فاتبعهم » بوصل الألف. وقيل: « اتبعه » ( بوصل الألف ) في الأمر اقتدى به. وأتبعه ( بقطع الألف ) خيرا أو شرا؛ هذا قول أبي عمرو. وقد قيل هما بمعنى واحد. فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف. وقد تقدم. « بغيا » نصب على الحال. « وعدوا » معطوف عليه؛ أي في حال بغي واعتداء وظلم؛ يقال: عدا يعدو عدوا؛ مثل غزا يغزو غزوا. وقرأ الحسن « وعدوا » بضم العين والدال وتشديد الواو؛ مثل علا يعلو علوا. وقال المفسرون: « بغيا » طلبا للاستعلاء بغير حق في القول، « وعدوا » في الفعل؛ فهما نصب على المفعول له. « حتى إذا أدركه الغرق » أي ناله ووصله. « قال آمنت » أي صدقت. « أنه » أي بأنه. « لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل » فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب. وقرئ بالكسر، أي صرت مؤمنا ثم استأنف. وزعم أبو حاتم أن القول محذوف، أي آمنت فقلت إنه، والإيمان لا ينفع حينئذ؛ والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل، حسب ما تقدم في « النساء » بيانه.
ويقال: إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى؛ فجاء جبريل على فرس وديق أي شهي في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر، وألجم فرعون الغرق فقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل؛ فدس جبريل في فمه حال البحر. وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. حال البحر: الطين الأسود الذي يكون في أرضه؛ قال أهل اللغة. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: ( أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه ) . قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عون بن عبدالله: بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون، فإنه لما أدركه الغرق قال: « آمنت » الآية، فخشيت أن يقولها فيرحم، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه. وقيل: إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي. وقال كعب الأحبار: أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه. فقالت له القبط: إن كنت ربنا فأجر لنا الماء؛ فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون عل درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه؛ فكتب فرعون: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر؛ فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناول جبريل عليه السلام خطه. وقد مضى هذا في « البقرة » عن عبدالله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا؛ وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في « البقرة » أيضا فلا معنى للإعادة. « وأنا من المسلمين » أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة.
الآية: 91 ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )
قيل: هو من قول الله تعالى. وميل: هو من قول جبريل. وقيل: ميكائيل، صلوات الله عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم. وقيل: هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال: حيث لم تنفعه الندامة؛ ونظيره. « إنما نطعمكم لوجه الله » [ الإنسان: 9 ] أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب.
الآية: 92 ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون )
قوله تعالى: « فاليوم ننجيك ببدنك » أي نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه قال أوس بن حجر يصف مطرا:
فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقرأ اليزيدي وابن السميقع « ننحيك » بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر. قال ابن جريج: فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور. وحكى علقمة عن عبدالله أنه قرأ « بندائك » من النداء. قال أبو بكر الأنباري: وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسماوات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين؛ والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكره الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى، أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم. وقيل: من الذهب وكان يعرف بها. وقيل: من حديد؛ قاله أبو صخر: والبدن الدرع القصيرة. وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب:
ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان
وقال كعب بن مالك:
ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا
أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة. قال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا
وقيل « ببدنك » بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد. قال الأخفش: وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء. قال أبو بكر: لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روج فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم! يا موسى هذا فرعون وقد غرق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان. فعلى هذا « ننجيك ببدنك » احتمل معنيين: أحدهما - نلقيك على نجوة من الأرض. والثاني - نظهر جسدك الذي لا روج فيه. والقراءة الشاذة « بندائك » يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها: « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين » [ يونس: 90 ] على موضع رفيع. والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له. قال أبو بكر الأنباري: فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها.
قوله تعالى: « لتكون لمن خلفك آية » أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر. « وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون » أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها. وقرئ « لمن خلفك » ( بفتح اللام ) ؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك. وقرأ علي بن أبي طالب « لمن خلقك » بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك.
الآية: 93 ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )
قوله تعالى: « ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق » أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر. وقيل: الأردن وفلسطين. وقال الضحاك: هي مصر والشام. « ورزقناهم من الطيبات » أي من الثمار وغيرها. وقال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل؛ فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه؛ ولهذا قال: « فما اختلفوا » أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. « حتى جاءهم العلم » أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. والعلم بمعنى المعلوم؛ لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه؛ قال ابن جرير الطبري. « إن ربك يقضي بينهم » أي يحكم بينهم ويفصل. « يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون » في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يونس
=============
الآيتان: 94 - 95 ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين )
قوله تعالى: « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك. قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى « فإن كنت في شك » أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك « فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك » أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبدالله بن سلام وأمثاله؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب؛ فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى. وقال القتبي: هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى: لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك ضيق الصدر؛ أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق؛ يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء. وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض؛ فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق. وقال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب. الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: ( والله لا أشك - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) أي الشاكين المرتابين. « ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين » والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
الآيتان: 96 - 97 ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم )
قوله تعالى: « إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون » تقدم القول فيه في هذه السورة. قال قتادة: أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون. « ولو جاءتهم كل آية » أنث « كلا » على المعنى؛ أي ولو جاءتهم الآيات. « حتى يروا العذاب الأليم » فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم.
الآية: 98 ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين )
قوله تعالى: « فلولا كانت قرية آمنت » قال الأخفش والكسائي: أي فهلا. وفي مصحف أبي وابن مسعود « فهلا » وأصل لولا في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره. ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ثم استثنى قوم يونس؛ فهو بحسب اللفظ استئناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل؛ لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس. والنصب في « قوم » هو الوجه، وكذلك أدخله سيبويه في ( باب مالا يكون إلا منصوبا ) . قال النحاس: « إلا قوم يونس » نصب لأنه استئناء ليس من الأول، أي لكن قوم يونس؛ هذا قول الكسائي والأخفش والفراء. ويجوز. « إلا قوم يونس » بالرفع، ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قال أبو إسحاق الزجاج قال: يكون المعنى غير قوم يونس، فلما جاء بإلا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير؛ كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا؛ فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة. وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل. وروي على ميل. وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب. وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
قلت: قول الزجاج حسن؛ فان المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه السلام: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) . والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا. والله أعلم. وقد روي معنى ما قلناه عن ابن مسعود، أن يونس لما وعدهم العذاب إلى ثلاثة أيام خرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا وفرقوا بين الأمهات والأولاد؛ وهذا يدل على أن توبتهم قبل رؤية علامة العذاب. وسيأتي مسندا مبينا في سورة « والصافات » إن شاء الله تعالى. ويكون معنى « كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا » أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم، لا أنهم رأوه عيانا ولا مخايلة؛ وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض ولا خصوص، والله أعلم. وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر. وذلك أن الله تعالى يقول: « إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا » . قال رضي الله عنه: وذلك يوم عاشوراء. « ومتعناهم إلى حين » قيل إلى أجلهم، قال السدي وقيل: إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار؛ قاله ابن عباس.
الآية: 99 ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )
قوله تعالى: « ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا » أي لاضطرهم إليه. « كلهم » تأكيد لـ « من » . « جميعا » عند سيبويه نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقول جميعا بعد كل تأكيدا؛ كقوله: « لا تتخذوا إلهين اثنين » [ النحل: 51 ]
قوله تعالى: « أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين » قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس؛ فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول. وقيل: المراد بالناس هنا أبو طالب؛ وهو عن ابن عباس أيضا.
الآية: 100 ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون )
قوله تعالى: « وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » « ما » نفي؛ أي ما ينبغي أن تؤمن نفس إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته. « ويجعل الرجس » وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل « ونجعل » بالنون على التعظيم. والرجس: العذاب؛ بضم الراء وكسرها لغتان. « على الذين لا يعقلون » أمر الله عز وجل ونهيه.
الآية: 101 ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )
قوله تعالى: « قل انظروا ماذا في السماوات والأرض » أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال. وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع مستوفى. « وما تغني » « ما » نفي؛ أي ولن تغني. وقيل: استفهامية؛ التقدير أي شيء تغني. « الآيات » أي الدلالات. « والنذر » أي الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. « عن قوم لا يؤمنون » أي عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن.
الآية: 102 ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين )
قوله تعالى: « فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم » الأيام هنا بمعنى الوقائع؛ يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما؛ كقوله تعالى: « وذكره بأيام الله » . وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام. « فانتظروا » أي تربصوا؛ وهذا تهديد ووعيد. « إني معكم من المنتظرين » أي المتربصين لموعد وربي.
الآية: 103 ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين )
قوله تعالى: « ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا » أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و « ثم » معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا. « كذلك حقا علينا » أي واجبا علينا؛ لأنه أخبر ولا خلف في خبره. وقرأ يعقوب. « ثم ننجي » مخففا. وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب. « ننجي المؤمنين » مخففا؛ وشدد الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد.
الآية: 104 ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين )
قوله تعالى: « قل يا أيها الناس » يريد كفار مكة. « إن كنتم في شك من ديني » أي في ريب من دين الإسلام الذي أدعوكم إليه. « فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله » من الأوثان التي لا تعقل. « ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم » أي يميتكم ويقبض أرواحكم. « وأمرت أن أكون من المؤمنين »
أي المصدقين بآيات ربهم.
الآيتان: 105 - 106 ( وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين )
قوله تعالى: « وأن أقم وجهك للدين » « أن » عطف على « أن أكون » أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك. قال ابن عباس: عملك، وقيل: نفسك؛ أي استقم بإقبالك على ما أمرت به من الدين. « حنيفا » أي قويما به مائلا عن كل دين. قال حمزة بن عبدالمطلب ( رضي الله عنه ) :
حمدت الله حين هدى فؤادي من الإشراك للدين الحنيف
وقد مضى في « الأنعام » اشتقاقه والحمد لله. « ولا تكونن من المشركين » أي وقيل لي ولا تشرك؛ والخطاب له والمراد غيره؛ وكذلك قوله: « ولا تدع » أي لا تعبد. « من دون الله ما لا ينفعك » إن عبدته. « ولا يضرك » إن عصيته. « فإن فعلت » أي عبدت غير الله. « فإنك إذا من الظالمين » أي الواضعين العبادة في غير موضعها.
الآية: 107 ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم )
قوله تعالى: « وإن يمسسك الله بضر » أي يصيبك به. « فلا كاشف له إلا هو » أي لا دافع « له إلا هو وإن يردك بخير » أي يصبك برخاء ونعمة « فلا راد لفضله يصيب به » أي بكل ما أراد من الخير والشر. « من يشاء من عباده وهو الغفور » لذنوب عباده وخطاياهم « الرحيم » بأوليائه في الآخرة.
الآية: 108 ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل )
قوله تعالى: « قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق » أي القرآن. وقيل: الرسول صلى الله عليه وسلم. « فمن اهتدى » أي صدق محمدا وآمن بما جاء به. « فإنما يهتدي لنفسه » أي لخلاص نفسه. « ومن ضل » أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان. « فإنما يضل عليها » أي وبال ذلك على نفسه. « وما أنا عليكم بوكيل » أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول. قال ابن عباس: نسختها آية السيف.
الآية: 109 ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين )
قوله تعالى: « واتبع ما يوحى إليك واصبر » قيل: نسخ بآية القتال: وقيل: ليس منسوخا؛ ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية. وقال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال: ( إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) وعن أنس بمثل ذلك؛ ثم قال أنس: فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى؛ وفي ذلك يقول عبدالرحمن بن حسان:
ألا أبلغ معاوية بن حرب أمير المؤمنين نثا كلامي
بأنا صابرون ومنظروكم إلى يوم التغابن والخصام
« حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين » ابتداء وخبر؛ لأنه عز وجل لا يحكم إلا بالحق.
=============
الآيتان: 94 - 95 ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين )
قوله تعالى: « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك. قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى « فإن كنت في شك » أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك « فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك » أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبدالله بن سلام وأمثاله؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب؛ فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى. وقال القتبي: هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى: لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك ضيق الصدر؛ أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق؛ يقال: شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء. وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض؛ فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق. وقال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب. الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: ( والله لا أشك - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) أي الشاكين المرتابين. « ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين » والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
الآيتان: 96 - 97 ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم )
قوله تعالى: « إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون » تقدم القول فيه في هذه السورة. قال قتادة: أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون. « ولو جاءتهم كل آية » أنث « كلا » على المعنى؛ أي ولو جاءتهم الآيات. « حتى يروا العذاب الأليم » فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم.
الآية: 98 ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين )
قوله تعالى: « فلولا كانت قرية آمنت » قال الأخفش والكسائي: أي فهلا. وفي مصحف أبي وابن مسعود « فهلا » وأصل لولا في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره. ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ثم استثنى قوم يونس؛ فهو بحسب اللفظ استئناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل؛ لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس. والنصب في « قوم » هو الوجه، وكذلك أدخله سيبويه في ( باب مالا يكون إلا منصوبا ) . قال النحاس: « إلا قوم يونس » نصب لأنه استئناء ليس من الأول، أي لكن قوم يونس؛ هذا قول الكسائي والأخفش والفراء. ويجوز. « إلا قوم يونس » بالرفع، ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قال أبو إسحاق الزجاج قال: يكون المعنى غير قوم يونس، فلما جاء بإلا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير؛ كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا؛ فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة. وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل. وروي على ميل. وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب. وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
قلت: قول الزجاج حسن؛ فان المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه السلام: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) . والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا. والله أعلم. وقد روي معنى ما قلناه عن ابن مسعود، أن يونس لما وعدهم العذاب إلى ثلاثة أيام خرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا وفرقوا بين الأمهات والأولاد؛ وهذا يدل على أن توبتهم قبل رؤية علامة العذاب. وسيأتي مسندا مبينا في سورة « والصافات » إن شاء الله تعالى. ويكون معنى « كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا » أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم، لا أنهم رأوه عيانا ولا مخايلة؛ وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض ولا خصوص، والله أعلم. وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر. وذلك أن الله تعالى يقول: « إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا » . قال رضي الله عنه: وذلك يوم عاشوراء. « ومتعناهم إلى حين » قيل إلى أجلهم، قال السدي وقيل: إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار؛ قاله ابن عباس.
الآية: 99 ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )
قوله تعالى: « ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا » أي لاضطرهم إليه. « كلهم » تأكيد لـ « من » . « جميعا » عند سيبويه نصب على الحال. وقال الأخفش: جاء بقول جميعا بعد كل تأكيدا؛ كقوله: « لا تتخذوا إلهين اثنين » [ النحل: 51 ]
قوله تعالى: « أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين » قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس؛ فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول. وقيل: المراد بالناس هنا أبو طالب؛ وهو عن ابن عباس أيضا.
الآية: 100 ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون )
قوله تعالى: « وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » « ما » نفي؛ أي ما ينبغي أن تؤمن نفس إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته. « ويجعل الرجس » وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل « ونجعل » بالنون على التعظيم. والرجس: العذاب؛ بضم الراء وكسرها لغتان. « على الذين لا يعقلون » أمر الله عز وجل ونهيه.
الآية: 101 ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )
قوله تعالى: « قل انظروا ماذا في السماوات والأرض » أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال. وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع مستوفى. « وما تغني » « ما » نفي؛ أي ولن تغني. وقيل: استفهامية؛ التقدير أي شيء تغني. « الآيات » أي الدلالات. « والنذر » أي الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. « عن قوم لا يؤمنون » أي عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن.
الآية: 102 ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين )
قوله تعالى: « فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم » الأيام هنا بمعنى الوقائع؛ يقال: فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما؛ كقوله تعالى: « وذكره بأيام الله » . وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام. « فانتظروا » أي تربصوا؛ وهذا تهديد ووعيد. « إني معكم من المنتظرين » أي المتربصين لموعد وربي.
الآية: 103 ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين )
قوله تعالى: « ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا » أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و « ثم » معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا. « كذلك حقا علينا » أي واجبا علينا؛ لأنه أخبر ولا خلف في خبره. وقرأ يعقوب. « ثم ننجي » مخففا. وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب. « ننجي المؤمنين » مخففا؛ وشدد الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد.
الآية: 104 ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين )
قوله تعالى: « قل يا أيها الناس » يريد كفار مكة. « إن كنتم في شك من ديني » أي في ريب من دين الإسلام الذي أدعوكم إليه. « فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله » من الأوثان التي لا تعقل. « ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم » أي يميتكم ويقبض أرواحكم. « وأمرت أن أكون من المؤمنين »
أي المصدقين بآيات ربهم.
الآيتان: 105 - 106 ( وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين )
قوله تعالى: « وأن أقم وجهك للدين » « أن » عطف على « أن أكون » أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك. قال ابن عباس: عملك، وقيل: نفسك؛ أي استقم بإقبالك على ما أمرت به من الدين. « حنيفا » أي قويما به مائلا عن كل دين. قال حمزة بن عبدالمطلب ( رضي الله عنه ) :
حمدت الله حين هدى فؤادي من الإشراك للدين الحنيف
وقد مضى في « الأنعام » اشتقاقه والحمد لله. « ولا تكونن من المشركين » أي وقيل لي ولا تشرك؛ والخطاب له والمراد غيره؛ وكذلك قوله: « ولا تدع » أي لا تعبد. « من دون الله ما لا ينفعك » إن عبدته. « ولا يضرك » إن عصيته. « فإن فعلت » أي عبدت غير الله. « فإنك إذا من الظالمين » أي الواضعين العبادة في غير موضعها.
الآية: 107 ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم )
قوله تعالى: « وإن يمسسك الله بضر » أي يصيبك به. « فلا كاشف له إلا هو » أي لا دافع « له إلا هو وإن يردك بخير » أي يصبك برخاء ونعمة « فلا راد لفضله يصيب به » أي بكل ما أراد من الخير والشر. « من يشاء من عباده وهو الغفور » لذنوب عباده وخطاياهم « الرحيم » بأوليائه في الآخرة.
الآية: 108 ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل )
قوله تعالى: « قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق » أي القرآن. وقيل: الرسول صلى الله عليه وسلم. « فمن اهتدى » أي صدق محمدا وآمن بما جاء به. « فإنما يهتدي لنفسه » أي لخلاص نفسه. « ومن ضل » أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان. « فإنما يضل عليها » أي وبال ذلك على نفسه. « وما أنا عليكم بوكيل » أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول. قال ابن عباس: نسختها آية السيف.
الآية: 109 ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين )
قوله تعالى: « واتبع ما يوحى إليك واصبر » قيل: نسخ بآية القتال: وقيل: ليس منسوخا؛ ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية. وقال ابن عباس: لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال: ( إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) وعن أنس بمثل ذلك؛ ثم قال أنس: فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى؛ وفي ذلك يقول عبدالرحمن بن حسان:
ألا أبلغ معاوية بن حرب أمير المؤمنين نثا كلامي
بأنا صابرون ومنظروكم إلى يوم التغابن والخصام
« حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين » ابتداء وخبر؛ لأنه عز وجل لا يحكم إلا بالحق.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة هود للقرطبى
===========
مقدمة السورة
مكية إلا الآيات 12، 17، 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد يونس. مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية؛ وهي قوله تعالى: « وأقم الصلاة طرفي النهار » [ هود: 114 ] . وأسند أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة ) . وروى الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال: ( شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) . قال: هذا حديث حسن غريب، وقد روي شيء من هذا مرسلا. وأخرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في « نوادر الأصول » : حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا محمد بن بشر عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك قد شبت! قال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . قال أبو عبدالله: فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض؛ كما ترى الزرع الأخضر بسقائه، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض؛ وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به؛ فمنه تشيب. وقال الله تعالى: « يوما يجعل الولدان شيبا » [ المزمل: 17 ] فإنما شابوا من الفزع. وأما سورة « هود » فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرؤوا كلامه. وأما أخواتها فما أشبهها من السور؛ مثل « الحاقة » [ الحاقة: 1 ] و « سأل سائل » [ المعارج: 1 ] و « إذا الشمس كورت » [ التكوير: 1 ] و « القارعة » [ القارعة: 1 ] ، ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس. [ قلت ] وقد قيل: إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم من سورة « هود » قوله: « فاستقم كما أمرت » [ هود: 112 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال يزيد بن أبان: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي فقرأت عليه سورة « هود » فلما ختمتها قال: ( يا يزيد هذه القراءة فأين البكاء ) . قال علماؤنا: قال أبو جعفر النحاس: يقال هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد. لم تصرف؛ وهذا قول الخليل وسيبويه. وعيسي ابن عمر يقول: هذه هود بالتنوين على أنه اسم للسورة؛ وكذا إن سمى امرأة بزيد؛ لأنه لما سكن وسطه خف فصرف، فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع، فقلت: هذه هود وأنت تريد سورة هود؛ قال سيبويه: والدليل على هذا أنك تقول هذه الرحمن، فلولا أنك تريد هذه سورة الرحمن ما قلت هذه.
الآية: 1 ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )
قوله تعالى: « الر » تقدم القول فيه. « كتاب » بمعنى هذا كتاب. « أحكمت آياته » في موضع رفع نعت لكتاب. وأحسن ما قيل في معنى « أحكمت آياته » قول قتادة؛ أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل. وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل. وعلى هذا فالمعنى؛ أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ. وقد تقدم القول فيه. وقد يقع اسم الجنس على النوع؛ فيقال: أكلت طعام زيد؛ أي بعض طعامه. وقال الحسن وأبو العالية: « أحكمت آياته » بالأمر والنهي. « ثم فصلت » بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. مجاهد: أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل. وقيل: « فصلت » أنزلت نجما نجما لتتدبر. وقرأ عكرمة « فصلت » مخففا أي حكمت بالحق. « من لدن » أي من عند. « حكيم » أي محكم للأمور. « خبير » بكل كائن وغير كائن.
الآية: 2 ( ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير )
قوله تعالى: « ألا تعبدوا إلا الله » قال الكسائي والفراء: أي بألا؛ أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله. قال الزجاج: لئلا؛ أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله. قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله. « إنني لكم منه » أي من الله. « نذير » أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. « وبشير » بالرضوان والجنة لمن أطاعه. وقيل: هو من قول الله أولا وآخرا؛ أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير؛ أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال: « ويحذركم الله نفسه » [ آل عمران: 28 ] .
الآيتان: 3 - 4 ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « وأن استغفروا ربكم » عطف على الأول. « ثم توبوا إليه » أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال الفراء: « ثم » هنا بمعنى الواو؛ أي وتوبوا إليه؛ لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار. وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقد تقدم هذا المعنى في « آل عمران » مستوفى. وفي « البقرة » عند قوله: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » [ البقرة: 231 ] . وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها؛ فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب. ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر. « يمتعكم متاعا حسنا » هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع ثم سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم. وقيل: يمتعكم يعمركم؛ وأصل الإمتاع الإطالة، ومنه أمتع الله بك ومتع. وقال سهل بن عبدالله: المتاع الحسن ترك الخلق والإقبال على الحق. وقيل: هو القناعة بالموجود، وترك الحزن على المفقود. « إلى أجل مسمى » قيل: هو الموت. وقيل: القيامة. وقيل: دخول الجنة. والمتاع الحسن على هذا وقاية كل مكروه وأمر مخوف، مما يكون في القبر وغيره من أهوال القيامة وكربها؛ والأول أظهر؛ لقوله في هذه السورة: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم » [ هود: 52 ] وهذا ينقطع بالموت وهو الأجل المسمى. والله أعلم. قال مقاتل: فأبوا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والقذر والجيف والكلاب. « ويؤت كل ذي فضل فضله » أي يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله. وقيل: ويؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته « فضله » أي الجنة، وهي فضل الله؛ فالكناية في قوله: « فضله » ترجع إلى الله تعالى. وقال مجاهد: هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله فهو فضل الله، يؤتيه ذلك إذا آمن، ولا يتقبله منه إن كان كافرا. « وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير » أي يوم القيامة، وهو كبير لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير هو يوم بدر وغيره: و « تولوا » يجوز أن يكون ماضيا ويكون المعنى: وإن تولوا فقل لهم إني أخاف عليكم. ويجوز أن يكون مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين والمعنى: قل لهم إن تتولوا فإني أخاف عليكم.
قوله تعالى: « إلى الله مرجعكم » أي بعد الموت. « وهو على كل شيء قدير » من ثواب وعقاب.
الآية: 5 ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور )
قوله تعالى: « ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه » أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم. « يثنون صدورهم » أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه. نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء. وقال مجاهد: « يثنون صدورهم » شكا وامتراء. وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر. وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان؛ حكي معناه عن عبدالله بن شداد فالهاء في « منه » تعود على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية. وقيل: إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل. وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: « ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستخفوا منه » قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية. وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس: « ألا إنهم تثنوي صدورهم » بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي؛ ومعنى « تثنوي » والقراءتين الأخريين متقارب؛ لأنها لا تثنوي حتى يثنوها. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى: « ليستخفوا » أي ليتواروا عنه؛ أي عن محمد أو عن الله. « ألا حين يستغشون ثيابهم » أي يغطون رؤوسهم بثيابهم. قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه.
الآية: 6 ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )
قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » « ما » نفي و « من » زائدة و « دابة » في موضع رفع؛ التقدير: وما دابة. « إلا على الله رزقها » « على » بمعنى « من » ، أي من الله رزقها؛ يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل: « على الله » أي فضلا لا وجوبا. وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في « النساء » وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء. « رزقها » رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق. وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها؛ ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ ! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها؛ وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل. وقال تعالى: « وفي السماء رزقكم » [ الذاريات: 22 ] وليس لنا في السماء ملك؛ ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ وقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحانه الله والله أكبر! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد!. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله؛ فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له؛ فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض؛ وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر
وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين » فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله؛ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده؛ فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته؛ فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به؛ قال: ( ما أرسلت إليكم طعاما ) فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك شيء رزقكموه الله ) .
قوله تعالى: « ويعلم مستقرها » أي من الأرض حيث تأوي إليه. « ومستودعها » أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الربيع بن أنس: « مستقرها » أيام حياتها. « ومستودعها » حيث تموت وحيث تبعث. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: « مستقرها » في الرحم « ومستودعها » في الصلب. وقيل: « يعلم مستقرها » في الجنة أو النار. « ومستودعها » في القبر؛ يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار: « حسنت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 76 ] « ساءت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 66 ] . « كل في كتاب مبين » أي في اللوح المحفوظ.
الآية: 7 ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين )
قوله تعالى: « وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام » تقدم في « الأعراف » بيانه والحمد لله. « وكان عرشه على الماء » بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى؛ فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل: « وكان عرشه على الماء » فقال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وروى البخاري عن عمران بن حصين. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: ( اقبلوا البشرى بابني تميم ) قالوا: بشرتنا فأعطنا [ مرتين ] فدخل ناس من أهل اليمن فقال: ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ) قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان؟ قال: ( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ) ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب؛ وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم.
قوله تعالى: « ليبلوكم أيكم أحسن عملا » أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث. وقال قتادة: معنى « أيكم أحسن عملا » « أيكم » أتم عقلا. وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال يا روح الله قد تعبدت، فقال ( وبم تعبدت ) ؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها؛ قال: نم فقد فقت العابد بن الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: « أيكم أحسن عملا » قال: ( أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في « الكهف » هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. « ولئن قلت إنكم مبعوثون » أي دللت يا محمد على البعث. « من بعد الموت » وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت ( إن ) لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. « ليقولن الذين كفروا » فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده « ليقولن » لأن فيه ضميرا. و « سحر » أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي « إن هذا إلا سحر مبين » كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
===========
مقدمة السورة
مكية إلا الآيات 12، 17، 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد يونس. مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية؛ وهي قوله تعالى: « وأقم الصلاة طرفي النهار » [ هود: 114 ] . وأسند أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة ) . وروى الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال: ( شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) . قال: هذا حديث حسن غريب، وقد روي شيء من هذا مرسلا. وأخرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في « نوادر الأصول » : حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا محمد بن بشر عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك قد شبت! قال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . قال أبو عبدالله: فالفزع يورث الشيب وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض؛ كما ترى الزرع الأخضر بسقائه، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض؛ وإنما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به؛ فمنه تشيب. وقال الله تعالى: « يوما يجعل الولدان شيبا » [ المزمل: 17 ] فإنما شابوا من الفزع. وأما سورة « هود » فلما ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرؤوا كلامه. وأما أخواتها فما أشبهها من السور؛ مثل « الحاقة » [ الحاقة: 1 ] و « سأل سائل » [ المعارج: 1 ] و « إذا الشمس كورت » [ التكوير: 1 ] و « القارعة » [ القارعة: 1 ] ، ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس. [ قلت ] وقد قيل: إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم من سورة « هود » قوله: « فاستقم كما أمرت » [ هود: 112 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال يزيد بن أبان: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي فقرأت عليه سورة « هود » فلما ختمتها قال: ( يا يزيد هذه القراءة فأين البكاء ) . قال علماؤنا: قال أبو جعفر النحاس: يقال هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد. لم تصرف؛ وهذا قول الخليل وسيبويه. وعيسي ابن عمر يقول: هذه هود بالتنوين على أنه اسم للسورة؛ وكذا إن سمى امرأة بزيد؛ لأنه لما سكن وسطه خف فصرف، فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع، فقلت: هذه هود وأنت تريد سورة هود؛ قال سيبويه: والدليل على هذا أنك تقول هذه الرحمن، فلولا أنك تريد هذه سورة الرحمن ما قلت هذه.
الآية: 1 ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )
قوله تعالى: « الر » تقدم القول فيه. « كتاب » بمعنى هذا كتاب. « أحكمت آياته » في موضع رفع نعت لكتاب. وأحسن ما قيل في معنى « أحكمت آياته » قول قتادة؛ أي جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل. وقال ابن عباس: أي لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل. وعلى هذا فالمعنى؛ أحكم بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ. وقد تقدم القول فيه. وقد يقع اسم الجنس على النوع؛ فيقال: أكلت طعام زيد؛ أي بعض طعامه. وقال الحسن وأبو العالية: « أحكمت آياته » بالأمر والنهي. « ثم فصلت » بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. مجاهد: أحكمت جملة، ثم بينت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في التنزيل. وقيل: « فصلت » أنزلت نجما نجما لتتدبر. وقرأ عكرمة « فصلت » مخففا أي حكمت بالحق. « من لدن » أي من عند. « حكيم » أي محكم للأمور. « خبير » بكل كائن وغير كائن.
الآية: 2 ( ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير )
قوله تعالى: « ألا تعبدوا إلا الله » قال الكسائي والفراء: أي بألا؛ أي أحكمت ثم فصلت بألا تعبدوا إلا الله. قال الزجاج: لئلا؛ أي أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله. قيل: أمر رسوله أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله. « إنني لكم منه » أي من الله. « نذير » أي مخوف من عذابه وسطوته لمن عصاه. « وبشير » بالرضوان والجنة لمن أطاعه. وقيل: هو من قول الله أولا وآخرا؛ أي لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير؛ أي الله نذير لكم من عبادة غيره، كما قال: « ويحذركم الله نفسه » [ آل عمران: 28 ] .
الآيتان: 3 - 4 ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « وأن استغفروا ربكم » عطف على الأول. « ثم توبوا إليه » أي ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال الفراء: « ثم » هنا بمعنى الواو؛ أي وتوبوا إليه؛ لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار. وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقد تقدم هذا المعنى في « آل عمران » مستوفى. وفي « البقرة » عند قوله: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » [ البقرة: 231 ] . وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها؛ فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب. ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر. « يمتعكم متاعا حسنا » هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع ثم سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم. وقيل: يمتعكم يعمركم؛ وأصل الإمتاع الإطالة، ومنه أمتع الله بك ومتع. وقال سهل بن عبدالله: المتاع الحسن ترك الخلق والإقبال على الحق. وقيل: هو القناعة بالموجود، وترك الحزن على المفقود. « إلى أجل مسمى » قيل: هو الموت. وقيل: القيامة. وقيل: دخول الجنة. والمتاع الحسن على هذا وقاية كل مكروه وأمر مخوف، مما يكون في القبر وغيره من أهوال القيامة وكربها؛ والأول أظهر؛ لقوله في هذه السورة: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم » [ هود: 52 ] وهذا ينقطع بالموت وهو الأجل المسمى. والله أعلم. قال مقاتل: فأبوا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة والقذر والجيف والكلاب. « ويؤت كل ذي فضل فضله » أي يؤت كل ذي عمل من الأعمال الصالحات جزاء عمله. وقيل: ويؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته « فضله » أي الجنة، وهي فضل الله؛ فالكناية في قوله: « فضله » ترجع إلى الله تعالى. وقال مجاهد: هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله فهو فضل الله، يؤتيه ذلك إذا آمن، ولا يتقبله منه إن كان كافرا. « وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير » أي يوم القيامة، وهو كبير لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير هو يوم بدر وغيره: و « تولوا » يجوز أن يكون ماضيا ويكون المعنى: وإن تولوا فقل لهم إني أخاف عليكم. ويجوز أن يكون مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين والمعنى: قل لهم إن تتولوا فإني أخاف عليكم.
قوله تعالى: « إلى الله مرجعكم » أي بعد الموت. « وهو على كل شيء قدير » من ثواب وعقاب.
الآية: 5 ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور )
قوله تعالى: « ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه » أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفي على الله أحوالهم. « يثنون صدورهم » أي يطوونها على عداوة المسلمين ففيه هذا الحذف، قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه. نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء. وقال مجاهد: « يثنون صدورهم » شكا وامتراء. وقال الحسن: يثنونها على ما فيها من الكفر. وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه وغطى وجهه، لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان؛ حكي معناه عن عبدالله بن شداد فالهاء في « منه » تعود على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية. وقيل: إن قوما من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل. وروى ابن جرير عن محمد ابن عباد بن جعفر قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: « ألا أنهم تثنوي صدورهم ليستخفوا منه » قال: كانوا لا يجامعون النساء، ولا يأتون الغائط وهم يفضون إلى السماء، فنزلت هذه الآية. وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس: « ألا إنهم تثنوي صدورهم » بغير نون بعد الواو، في وزن تنطوي؛ ومعنى « تثنوي » والقراءتين الأخريين متقارب؛ لأنها لا تثنوي حتى يثنوها. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض يساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفي على الله تعالى: « ليستخفوا » أي ليتواروا عنه؛ أي عن محمد أو عن الله. « ألا حين يستغشون ثيابهم » أي يغطون رؤوسهم بثيابهم. قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همه.
الآية: 6 ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )
قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » « ما » نفي و « من » زائدة و « دابة » في موضع رفع؛ التقدير: وما دابة. « إلا على الله رزقها » « على » بمعنى « من » ، أي من الله رزقها؛ يدل عليه قول، مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل: « على الله » أي فضلا لا وجوبا. وقيل: وعدا منه حقا. وقد تقدم بيان هذا المعنى في « النساء » وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء. « رزقها » رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة؛ وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوصي؛ لأن كثيرا من الدواب هلك قبل أن يرزق. وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقا تعيش به فقد رزقت روحها؛ ووجه النظم به قبل: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يغفل عن تربيته، فكيف تخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ ! والدابة كل حيوان يدب. والرزق حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك؛ لأن البهائم ترزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها؛ وهكذا الأطفال ترزق اللبن ولا يقال: إن اللبن الذي في الثدي ملك للطفل. وقال تعالى: « وفي السماء رزقكم » [ الذاريات: 22 ] وليس لنا في السماء ملك؛ ولأن الرزق لو كان ملكا لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال؛ لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ وقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحانه الله والله أكبر! إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد!. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله؛ فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له؛ فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض؛ وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر
وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » بإسناده عن زيد بن أسلم: أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين » فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله؛ فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده؛ فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينها مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته؛ فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به؛ قال: ( ما أرسلت إليكم طعاما ) فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك شيء رزقكموه الله ) .
قوله تعالى: « ويعلم مستقرها » أي من الأرض حيث تأوي إليه. « ومستودعها » أي الموضع الذي تموت فيه فتدفن؛ قاله مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الربيع بن أنس: « مستقرها » أيام حياتها. « ومستودعها » حيث تموت وحيث تبعث. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: « مستقرها » في الرحم « ومستودعها » في الصلب. وقيل: « يعلم مستقرها » في الجنة أو النار. « ومستودعها » في القبر؛ يدل عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة وأهل النار: « حسنت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 76 ] « ساءت مستقرا ومقاما » [ الفرقان: 66 ] . « كل في كتاب مبين » أي في اللوح المحفوظ.
الآية: 7 ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين )
قوله تعالى: « وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام » تقدم في « الأعراف » بيانه والحمد لله. « وكان عرشه على الماء » بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى؛ فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل: « وكان عرشه على الماء » فقال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وروى البخاري عن عمران بن حصين. قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: ( اقبلوا البشرى بابني تميم ) قالوا: بشرتنا فأعطنا [ مرتين ] فدخل ناس من أهل اليمن فقال: ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ) قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان؟ قال: ( كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ) ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب؛ وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم.
قوله تعالى: « ليبلوكم أيكم أحسن عملا » أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث. وقال قتادة: معنى « أيكم أحسن عملا » « أيكم » أتم عقلا. وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال يا روح الله قد تعبدت، فقال ( وبم تعبدت ) ؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها؛ قال: نم فقد فقت العابد بن الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: « أيكم أحسن عملا » قال: ( أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في « الكهف » هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. « ولئن قلت إنكم مبعوثون » أي دللت يا محمد على البعث. « من بعد الموت » وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت ( إن ) لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. « ليقولن الذين كفروا » فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده « ليقولن » لأن فيه ضميرا. و « سحر » أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي « إن هذا إلا سحر مبين » كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 8 ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )
قوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » اللام في « لئن » للقسم، والجواب « ليقولن » . ومعنى « إلى أمة » إلى أجل معدود وحين معلوم؛ فالأمة هنا المدة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وأصل الأمة الجماعة؛ فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها. وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى: « وجد عليه أمة من الناس » [ القصص: 23 ] . والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام. والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به؛ كقوله تعالى: « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا » [ النحل: 120 ] . والأمة الدين والملة؛ كقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 22 ] . والأمة الحين والزمان؛ كقوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » وكذلك قوله تعالى: « وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه؛ يقال من ذلك: فلان حسن الأمة أي القامة. والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده ) . والأمة الأم؛ يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد.
« ليقولن ما يحبسه » يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا. « ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم » قيل: هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي. « وحاق بهم » أي نزل وأحاط. « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف.
الآيتان: 9 - 10 ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور )
قوله تعالى: « ولئن أذقنا الإنسان » الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت. وقيل: في عبدالله بن أبي أمية المخزومي. « رحمة » أي نعمة. « ثم نزعناها منه » أي سلبناه إياها. « إنه ليؤوس » أي يائس من الرحمة. « كفور » للنعم جاحد لها؛ قال ابن الأعرابي. النحاس: « ليؤوس » من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس؛ وبعضهم يقول: يئس ييئس؛ ولا يعرف في الكلام [ العربي ] إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت. على فعل يفعل؛ وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و « يؤوس » على التكثير كفخور للمبالغة.
قوله تعالى: « ولئن أذقناه نعماء » أي صحة ورخاء وسعة في الرزق. « بعد ضراء مسته » أي بعد ضر وفقر وشدة. « ليقولن ذهب السيئات عني » أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. « إنه لفرح فخور » أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه؛ يقال: رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة ( لفرح ) بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة.
الآية: 11 ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير )
قوله تعالى: « إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات » يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول؛ أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال، الفراء: هو استثناء من « ولئن أذقناه » أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن؛ فهو استثناء متصل وهو حسن. « أولئك لهم مغفرة » ابتداء وخبر « وأجر » معطوف. « كبير » صفة.
الآية: 12 ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل )
قوله تعالى: « فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك » أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا: « لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية؛ فالكلام معناه الاستفهام؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ؛ كقوله: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » [ المائدة: 67 ] . وقيل: معنى الكلام النفي مع استبعاد؛ أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك؛ وذلك أن مشركي مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم؛ فنزلت. « وضائق به صدرك » عطف على « تارك » و « صدرك » مرفوع به، والهاء في « به » تعود على « ما » أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب. وقال: « ضائق » ولم يقل ضيق ليشاكل « تارك » الذي قبله؛ ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه. « أن يقولوا » في موضع نصب؛ أي كراهية أن يقولوا، أو لئلا يقولوا كقوله: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. « لولا » أي هلا « أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » يصدقه؛ قاله عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي؛ « إنما أنت نذير » فقال الله تعالى: يا محمد إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات. « والله على كل شيء وكيل » أي حافظ وشهيد.
الآية: 13 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » « أم » بمعنى بل، وقد تقدم في « يونس » أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. « وادعوا من استطعتم من دون الله » أي من الكهنة والأعوان.
الآية: 14 ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )
قوله تعالى: « فإلم يستجيبوا لكم » « فإن لم يستجيبوا لكم » أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، « و » اعلموا « أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون » استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: « قل فأتوا » وبعده. « فإن لم يستجيبوا لكم » ولم يقل لك؛ فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للجميع، أي فليعلم للجميع « أنما أنزل بعلم الله » ؛ قاله مجاهد. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للمشركين؛ والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » . وقيل: الضمير في « لكم » للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي « فاعلموا » للمشركين.
الآية: 15 ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون )
قوله تعالى: « من كان » كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال: « نوف إليهم » قاله الفراء. وقال الزجاج: « من كان » في موضع جزم بالشرط، وجوابه « نوف إليهم » أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » [ هود: 16 ] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في « براءة » مستوفى. وقيل: المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره؛ وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء؛ وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: ( صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك ) ثم قال: ( إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار ) . رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، « من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها » وقرأ الآيتين، خرجه مسلم [ في صحيحه ] بمعناه والترمذي أيضا. وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن؛ قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها؛ فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا. وقيل: من كان يريد [ الدنيا ] بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها؛ وهذا خصوص والصحيح العموم.
قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه.
ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في « الشورى » « من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها » [ الشورى: 20 ] الآية. وكذلك « ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها » [ آل عمران: 145 ] قيدها وفسرها التي في « سبحان » « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] إلى قوله: « محظورا » [ الإسراء: 20 ] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( في قوله: « من كان يريد الحياة الدنيا » أنها منسوخة بقوله: « من كان يريد العاجلة » ) [ الإسراء: 18 ] . والصحيح ما ذكرناه؛ وأنه من باب الإطلاق والتقييد؛ ومثله قوله: « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » [ البقرة: 186 ] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] والنسخ في الأخبار لا يجوز؛ لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول؛ ويأتي في « النحل » بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية: 16 ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك » [ النساء: 48 ] الآية. فهو محمول على ما لو كانت. موافاة هذا المرئي على الكفر. وقيل: المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج؛ إما بالشفاعة، وإما بالقبضة. والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان؛ وفي الحديث الماضي يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في « النساء » ويأتي في آخر « الكهف » . « وباطل ما كانوا يعملون ابتداء وخبر، قال أبو حاتم: وحذف الهاء؛ قال النحاس: هذا لا يحتاج إلى حذف؛ لأنه بمعنى المصدر؛ أي وباطل عمله. وفي حرف أبي وعبدالله » وباطلا ما كانوا يعملون « وتكون » ما « زائدة؛ أي وكانوا يعملون باطلا.»
الآية: 17 ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )
قوله تعالى: « أفمن كان على بينة من ربه » ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. « ويتلوه شاهد منه » من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله « أفمن كان على بينة من ربه » النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله: « وضائق به صدرك » [ هود: 12 ] ؛ أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في « ربه » تعود عليه، وقوله: « ويتلوه شاهد منه » وروى عكرمة عن ابن عباس ( أنه جبريل ) ؛ وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في « منه » لله عز وجل؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد: الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة: الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية: قلت لأبي أنت الشاهد؟ فقال: وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو علي بن أبي طالب؛ روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو علي بن أبي طالب ) ؛ وروي عن علي أنه قال: ( ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان؛ فقال له رجل: أي شيء نزل فيك؟ فقال علي: « ويتلوه شاهد منه » ) . وقيل: الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره. وقيل: الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد؛ قال الحسين بن الفضل، فالهاء في « منه » للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: « ويتلوه شاهد منه » الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق؛ والهاء في « منه » لله عز وجل. وقيل: البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره. « ومن قبله » أي من قبل الإنجيل. « كتاب موسى » رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى « يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل » [ الأعراف: 157 ] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ « ومن قبله كتاب موسى » بالنصب؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي؛ يكون معطوفا على الهاء في « يتلوه » والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله ( تلا جبريل كتاب موسى على موسى ) . ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع « كتاب » على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. « إماما » نصب على الحال. « ورحمة » معطوف. « أولئك يؤمنون به » إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار؛ حكاه القشيري. والهاء في « به » يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. « ومن يكفر به » أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام. « من الأحزاب » يعني من الملل كلها؛ عن قتادة؛ وكذا قال سعيد بن جبير: « الأحزاب » أهل الأديان كلها؛ لأنهم يتحازبون. وقيل: قريش وحلفاؤهم. « فالنار موعده » أي هو من أهل النار؛ وأنشد حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . « فلا تكن في مرية » أي في شك. « »
قوله تعالى: « منه » أي من القرآن. « إنه الحق من ربك » أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. « إنه الحق » أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين.
=============
الآية: 8 ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )
قوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » اللام في « لئن » للقسم، والجواب « ليقولن » . ومعنى « إلى أمة » إلى أجل معدود وحين معلوم؛ فالأمة هنا المدة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وأصل الأمة الجماعة؛ فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها. وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى: « وجد عليه أمة من الناس » [ القصص: 23 ] . والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام. والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به؛ كقوله تعالى: « إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا » [ النحل: 120 ] . والأمة الدين والملة؛ كقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 22 ] . والأمة الحين والزمان؛ كقوله تعالى: « ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة » وكذلك قوله تعالى: « وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه؛ يقال من ذلك: فلان حسن الأمة أي القامة. والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده ) . والأمة الأم؛ يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد.
« ليقولن ما يحبسه » يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا. « ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم » قيل: هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي. « وحاق بهم » أي نزل وأحاط. « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف.
الآيتان: 9 - 10 ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور )
قوله تعالى: « ولئن أذقنا الإنسان » الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفيه نزلت. وقيل: في عبدالله بن أبي أمية المخزومي. « رحمة » أي نعمة. « ثم نزعناها منه » أي سلبناه إياها. « إنه ليؤوس » أي يائس من الرحمة. « كفور » للنعم جاحد لها؛ قال ابن الأعرابي. النحاس: « ليؤوس » من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس؛ وبعضهم يقول: يئس ييئس؛ ولا يعرف في الكلام [ العربي ] إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت. على فعل يفعل؛ وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و « يؤوس » على التكثير كفخور للمبالغة.
قوله تعالى: « ولئن أذقناه نعماء » أي صحة ورخاء وسعة في الرزق. « بعد ضراء مسته » أي بعد ضر وفقر وشدة. « ليقولن ذهب السيئات عني » أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. « إنه لفرح فخور » أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه؛ يقال: رجل فاخر إذا افتخر - وفخور للمبالغة - قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة ( لفرح ) بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة.
الآية: 11 ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير )
قوله تعالى: « إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات » يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول؛ أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال، الفراء: هو استثناء من « ولئن أذقناه » أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن؛ فهو استثناء متصل وهو حسن. « أولئك لهم مغفرة » ابتداء وخبر « وأجر » معطوف. « كبير » صفة.
الآية: 12 ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل )
قوله تعالى: « فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك » أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه. وقيل: إنهم لما قالوا: « لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية؛ فالكلام معناه الاستفهام؛ أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ؛ كقوله: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك » [ المائدة: 67 ] . وقيل: معنى الكلام النفي مع استبعاد؛ أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك؛ وذلك أن مشركي مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم؛ فنزلت. « وضائق به صدرك » عطف على « تارك » و « صدرك » مرفوع به، والهاء في « به » تعود على « ما » أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب. وقال: « ضائق » ولم يقل ضيق ليشاكل « تارك » الذي قبله؛ ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه. « أن يقولوا » في موضع نصب؛ أي كراهية أن يقولوا، أو لئلا يقولوا كقوله: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. « لولا » أي هلا « أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك » يصدقه؛ قاله عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي؛ « إنما أنت نذير » فقال الله تعالى: يا محمد إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات. « والله على كل شيء وكيل » أي حافظ وشهيد.
الآية: 13 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » « أم » بمعنى بل، وقد تقدم في « يونس » أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. « وادعوا من استطعتم من دون الله » أي من الكهنة والأعوان.
الآية: 14 ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )
قوله تعالى: « فإلم يستجيبوا لكم » « فإن لم يستجيبوا لكم » أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، « و » اعلموا « أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون » استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: « قل فأتوا » وبعده. « فإن لم يستجيبوا لكم » ولم يقل لك؛ فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للجميع، أي فليعلم للجميع « أنما أنزل بعلم الله » ؛ قاله مجاهد. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للمشركين؛ والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » . وقيل: الضمير في « لكم » للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي « فاعلموا » للمشركين.
الآية: 15 ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون )
قوله تعالى: « من كان » كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال: « نوف إليهم » قاله الفراء. وقال الزجاج: « من كان » في موضع جزم بالشرط، وجوابه « نوف إليهم » أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » [ هود: 16 ] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في « براءة » مستوفى. وقيل: المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره؛ وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء؛ وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: ( صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك ) ثم قال: ( إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار ) . رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، « من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها » وقرأ الآيتين، خرجه مسلم [ في صحيحه ] بمعناه والترمذي أيضا. وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن؛ قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها؛ فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا. وقيل: من كان يريد [ الدنيا ] بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها؛ وهذا خصوص والصحيح العموم.
قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه.
ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في « الشورى » « من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها » [ الشورى: 20 ] الآية. وكذلك « ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها » [ آل عمران: 145 ] قيدها وفسرها التي في « سبحان » « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] إلى قوله: « محظورا » [ الإسراء: 20 ] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( في قوله: « من كان يريد الحياة الدنيا » أنها منسوخة بقوله: « من كان يريد العاجلة » ) [ الإسراء: 18 ] . والصحيح ما ذكرناه؛ وأنه من باب الإطلاق والتقييد؛ ومثله قوله: « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » [ البقرة: 186 ] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] والنسخ في الأخبار لا يجوز؛ لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول؛ ويأتي في « النحل » بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية: 16 ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك » [ النساء: 48 ] الآية. فهو محمول على ما لو كانت. موافاة هذا المرئي على الكفر. وقيل: المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج؛ إما بالشفاعة، وإما بالقبضة. والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان؛ وفي الحديث الماضي يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في « النساء » ويأتي في آخر « الكهف » . « وباطل ما كانوا يعملون ابتداء وخبر، قال أبو حاتم: وحذف الهاء؛ قال النحاس: هذا لا يحتاج إلى حذف؛ لأنه بمعنى المصدر؛ أي وباطل عمله. وفي حرف أبي وعبدالله » وباطلا ما كانوا يعملون « وتكون » ما « زائدة؛ أي وكانوا يعملون باطلا.»
الآية: 17 ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )
قوله تعالى: « أفمن كان على بينة من ربه » ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. « ويتلوه شاهد منه » من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله « أفمن كان على بينة من ربه » النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله: « وضائق به صدرك » [ هود: 12 ] ؛ أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في « ربه » تعود عليه، وقوله: « ويتلوه شاهد منه » وروى عكرمة عن ابن عباس ( أنه جبريل ) ؛ وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في « منه » لله عز وجل؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد: الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة: الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية: قلت لأبي أنت الشاهد؟ فقال: وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو علي بن أبي طالب؛ روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو علي بن أبي طالب ) ؛ وروي عن علي أنه قال: ( ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان؛ فقال له رجل: أي شيء نزل فيك؟ فقال علي: « ويتلوه شاهد منه » ) . وقيل: الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره. وقيل: الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد؛ قال الحسين بن الفضل، فالهاء في « منه » للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: « ويتلوه شاهد منه » الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق؛ والهاء في « منه » لله عز وجل. وقيل: البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره. « ومن قبله » أي من قبل الإنجيل. « كتاب موسى » رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى « يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل » [ الأعراف: 157 ] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ « ومن قبله كتاب موسى » بالنصب؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي؛ يكون معطوفا على الهاء في « يتلوه » والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله ( تلا جبريل كتاب موسى على موسى ) . ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع « كتاب » على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. « إماما » نصب على الحال. « ورحمة » معطوف. « أولئك يؤمنون به » إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار؛ حكاه القشيري. والهاء في « به » يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. « ومن يكفر به » أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام. « من الأحزاب » يعني من الملل كلها؛ عن قتادة؛ وكذا قال سعيد بن جبير: « الأحزاب » أهل الأديان كلها؛ لأنهم يتحازبون. وقيل: قريش وحلفاؤهم. « فالنار موعده » أي هو من أهل النار؛ وأنشد حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . « فلا تكن في مرية » أي في شك. « »
قوله تعالى: « منه » أي من القرآن. « إنه الحق من ربك » أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. « إنه الحق » أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآيتان: 18 - 19 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )
قوله تعالى: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. « أولئك يعرضون على ربهم » أي يحاسبهم على أعمالهم « ويقول الأشهاد » يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان: سألت الأعمش عن ( الأشهاد ) فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة: عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: ( وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . « ألا لعنة الله على الظالمين » أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها..
قوله تعالى: « الذين يصدون عن سبيل الله » يجوز أن تكون « الذين » في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. « ويبغونها عوجا » أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. « وهم بالآخرة هم كافرون » أعاد لفظ « هم » تأكيدا.
الآية: 20 ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون )
قوله تعالى: « أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض » أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. « وما كان لهم من دون الله من أولياء » يعني أنصارا، و « من » زائدة. وقيل: « ما » بمعنى الذي تقديره: أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. « يضاعف لهم العذاب » أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. « ما كانوا يستطيعون السمع » « ما » في موضع نصب على أن يكون المعنى: بما كانوا يستطيعون السمع. « وما كانوا يبصرون » ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول: جزيته ما فعل وبما فعل؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى؛ وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ويجوز أن تكون « ما » ظرفا، والمعنى: يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون « ما » نافية لا موضع لها؛ إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف؛ والمعنى: ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه. قال النحاس: وهذا معروف في كلام العرب؛ يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه.
الآيتان: 21 - 22 ( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون )
قوله تعالى: « أولئك الذين خسروا أنفسهم » ابتداء وخبر. « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. « لا جرم » للعلماء فيها أقوال؛ فقال الخليل وسيبويه: « لا جرم » بمعنى حق، فـ « لا » و « جرم » عندهما كلمة واحدة، و « أن » عندهما في موضع رفع؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد؛ حكاه النحاس. قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا؛ ذكره الثعلبي. وقال الزجاج: « لا » ها هنا نفي وهو رد لقولهم: إن الأصنام تنفعهم؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و « أن » منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك؛ وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا
أي بما كسبت. وقال الكسائي: معنى « لا جرم » لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل: المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله؛ والجرم القطع؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت، وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع؛ قاله الجوهري. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم؛ ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال: وناس من العرب. يقولون: لا جرم بضم الجيم.
الآية: 23 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » « الذين » اسم « إن » و « آمنوا » صلة، أي صدقوا. « وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم » عطف على الصلة. قال ابن عباس: ( أخبتوا أنابوا ) . مجاهد: أطاعوا. قتادة: خشعوا وخضعوا. مقاتل: أخلصوا. الحسن: الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة: فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. « إلى ربهم » قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى: وجهوا إخباتهم إلى ربهم. « أولئك » خبر « إن » .
الآية: 24 ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « مثل الفريقين » ابتداء، والخبر « كالأعمى » وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى. النحاس: التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير؛ ولهذا قال: « هل يستويان » فرد إلى الفريقين وهما اثنان روي معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك: الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل: المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع. « مثلا » منصوب على التمييز. « أفلا تذكرون » في الوصفين وتنظرون.
الآيتان: 25 - 26 ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه » ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. « إني » أي فقال: إني؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « أني » بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل « إنه » لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء » [ الأعراف: 145 ] ثم قال: « فخذها بقوة » [ الأعراف 145 ] .
قوله تعالى: « ألا تعبدوا إلا الله » أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ « إني » بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. « إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم » .
الآية: 27 ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين )
قوله تعالى: « فقال الملأ » قال أبو إسحاق الزجاج: الملأ الرؤساء؛ أي هم مليؤون بما يقولون. وقد تقدم هذا في « البقرة » وغيرها. « ما نراك إلا بشرا » أي آدميا. « مثلنا » نصب على الحال. و « مثلنا » مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر:
يا رب مثلك في النساء غريرة
قوله تعالى: « وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا » أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل؛ مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل: والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث ( أنهم كانوا حاكة وحجامين ) . وكان هذا جهلا منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.
قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم؛ فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم؛ قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غلبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: من السفلة؟ قال: الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( الأرذلون الحاكة والحجامون ) . يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب.
إذا قالت المرأة لزوجها: يا سَفِلة، فقال: إن كنت منهم فأنت طالق؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت: إن كنت سفلة فأنت طالق؛ قال الترمذي: ما صناعتك؟ قال: سماك؛ قال: سفلة والله، سفلة والله سفلة. قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء.
قوله تعالى: « بادي الرأي » أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال: بدا يبدو. إذا ظهر؛ كما قال:
فاليوم حين بدون للنظار
ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول. وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون « بادي الرأي » من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ: « بادئ الرأي » أي أول الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف « في » كما قال عز وجل: « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] . « وما نرى لكم علينا من فضل » أي في اتباعه؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم « بل نظنكم كاذبين » الخطاب لنوح ومن آمن معه.
الآية: 28 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي على يقين؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على معجزة؛ وقد تقدم في « الأنعام » هذا المعنى. « وآتاني رحمة من عنده » أي نبوة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ ( وهي رحمة على الخلق ) . وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. « فعميت عليكم » أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة؛ فقيل: هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها؛ فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي « فعميت » بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أبي « فعماها » ذكرها الماوردي. « أنلزمكموها » قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء « أنلزمكموها » بإسكان الميم الأولى تخفيفا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقال النحاس: ويجوز على قول يونس [ في غير القرآن ] أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر؛ كما تقول: أنلزمكم ذلك. « وأنتم لها كارهون » أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
الآية: 29 ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون )
قوله تعالى: « ويا قوم لا أسألكم عليه مالا » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي « مالا » فيثقل عليكم. « إن أجري إلا على الله » أي ثوابي في تبليغ الرسالة. « وما أنا بطارد الذين آمنوا » سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في « الأنعام » بيانه؛ فأجابهم بقوله: « وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم » يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. « ولكني أراكم قوما تجهلون » في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم.
الآية: 30 ( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « ويا قوم من ينصرني من الله » قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. « إن طردتهم » أي لأجل إيمانهم. « أفلا تتذكرون » أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تَذَكرون.
الآية: 31 ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )
قوله تعالى: « ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب » أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. « ولا أقول إني ملك » أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » . « ولا أقول للذي تزدري أعينكم » أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير
قوله تعالى: « لن يؤتيهم الله خيرا » أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم.
قوله تعالى: « الله أعلم بما في أنفسهم » فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. « إني إذا لمن الظالمين » أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و « إذا » ملغاة؛ لأنها متوسطة.
الآية: 32 ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )
قوله تعالى: « قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا » أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير؛ وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس « فأكثرت جدلنا » ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. « فأتنا بما تعدنا » أي من العذاب. « إن كنت من الصادقين » في قولك.
الآية: 33 ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين )
قوله تعالى: « قال إنما يأتيكم به الله إن شاء » أي إن أراد إهلاككم عذبكم. « وما أنتم بمعجزين » أي بفائتين. وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي.
الآية: 34 ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون )
قوله تعالى: « ولا ينفعكم نصحي » أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. « إن أردت أن أنصح لكم » أي لأنكم لا تقبلون نصحا؛ وقد تقدم في « براءة » معنى النصح لغة. « »
قوله تعالى: « إن كان الله يريد أن يغويكم » أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي؛ وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك؛ فرد الله عليهم بقوله: « إن كان الله يريد أن يغويكم » . وقد مضى هذا المعنى في « الفاتحة » وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في « الأعراف » في إغواء الله تعالى إياه حيث قال: « فبما أغويتني » [ الأعراف: 16 ] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام: « إن كان الله يريد أن يغويكم » فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمضل؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل: « أن يغويكم » يهلككم؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري: « يغويكم » يهلككم بعذابه؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته؛ ومنه « فسوف يلقون غيا » . [ مريم: 59 ] . « هو ربكم » فإليه الإغواء، وإليه الهداية. « وإليه ترجعون » تهديد ووعيد.
الآية: 35 ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: ( هو من محاورة نوح لقومه ) وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم. « قل إن افتريته » أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. « فعلي إجرامي » أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى: أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى؛ عن النحاس وغيره. قال:
طريد عشيرة ورهين جرم بما جرمت يدي وجنى لساني
ومن قرأ « أجرامي » بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم؛ وذكره النحاس أيضا. « وأنا بريء مما تجرمون » أي من الكفر والتكذيب.
الآية: 36 ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )
قوله تعالى: « وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « أنه » في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بـ « أنه » . و « آمن » في موضع نصب بـ « يؤمن » ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] الآيتين. وقيل: إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: اعطني حجرا؛ فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه؛ فأوحى الله تعالى إليه « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » . « فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا؛ أي حزينا. والبؤس الحزن؛ ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة.
الآية: 37 ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )
قوله تعالى: « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. « بأعيننا » أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( بحراستنا ) ؛ والمعنى واحد؛ فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى: « فنعم القادرون » [ المرسلات: 23 ] « فنعم الماهدون » « وإنا لموسعون » [ الذاريات: 47 ] . وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين؛ كما قال: « ولتصنع على عيني » وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف؛ لا رب غيره. وقيل: المعنى « بأعيننا » أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل: « بأعيننا » أي بعلمنا؛ قاله مقاتل: وقال الضحاك وسفيان: « بأعيننا » بأمرنا. وقيل: بوحينا. وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. « ووحينا » أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها. « ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون » أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.
=============
الآيتان: 18 - 19 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )
قوله تعالى: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. « أولئك يعرضون على ربهم » أي يحاسبهم على أعمالهم « ويقول الأشهاد » يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان: سألت الأعمش عن ( الأشهاد ) فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة: عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: ( وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . « ألا لعنة الله على الظالمين » أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها..
قوله تعالى: « الذين يصدون عن سبيل الله » يجوز أن تكون « الذين » في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. « ويبغونها عوجا » أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. « وهم بالآخرة هم كافرون » أعاد لفظ « هم » تأكيدا.
الآية: 20 ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون )
قوله تعالى: « أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض » أي فائتين من عذاب الله. وقال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم. « وما كان لهم من دون الله من أولياء » يعني أنصارا، و « من » زائدة. وقيل: « ما » بمعنى الذي تقديره: أولئك لم يكونوا معجزين، لا هم ولا الذين كانوا لهم من أولياء من دون الله؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. « يضاعف لهم العذاب » أي على قدر كفرهم ومعاصيهم. « ما كانوا يستطيعون السمع » « ما » في موضع نصب على أن يكون المعنى: بما كانوا يستطيعون السمع. « وما كانوا يبصرون » ولم يستعملوا ذلك في استماع الحق وإبصاره. والعرب تقول: جزيته ما فعل وبما فعل؛ فيحذفون الباء مرة ويثبتونها أخرى؛ وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ويجوز أن تكون « ما » ظرفا، والمعنى: يضاعف لهم أبدا، أي وقت استطاعتهم السمع والبصر، والله سبحانه يجعلهم في جهنم مستطيعي ذلك أبدا. ويجوز أن تكون « ما » نافية لا موضع لها؛ إذ الكلام قد تم قبلها، والوقف على العذاب كاف؛ والمعنى: ما كانوا يستطيعون في الدنيا أن يسمعوا سمعا ينتفعون به، ولا أن يبصروا إبصار مهتد. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع؛ لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ. وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفقهوا عنه. قال النحاس: وهذا معروف في كلام العرب؛ يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه.
الآيتان: 21 - 22 ( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون )
قوله تعالى: « أولئك الذين خسروا أنفسهم » ابتداء وخبر. « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي ضاع عنهم افتراؤهم وتلف. « لا جرم » للعلماء فيها أقوال؛ فقال الخليل وسيبويه: « لا جرم » بمعنى حق، فـ « لا » و « جرم » عندهما كلمة واحدة، و « أن » عندهما في موضع رفع؛ وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد؛ حكاه النحاس. قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة، وهو قول الفراء أيضا؛ ذكره الثعلبي. وقال الزجاج: « لا » ها هنا نفي وهو رد لقولهم: إن الأصنام تنفعهم؛ كأن المعنى لا ينفعهم ذلك، وجرم بمعنى كسب؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، و « أن » منصوبة بجرم، كما تقول كسب جفاؤك زيدا غضبه عليك؛ وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا
أي بما كسبت. وقال الكسائي: معنى « لا جرم » لا صد ولا منع عن أنهم. وقيل: المعنى لا قطع قاطع، فحذف الفاعل حين كثر استعماله؛ والجرم القطع؛ وقد جرم النخل واجترمه أي صرمه فهو جارم، وقوم وجرم وجرام وهذا زمن الجرام والجرام، وجرمت صوف الشاة أي جززته، وقد جرمت منه أي أخذت منه؛ مثل جلمت الشيء جلما أي قطعت، وجلمت الجزور أجلمها جلما إذا أخذت ما على عظامها من اللحم، وأخذت الشيء بجلمته - ساكنة اللام - إذا أخذته أجمع، وهذه جلمة الجزور - بالتحريك - أي لحمها أجمع؛ قاله الجوهري. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم؛ ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرأنهم بغير ميم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون لا ذا جرم، قال: وناس من العرب. يقولون: لا جرم بضم الجيم.
الآية: 23 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )
قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » « الذين » اسم « إن » و « آمنوا » صلة، أي صدقوا. « وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم » عطف على الصلة. قال ابن عباس: ( أخبتوا أنابوا ) . مجاهد: أطاعوا. قتادة: خشعوا وخضعوا. مقاتل: أخلصوا. الحسن: الإخبات الخشوع للمخافة الثابتة في القلب، وأصل الإخبات الاستواء، من الخبت وهو الأرض المستوية الواسعة: فالإخبات الخشوع والاطمئنان، أو الإنابة إلى الله عز وجل المستمرة ذلك على استواء. « إلى ربهم » قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقد يكون المعنى: وجهوا إخباتهم إلى ربهم. « أولئك » خبر « إن » .
الآية: 24 ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « مثل الفريقين » ابتداء، والخبر « كالأعمى » وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى. النحاس: التقدير مثل فريق الكافر كالأعمى والأصم، ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير؛ ولهذا قال: « هل يستويان » فرد إلى الفريقين وهما اثنان روي معناه عن قتادة وغيره. قال الضحاك: الأعمى والأصم مثل للكافر، والسميع والبصير مثل للمؤمن. وقيل: المعنى هل يستوي الأعمى والبصير، وهل يستوي الأصم والسميع. « مثلا » منصوب على التمييز. « أفلا تذكرون » في الوصفين وتنظرون.
الآيتان: 25 - 26 ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه » ذكر سبحانه قصص الأنبياء عليهم السلام للنبي صلى الله عليه وسلم تنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم. « إني » أي فقال: إني؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « أني » بفتح الهمزة؛ أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين. ولم يقل « إنه » لأنه رجع من الغيبة إلى خطاب نوح لقومه؛ كما قال: « وكتبنا له في الألواح من كل شيء » [ الأعراف: 145 ] ثم قال: « فخذها بقوة » [ الأعراف 145 ] .
قوله تعالى: « ألا تعبدوا إلا الله » أي اتركوا الأصنام فلا تعبدوها، وأطيعوا الله وحده. ومن قرأ « إني » بالكسر جعله معترضا في الكلام، والمعنى أرسلناه بألا تعبدوا إلا الله. « إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم » .
الآية: 27 ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين )
قوله تعالى: « فقال الملأ » قال أبو إسحاق الزجاج: الملأ الرؤساء؛ أي هم مليؤون بما يقولون. وقد تقدم هذا في « البقرة » وغيرها. « ما نراك إلا بشرا » أي آدميا. « مثلنا » نصب على الحال. و « مثلنا » مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدر فيه التنوين؛ كما قال الشاعر:
يا رب مثلك في النساء غريرة
قوله تعالى: « وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا » أراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل؛ مثل كلب وأكلب وأكالب. وقيل: والأراذل جمع الأرذل، كأساود جمع الأسود من الحيات. والرذل النذل؛ أرادوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة؛ ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. قال النحاس: الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات. وفي الحديث ( أنهم كانوا حاكة وحجامين ) . وكان هذا جهلا منهم؛ لأنهم عابوا نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لا عيب فيه؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعا، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان؛ لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم.
قلت: الأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء؛ كما قال هرقل لأبي سفيان: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم؛ فقال: هم أتباع الرسل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير؛ والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
اختلف العلماء في تعيين السفلة على أقوال؛ فذكر ابن المبارك عن سفيان أن السفلة هم الذين يتقلسون، ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة الذين يأكلون لدنيا بدينهم؛ قيل له: فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. وسئل علي رضي الله عنه عن السفلة فقال: الذين إذا اجتمعوا غلبوا؛ وإذا تفرقوا لم يعرفوا. وقيل لمالك بن أنس رضي الله عنه: من السفلة؟ قال: الذي يسب الصحابة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( الأرذلون الحاكة والحجامون ) . يحيى بن أكثم: الدباغ والكناس إذا كان من غير العرب.
إذا قالت المرأة لزوجها: يا سَفِلة، فقال: إن كنت منهم فأنت طالق؛ فحكى النقاش أن رجلا جاء إلى الترمذي فقال: إن امرأتي قالت لي يا سفلة، فقلت: إن كنت سفلة فأنت طالق؛ قال الترمذي: ما صناعتك؟ قال: سماك؛ قال: سفلة والله، سفلة والله سفلة. قلت: وعلى ما ذكره ابن المبارك عن سفيان لا تطلق، وكذلك على قول مالك، وابن الأعرابي لا يلزمه شيء.
قوله تعالى: « بادي الرأي » أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك. يقال: بدا يبدو. إذا ظهر؛ كما قال:
فاليوم حين بدون للنظار
ويقال للبرية بادية لظهورها. وبدا لي أن أفعل كذا، أي ظهر لي رأي غير الأول. وقال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. ويجوز أن يكون « بادي الرأي » من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ: « بادئ الرأي » أي أول الرأي؛ أي اتبعوك حين ابتدؤوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك؛ ولا يختلف المعنى ههنا بالهمز وترك الهمز. وانتصب على حذف « في » كما قال عز وجل: « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] . « وما نرى لكم علينا من فضل » أي في اتباعه؛ وهذا جحد منهم لنبوته صلى الله عليه وسلم « بل نظنكم كاذبين » الخطاب لنوح ومن آمن معه.
الآية: 28 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي على يقين؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على معجزة؛ وقد تقدم في « الأنعام » هذا المعنى. « وآتاني رحمة من عنده » أي نبوة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ ( وهي رحمة على الخلق ) . وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. « فعميت عليكم » أي عميت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي علي كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فعميت الرحمة؛ فقيل: هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تعمى إنما يعمى عنها؛ فهو كقولك: أدخلت في القلنسوة رأسي، ودخل الخف في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي « فعميت » بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله، أي فعماها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أبي « فعماها » ذكرها الماوردي. « أنلزمكموها » قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأوجبها عليكم؟ ! وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يرد عليهم. وحكى الكسائي والفراء « أنلزمكموها » بإسكان الميم الأولى تخفيفا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقال النحاس: ويجوز على قول يونس [ في غير القرآن ] أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر؛ كما تقول: أنلزمكم ذلك. « وأنتم لها كارهون » أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
الآية: 29 ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون )
قوله تعالى: « ويا قوم لا أسألكم عليه مالا » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرا أي « مالا » فيثقل عليكم. « إن أجري إلا على الله » أي ثوابي في تبليغ الرسالة. « وما أنا بطارد الذين آمنوا » سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدم في « الأنعام » بيانه؛ فأجابهم بقوله: « وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم » يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإعظام لهم بلقاء الله عز وجل، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. « ولكني أراكم قوما تجهلون » في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم.
الآية: 30 ( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « ويا قوم من ينصرني من الله » قال الفراء: أي يمنعني من عذابه. « إن طردتهم » أي لأجل إيمانهم. « أفلا تتذكرون » أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تَذَكرون.
الآية: 31 ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين )
قوله تعالى: « ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب » أخبر بتذلله وتواضعه لله عز وجل، وأنه لا يدعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل. « ولا أقول إني ملك » أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » . « ولا أقول للذي تزدري أعينكم » أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم. والدال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تزتري، ولكن التاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. ويقال: أزريت عليه إذا عبته. وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير
قوله تعالى: « لن يؤتيهم الله خيرا » أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم.
قوله تعالى: « الله أعلم بما في أنفسهم » فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. « إني إذا لمن الظالمين » أي إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. و « إذا » ملغاة؛ لأنها متوسطة.
الآية: 32 ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )
قوله تعالى: « قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا » أي خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها. والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة؛ مشتق من الجدل وهو شدة الفتل؛ ويقال للصقر أيضا أجدل لشدته في الطير؛ وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » بأشبع من هذا. وقرأ ابن عباس « فأكثرت جدلنا » ذكره النحاس. والجدل في الدين محمود؛ ولهذا جادل نوج والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم. « فأتنا بما تعدنا » أي من العذاب. « إن كنت من الصادقين » في قولك.
الآية: 33 ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين )
قوله تعالى: « قال إنما يأتيكم به الله إن شاء » أي إن أراد إهلاككم عذبكم. « وما أنتم بمعجزين » أي بفائتين. وقيل: بغالبين بكثرتكم، لأنهم أعجبوا بذلك؛ كانوا ملؤوا الأرض سهلا وجبلا على ما يأتي.
الآية: 34 ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون )
قوله تعالى: « ولا ينفعكم نصحي » أي إبلاغي واجتهادي في إيمانكم. « إن أردت أن أنصح لكم » أي لأنكم لا تقبلون نصحا؛ وقد تقدم في « براءة » معنى النصح لغة. « »
قوله تعالى: « إن كان الله يريد أن يغويكم » أي يضلكم. وهذا مما يدل على بطلان مذهب المعتزلة والقدرية ومن وافقهما؛ إذ زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي؛ وأن يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك؛ فرد الله عليهم بقوله: « إن كان الله يريد أن يغويكم » . وقد مضى هذا المعنى في « الفاتحة » وغيرها. وقد أكذبوا شيخهم اللعين إبليس على ما بيناه في « الأعراف » في إغواء الله تعالى إياه حيث قال: « فبما أغويتني » [ الأعراف: 16 ] ولا محيص لهم عن قول نوح عليه السلام: « إن كان الله يريد أن يغويكم » فأضاف إغواءهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمضل؛ سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وقيل: « أن يغويكم » يهلككم؛ لأن الإضلال يفضي إلى الهلاك. الطبري: « يغويكم » يهلككم بعذابه؛ حكي عن طيء أصبح فلان غاويا أي مريضا، وأغويته أهلكته؛ ومنه « فسوف يلقون غيا » . [ مريم: 59 ] . « هو ربكم » فإليه الإغواء، وإليه الهداية. « وإليه ترجعون » تهديد ووعيد.
الآية: 35 ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. افترى أفتعل؛ أي اختلق القرآن من قبل نفسه، وما أخبر به عن نوح وقومه؛ قال مقاتل. وقال ابن عباس: ( هو من محاورة نوح لقومه ) وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه؛ فالخطاب منهم ولهم. « قل إن افتريته » أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة. « فعلي إجرامي » أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي. والإجرام مصدر أجرم؛ وهو اقتراف السيئة. وقيل المعنى: أي جزاء جرمي وكسبي. وجرم وأجرم بمعنى؛ عن النحاس وغيره. قال:
طريد عشيرة ورهين جرم بما جرمت يدي وجنى لساني
ومن قرأ « أجرامي » بفتح الهمزة ذهب إلى أنه جمع جرم؛ وذكره النحاس أيضا. « وأنا بريء مما تجرمون » أي من الكفر والتكذيب.
الآية: 36 ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )
قوله تعالى: « وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « أنه » في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بـ « أنه » . و « آمن » في موضع نصب بـ « يؤمن » ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] الآيتين. وقيل: إن رجلا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحا قال لأبيه: اعطني حجرا؛ فأعطاه حجرا، ورمى به نوحا عليه السلام فأدماه؛ فأوحى الله تعالى إليه « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » . « فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » أي فلا تغتم بهلاكهم حتى تكون بائسا؛ أي حزينا. والبؤس الحزن؛ ومنه قول الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته فلم أبتئس والرزء فيه جليل
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة.
الآية: 37 ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون )
قوله تعالى: « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. « بأعيننا » أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الربيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( بحراستنا ) ؛ والمعنى واحد؛ فعبر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى: « فنعم القادرون » [ المرسلات: 23 ] « فنعم الماهدون » « وإنا لموسعون » [ الذاريات: 47 ] . وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين؛ كما قال: « ولتصنع على عيني » وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف؛ لا رب غيره. وقيل: المعنى « بأعيننا » أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على حفظك ومعونتك؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل: « بأعيننا » أي بعلمنا؛ قاله مقاتل: وقال الضحاك وسفيان: « بأعيننا » بأمرنا. وقيل: بوحينا. وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. « ووحينا » أي على ما أوحينا إليك، من صنعتها. « ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون » أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 38 ( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون )
قوله تعالى: « ويصنع الفلك » أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العربي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « فاصنع الفلك » قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: « بلى فإن ذلك بعيني » فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة.
وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال: ( اتخذ نوح السفينة في سنتين ) . زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج ) . وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: ( قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ) . وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما « سلام على نوح في العالمين » [ الصافات: 79 ] لم تضراه؛ ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة ) . قوله تعالى: « وكلما » ظرف. « مر عليه ملأ من قومه سخروا منه » قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني: لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: ( ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر ) ؛ فلذلك سخروا منه؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان. « إن تسخروا منا فإنا » أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. « فإنا نسخر منكم » غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
الآية: 39 ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )
قوله تعالى: « فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه » تهديد، و « من » متصلة بـ « سوف تعلمون » و « تعلمون » هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون « من » استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب؟. وقيل: « من » في موضع رفع بالابتداء و « يأتيه » الخبر، و « يخزيه » صفة لـ « عذاب » . وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون؛ وقال من قال: « ستعلمون » أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى « ويحل عليه » أي يجب عليه وينزل به. « عذاب مقيم » أي دائم، يريد عذاب الآخرة.
الآية: 40 ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل )
قوله تعالى: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول: أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال: جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا.
الرابع: أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم: نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس: أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية:
فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال حتى علاها
السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة « عين الوردة » رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له: « عين وردة » وقال ابن عباس أيضا: ( فار تنور آدم بالهند ) . قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال: « ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا » [ القمر:11 - 12 ] . فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل؛ لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء. وقيل: معنى « فار التنور » التمثيل لحضور العذاب؛ كقولهم: حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال: فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال شاعرهم:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
قوله تعالى: « قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين » يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص « من كل زوجين اثنين » بتنوين « كل » أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى: « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » . [ النجم: 45 ] . ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا؛ قال الله تعالى: « وأنبتت من كل زوج بهيج » [ الحج: 5 ] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبو بذاك معا
أراد كل ضرب ولون. و « ومن كل زوجين » في موضع نصب بـ « احمل » . « اثنين » تأكيد. « وأهلك » أي وأحمل أهلك. « إلا من » « من » في موضع نصب بالاستثناء. « عليه القول » منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. « ومن آمن » قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ « من » في موضع نصب بـ « احمل » . « وما آمن معه إلا قليل » قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل ) . وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و « قليل » رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول « إلا » و « ما » لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم.
الآية: 41 ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم )
قوله تعالى: « وقال اركبوا فيها » أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و « في » للتأكيد كقوله تعالى: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] وفائدة « في » أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم؛ فذلك ستة أشهر؛ وقال قتادة وزاد؛ وهو يوم عاشوراء؛ فقال لمن كان معه: من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه ) . وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه.
قوله تعالى: « بسم الله مُجراها ومُرساها » قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم « مجراها » مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: « بسم الله مَجريها » بفتح الميم و « مُرساها » بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب « بسم الله مَجراها ومَرساها » بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: « بسم الله مُجريها ومُرسيها » نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم « وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون » [ الزمر: 67 ] « بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم » . وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل؛ كما بيناه في البسملة؛ والحمد لله.
قوله تعالى: « إن ربي لغفور رحيم » أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: ( لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه؟ قال: سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: ( وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار ) ؛ قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال: ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي؟ قال: أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: ( إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل ) ؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات.
الآية: 42 ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين )
قوله تعالى: « وهي تجري بهم في موج كالجبال » الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. « ونادى نوح ابنه » قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه: « ونادى نوح ابنهُ » بحذف الواو من « ابنه » في اللفظ، وأنشد:
له زجل كأنه صوت حاد
فأما « ونادى نوح ابْنَهَ وَكان » فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد « ابنها » فحذف الألف كما تقول: « ابنه » ؛ فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها « وكان في معزل » أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له: « ولا تكن مع الكافرين » وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم: « يا بني اركب معنا » بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل « يا بني » أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا: « يا ويلتا » [ هود: 72 ] وكما قال الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.
الآية: 43 ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )
قوله تعالى: « قال سآوي » أي ارجع وانضم. « إلى جبل يعصمني » أي يمنعني « من الماء » فلا أغرق. « قال لا عاصم اليوم من أمر الله » أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب « عاصم » على التبرئة. ويجوز « لا عاصم اليوم » تكون لا بمعني ليس. « إلا من رحم » في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل: « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] أي مدفوق؛ فالاستثناء. على هذا متصل؛ قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا. وقال آخر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون « من » في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا « إنه » بمعنى « لكن » « وحال بينهما الموج » يعني بين نوح وابنه. « فكان من المغرقين » قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه: « يا بني اركب معنا » فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه « طور سيناء » .
=============
الآية: 38 ( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون )
قوله تعالى: « ويصنع الفلك » أي وطفق يصنع. قال زيد بن أسلم: مكث نوح صلى الله عليه وسلم مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. وروى ابن القاسم عن ابن أشرس عن مالك قال: بلغني أن قوم نوح ملؤوا الأرض، حتى ملؤوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، ولا هؤلاء أن يصعدوا إلى هؤلاء فمكث نوح يغرس الشجر مائة عام لعمل السفينة، ثم جمعها ييبسها مائة عام، وقومه يسخرون؛ وذلك لما رأوه يصنع من ذلك، حتى كان من قضاء الله فيهم ما كان. وروي عن عمرو بن الحارث قال: عمل نوح سفينته ببقاع دمشق، وقطع خشبها من جبل لبنان. وقال، القاضي أبو بكر بن العربي: لما استنقذ الله سبحانه وتعالى من في الأصلاب والأرحام من المؤمنين أوحى الله إليه. « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » « فاصنع الفلك » قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: « بلى فإن ذلك بعيني » فأخذ القدوم فجعله بيده، وجعلت يده لا تخطئ، فجعلوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؛ فعملها في أربعين سنة.
وحكى الثعلبي وأبو نصر القشيري عن، ابن عباس قال: ( اتخذ نوح السفينة في سنتين ) . زاد الثعلبي: وذلك لأنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر. وقال كعب: بناها في ثلاثين سنة، والله أعلم. المهدوي: وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلمه كيف يصنعها. واختلفوا في طولها وعرضها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما ( كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا؛ وكانت من خشب الساج ) . وكذا قال الكلبي وقتادة وعكرمة كان طولها ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب. قال سلمان الفارسي. وقال الحسن البصري: إن طول السفينة ألف ذراع ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وحكاه الثعلبي في كتاب العرائس. وروى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: ( قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب من رأسه، وقد شاب؛ فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا بل مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال: أخبرنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، طبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. وذكر باقي الخير على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ) . وقال الكلبي فيما حكاه النقاش: ودخل الماء فيها أربعة أذرع، وكان لها ثلاثة أبواب؛ باب فيه السباع والطير، وباب فيه الوحش، وباب فيه الرجال والنساء. ابن عباس جعلها ثلاث بطون؛ البطن الأسفل للوحوش والسباع والدواب، والأوسط للطعام والشراب، وركب هو في البطن الأعلى، وحمل معه جسد آدم عليه السلام معترضا ببن الرجال والنساء، ثم دفنه بعد ببيت المقدس؛ وكان إبليس معهم في الكوثل. وقيل: جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح: لا أحملكما؛ لأنكما سبب الضرر والبلاء، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك ألا نضر أحدا ذكرك؛ فمن قرأ حين يخاف مضرتهما « سلام على نوح في العالمين » [ الصافات: 79 ] لم تضراه؛ ذكره القشيري وغيره. وذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له مرفوعا من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة ) . قوله تعالى: « وكلما » ظرف. « مر عليه ملأ من قومه سخروا منه » قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني سفينته في البر، فيسخرون به ويستهزئون ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. الثاني: لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء؛ فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال ابن عباس: ( ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر ) ؛ فلذلك سخروا منه؛ ومياه البحار هي بقية الطوفان. « إن تسخروا منا فإنا » أي من فعلنا اليوم عند بناء السفينة. « فإنا نسخر منكم » غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية هنا الاستجهال؛ ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
الآية: 39 ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم )
قوله تعالى: « فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه » تهديد، و « من » متصلة بـ « سوف تعلمون » و « تعلمون » هنا من باب التعدية إلى مفعول؛ أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب. ويجوز أن تكون « من » استفهامية؛ أي أينا يأتيه العذاب؟. وقيل: « من » في موضع رفع بالابتداء و « يأتيه » الخبر، و « يخزيه » صفة لـ « عذاب » . وحكى الكسائي: أن أناسا من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون؛ وقال من قال: « ستعلمون » أسقط الواو والفاء جميعا. وحكى الكوفيون: سف تعلمون؛ ولا يعرف البصريون إلا سوف تفعل، وستفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى « ويحل عليه » أي يجب عليه وينزل به. « عذاب مقيم » أي دائم، يريد عذاب الآخرة.
الآية: 40 ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل )
قوله تعالى: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » اختلف في التنور على أقوال سبعة: الأول: أنه وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنورا؛ قاله ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة؛ وذلك أنه قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أنه تنور الخبز الذي يخبز فيه؛ وكان تنورا من حجارة؛ وكان لحواء حتى صار لنوح؛ فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. وأنبع الله الماء من التنور، فعلمت به امرأته فقالت: يا نوح فار الماء من التنور؛ فقال: جاء وعد ربي حقا. هذا قول الحسن؛ وقال مجاهد وعطية عن ابن عباس. الثالث: أنه موضع اجتماع الماء في السفينة؛ عن الحسن أيضا.
الرابع: أنه طلوع الفجر، ونور الصبح؛ من قولهم: نور الفجر تنويرا؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الخامس: أنه مسجد الكوفة؛ قاله علي بن أبي طالب أيضا؛ وقال مجاهد. قال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة. وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي كندة. وكان فوران الماء منه علما لنوح، ودليلا على هلاك قومه. قال الشاعر وهو أمية:
فار تنورهم وجاش بماء صار فوق الجبال حتى علاها
السادس: أنه أعالي الأرض، والمواضع المرتفعة منها؛ قاله قتادة. السابع: أنه العين التي بالجزيرة « عين الوردة » رواه عكرمة. وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وإنما كان بالشام بموضع يقال له: « عين وردة » وقال ابن عباس أيضا: ( فار تنور آدم بالهند ) . قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض؛ قال: « ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا » [ القمر:11 - 12 ] . فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة. والفوران الغليان. والتنور اسم أعجمي عربته العرب، وهو على بناء فعل؛ لأن أصل بنائه تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء. وقيل: معنى « فار التنور » التمثيل لحضور العذاب؛ كقولهم: حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب. والوطيس التنور. ويقال: فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال شاعرهم:
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
قوله تعالى: « قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين » يعني ذكرا وأنثى؛ لبقاء أصل النسل بعد الطوفان. وقرأ حفص « من كل زوجين اثنين » بتنوين « كل » أي من كل شيء زوجين. والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد: شيء معه آخر لا يستغني عنه. ويقال للاثنين: هما زوجان، في كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه؛ فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا يقال: له زوجا نعل إذا كان له نعلان. وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود؛ قال الله تعالى: « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » . [ النجم: 45 ] . ويقال للمرأة هي زوج الرجل، وللرجل هو زوجها. وقد يقال للاثنين هما زوج، وقد يكون الزوجان بمعنى الضربين، والصنفين، وكل ضرب يدعى زوجا؛ قال الله تعالى: « وأنبتت من كل زوج بهيج » [ الحج: 5 ] أي من كل لون وصنف. وقال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبو بذاك معا
أراد كل ضرب ولون. و « ومن كل زوجين » في موضع نصب بـ « احمل » . « اثنين » تأكيد. « وأهلك » أي وأحمل أهلك. « إلا من » « من » في موضع نصب بالاستثناء. « عليه القول » منهم أي بالهلاك؛ وهو ابنه كنعان وامرأته واعلة كانا كافرين. « ومن آمن » قال الضحاك وابن جريج: أي احمل من آمن بي، أي من صدقك؛ فـ « من » في موضع نصب بـ « احمل » . « وما آمن معه إلا قليل » قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( آمن من قومه ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه؛ سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له. ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية وهي اليوم تدعى قرية الثمانين بناحية الموصل ) . وورد في الخبر أنه كان في السفينة ثمانية أنفس؛ نوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم؛ وهو قول قتادة والحكم بن عتيبة وابن جريج ومحمد بن كعب؛ فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح الله أن يغير نطفته فجاء بالسودان. قال عطاء: ودعا نوح على حام ألا يعدو شعر أولاده آذانهم، وأنهم حيثما كان ولده يكونون عبيدا لولد سام ويافث. وقال الأعمش: كانوا سبعة؛ نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين؛ وأسقط امرأة نوح. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم؛ نوح وبنوه سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان آمن به، وأزواجهم جميعا. و « قليل » رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء، لأن الكلام قبله لم يتم، إلا أن الفائدة في دخول « إلا » و « ما » لأنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد أمن؛ فإذا جئت بما وإلا، أوجبت لما بعد إلا ونفيت عن غيرهم.
الآية: 41 ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم )
قوله تعالى: « وقال اركبوا فيها » أمر بالركوب؛ ويحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه. والركوب العلو على ظهر الشيء. ويقال: ركبه الدين. وفي الكلام حذف؛ أي اركبوا الماء في السفينة. وقيل: المعنى اركبوها. و « في » للتأكيد كقوله تعالى: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] وفائدة « في » أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها. قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم؛ فذلك ستة أشهر؛ وقال قتادة وزاد؛ وهو يوم عاشوراء؛ فقال لمن كان معه: من كان صائما فليتم صومه، ومن لم يكن صائما فليصمه. وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه ) . وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، ومرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه.
قوله تعالى: « بسم الله مُجراها ومُرساها » قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها؛ فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء؛ ويجوز أن تكون في موضع نصب، ويكون التقدير: بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت، وأقيم « مجراها » مقامه. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: « بسم الله مَجريها » بفتح الميم و « مُرساها » بضم الميم. وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب « بسم الله مَجراها ومَرساها » بفتح الميم فيهما؛ على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت. وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي: « بسم الله مُجريها ومُرسيها » نعت لله عز وجل في موضع جر. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ أي هو مجريها ومرسيها. ويجوز النصب على الحال. وقال الضحاك. كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت، وإذا قال بسم الله مرساها رست. وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم « وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون » [ الزمر: 67 ] « بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم » . وفي هذه الآية دليل، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل؛ كما بيناه في البسملة؛ والحمد لله.
قوله تعالى: « إن ربي لغفور رحيم » أي لأهل السفينة. وروي عن ابن عباس قال: ( لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث؛ فقال نوح: لو غمزت ذنب هذا الخنزير! ففعل، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة؛ فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها، فخرج منها سنوران فأكلا الفئرة. ولما حمل الأسد في السفينة قال: يا رب من أين أطعمه؟ قال: سوف أشغله؛ فأخذته الحمى؛ فهو الدهر محموم. قال ابن عباس: ( وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة، وآخر ما حمل حمل الحمار ) ؛ قال: وتعلق إبليس بذنبه، ويداه قد دخلتا في السفينة، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل، فصاح به نوح: ادخل ويلك فجعل يضطرب؛ فقال: ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان، كلمة زلت على لسانه، فدخل ووثب الشيطان فدخل. ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة، فقال له: يا لعين ما أدخلك بيتي؟ قال: أنت أذنت لي؛ فذكر له؛ فقال له: قم فأخرج. قال: مالك بد في أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان، واحدة مكان الشمس، والأخرى مكان القمر. ابن عباس: ( إحداهما بيضاء كبياض النهار، والأخرى سوداء كسواد الليل ) ؛ فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة؛ فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه؛ على قدر الساعات.
الآية: 42 ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين )
قوله تعالى: « وهي تجري بهم في موج كالجبال » الموج جمع موجة؛ وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح. والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج. وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا. « ونادى نوح ابنه » قيل: كان كافرا واسمه كنعان. وقيل: يام. ويجوز على قول سيبويه: « ونادى نوح ابنهُ » بحذف الواو من « ابنه » في اللفظ، وأنشد:
له زجل كأنه صوت حاد
فأما « ونادى نوح ابْنَهَ وَكان » فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير. وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد « ابنها » فحذف الألف كما تقول: « ابنه » ؛ فتحذف الواو. وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه؛ لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها « وكان في معزل » أي من دين أبيه. وقيل: عن السفينة. وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن؛ ولذلك قال له: « ولا تكن مع الكافرين » وسيأتي. وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق؛ وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح. وقرأ عاصم: « يا بني اركب معنا » بفتح الياء، والباقون بكسرها. وأصل « يا بني » أن تكون بثلاث ياءات؛ ياء التصغير، وياء الفعل، وياء الإضافة؛ فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع؛ هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضا أصل قراءة من فتح؛ لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف، أو لسكونها وسكون الراء. قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة؛ قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف؛ قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز؛ لأن الألف خفيفة. قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق؛ فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين؛ فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا؛ قال الله عز وجل إخبارا: « يا ويلتا » [ هود: 72 ] وكما قال الشاعر:
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية. والجهة الأخرى أن تحذف الألف؛ لأن النداء موضع حذف. والكسر على أن تحذف الياء للنداء. والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.
الآية: 43 ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )
قوله تعالى: « قال سآوي » أي ارجع وانضم. « إلى جبل يعصمني » أي يمنعني « من الماء » فلا أغرق. « قال لا عاصم اليوم من أمر الله » أي لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار. وانتصب « عاصم » على التبرئة. ويجوز « لا عاصم اليوم » تكون لا بمعني ليس. « إلا من رحم » في موضع نصب استثناء ليس من الأول؛ أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج. ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصما بمعنى معصوم؛ مثل: « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] أي مدفوق؛ فالاستثناء. على هذا متصل؛ قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتونا. وقال آخر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي المطعوم المكسو. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون « من » في موضع رفع؛ بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ أي إلا الله. وهذا اختيار الطبري. ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا « إنه » بمعنى « لكن » « وحال بينهما الموج » يعني بين نوح وابنه. « فكان من المغرقين » قيل: إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها؛ فلما رأى الماء جاء قال: يا أبت فار التنور، فقال له أبوه: « يا بني اركب معنا » فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك. وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه « طور سيناء » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 44 ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين )
قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي » هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى: « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » [ الحاقة: 11 ] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء » وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارا.
قوله تعالى: « وغيض الماء » أي نقص؛ يقال: غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز « غيض » بضم الغين. « وقضي الأمر » أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.
قوله تعالى: « واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين » أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة ) . وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه. وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل.
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال: إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[ مسألة ] : لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع؛ ولقد أحسن القائل:
وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء؛ وكانت لا تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين؛ وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) . خرجه البخاري.
مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما » [ العنكبوت: 14 ] وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: « رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى: « وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم » [ نوح: 7 ] . وقال مجاهد وعبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: « رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون » . وقال ابن عباس: ( إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح: « رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين » فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن ) ؛
قال: « وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » ؛ أي لا تحزن عليهم. « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: ( كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام ) ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب.
قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ) . وذكر صاحب كتاب ( العروس ) وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة.
الآية: 45 ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين )
قوله تعالى: « ونادى نوح ربه » أي دعاه. « فقال رب إن ابني من أهلي » أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. « وإن وعدك الحق » يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: « وأهلك » وترك قوله: « إلا من سبق عليه القول » [ هود: 40 ] فلما كان عنده من أهله قال: « رب إن ابني من أهلي » يدل على ذلك قوله: « ولا تكن من الكافرين » أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: « إن ابني من أهلي » إلا وذلك عنده كذلك؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته؛ دليله قراءة علي « ونادى نوح ابنها » . « وأنت أحكم الحاكمين » ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
الآيتان: 46 - 47 ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين )
قوله تعالى: « قال يا نوح إنه ليس من أهلك » أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. « إنه عمل غير صالح » قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي « إنه عمل غير صالح » أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون « عمل » أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: « إن ابني من أهلي » فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: « إن ابني من أهلي » « ونادى نوح ابنه » ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] . وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: « فخانتاهما » . وقال ابن عباس: ( ما بغت امرأة نبي قط ) ، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: « إن ابني من أهلي » أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال: ( لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: « إنه ليس من أهلك » ) ؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: « إنه ليس من أهلك » ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور؛ فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر ( أولادكم من كسبكم ) . ذكره القشيري.
في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: « ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم » [ الصافات: 75 ] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.
ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب « التمهيد » . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) يريد الخيبة. وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. « ونادى نوح ابنها » يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.
قوله تعالى: « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: « يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا » [ النور: 17 ] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ « قال » نوح: « رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم » الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. « وإلا تغفر لي » ما فرط من السؤال. « وترحمني » أي بالتوبة. « أكن من الخاسرين » أي أعمالا. فقال: « يا نوح اهبط بسلام منا » .
الآية: 48 ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم )
قوله تعالى: « قيل يا نوح اهبط بسلام منا » أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. « بسلام منا » أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. « وبركات عليك » أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( نوح آدم الأصغر ) ، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] . « وعلى أمم ممن معك » قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله « وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم » كل كافر إلى يوم القيامة؛ روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل: « من » للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. « وأمم سنمتعهم » ارتفع و « أمم » على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت « على » مع « أمم » لأنه معطوف على الكاف من « عليك » وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في « النساء » بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: « واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » [ النساء: 1 ] بالخفض. والباء في قوله: « بسلام » متعلقة بمحذوف؛ لأنها في موضع الحال؛ أي اهبط مسلما عليك. و « منا » في موضع جر متعلق بمحذوف؛ لأنه نعت للبركات. « وعلى أمم » متعلق بما تعلق به « عليك » ؛ لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و « من » في قوله: « ممن معك » متعلق بمحذوف؛ لأنه في موضع جر نعت للأمم. و « معك » متعلق بفعل محذوف؛ لأنه صلة « لمن » أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك.
الآية: 49 ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين )
قوله تعالى: « تلك من أنباء الغيب » أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر « ذلك » أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. « نوحيها إليك » أي لتقف عليها. « ما كنت تعلمها أنت ولا قومك » أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. « من قبل هذا » خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. « فاصبر » على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [ فإنه ] على الجملة. « فاصبر » أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. « إن العاقبة » في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. « للمتقين » عن الشرك والمعاصي.
=============
الآية: 44 ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين )
قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي » هذا مجاز لأنها موات. وقيل: جعل فيها ما تميز به. والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة رصفها، واشتمال المعاني فيها. وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان؛ فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك. وذلك قوله تعالى: « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » [ الحاقة: 11 ] فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر؛ فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك، وأمر الله الأرض بالابتلاع. ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد؛ لغتان حكاهما الكسائي والفراء. والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء. قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قدر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء؛ فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط. وذلك قوله تعالى: « وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء » وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحارا.
قوله تعالى: « وغيض الماء » أي نقص؛ يقال: غاض الشيء وغضته أنا؛ كما يقال: نقص بنفسه ونقصه غيره، ويجوز « غيض » بضم الغين. « وقضي الأمر » أي أحكم وفرغ منه؛ يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام. ويقال: إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يكن فيمن هلك صغير. والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان، كما هلكت الطير والسباع. ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير، بل ماتوا بآجالهم. وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه؛ وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت به إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء استوت على الجبل؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي.
قوله تعالى: « واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين » أي هلاكا لهم. الجودي جبل بقرب الموصل؛ استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء؛ فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه، شكرا لله تعالى؛ وقد تقدم هذا المعنى. وقيل: كان ذلك يوم الجمعة. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة عليه: وبقيت عليه أعوادها. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة ) . وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق؛ فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا، وتطامن الجودي، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق، ورست السفينة عليه. وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل.
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
ويقال: إن الجودي من جبال الجنة؛ فلهذا استوت عليه. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[ مسألة ] : لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل، وهذه سنة الله في خلقه، يرفع من تخشع، ويضع من ترفع؛ ولقد أحسن القائل:
وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: كانت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء؛ وكانت لا تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين؛ وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) . وخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) . خرجه البخاري.
مسألة: نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة. ذكر الحافظ ابن عساكر في التاريخ له عن الحسن: أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض؛ فذلك قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما » [ العنكبوت: 14 ] وكان قد كثرت فيهم المعاصي، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا، سرا وعلانية، وكان صبورا حليما، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا، ويضربونه في المجالس ويطرد، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول: « رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه، حتى أنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه، فذلك قوله تعالى: « وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم » [ نوح: 7 ] . وقال مجاهد وعبيد بن عمير: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: « رب اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون » . وقال ابن عباس: ( إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم؛ حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل معه ابنه وهو يتوكأ على عصا؛ فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه، فمشى إليه بالعصا فضربه فشجه شجة موضحة في رأسه، وسالت الدماء؛ فقال نوح: « رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين » فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن ) ؛
قال: « وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون » ؛ أي لا تحزن عليهم. « واصنع الفلك بأعيننا ووحينا » قال: يا رب وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر. قال: فغرس الساج عشرين سنه، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء. وكانوا يسخرون منه؛ فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها: فقال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك؛ واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر، يعني مسامير الحديد. وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة، وجعلت يده لا تخطئ. قال ابن عباس: ( كانت دار نوح عليه السلام دمشق، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام ) ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب.
قال الزهري: إن الله عز وجل بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين؛ من السباع والطير والوحش والبهائم. وقال جعفر بن محمد: بعث الله جبريل فحشرهم، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى، فيدخله السفينة وقال زيد بن ثابت: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة، فدفعها بيده في ذنبها؛ فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها. ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على، ذنبها فستر حياؤها؛ قال إسحاق: أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة، وجعل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل من الهدهد زوجين، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض. فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر؛ فلذلك نتأت أقفية الهداهد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ) . وذكر صاحب كتاب ( العروس ) وغيره: أن نوحا عليه السلام لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج: أنا؛ فأخذها وختم على جناحها وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا، أنت ينتفع بك أمتي؛ فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت. وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح عليه السلام فقالت: بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي، والخضاب في رجلي، وأسكن الحرم؛ فمسح يده على عنقها وطوقها، ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج؛ وقال: إياك أن تعتذر، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة.
الآية: 45 ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين )
قوله تعالى: « ونادى نوح ربه » أي دعاه. « فقال رب إن ابني من أهلي » أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق؛ ففي الكلام حذف. « وإن وعدك الحق » يعني الصدق. وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: « وأهلك » وترك قوله: « إلا من سبق عليه القول » [ هود: 40 ] فلما كان عنده من أهله قال: « رب إن ابني من أهلي » يدل على ذلك قوله: « ولا تكن من الكافرين » أي لا تكن ممن لست منهم؛ لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: « إن ابني من أهلي » إلا وذلك عنده كذلك؛ إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم؛ وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا؛ ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته؛ دليله قراءة علي « ونادى نوح ابنها » . « وأنت أحكم الحاكمين » ابتداء وخبر. أي حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
الآيتان: 46 - 47 ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين )
قوله تعالى: « قال يا نوح إنه ليس من أهلك » أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. « إنه عمل غير صالح » قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي « إنه عمل غير صالح » أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون « عمل » أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: « إن ابني من أهلي » فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: « إن ابني من أهلي » « ونادى نوح ابنه » ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] . وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: « فخانتاهما » . وقال ابن عباس: ( ما بغت امرأة نبي قط ) ، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: « إن ابني من أهلي » أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال: ( لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: « إنه ليس من أهلك » ) ؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: « إنه ليس من أهلك » ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور؛ فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر ( أولادكم من كسبكم ) . ذكره القشيري.
في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: « ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم » [ الصافات: 75 ] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.
ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب « التمهيد » . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) يريد الخيبة. وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. « ونادى نوح ابنها » يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.
قوله تعالى: « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: « يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا » [ النور: 17 ] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ « قال » نوح: « رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم » الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. « وإلا تغفر لي » ما فرط من السؤال. « وترحمني » أي بالتوبة. « أكن من الخاسرين » أي أعمالا. فقال: « يا نوح اهبط بسلام منا » .
الآية: 48 ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم )
قوله تعالى: « قيل يا نوح اهبط بسلام منا » أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. « بسلام منا » أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. « وبركات عليك » أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( نوح آدم الأصغر ) ، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] . « وعلى أمم ممن معك » قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله « وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم » كل كافر إلى يوم القيامة؛ روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل: « من » للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. « وأمم سنمتعهم » ارتفع و « أمم » على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت « على » مع « أمم » لأنه معطوف على الكاف من « عليك » وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في « النساء » بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: « واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » [ النساء: 1 ] بالخفض. والباء في قوله: « بسلام » متعلقة بمحذوف؛ لأنها في موضع الحال؛ أي اهبط مسلما عليك. و « منا » في موضع جر متعلق بمحذوف؛ لأنه نعت للبركات. « وعلى أمم » متعلق بما تعلق به « عليك » ؛ لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و « من » في قوله: « ممن معك » متعلق بمحذوف؛ لأنه في موضع جر نعت للأمم. و « معك » متعلق بفعل محذوف؛ لأنه صلة « لمن » أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك.
الآية: 49 ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين )
قوله تعالى: « تلك من أنباء الغيب » أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر « ذلك » أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. « نوحيها إليك » أي لتقف عليها. « ما كنت تعلمها أنت ولا قومك » أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. « من قبل هذا » خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. « فاصبر » على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [ فإنه ] على الجملة. « فاصبر » أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. « إن العاقبة » في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. « للمتقين » عن الشرك والمعاصي.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآيتان: 50 - 51 ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون )
قوله تعالى: « وإلى عاد أخاهم هودا » أي وأرسلنا، فهو معطوف على « أرسلنا نوحا » . وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في « الأعراف » وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: « إرم ذات العماد » [ الفجر: 7 ] . وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » بالخفض على اللفظ، و « غيره » بالرفع على الموضع، و « غيره » بالنصب على الاستثناء. « إن أنتم إلا مفترون » أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز.
قوله تعالى: « يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة. والفطرة ابتداء الخلق.
قوله تعالى: « أفلا تعقلون » ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل.
الآية: 52 ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )
قوله تعالى: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم في أول السورة. « يرسل السماء » جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. « عليكم مدرارا » نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في « الأعراف » . « ويزدكم » عطف على يرسل. « قوة إلى قوتكم » قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك. خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. « ولا تتولوا مجرمين » أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر
الآية: 53 ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين )
قوله تعالى: « قالوا يا هود ما جئتنا ببينة » أي حجة واضحة. « وما نحن لك بمؤمنين » إصرارا منهم على الكفر.
الآيتان: 54 - 56 ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )
قوله تعالى: « إن نقول إلا اعتراك » أي أصابك. « بعض آلهتنا » أي أصنامنا. « بسوء » أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه « وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] . « قال إني أشهد الله » أي على نفسي. « واشهدوا » أي وأشهدكم؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير؛ أي لتعرفوا « أني بريء مما تشركون » أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها. « فكيدوني جميعا » أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري. « ثم لا تنظرون » أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: « فكيدوني جميعا » . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم « فاجمعوا أمركم وشركاءكم » [ يونس: 71 ] الآية.
قوله تعالى: « إني توكلت على الله ربي وربكم » أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. « ما من دابة » أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء. « إلا هو آخذ بناصيتها » أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه؛ والهاء للمبالغة. وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها. وقال القتبي: قاهرها؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع؛ فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) . ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: « فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدر؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال: « ناصية كاذبة خاطئة » [ العلق: 16 ] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة؛ فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. والله أعلم. « إن ربي على صراط مستقيم » قال النحاس: الصراط في اللغة المنهاج الواضح؛ والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل: معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه.
الآية: 57 ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ )
قوله تعالى: « فإن تولوا » في موضع جزم؛ فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. « فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم » بمعنى قد بينت لكم. « ويستخلف ربي قوما غيركم » أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. « ويستخلف » مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: « فقد أبلغتكم » . وروي عن حفص عن عاصم « ويستخلف » بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها؛ مثل: « ويذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأعراف: 186 ] . « ولا تضرونه شيئا » أي بتوليكم وإعراضكم. « إن ربى على كل شيء حفيظ » أي لكل شيء حافظ. « على » بمعنى اللام؛ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
الآية: 58 ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ )
قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » أي عذابنا بهلاك عاد. « نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا » لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة. وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه ) . وقيل: معنى « برحمة منا » بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. « ونجيناهم من عذاب غليظ » أي عذاب يوم القيامة. وقيل: هو الريح العقيم كما ذكر الله في « الذاريات » وغيرها وسيأتي. قال القشيري أبو نصر: والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه؛ نعم! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به.
الآية: 59 ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد )
قوله تعالى: « وتلك عاد » ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف « عادا » فيجعله اسما للقبيلة. « جحدوا بآيات ربهم » أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. « وعصوا رسله » يعني هودا وحده؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى: « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه؛ وإنما جمع ههنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل: عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. « واتبعوا أمر كل جبار عنيد » أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند. وقال الراجز:
إني كبير لا أطيق العُنَّدا
الآية: 60 ( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود )
قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة » أي ألحقوها. « ويوم القيامة » أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك؛ فالتمام على قوله: « ويوم القيامة » . « ألا إن عادا كفروا ربهم » قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم؛ قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. « ألا بعدا لعاد قوم هود » أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك؛ قال:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
وقال النابغة:
فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوما به الحال زائل
الآية: 61 ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب )
قوله تعالى: « وإلى ثمود » أي أرسلنا إلى ثمود « أخاهم » أي في النسب. « صالحا » وقرأ يحيي بن وثاب « وإلى ثمود » بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودا يقال له حي؛ ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة؛ بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:
غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها
قوله تعالى: « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « هو أنشأكم من الأرض » أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في « البقرة » و « الأنعام » وهم منه، وقيل: « أنشأكم في الأرض » . ولا يجوز إدغام الهاء من « غيره » في الهاء من « هو » إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. « واستعمركم فيها » أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى « استعمركم » أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره؛ فهي له عمرى. وقال قتادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس: ( أعاشكم فيها ) . زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.
قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة؛ والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت؛ كقولهم: استجدته أي أصبته جيدا: ومنها بمعنى فعل؛ كقوله: قر في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله: « يستهزئون » و « يستسخرون » منه؛ فقوله تعالى: « استعمركم فيها » خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدا وسهلا؛ وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلب من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة.
قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه
ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في « البقرة » في السكنى والرقبى. وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته؛ هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في « البقرة » حجة هذا القول. الثاني: أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبي عبيد؛ قالوا: من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته؛ وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرى جائزة ) و ( العمرى لمن وهبت له ) . الثالث: إن قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمة بن عبدالرحمن وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر؛ إذا انقرض عقب المعمر؛ إن كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة. وقد قال مالك في الحبس أيضا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال معمر: وبذلك كان الزهري يفتي.
قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال: « واستعمركم » بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب. وفي التنزيل: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » [ الشعراء: 84 ] أي ثناء حسنا. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. قال: « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] وقال: « وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين » [ الصافات: 113 ] .
قوله تعالى: « فاستغفروه » أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. « ثم توبوا إليه » أي ارجعوا إلى عبادته. « إن ربي قريب مجيب » أي قريب الإجابة لمن دعاه. وقد مضى في « البقرة » عند قوله: « فإني قريب أجيب دعوة الداعي » القول فيه.
=============
الآيتان: 50 - 51 ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون )
قوله تعالى: « وإلى عاد أخاهم هودا » أي وأرسلنا، فهو معطوف على « أرسلنا نوحا » . وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في « الأعراف » وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: « إرم ذات العماد » [ الفجر: 7 ] . وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » بالخفض على اللفظ، و « غيره » بالرفع على الموضع، و « غيره » بالنصب على الاستثناء. « إن أنتم إلا مفترون » أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز.
قوله تعالى: « يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة. والفطرة ابتداء الخلق.
قوله تعالى: « أفلا تعقلون » ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل.
الآية: 52 ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )
قوله تعالى: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم في أول السورة. « يرسل السماء » جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. « عليكم مدرارا » نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في « الأعراف » . « ويزدكم » عطف على يرسل. « قوة إلى قوتكم » قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك. خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. « ولا تتولوا مجرمين » أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر
الآية: 53 ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين )
قوله تعالى: « قالوا يا هود ما جئتنا ببينة » أي حجة واضحة. « وما نحن لك بمؤمنين » إصرارا منهم على الكفر.
الآيتان: 54 - 56 ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )
قوله تعالى: « إن نقول إلا اعتراك » أي أصابك. « بعض آلهتنا » أي أصنامنا. « بسوء » أي بجنون لسبك إياها، عن ابن عباس وغيره. يقال: عراه الأمر واعتراه إذا ألم به. ومنه « وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] . « قال إني أشهد الله » أي على نفسي. « واشهدوا » أي وأشهدكم؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير؛ أي لتعرفوا « أني بريء مما تشركون » أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها. « فكيدوني جميعا » أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري. « ثم لا تنظرون » أي لا تؤخرون. وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى. وهو من أعلام النبوة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: « فكيدوني جميعا » . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم « فاجمعوا أمركم وشركاءكم » [ يونس: 71 ] الآية.
قوله تعالى: « إني توكلت على الله ربي وربكم » أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. « ما من دابة » أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء. « إلا هو آخذ بناصيتها » أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري. وكل ما فيه روح يقال له داب ودابه؛ والهاء للمبالغة. وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها. وقال القتبي: قاهرها؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته. وقال الضحاك: يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب. والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس. ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته. قال ابن جريج: إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع؛ فيقولون. ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم. وقال، الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » « ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقدر نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور أخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير. وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) . ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: « فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها » وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه، فسمي ذلك الموضع منه ناصية؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدر؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال: « ناصية كاذبة خاطئة » [ العلق: 16 ] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة؛ فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. والله أعلم. « إن ربي على صراط مستقيم » قال النحاس: الصراط في اللغة المنهاج الواضح؛ والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل: معناه لا خلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه.
الآية: 57 ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ )
قوله تعالى: « فإن تولوا » في موضع جزم؛ فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولوا، فحذفت التاء لاجتماع تاءين. « فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم » بمعنى قد بينت لكم. « ويستخلف ربي قوما غيركم » أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه. « ويستخلف » مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع؛ أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: « فقد أبلغتكم » . وروي عن حفص عن عاصم « ويستخلف » بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها؛ مثل: « ويذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأعراف: 186 ] . « ولا تضرونه شيئا » أي بتوليكم وإعراضكم. « إن ربى على كل شيء حفيظ » أي لكل شيء حافظ. « على » بمعنى اللام؛ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
الآية: 58 ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ )
قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » أي عذابنا بهلاك عاد. « نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا » لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى، وإن كانت له أعمال صالحة. وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه ) . وقيل: معنى « برحمة منا » بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة. وكانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف. « ونجيناهم من عذاب غليظ » أي عذاب يوم القيامة. وقيل: هو الريح العقيم كما ذكر الله في « الذاريات » وغيرها وسيأتي. قال القشيري أبو نصر: والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه؛ نعم! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به.
الآية: 59 ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد )
قوله تعالى: « وتلك عاد » ابتداء وخبر. وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف « عادا » فيجعله اسما للقبيلة. « جحدوا بآيات ربهم » أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها. « وعصوا رسله » يعني هودا وحده؛ لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه. ونظيره قوله تعالى: « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات » [ المؤمنون: 51 ] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه؛ وإنما جمع ههنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل: عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل. « واتبعوا أمر كل جبار عنيد » أي اتبع سقاطهم رؤساءهم. والجبار المتكبر. والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند. وقال الراجز:
إني كبير لا أطيق العُنَّدا
الآية: 60 ( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود )
قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة » أي ألحقوها. « ويوم القيامة » أي واتبعوا يوم القيامة مثل ذلك؛ فالتمام على قوله: « ويوم القيامة » . « ألا إن عادا كفروا ربهم » قال الفراء: أي كفروا نعمة ربهم؛ قال: ويقال كفرته وكفرت به، مثل شكرته وشكرت له. « ألا بعدا لعاد قوم هود » أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله. والبعد الهلاك والبعد التباعد من الخير. يقال: بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد. وبعد يبعد بعدا إذا هلك؛ قال:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
وقال النابغة:
فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوما به الحال زائل
الآية: 61 ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب )
قوله تعالى: « وإلى ثمود » أي أرسلنا إلى ثمود « أخاهم » أي في النسب. « صالحا » وقرأ يحيي بن وثاب « وإلى ثمود » بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن. واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع. وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودا يقال له حي؛ ويقال له قبيلة، وليس الغالب عليه القبيلة؛ بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه. والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف، نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى. والتأنيث جيد بالغ حسن. وأنشد سيبويه في التأنيث:
غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها
قوله تعالى: « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « هو أنشأكم من الأرض » أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في « البقرة » و « الأنعام » وهم منه، وقيل: « أنشأكم في الأرض » . ولا يجوز إدغام الهاء من « غيره » في الهاء من « هو » إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج. « واستعمركم فيها » أي جعلكم عمارها وسكانها. قال مجاهد: ومعنى « استعمركم » أعمركم من قوله: أعمر فلان فلانا داره؛ فهي له عمرى. وقال قتادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب. وقال الضحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف. ابن عباس: ( أعاشكم فيها ) . زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.
قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة؛ والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب، قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته، ومنه استفعلت بمعنى أصبت؛ كقولهم: استجدته أي أصبته جيدا: ومنها بمعنى فعل؛ كقوله: قر في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله: « يستهزئون » و « يستسخرون » منه؛ فقوله تعالى: « استعمركم فيها » خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدا وسهلا؛ وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلب من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما أنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة.
قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه
ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في « البقرة » في السكنى والرقبى. وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته؛ هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدم في « البقرة » حجة هذا القول. الثاني: أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبي عبيد؛ قالوا: من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته؛ وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطى الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرى جائزة ) و ( العمرى لمن وهبت له ) . الثالث: إن قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمة بن عبدالرحمن وابن أبي ذئب، وقد روي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ. والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر؛ إذا انقرض عقب المعمر؛ إن كان المعمر حيا، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته، وأولى الناس بميراثه. ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة. وقد قال مالك في الحبس أيضا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه. وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العمرى قياسا، وهو ظاهر الموطأ. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال معمر: وبذلك كان الزهري يفتي.
قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال: « واستعمركم » بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا. وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب. وفي التنزيل: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » [ الشعراء: 84 ] أي ثناء حسنا. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم. قال: « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] وقال: « وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين » [ الصافات: 113 ] .
قوله تعالى: « فاستغفروه » أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام. « ثم توبوا إليه » أي ارجعوا إلى عبادته. « إن ربي قريب مجيب » أي قريب الإجابة لمن دعاه. وقد مضى في « البقرة » عند قوله: « فإني قريب أجيب دعوة الداعي » القول فيه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 62 ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب )
قوله تعالى: « قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا » أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. « أتنهانا » استفهام معناه الإنكار. « أن نعبد » أي عن أن نعبد. « ما يعبد آباؤنا » فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. « وإننا لفي شك » وفي سورة « إبراهيم » و « وإنا » والأصل وإننا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. « مما تدعونا » الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم « تدعوننا » [ إبراهيم: 9 ] لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم « إليه مريب » من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لدية الريبة. قال الهذلي:
كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب
الآية: 63 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة » تقدم معناه في قول نوح. « فمن ينصرني من الله إن عصيته » استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. « فما تزيدونني غير تخسير » أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قال الفراء. والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس.
الآية: 64 ( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب )
قوله تعالى: « ويا قوم هذه ناقة الله » ابتداء وخبر. « لكم آية » نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في « هذه » . وإنما قيل: ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح: « هذه ناقة الله لكم آية » . « فذروها تأكل » أمر وجوابه؛ وحذفت النون من « فذروها » لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه: استغنوا عنه بترك. وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع « تأكل » على الحال والاستئناف. « ولا تمسوها » جزم بالنهي. « بسوء » قال الفراء: بعقر. « فيأخذكم » جواب النهي. « عذاب قريب » أي قريب من عقرها.
الآية: 65 ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب )
قوله تعالى: « فعقروها » إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها « الأعراف » . ويأتي أيضا. « فقال تمتعوا » أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. « في داركم » أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله: « يخرجكم طفلا » [ غافر: 67 ] أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء؛ فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في « الأعراف » فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث، وهلكوا في الرابع؛ وقد تقدم في « الأعراف » .
استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في « النساء » ما للعلماء في هذا.
قوله تعالى: « ذلك وعد غير مكذوب » أي غير كذب. وقيل: غير مكذوب فيه.
الآية: 66 ( فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز )
قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا » تقدم. « ومن خزي يومئذ » أي ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي من فضيحته وذلته. وقيل: الواو زائدة؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع « لما » و « حتى » لا غير. وقرأ نافع والكسائي « يومئذ » بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة « يوم » إلى « إذ » وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ « ومن خزي يومئذ » أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في « يومئذ » . قال النحاس: الذي يرويه النحويون: مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا: الإخفاء؛ فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي.
الآية: 67 ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين )
قوله تعالى: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحة جبريل. وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة؛ وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » وقال في الأعراف « فأخذتهم الرجفة » [ الأعراف: 78 ] وقد تقدم بيانه هناك. وفي التفسير: أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة؟ ! قالوا: فما نصنع؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها؛ فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس؛ فصيح بهم فأهلكوا. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين » أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.
=============
الآية: 62 ( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب )
قوله تعالى: « قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا » أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوة. وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك. « أتنهانا » استفهام معناه الإنكار. « أن نعبد » أي عن أن نعبد. « ما يعبد آباؤنا » فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر. « وإننا لفي شك » وفي سورة « إبراهيم » و « وإنا » والأصل وإننا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة. « مما تدعونا » الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم « تدعوننا » [ إبراهيم: 9 ] لأن الخطاب للرسل صلوات الله وسلامه عليهم « إليه مريب » من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لدية الريبة. قال الهذلي:
كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي
كأنما أربته بريب
الآية: 63 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة » تقدم معناه في قول نوح. « فمن ينصرني من الله إن عصيته » استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد. « فما تزيدونني غير تخسير » أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قال الفراء. والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس.
الآية: 64 ( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب )
قوله تعالى: « ويا قوم هذه ناقة الله » ابتداء وخبر. « لكم آية » نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في « هذه » . وإنما قيل: ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون. وقيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح: « هذه ناقة الله لكم آية » . « فذروها تأكل » أمر وجوابه؛ وحذفت النون من « فذروها » لأنه أمر. ولا يقال: وذر ولا واذر إلا شاذا. وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه: استغنوا عنه بترك. وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع « تأكل » على الحال والاستئناف. « ولا تمسوها » جزم بالنهي. « بسوء » قال الفراء: بعقر. « فيأخذكم » جواب النهي. « عذاب قريب » أي قريب من عقرها.
الآية: 65 ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب )
قوله تعالى: « فعقروها » إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين. وقد تقدم الكلام في عقرها « الأعراف » . ويأتي أيضا. « فقال تمتعوا » أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عز وجل قبل العذاب. « في داركم » أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله: « يخرجكم طفلا » [ غافر: 67 ] أي كل واحد طفلا. وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء؛ فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام؛ لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في « الأعراف » فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث، وهلكوا في الرابع؛ وقد تقدم في « الأعراف » .
استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في « النساء » ما للعلماء في هذا.
قوله تعالى: « ذلك وعد غير مكذوب » أي غير كذب. وقيل: غير مكذوب فيه.
الآية: 66 ( فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز )
قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا » تقدم. « ومن خزي يومئذ » أي ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي من فضيحته وذلته. وقيل: الواو زائدة؛ أي نجيناهم من خزي يومئذ. ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة، وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع « لما » و « حتى » لا غير. وقرأ نافع والكسائي « يومئذ » بالنصب. الباقون بالكسر على إضافة « يوم » إلى « إذ » وقال أبو حاتم: حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ « ومن خزي يومئذ » أدغم الياء في الياء، وأضاف، وكسر الميم في « يومئذ » . قال النحاس: الذي يرويه النحويون: مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا: الإخفاء؛ فأما الإدغام فلا يجوز، لأنه يلتقي ساكنان، ولا يجوز كسر الزاي.
الآية: 67 ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين )
قوله تعالى: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا؛ وذكر لأن الصيحة والصياح واحد. قيل: صيحة جبريل. وقيل: صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة؛ وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا. وقال هنا: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » وقال في الأعراف « فأخذتهم الرجفة » [ الأعراف: 78 ] وقد تقدم بيانه هناك. وفي التفسير: أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة؟ ! قالوا: فما نصنع؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل، فوقفوا على الطرق والفجاج، زعموا يلاقون العذاب؛ فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها؛ فأدناها من رؤوسهم فاشتوت أيديهم، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش، ومات كل ما كان معهم من البهائم. وجعل الماء يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره، فما زالوا كذلك، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس؛ فصيح بهم فأهلكوا. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين » أي ساقطين على وجوههم، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 68 ( كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود )
الآية: 69 ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ )
قوله تعالى: « ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى » هذه قصة لوط عليه السلام؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. ( وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ) ؛ قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدي: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذو وضاءة وجمال بارع. « بالبشري » قيل: بالولد. وقيل: بإهلاك قوم لوط. وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. « قالوا سلاما » نصب بوقوع الفعل عليه؛ كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله: « سيقولون ثلاثة » [ الكهف: 22 ] فالثلاثة اسم غير قول مقول. ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا « قالوا سلاما قال سلام » جاز في العربية. قيل: انتصب على المصدر. وقيل: « قالوا سلاما » أي فاتحوه بصواب من القول. كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] أي صوابا؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه؛ قال، معناه ابن العربي واختاره. قال: ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال، مخبرا عن الملائكة: « سلام عليكم بما صبرتم » [ الرعد: 24 ] « سلام عليكم طبتم » [ الزمر: 73 ] وقيل: دعوا له؛ والمعنى سلمت سلاما. « قال سلام » في رفعه وجهان: أحدهما: على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية؛ فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرئ « سلم » قال الفراء: السلم والسلام بمعنى؛ مثل الحل والحلال.
قوله تعالى: « فما لبث أن جاء » « أن » بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين؛ حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء. وقيل: « أن » في موضع نصب بسقوط حرف الجر؛ التقدير: فما لبث عن أن جاء؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل؛ فلما حذف حرف الجر بقي « أن » في محل النصب. وفي « لبث » ضمير اسم إبراهيم. و « ما » نافية؛ قال سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي ما أبطأ مجيئه؛ فأن في موضع رفع، ولا ضمير في « لبث » ، و « ما » نافية؛ ويصح أن تكون « ما » بمعنى الذي، وفي « لبث » ضمير إبراهيم و « أن جاء » خبر « ما » أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و « حنيذ » مشوي. وقيل: هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ؛ فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب من المدينة. وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: ( حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ ) ؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال.
في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في « البقرة » وليست بواجبة عند عامة أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) . والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) . وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليلة الضيف حق ) إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف؛ فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد؛ وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: ( فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي ) الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك.
اختلف العلماء فيمن يخاطب بها؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ) . وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبدالرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قال أبو عمر بن عبدالبر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات؛ ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة؛ فإن كان غريبا فهي فريضة.
قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ من أين علم أنه قليل؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم؛ وعجل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه.
السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم « نكرهم وأوجس منهم خيفة » أي أضمر. وقيل: أحس؛ والوجوس الدخول؛ قال الشاعر:
جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه جزعا
« خيفة » خوفا؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا؛ فقالت الملائكة « لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط »
من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبدالملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟ ! والله لا أكلت معك.
قلت: وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
الآية: 70 ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط )
قوله تعالى: « قلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم » يقول: أنكرهم؛ تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته؛ قال الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.
الآية: 71 ( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )
قوله تعالى: « وامرأته قائمة » ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود « وامرأته قائمة وهو قاعد » . « فضحكت » قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة؛ تحقيقا للبشارة؛ وأنشد على ذلك اللغويون:
وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا
وقال آخر:
وضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا
والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة؛ أخذ من قولهم: ( ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت ) . وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه؛ فقيل: هو ضحك التعجب؛ قال أبو ذؤيب:
فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل
وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة؛ وإنما هو كناية. وروي أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله: « وامرأته قائمة » أي قائمة في خدمتهم. ويقال: « قائمة » لروع إبراهيم « فضحكت » لقولهم: « لا تخف » سرورا بالأمن. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير؛ المعنى: فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيت فلانا ضاحكا؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك؛ أي مشرقة. وفي الحديث ( إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك ) . جعل انجلاءه عن البرق ضحكا؛ وهذا كلام مستعار. وروي عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. « فضحكت » بفتح الحاء؛ قال المهدوي؛ وفتح « الحاء » من « فضحكت » غير معروف. وضَحِك يضْحَك ضَحْكا وضِحْكا وضِحِكا وضَحِكا أربع لغات. والضَّحْكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير:
غلقت لضحكته رقاب المال
قاله الجوهري:
روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له « باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس » . قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم.
ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن؛ فقال لهم: « ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره » فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة. ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدري ما الله؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى؟ فأخبره بالأمر؛ فقال: هذا رب كريم، آمنت؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا.
قوله تعالى: « فبشرناها بإسحاق » لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. « ومن وراء إسحاق يعقوب » قرأ حمزة وعبدالله بن عامر « يعقوب » بالنصب. ورفع الباقون؛ فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في « من » كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون « يعقوب » في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض؛ قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما فرقت بين الجار والمجرور؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو.
الآية: 72 ( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب )
قوله تعالى: « يا ويلتا » قال الزجاج: أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و « أألد » استفهام معناه التعجب. « وأنا عجوز » أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا.
قوله تعالى: « وهذا بعلي شيخا » « وهذا بعلي » أي زوجي. « شيخا » نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. « وهذا بعلي » ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفي قراءة ابن مسعود وأبي « وهذا بعلي شيخ » قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « هذا » مبتدأ « وزيد قائم » خبرين؛ وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عرضت بقولها: « وهذا بعلي شيخا » أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. « إن هذا لشيء عجيب » أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.
الآية: 73 ( قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد )
قوله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله » لما قالت: « وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا » وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه. وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في « الصافات » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « رحمة الله وبركاته » مبتدأ، والخبر « عليكم » . وحكى سيبويه « عليكم » بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. « أهل البيت » نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء.
هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم: « ويطهركم تطهيرا » [ الأحزاب: 33 ] وسيأتي.
ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام « وبركاته » كما أخبر الله عن صالحي عباده « رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » . والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: ( إن السلام انتهى إلى البركة ) . وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك ) . قال: ودخلت الثانية؛ فقلت: السلام عليكم ورحمة الله فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك ) . فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء ) . « إنه حميد مجيد » أي محمود ماجد. وقد بيناهما في « الأسماء الحسنى » .
الآيات: 74 - 76 ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود )
قوله تعالى: « فلما ذهب عن إبراهيم الروع » أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة:
فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن صرد
« وجاءته البشرى » أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. « يجادلنا » أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا: لا. قال قتادة: نحوا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: « إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين » [ العنكبوت: 32 ] . وقال عبدالرحمن ابن سمرة: كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن « يجادلنا » في موضع « جادلنا » . قال النحاس: لما كان جواب « لما » يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر: أن يكون « يجادلنا » في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفراء. « إن إبراهيم لحليم : لأواه منيب » تقدم في « براءة » معنى « لأواه حليم » [ التوبة: 114 ] والمنيب الراجع؛ يقال: إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
قوله تعالى: « يا إبراهيم أعرض عن هذا » أي دع عنك الجدال في قوم لوط. « إنه قد جاء أمر ربك » أي عذابه لهم. « إنهم آتيهم » أي نازل بهم. « عذاب غير مردود » أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع.
الآية: 77 ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب )
قوله تعالى: « ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم » لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم. « سيء بهم » أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: « سي بهم » مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. « وضاق بهم ذرعا » أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. « وقال هذا يوم عصيب » أي شديد في الشر. وقال الشاعر:
وإنك إلا ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب
وقال آخر:
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا
ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق.
الآية: 78 ( وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد )
قوله تعالى: « وجاءه قومه يهرعون إليه » في موضع الحال. « يهرعون » أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
وقال آخر:
بمعجلات نحوه مهارع
وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان. وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا « يهرعون » أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: ( « يهرعون » يهرولون ) . الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى. وقال الحسن: مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.
قوله تعالى: « ومن قبل » أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط. « كانوا يعملون السيئات » أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: « هؤلاء بناتي » ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله: « هؤلاء بناتي » فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله: « بناتي » إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب: 6 ] . وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.
قوله تعالى: « هن أطهر لكم » ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: ( كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته ) . وليس ألف « أطهر » للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد: اعل هبل اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ( قل الله أعلى وأجل ) . وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو « هن أطهر » بالنصب على الحال. و « هن » عماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون « هن » ههنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. قال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها.
قوله تعالى: « فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي » أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان:
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق
ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
وقال آخر:
من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله: « أليس منكم رجل رشيد » أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل: « رشيد » أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم.
الآية: 79 ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد )
قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. « وإنك لتعلم ما نريد » إشارة إلى الأضياف.
الآية: 80 ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )
قوله تعالى: « قال لو أن لي بكم قوة » لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. « لو أن لي بكم قوة » أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و « أن » في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في « أن » التابعة لـ « لو » . وجواب « لو » محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. « أو آوي إلى ركن شديد » أي ألجأ وأنضوي. وقرئ « أو آوي » بالنصب عطفا على « قوة » كأنه قال: « لو أن لي بكم قوة » أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار « أن » . ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) الحديث؛ وقد تقدم في « البقرة » . وخرجه الترمذي وزاد ( ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه ) . قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنح عن الباب؛ فتنحى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء؛ قال الله تعالى: « ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم » [ القمر: 37 ] . وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم. وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه.
الآية: 81 ( قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب )
قوله تعالى: « قالوا يا لوط إنا رسل ربك » لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. « لن يصلوا إليك » أي بمكروه « فأسر بأهلك » قرئ « فاسر » بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: « والليل إذا يسر » [ الفجر: 4 ] وقال: « سبحان الذي أسرى » [ الإسراء: 1 ] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين:
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
وقد قيل: « فأسر » بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل
وقال عبدالله بن رواحة:
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
« بقطع من الليل » قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع من الليل. وكلها متقاربة؛ وقيل: إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر:
ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد
فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى « بقطع من الليل » ؟ فالجواب: أنه لو لم يقل: « بقطع من الليل » جاز أن يكون أوله. « ولا يلتفت منكم أحد » أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. « إلا امرأتك » بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك إلا امرأتك » فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل: « كانت من الغابرين » [ الأعراف: 83 ] أي من الباقين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: « إلا امرأتك » بالرفع على البدل من « أحد » . وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال: لا يصح ذلك إلا برفع « يلتفت » ويكون نعتا؛ لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه: انههم عن القيام إلا زيدا؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال: انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها. « إنه مصيبها » أي من العذاب، والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة. « مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح » لما قالت الملائكة: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا: « أليس الصبح بقريب » وقرأ عيسى بن عمر « أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم؛ لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. وقال بعض أهل التفسير: إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر؛ وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
الآيتان: 82 - 83 ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )
قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « جعلنا عاليها سافلها » وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة. مقاتل. أهلكت أربعة، ونجت ضعوه. وقيل: غير هذا، والله أعلم.
قوله تعالى: « وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في « الأعراف » . وفي التفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال: مطرت السماء وأمطرت: حكاه الهروي. واختلف في « السجيل » فقال النحاس: السجيل الشديد الكثير؛ وسجيل وسجين اللام والنون أختان. وقال أبو عبيدة: السجيل الشديد؛ وأنشد:
ضربا تواصى به الأبطال سجينا
قال النحاس: ورد عليه هذا القول عبدالله بن مسلم وقال: هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به؟! قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم؛ لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى؛ وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى؛ وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا؛ لأنه لا يقال: حجارة من شديد؛ لأن شديدا نعت. وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل. وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء. وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل. ويقال: سنك وكيل؛ بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا. وقيل: هو من لغة العرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين بدليل قوله « لنرسل عليهم حجارة من طين » [ الذاريات: 33 ] . وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب. وقال الضحاك: يعني الآجر. وقال ابن زيد: طين طبخ حتى كان كالآجر؛ وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا؛ ذكره المهدوي؛ وحكاه الثعلبي عن أبي العالية؛ وقال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بـ « منضود » . وعن عكرمة: أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة. وقيل: هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: « وينزل من السماء من جبال فيها من برد » [ النور: 43 ] . وقيل: هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم؛ فهو في معنى سجين؛ قال الله تعالى: « وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم » [ المطففين: 8 ] قاله الزجاج واختاره. وقيل: هو فعيل من أسجلته أي أرسلته؛ فكأنها مرسلة عليهم. وقيل: هو من أسجلته إذا أعطيته؛ فكأنه عذاب أعطوه؛ قال:
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقال أهل المعاني: السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب؛ قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا
« منضود » قال ابن عباس: متتابع. وقال قتادة: نضد بعضها فوق بعض. وقال الربيع: نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا. وقال عكرمة: مصفوف. وقال بعضهم مرصوص؛ والمعنى متقارب. يقال: نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد؛ قال:
ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال أبو بكر الهذلي: معد؛ أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. « مسومة » أي معلمة، من السيما وهي العلامة؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
و « مسومة » من نعت حجارة. و « منضود » من نعت « سجيل » . وفي قوله: « عند ربك » دليل على أنها ليست من حجارة الأرض؛ قاله الحسن. « وما هي من الظالمين ببعيد » يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وما هي من الظالمين ببعيد » . وفي رواية عنه عليه السلام ( لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا أدبار النساء فتصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من ربك ) . وقيل: المعنى ما هذه القرى من الظالمين ببعيد؛ وهي بين الشام والمدينة. وجاء « ببعيد » مذكرا على معنى بمكان بعيد. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما. أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها.
=============
الآية: 68 ( كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود )
الآية: 69 ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ )
قوله تعالى: « ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى » هذه قصة لوط عليه السلام؛ وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام لحا، وكانت قوى لوط بنوا حي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافا. ( وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ) ؛ قاله ابن عباس. الضحاك: كانوا تسعة. السدي: أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، ذو وضاءة وجمال بارع. « بالبشري » قيل: بالولد. وقيل: بإهلاك قوم لوط. وقيل: بشروه بأنهم رسل الله عز وجل، وأنه لا خوف عليه. « قالوا سلاما » نصب بوقوع الفعل عليه؛ كما تقول: قالوا خيرا. وهذا اختيار الطبري. وأما قوله: « سيقولون ثلاثة » [ الكهف: 22 ] فالثلاثة اسم غير قول مقول. ولو رفعا جميعا أو نصبا جميعا « قالوا سلاما قال سلام » جاز في العربية. قيل: انتصب على المصدر. وقيل: « قالوا سلاما » أي فاتحوه بصواب من القول. كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] أي صوابا؛ فسلاما معنى قولهم لا لفظه؛ قال، معناه ابن العربي واختاره. قال: ألا ترى أن الله تعالى لما أراد ذكر اللفظ قاله بعينه فقال، مخبرا عن الملائكة: « سلام عليكم بما صبرتم » [ الرعد: 24 ] « سلام عليكم طبتم » [ الزمر: 73 ] وقيل: دعوا له؛ والمعنى سلمت سلاما. « قال سلام » في رفعه وجهان: أحدهما: على إضمار مبتدأ أي هو سلام، وأمري سلام. والآخر بمعنى سلام عليكم إذا جعل بمعنى التحية؛ فأضمر الخبر. وجاز سلام على التنكير لكثرة استعماله، فحذف الألف واللام كما حذفت من لا هم في قولك اللهم. وقرئ « سلم » قال الفراء: السلم والسلام بمعنى؛ مثل الحل والحلال.
قوله تعالى: « فما لبث أن جاء » « أن » بمعنى حتى، قاله كبراء النحويين؛ حكاه ابن العربي. التقدير: فما لبث حتى جاء. وقيل: « أن » في موضع نصب بسقوط حرف الجر؛ التقدير: فما لبث عن أن جاء؛ أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل؛ فلما حذف حرف الجر بقي « أن » في محل النصب. وفي « لبث » ضمير اسم إبراهيم. و « ما » نافية؛ قال سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي ما أبطأ مجيئه؛ فأن في موضع رفع، ولا ضمير في « لبث » ، و « ما » نافية؛ ويصح أن تكون « ما » بمعنى الذي، وفي « لبث » ضمير إبراهيم و « أن جاء » خبر « ما » أي فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ. و « حنيذ » مشوي. وقيل: هو المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار. يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ. وحنذت الفرس أحنذه حنذا، وهو أن تحضره شوطا أو شوطين ثم تظاهر عليه الجلال في الشمس ليعرق، فهو محنوذ وحنيذ؛ فإن لم يعرق قيل: كبا. وحنذ موضع قريب من المدينة. وقيل: الحنيذ السميط. ابن عباس وغيره: ( حنيذ نضيج. وحنيذ بمعنى محنوذ ) ؛ وإنما جاء بعجل لأن البقر كانت أكثر أموال.
في هذه الآية من أدب الضيّف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في « البقرة » وليست بواجبة عند عامة أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة ) . والجائزة العطية والصلة التي أصلها على الندب. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) . وإكرام الجار ليس بواجب إجماعا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليلة الضيف حق ) إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف؛ فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد؛ وذكر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: ( فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا فلدغ سيد ذلك الحي ) الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقا للام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين أبوا، ولبين لهم ذلك.
اختلف العلماء فيمن يخاطب بها؛ فذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر حكى اللغتين صاحب العين وغيره. واحتجوا بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر ) . وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبدالرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قال أبو عمر بن عبدالبر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات؛ ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة؛ فإن كان غريبا فهي فريضة.
قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ من أين علم أنه قليل؟ ! بل قد نقل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم؛ وعجل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم فاجتنبوه فقد علمتموه.
السنة إذا قدم للضيف الطعام أن يبادر المقدِّم إليه بالأكل؛ فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم؛ وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول؛ فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم « نكرهم وأوجس منهم خيفة » أي أضمر. وقيل: أحس؛ والوجوس الدخول؛ قال الشاعر:
جاء البريد بقرطاس يخب به فأوجس القلب من قرطاسه جزعا
« خيفة » خوفا؛ أي فزعا. وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرا؛ فقالت الملائكة « لا تخف إنا أرسلنا إلى لوط »
من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبدالملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟ ! والله لا أكلت معك.
قلت: وقد ذكر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبدالملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
الآية: 70 ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط )
قوله تعالى: « قلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم » يقول: أنكرهم؛ تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته؛ قال الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع بين اللغتين. ويقال: نكرت لما تراه بعينك. وأنكرت لما تراه بقلبك.
الآية: 71 ( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب )
قوله تعالى: « وامرأته قائمة » ابتداء وخبر، أي قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود « وامرأته قائمة وهو قاعد » . « فضحكت » قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة؛ تحقيقا للبشارة؛ وأنشد على ذلك اللغويون:
وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا
وقال آخر:
وضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا
والعرب تقول: ضحكت الأرنب إذا حاضت؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة؛ أخذ من قولهم: ( ضحكت الكافورة - وهي قشرة الطلعة - إذا انشقت ) . وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت. وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلفوا فيه؛ فقيل: هو ضحك التعجب؛ قال أبو ذؤيب:
فجاء بمزج لم ير الناس مثله هو الضحك إلا أنه عمل النحل
وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه؛ وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة؛ وإنما هو كناية. وروي أن الملائكة مسحت العجل، فقام من موضعه فلحق بأمه، فضحكت سارة عند ذلك فبشروها بإسحاق. ويقال: كان إبراهيم عليه السلام إذا أراد أن يكرم أضيافه أقام سارة تخدمهم، فذلك قوله: « وامرأته قائمة » أي قائمة في خدمتهم. ويقال: « قائمة » لروع إبراهيم « فضحكت » لقولهم: « لا تخف » سرورا بالأمن. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير؛ المعنى: فبشرناها بإسحاق فضحكت، أي ضحكت سرورا بالولد، وقد هرمت، والله أعلم أي ذلك كان. قال النحاس فيه أقوال: أحسنها - أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فرح بذلك، فضحكت امرأته سرورا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسب أن هؤلاء القوم سينزل بهم عذاب فضم لوطا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سرت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيت فلانا ضاحكا؛ أي مشرقا. وأتيت على روضة تضحك؛ أي مشرقة. وفي الحديث ( إن الله سبحانه يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك ) . جعل انجلاءه عن البرق ضحكا؛ وهذا كلام مستعار. وروي عن رجل من قراء مكة يقال له محمد بن زياد الأعرابي. « فضحكت » بفتح الحاء؛ قال المهدوي؛ وفتح « الحاء » من « فضحكت » غير معروف. وضَحِك يضْحَك ضَحْكا وضِحْكا وضِحِكا وضَحِكا أربع لغات. والضَّحْكة المرة الواحدة، ومنه قول كثير:
غلقت لضحكته رقاب المال
قاله الجوهري:
روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له « باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس » . قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم.
ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن؛ فقال لهم: « ثمنه أن تذكروا الله في أوله وتحمدوه في آخره » فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا. قال علماؤنا: ولم يأكلوا لأن الملائكة لا تأكل. وقد كان من الجائز كما يسر الله للملائكة أن يتشكلوا في صفة الآدمي جسدا وهيئة أن ييسر لهم أكل الطعام؛ إلا أنه في قول العلماء أرسلهم في صفة الآدمي وتكلف إبراهيم عليه السلام الضيافة حتى إذا رأى التوقف وخاف جاءته البشرى فجأة. ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا؛ وقد جاء في الإسرائيليات أن إبراهيم عليه السلام كان لا يأكل وحده؛ فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه؛ فلقي يوما رجلا، فلما جلس معه على الطعام، قال له إبراهيم: سم الله، قال الرجل لا أدري ما الله؟ فقال له: فاخرج عن طعامي، فلما خرج نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله إنه يرزقه على كفره مدى عمره وأنت بخلت عليه بلقمة؛ فخرج إبراهيم فزعا يجر رداءه، وقال: ارجع، فقال: لا أرجع حتى تخبرني لم تردني لغير معنى؟ فأخبره بالأمر؛ فقال: هذا رب كريم، آمنت؛ ودخل وسمى الله وأكل مؤمنا.
قوله تعالى: « فبشرناها بإسحاق » لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. « ومن وراء إسحاق يعقوب » قرأ حمزة وعبدالله بن عامر « يعقوب » بالنصب. ورفع الباقون؛ فالرفع على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في « من » كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالابتداء، ويكون في موضع الحال؛ أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب. والنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب. وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون « يعقوب » في موضع جر على معنى: وبشرناها من وراء إسحاق بيعقوب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلا بإعادة الحرف الخافض؛ قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا؛ لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو، كما فرقت بين الجار والمجرور؛ لأن الجار لا يفصل بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو.
الآية: 72 ( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب )
قوله تعالى: « يا ويلتا » قال الزجاج: أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و « أألد » استفهام معناه التعجب. « وأنا عجوز » أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا.
قوله تعالى: « وهذا بعلي شيخا » « وهذا بعلي » أي زوجي. « شيخا » نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. « وهذا بعلي » ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفي قراءة ابن مسعود وأبي « وهذا بعلي شيخ » قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « هذا » مبتدأ « وزيد قائم » خبرين؛ وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عرضت بقولها: « وهذا بعلي شيخا » أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. « إن هذا لشيء عجيب » أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.
الآية: 73 ( قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد )
قوله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله » لما قالت: « وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا » وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه. وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في « الصافات » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « رحمة الله وبركاته » مبتدأ، والخبر « عليكم » . وحكى سيبويه « عليكم » بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. « أهل البيت » نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء.
هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم: « ويطهركم تطهيرا » [ الأحزاب: 33 ] وسيأتي.
ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام « وبركاته » كما أخبر الله عن صالحي عباده « رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » . والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: ( إن السلام انتهى إلى البركة ) . وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك ) . قال: ودخلت الثانية؛ فقلت: السلام عليكم ورحمة الله فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك ) . فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء ) . « إنه حميد مجيد » أي محمود ماجد. وقد بيناهما في « الأسماء الحسنى » .
الآيات: 74 - 76 ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود )
قوله تعالى: « فلما ذهب عن إبراهيم الروع » أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة:
فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن صرد
« وجاءته البشرى » أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. « يجادلنا » أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا: لا. قال قتادة: نحوا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: « إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين » [ العنكبوت: 32 ] . وقال عبدالرحمن ابن سمرة: كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن « يجادلنا » في موضع « جادلنا » . قال النحاس: لما كان جواب « لما » يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر: أن يكون « يجادلنا » في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفراء. « إن إبراهيم لحليم : لأواه منيب » تقدم في « براءة » معنى « لأواه حليم » [ التوبة: 114 ] والمنيب الراجع؛ يقال: إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
قوله تعالى: « يا إبراهيم أعرض عن هذا » أي دع عنك الجدال في قوم لوط. « إنه قد جاء أمر ربك » أي عذابه لهم. « إنهم آتيهم » أي نازل بهم. « عذاب غير مردود » أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع.
الآية: 77 ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب )
قوله تعالى: « ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم » لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم. « سيء بهم » أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: « سي بهم » مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. « وضاق بهم ذرعا » أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. « وقال هذا يوم عصيب » أي شديد في الشر. وقال الشاعر:
وإنك إلا ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب
وقال آخر:
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا
ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق.
الآية: 78 ( وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد )
قوله تعالى: « وجاءه قومه يهرعون إليه » في موضع الحال. « يهرعون » أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
وقال آخر:
بمعجلات نحوه مهارع
وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان. وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا « يهرعون » أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: ( « يهرعون » يهرولون ) . الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى. وقال الحسن: مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.
قوله تعالى: « ومن قبل » أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط. « كانوا يعملون السيئات » أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: « هؤلاء بناتي » ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله: « هؤلاء بناتي » فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله: « بناتي » إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب: 6 ] . وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.
قوله تعالى: « هن أطهر لكم » ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: ( كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته ) . وليس ألف « أطهر » للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد: اعل هبل اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ( قل الله أعلى وأجل ) . وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو « هن أطهر » بالنصب على الحال. و « هن » عماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون « هن » ههنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. قال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها.
قوله تعالى: « فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي » أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان:
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق
ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
وقال آخر:
من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله: « أليس منكم رجل رشيد » أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل: « رشيد » أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم.
الآية: 79 ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد )
قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. « وإنك لتعلم ما نريد » إشارة إلى الأضياف.
الآية: 80 ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )
قوله تعالى: « قال لو أن لي بكم قوة » لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. « لو أن لي بكم قوة » أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و « أن » في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في « أن » التابعة لـ « لو » . وجواب « لو » محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. « أو آوي إلى ركن شديد » أي ألجأ وأنضوي. وقرئ « أو آوي » بالنصب عطفا على « قوة » كأنه قال: « لو أن لي بكم قوة » أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار « أن » . ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) الحديث؛ وقد تقدم في « البقرة » . وخرجه الترمذي وزاد ( ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه ) . قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنح عن الباب؛ فتنحى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء؛ قال الله تعالى: « ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم » [ القمر: 37 ] . وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم. وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه.
الآية: 81 ( قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب )
قوله تعالى: « قالوا يا لوط إنا رسل ربك » لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. « لن يصلوا إليك » أي بمكروه « فأسر بأهلك » قرئ « فاسر » بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: « والليل إذا يسر » [ الفجر: 4 ] وقال: « سبحان الذي أسرى » [ الإسراء: 1 ] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين:
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
وقد قيل: « فأسر » بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل
وقال عبدالله بن رواحة:
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
« بقطع من الليل » قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع من الليل. وكلها متقاربة؛ وقيل: إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر:
ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد
فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى « بقطع من الليل » ؟ فالجواب: أنه لو لم يقل: « بقطع من الليل » جاز أن يكون أوله. « ولا يلتفت منكم أحد » أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. « إلا امرأتك » بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك إلا امرأتك » فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل: « كانت من الغابرين » [ الأعراف: 83 ] أي من الباقين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: « إلا امرأتك » بالرفع على البدل من « أحد » . وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال: لا يصح ذلك إلا برفع « يلتفت » ويكون نعتا؛ لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه: انههم عن القيام إلا زيدا؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال: انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها. « إنه مصيبها » أي من العذاب، والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة. « مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح » لما قالت الملائكة: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا: « أليس الصبح بقريب » وقرأ عيسى بن عمر « أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم؛ لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. وقال بعض أهل التفسير: إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر؛ وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
الآيتان: 82 - 83 ( فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد )
قوله تعالى: « فلما جاء أمرنا » أي عذابنا. « جعلنا عاليها سافلها » وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة. مقاتل. أهلكت أربعة، ونجت ضعوه. وقيل: غير هذا، والله أعلم.
قوله تعالى: « وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » دليل على أن من فعل فعلهم حكمه الرجم، وقد تقدم في « الأعراف » . وفي التفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرحمة. وأما كلام العرب فيقال: مطرت السماء وأمطرت: حكاه الهروي. واختلف في « السجيل » فقال النحاس: السجيل الشديد الكثير؛ وسجيل وسجين اللام والنون أختان. وقال أبو عبيدة: السجيل الشديد؛ وأنشد:
ضربا تواصى به الأبطال سجينا
قال النحاس: ورد عليه هذا القول عبدالله بن مسلم وقال: هذا سجين وذلك سجيل فكيف يستشهد به؟! قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم؛ لأن أبا عبيدة ذهب إلى أن اللام تبدل من النون لقرب إحداهما من الأخرى؛ وقول أبي عبيدة يرد من جهة أخرى؛ وهي أنه لو كان على قوله لكان حجارة سجيلا؛ لأنه لا يقال: حجارة من شديد؛ لأن شديدا نعت. وحكى أبو عبيدة عن الفراء أنه قد يقال لحجارة الأرحاء سجيل. وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجيلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء. وقالت طائفة منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وابن إسحاق: إن سجيلا لفظة غير عربية عربت، أصلها سنج وجيل. ويقال: سنك وكيل؛ بالكاف موضع الجيم، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسما واحدا. وقيل: هو من لغة العرب. وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين بدليل قوله « لنرسل عليهم حجارة من طين » [ الذاريات: 33 ] . وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب. وقال الضحاك: يعني الآجر. وقال ابن زيد: طين طبخ حتى كان كالآجر؛ وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا؛ ذكره المهدوي؛ وحكاه الثعلبي عن أبي العالية؛ وقال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بـ « منضود » . وعن عكرمة: أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة. وقيل: هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: « وينزل من السماء من جبال فيها من برد » [ النور: 43 ] . وقيل: هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم؛ فهو في معنى سجين؛ قال الله تعالى: « وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم » [ المطففين: 8 ] قاله الزجاج واختاره. وقيل: هو فعيل من أسجلته أي أرسلته؛ فكأنها مرسلة عليهم. وقيل: هو من أسجلته إذا أعطيته؛ فكأنه عذاب أعطوه؛ قال:
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقال أهل المعاني: السجيل والسجين الشديد من الحجر والضرب؛ قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا
« منضود » قال ابن عباس: متتابع. وقال قتادة: نضد بعضها فوق بعض. وقال الربيع: نضد بعضه على بعض حتى صار جسدا واحدا. وقال عكرمة: مصفوف. وقال بعضهم مرصوص؛ والمعنى متقارب. يقال: نضدت المتاع واللبن إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد ونضد؛ قال:
ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال أبو بكر الهذلي: معد؛ أي هو مما أعده الله لأعدائه الظلمة. « مسومة » أي معلمة، من السيما وهي العلامة؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
و « مسومة » من نعت حجارة. و « منضود » من نعت « سجيل » . وفي قوله: « عند ربك » دليل على أنها ليست من حجارة الأرض؛ قاله الحسن. « وما هي من الظالمين ببعيد » يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد. وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة؛ والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال ونساؤهم بالنساء فإذا كان ذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وما هي من الظالمين ببعيد » . وفي رواية عنه عليه السلام ( لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا أدبار النساء فتصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من ربك ) . وقيل: المعنى ما هذه القرى من الظالمين ببعيد؛ وهي بين الشام والمدينة. وجاء « ببعيد » مذكرا على معنى بمكان بعيد. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما. أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجا عنها.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 84 ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط )
قوله تعالى: « وإلى مدين أخاهم شعيبا » أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم بنو مدين بن إبراهيم؛ فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة؛ وقد تقدم في « الأعراف » هذا المعنى وزيادة. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « ولا تنقصوا المكيال والميزان » كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا له بغاية ما يقدرون؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. « إني أراكم بخير » أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم. وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. « وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط » وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد؛ أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب؛ فقيل: هو عذاب النار في الآخرة. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: غلاء السعر؛ روي معناه عن ابن عباس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء ) . وقد تقدم.
الآية: 85 ( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
قوله تعالى: « ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط » أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. « بالقسط » أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. « ولا تبخسوا الناس أشياءهم » أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. « ولا تعثوا في الأرض مفسدين » بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في « الأعراف » زيادة لهذا، والحمد لله.
الآية: 86 ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ )
قوله تعالى: « بقية الله خير لكم » أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره. وقال مجاهد: « بقية الله خير لكم » يريد طاعته. وقال الربيع: وصية الله. وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. « إن كنتم مؤمنين » شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. « وما أنا عليكم بحفيظ » أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم.
الآية: 87 ( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )
قوله تعالى: « قالوا يا شعيب أصلواتك » وقرئ « أصَلاتُك » من غير جمع. « تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » « أن » في موضع نصب؛ قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء. وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس « أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء » بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس: « أو أن » على هذه القراءة معطوفة على « أن » الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم. وقيل: معنى. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!. « إنك لأنت الحليم الرشيد » يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » [ الدخان: 49 ] أي عند نفسك بزعمك. وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قاله قتادة. ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » . وقال سفيان بن عيينة: العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل؛ كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة. وقيل: هو تعريض أرادوا به السب؛ وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته؛ أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا! ويدل عليه. « أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه.
الآية: 88 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: ( يا إخوة القردة ) فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا!.
مسألة: قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم. وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبدالله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس؛ فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها؛ وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة؛ فأضر ذلك، بالناس؛ ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: « وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون » [ النمل: 48 ] أنهم كانوا يكسرون الدراهم؛ قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي.
مسألة: قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.
مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبدالرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يرد إليه؛ فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء؛ فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى.
قوله تعالى: « ورزقني منه رزقا حسنا » أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه. « وما أريد أن أخالفكم » في موضع نصب بـ « أريد » . « إلى ما أنهاكم عنه » أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت » أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال: « ما استطعت » لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و « ما » مصدرية؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. « وما توفيقي » أي رشدي، والتوفيق الرشد. « إلا بالله عليه توكلت » أي اعتمدت. « وإليه أنيب » أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل: إليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو.
الآية: 89 ( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد )
قوله تعالى: « ويا قوم لا يجرمنكم » وقرأ يحيى بن وثاب « يُجْرِمَنَّكُمْ » . لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. « شقاقي » في موضع رفع. « أن يصيبكم » في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة. وقيل: لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى « يجرمنكم » في « المائدة » و « الشقاق » في « البقرة » وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل:
ألا من مبلغ عني رسولا فكيف وجدتم طعم الشقاق
وقال الحسن البصري: إضراري. وقال قتادة: فراقي. « وما قوم لوط منكم ببعيد » وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم.
الآية: 90 ( واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود )
قوله تعالى: « واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم. « إن ربي رحيم ودود » اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب « الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » . قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: ( ذاك خطيب الأنبياء ) .
=============
الآية: 84 ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط )
قوله تعالى: « وإلى مدين أخاهم شعيبا » أي وأرسلنا إلى مدين، ومدين هم قوم شعيب. وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم بنو مدين بن إبراهيم؛ فقيل: مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة؛ وقد تقدم في « الأعراف » هذا المعنى وزيادة. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » تقدم. « ولا تنقصوا المكيال والميزان » كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا له بغاية ما يقدرون؛ فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء نهيا عن التطفيف. « إني أراكم بخير » أي في سعة من الرزق، وكثرة من النعم. وقال الحسن: كان سعرهم رخيصا. « وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط » وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم؛ فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد؛ أي شديد حره. واختلف في ذلك العذاب؛ فقيل: هو عذاب النار في الآخرة. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: غلاء السعر؛ روي معناه عن ابن عباس. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء ) . وقد تقدم.
الآية: 85 ( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
قوله تعالى: « ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط » أمر بالإيفاء بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا. والإيفاء الإتمام. « بالقسط » أي بالعدل والحق، والمقصود أن يصل كل ذي كل نصيب إلى نصيبه؛ وليس يريد إيفاء المكيال والموزون لأنه لم يقل: أوفوا بالمكيال وبالميزان؛ بل أراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات. « ولا تبخسوا الناس أشياءهم » أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا. « ولا تعثوا في الأرض مفسدين » بين أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض، وقد مضى في « الأعراف » زيادة لهذا، والحمد لله.
الآية: 86 ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ )
قوله تعالى: « بقية الله خير لكم » أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم؛ قال معناه الطبري، وغيره. وقال مجاهد: « بقية الله خير لكم » يريد طاعته. وقال الربيع: وصية الله. وقال الفراء: مراقبة الله. ابن زيد: رحمة الله. قتادة والحسن: حظكم من ربكم خير لكم. وقال ابن عباس: رزق الله خير لكم. « إن كنتم مؤمنين » شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة هذا إن كانوا مؤمنين. وقيل: يحتمل أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم فخاطبهم بهذا. « وما أنا عليكم بحفيظ » أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم؛ أي لا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق. وقيل: أي لا يتهيأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم.
الآية: 87 ( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد )
قوله تعالى: « قالوا يا شعيب أصلواتك » وقرئ « أصَلاتُك » من غير جمع. « تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » « أن » في موضع نصب؛ قال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء. وروي أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة، مواظبا على العبادة فرضها ونقلها ويقول: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ فلما أمرهم ونهاهم عيروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به فقالوا ما أخبر الله عنهم. وقيل: إن الصلاة هنا بمعنى القراءة؛ قاله سفيان عن الأعمش، أي قراءتك تأمرك؛ ودل بهذا على أنهم كانوا كفارا. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » زعم الفراء أن التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقرأ السلمي والضحاك بن قيس « أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء » بالتاء في الفعلين، والمعنى: ما تشاء أنت يا شعيب. وقال النحاس: « أو أن » على هذه القراءة معطوفة على « أن » الأولى. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم. وقيل: معنى. « أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء » إذا تراضينا فيما بيننا بالبخس فلم تمنعنا منه؟!. « إنك لأنت الحليم الرشيد » يعنون عند نفسك بزعمك. ومثله في صفة أبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » [ الدخان: 49 ] أي عند نفسك بزعمك. وقيل: قالوه على وجه الاستهزاء والسخرية، قاله قتادة. ومنه قولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض أبو الجون؛ ومنه قول خزنة جهنم لأبي جهل: « ذق إنك أنت العزيز الكريم » . وقال سفيان بن عيينة: العرب تصف الشيء بضده للتطير والتفاؤل؛ كما قيل للديغ سليم، وللفلاة مفازة. وقيل: هو تعريض أرادوا به السب؛ وأحسن من هذا كله، ويدل ما قبله على صحته؛ أي إنك أنت الحليم الرشيد حقا، فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا! ويدل عليه. « أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا » أنكروا لما رأوا من كثرة صلاته وعبادته، وأنه حليم رشيد بأن يكون يأمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم، وبعده أيضا ما يدل عليه.
الآية: 88 ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أي أفلا أنهاكم عن الضلال؟! وهذا كله يدل على أنهم قالوه على وجه الحقيقة، وأنه اعتقادهم فيه. ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: ( يا إخوة القردة ) فقالوا: يا محمد ما علمناك جهولا!.
مسألة: قال أهل التفسير: كان مما ينهاهم عنه، وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم؛ كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن. وقال ابن وهب قال مالك: كانوا يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهما؛ وكسرهما ذنب عظيم. وفي كتاب أبي داود عن علقمة بن عبدالله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس؛ فإنها إذا كانت صحاحا قام معناها؛ وظهرت فائدتها، وإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت منها الفائدة؛ فأضر ذلك، بالناس؛ ولذلك حرم. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: « وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون » [ النمل: 48 ] أنهم كانوا يكسرون الدراهم؛ قاله زيد بن أسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: زعموا أنه لم يكن بالمدينة أعلم بتأويل القرآن من زيد بن أسلم بعد محمد بن كعب القرظي.
مسألة: قال أصبغ قال عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة مولى زيد بن الحارث العتقي: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر، وليس هذا بموضع عذر؛ قال ابن العربي: أما قوله: لم تقبل شهادته فلأنه أتى كبيرة، والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر؛ وأما قوله: لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بين لا يخفى على أحد، وإنما يقبل العذر إذا ظهر الصدق فيه، أو خفي وجه الصدق فيه، وكان الله أعلم به من العبد كما قال مالك.
مسألة: إذا كان هذا معصية وفسادا ترد به الشهادة فإنه يعاقب من فعل ذلك، ومر ابن المسيب برجل قد جلد فقال: ما هذا؟ قال رجل: يقطع الدنانير والدراهم؛ قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض؛ ولم ينكر جلده؛ ونحوه عن سفيان. وقال أبو عبدالرحمن النجيبي: كنت قاعدا عند عمر بن عبدالعزيز وهو إذ ذاك أمير المدينة فأتى برجل يقطع الدراهم وقد شهد عليه فضربه وحلقه، وأمر فطيف به، وأمره أن يقول: هذا جزاء من يقطع الدراهم؛ ثم أمر أن يرد إليه؛ فقال: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن تقدمت في ذلك قبل اليوم، وقد تقدمت في ذلك فمن شاء فليقطع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما أدبه بالسوط فلا كلام فيه، وأما حلقه فقد فعله عمر؛ وقد كنت أيام الحكم بين الناس أضرب وأحلق، وإنما كنت أفعل ذلك بمن يرى شعره عونا له على المعصية، وطريقا إلى التجمل به في الفساد، وهذا هو الواجب في كل طريق للمعصية، أن يقطع إذا كان غير مؤثر في البدن، وأما قطع يده فإنما أخذ ذلك عمر من فصل السرقة؛ وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص للقدر، فهو أخذ مال على جهة الاختفاء؛ فإن قيل: أليس الحرز أصلا في القطع؟ قلنا: يحتمل أن يكون عمر يرى أن تهيئتها للفصل بين الخلق دينارا أو درهما حرز لها، وحرز كل شيء على قدر حاله؛ وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدنانير والدراهم. وقد قال علماؤنا المالكية: إن الدنانير والدراهم خواتيم الله عليها اسمه؛ ولو قطع على قول أهل التأويل من كسر خاتما لله كان أهلا لذلك، أو من كسر خاتم سلطان عليه اسمه أدب، وخاتم الله تقضى به الحوائج فلا يستويان في العقوبة. قال ابن العربي: وأرى أن يقطع في قرضها دون كسرها، وقد كنت أفعل ذلك أيام توليتي الحكم، إلا أني كنت محفوفا بالجهال، فلم أجبن بسبب المقال للحسدة الضلال فمن قدر عليه يوما من أهل الحق فليفعله احتسابا لله تعالى.
قوله تعالى: « ورزقني منه رزقا حسنا » أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: أراد به. الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، وفي الكلام حذف، وهو ما ذكرناه؛ أي أفلا أنهاكم عن الضلال! وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتبع الضلال؟ وقيل: المعنى « أرأيتم إن كنت على بينة من ربي » أتأمرونني بالعصيان في البخس والتطفيف، وقد أغناني الله عنه. « وما أريد أن أخالفكم » في موضع نصب بـ « أريد » . « إلى ما أنهاكم عنه » أي ليس أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. « إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت » أي ما أريد إلا فعل الصلاح؛ أي أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، وقال: « ما استطعت » لأن الاستطاعة من شروط الفعل دون الإرادة. و « ما » مصدرية؛ أي إن أريد إلا الإصلاح جهدي واستطاعتي. « وما توفيقي » أي رشدي، والتوفيق الرشد. « إلا بالله عليه توكلت » أي اعتمدت. « وإليه أنيب » أي أرجع فيما ينزل بي من جميع النوائب. وقيل: إليه أرجع في الآخرة. وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه وله أدعو.
الآية: 89 ( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد )
قوله تعالى: « ويا قوم لا يجرمنكم » وقرأ يحيى بن وثاب « يُجْرِمَنَّكُمْ » . لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول: آثمني أي أدخلني في الإثم. « شقاقي » في موضع رفع. « أن يصيبكم » في موضع نصب، أي لا يحملنكم معاداتي على ترك الإيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار قبلكم، قاله الحسن وقتادة. وقيل: لا يكسبنكم شقاقي إصابتكم العذاب، كما أصاب من كان قبلكم، قاله الزجاج. وقد تقدم معنى « يجرمنكم » في « المائدة » و « الشقاق » في « البقرة » وهو هنا بمعنى العداوة، قاله السدي، ومنه قول الأخطل:
ألا من مبلغ عني رسولا فكيف وجدتم طعم الشقاق
وقال الحسن البصري: إضراري. وقال قتادة: فراقي. « وما قوم لوط منكم ببعيد » وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط. وقيل: وما ديار قوم لوط منكم ببعيد؛ أي بمكان بعيد، فلذلك وحد البعيد. قال الكسائي: أي دورهم في دوركم.
الآية: 90 ( واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود )
قوله تعالى: « واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم. « إن ربي رحيم ودود » اسمان من أسمائه سبحانه، وقد بيناهما في كتاب « الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » . قال الجوهري: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود والمودة المحبة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: ( ذاك خطيب الأنبياء ) .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 91 ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز )
قوله تعالى: « قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول » أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. « وإنا لنراك فينا ضعيفا » قيل: إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له: مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و « ضعيفا » نصب على الحال. « ولولا رهطك » رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى « لرجمناك » لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى « لرجمناك » لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي:
تراجمنا بمر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان
والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم. « وما أنت علينا بعزيز » أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
الآية: 92 ( قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرهطي » « أرهطي » رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم « أعز عليكم من الله » وأعظم وأجل وهو يملككم. « واتخذتموه وراءكم ظهريا » أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في « البقرة » ، « إن ربي بما تعملون » أي من الكفر والمعصية. « محيط » أي عليم. وقيل: حفيظ.
الآيتان: 93 ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب )
قوله تعالى: « ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون » تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في « الأنعام » . « من يأتيه عذاب يخزيه » أي يهلكه. و « من » في موضع نصب، مثل « يعلم المفسد من المصلح » [ البقرة: 220 ] . « ومن هو كاذب » عطف عليها. وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل: في محل رفع؛ تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ « هو » في « ومن هو كاذب » لأنهم لا يقولون من قائم؛ إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم؛ فزادوا « هو » ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله:
من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
« وارتقبوا إني معكم رقيب » أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة.
الآية: 94 - 95 ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود )
قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم « وأخذت الذين ظلموا الصيحة » أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود » تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ « كما بعدت ثمود » بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من « بعدت » فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.
الآيتان: 96 - 97 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة « بآياتنا » أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. « وسلطان مبين » أي حجة بينة؛ يعني العصا. وقد مضى في « آل عمران » معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. « إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون » أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. « وما أمر فرعون برشيد » أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل: « برشيد » أي بمرشد إلى خير.
الآية: 98 ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود )
قوله تعالى: « يقدم قومه يوم القيامة » يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. « فأوردهم النار » أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي؛ والمعنى فيوردهم النار؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. « وبئس الورد المورود » أي بئس المدخل المدخول؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك. والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد؛ وهو بمعنى المفعول.
الآية: 99 ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود )
قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه لعنة » أي في الدنيا. « ويوم القيامة » أي ولعنة يوم القيامة؛ وقد تقدم هذا المعنى. « بئس الرفد المرفود » حكى الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفدا؛ أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد؛ أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم؛ قاله الجوهري، والتقدير: بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي: أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب؛ حكى ذلك عن الأصمعي؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل: إن الرفد الزيادة؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار؛ قاله الكلبي.
الآيتان: 100 - 101 ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب )
قوله تعالى: « ذلك من أنباء القرى نقصه عليك » « ذلك » رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء؛ والمعنى: ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. « منها قائم وحصيد » قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر، والحصيد الخراب؛ قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد؛ قال الشاعر:
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وقال آخر:
إنما نحن مثل خامة زرع فمتى يأن يأت محتصده
قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض؛ قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى. « وما ظلمناهم » أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم في « البقرة » مستوفى. « ولكن ظلموا أنفسهم » بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه « فما أغنت » أي دفعت. « عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء » في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون. « وما زادوهم غير تتبيب » أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد:
فلقد بليت وكل صاحب جده لبلى يعود وذاكم التتبيب
والتباب الهلال والخسران؛ وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة.
الآيتان: 102 - 103 ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود )
قوله تعالى: « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى » وعن الجحدري أيضا « وكذلك أخذ ربك » كالجماعة « إذ أخذ القرى » . قال المهدوي من قرأ: « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ » فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم؛ والمعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر؛ والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل « وهي ظالمة » أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . « إن أخذه أليم شديد » أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.
قوله تعالى: « إن في ذلك لآية » أي لعبرة وموعظة. « ذلك يوم » ابتداء وخبر. « مجموع » من نعته.
قوله تعالى: « له الناس » اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع « الناس » بالابتداء، والخبر « مجموع له » فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير؛ لأن « له » يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم. « وذلك يوم مشهود » أي يشهده البر والفاجر؛ ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب « التذكرة » وبيناهما والحمد الله.
=============
الآية: 91 ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز )
قوله تعالى: « قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول » أي ما نفهم؛ لأنك تحملنا على أمور غائبة من البعث والنشور، وتعظنا بما لا عهد لنا بمثله. وقيل: قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقارا لكلامه؛ يقال: فقه يفقه إذا فهم فقها؛ وحكى الكسائي: فقه فقها وفقها إذا صار فقيها. « وإنا لنراك فينا ضعيفا » قيل: إنه كان مصابا ببصره؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة. وقيل: كان ضعيف البصر؛ قاله الثوري، وحكى عنه النحاس مثل قول سعيد بن جبير وقتادة. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيفا؛ أي قد ضعف بذهاب بصره؛ كما يقال، له ضرير؛ أي قد ضر بذهاب بصره؛ كما يقال له: مكفوف؛ أي قد كف عن النظر بذهاب بصره. قال الحسن: معناه مهين. وقيل: المعنى ضعيف البدن؛ حكاه علي بن عيسى. وقال السدي: وحيدا ليس لك جند وأعوان تقدر بها على مخالفتنا. وقيل: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها و « ضعيفا » نصب على الحال. « ولولا رهطك » رفع بالابتداء، ورهط الرجل عشيرته الذي يستند إليهم ويتقوى بهم؛ ومنه الراهطاء لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده. ومعنى « لرجمناك » لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة، وكان رهطه من أهل ملتهم. وقيل: معنى « لرجمناك » لشتمناك؛ ومنه قول الجعدي:
تراجمنا بمر القول حتى نصير كأننا فرسا رهان
والرجم أيضا اللعن؛ ومنه الشيطان الرجيم. « وما أنت علينا بعزيز » أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
الآية: 92 ( قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط )
قوله تعالى: « قال يا قوم أرهطي » « أرهطي » رفع بالابتداء؛ والمعنى أرهطي في قلوبكم « أعز عليكم من الله » وأعظم وأجل وهو يملككم. « واتخذتموه وراءكم ظهريا » أي اتخذتم ما جئتكم به من أمر الله ظهريا؛ أي جعلتموه وراء ظهوركم، وامتنعتم من قتلي مخافة قومي يقال: جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وقد مضى في « البقرة » ، « إن ربي بما تعملون » أي من الكفر والمعصية. « محيط » أي عليم. وقيل: حفيظ.
الآيتان: 93 ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب )
قوله تعالى: « ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون » تهديد ووعيد؛ وقد تقدم في « الأنعام » . « من يأتيه عذاب يخزيه » أي يهلكه. و « من » في موضع نصب، مثل « يعلم المفسد من المصلح » [ البقرة: 220 ] . « ومن هو كاذب » عطف عليها. وقيل: أي وسوف تعلمون من هو كاذب منا. وقيل: في محل رفع؛ تقديره: ويخزي من هو كاذب. وقيل: تقديره ومن هو كاذب فسيعلم كذبه، ويذوق وبال أمره. وزعم الفراء أنهم إنما جاؤوا بـ « هو » في « ومن هو كاذب » لأنهم لا يقولون من قائم؛ إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم؛ فزادوا « هو » ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قوله:
من رسولي إلى الثريا بأني ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
« وارتقبوا إني معكم رقيب » أي انتظروا العذاب والسخطة؛ فإني منتظر النصر والرحمة.
الآية: 94 - 95 ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود )
قوله تعالى: « ولما جاء أمرنا » قيل: صاح بهم جبريل صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم « وأخذت الذين ظلموا الصيحة » أي صيحة جبريل. وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » فذكر على معنى الصياح. قال ابن عباس: ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة؛ غير أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم. « فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود » تقدم معناه. وحكى الكسائي أن أبا عبدالرحمن السلمي قرأ « كما بعدت ثمود » بضم العين. قال النحاس: المعروف في اللغة إنما يقال بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: من ضم العين من « بعدت » فهي لغة تستعمل في الخير والشر، ومصدرها البعد؛ وبعدت تستعمل في الشر خاصة؛ يقال: بعد يبعد بعدا؛ فالبعد على قراءة الجماعة بمعنى اللعنة، وقد يجتمع معنى اللغتين لتقاربهما في المعنى؛ فيكون مما جاء مصدره على غير لفظه لتقارب المعاني.
الآيتان: 96 - 97 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » بين أنه أتبع النبي النبي لإقامة الحجة، وإزاحة كل علة « بآياتنا » أي بالتوراة. وقيل: بالمعجزات. « وسلطان مبين » أي حجة بينة؛ يعني العصا. وقد مضى في « آل عمران » معنى السلطان واشتقاقه فلا معنى للإعادة. « إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون » أي شأنه وحاله، حتى اتخذوه إلها، وخالفوا أمر الله تعالى. « وما أمر فرعون برشيد » أي بسديد يؤدي إلى صواب: وقيل: « برشيد » أي بمرشد إلى خير.
الآية: 98 ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود )
قوله تعالى: « يقدم قومه يوم القيامة » يعني أنه يتقدمهم إلى النار إذ هو رئيسهم. يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدمهم. « فأوردهم النار » أي أدخلهم فيها. ذكر بلفظ الماضي؛ والمعنى فيوردهم النار؛ وما تحقق وجوده فكأنه كائن؛ فلهذا يعبر عن المستقبل بالماضي. « وبئس الورد المورود » أي بئس المدخل المدخول؛ ولم يقل بئست لأن الكلام يرجع إلى المورود، وهو كما تقول: نعم المنزل دارك، ونعمت المنزل دارك. والمورود الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد؛ وهو بمعنى المفعول.
الآية: 99 ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود )
قوله تعالى: « وأتبعوا في هذه لعنة » أي في الدنيا. « ويوم القيامة » أي ولعنة يوم القيامة؛ وقد تقدم هذا المعنى. « بئس الرفد المرفود » حكى الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفدا؛ أي أعنته وأعطيته. واسم العطية الرفد؛ أي بئس العطاء والإعانة. والرفد أيضا القدح الضخم؛ قاله الجوهري، والتقدير: بئس الرفد رفد المرفود. وذكر الماوردي: أن الرفد بفتح الراء القدح، والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب؛ حكى ذلك عن الأصمعي؛ فكأنه ذم بذلك ما يسقونه في النار. وقيل: إن الرفد الزيادة؛ أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار؛ قاله الكلبي.
الآيتان: 100 - 101 ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب )
قوله تعالى: « ذلك من أنباء القرى نقصه عليك » « ذلك » رفع على إضمار مبتدأ، أي الأمر ذلك. وإن شئت بالابتداء؛ والمعنى: ذلك النبأ المتقدم من أنباء القرى نقصه عليك. « منها قائم وحصيد » قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه، والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر، والحصيد الخراب؛ قاله ابن عباس: وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها، وحصيد مستأصل؛ يعني محصودا كالزرع إذا حصد؛ قال الشاعر:
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وقال آخر:
إنما نحن مثل خامة زرع فمتى يأن يأت محتصده
قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض؛ قال: يكون فيمن يعقل حصدى، مثل قتيل وقتلى. « وما ظلمناهم » أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم في « البقرة » مستوفى. « ولكن ظلموا أنفسهم » بالكفر والمعاصي. وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه « فما أغنت » أي دفعت. « عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء » في الكلام حذف، أي التي كانوا يعبدون؛ أي يدعون. « وما زادوهم غير تتبيب » أي غير تخسير؛ قاله مجاهد وقتاده. وقال لبيد:
فلقد بليت وكل صاحب جده لبلى يعود وذاكم التتبيب
والتباب الهلال والخسران؛ وفيه إضمار؛ أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف؛ أي كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة.
الآيتان: 102 - 103 ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود )
قوله تعالى: « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة. وقرأ عاصم الجحدري وطلحة بن مصرف « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى » وعن الجحدري أيضا « وكذلك أخذ ربك » كالجماعة « إذ أخذ القرى » . قال المهدوي من قرأ: « وكذلك أخذ ربك إذ أخذ » فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم؛ والمعنى: وكذلك أخذ ربك من أخذه من الأمم المهلكة إذ أخذهم. وقراءة الجماعة على أنه مصدر؛ والمعنى: كذلك أخذ ربك من أراد إهلاكه متى أخذه؛ فإذ لما مضى؛ أي حين أخذ القرى؛ وإذا للمستقبل « وهي ظالمة » أي وأهلها ظالمون؛ فحذف المضاف مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . « إن أخذه أليم شديد » أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة. وفي صحيح مسلم والترمذي من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى » الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.
قوله تعالى: « إن في ذلك لآية » أي لعبرة وموعظة. « ذلك يوم » ابتداء وخبر. « مجموع » من نعته.
قوله تعالى: « له الناس » اسم ما لم يسم فاعله؛ ولهذا لم يقل مجموعون، فإن قدرت ارتفاع « الناس » بالابتداء، والخبر « مجموع له » فإنما لم يقل: مجموعون على هذا التقدير؛ لأن « له » يقوم مقام الفاعل. والجمع الحشر، أي يحشرون لذلك اليوم. « وذلك يوم مشهود » أي يشهده البر والفاجر؛ ويشهده أهل السماء. وقد ذكرنا هذين الاسمين مع غيرهما من أسماء القيامة في كتاب « التذكرة » وبيناهما والحمد الله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 104 - 105 ( وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد )
قوله تعالى: « وما نؤخره » أي ما نؤخر ذلك اليوم. « إلا لأجل معدود » أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا. « يوم يأتي » وقرئ « يوم يأت » لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة؛ تقول: لا أدر؛ ذكره القشيري. قال النحاس: قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج؛ وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ « يوم يأتي » بالياء في الوقف والوصل. وقرأ الأعمش وحمزة « يوم يأت » بغير باء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس: الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا: لا تحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي؛ قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما تحذف الضمة. وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما: أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء. والحجة الأخرى: أنه حكى أنها لغة هذيل؛ تقول: ما أدر؛ قال النحاس: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء؛ قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب؛ وأما حجته بقولهم: « ما أدر » فلا حجة فيه؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه. وأنشد الفراء في حذف الياء.
كفاك كف ما تليق دوهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
أي تعطي. وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال: والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب. « لا تكلم نفس إلا بإذنه » الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا. وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح. وقيل: المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه. وقيل: إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين. فيقول لم قال: « لا تكلم نفس إلا بإذنه » و « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] . وقال في موضع من ذكر القيامة: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] . وقال: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها » [ النحل: 111 ] . وقال: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] . وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] . والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. وقال: قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. « فمنهم شقي وسعيد » أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذكرهم قوله: « يوم مجموع له الناس » . والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة. والسعيد الذي كتبت عليه السعادة؛ قال لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع
وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية « فمنهم شقي وسعيد » سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: ( بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ) . قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر؛ وقد تقدم في « الأعراف » .
الآيات: 106 - 108 ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ )
قوله تعالى: « فأما الذين شقوا » ابتداء. « ففي النار » في موضع الخبر، وكذا « لهم فيها زفير وشهيق » قال أبو العالية: الزفير من الصدر. والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضا ضد ذلك. وقال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا؛ قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق. وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر:
حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق حتى يقال ناهق وما نهق
وقيل: الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل: الزفير ترديد النفس من شدة الحزن؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته؛ والشهيق النفس الطويل الممتد؛ مأخوذ من قولهم: جبل شاهق؛ أي طويل. والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.
قوله تعالى: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » « ما دامت » في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السماوات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا؛ فقالت. طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل: « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء » [ الزمر: 74 ] . وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار. عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به. طولا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السماوات. والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش.
قوله تعالى: « إلا ما شاء ربك » في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأولى: أنه استثناء من قوله: « ففي النار » كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله: « ما طاب لكم » [ النساء: 3 ] . وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ) . الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله: « فأما الذين شقوا » عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من « خالدين » ؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون ) وقد تقدم هذا المعنى في « النساء » وغيرها. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري. الرابع: قال ابن مسعود: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها « إلا ما شاء ربك » وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.
قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق. الخامس: أن « إلا » بمعنى « سوى » كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك. قيل: فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس: أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب. والقول الآخر: وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: « خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك » من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.
قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » [ إبراهيم: 48 ] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى: « وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق » [ الدخان: 39 ] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: « إلا ما شاء ربك » من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا. وقد قيل: إن « إلا » بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو: الثامن: والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: « إلا الذين ظلموا » [ البقرة: 150 ] أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون « إلا » بمعنى الواو، وقد مضى في « البقرة » بيانه. وقيل: معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » [ النساء: 22 ] أي كما قد سلف، وهو: التاسع، العاشر: وهو أن قوله تعالى: « إلا ما شاء رب » إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حد قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال: إن شاء ربك؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى: « عطاء غير مجذوذ » ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا؛ إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء. وقول: حادي عشر: وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن « ما » بمعنى « من » استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى: « فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.
وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي « وأما الذين سعدوا » بضم السين. وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي « سعدوا » مع علمه بالعربية! إذ كان هذا لحنا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به. وقال المهدوي: ومن ضم السين من « سعدوا » فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال: سعده الله؛ إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: « سعدوا » بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال: سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون « سعدوا » بفتح السين قياسا على « شقوا » واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشقاوة؛ تقول: منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه: مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود. وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم: وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى. « عطاء غير مجذوذ » أي غير مقطوع؛ من جذه يجذه أي قطعه؛ قال النابغة:
تجذ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
الآية: 109 ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص )
قوله تعالى: « فلا تك » جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال. « في مرية » أي في شك. « مما يعبد هؤلاء » من الآلهة أنها باطل. وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك « لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء » أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. « وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص » فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب؛ قال ابن زيد. الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الآية: 110 ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب )
قوله تعالى: « ولولا كلمة سبقت من ربك » « ولولا كلمة سبقت من ربك » الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب. وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. « وإنهم لفي شك منه مريب » إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.
الآية: 111 ( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير )
قوله تعالى: « وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم » أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة « وإن كلا لما » فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - « وإنْ كلا لَمَا » بالتخفيف، على أنها « إن » المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدا لمنطلق؛ وأنشد قول الشاعر:
كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم
أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف « إن » المشددة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال: ما أدري على أي شيء قرئ « وإن كلا » ! وزعم الفراء أنه نصب « كلا » في قراءة من خفف بقوله: « ليوفينهم » أي وإن ليوفينهم كلا؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه. وشدد الباقون « إن » ونصبوا بها « كلا » على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر « لما » بالتشديد. وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا « ما » صلة. وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ « ما » . وقال الزجاج: لام « لما » لام « إن » و « ما » زائدة مؤكدة؛ تقول: إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: إن الله لغفور رحيم، وقوله: « إن في ذلك لذكري » . واللام في « ليوفينهم » هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ « ما » و « ما » زائدة مؤكدة، وقال الفراء: « ما » بمعنى « من » كقوله: « وإن منكم لمن ليبطئن » [ النساء: 72 ] أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في « ليوفينهم » للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن « ما » عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى « من » . وقيل: ليست بزائد، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر « إن » و « ليوفينهم » جواب القسم، التقدير: وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم. وقيل: « ما » بمعنى « من » كقوله: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » [ النساء: 3 ] أي من؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد « لما » وقرأ « وإن كلا لما » بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل: إنه لحن؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته. وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة؛ وما أعرف لها وجها. وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول: أن أصلها « لمن ما » فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت « لما » و « ما » على هذا القول بمعنى « من » تقديره: وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم:
وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزيّف الزجاج هذا القول، وقال: « من » اسم على حرفين فلا يجوز حذفه. الثاني: أن الأصل. لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. وقيل: « لما » مصدر « لم » وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله: « وتأكلون التراث أكلا لما » [ الفجر: 19 ] أي جامعا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا: وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك: قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري « لما » بالتشديد والتنوين على هذا المعنى. الثالث: أن « لما » بمعنى « إلا » حكى أهل اللغة: سألتك بالله لما فعلت؛ بمعنى إلا فعلت؛ ومثله قوله تعالى: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] أي إلا عليها؛ فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القشيري: وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: « وإن كلا لما » حتى تقدر « إلا » ولا يقال: ذهب الناس لما زيد. الرابع: قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلا لما بتخفيف « لما » ثم ثقلت كقوله:
لقد خشيت أن أرى جدبا في عامنا ذا بعد ما أخصبا
وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ، إنما يخفف المثقل؛ ولا يثقل المخفف. الخامس: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته؛ ثم بني منه فعلى، كما قرئ « ثم أرسلنا رسلنا تترى » [ المؤمنون: 44 ] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى « ما » مثل: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى « ما » و « لما » بمعنى « إلا » حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن « لما » يستعمل بمعنى « إلا » قلت: هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه « إن » فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أبي: « وإن كلا لما لي وفينهم » [ هود: 111 ] وروي عن الأعمش « وإن كل لما » بتخفيف « إن » ورفع « كل » وبتشديد « لما » . قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها « إن » بمعنى « ما » لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. « إنه بما يعملون خبير » تهديد ووعيد.
الآية: 112 ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير )
قوله تعالى: « فاستقم كما أمرت » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: « استقم » اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. « ومن تاب معك » أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: ( شيبتني هود ) . فقال: ( نعم ) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: ( لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت ) . « ولا تطغوا » نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه « إنا لما طغى الماء » . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.
الآية: 113 ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون )
قوله تعالى: « ولا تركنوا » الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
قرأ الجمهور: « تركنوا » بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما: « تركنوا » بضم الكاف؛ قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع. « » إلى الذين ظلموا « قيل: أهل الشرك. وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: » وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا « [ الأنعام: 68 ] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة؛ وقد قال حكيم: »
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارِن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في « آل عمران » و « المائدة » . وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.
قوله تعالى: « فتمسكم النار » أي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.
=============
الآية: 104 - 105 ( وما نؤخره إلا لأجل معدود، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد )
قوله تعالى: « وما نؤخره » أي ما نؤخر ذلك اليوم. « إلا لأجل معدود » أي لأجل سبق به قضاؤنا، وهو معدود عندنا. « يوم يأتي » وقرئ « يوم يأت » لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة؛ تقول: لا أدر؛ ذكره القشيري. قال النحاس: قرأه أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء في الإدراج؛ وحذفها في الوقف، وروي أن أبيا وابن مسعود قرآ « يوم يأتي » بالياء في الوقف والوصل. وقرأ الأعمش وحمزة « يوم يأت » بغير باء في الوقف والوصل، قال أبو جعفر النحاس: الوجه في هذا ألا يوقف عليه، وأن يوصل بالياء، لأن جماعة من النحويين قالوا: لا تحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم؛ فأما الوقف بغير ياء ففيه قول للكسائي؛ قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم، فحذف الياء، كما تحذف الضمة. وأما قراءة حمزة فقد احتج أبو عبيد لحذف الياء في الوصل والوقف بحجتين إحداهما: أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له إنه مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء. والحجة الأخرى: أنه حكى أنها لغة هذيل؛ تقول: ما أدر؛ قال النحاس: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء؛ قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقيل لي ذهب؛ وأما حجته بقولهم: « ما أدر » فلا حجة فيه؛ لأن هذا الحذف قد حكاه النحويون القدماء، وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه. وأنشد الفراء في حذف الياء.
كفاك كف ما تليق دوهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
أي تعطي. وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال: والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب. « لا تكلم نفس إلا بإذنه » الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفا. وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجوؤون إلى ترك القبيح. وقيل: المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه. وقيل: إن لهم في الموقف وقتا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين. فيقول لم قال: « لا تكلم نفس إلا بإذنه » و « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] . وقال في موضع من ذكر القيامة: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] . وقال: « يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها » [ النحل: 111 ] . وقال: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] . وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] . والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. وقال: قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه. « فمنهم شقي وسعيد » أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذكرهم قوله: « يوم مجموع له الناس » . والشقي الذي كتبت عليه الشقاوة. والسعيد الذي كتبت عليه السعادة؛ قال لبيد:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع
وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال لما نزلت هذه الآية « فمنهم شقي وسعيد » سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: ( بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ) . قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبدالله بن عمر؛ وقد تقدم في « الأعراف » .
الآيات: 106 - 108 ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ )
قوله تعالى: « فأما الذين شقوا » ابتداء. « ففي النار » في موضع الخبر، وكذا « لهم فيها زفير وشهيق » قال أبو العالية: الزفير من الصدر. والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضا ضد ذلك. وقال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، والشهيق من الأنين المرتفع جدا؛ قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في الشهيق. وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر:
حشرج في الجوف سحيلا أو شهيق حتى يقال ناهق وما نهق
وقيل: الزفير إخراج النفس، وهو أن يمتلئ الجوف غما فيخرج بالنفس، والشهيق رد النفس وقيل: الزفير ترديد النفس من شدة الحزن؛ مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته؛ والشهيق النفس الطويل الممتد؛ مأخوذ من قولهم: جبل شاهق؛ أي طويل. والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.
قوله تعالى: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » « ما دامت » في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السماوات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا؛ فقالت. طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل: « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء » [ الزمر: 74 ] . وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار. عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما جن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السماوات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به. طولا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك. وإن كان قد أخبر بزوال السماوات. والأرض. وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدا في نور العرش.
قوله تعالى: « إلا ما شاء ربك » في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأولى: أنه استثناء من قوله: « ففي النار » كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما. وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله: « ما طاب لكم » [ النساء: 3 ] . وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ) . الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله: « فأما الذين شقوا » عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من « خالدين » ؛ قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون ) وقد تقدم هذا المعنى في « النساء » وغيرها. الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر. حكاه ابن الأنباري. الرابع: قال ابن مسعود: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض » لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها « إلا ما شاء ربك » وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.
قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق. الخامس: أن « إلا » بمعنى « سوى » كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك. قيل: فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود. السادس: أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها. كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: « خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب. والقول الآخر: وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: « خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك » من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.
قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض، وذلك مدة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » [ إبراهيم: 48 ] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى: « وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق » [ الدخان: 39 ] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية؛ فمن لقيه موحدا لأحديته بقي في داوه أبدا، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: « إلا ما شاء ربك » من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا. وقد قيل: إن « إلا » بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو: الثامن: والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: « إلا الذين ظلموا » [ البقرة: 150 ] أي ولا الذين ظلموا. وقال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان. وقال أبو محمد مكي: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون « إلا » بمعنى الواو، وقد مضى في « البقرة » بيانه. وقيل: معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى: « ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف » [ النساء: 22 ] أي كما قد سلف، وهو: التاسع، العاشر: وهو أن قوله تعالى: « إلا ما شاء رب » إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حد قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال: إن شاء ربك؛ فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى: « عطاء غير مجذوذ » ونحوه عن أبي عبيد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: « لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين » [ الفتح: 27 ] وقد علم أنهم يدخلونه حتما، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا؛ إذ المشيئة قد تقدمة، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء. وقول: حادي عشر: وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن « ما » بمعنى « من » استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة. وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى: « فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك » ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.
وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي « وأما الذين سعدوا » بضم السين. وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا. قال النحاس: ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي « سعدوا » مع علمه بالعربية! إذ كان هذا لحنا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أمرض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به. وقال المهدوي: ومن ضم السين من « سعدوا » فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال: سعده الله؛ إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: « سعدوا » بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال: سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون « سعدوا » بفتح السين قياسا على « شقوا » واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشقاوة؛ تقول: منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه: مسعد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود. وقال القشيري أبو نصر عبدالرحيم: وقد ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه: لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى. « عطاء غير مجذوذ » أي غير مقطوع؛ من جذه يجذه أي قطعه؛ قال النابغة:
تجذ السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
الآية: 109 ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص )
قوله تعالى: « فلا تك » جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال. « في مرية » أي في شك. « مما يعبد هؤلاء » من الآلهة أنها باطل. وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك « لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء » أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. « وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص » فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب؛ قال ابن زيد. الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
الآية: 110 ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب )
قوله تعالى: « ولولا كلمة سبقت من ربك » « ولولا كلمة سبقت من ربك » الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر. قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدق به ومكذب. وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. « وإنهم لفي شك منه مريب » إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.
الآية: 111 ( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير )
قوله تعالى: « وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم » أي إن كلا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد. واختلف القراء في قراءة « وإن كلا لما » فقرأ أهل الحرمين - نافع وابن كثير وأبو بكر معهم - « وإنْ كلا لَمَا » بالتخفيف، على أنها « إن » المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدا لمنطلق؛ وأنشد قول الشاعر:
كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم
أراد كأنها ظبية فخفف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف « إن » المشددة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائي وقال: ما أدري على أي شيء قرئ « وإن كلا » ! وزعم الفراء أنه نصب « كلا » في قراءة من خفف بقوله: « ليوفينهم » أي وإن ليوفينهم كلا؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدا لأضربنه. وشدد الباقون « إن » ونصبوا بها « كلا » على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر « لما » بالتشديد. وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا « ما » صلة. وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بـ « ما » . وقال الزجاج: لام « لما » لام « إن » و « ما » زائدة مؤكدة؛ تقول: إن زيدا لمنطلق، فإن تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: إن الله لغفور رحيم، وقوله: « إن في ذلك لذكري » . واللام في « ليوفينهم » هي التي يتلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشددة أو المخففة، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ « ما » و « ما » زائدة مؤكدة، وقال الفراء: « ما » بمعنى « من » كقوله: « وإن منكم لمن ليبطئن » [ النساء: 72 ] أي وإن كلا لمن ليوفينهم، واللام في « ليوفينهم » للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن « ما » عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى « من » . وقيل: ليست بزائد، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر « إن » و « ليوفينهم » جواب القسم، التقدير: وإن كلا خلق ليوفينهم ربك أعمالهم. وقيل: « ما » بمعنى « من » كقوله: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » [ النساء: 3 ] أي من؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه. وأما من شدد « لما » وقرأ « وإن كلا لما » بالتشديد فيهما - وهو حمزة ومن وافقه - فقيل: إنه لحن؛ حكي عن محمد بن زيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنه، ولا لما لضربته. وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة؛ وما أعرف لها وجها. وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل. قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول: أن أصلها « لمن ما » فقلبت النون ميما، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت « لما » و « ما » على هذا القول بمعنى « من » تقديره: وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم:
وإني لمَّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وزيّف الزجاج هذا القول، وقال: « من » اسم على حرفين فلا يجوز حذفه. الثاني: أن الأصل. لمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. وقيل: « لما » مصدر « لم » وجاءت بغير تنوين حملا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله: « وتأكلون التراث أكلا لما » [ الفجر: 19 ] أي جامعا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا: وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لما؛ أي جامعة لأعمالهم جمعا، فهو كقولك: قياما لأقومن. وقد قرأ الزهري « لما » بالتشديد والتنوين على هذا المعنى. الثالث: أن « لما » بمعنى « إلا » حكى أهل اللغة: سألتك بالله لما فعلت؛ بمعنى إلا فعلت؛ ومثله قوله تعالى: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] أي إلا عليها؛ فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القشيري: وزيف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: « وإن كلا لما » حتى تقدر « إلا » ولا يقال: ذهب الناس لما زيد. الرابع: قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلا لما بتخفيف « لما » ثم ثقلت كقوله:
لقد خشيت أن أرى جدبا في عامنا ذا بعد ما أخصبا
وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ، إنما يخفف المثقل؛ ولا يثقل المخفف. الخامس: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته؛ ثم بني منه فعلى، كما قرئ « ثم أرسلنا رسلنا تترى » [ المؤمنون: 44 ] بغير تنوين وبتنوين. فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى « ما » مثل: « إن كل نفس لما عليها حافظ » [ الطارق: 4 ] وكذا أيضا تشدد على أصلها، وتكون بمعنى « ما » و « لما » بمعنى « إلا » حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن « لما » يستعمل بمعنى « إلا » قلت: هذا القول الذي ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه « إن » فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أبي: « وإن كلا لما لي وفينهم » [ هود: 111 ] وروي عن الأعمش « وإن كل لما » بتخفيف « إن » ورفع « كل » وبتشديد « لما » . قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها « إن » بمعنى « ما » لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة. « إنه بما يعملون خبير » تهديد ووعيد.
الآية: 112 ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير )
قوله تعالى: « فاستقم كما أمرت » الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره. وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السدى. وقيل: « استقم » اطلب الإقامة على الدين من الله واسأله ذلك. فتكون السين سين السؤال، كما تقول: استغفر الله أطلب الغفران منه. والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله. وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. « ومن تاب معك » أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومن بعده ممن اتبعه من أمته. قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . وقد تقدم في أول السورة. وروي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: ( شيبتني هود ) . فقال: ( نعم ) فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال: ( لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت ) . « ولا تطغوا » نهى عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه « إنا لما طغى الماء » . وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.
الآية: 113 ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون )
قوله تعالى: « ولا تركنوا » الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
قرأ الجمهور: « تركنوا » بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز. وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة وغيرهما: « تركنوا » بضم الكاف؛ قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس. وجوز قوم ركن يركن مثل منع يمنع. « » إلى الذين ظلموا « قيل: أهل الشرك. وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: » وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا « [ الأنعام: 68 ] الآية. وقد تقدم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة؛ وقد قال حكيم: »
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارِن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في « آل عمران » و « المائدة » . وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.
قوله تعالى: « فتمسكم النار » أي تحرقكم. بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة هود
=============
الآية: 114 ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين )
قوله تعالى: « وأقم الصلاة طرفي النهار » لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وقال شيوخ الصوفية: إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا؛ قال ابن العربي: وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر.
قوله تعالى: « طرفي النهار » قال مجاهد: الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر؛ واختاره ابن عطية. وقيل: الطرفان الصبح والمغرب؛ قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده؛ وقال قتادة والضحاك. وقيل: الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق.
قلت: وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر؛ قال ابن عطية: ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل! فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة؛ قال الطبري: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد.
قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم.
قوله تعالى: « وزلفا من الليل » أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض؛ ومنه سميت المزدلفة؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما « وزلفا » بضم اللام جمع زليف؛ لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده « زلفة » لغة؛ كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن « وزلفا » من الليل بإسكان اللام؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا « زلفى » مثل قربى. وقرأ الباقون « وزلفا » بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات، واحدها زلفة. وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة؛ قاله ابن عباس. وقال الحسن: المغرب والعشاء. وقيل: المغرب والعشاء والصبح؛ وقد تقدم. وقال الأخفش: يعني صلاة الليل ولم يعين.
قوله تعالى: « إن الحسنات يذهبن السيئات » ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس، وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية: وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتنبت الكبائر ) .
قلت: سبب النزول يعضد قول الجمهور؛ نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو. وقيل: اسمه عباد؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى الترمذي عن عبدالله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » إلى آخر الآية؛ فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: ( لا بل للناس كافة ) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات » فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ فقال: ( لك ولمن عمل بها من أمتي ) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر. قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ( أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ) ؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » . قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: ( بل للناس عامة ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له: ( أشهدت معنا الصلاة ) ؟ قال نعم؛ قال: ( اذهب فإنها كفارة لما فعلت ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له: ( قم فصل أربع ركعات ) . والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، « إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » .
دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب، فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء، وسيأتي ما للعلماء في هذا في « النور » إن شاء الله تعالى.
ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال: « أقم الصلاة » الآية. وقال: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] الآية. وقال: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحوا. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون » [ الروم:17 - 18 ] . وقال: « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] . وقال: « اركعوا واسجدوا » [ الحج: 77 ] . وقال: « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] . وقال: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا » [ الأعراف: 204 ] على ما تقدم. وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » [ الإسراء: 110 ] أي بقراءتك؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه؛ فقال جل ذكره: « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل؛ فقال في صحيح البخاري: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه؛ فكمل الدين، وأوضح السبيل؛ قال الله تعالى: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » [ المائدة: 3 ] .
قوله تعالى: « ذلك ذكرى للذاكرين » أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث.
الآيتان: 115 - 116 ( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين )
قوله تعالى: « واصبر » أي على الصلاة؛ كقوله: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » [ طه: 132 ] . وقيل: المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى. « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » يعني المصلين.
قوله تعالى: « فلولا كان » أي فهلا كان. « من القرون من قبلكم » أي من الأمم التي قبلكم. « أولو بقية » أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر. « ينهون » قومهم. « عن الفساد في الأرض » لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات؛ وهذا توبيخ للكفار. وقيل: ولولا ههنا للنفي؛ أي ما كان من قبلكم؛ كقوله: « فلولا كانت قرية آمنت » [ يونس: 98 ] أي ما كانت. « إلا قليلا » استثناء منقطع؛ أي لكن قليلا. « ممن أنجينا منهم » نهوا عن الفساد في الأرض. قيل: هم قوم يونس؛ لقوله: « إلا قوم يونس » . وقيل: هم أتباع الأنبياء وأهل الحق. « واتبع الذين ظلموا » أي أشركوا وعصوا. « ما أترفوا فيه » أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة.
الآية [ 117 ] في الصفحة التالية ...
الآيات: 117 - 119 ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين )
قوله تعالى: « وما كان ربك ليهلك القرى » أي أهل القرى. « بظلم » أي بشرك وكفر. « وأهلها مصلحون » أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وقد تقدم. وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه؛ دليله قوله: « إن الله لا يظلم الناس شيئا » [ يونس: 44 ] . وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا.
قوله تعالى: « ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة » قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. « ولا يزالون مختلفين » أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. « إلا من رحم ربك » استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير. « إلا من رحم ربك » بالقناعة؛ قاله الحسن. « ولذلك خلقهم » قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان: الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: « ولذلك » ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ « ذلك » إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » [ البقرة: 68 ] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: « والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » [ الفرقان: 67 ] وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا » [ الإسراء: 110 ] وكذلك قوله: « قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا » [ يونس: 58 ] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله « ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود » [ هود: 103 ] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: « فمنهم شقي وسعيد » [ هود: 105 ] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.
قوله تعالى: « وتمت كلمة ربك » معنى « تمت » ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » « من » لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. « أجمعين » تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: ( ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
الآية: 120 ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )
قوله تعالى: « وكلا نقص عليك » « كلا » نصب بـ « نقص » معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: « كلا » حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. « من أنباء الرسل » أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. « ما نثبت به فؤادك » أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و « ما » بدل من « كلا » المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. « وجاءك في هذه الحق » أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. « وموعظة وذكرى للمؤمنين » الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. « وذكرى للمؤمنين » أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
الآيات: 121 - 123 ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون )
قوله تعالى: « وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم » تهديد ووعيد. « إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون » تهديد آخر، وقد تقدم معناه. « ولله غيب السماوات والأرض » أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي: « ولله غيب السماوات والأرض » أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. « وإليه يرجع الأمر كله » أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص « يرجع » بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد. « فاعبده وتوكل عليه » أي الجأ إليه وثق به. « وما ربك بغافل عما تعملون » أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: « يعملون » إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: « تعملون » بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم « وما ربك بغافل عما تعملون » . وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة « هود » من قوله: « ولله غيب السماوات والأرض » إلى آخر السورة.
=============
الآية: 114 ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين )
قوله تعالى: « وأقم الصلاة طرفي النهار » لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة؛ وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النوائب؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وقال شيوخ الصوفية: إن المراد بهذه الآية استغراق الأوقات بالعبادة فرضا ونفلا؛ قال ابن العربي: وهذا ضعيف، فإن الأمر لم يتناول ذلك إلا واجبا لا نفلا، فإن الأوراد معلومة، وأوقات النوافل المرغب فيها محصورة، وما سواها من الأوقات يسترسل عليها الندب على البدل لا على العموم، وليس ذلك في قوة بشر.
قوله تعالى: « طرفي النهار » قال مجاهد: الطرف الأول، صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر؛ واختاره ابن عطية. وقيل: الطرفان الصبح والمغرب؛ قال ابن عباس والحسن. وعن الحسن أيضا الطرف الثاني العصر وحده؛ وقال قتادة والضحاك. وقيل: الطرفان الظهر والعصر. والزلف المغرب والعشاء والصبح؛ كأن هذا القائل راعى جهر القراءة. وحكى الماوردي أن الطرف الأول صلاة الصبح باتفاق.
قلت: وهذا الاتفاق ينقضه القول الذي قبله. ورجح الطبري أن الطرفين الصبح والمغرب، وأنه ظاهر؛ قال ابن عطية: ورد عليه بأن المغرب لا تدخل فيه لأنها من صلاة الليل. قال ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، وهما طرفا الليل! فقلب القوس ركوة، وحاد عن البرجاس غلوة؛ قال الطبري: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب، ولم يجمع معه على ذلك أحد.
قلت: هذا تحامل من ابن العربي في الرد؛ وأنه لم يجمع معه على ذلك أحد؛ وقد ذكرنا عن مجاهد أن الطرف الأول صلاة الصبح، وقد وقع الاتفاق - إلا من شذ - بأن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه ذلك يوم فطر، وعليه القضاء والكفارة، وما ذلك، إلا وما بعد طلوع الفجر من النهار؛ فدل على صحة ما قاله الطبري في الصبح، وتبقى عليه المغرب والرد عليه فيه ما تقدم. والله أعلم.
قوله تعالى: « وزلفا من الليل » أي في زلف من الليل، والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض؛ ومنه سميت المزدلفة؛ لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة. وقرأ ابن القعقاع وابن أبي إسحاق وغيرهما « وزلفا » بضم اللام جمع زليف؛ لأنه قد نطق بزليف، ويجوز أن يكون واحده « زلفة » لغة؛ كبسرة وبسر، في لغة من ضم السين. وقرأ ابن محيصن « وزلفا » من الليل بإسكان اللام؛ والواحدة زلفة تجمع جمع الأجناس التي هي أشخاص كدرة ودر وبرة وبر. وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضا « زلفى » مثل قربى. وقرأ الباقون « وزلفا » بفتح اللام كغرفة وغرف. قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات، واحدها زلفة. وقال قوم: الزلفة أول ساعة من الليل بعد مغيب الشمس؛ فعلى هذا يكون المراد بزلف الليل صلاة العتمة؛ قاله ابن عباس. وقال الحسن: المغرب والعشاء. وقيل: المغرب والعشاء والصبح؛ وقد تقدم. وقال الأخفش: يعني صلاة الليل ولم يعين.
قوله تعالى: « إن الحسنات يذهبن السيئات » ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين إلى أن الحسنات ههنا هي الصلوات الخمس، وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال ابن عطية: وهذا على جهة المثال في الحسنات، والذي يظهر أن اللفظ عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتنبت الكبائر ) .
قلت: سبب النزول يعضد قول الجمهور؛ نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو. وقيل: اسمه عباد؛ خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج. روى الترمذي عن عبدالله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك؛ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » إلى آخر الآية؛ فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: ( لا بل للناس كافة ) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرج أيضا عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت: « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات » فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ فقال: ( لك ولمن عمل بها من أمتي ) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن أبي اليسر. قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا فلم أصبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ( أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ) ؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه « أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » . قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: ( بل للناس عامة ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره؛ وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وأقيمت صلاة العصر فلما فرغ منها نزل جبريل عليه السلام عليه بالآية فدعاه فقال له: ( أشهدت معنا الصلاة ) ؟ قال نعم؛ قال: ( اذهب فإنها كفارة لما فعلت ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا عليه هذه الآية قال له: ( قم فصل أربع ركعات ) . والله أعلم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، « إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » .
دلت الآية مع هذه الأحاديث على أن القبلة الحرام واللمس الحرام لا يجب، فيهما الحد، وقد يستدل به على أن لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر؛ لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة ذكر هذا الحديث مشيرا إلى أنه لا يجب عليهما شيء، وسيأتي ما للعلماء في هذا في « النور » إن شاء الله تعالى.
ذكر الله سبحانه في كتابه الصلاة بركوعها وسجودها وقيامها وقراءتها وأسمائها فقال: « أقم الصلاة » الآية. وقال: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] الآية. وقال: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحوا. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون » [ الروم:17 - 18 ] . وقال: « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] . وقال: « اركعوا واسجدوا » [ الحج: 77 ] . وقال: « وقوموا لله قانتين » [ البقرة: 238 ] . وقال: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا » [ الأعراف: 204 ] على ما تقدم. وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها » [ الإسراء: 110 ] أي بقراءتك؛ وهذا كله مجمل أجمله في كتابه، وأحال على نبيه في بيانه؛ فقال جل ذكره: « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] فبين صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، وعدد الركعات والسجدات، وصفة جميع الصلوات فرضها وسننها، وما لا تصح الصلاة إلا به من الفرائض وما يستحب فيها من السنن والفضائل؛ فقال في صحيح البخاري: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . ونقل ذلك عنه الكافة عن الكافة، على ما هو معلوم، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين جميع ما بالناس الحاجة إليه؛ فكمل الدين، وأوضح السبيل؛ قال الله تعالى: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا » [ المائدة: 3 ] .
قوله تعالى: « ذلك ذكرى للذاكرين » أي القرآن موعظة وتوبة لمن اتعظ وتذكر؛ وخص الذاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكرى. والذكرى مصدر جاء بألف التأنيث.
الآيتان: 115 - 116 ( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين )
قوله تعالى: « واصبر » أي على الصلاة؛ كقوله: « وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها » [ طه: 132 ] . وقيل: المعنى واصبر يا محمد على ما تلقى من الأذى. « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » يعني المصلين.
قوله تعالى: « فلولا كان » أي فهلا كان. « من القرون من قبلكم » أي من الأمم التي قبلكم. « أولو بقية » أي أصحاب طاعة ودين وعقل وبصر. « ينهون » قومهم. « عن الفساد في الأرض » لما أعطاهم الله تعالى من العقول وأراهم من الآيات؛ وهذا توبيخ للكفار. وقيل: ولولا ههنا للنفي؛ أي ما كان من قبلكم؛ كقوله: « فلولا كانت قرية آمنت » [ يونس: 98 ] أي ما كانت. « إلا قليلا » استثناء منقطع؛ أي لكن قليلا. « ممن أنجينا منهم » نهوا عن الفساد في الأرض. قيل: هم قوم يونس؛ لقوله: « إلا قوم يونس » . وقيل: هم أتباع الأنبياء وأهل الحق. « واتبع الذين ظلموا » أي أشركوا وعصوا. « ما أترفوا فيه » أي من الاشتغال بالمال واللذات، وإيثار ذلك على الآخرة.
الآية [ 117 ] في الصفحة التالية ...
الآيات: 117 - 119 ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين )
قوله تعالى: « وما كان ربك ليهلك القرى » أي أهل القرى. « بظلم » أي بشرك وكفر. « وأهلها مصلحون » أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق؛ أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط؛ ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وقد تقدم. وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح؛ لأنه تصرف في ملكه؛ دليله قوله: « إن الله لا يظلم الناس شيئا » [ يونس: 44 ] . وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون؛ أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا.
قوله تعالى: « ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة » قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها. وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. « ولا يزالون مختلفين » أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة. « إلا من رحم ربك » استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غني وهذا فقير. « إلا من رحم ربك » بالقناعة؛ قاله الحسن. « ولذلك خلقهم » قال الحسن ومقاتل، وعطاء ويمان: الإشارة للاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: « ولذلك » ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل. وقيل. الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشارك بـ « ذلك » إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » [ البقرة: 68 ] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: « والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما » [ الفرقان: 67 ] وقال: « ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا » [ الإسراء: 110 ] وكذلك قوله: « قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا » [ يونس: 58 ] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة. وروي عن ابن عباس أيضا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه. قال المهدوي: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك، خلقهم. وقيل: هو. متعلق بقوله « ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود » [ هود: 103 ] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم. وقيل: هو متعلق بقوله: « فمنهم شقي وسعيد » [ هود: 105 ] أي للسعادة والشقاوة خلقهم.
قوله تعالى: « وتمت كلمة ربك » معنى « تمت » ثبت ذلك كما أخبر وقدر في أزله؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل. « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » « من » لبيان الجنس؛ أي من جنس الجنة وجنس الناس. « أجمعين » تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: ( ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم.
الآية: 120 ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )
قوله تعالى: « وكلا نقص عليك » « كلا » نصب بـ « نقص » معناه وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك. وقال الأخفش: « كلا » حال مقدمة، كقولك: كلا ضربت القوم. « من أنباء الرسل » أي من أخبارهم وصبرهم على أذى قومهم. « ما نثبت به فؤادك » أي على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك فيها من الأذى. وقيل: نزيدك به تثبيتا ويقينا. وقال ابن عباس: ما نشد به قلبك. وقال ابن جريج: نصبر به قلبك حتى لا تجزع. وقال أهل المعاني: نطيب، والمعنى متقارب. و « ما » بدل من « كلا » المعنى: نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك. « وجاءك في هذه الحق » أي في هذه السورة؛ عن ابن عباس وأبي موسى وغيرهما؛ وخص هذه السورة لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار. وقيل: خصها بالذكر تأكيدا وإن كان الحق في كل القرآن. وقال قتادة والحسن: المعنى في هذه الدنيا، يريد النبوة. « وموعظة وذكرى للمؤمنين » الموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السورة؛ لأن غيرها من السور قد جاء فيها الحق والموعظة والذكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التخصيص. « وذكرى للمؤمنين » أي يتذكرون ما نزل بمن هلك فيتوبون؛ وخص المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
الآيات: 121 - 123 ( وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون )
قوله تعالى: « وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم » تهديد ووعيد. « إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون » تهديد آخر، وقد تقدم معناه. « ولله غيب السماوات والأرض » أي غيبهما وشهادتهما؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن عباس: خزائن السماوات والأرض. وقال الضحاك: جميع ما غاب عن العباد فيهما. وقال الباقون: غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض. وقال أبو علي الفارسي: « ولله غيب السماوات والأرض » أي علم ما غاب فيهما؛ أضاف الغيب وهو مضاف إلى المفعول توسعا؛ لأنه حذف حرف الجر؛ تقول: غبت في الأرض وغبت ببلد كذا.. « وإليه يرجع الأمر كله » أي يوم القيامة، إذ ليس لمخلوق أمر إلا بإذنه. وقرأ نافع وحفص « يرجع » بضم الياء وبفتح الجيم؛ أي يرد. « فاعبده وتوكل عليه » أي الجأ إليه وثق به. « وما ربك بغافل عما تعملون » أي يجازي كلا بعمله. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء على المخاطبة. الباقون بياء على الخبر. قال الأخفش سعيد: « يعملون » إذا لم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ قال: بعضهم وقال: « تعملون » بالتاء لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهم « وما ربك بغافل عما تعملون » . وقال كعب الأحبار: خاتمة التوراة خاتمة « هود » من قوله: « ولله غيب السماوات والأرض » إلى آخر السورة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
12 تفسير سورة يوسف للقرطبى
=============
*مقدمة السورة
وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل: « نحن نقص عليك » [ يوسف: 3 ] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا؛ فأنزل: « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] . قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.
الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب المبين )
قوله تعالى: « الر » تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: « الر » اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة « الر » « تلك آيات الكتاب المبين » يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.
الآية: 2 ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )
قوله تعالى: « إنا أنزلناه قرآنا عربيا » يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب « قرآنا » على الحال؛ أي مجموعا. و « عربيا » نعت لقوله « قرآنا » . ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و « عربيا » على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه ( الثيب تعرب عن نفسها ) . « لعلكم تعقلون » أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع « لعل » تشبيها بعسى. واللام في « لعل » زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر:
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل: « لعلكم تعقلون » أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى « أنزلناه » أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.
الآية: 3 ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين )
قوله تعالى: « نحن نقص عليك » ابتداء وخبره: « أحسن القصص » بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: « وقالت لأخته قصيه » [ القصص: 11 ] أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. « بما أوحينا إليك » أي بوحينا فـ « ما » مع الفعل بمنزلة المصدر. « هذا القرآن » نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض؛ قال: على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من « ما » . وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له: هو هذا القرآن. « وإن كنت من قبله لمن الغافلين » أي من الغافلين عما عرفناكه.
مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها: « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » [ يوسف: 111 ] . وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: « لا تثريب عليكم اليوم » [ يوسف: 92 ] . وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: « أحسن » هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.
الآية: 4 ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين )
قوله تعالى: « إذ قال يوسف » « إذ » في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف « يؤسف » بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد: « يؤسف » بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن « يوسف » فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. « لأبيه يا أبت » بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت « يا أبت » بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: « يا أبه » يؤدي عن معنى « يا أبي » ؛ وأنه لا يقال: « يا أبت » إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: « يا أبتي » لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: « يا أبت » فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: « يا أبتي » ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر « يا أبت » بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا « يا أبتي » بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت « يا أبتا » فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء « يا أبت » بضم التاء. « إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر » ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: ( الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له ) . قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. « رأيتهم » توكيد. وقال: « رأيتهم لي ساجدين » فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: « وتراهم ينظرون إليك » [ الأعراف: 198 ] . والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.
الآية: 5 ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين )
قوله تعالى: « فيكيدوا لك كيدا » أي يحتالوا في هلاكك؛ لأن تأويلها ظاهر؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في « لك » تأكيد. كقوله: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] .
الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: ( لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) . وقال: ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروي ( من سبعين جزءا من النبوة ) . وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( جزءا من أربعين جزءا من النبوة ) . ومن حديث ابن عمر ( جزء من تسعة وأربعين جزءا ) . ومن حديث العباس ( جزء من خمسين جزءا من النبوة ) . ومن حديث أنس ( من ستة وعشرين ) . وعن عبادة بن الصامت ( من أربعة وأربعين من النبوة ) . والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين؛ ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ؛ قاله ابن بطال. قال أبو عبدالله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث ( من ستة وأربعين ) . قال الطبري: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول؛ فأما قوله: ( إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة ) فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان؛ وأما قوله: ( إنها من أربعين أو ستة وأربعين ) فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها؛ فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبدالبر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين؛ فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون قال الله تعالى: « ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض » الإسراء: 55 ] .
قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه « المعلم » واختاره القونوي في تفسيره من سورة « يونس » عند قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] . وهو فاسد من وجهين: أحدهما: ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين؛ وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال عليه السلام: ( إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم... ) الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ) وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.
إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن؛ ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري « باب رؤيا أهل السجن » : فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة؛ وقد تقدم في « الأنعام » أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة.
الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا؛ لأن فيها أشياء متضادة؛ قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل؛ روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) . قال: قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك » الآية. الرؤيا مصدر رأي في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا؛ فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل: إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة؛ قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: ( رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ) . و ( رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ) . و ( رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ) . و ( رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ) . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال؛ ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر؛ وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه.
إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: « لا تقصص رؤياك على إخوتك » ؟ فالجواب: أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.
هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها؛ روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة ) . و ( الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا ) أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح؛ وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت؛ قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا! ثم قال،: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا؛ فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه؛ فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه؛ ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.
العاشرة: روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ( الرؤيا الصالحة ) وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك؛ فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه؛ فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في « يونس » في تفسير قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم.
روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ) . قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها؛ ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ) . قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض؛ وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع؛ لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة؛ وذلك السحر من الليل.
الآية: 6 ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )
قوله تعالى: « وكذلك يجتبيك ربك » الكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله: « كما أتمها على أبويك من قبل » و « ما » كافة. وقيل: « وكذلك » أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل: بالسجود لك. الحسن: بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الشيء أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض؛ قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى؛ من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبدالله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة؛ وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي، معجزة له؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله: « ويتم نعمته عليك » أي بالنبوة. وقيل: بإخراج إخوتك، إليك؛ وقيل: بإنجائك من كل مكروه. « كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم » بالخلة، وإنجائه من النار. « وإسحاق » بالنبوة. وقيل: من الذبح؛ قاله عكرمة. وأعلمه الله تعالى بقوله: « وعلى آل يعقوب » أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة؛ قاله جماعة من المفسرين. « إن ربك عليم » بما يعطيك. « حكيم » في فعله بك.
=============
*مقدمة السورة
وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل: « نحن نقص عليك » [ يوسف: 3 ] فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو حدثتنا؛ فأنزل: « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] . قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.
الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب المبين )
قوله تعالى: « الر » تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل: « الر » اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة « الر » « تلك آيات الكتاب المبين » يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة.
الآية: 2 ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )
قوله تعالى: « إنا أنزلناه قرآنا عربيا » يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب « قرآنا » على الحال؛ أي مجموعا. و « عربيا » نعت لقوله « قرآنا » . ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و « عربيا » على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه ( الثيب تعرب عن نفسها ) . « لعلكم تعقلون » أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع « لعل » تشبيها بعسى. واللام في « لعل » زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر:
يا أبتا علك أو عساكا
وقيل: « لعلكم تعقلون » أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى « أنزلناه » أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه.
الآية: 3 ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين )
قوله تعالى: « نحن نقص عليك » ابتداء وخبره: « أحسن القصص » بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: « وقالت لأخته قصيه » [ القصص: 11 ] أي تتبعي أثره؛ فالقاص، يتبع الآثار فيخبر بها. والحسن يعود إلى القصص لا إلى القصة. يقال: فلان حسن الاقتصاص للحديث أي جيد السياقة له. وقيل: القصص ليس مصدرا، بل هو في معنى الاسم، كما يقال: الله رجاؤنا، أي مرجونا فالمعنى على هذا: نحن نخبرك بأحسن الأخبار. « بما أوحينا إليك » أي بوحينا فـ « ما » مع الفعل بمنزلة المصدر. « هذا القرآن » نصب القرآن على أنه نعت لهذا، أو بدل منه، أو عطف بيان. وأجاز الفراء الخفض؛ قال: على التكرير؛ وهو عند البصريين على البدل من « ما » . وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ، كأن سائلا سأله عن الوحي فقيل له: هو هذا القرآن. « وإن كنت من قبله لمن الغافلين » أي من الغافلين عما عرفناكه.
مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها: « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » [ يوسف: 111 ] . وقيل: سماها أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد الالتقاء بهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم، حتى قال: « لا تثريب عليكم اليوم » [ يوسف: 92 ] . وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين، والجن والإنس والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وسيرهما. وقيل: « أحسن » هنا بمعنى أعجب. وقال بعض أهل المعاني: إنما كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة؛ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز؛ قيل: والملك أيضا أسلم بيوسف وحسن إسلامه، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال: فما كان أمر الجميع إلا إلى خير.
الآية: 4 ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين )
قوله تعالى: « إذ قال يوسف » « إذ » في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف « يؤسف » بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد: « يؤسف » بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن « يوسف » فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. « لأبيه يا أبت » بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت « يا أبت » بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك: « يا أبه » يؤدي عن معنى « يا أبي » ؛ وأنه لا يقال: « يا أبت » إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال: « يا أبتي » لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال: « يا أبت » فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال: « يا أبتي » ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر « يا أبت » بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا « يا أبتي » بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت « يا أبتا » فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء « يا أبت » بضم التاء. « إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر » ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ رواه الحارث بن أبي أسامة قال: جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال: ( الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان؛ رآها يوسف عليه السلام تسجد له ) . قال ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. وقال قتادة أيضا: الشمس خالته، لأن أمه كانت قد ماتت، وكانت خالته تحت أبيه. « رأيتهم » توكيد. وقال: « رأيتهم لي ساجدين » فجاء مذكرا؛ فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. وقد تقدم هذا المعنى في قوله: « وتراهم ينظرون إليك » [ الأعراف: 198 ] . والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.
الآية: 5 ( قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين )
قوله تعالى: « فيكيدوا لك كيدا » أي يحتالوا في هلاكك؛ لأن تأويلها ظاهر؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في « لك » تأكيد. كقوله: « إن كنتم للرؤيا تعبرون » [ يوسف: 43 ] .
الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: ( لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) . وقال: ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وروي ( من سبعين جزءا من النبوة ) . وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( جزءا من أربعين جزءا من النبوة ) . ومن حديث ابن عمر ( جزء من تسعة وأربعين جزءا ) . ومن حديث العباس ( جزء من خمسين جزءا من النبوة ) . ومن حديث أنس ( من ستة وعشرين ) . وعن عبادة بن الصامت ( من أربعة وأربعين من النبوة ) . والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين؛ ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ؛ قاله ابن بطال. قال أبو عبدالله المازري: والأكثر والأصح عند أهل الحديث ( من ستة وأربعين ) . قال الطبري: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول؛ فأما قوله: ( إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة ) فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان؛ وأما قوله: ( إنها من أربعين أو ستة وأربعين ) فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق رضي الله عنه أنه كان بها؛ فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبدالبر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين؛ فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون قال الله تعالى: « ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض » الإسراء: 55 ] .
قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه « المعلم » واختاره القونوي في تفسيره من سورة « يونس » عند قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] . وهو فاسد من وجهين: أحدهما: ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين؛ وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال عليه السلام: ( إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم... ) الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ) وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه؛ ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.
إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن؛ ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري « باب رؤيا أهل السجن » : فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة؛ وقد تقدم في « الأنعام » أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة.
الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا؛ لأن فيها أشياء متضادة؛ قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل؛ روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) . قال: قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك » الآية. الرؤيا مصدر رأي في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا؛ فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل: إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة؛ قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: ( رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ) . و ( رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ) . و ( رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ) . و ( رأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ) . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال؛ ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر؛ وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقرا فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه.
إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: « لا تقصص رؤياك على إخوتك » ؟ فالجواب: أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.
هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها؛ روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة ) . و ( الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا ) أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح؛ وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت؛ قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا! ثم قال،: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا؛ فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه؛ فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضا على أن يعقوب عليه السلام كان أحسّ من بنيه حسد يوسف وبغضه؛ فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم، فيعملوا الحيلة في هلاكه؛ ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.
العاشرة: روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات ) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ( الرؤيا الصالحة ) وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك؛ فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه؛ فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في « يونس » في تفسير قوله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » [ يونس: 64 ] أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم.
روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ) . قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها؛ ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ) . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ) . قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض؛ وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع؛ لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة؛ وذلك السحر من الليل.
الآية: 6 ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )
قوله تعالى: « وكذلك يجتبيك ربك » الكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله: « كما أتمها على أبويك من قبل » و « ما » كافة. وقيل: « وكذلك » أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل: بالسجود لك. الحسن: بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الشيء أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض؛ قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى؛ من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبدالله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة؛ وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي، معجزة له؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله: « ويتم نعمته عليك » أي بالنبوة. وقيل: بإخراج إخوتك، إليك؛ وقيل: بإنجائك من كل مكروه. « كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم » بالخلة، وإنجائه من النار. « وإسحاق » بالنبوة. وقيل: من الذبح؛ قاله عكرمة. وأعلمه الله تعالى بقوله: « وعلى آل يعقوب » أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة؛ قاله جماعة من المفسرين. « إن ربك عليم » بما يعطيك. « حكيم » في فعله بك.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============
الآيات: 7 - 9 ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )
قوله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين » يعني من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة « آية » على التوحيد؛ واختار أبو عبيد « آيات » على الجمع؛ قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و « آية » هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة « يوسف » جملة واحدة؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. « آيات » موعظة؛ وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف « عبرة » . وقيل: بصيرة. وقيل: عجب؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه؛ وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته » وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت حال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر؛ دان ونفتالي وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده؛ لقول الله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله.
قوله تعالى: « إذ قالوا ليوسف وأخوه » « يوسف » رفع بالابتداء؛ واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم؛ أي والله ليوسف. « وأخوه » عطف عليه. « أحب إلى أبينا منا » خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. « ونحن عصبة » أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر. وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. « إن أبانا لفي ضلال مبين » لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل: لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا.
قوله تعالى: « اقتلوا يوسف » في الكلام حذف؛ أي قال قائل منهم: « اقتلوا يوسف » ليكون أحسم لمادة الأمر. « أو اطرحوه أرضا » أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه « في » :
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار؛ دان. وقال مقاتل: روبيل؛ والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. « يخل » جزم لأنه جواب الأمر؛ معناه: يخلص ويصفو. « لكم وجه أبيكم » فيقبل عليكم بكليته. « وتكونوا من بعده » أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. « قوما صالحين » أي تائبين؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل: « صالحين » أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل.
الآية: 10 ( قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين )
قوله تعالى: « قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف » القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب؛ قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال: « فلن أبرح الأرض » [ يوسف: 80 ] الآية. وقيل: شمعون. « وألقوه في غيابة الجب » قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة « في غيابة الجب » . وقرأ أهل المدينة « في غيابات الجب » واختار أبو عبيد التوحيد؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمع لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة؛ « وغيابات » على الجمع يجوز من وجهين: حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا؛ فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة. والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا؛ كما قال الشاعر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا
قال الهروي: والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين. وقال ابن عزيز: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة؛ قال الشاعر:
فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر؛ قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا؛ وجمع الجب جببة وجباب وأجباب؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن؛ قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: « تلتقطه » بالتاء، وهذا محمول على المعنى؛ لأن بعض السيارة سيارة؛ وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر:
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود؛ فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد؛ وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم.
وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم؛ وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله؛ وهذا أشبه، والله أعلم.
قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا؛ والدليل عليه قوله تعالى: « لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة » قال: ولا يلتقط إلا الصغير؛ وقوله: « وأخاف أن يأكله الذئب » [ يوسف: 13 ] وذلك أمر يختص بالصغار؛ وقولهم: « أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون » [ يوسف: 12 ] .
الالتقاط تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة؛ قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط؛ فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد؛ وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » [ يوسف: 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك؛ وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة. وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر. وقال مالك في موطئه: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي؛ واحتج بقول عليه السلام: ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال: فنفى الولاء عن غير المعتق. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه؛ وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه؛ ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر. قال ابن العربي: إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم: يحكم بالأغلب؛ فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام. وقال غيره: لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب؛ قال أشهب: هو مسلم أبدا. لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال. واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد؛ فقالت طائفة من أهل المدينة: لا يقبل قولها في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر: هو حر؛ ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد. وقال ابن القاسم: تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي.
قال مالك في اللقيط: إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما - يستقرض له في ذمته. والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض.
وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما؛ فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء؛ وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط؛ واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين: ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق ذلك على القلادة.
أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد. صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع؛ ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها.
واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها؛ فمن، ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا. وقال في الشاة: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه. ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم. وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله. وقال المزني عن الشافعي: لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها؛ قال: وسواء قليل اللقطة وكثيرها.
روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: ( اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال: فضالة الإبل؟ قال: ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال: ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد؛ خرجه مسلم وغيره. وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها؛ فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له؛ قال ابن القاسم: يجبر على دفعها؛ فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا؟ قولان: الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له؛ وهو بخلاف نص الحديث؛ ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى؛ فإنه يستحقها بالبينة على كل حال؛ ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.
نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم؟ قولان؛ وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لقول عليه السلام: ( احفظ على أخيك المؤمن ضالته ) .
واختلف العلماء في النفقة على الضوال؛ فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره؛ قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن. وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع؛ حكاه عنه الربيع. وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة.
ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف: ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها؛ فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه ) في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم. وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف؛ لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله؛ لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام: ( فأدها إليه ) .
==============
الآيات: 7 - 9 ( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )
قوله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين » يعني من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة « آية » على التوحيد؛ واختار أبو عبيد « آيات » على الجمع؛ قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و « آية » هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة « يوسف » جملة واحدة؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. « آيات » موعظة؛ وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف « عبرة » . وقيل: بصيرة. وقيل: عجب؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه؛ وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى: « لقد كان في يوسف وإخوته » وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت حال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر؛ دان ونفتالي وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده؛ لقول الله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد، والحمد لله.
قوله تعالى: « إذ قالوا ليوسف وأخوه » « يوسف » رفع بالابتداء؛ واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم؛ أي والله ليوسف. « وأخوه » عطف عليه. « أحب إلى أبينا منا » خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. « ونحن عصبة » أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر. وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. « إن أبانا لفي ضلال مبين » لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل: لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا.
قوله تعالى: « اقتلوا يوسف » في الكلام حذف؛ أي قال قائل منهم: « اقتلوا يوسف » ليكون أحسم لمادة الأمر. « أو اطرحوه أرضا » أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه « في » :
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار؛ دان. وقال مقاتل: روبيل؛ والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. « يخل » جزم لأنه جواب الأمر؛ معناه: يخلص ويصفو. « لكم وجه أبيكم » فيقبل عليكم بكليته. « وتكونوا من بعده » أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. « قوما صالحين » أي تائبين؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل: « صالحين » أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل.
الآية: 10 ( قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين )
قوله تعالى: « قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف » القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب؛ قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال: « فلن أبرح الأرض » [ يوسف: 80 ] الآية. وقيل: شمعون. « وألقوه في غيابة الجب » قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة « في غيابة الجب » . وقرأ أهل المدينة « في غيابات الجب » واختار أبو عبيد التوحيد؛ لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمع لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة؛ « وغيابات » على الجمع يجوز من وجهين: حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات، يريد عشية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا؛ فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة. والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا؛ كما قال الشاعر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا
قال الهروي: والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين. وقال ابن عزيز: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة؛ قال الشاعر:
فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر؛ قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا؛ وجمع الجب جببة وجباب وأجباب؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن؛ قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: « تلتقطه » بالتاء، وهذا محمول على المعنى؛ لأن بعض السيارة سيارة؛ وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر:
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود؛ فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد؛ وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم.
وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم؛ وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله؛ وهذا أشبه، والله أعلم.
قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا؛ والدليل عليه قوله تعالى: « لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة » قال: ولا يلتقط إلا الصغير؛ وقوله: « وأخاف أن يأكله الذئب » [ يوسف: 13 ] وذلك أمر يختص بالصغار؛ وقولهم: « أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون » [ يوسف: 12 ] .
الالتقاط تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة؛ قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى: « يلتقطه بعض السيارة » أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط؛ فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد؛ وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » [ يوسف: 20 ] وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك؛ وهو قول عمر بن الخطاب، وكذلك روي عن علي وجماعة. وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الحسبة فهو حر. وقال مالك في موطئه: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، هم يرثونه ويعقلون عنه، وبه قال الشافعي؛ واحتج بقول عليه السلام: ( وإنما الولاء لمن أعتق ) قال: فنفى الولاء عن غير المعتق. واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا، ولا يرثه أحد بالولاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه فهو يرثه ويعقل عنه؛ وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء، ما لم يعقل عنه الذي والاه، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه: المنبوذ حر، فان أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه؛ ونحوه عن عطاء، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة، وهو حر. قال ابن العربي: إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد، فقضى بالغالب، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب؛ فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون قال ابن القاسم: يحكم بالأغلب؛ فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني، وإلا فهو مسلم، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام. وقال غيره: لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، وهو مقتضى قول أشهب؛ قال أشهب: هو مسلم أبدا. لأني أجعله مسلما على كل حال، كما أجعله حرا على كل حال. واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد؛ فقالت طائفة من أهل المدينة: لا يقبل قولها في ذلك، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر: هو حر؛ ومن قضى بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد. وقال ابن القاسم: تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي.
قال مالك في اللقيط: إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما - يستقرض له في ذمته. والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض.
وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما؛ فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء؛ وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط؛ واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك للمسلمين: ( إن أمكم ضلت قلادتها ) فأطلق ذلك على القلادة.
أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد. صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع؛ ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها.
واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها؛ فمن، ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا. وقال في الشاة: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه. ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم. وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة، إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله. وقال المزني عن الشافعي: لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها؛ قال: وسواء قليل اللقطة وكثيرها.
روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: ( اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: ( لك أو لأخيك أو للذئب ) قال: فضالة الإبل؟ قال: ( ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث أبي قال: ( احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ) ففي هذا الحديث زيادة العدد؛ خرجه مسلم وغيره. وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها؛ فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له؛ قال ابن القاسم: يجبر على دفعها؛ فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا؟ قولان: الأول لأشهب، والثاني لابن القاسم، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له؛ وهو بخلاف نص الحديث؛ ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى؛ فإنه يستحقها بالبينة على كل حال؛ ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم.
نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم؟ قولان؛ وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لقول عليه السلام: ( احفظ على أخيك المؤمن ضالته ) .
واختلف العلماء في النفقة على الضوال؛ فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره؛ قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن. وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع؛ حكاه عنه الربيع. وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة.
ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف: ( فاستمتع بها ) أو ( فشأنك بها ) أو ( فهي لك ) أو ( فاستنفقها ) أو ( ثم كلها ) أو ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) على ما في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على التمليك، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها؛ فان في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه ) في رواية ( ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه ) خرجه البخاري ومسلم. وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف؛ لتلك الظواهر، ولا التفات لقوله؛ لمخالفة الناس، ولقوله عليه السلام: ( فأدها إليه ) .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============
الآيتان: 11 - 12 ( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون )
قوله تعالى: « قالوا يا أبانا ما لك لا تأمننا على يوسف » قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب. ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب؛ فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: « يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف » وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري « لا تأمنا » بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف « لا تأمننا » بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - « ولا تيمنا » بكسر التاء، وهي لغة تميم؛ يقولون: أنت تضرب؛ وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. « وإنا له لناصحون » أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير؛ وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: « أرسله معنا غدا » الآية؛ فحينئذ قال أبوهم: « إني ليحزنني أن تذهبوا به » [ يوسف: 13 ] فقالوا حينئذ جوابا لقوله: « ما لك لا تأمنا على يوسف » الآية. « أرسله معنا غدا » إلى الصحراء. « غدا » ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل؛ قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة. « يرتع ويلعب » بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. « نرتع » بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. « يرتع ويلعب » بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين؛ القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا؛ والمعنى: نتسع في الخصب؛ وكل مخصب راتع؛ قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقال آخر:
ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت فإنما هي إقبال وإدبار
وقال آخر:
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى معمر عن قتادة « ترتع » تسعى؛ قال النحاس: أخذه من قوله: « إنا ذهبنا نستبق » لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها؛ وكذا « يرتع » بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و « يرتع » بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويرتجل؛ فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القتبي « نرتع » نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا؛ من قولك: رعاك الله؛ أي حفظك. « ونلعب » من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا « ونلعب » وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق؛ ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم « ونلعب » . ومنه قوله عليه السلام: ( فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ) . وقرأ مجاهد وقتادة: « يرتع » على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول؛ « ويلعب » بالرفع على الاستئناف؛ والمعنى: هو ممن يلعب « وإنا له لحافظون » من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به.
الآيتان: 13 - 14 ( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون )
قوله تعالى: « قال إني ليحزنني أن تذهبوا به » في موضع رفع؛ أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. « وأخاف أن يأكله الذئب » وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه؛ قال الكلبي. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام؛ فكانت العشرة إخوته، لما تمالؤوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام. وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب؛ فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم؛ قال ابن عباس: فسماهم ذئابا. وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب؛ لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ كذا قال أحمد بن يحيى؛ قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وروى ورش عن نافع « الذيب » بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كرة فخففها صارت ياء. « وأنتم عنه غافلون » أي مشغلون بالرعي.
قوله تعالى: « قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة » أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. « إنا إذا لخاسرون » أي في حفظنا أغنامنا؛ أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا. وقيل: « لخاسرون » لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون.
الآية: 15 ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون )
قوله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه » « أن » في موضع نصب؛ أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه؛ فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع؛ فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف؛ فاستغاث بروبيل وقال: ( أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي ) فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا؛ فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب؛ فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده؛ فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا؛ فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فههنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد؛ فأجمع رأيهم على ذلك؛ فهو قوله الله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب » وجواب « لما » محذوف؛ أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب « لما » قولهم: « قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق » [ يوسف: 17 ] . وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين؛ وأما على قول الكوفيين فالجواب. « أوحينا » والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى؛ قال الله تعالى: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] أي فتحت وقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] أي فار. قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى؛ ومنه قوله تعالى: « فلما أسلما وتله للجبين وناديناه » [ الصافات: 103 - 104 ] أي ناديناه. وفي قوله: « وأوحينا إليه » دليل على نبوته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء. وقال الكلبي: ألقي في الجب، وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيرا؛ ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه. وقيل: كان وحي إلهام كقوله: « وأوحى ربك إلى النحل » [ النحل: 68 ] . وقيل: كان مناما، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي.
قوله تعالى: « لتنبئنهم بأمرهم هذا » فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا؛ فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به؛ فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له. « وهم لا يشعرون » أنك يوسف؛ وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه. وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: « الهاء » ليعقوب؛ أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي؛ فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك؛ فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت؛ فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي؛ قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام؛ فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم؛ فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام؛ فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه؛ وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه؛ فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي؛ فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان؛ ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر سر كل ملأ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة: إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك؛ فرددها يوسف في ليلته مرارا؛ فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب.
الآية: 16 ( وجاؤوا أباهم عشاء يبكون )
قوله تعالى: « وجاؤوا أباهم عشاء » أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: ابن قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق؛ فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال: يا روبيل ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدا؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك؛ فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » .
قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
الآية: 17 ( قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين )
قوله تعالى: « نستبق » نفتعل، من، المسابقة. وقيل: أي ننتضل؛ وكذا في قراءة عبدالله « إنا ذهبنا ننتضل » وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج. وقال الأزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري أبو نصر: « نستبق » أي في الرمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام. وقال السدي وابن حبان: « نستبق » نشتد جريا لنرى أينا أسبق. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب؛ وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها؛ فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته؛ فقال لها: ( هذه بتلك ) .
قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة؛ خرجه مسلم.
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبدالله بن عمر كان ممن سابق بها؛ وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط؛ فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي: أن المسافة لا بد أن تكون معلومة. الثاني: أن تكون الخيل متساوية الأحوال. الثالث: ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة. والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن.
وأما المسابقة بالنصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث. وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي؛ وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق. وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد: أولا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه؛ فقال: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) .
أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف، والحافر والنصل؛ قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل « أو جناح » وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال. وقد روي عن مالك أنه قال: لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب؛ قال: وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي. وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل. وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُول قوله؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق.
لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط. والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما؛ فمن سبق أخذه. وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والسبق الثالث: اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه؛ ولا شيء للمحلل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه؛ وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أوله. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار ) . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء؛ وبهذا قال، الشافعي وجمهور أهل العلم. واختلف في ذلك قول مالك؛ فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال: لا يجوز إلا بالمحلل؛ وهو الأجود من قوله.
ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وفد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها. وقال الشافعي: وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه؛ أو بالكفل أو بعضه. والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر؛ ومعنى وصلى أبو بكر: يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلوان موضع العجز.
قوله تعالى: « وتركنا يوسف عند متاعنا » أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها. « فأكله الذئب » وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول: « وأخاف أن يأكله الذئب » أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه. « وما أنت بمؤمن لنا » أي بمصدق. « ولو كنا » أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحاق. « صادقين » في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي، بيانه. وقيل: « ولو كنا صادقين » أي ولو كنا عندك من أهل الثقة ولصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما.
==============
الآيتان: 11 - 12 ( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون )
قوله تعالى: « قالوا يا أبانا ما لك لا تأمننا على يوسف » قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب. ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب؛ فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: « يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف » وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري « لا تأمنا » بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف « لا تأمننا » بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - « ولا تيمنا » بكسر التاء، وهي لغة تميم؛ يقولون: أنت تضرب؛ وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. « وإنا له لناصحون » أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير؛ وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: « أرسله معنا غدا » الآية؛ فحينئذ قال أبوهم: « إني ليحزنني أن تذهبوا به » [ يوسف: 13 ] فقالوا حينئذ جوابا لقوله: « ما لك لا تأمنا على يوسف » الآية. « أرسله معنا غدا » إلى الصحراء. « غدا » ظرف، والأصل عند سيبويه غدو، وقد نطق به على الأصل؛ قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة. « يرتع ويلعب » بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. « نرتع » بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. « يرتع ويلعب » بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين؛ القراءة الأولى من قول العرب رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا؛ والمعنى: نتسع في الخصب؛ وكل مخصب راتع؛ قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقال آخر:
ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت فإنما هي إقبال وإدبار
وقال آخر:
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى معمر عن قتادة « ترتع » تسعى؛ قال النحاس: أخذه من قوله: « إنا ذهبنا نستبق » لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها؛ وكذا « يرتع » بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و « يرتع » بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويرتجل؛ فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القتبي « نرتع » نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا؛ من قولك: رعاك الله؛ أي حفظك. « ونلعب » من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا « ونلعب » وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق؛ ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم « ونلعب » . ومنه قوله عليه السلام: ( فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ) . وقرأ مجاهد وقتادة: « يرتع » على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول؛ « ويلعب » بالرفع على الاستئناف؛ والمعنى: هو ممن يلعب « وإنا له لحافظون » من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به.
الآيتان: 13 - 14 ( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون )
قوله تعالى: « قال إني ليحزنني أن تذهبوا به » في موضع رفع؛ أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. « وأخاف أن يأكله الذئب » وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه؛ قال الكلبي. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام؛ فكانت العشرة إخوته، لما تمالؤوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام. وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب؛ فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم؛ قال ابن عباس: فسماهم ذئابا. وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب؛ لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ كذا قال أحمد بن يحيى؛ قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وروى ورش عن نافع « الذيب » بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كرة فخففها صارت ياء. « وأنتم عنه غافلون » أي مشغلون بالرعي.
قوله تعالى: « قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة » أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. « إنا إذا لخاسرون » أي في حفظنا أغنامنا؛ أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا. وقيل: « لخاسرون » لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون.
الآية: 15 ( فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون )
قوله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه » « أن » في موضع نصب؛ أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه؛ فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع؛ فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف؛ فاستغاث بروبيل وقال: ( أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي ) فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا؛ فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب؛ فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده؛ فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا؛ فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فههنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد؛ فأجمع رأيهم على ذلك؛ فهو قوله الله تعالى: « فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب » وجواب « لما » محذوف؛ أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب « لما » قولهم: « قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق » [ يوسف: 17 ] . وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين؛ وأما على قول الكوفيين فالجواب. « أوحينا » والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى؛ قال الله تعالى: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] أي فتحت وقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] أي فار. قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى؛ ومنه قوله تعالى: « فلما أسلما وتله للجبين وناديناه » [ الصافات: 103 - 104 ] أي ناديناه. وفي قوله: « وأوحينا إليه » دليل على نبوته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة: أعطاه الله النبوة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء. وقال الكلبي: ألقي في الجب، وهو ابن ثماني عشرة سنة، فما كان صغيرا؛ ومن قال كان صغيرا فلا يبعد في العقل أن يتنبأ الصغير ويوحى إليه. وقيل: كان وحي إلهام كقوله: « وأوحى ربك إلى النحل » [ النحل: 68 ] . وقيل: كان مناما، والأول أظهر - والله أعلم - وأن جبريل جاءه بالوحي.
قوله تعالى: « لتنبئنهم بأمرهم هذا » فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا؛ فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به؛ فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له. « وهم لا يشعرون » أنك يوسف؛ وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه. وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: « الهاء » ليعقوب؛ أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي؛ فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك؛ فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت؛ فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي؛ قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام؛ فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم؛ فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام؛ فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه؛ وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه؛ فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي؛ فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان؛ ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر سر كل ملأ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة: إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك؛ فرددها يوسف في ليلته مرارا؛ فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب.
الآية: 16 ( وجاؤوا أباهم عشاء يبكون )
قوله تعالى: « وجاؤوا أباهم عشاء » أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: ابن قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق؛ فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال: يا روبيل ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدا؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك؛ فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » .
قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
الآية: 17 ( قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين )
قوله تعالى: « نستبق » نفتعل، من، المسابقة. وقيل: أي ننتضل؛ وكذا في قراءة عبدالله « إنا ذهبنا ننتضل » وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج. وقال الأزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري أبو نصر: « نستبق » أي في الرمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام. وقال السدي وابن حبان: « نستبق » نشتد جريا لنرى أينا أسبق. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب؛ وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة رضي الله عنها على قدميه فسبقها؛ فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته؛ فقال لها: ( هذه بتلك ) .
قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة؛ خرجه مسلم.
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبدالله بن عمر كان ممن سابق بها؛ وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط؛ فلا تجوز المسابقة بدونها، وهي: أن المسافة لا بد أن تكون معلومة. الثاني: أن تكون الخيل متساوية الأحوال. الثالث: ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة. والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن.
وأما المسابقة بالنصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث. وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة، ذكره النسائي؛ وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق. وروى البخاري عن أنس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد: أولا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه؛ فقال: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) .
أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف، والحافر والنصل؛ قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل « أو جناح » وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال. وقد روي عن مالك أنه قال: لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب؛ قال: وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي. وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل. وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُول قوله؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق.
لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط. والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما؛ فمن سبق أخذه. وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والسبق الثالث: اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه؛ ولا شيء للمحلل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه؛ وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أوله. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار ) . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء؛ وبهذا قال، الشافعي وجمهور أهل العلم. واختلف في ذلك قول مالك؛ فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل، ولا نأخذ فيه بقول سعيد، ثم قال: لا يجوز إلا بالمحلل؛ وهو الأجود من قوله.
ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وفد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها. وقال الشافعي: وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه؛ أو بالكفل أو بعضه. والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سابق، أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر وثلث عمر؛ ومعنى وصلى أبو بكر: يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلوان موضع العجز.
قوله تعالى: « وتركنا يوسف عند متاعنا » أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها. « فأكله الذئب » وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول: « وأخاف أن يأكله الذئب » أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه. « وما أنت بمؤمن لنا » أي بمصدق. « ولو كنا » أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحاق. « صادقين » في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي، بيانه. وقيل: « ولو كنا صادقين » أي ولو كنا عندك من أهل الثقة ولصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============
الآية: 18 ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )
قوله تعالى: « بدم كذب » قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدي ذبحوه. وقال قتادة: كان دم ظبية؛ أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب؛ مثل: « وسئل القرية » [ يوسف: 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر؛ يقال: هذا ضرب الأمير، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب، وماء غور أي غائر، ورجل عدل أي عادل.
وقرأ الحسن وعائشة: « بدم كدب » بالدال غير المعجمة، أي بدم طري؛ يقال للدم الطري الكدب. وحكي أنه المتغير؛ قاله الشعبي. والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سخلة. وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.
قلت: وهذا مردود؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه؛ هل يريدون إلا ثيابه؟! فقالوا عند ذلك: « وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين » عن الحسن وغيره؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا.
استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي.
روي أن يعقوب لما قالوا له: « فأكله الذئب » قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به؟! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه؛ فذلك قوله تعالى: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال: يا معشر ولدي! دلوني على ولدي؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه؛ فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم؛ قالوا: فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال: فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: اطلقوه؛ فأطلقوه، وتبصبص له الذئب؛ فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له: ادن ادن؛ حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب: أيها الذئب! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا؟! ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال: والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش؛ فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم؛ هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به. « بل سولت » أي زينت لكم. « أنفسكم أمرا » غير ما تصفون وتذكرون.
قوله تعالى: « فصبر جميل » قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل. وقيل: أي فصبر جميل أولى بي؛ فهو مبتدأ وخبره محذوف. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال: ( هو الذي لا شكوى معه ) . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف « فصبرا جميلا » قال: وكذا قرأ الأشهب العقيلي؛ قال وكذا. في مصحف أنس وأبي صالح. قال المبرد: « فصبر جميل » بالرفع أولى من النصب؛ لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل؛ قال: وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرا جميلا؛ قال:
شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى
والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم؛ وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه؛ فكان يرفعهما بخرقة؛ فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان؛ فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب؟! قال: يا رب! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. « والله المستعان » ابتداء وخبر. « على ما تصفون » أي على احتمال ما تصفون من الكذب.
قال ابن أبي رفاعة: ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ حين قال له بنوه: « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل » فأصاب هنا، ثم قالوا له: « إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين » [ يوسف: 81 ] قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » فلم يصب.
الآية: 19 ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون )
قوله تعالى: « وجاءت سيارة » أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. « فأرسلوا واردهم » فذكر على المعنى؛ ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل « وجاءت » . والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم؛ وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة. « فأدلى دلوه » أي أرسله؛ يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو؛ قال الكوفيون. وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي؛ فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع؛ ودلاء أيضا. « قال يا بشرى هذا غلام » فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم: ( فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ) . وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه؛ وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة؛ وكانت قد أعطيت سدس الحسن؛ فلما رآه مالك بن دعر قال: « يا بشراي هذا غلام » وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة؛ إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ « يا بُشْرَيَّ هذا غلام » فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا. وقرأ أهل الكوفة « يا بشرى » غير مضاف؛ وفي معناه قولان: أحدهما: اسم الغلام، والثاني: معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام؛ قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا. وقال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى. قال النحاس: قول قتادة أولى؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا؛ وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: « ويوم يعض الظالم على يديه » [ الفرقان: 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده « يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا » [ الفرقان: 28 ] وهو أمية بن خلف؛ قال النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر؛ وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر؛ وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي. وقيل: هو كما تقول: واسروراه! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح؛ لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى، ضمير المتكلم؛ وعلى هذا يكون « بشراي » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف؛ ومعنى النداء ههنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري؛ وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك: يا رجلا، وقوله: « يا حسرة على العباد » [ يس:30 ] ولكنه لم ينون « بشرى » لأنه لا ينصرف. « وأسروه بضاعة » الهاء كناية عن يوسف عليه السلام؛ فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. « بضاعة » نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر؛ وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب؛ وذلك أنهم جاؤوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك؛ فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم. وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل، قتلوك؛ فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته؛ فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد!، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا؛ فقال: ما تقول يا غلام؟ قال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت:، بأخلاقهم؛ فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم؛ فباعوه منه.
الآية: 20 ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين )
قوله تعالى: « وشروه » يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة؛ قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
أي بعت. وقال آخر:
فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز
« بثمن بخس » أي نقص؛ وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم؛ أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه. وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة. وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم. وقال قتادة: « بخس » ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: « بخس » حرام. وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه؛ وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا؛ أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله.
قلت: قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك؛ فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه. وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة؛ وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين؛ وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهما؛ وما روي عن الصحابة أولى. و « بخس » من نعت « ثمن » .
قوله تعالى: « دراهم معدودة » على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
« معدودة » نعت؛ وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن. وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها؛ وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.
قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ) . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن؛ حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان؛ فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن؛ ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم.
واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك؛ وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي؛ وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.
روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ: « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » وقد مضى القول فيه.
قوله تعالى: « وكانوا فيه من الزاهدين » قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة؛ وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى.
في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما؛ ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » أي في حسنه؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها.
الآية: 21 ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
قوله تعالى: « وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته » قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال؛ إذ لم يكن ذلك عقدا، مثل: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » . [ البقرة: 16 ] وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السهيلي: واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل؛ ذكره الماوردي. وقيل: كان اسمها زليخاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله؛ ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى؛ لقول موسى: « ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات » [ غافر: 34 ] وأنه عاش أربعمائة سنة. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في « غافر ] بيانه. وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك؛ واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله؛ فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن؛ قاله وهب بن منبه. وقال وهب أيضا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني؛ قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا؛ فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا؛ فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون؛ فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك؛ فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني؛ فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل؛ فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا؛ فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثا؟ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا؛ فقال له: ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت؛ فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك؛ قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني؛ فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك؛ قاله ابن عباس على ما تقدم. وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض؛ فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى. »
قوله تعالى: « أكرمي مثواه » أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن؛ وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيره. « عسى أن ينفعنا » أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. « أو نتخذه ولدا » قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال « أو نتخذه ولدا » وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني؛ وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » إن شاء الله تعالى. وقال عبدالله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف فقال: « عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا » وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى « استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين » [ القصص: 26 ] ، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة [ الحجر ] وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة؛ وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في « القصص » . وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم.
قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض » الكاف في موضع نصب؛ أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له؛ أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. « ولنعلمه من تأويل الأحاديث » أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » . وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله. وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. « والله غالب على أمره » الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يطلع من يريد على بعض، غيبه. وقيل: المعنى « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية: « والله غالب على أمره » حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: « يا أسفا على يوسف » ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: « إنا كنا خاطئين » [ يوسف: 97 ] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » [ يوسف: 18 ] ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب، أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: « استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين » [ يوسف: 29 ] ، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين.
الآية: 22 ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين )
قوله تعالى: « ولما بلغ أشده » « أشده » عند سيبويه جمع، واحده شدة. وقال الكسائي: واحده شد؛ كما قال الشاعر:
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب؛ ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد. وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم؛ وقد مضى ما للعلماء في هذا في « النساء » و « الأنعام » مستوفى. « آتيناه حكما وعلما » قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك؛ أي وآتيناه علما بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم النبوة، والعلم علم الدين؛ وقيل: علم الرؤيا؛ ومن قال: أوتي النبوة صبيا قال: لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما. « وكذلك نجزي المحسنين » يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف؛ قاله الضحاك. وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض.
==============
الآية: 18 ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )
قوله تعالى: « بدم كذب » قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدي ذبحوه. وقال قتادة: كان دم ظبية؛ أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب؛ مثل: « وسئل القرية » [ يوسف: 82 ] والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر؛ يقال: هذا ضرب الأمير، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب، وماء غور أي غائر، ورجل عدل أي عادل.
وقرأ الحسن وعائشة: « بدم كدب » بالدال غير المعجمة، أي بدم طري؛ يقال للدم الطري الكدب. وحكي أنه المتغير؛ قاله الشعبي. والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سخلة. وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.
قلت: وهذا مردود؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه؛ هل يريدون إلا ثيابه؟! فقالوا عند ذلك: « وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين » عن الحسن وغيره؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا.
استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي.
روي أن يعقوب لما قالوا له: « فأكله الذئب » قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به؟! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه؛ فذلك قوله تعالى: « وجاؤوا على قميصه بدم كذب » فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال: يا معشر ولدي! دلوني على ولدي؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه؛ فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم؛ قالوا: فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال: فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: اطلقوه؛ فأطلقوه، وتبصبص له الذئب؛ فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له: ادن ادن؛ حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب: أيها الذئب! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا؟! ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال: والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش؛ فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم؛ هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به. « بل سولت » أي زينت لكم. « أنفسكم أمرا » غير ما تصفون وتذكرون.
قوله تعالى: « فصبر جميل » قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل. وقيل: أي فصبر جميل أولى بي؛ فهو مبتدأ وخبره محذوف. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال: ( هو الذي لا شكوى معه ) . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف « فصبرا جميلا » قال: وكذا قرأ الأشهب العقيلي؛ قال وكذا. في مصحف أنس وأبي صالح. قال المبرد: « فصبر جميل » بالرفع أولى من النصب؛ لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل؛ قال: وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرا جميلا؛ قال:
شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى
والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم؛ وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه؛ فكان يرفعهما بخرقة؛ فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان؛ فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب؟! قال: يا رب! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. « والله المستعان » ابتداء وخبر. « على ما تصفون » أي على احتمال ما تصفون من الكذب.
قال ابن أبي رفاعة: ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ حين قال له بنوه: « إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب » قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل » فأصاب هنا، ثم قالوا له: « إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين » [ يوسف: 81 ] قال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » فلم يصب.
الآية: 19 ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون )
قوله تعالى: « وجاءت سيارة » أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. « فأرسلوا واردهم » فذكر على المعنى؛ ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل « وجاءت » . والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم؛ وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة. « فأدلى دلوه » أي أرسله؛ يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو؛ قال الكوفيون. وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي؛ فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع؛ ودلاء أيضا. « قال يا بشرى هذا غلام » فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم: ( فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ) . وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه؛ وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة؛ وكانت قد أعطيت سدس الحسن؛ فلما رآه مالك بن دعر قال: « يا بشراي هذا غلام » وهذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة؛ إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ « يا بُشْرَيَّ هذا غلام » فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا. وقرأ أهل الكوفة « يا بشرى » غير مضاف؛ وفي معناه قولان: أحدهما: اسم الغلام، والثاني: معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة والسدي: لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام؛ قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبدا. وقال السدي: نادى رجلا اسمه بشرى. قال النحاس: قول قتادة أولى؛ لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيرا؛ وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: « ويوم يعض الظالم على يديه » [ الفرقان: 27 ] وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده « يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا » [ الفرقان: 28 ] وهو أمية بن خلف؛ قال النحاس. والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر؛ وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فاحضر؛ وهذا مذهب سيبويه، وكذا قال السهيلي. وقيل: هو كما تقول: واسروراه! وأن البشرى مصدر من الاستبشار: وهذا أصح؛ لأنه لو كان اسما علما لم يكن مضافا إلى، ضمير المتكلم؛ وعلى هذا يكون « بشراي » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف؛ ومعنى النداء ههنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري؛ وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصبا كقولك: يا رجلا، وقوله: « يا حسرة على العباد » [ يس:30 ] ولكنه لم ينون « بشرى » لأنه لا ينصرف. « وأسروه بضاعة » الهاء كناية عن يوسف عليه السلام؛ فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. « بضاعة » نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر؛ وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب؛ وذلك أنهم جاؤوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك؛ فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم. وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل، قتلوك؛ فلعل الله أن يجعل لك مخرجا، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته؛ فقال مالك: والله ما هذه سمة العبيد!، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا؛ فقال: ما تقول يا غلام؟ قال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت:، بأخلاقهم؛ فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم؛ فباعوه منه.
الآية: 20 ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين )
قوله تعالى: « وشروه » يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة؛ قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
أي بعت. وقال آخر:
فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز
« بثمن بخس » أي نقص؛ وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم؛ أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه. وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة. وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم. وقال قتادة: « بخس » ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء: « بخس » حرام. وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه؛ وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا؛ أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله.
قلت: قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك؛ فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه. وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة؛ وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين؛ وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهما؛ وما روي عن الصحابة أولى. و « بخس » من نعت « ثمن » .
قوله تعالى: « دراهم معدودة » على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
« معدودة » نعت؛ وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن. وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها؛ وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.
قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى ) . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن؛ حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان؛ فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن؛ ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم.
واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك؛ وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي؛ وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها.
روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ: « وشروه بثمن بخس دراهم معدودة » وقد مضى القول فيه.
قوله تعالى: « وكانوا فيه من الزاهدين » قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة؛ وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى.
في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما؛ ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » أي في حسنه؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له. وقيل: « وكانوا فيه من الزاهدين » لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها.
الآية: 21 ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
قوله تعالى: « وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته » قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال؛ إذ لم يكن ذلك عقدا، مثل: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » . [ البقرة: 16 ] وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضحاك: هذا الذي اشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السهيلي: واسمه قطفير. وقال ابن إسحاق: إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل؛ ذكره الماوردي. وقيل: كان اسمها زليخاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله؛ ذكره القشيري. وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى؛ لقول موسى: « ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات » [ غافر: 34 ] وأنه عاش أربعمائة سنة. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في « غافر ] بيانه. وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك؛ واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله؛ فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن؛ قاله وهب بن منبه. وقال وهب أيضا وغيره: ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا: هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحمكم الله وإن لم ترحموني؛ قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيدا مكبلا مسلسلا، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ارفعي رأسك ترى ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا؛ فرقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو بياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا؛ فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون؛ فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك؛ فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني؛ فضجت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل؛ فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وارتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا؛ فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثا؟ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا؛ فقال له: ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت؛ فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظن بك؛ قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني؛ فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، ورد عليه جماله، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك؛ قاله ابن عباس على ما تقدم. وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض؛ فملك بعده قابوس وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى. »
قوله تعالى: « أكرمي مثواه » أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن؛ وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيره. « عسى أن ينفعنا » أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. « أو نتخذه ولدا » قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال « أو نتخذه ولدا » وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني؛ وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » إن شاء الله تعالى. وقال عبدالله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف فقال: « عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا » وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى « استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين » [ القصص: 26 ] ، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال ابن العربي: عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة [ الحجر ] وليس كذلك فيما نقلوه؛ لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة؛ وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في « القصص » . وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة؛ لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة. والله أعلم.
قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض » الكاف في موضع نصب؛ أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له؛ أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. « ولنعلمه من تأويل الأحاديث » أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب: « ويعلمك من تأويل الأحاديث » . وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله. وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. « والله غالب على أمره » الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يطلع من يريد على بعض، غيبه. وقيل: المعنى « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية: « والله غالب على أمره » حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال: « يا أسفا على يوسف » ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم: « إنا كنا خاطئين » [ يوسف: 97 ] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع، وقال: « بل سولت لكم أنفسكم أمرا » [ يوسف: 18 ] ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب، أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته، فغلب أمر الله حتى قال العزيز: « استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين » [ يوسف: 29 ] ، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي، ولبث يوسف في السجن بضع سنين.
الآية: 22 ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين )
قوله تعالى: « ولما بلغ أشده » « أشده » عند سيبويه جمع، واحده شدة. وقال الكسائي: واحده شد؛ كما قال الشاعر:
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب؛ ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد. وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم؛ وقد مضى ما للعلماء في هذا في « النساء » و « الأنعام » مستوفى. « آتيناه حكما وعلما » قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك؛ أي وآتيناه علما بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم النبوة، والعلم علم الدين؛ وقيل: علم الرؤيا؛ ومن قال: أوتي النبوة صبيا قال: لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما. « وكذلك نجزي المحسنين » يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف؛ قاله الضحاك. وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============
الآيتان: 23 - 24 ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )
قوله تعالى: « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه » وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. « وغلقت الأبواب » غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. « وقالت هيت لك » أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ « هَيتَ لك » قال فقلت: إن قوما يقرؤونها « هِيتَ لك » فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي « قالت هَيتِ لك » بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير « هَيتُ لك » بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع « وقالت هِيتَ لك » بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب « وقالت هِيْتُ لك » بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: « وقالت هَئتُ لك » بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: « وقالت هِئتَ » بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر: « هئتَ لك » بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في « هئت » أي حسنت هيئتك، ويكون « لك » من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ « هيت لك » . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك « هئت » عن العرب. قال عكرمة: « هئت لك » أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في « هيت » لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات « هيت » بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا
إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا
قال ابن عباس والحسن: « هيت » كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال:
قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا
أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات
قوله تعالى: « قال معاذ الله » أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. « إنه ربي » يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها « لولا أن رأى برهان ربه » ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين » فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: « ولقد همت به وهم بها » الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل:
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
آخر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] . قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب.
قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في « ص ] إن شاء الله تعالى. وجواب » لولا « على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله » كلا لو تعلمون علم اليقين « [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.»
قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.
قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: « وأوحينا إليه » [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.
قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.
قوله تعالى: « لولا أن رأى برهان ربه » « أن » في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت « ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » [ الإسراء: 32 ] . وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك. وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.
قوله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » الكاف من « كذلك » يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « المخلصين » بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.
الآية: 25 ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم )
قوله تعالى: « واستبقا الباب » قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من « استبقا » في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.
قوله تعالى: « وقدت قميصه من دبر » أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف « فلما رأى قميصه عط من دبره » أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح.
في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
قوله تعالى: « وألفيا سيدها لدى الباب » أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ « قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » أي زنى.
قوله تعالى: « إلا أن يسجن » تقول: يضرب ضربا وجيعا. و « ما جزاء » ابتداء، وخبره « أن يسجن » . « أو عذاب أليم » عطف على موضع « أن يسجن » لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي.
=============
الآيتان: 23 - 24 ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )
قوله تعالى: « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه » وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. « وغلقت الأبواب » غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. « وقالت هيت لك » أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ « هَيتَ لك » قال فقلت: إن قوما يقرؤونها « هِيتَ لك » فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي « قالت هَيتِ لك » بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير « هَيتُ لك » بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع « وقالت هِيتَ لك » بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب « وقالت هِيْتُ لك » بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: « وقالت هَئتُ لك » بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: « وقالت هِئتَ » بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر: « هئتَ لك » بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في « هئت » أي حسنت هيئتك، ويكون « لك » من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ « هيت لك » . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك « هئت » عن العرب. قال عكرمة: « هئت لك » أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في « هيت » لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات « هيت » بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا
إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا
قال ابن عباس والحسن: « هيت » كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال:
قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا
أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات
قوله تعالى: « قال معاذ الله » أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. « إنه ربي » يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها « لولا أن رأى برهان ربه » ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين » فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: « ولقد همت به وهم بها » الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل:
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
آخر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] . قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب.
قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في « ص ] إن شاء الله تعالى. وجواب » لولا « على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله » كلا لو تعلمون علم اليقين « [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.»
قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.
قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: « وأوحينا إليه » [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.
قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.
قوله تعالى: « لولا أن رأى برهان ربه » « أن » في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت « ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » [ الإسراء: 32 ] . وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك. وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.
قوله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » الكاف من « كذلك » يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « المخلصين » بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.
الآية: 25 ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم )
قوله تعالى: « واستبقا الباب » قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من « استبقا » في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.
قوله تعالى: « وقدت قميصه من دبر » أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف « فلما رأى قميصه عط من دبره » أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح.
في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
قوله تعالى: « وألفيا سيدها لدى الباب » أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ « قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » أي زنى.
قوله تعالى: « إلا أن يسجن » تقول: يضرب ضربا وجيعا. و « ما جزاء » ابتداء، وخبره « أن يسجن » . « أو عذاب أليم » عطف على موضع « أن يسجن » لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي.
صفحة 7 من اصل 20 • 1 ... 6, 7, 8 ... 13 ... 20
مواضيع مماثلة
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
صفحة 7 من اصل 20
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola
» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله
» قصة سيدنا عزير
الإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة
» ** قصة أبيار على **
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة
» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله
» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة
» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله
» إعجاز بناء الكعبة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز
» صفات اليهود فى القرآن الكريم
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله