بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
هدى من الله | ||||
لولو حسن | ||||
روز | ||||
هنا سيد | ||||
توتى بدر | ||||
fola | ||||
روضة البدر | ||||
ام دهب و مصطفى | ||||
امة الرحمن | ||||
لولا |
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
صفحة 13 من اصل 20
صفحة 13 من اصل 20 • 1 ... 8 ... 12, 13, 14 ... 16 ... 20
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الروم
=============
الآية: 16 ( وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون )
قوله تعالى: « وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا » تقدم الكلام فيه. « ولقاء الآخرة » أي بالبعث. « فأولئك في العذاب محضرون » أي مقيمون. وقيل: مجموعون. وقيل: معذبون. وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى: « إذا حضر أحدكم الموت » [ البقرة: 180 ] أي نزل به؛ قاله ابن شجرة، والمعنى متقارب.
الآيات: 17 - 18 ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون )
قوله تعالى: « فسبحان الله » الآية فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن؛ قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى « فسبحان الله حين تمسون » صلاة المغرب والعشاء « وحين تصبحون » صلاة الفجر « وعشيا » العصر « وحين تظهرون » الظهر؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر؛ قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في « وزلفا من الليل » [ هود: 114 ] وفي ذكر أوقات العورة. وقال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » في الصلوات. وسمعت على بن سليمان يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح في الصلاة؛ وهو القول الثاني. والقول الثالث: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون؛ ذكره الماوردي. وذكر القول الأول، ولفظه فيه: فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون. وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان: أحدهما: لما تضمنها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني: مأخوذ من السبحة والسبحة الصلاة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تكون لهم سبحة يوم القيامة ) أي صلاة.
قوله تعالى: « وله الحمد في السماوات والأرض » اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل: معنى « وله الحمد » أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة « الإسراء » بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي: وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
قرأ عكرمة « حينا تمسون وحينا تصبحون » والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه؛ فحذف « فيه » تخفيفا، والقول فيه كالقول في « واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا » [ البقرة: 48 ] . « وعشيا وحين تظهرون » قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة؛ تقول: أتيته عشية أمس وعشي أمس. وتصغير العشي: عشيان، على غير قياس مكبره؛ كأنهم صغروا عشيانا، والجمع عشيانات. وقيل أيضا في تصغيره: عشيشيان، والجمع عشيشيات. وتصغير العشية عشيشية، والجمع عشيشيات. والعشاء ( بالكسر والمد ) مثل العشي. والعشاء إن المغرب والعتمة. وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا:
غدونا غدوة سحرا بليل عشاء بعدما انتصف النهار
الماوردي: والفرق بين المساء والعشاء: أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس.
الآية: 19 ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون )
بين كمال قدرته؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس؛ وقد مضى في « آل عمران » بيان « تخرج الحي من الميت » [ آل عمران: 27 ] .
الآيات: 20 - 26 ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون )
قوله تعالى: « ومن آياته أن خلقكم من تراب » أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في « الأنعام » . و « أن » في موضع رفع بالابتداء وكذا « أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا » .
قوله تعالى: « ثم إذا أنتم بشر تنتشرون » ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثا؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: « خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها » أزواجا « أي نساء تسكنون إليها. » من أنفسكم « أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة. » وجعل بينكم مودة ورحمة « قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل؛ قال الله تعالى: » ومن آياته أن خلقكم من تراب « الآية. وقال: » ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها « فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: » وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم « [ الشعراء: 166 ] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج؛ فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها ) . وفي لفظ آخر: ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) . » ومن آياته خلق السماوات والأرض « تقدم في » البقرة « . وكانوا يعترفون بأن الله هو الخالق. » واختلاف ألسنتكم وألوانكم « اللسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربية والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلا بد من فاعل، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. » إن في ذلك لآيات للعالمين « أي للبر والفاجر. وقرأ حفص: » للعالِمين « بكسر اللام جمع عالم.»
قوله تعالى: « ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله » قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. « إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون » يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. « ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا » قيل: المعنى أن يريكم، فحذف « أن » لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضُرُ الوغى وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي
وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. « خوفا » أي للمسافر. « وطمعا » للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك: « خوفا » من الصواعق، « وطمعا » في الغيث. يحيى بن سلام: « خوفا » من البرد أن يهلك الزرع، « وطمعا » في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر: « خوفا » أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر، « وطمعا » أن يكون ممطرا؛ وأنشد قول الشاعر:
لا يكن برقك برقا خلّبا إن خير البرق ما الغيث معه
وقال آخر:
فقد أرد المياه بغير زاد سوى عدي لها برق الغمام
والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة.
قوله تعالى: « وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » تقدم. « ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره » « أن » في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: « بأمره » بإذنه؛ والمعنى واحد. « ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون » أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل:
دعوت كليبا باسمه فكأنما دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ « ثم » لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: « ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون » [ الزمر: 68 ] . « وإذا » الأولى في قوله تعالى: « إذا دعاكم » للشرط، والثانية في قوله تعالى: « إذا أنتم » للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في « تخرجون » . واختلفوا في التي في « الأعراف » فقرأ أهل المدينة: « ومنها تخرجون » [ الأعراف: 25 ] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في « الأعراف » بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ « تخرجون » بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. « وله من في السماوات والأرض » خلقا وملكا وعبدا. « كل له قانتون » روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل قنوت في القرآن فهو طاعة ) . قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: « قانتون » مقرون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس: « قانتون » مصلون. الربيع بن أنس: « كل له قانتون » أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: « يوم يقوم الناس لرب العالمين » [ المطففين: 6 ] أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير « قانتون » مخلصون.
الآية: 27 ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده » أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله « وهو أهون عليه » وقرأ ابن مسعود وابن عمر: « يبدئ الخلق » من أبدأ يبدئ؛ دليله قوله تعالى: « إنه هو يبدئ ويعيد » [ البروج: 13 ] . ودليل قراءة العامة قوله سبحانه: « كما بدأكم تعودون » [ الأعراف: 29 ] . و « أهون » بمعنى هين؛ أي الإعادة هين عليه؛ قاله الربيع بن خثيم والحسن. فأهون بمعنى هين؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى: « وكان ذلك على الله يسيرا » [ النساء:30 ] وبقوله: « ولا يؤوده حفظهما » [ البقرة: 255 ] .
والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
أراد: إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا:
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد. وقال آخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل. ومنه قولهم: الله أكبر؛ إنما معناه الله الكبير. وروى معمر عن قتادة قال: في قراءة عبدالله بن مسعود « وهو عليه هين » . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية؛ أي أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده؛ يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء. وقيل: الضمير في « عليه » للمخلوقين؛ أي وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل؛ قال:
وهان على أسماء أن شطت النوى يحن إليها واله ويتوق
أي سهل عليها، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى: « وهو أهون عليه » قال: ما شيء على الله بعزيز. عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. « وله المثل الأعلى » أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل: المثل الصفة؛ أي وله الوصف الأعلى « في السموات والأرض » كما قال: « مثل الجنة التي وعد المتقون » [ الرعد: 35 ] أي صفتها. وقد مضى الكلام في ذلك. وعن مجاهد: « المثل الأعلى » قول لا إله إلا الله؛ ومعناه: أي الذي له الوصف الأعلى، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية. وكذا قال قتادة: إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ ويعضده قوله تعالى: « ضرب لكم مثلا من أنفسكم » على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقال الزجاج: « وله المثل الأعلى في السموات والأرض » أي قوله: « وهو أهون عليه » قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل؛ يريد التفسير الأول. وقال ابن عباس: أي ليس كمثله شيء « وهو العزيز الحكيم » تقدم.
=============
الآية: 16 ( وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون )
قوله تعالى: « وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا » تقدم الكلام فيه. « ولقاء الآخرة » أي بالبعث. « فأولئك في العذاب محضرون » أي مقيمون. وقيل: مجموعون. وقيل: معذبون. وقيل: نازلون؛ ومنه قوله تعالى: « إذا حضر أحدكم الموت » [ البقرة: 180 ] أي نزل به؛ قاله ابن شجرة، والمعنى متقارب.
الآيات: 17 - 18 ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون )
قوله تعالى: « فسبحان الله » الآية فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن؛ قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى « فسبحان الله حين تمسون » صلاة المغرب والعشاء « وحين تصبحون » صلاة الفجر « وعشيا » العصر « وحين تظهرون » الظهر؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر؛ قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في « وزلفا من الليل » [ هود: 114 ] وفي ذكر أوقات العورة. وقال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » في الصلوات. وسمعت على بن سليمان يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح في الصلاة؛ وهو القول الثاني. والقول الثالث: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون؛ ذكره الماوردي. وذكر القول الأول، ولفظه فيه: فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون. وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان: أحدهما: لما تضمنها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني: مأخوذ من السبحة والسبحة الصلاة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تكون لهم سبحة يوم القيامة ) أي صلاة.
قوله تعالى: « وله الحمد في السماوات والأرض » اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل: معنى « وله الحمد » أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة « الإسراء » بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي: وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
قرأ عكرمة « حينا تمسون وحينا تصبحون » والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه؛ فحذف « فيه » تخفيفا، والقول فيه كالقول في « واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا » [ البقرة: 48 ] . « وعشيا وحين تظهرون » قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة؛ تقول: أتيته عشية أمس وعشي أمس. وتصغير العشي: عشيان، على غير قياس مكبره؛ كأنهم صغروا عشيانا، والجمع عشيانات. وقيل أيضا في تصغيره: عشيشيان، والجمع عشيشيات. وتصغير العشية عشيشية، والجمع عشيشيات. والعشاء ( بالكسر والمد ) مثل العشي. والعشاء إن المغرب والعتمة. وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا:
غدونا غدوة سحرا بليل عشاء بعدما انتصف النهار
الماوردي: والفرق بين المساء والعشاء: أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس.
الآية: 19 ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون )
بين كمال قدرته؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس؛ وقد مضى في « آل عمران » بيان « تخرج الحي من الميت » [ آل عمران: 27 ] .
الآيات: 20 - 26 ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون )
قوله تعالى: « ومن آياته أن خلقكم من تراب » أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في « الأنعام » . و « أن » في موضع رفع بالابتداء وكذا « أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا » .
قوله تعالى: « ثم إذا أنتم بشر تنتشرون » ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثا؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: « خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها » أزواجا « أي نساء تسكنون إليها. » من أنفسكم « أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة. » وجعل بينكم مودة ورحمة « قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل؛ قال الله تعالى: » ومن آياته أن خلقكم من تراب « الآية. وقال: » ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها « فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: » وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم « [ الشعراء: 166 ] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج؛ فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها ) . وفي لفظ آخر: ( إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) . » ومن آياته خلق السماوات والأرض « تقدم في » البقرة « . وكانوا يعترفون بأن الله هو الخالق. » واختلاف ألسنتكم وألوانكم « اللسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربية والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلا بد من فاعل، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. » إن في ذلك لآيات للعالمين « أي للبر والفاجر. وقرأ حفص: » للعالِمين « بكسر اللام جمع عالم.»
قوله تعالى: « ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله » قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. « إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون » يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه؛ والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. « ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا » قيل: المعنى أن يريكم، فحذف « أن » لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أحضُرُ الوغى وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي
وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة. « خوفا » أي للمسافر. « وطمعا » للمقيم؛ قاله قتادة. الضحاك: « خوفا » من الصواعق، « وطمعا » في الغيث. يحيى بن سلام: « خوفا » من البرد أن يهلك الزرع، « وطمعا » في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر: « خوفا » أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر، « وطمعا » أن يكون ممطرا؛ وأنشد قول الشاعر:
لا يكن برقك برقا خلّبا إن خير البرق ما الغيث معه
وقال آخر:
فقد أرد المياه بغير زاد سوى عدي لها برق الغمام
والبرق الخلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة.
قوله تعالى: « وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » تقدم. « ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره » « أن » في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: « بأمره » بإذنه؛ والمعنى واحد. « ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون » أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه؛ كما قال القائل:
دعوت كليبا باسمه فكأنما دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ « ثم » لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يأهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: « ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون » [ الزمر: 68 ] . « وإذا » الأولى في قوله تعالى: « إذا دعاكم » للشرط، والثانية في قوله تعالى: « إذا أنتم » للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في « تخرجون » . واختلفوا في التي في « الأعراف » فقرأ أهل المدينة: « ومنها تخرجون » [ الأعراف: 25 ] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في « الأعراف » بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ « تخرجون » بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم. « وله من في السماوات والأرض » خلقا وملكا وعبدا. « كل له قانتون » روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل قنوت في القرآن فهو طاعة ) . قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: « قانتون » مقرون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس: « قانتون » مصلون. الربيع بن أنس: « كل له قانتون » أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: « يوم يقوم الناس لرب العالمين » [ المطففين: 6 ] أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير « قانتون » مخلصون.
الآية: 27 ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده » أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله « وهو أهون عليه » وقرأ ابن مسعود وابن عمر: « يبدئ الخلق » من أبدأ يبدئ؛ دليله قوله تعالى: « إنه هو يبدئ ويعيد » [ البروج: 13 ] . ودليل قراءة العامة قوله سبحانه: « كما بدأكم تعودون » [ الأعراف: 29 ] . و « أهون » بمعنى هين؛ أي الإعادة هين عليه؛ قاله الربيع بن خثيم والحسن. فأهون بمعنى هين؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى: « وكان ذلك على الله يسيرا » [ النساء:30 ] وبقوله: « ولا يؤوده حفظهما » [ البقرة: 255 ] .
والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
أراد: إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا:
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد. وقال آخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل. ومنه قولهم: الله أكبر؛ إنما معناه الله الكبير. وروى معمر عن قتادة قال: في قراءة عبدالله بن مسعود « وهو عليه هين » . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية؛ أي أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده؛ يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء. وقيل: الضمير في « عليه » للمخلوقين؛ أي وهو أهون عليه، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل؛ قال:
وهان على أسماء أن شطت النوى يحن إليها واله ويتوق
أي سهل عليها، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى: « وهو أهون عليه » قال: ما شيء على الله بعزيز. عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. « وله المثل الأعلى » أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل: المثل الصفة؛ أي وله الوصف الأعلى « في السموات والأرض » كما قال: « مثل الجنة التي وعد المتقون » [ الرعد: 35 ] أي صفتها. وقد مضى الكلام في ذلك. وعن مجاهد: « المثل الأعلى » قول لا إله إلا الله؛ ومعناه: أي الذي له الوصف الأعلى، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية. وكذا قال قتادة: إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ ويعضده قوله تعالى: « ضرب لكم مثلا من أنفسكم » على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقال الزجاج: « وله المثل الأعلى في السموات والأرض » أي قوله: « وهو أهون عليه » قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل؛ يريد التفسير الأول. وقال ابن عباس: أي ليس كمثله شيء « وهو العزيز الحكيم » تقدم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الروم
=============
الآية: 28 ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون )
قوله تعالى: « من أنفسكم » ثم قال: « من شركاء » ؛ ثم قال: « مما ملكت أيمانكم » فـ « من » الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: « ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم » الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.
الآية: 29 ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين )
قوله تعالى: « بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم » لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. « فمن يهدي من أضل الله » أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. « وما لهم من ناصرين » .
الآية: 30 ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
قوله تعالى: « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها » قال الزجاج: « فطرة » منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى « فأقم وجهك للدين » اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: « فطرة الله » مصدر من معنى: « فأقم وجهك » لأن معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على « حنيفا » تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على « حنيفا » . وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون » [ الذاريات: 56 ] . ويقال: « عليها » بمعنى لها؛ كقوله تعالى: « وإن أسأتم فلها » [ الإسراء: 7 ] . والخطاب بـ « أقم وجهك » للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم؛ كما قال: « فأقم وجهك للدين القيم » [ الروم: 43 ] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين؛ وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و « حنيفا » معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ « فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله » ، في رواية: ( حتى تكونوا أنتم تجدعونها ) قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) . لفظ مسلم.
واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما: ( ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما.. ) الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الفطرة... ) فذكر منها قص الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة؛ أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدئ؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها. قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى: « فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة » [ الأعراف: 30 ] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.
قلت: قد مضى قول كعب هذا في « الأعراف » وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: ( أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: ( أتدرون ما هذان الكتابان ) ؟ فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا... ) وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: « فطر الناس عليها » ولا قوله عليه السلام: ( كل مولود يولد على الفطرة ) العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار؛ كما قال تعالى: « ولقد ذرأنا لجهنم » [ الأعراف: 179 ] وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر: طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفظنا أن قال: ( ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب ) . ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] ولم تدمر السموات والأرض. وقوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » [ الأنعام: 44 ] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.
وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: « فأقم وجهك للدين حنيفا » ثم قال: « فطرة الله » أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولهذا قال: « لا تبديل لخلق الله » قال شيخنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: « لا تبديل لخلق الله » وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله عز وجل: « الحمد لله فاطر السموات والأرض » [ فاطر: 1 ] يعني خالقهن، وبقوله: « وما لي لا أعبد الذي فطرني » [ يس: 22 ] يعني خلقني، وبقوله: « الذي فطرهن » [ الأنبياء: 56 ] يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا، قال الله تعالى: « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا » [ النحل: 78 ] فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى: « إنما تجزون ما كنتم تعملون » [ الطور: 16 ] و « كل نفس بما كسبت رهينة » [ المدثر: 38 ] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال نعم؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى: « كما بدأكم تعودون » [ الأعراف: 29 ] ولا في ( أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه ) : دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا، والحديث الذي جاء فيه: ( أن الناس خلقوا على طبقات ) ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله: ( يولد مؤمنا ) أي يولد ليكون مؤمنا، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث ( خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار ) أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى: « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا » [ الأعراف: 172 ] . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قول عليه السلام: ( وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ) . قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأولاد المشركين ) . وهذا نص يرفع الخلاف، وهو أصح شيء روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: ( لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة ) ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق: « فطرة الله التي فطر الناس عليها » هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم، وفي الآخرة.
قوله تعالى: « لا تبديل لخلق الله » أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في « النساء » . « ذلك الدين القيم » أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل: « ذلك الدين القيم » أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآيات: 31 - 32 ( منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )
قوله تعالى: « منيبين إليه » اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء: مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
فإن تابوا فإن بني سليم وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد؛ فإن « ناب وتاب وثاب وآب » معناه الرجوع. قال الماوردي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب، تقول: جاءت نوبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى: « أقم وجهك » فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمر لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى: « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » [ الطلاق: 1 ] . « واتقوه » أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. « وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين » بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص؛ فلذلك قال: « ولا تكونوا من المشركين » وقد مضى هذا مبينا « في النساء والكهف » وغيرهما. « من الذين فرقوا دينهم » تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى « في الأنعام » بيانه. وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي: « فارقوا دينهم » ، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد. « وكانوا شيعا » أي فرقا؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا؛ قاله مقاتل. « كل حزب بما لديهم فرحون » أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام « ولا تكونوا من المشركين » ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم « وكانوا شيعا » على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس: وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف؛ كما قال جل وعز: « قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم » [ الأعراف: 75 ] ولو كان بلا حرف لجاز.
=============
الآية: 28 ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون )
قوله تعالى: « من أنفسكم » ثم قال: « من شركاء » ؛ ثم قال: « مما ملكت أيمانكم » فـ « من » الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: « ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم » الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا، فيقال لهم: فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.
الآية: 29 ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين )
قوله تعالى: « بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم » لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. « فمن يهدي من أضل الله » أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. « وما لهم من ناصرين » .
الآية: 30 ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
قوله تعالى: « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها » قال الزجاج: « فطرة » منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى « فأقم وجهك للدين » اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري: « فطرة الله » مصدر من معنى: « فأقم وجهك » لأن معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على « حنيفا » تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على « حنيفا » . وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون » [ الذاريات: 56 ] . ويقال: « عليها » بمعنى لها؛ كقوله تعالى: « وإن أسأتم فلها » [ الإسراء: 7 ] . والخطاب بـ « أقم وجهك » للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم؛ كما قال: « فأقم وجهك للدين القيم » [ الروم: 43 ] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين؛ وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و « حنيفا » معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ « فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله » ، في رواية: ( حتى تكونوا أنتم تجدعونها ) قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) . لفظ مسلم.
واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما: ( ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما.. ) الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الفطرة... ) فذكر منها قص الشارب، وهو من سنن الإسلام، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة؛ أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر: المبتدئ؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها. قال المروزي: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى: « فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة » [ الأعراف: 30 ] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.
قلت: قد مضى قول كعب هذا في « الأعراف » وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: ( أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ) خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: ( أتدرون ما هذان الكتابان ) ؟ فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: ( هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا... ) وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن. وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: « فطر الناس عليها » ولا قوله عليه السلام: ( كل مولود يولد على الفطرة ) العموم، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار؛ كما قال تعالى: « ولقد ذرأنا لجهنم » [ الأعراف: 179 ] وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر: طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفظنا أن قال: ( ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب ) . ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] ولم تدمر السموات والأرض. وقوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » [ الأنعام: 44 ] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.
وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: « فأقم وجهك للدين حنيفا » ثم قال: « فطرة الله » أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولهذا قال: « لا تبديل لخلق الله » قال شيخنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: « لا تبديل لخلق الله » وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله عز وجل: « الحمد لله فاطر السموات والأرض » [ فاطر: 1 ] يعني خالقهن، وبقوله: « وما لي لا أعبد الذي فطرني » [ يس: 22 ] يعني خلقني، وبقوله: « الذي فطرهن » [ الأنبياء: 56 ] يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم. قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا، قال الله تعالى: « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا » [ النحل: 78 ] فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى: « إنما تجزون ما كنتم تعملون » [ الطور: 16 ] و « كل نفس بما كسبت رهينة » [ المدثر: 38 ] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي: سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ قال نعم؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى، وليس في قوله تعالى: « كما بدأكم تعودون » [ الأعراف: 29 ] ولا في ( أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه ) : دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا، والحديث الذي جاء فيه: ( أن الناس خلقوا على طبقات ) ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله: ( يولد مؤمنا ) أي يولد ليكون مؤمنا، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث ( خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار ) أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى: « وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا » [ الأعراف: 172 ] . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قول عليه السلام: ( وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ) . قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأولاد المشركين ) . وهذا نص يرفع الخلاف، وهو أصح شيء روي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: ( لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة ) ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق: « فطرة الله التي فطر الناس عليها » هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم، وفي الآخرة.
قوله تعالى: « لا تبديل لخلق الله » أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي، قالوا: هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في « النساء » . « ذلك الدين القيم » أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ذلك الحساب البين. وقيل: « ذلك الدين القيم » أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآيات: 31 - 32 ( منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )
قوله تعالى: « منيبين إليه » اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء: مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد: مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
فإن تابوا فإن بني سليم وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد؛ فإن « ناب وتاب وثاب وآب » معناه الرجوع. قال الماوردي: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب، تقول: جاءت نوبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى: « أقم وجهك » فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمر لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى: « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء » [ الطلاق: 1 ] . « واتقوه » أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. « وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين » بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص؛ فلذلك قال: « ولا تكونوا من المشركين » وقد مضى هذا مبينا « في النساء والكهف » وغيرهما. « من الذين فرقوا دينهم » تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى « في الأنعام » بيانه. وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي: « فارقوا دينهم » ، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد. « وكانوا شيعا » أي فرقا؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا؛ قاله مقاتل. « كل حزب بما لديهم فرحون » أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام « ولا تكونوا من المشركين » ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم « وكانوا شيعا » على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس: وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف؛ كما قال جل وعز: « قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم » [ الأعراف: 75 ] ولو كان بلا حرف لجاز.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الروم
================
الآية: 33 ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون )
قوله تعالى: « وإذا مس الناس ضر » أي قحط وشدة « دعوا ربهم » أن يرفع ذلك عنهم « منيبين إليه » قال ابن عباس: مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب، عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم؛ أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، مقبلين عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها. « ثم إذا أذاقهم منه رحمة » أي عافية ونعمة. « إذا فريق منهم بربهم يشركون » أي يشركون به في العبادة.
الآية: 34 ( ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون )
قوله تعالى: « ليكفروا بما آتيناهم » قيل: هي لام كي. وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما قال جل وعز: « فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » [ الكهف: 29 ] . « فتمتعوا فسوف تعلمون » تهديد ووعيد. وفي مصحف عبدالله « وليتمتعوا » ؛ أي مكناهم من ذلك لكي يتمتعوا، فهو إخبار عن غائب؛ مثل: « ليكفروا » . وهو على خط المصحف خطاب بعد الإخبار عن غائب؛ أي تمتعوا أيها الفاعلون لهذا.
الآية: 35 ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون )
قوله تعالى: « أم أنزلنا عليهم سلطانا » استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحاك: « سلطانا » أي كتابا؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس. وأضاف الكلام إلى الكتاب توسعا. وزعم الفراء أن العرب تؤنث السلطان؛ تقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة؛ أي حجة تنطق بشرككم؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضا. وقال علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال: سلطان جمع سليط؛ مثل رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة. وقد مضى في « آل عمران » . والسلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة؛ كما قال تعالى: « أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين » [ النمل: 21 ] .
الآية: 36 ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون )
قوله تعالى: « وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها » يعني الخصب والسعة والعافية؛ قاله يحيى ابن سلام. النقاش: النعمة والمطر. وقيل: الأمن والدعة؛ والمعنى متقارب. « فرحوا بها » أي بالرحمة. « وإن تصبهم سيئة » أي بلاء وعقوبة؛ قاله مجاهد. السدي: قحط المطر. « بما قدمت أيديهم » أي بما عملوا من المعاصي. « إذا هم يقنطون » أي ييأسون من الرحمة والفرج؛ قاله الجمهور. وقال الحسن: إن القنوط ترك فرائض الله سبحانه وتعالى في السر. قنط يقنط، وهي قراءة العامة. وقنط يقنط، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ومعقوب. وقرأ الأعمش: قنِط يقنَط [ الحجر: 56 ] بالكسر فيهما؛ مثل حسب يحسب. والآية صفة للكافر، يقنط عند الشدة، ويبطر عند النعمة؛ كما قيل:
كحمار السوء إن أعلفته رمَح الناس وإن جاع نهق
وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة؛ وقد مضى في غير موضع. فأما المؤمن فيشكر ربه عند النعمة، ويرجوه عند الشدة.
الآية: 37 ( أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )
قوله تعالى: « أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » أي يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق؛ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إلى القنوط. « إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون » .
الآية: 38 ( فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون )
لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني. والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأمته؛ لأنه قال: « ذلك خير للذين يريدون وجه الله » . وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه؛ وخير الصدقة ما كان على القريب، وفيها صلة الرحم. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة: ( أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ) .
واختلف في هذه الآية؛ فقيل: إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل: لا نسخ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال؛ وهو الصحيح. قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله عز وجل، حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل: المراد بالقربى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله: « فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى » [ الأنفال: 41 ] . وقيل: إن الأمر بالإيتاء لذي القربى على جهة الندب. قال الحسن: « حقه » المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر. « والمسكين » قال ابن عباس: أي أطعم السائل الطواف؛ « وابن السبيل » الضيف؛ فجعل الضيافة فرضا، وقد مضى جميع هذا مبسوطا مبينا في مواضعه والحمد لله.
قوله تعالى: « ذلك خير للذين يريدون وجه الله » أي إعطاء الحق أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه. « وأولئك هم المفلحون » أي الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة. وقد تقدم في « البقرة » القول فيه.
الآية: 39 ( وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )
لما ذكر ما يراد به وجهه ويثبت عليه ذكر غير ذلك من الصفة وما يراد به أيضا وجهه. وقرأ الجمهور: « آتيتم » بالمد بمعنى أعطيتم. وقرأ ابن كثير ومجاهد وحميد بغير مد؛ بمعنى ما فعلتم من ربا ليربو؛ كما تقول: أتيت صوابا وأتيت خطأ. وأجمعوا على المد في قوله: « وما آتيتم من زكاة » . والربا الزيادة وقد مضى في « البقرة » معناه، وهو هناك محرم وها هنا حلال. وثبت بهذا أنه قسمان: منه حلال ومنه حرام. قال عكرمة في قوله تعالى: « وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس » قال: الربا ربوان، ربا حلال وربا حرام؛ فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه. وعن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له فيه أجر وليس عليه فيه إثم. وكذلك قال ابن عباس: « وما آتيتم من ربا » يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه؛ فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه ولكن لا إثم عليه، وفي هذا المعنى نزلت الآية. قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد: هذه آية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره؛ فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى. وقاله القاضي أبو بكر بن العربي. وفي كتاب النسائي عن عبدالرحمن بن علقمة قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال: ( أهدية أم صدقة فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل ) قالوا: لا بل هدية؛ فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسألونه. وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم، وليزيدوا في أموالهم على وجه النفع لهم. وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف له لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل: كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص؛ قال الله تعالى: « ولا تمنن تستكثر » [ المدثر: 6 ] فنهى أن يعطي شيئا فيأخذ أكثر منه عوضا. وقيل: إنه الربا المحرم؛ فمعنى: « لا يربو عند الله » على هذا القول لا يحكم به لآخذه بل هو للمأخوذ منه. قال السدي: نزلت هذه الآية في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: صريح الآية فيمن يهب يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة. قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب ثوابها وقال: إنما أردت الثواب؛ فقال مالك: ينظر فيه؛ فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك؛ مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه؛ وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط؛ وهو قول الشافعي الآخر. قال: والهبة للثواب باطلة لا تنفعه؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصارت في معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك. ودليلنا ما رواه مالك في موطئه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها. ونحوه عن علّي رضي الله عنه قال: المواهب ثلاثة: موهبة يراد بها وجه الله، وموهبة يراد بها وجوه الناس، وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها. وترجم البخاري رحمه الله ( باب المكافأة في الهبة ) وساق حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، وأثاب على لقحة ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب، وإنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة. خرجه الترمذي.
ما ذكره علّي رضي الله عنه وفصّله من الهبة صحيح؛ وذلك أن الواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه. والثاني: أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها. والثالث: أن يريد بها الثواب من الموهوب له؛ وقد مضى الكلام فيه. وقال صلى الله عليه وسلم: ( الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك عند الله بفضله ورحمته؛ قال الله عز وجل: « وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون »
وكذلك من يصل قرابته ليكون غنيا حتى لا يكون كلا فالنية في ذلك متبوعة؛ فإن كان ليتظاهر بذلك دنيا فليس لوجه الله، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله.
وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته؛ لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة؛ قال الله عز وجل: « يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس » [ البقرة: 264 ] الآية. وأما من أراذ بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد بهبته، وله أن يرجع فيها ما لم يثب بقيمتها، على مذهب ابن القاسم، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها، على ظاهر قول عمر وعلّي، وهو قول مطرف في الواضحة: أن الهبة ما كانت قائمة العين، وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب فيها أكثر منها. وقد قيل: إنها إذا كانت قائمة العين لم تتغير فإنه يأخذ ما شاء. وقيل: تلزمه القيمة كنكاح التفويض، وأما إذا كان بعد فوت الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا؛ قاله ابن العربي.
قوله تعالى: « ليربو » قرأ جمهور الفراء [ القراء؟؟ ] السبعة: « ليربو » بالياء وإسناد الفعل إلى الربا. وقرأ نافع وحده: بضم التاء والواو ساكنة على المخاطبة؛ بمعنى تكونوا ذوي زيادات، وهذه قراءة ابن عباس والحسن وقتاده والشعبي. قال أبو حاتم: هي قراءتنا. وقرأ أبو مالك: « لتربوها » بضمير مؤنث. « فلا يربو عند الله » أي لا يزكو ولا يثيب عليه؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصا له؛ وقد تقدم في « النساء » . « وما آتيتم من زكاة » قال ابن عباس: أي من صدقة. « تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون » أي ذلك الذي يقبله ويضاعفه له عشرة أضعافه أو أكثر؛ كما قال: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » [ البقرة: 245 ] . وقال: « ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة » [ البقرة: 265 ] . وقال: 0 « فأولئك هم المضعفون » ولم يقل فأنتم المضعفون لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة؛ مثل قوله: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم » [ يونس: 22 ] . وفي معنى المضعفين قولان: أحدهما: أنه تضاعف لهم الحسنات ذكرنا. والآخر: أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم؛ أي هم أصحاب أضعاف، كما يقال: فلان مقو إذا كانت إبله قوية، أو له أصحاب أقوياء. ومسمن إذا كانت إبله سمانا. ومعطش إذا كانت إبله عطاشا. ومضعف إذا كان إبله ضعيفة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم « . فالمخبث: الذي أصابه خبث، يقال: فلان رديء أي هو رديء؛ في نفسه. ومردئ: أصحابه أردئاء.»
الآية: 40 ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون )
قوله تعالى: « الله الذي خلقكم » ابتداء وخبر. وعاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين وأنه الخالق الرازق المميت المحيي. ثم قال على جهة الاستفهام: « هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء » لا يفعل. « سبحانه وتعالى عما يشركون » ثم نزه نفسه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والأولاد وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء، ويجعلون لهم من أموالهم.
الآية: 41 ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )
قوله تعالى: « ظهر الفساد في البر والبحر » اختلف العلماء في معنى الفساد والبر والبحر؛ فقال قتادة والسدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: فساد البر قتل ابن آدم أخاه؛ قابيل قتل هابيل. وفي البحر بالملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. وقيل: الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة. ونحوه قال ابن عباس قال: هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. وعنه أيضا: أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. وقال عطية: فإذا قل المطر قل الغوص عنده، وأخفق الصيادون، وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس: إذا مطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ. وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش. وقيل: الفساد المعاصي وقطع السبيل والظلم؛ أي صار هذا العمل مانعا من الزرع والعمارات والتجارات؛ والمعنى كله متقارب. والبر والبحر هما المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس؛ لا ما قاله بعض العباد: أن البر اللسان، والبحر القلب؛ لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب. وقيل: البر: الفيافي، والبحر: القرى؛ قاله عكرمة. والعرب تسمي الأمصار البحار. وقال قتادة: البر أهل العمود، والبحر أهل القرى والريف. وقال ابن عباس: إن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر؛ وقاله مجاهد، قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهي بحر. وقال معناه النحاس، قال: في معناه قولان: أحدهما: ظهر الجذب في البر؛ أي في البوادي وقراها، وفي البحر أي في مدن البحر؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر. « بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض » أي عقاب بعض « الذين عملوا » ثم حذف. والقول الآخر: أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم، فهذا هو الفساد على الحقيقة، والأول مجاز إلا أنه على الجواب الثاني، فيكون في الكلام حذف واختصار دل عليه ما بعده، ويكون المعنى: ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهما الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا. « لعلهم يرجعون » لعلهم يتوبون. وقال: « بعض الذي عملوا » لأن معظم الجزاء في الآخرة. والقراءة « ليذيقهم » بالياء. وقرأ ابن عباس بالنون، وهي قراءة السلمي وابن محيصن وقنبل ويعقوب على التعظيم؛ أي نذيقهم عقوبة بعض ما عملوا.
الآية: 42 ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين )
قوله تعالى: « قل سيروا في الأرض » أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض ليعتبروا بمن قبلهم، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل « كان أكثرهم مشركين » أي كافرين فأهلكوا.
الآية: 43 ( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون )
قوله تعالى: « فأقم وجهك للدين القيم » قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم؛ يعني الإسلام. وقيل: المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم. « من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله » أي لا يرده الله عنهم، فإذا لم يرده لم يتهيأ لأحد دفعه. ويجوز عند غير سيبويه « لا مرد له » وذلك عند سيبويه بعيد، إلا أن يكون في الكلام عطف. والمراد يوم القيامة.
قوله تعالى: « يومئذ يصدعون » قال ابن عباس: معناه يتفرقون. وقال الشاعر:وكنا كنَدْمانَي جَذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
أي لن يتفرقا؛ نظيره قوله تعالى: « يومئذ يتفرقون » [ الروم: 14 ] « فريق في الجنة وفريق في السعير » . والأصل يتصدعون؛ ويقال: تصدع القوم إذا تفرقوا؛ ومنه اشتق الصداع، لأنه يفرق شعب الرأس.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الروم
================
الآية: 44 ( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون )
قوله تعالى: « من كفر فعليه كفره » أي جزاء كفره. « ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون » أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح؛ ومنه: مهد الصبي. والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. والتمهد: التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد « فلأنفسهم يمهدون » قال: في القبر.
الآية: 45 ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين )
قوله تعالى: « ليجزي الذين آمنوا » أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله؛ أي ليتميز الكافر من المسلم. « إنه لا يحب الكافرين » .
الآية: 46 ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )
قوله تعالى: « ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات » أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه. وقد مضى في « الحجر » بيانه. « وليذيقكم من رحمته » يعني الغيث والخصب. « ولتجري الفلك » أي في البحر عند هبوبها. وإنما زاد « بأمره » لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها، وربما عصفت فأغرقتها بأمره. « ولتبتغوا من فضله » يعني الرزق بالتجارة « ولعلكم تشكرون » هذه النعم بالتوحيد والطاعة. وقد مضى هذا كله مبينا.
الآية: 47 ( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات » أي المعجزات والحجج النيرات « فانتقمنا » أي فكفروا فانتقمنا ممن كفر. « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » « حقا » نصب على خبر كان، « ونصر » اسمها. وكان أبو بكر يقف على « حقا » أي وكان عقابنا حقا، ثم قال: « علينا نصر المؤمنين » ابتداء وخبر؛ أي أخبر بأنه لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبرنا. وروي من حديث أبي الدرداء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من مسلم يذب عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة - ثم تلا - « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » ) . ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم.
الآيات: 48 - 49 ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين )
قوله تعالى: « الله الذي يرسل الرياح » قرأ ابن محيصن وابن كثير وحمزة والكسائي: « الريح » بالتوحيد. والباقون بالجمع. قال أبو عمرو: وكل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد. وقد مضى في « البقرة » معنى هذه الآية وفي غيرها. « كسفا » جمع كسفة وهي القطعة. وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبدالرحمن الأعرج وابن عامر « كسفا » بإسكان السين، وهي أيضا جمع كسفة؛ كما يقال: سدرة وسدر؛ وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه؛ أي فترى الودق أي المطر يخرج من خلال الكسف؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء لا غير فالتذكير فيه حسن. ومن قرأ: « كسفا » فالمضمر عنده عائد على السحاب. وفي قراءة الضحاك وأبي العالية وابن عباس: « فترى الودق يخرج من خلله » ويجوز أن يكون خلل جمع خلال. « فإذا أصاب به » أي بالمطر. « من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون » يفرحون بنزول المطر عليهم. « وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين » أي يائسين مكتئبين قد ظهر الحزن عليهم لاحتباس المطر عنهم. و « من قبله » تكرير عند الأخفش معناه التأكيد؛ وأكثر النحويين على هذا القول؛ قاله النحاس. وقال قطرب: إن « قبل » الأولى للإنزال والثانية للمطر؛ أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل: المعنى من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع، ودل على الزرع المطر إذ بسببه يكون. ودل عليه أيضا « فرأوه مصفرا » على ما يأتي. وقيل: المعنى من قبل السحاب من قبل رؤيته؛ واختار هذا القول النحاس، أي من قبل رؤية السحاب « لمبلسين » أي ليائسين. وقد تقدم ذكر السحاب.
الآية: 50 ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « فانظر إلى آثار رحمة الله » يعني المطر؛ أي انظروا نظر استبصار واستدلال؛ أي استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزه والكسائي: « آثار » بالجمع. الباقون « بالتوحيد؛ لأنه مضاف إلى مفرد. والأثر فاعل » يحيي « ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله عز وجل. ومن قرأ: « آثار » بالجمع فلأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة؛ كما قال تعالى: » وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها « [ إبراهيم: 34 ] . وقرأ الجحدري وأبو حيوة وغيرهما: » كيف تحيي الأرض « بتاء؛ ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرحمة؛ لأن أثر الرحمة يقوم مقامها فكأنه هو الرحمة؛ أي كيف تحيي الرحمة الأرض أو الآثار. » ويحيي « أي يحيي الله عز وجل أو المطر أو الأثر فيمن قرأ بالياء. و » كيف يحيي الأرض « في موضع نصب على الحال على الحمل على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام والحال خبر؛ والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها. » إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير « استدلال بالشاهد على الغائب.»
================
الآية: 44 ( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون )
قوله تعالى: « من كفر فعليه كفره » أي جزاء كفره. « ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون » أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح؛ ومنه: مهد الصبي. والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر: بسطه وقبوله. والتمهد: التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد « فلأنفسهم يمهدون » قال: في القبر.
الآية: 45 ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين )
قوله تعالى: « ليجزي الذين آمنوا » أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله؛ أي ليتميز الكافر من المسلم. « إنه لا يحب الكافرين » .
الآية: 46 ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )
قوله تعالى: « ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات » أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه. وقد مضى في « الحجر » بيانه. « وليذيقكم من رحمته » يعني الغيث والخصب. « ولتجري الفلك » أي في البحر عند هبوبها. وإنما زاد « بأمره » لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها، وربما عصفت فأغرقتها بأمره. « ولتبتغوا من فضله » يعني الرزق بالتجارة « ولعلكم تشكرون » هذه النعم بالتوحيد والطاعة. وقد مضى هذا كله مبينا.
الآية: 47 ( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات » أي المعجزات والحجج النيرات « فانتقمنا » أي فكفروا فانتقمنا ممن كفر. « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » « حقا » نصب على خبر كان، « ونصر » اسمها. وكان أبو بكر يقف على « حقا » أي وكان عقابنا حقا، ثم قال: « علينا نصر المؤمنين » ابتداء وخبر؛ أي أخبر بأنه لا يخلف الميعاد، ولا خلف في خبرنا. وروي من حديث أبي الدرداء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من مسلم يذب عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة - ثم تلا - « وكان حقا علينا نصر المؤمنين » ) . ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم.
الآيات: 48 - 49 ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين )
قوله تعالى: « الله الذي يرسل الرياح » قرأ ابن محيصن وابن كثير وحمزة والكسائي: « الريح » بالتوحيد. والباقون بالجمع. قال أبو عمرو: وكل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد. وقد مضى في « البقرة » معنى هذه الآية وفي غيرها. « كسفا » جمع كسفة وهي القطعة. وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبدالرحمن الأعرج وابن عامر « كسفا » بإسكان السين، وهي أيضا جمع كسفة؛ كما يقال: سدرة وسدر؛ وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه؛ أي فترى الودق أي المطر يخرج من خلال الكسف؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء لا غير فالتذكير فيه حسن. ومن قرأ: « كسفا » فالمضمر عنده عائد على السحاب. وفي قراءة الضحاك وأبي العالية وابن عباس: « فترى الودق يخرج من خلله » ويجوز أن يكون خلل جمع خلال. « فإذا أصاب به » أي بالمطر. « من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون » يفرحون بنزول المطر عليهم. « وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين » أي يائسين مكتئبين قد ظهر الحزن عليهم لاحتباس المطر عنهم. و « من قبله » تكرير عند الأخفش معناه التأكيد؛ وأكثر النحويين على هذا القول؛ قاله النحاس. وقال قطرب: إن « قبل » الأولى للإنزال والثانية للمطر؛ أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل: المعنى من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع، ودل على الزرع المطر إذ بسببه يكون. ودل عليه أيضا « فرأوه مصفرا » على ما يأتي. وقيل: المعنى من قبل السحاب من قبل رؤيته؛ واختار هذا القول النحاس، أي من قبل رؤية السحاب « لمبلسين » أي ليائسين. وقد تقدم ذكر السحاب.
الآية: 50 ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « فانظر إلى آثار رحمة الله » يعني المطر؛ أي انظروا نظر استبصار واستدلال؛ أي استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزه والكسائي: « آثار » بالجمع. الباقون « بالتوحيد؛ لأنه مضاف إلى مفرد. والأثر فاعل » يحيي « ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله عز وجل. ومن قرأ: « آثار » بالجمع فلأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة؛ كما قال تعالى: » وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها « [ إبراهيم: 34 ] . وقرأ الجحدري وأبو حيوة وغيرهما: » كيف تحيي الأرض « بتاء؛ ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرحمة؛ لأن أثر الرحمة يقوم مقامها فكأنه هو الرحمة؛ أي كيف تحيي الرحمة الأرض أو الآثار. » ويحيي « أي يحيي الله عز وجل أو المطر أو الأثر فيمن قرأ بالياء. و » كيف يحيي الأرض « في موضع نصب على الحال على الحمل على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام والحال خبر؛ والتقدير: فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها. » إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير « استدلال بالشاهد على الغائب.»
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة لقمان للقرطبى
==============
==============
مقدمة السورة
وهي مكية، غير آيتين قال قتادة: أولهما « ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام » [ لقمان:27 ] إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس: ثلاث آيات، أولهن « ولو أنما في الأرض » [ لقمان:27 ] . وهي أربع وثلاثون آية.
الآيات: 1 - 5 ( الم، تلك آيات الكتاب الحكيم، هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )
قوله تعالى: « الم، تلك آيات الكتاب الحكيم » مضى الكلام في فواتح السور. و « تلك » في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هذه تلك. ويقال: « تيك آيات الكتاب الحكيم » بدلا من تلك. والكتاب: القرآن. والحكيم: المحكم؛ أي لا خلل فيه ولا تناقض. وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم « هدى ورحمة » بالنصب على الحال؛ مثل: « هذه ناقة الله لكم آية » [ الأعراف: 73 ] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي. وقرأ حمزة: « هدى ورحمة » بالرفع، وهو من وجهين: أحدهما: على إضمار مبتدأ؛ لأنه أول آية. والآخر: أن يكون خبر « تلك » . والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وقيل: هم المحسنون في الدين وهو الإسلام؛ قال الله تعالى: « ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله » [ النساء: 125 ] الآية. « الذين يقيمون الصلاة » في موضع الصفة، ويجوز الرفع على القطع بمعنى: هم الذين، والنصب بإضمار أعني. وقد مضى الكلام في هذه الآيات.
الآية: 6 ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين )
قوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث » « من » في موضع رفع بالابتداء. و « لهو الحديث » : الغناء؛ في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وهو ممنوع بالكتاب والسنة؛ والتقدير: من يشتري ذا لهو أو ذات لهو؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . أو يكون التقدير: لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو.
قلت: هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية قوله تعالى: « وأنتم سامدون » [ النجم: 61 ] . قال ابن عباس: هو الغناء بالحميرية؛ اسمدي لنا؛ أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى: « واستفزز من استطعت منهم بصوتك » [ الإسراء: 64 ] قال مجاهد: الغناء والمزامير. وقد مضى في « الإسراء » الكلام فيه. وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله » ) إلى آخر الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة وعلّي ابن يزيد يضعّف في الحديث؛ قاله محمد بن إسماعيل. قال ابن عطية: وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعّي.
قلت: هذا أعلى ما قيل في هذه الآية، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء. روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال: سئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث » فقال: الغناء والله الذي لا إله إلا هو؛ يرددها ثلاث مرات. وعن ابن عمر أنه الغناء؛ وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبدالله بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب؛ وقاله مجاهد، وزاد: إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن: لهو الحديث المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل والباطل في النار. وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال: قال الله تعالى: « فماذا بعد الحق إلا الضلال » [ يونس: 32 ] أفحق هو؟! وترجم البخاري ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ) ، وقوله تعالى: « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا » فقوله: ( إذا شغل عن طاعة الله ) مأخوذ من قوله تعالى: « ليضل عن سبيل الله » . وعن الحسن أيضا: هو الكفر والشرك. وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم: رستم، واسفنديار؛ فكان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمد؛ حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه؛ ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وهذا القول والأول ظاهر في الشراء. وقالت طائفة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل. قال ابن عطية: فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها؛ على حد قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى » [ البقرة: 16 ] ؛ اشتروا الكفر بالإيمان، أي استبدلوه منه واختاروه عليه. وقال مطرف: شراء لهو الحديث استحبابه. قتادة: ولعله لا ينفق فيه مالا، ولكن سماعه شراؤه.
قلت: القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب؛ للحديث المرفوع فيه، وقول الصحابة والتابعين فيه. وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة: ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ) . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علّي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت بكسر المزامير ) خرجه أبو طالب الغيلاني. وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى الترمذي من حديث علّي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها: إذا اتخذت القينات والمعازف ) . وفي حديث أبي هريرة: ( وظهرت القيان والمعازف ) . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك يوم القيامة ) . وروى أسد بن موسى عن عبدالعزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني ) . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله، وزاد بعد قوله ( المسك: ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ) . فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: ( قراء أهل الجنة ) خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره: ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . إلى غير ذلك. وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك. ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ) .
ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء. وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن؛ فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربّي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو. وفي اليراعة تردد. والدف مباح. الجوهريّ: وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة. قال القشيريّ: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ) فكن يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار. وقد قيل: إن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث
الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم ترد. وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبريّ قال: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب؛ وهو مذهب سائر أهل المدينة؛ إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. وقال ابن خويز منداد: فأما مالك فيقال عنه: إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها. وروي عنه أنه قال: تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب، فقالت لي أمي: أي بنّي! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك، فطلب العلوم الدينية؛ فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا. قال أبو الطيب الطبري: وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة: إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه؛ إلا ما روي عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال: وأما مذهب الشافعّي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال: وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبدالعزيز إباحة الغناء، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات؛ قال: وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد؛ ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية. فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا؛ ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. قال أبو الفرج: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق.
وهذا دليل على أن الغناء محظور؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم. وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي خمر لأيتام؟ فقال: ( أرِقْها ) . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى. قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيدالله العنبري؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالسواد الأعظم. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) . قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. وقد مضى في الأنعام عند قوله: « وعنده مفاتح الغيب » [ الأنعام: 59 ] وحسبك.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها. أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله. وقال أبو الطيب الطبري: أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز، سواء كانت حرة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته؛ ثم غلظ القول فيه فقال: فهي دياثة. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها.
قوله تعالى: « ليضل عن سبيل الله » قراءة العامة بضم الياء؛ أي ليضل غيره عن طريق الهدى، وإذا أضل غيره فقد ضل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم؛ أي ليضل هو نفسه. « ويتخذها هزوا » قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على « من يشتري » ويجوز أن يكون مستأنفا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: « ويتخذها » بالنصب عطفا على « ليضل » . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله: « بغير علم » والوقف على قوله: « هزوا » ، والهاء في « يتخذها » كناية عن الآيات. ويجوز أن يكون كناية عن السبيل؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر. « أولئك لهم عذاب مهين » أي شديد يهينهم قال الشاعر:
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما لقي الصليب من العذاب مهينا
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة لقمان
================
================
الآية: 7 ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليه آياتنا » يعني القرآن. « ولى » أي أعرض. « مستكبرا » نصب على الحال. « كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا » ثقلا وصمما. وقد تقدم. « فبشره بعذاب أليم » تقدم.
الآيات: 8 - 9 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم » لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين. « خالدين فيها » أي دائمين. « وعد الله حقا » أي وعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه. « وهو العزيز الحكيم » تقدم.
الآيات: 10 - 11 ( خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين )
قوله تعالى: « خلق السماوات بغير عمد ترونها » تكون « ترونها » في موضع خفض على النعت لـ « عمد » فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من « السماوات » ولا عمد ثم البتة. النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا، ولا عمد ثم؛ قاله مكي. ويكون « بغير عمد » التمام. وقد مضى في « الرعد » الكلام في هذه الآية. « وألقى في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت. « أن تميد بكم » في موضع نصب؛ أي كراهية أن تميد. والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد. « وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم » عن ابن عباس: من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس؛ لأنهم مخلوقون من الأرض؛ قال: من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم. وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب، وظاهر القرآن يدل على ذلك.
قوله تعالى: « هذا خلق الله » مبتدأ وخبر. والخلق بمعنى المخلوق؛ أي هذا الذي ذكرته مما تعاينون « خلق الله » أي مخلوق الله، أي خلقها من غير شريك. « فأروني » معاشر المشركين « ماذا خلق الذين من دونه » يعني الأصنام. « بل الظالمون » أي المشركون « في ضلال مبين » أي خسران ظاهر. « وما » استفهام في موضع رفع بالابتداء وخبره « ذا » وذا بمعنى الذي. و « خلق » واقع على هاء محذوفة؛ تقديره فأروني أي شيء خلق الذين من دونه؛ والجملة في موضع نصب بـ « أروني » وتضمر الهاء مع « خلق » تعود على الذين؛ أي فأروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه. وعلى هذا القول تقول: ماذا تعلمت، أنحو أم شعر. ويجوز أن تكون « ما » في موضع نصب بـ « أروني » و « ذا » زائد؛ وعلى هذا القول يقول: ماذا تعلمت، أنحوا أم شعرا.
الآية: 12 ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
قوله تعالى: « ولقد آتينا لقمان الحكمة » مفعولان. ولم ينصرف « لقمان » لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين؛ فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم ينصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان، وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين قد زال؛ قاله النحاس. وهو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم؛ كذا نسبه محمد بن إسحاق. وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة؛ ذكره السهيلي. قال وهب: كان ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: ذكر أنه كان ابن خالة أيوب. الزمخشري: وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل كان من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدركه داود عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل. وقال سعيد ابن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة؛ وعلى هذا جمهور أهل التأويل إنه كان وليا ولم يكن نبيا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي؛ وعلى هذا تكون الحكمة النبوة. والصواب أنه كان رجلا حكيما بحكمة الله تعالى - وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل - قاضيا في بني إسرائيل، أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، أي عظيم الشفتين؛ قاله ابن عباس وغيره. وروي من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله تعالى فأحبه، فمّن عليه بالحكمة، وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق؛ فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت علّي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني؛ ذكره ابن عطية. وزاد الثعلبي: فقالت له الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه المظلوم من كل مكان، إن يعن فبالحرى أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة. ومن يكن في الدنيا ذليلا فذلك خير من أن يكون فيها شريفا. ومن يختر الدنيا على الآخرة نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه؛ فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها. ثم نودي داود بعده فقبلها - يعني الخلافة - ولم يشترط ما اشترطه لقمان، فهوى في الخطيئة غير مرة، كل ذلك يعفو الله عنه. وكان لقمان يوازره بحكمته؛ فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة وصرف عنك البلاء، وأعطى داود الخلافة وابتلي بالبلاء والفتنة. وقال قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة؛ فاختار الحكمة على النبوة؛ فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح وهو ينطق بها؛ فقيل كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي.
واختلف في صنعته؛ فقيل: كان خياطا؛ قاله سعيد بن المسيب، وقال لرجل أسود: لا تحزن من أنك أسود، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان. وقيل: كان يحتطب كل يوم لمولاه حزمة حطب. وقال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وقيل: كان راعيا، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأدائي الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني؛ قاله عبدالرحمن بن زيد بن جابر. وقال خالد الربعي: كان نجارا؛ فقال له سيده: اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين؛ فأتاه باللسان والقلب؛ فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبثها مضغتين؛ فألقى اللسان والقلب؛ فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب؟! فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
قلت: هذا معناه مرفوع في غير ما حديث؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . وجاء في اللسان آثار كثيرة صحيحة وشهيرة؛ منها قوله عليه السلام: ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه ورجليه... ) الحديث. وحكم لقمان كثيرة مأثورة هذا منها. وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا.
قلت: وهذا أيضا مرفوع معنى، قال صلى الله عليه وسلم: ( كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) . رواه أبو هريرة خرجه البخاري. وقال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدروع، وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأل، فأدركته الحكمة فسكت؛ فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله. فقال له داود: بحق ما سميت حكيما.
قوله تعالى: « أن اشكر لله » فيه تقديران: أحدهما أن تكون « أن » بمعنى أي مفسرة؛ أي قلنا له اشكر. والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها؛ كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم؛ إلا أن هذا الوجه عنده بعيد. وقال الزجاج: المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن يشكر الله تعالى. وقيل: أي بأن اشكر لله تعالى فشكر؛ فكان حكيما بشكره لنا. والشكر لله: طاعته فيما أمر به. وقد مضى القول في حقيقته لغة ومعنى في « البقرة » وغيرها. « ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه » أي من يطع الله تعالى فإنما يعمل لنفسه؛ لأن نفع الثواب عائد إليه. « ومن كفر » أي كفر النعم فلم يوحد الله « فإن الله غني » عن عبادة خلقه « حميد » عند الخلق؛ أي محمود. وقال يحيى بن سلام: « غني » عن خلقه « حميد » في فعله.
الآية: 13 ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )
قوله تعالى: « وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه » قال السهيلي: اسم ابنه ثاران؛ في قول الطبري والقتبي. وقال الكلبي: مشكم. وقيل أنعم؛ حكاه النقاش. وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما.
قلت: ودل على هذا قوله: وفي صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال: لما نزلت « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » [ الأنعام: 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) . واختلف في قوله: « إن الشرك لظلم عظيم » فقيل: إنه من كلام لقمان. وقيل: هو خبر من الله تعالى منقطعا من كلام لقمان متصلا به في تأكيد المعنى؛ ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » [ الأنعام: 82 ] أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم؛ فأنزل الله تعالى: « إن الشرك لظلم عظيم » فسكن إشفاقهم، وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون خبرا من الله تعالى؛ وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد. و « إذ » في موضع نصب بمعنى اذكر. وقال الزجاج في كتابه في القرآن: إن « إذ » في موضع نصب بـ « آتينا » والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. النحاس: وأحسبه غلطا؛ لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك. وقال: « يا بنيِّ » بكسر الياء؛ لأنها دالة على الياء المحذوفة، ومن فتحها فلخفة الفتحة عنده؛ وقد مضى في « هود » القول في هذا. وقوله: « يا بني » ليس هو على حقيقة التصغير وإن كان على لفظه، وإنما هو على وجه الترقيق؛ كما يقال للرجل: يا أخي، وللصبي هو كويس.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة لقمان
=============
=============
الآيات: 14 - 15 ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « ووصينا الإنسان بوالديه » هاتان الآيتان اعتراض بين أثناء وصية لقمان. وقيل: إن هذا مما أوصى به لقمان ابنه؛ أخبر الله به عنه؛ أي قال لقمان لابنه: لا تشرك بالله ولا تطع في الشرك والديك، فإن الله وصى بهما في طاعتهما مما لا يكون شركا ومعصية لله تعالى. وقيل: أي وإذ قال لقمان لابنه؛ فقلنا للقمان فيما آتيناه من الحكمة ووصينا الإنسان بوالديه؛ أي قلنا له اشكر لله، وقلنا له ووصينا الإنسان. وقيل: وإذ قال لقمان لابنه، لا تشرك، ونحن وصينا الإنسان بوالديه حسنا، وأمرنا الناس بهذا، وأمر لقمان به ابنه؛ ذكر هذه الأقوال القشيري. والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص؛ كما تقدم في « العنكبوت » وعليه جماعة المفسرين.
وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب؛ ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة؛ على أن هذا أقوى من الندب؛ لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها.
لما خص تعالى الأم بدرجة ذكر الحمل وبدرجة ذكر الرضاع حصل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة؛ وأشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبّر؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أمك ) قال ثم من؟ قال: ( أبوك ) فجعل له الّربع من المبرة كما في هذه الآية؛ وقد مضى هذا كله في « الإسراء » .
قوله تعالى: « وهنا على وهن » أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف. وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل. وقرأ عيسى الثقفّي: « وهنا على وهن » بفتح الهاء فيهما؛ ورويت عن أبي عمرو، وهما بمعنى واحد. قال قعنب بن أم صاحب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها إن العواذل فيها الأين والوهن
يقال: وهن يهن، ووهن يوهن ووهن، يهن؛ مثل ورم يرم. وانتصب « وهنا » على المصدر؛ ذكره القشيري. النحاس: على المفعول الثاني بإسقاط حرف الجر؛ أي حملته بضعف على ضعف. وقرأ الجمهور: « وفصاله » وقرأ الحسن ويعقوب: « وفصله » وهما لغتان، أي وفصاله في انقضاء عامين؛ والمقصود من الفصال الفطام، فعبّر بغايته ونهايته. ويقال: انفصل عن كذا أي تميّز؛ وبه سمي الفصيل.
الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم؛ وقد مضى هذا في « البقرة » مستوفى.
قوله تعالى: « أن اشكر لي » « أن » في موضع نصب في قول الزجاج، وأن المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. النحاس: وأجود منه أن تكون « أن » مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك. قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، وللوالدين على نعمة التربية. وقال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
قوله تعالى: « وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما » قد بينا أن هذه الآية والتي قبلها نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم، وأن أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل؛ كما تقدم في الآية قبلها.
قوله تعالى: « وصاحبهما في الدنيا معروفا » نعت لمصدر محذوف؛ أي مصاحبا معروفا؛ يقال صاحبته مصاحبة ومصاحبا. و « معروفا » أي ما يحسن.
والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقير، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبّي عليه الصلاة والسلام وقد قدمت عليه خالتها وقيل أمها من الرضاعة فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علّي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ( نعم ) . وراغبة قيل معناه: عن الإسلام. قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها. ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العّزى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبدالرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
قوله تعالى: « واتبع سبيل من أناب إلي » وصية لجميع العالم؛ كأن المأمور الإنسان. و « أناب » معناه مال ورجع إلى الشيء؛ وهذه سبيل الأنبياء والصالحين. وحكى النقاش أن المأمور سعد، والذي أناب أبو بكر؛ وقال: إن أبا بكر لما أسلم أتاه سعد وعبدالرحمن بن عوف وعثمان وطلحة وسعيد والزبير فقالوا: آمنت! قال نعم؛ فنزلت فيه: « أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه » [ الزمر: 9 ] فلما سمعها الستة آمنوا؛ فأنزل الله تعالى فيهم: « والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى » إلى قوله « أولئك الذين هداهم الله » [ الزمر: 17 - 18 ] . قيل: الذي أناب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: ولما أسلم سعد أسلم معه أخواه عامر وعويمر؛ فلم يبق منهم مشرك إلا عتبة. ثم توعد عز وجل ببعث من في القبور والرجوع إليه للجزاء والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.
الآية: 16 ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير )
المعنى: وقال لقمان لابنه يا بنّي. وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى. وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحّس لا يدرك لها ثقلا، إذ لا ترجح ميزانا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حّبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه؛ أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتباع سبيل من أناب إلّي.
قلت: ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن مسعود: ( لا تكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك ) . وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا؛ سبحانه لا شريك له. وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة التي تقع في سفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية. وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات؛ أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله؛ أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه. وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى. وفي القول الأول ليس فيه ترجية ولا تخويف.
قوله تعالى: « مثقال حبة » عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة، وتصلح للأعمال؛ أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة. ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبدالكريم الجزري « فتكن » بكسر الكاف وشد النون، من الكّن الذي هو الشيء المغطى. وقرأ جمهور القّراء: « إن تك » بالتاء من فوق « مثقال » بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روي، أو المعصية والطاعة على القول الثاني؛ ويدل على صحته قول ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: « يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة » الآية. فما زال ابنه يضطرب حتى مات؛ قاله مقاتل. والضمير في « إنها » ضمير القصة؛ كقولك: إنها هند قائمة؛ أي القصة إنها إن تك مثقال حبة. والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته؛ بمعنى إن القصة. والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا. وقرأ نافع: « مثقال » بالرفع، وعلى هذا « تك » يرجع إلى معنى خردلة؛ أي إن تك حبة من خردل. وقيل: أسند إلى المثقال فعلا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة؛ كما قال: « فله عشر أمثالها » [ الأنعام: 160 ] فأنث وإن كان المثل مذكرا؛ لأنه أراد الحسنات. ومن هذا قول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
و « تك » ها هنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا.
قوله تعالى: « فتكن في صخرة » قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم؛ أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض. وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرضين السبع وعليها الأرض. وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت. وقال السّدي: هي صخرة ليست في السموات والأرض، بل هي وراء سبع أرضين عليها ملك قائم؛ لأنه قال: « أو في السموات أو في الأرض » وفيهما غنية عن قوله: « فتكن في صخرة » ؛ وهذا الذي قاله ممكن، ويمكن أن يقال: قوله: « فتكن في صخرة » تأكيد؛ كقوله: « اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق » [ العلق: 2 ] ، وقول: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا » [ الإسراء: 1 ] .
الآية: 17 ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور )
قوله تعالى: « يا بني أقم الصلاة » وصّى ابنه بعظم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجر عن المنكر، وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع. ولقد أحسن من قال:
وابدأ بنفسك فانهها عن غَيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
في أبيات تقدم في « البقرة » ذكرها. « واصبر على ما أصابك » يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر؛ فهو إشعار بأن المغير أحيانا؛ وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله؛ وأما على اللزوم فلا، وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في « آل عمران والمائدة » . وقيل: أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل؛ وهذا قول حسن لأنه يعّم. « إن ذلك من عزم الأمور » قال ابن عباس: من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره. وقيل: إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور؛ أي مما عزمه الله وأمر به؛ قاله ابن جريج. ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. وقول ابن جريج صوب.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة لقمان
==============
==============
الآية: 18 ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )
قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن: « تصاعر » بالألف بعد الصاد. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد: « تُصَعّر » وقرأ الجحدري: « تُصْعر » بسكون الصاد؛ والمعنى متقارب. والصعر: الميل؛ ومنه قول الأعرابي: وقد أقام الدهر صعري، بعد أن أقمت صعره. ومنه قول عمرو بن حنّي التغلبي:
وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقومِ
وأنشده الطبري: « فتقوما » . قال ابن عطية: وهو خطأ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة. وفي بيت آخر: أقمنا له من خّده المتصعر قال الهروي: « لا تصاعر » أي لا تعرض عنهم تكبرا عليهم؛ يقال: أصاب البعير صعر وصيد إذ أصابه داء يلوي منه عنقه. ثم يقال للمتكبر: فيه صعر وصيد؛ فمعنى: « لا تصعر » أي لا تلزم خّدك الصعر. وفي الحديث: ( يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر ) والأصعر: المعرض بوجهه كبرا؛ وأراد رذالة الناس الذين لا دين لهم. وفي الحديث: ( كل صعار ملعون ) أي كل ذي أبهة وكبر.
معنى الآية: ولا تمل خّدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم. وهذا تأويل ابن عباس وجماعة. وقيل: هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره؛ فالمعنى: أقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه. وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
قلت: ومن هذا المعنى ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) . فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه. وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك؛ وكذلك يصنع هو بك. ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسره ويسرك؛ فمعنى التدابر موجود فيمن صعر خده، وبه فسر مجاهد الآية. وقال ابن خويز منداد: قوله: « ولا تصاعر خّدك للناس » كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة؛ ونحو ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس للإنسان أن يذل نفسه ) .
قوله تعالى: « ولا تمش في الأرض مرحا » أي متبخترا متكبرا، مصدر في موضع الحال، وقد مضى في « الإسراء » . وهو النشاط والمشي فرحا في غير شغل وفي غير حاجة. وأهل هذا الخلق ملازمون للفخر والخيلاء؛ فالمرح مختال في مشيته. روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبدالله بن عبيد بن عمير قال: فجلسنا إلى عبدالله بن عمرو بن العاصي فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم ما غرك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غّرك بي! لقد كنت تمشي حولي فّدادا. قال ابن عائذ قلت لغُضيف: ما الفدّاد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانا. قال أبو عبيد: والمعنى ذا مال كثير وذا خيلاء. وقال صلى الله عليه وسلم: ( من جّر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) . والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى؛ قاله مجاهد. وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك.
الآية: 19 ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )
قوله تعالى: « واقصد في مشيك » لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال: « واقصد في مشيك » أي توسّط فيه. والقصد: ما بين الإسراع والبطء؛ أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن ) . فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت؛ والله أعلم. وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقّدم بيانه في « الفرقان » .
قوله تعالى: « واغضض من صوتك » أي انقص منه؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع؛ وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مُرْيَطاؤك! والمؤذن هو أبو محذورة سمرة بن معير. والمريطاء: ما بين السرة إلى العانة. « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » أي أقبحها وأوحشها؛ ومنه أتانا بوجه منكر. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه؛ ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين؛ كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى.
في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير؛ لأنها عالية. وفي الصحيح عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا ) . وقد روي: أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا. وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة.
وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة؛ وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، حتى قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم
ويعد على الأين عدوى الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم
فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: « إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار؛ فجعلهم في المثل سواء.
قوله تعالى: « لصوت الحمير » اللام للتأكيد، ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت. ويقال: صوت تصويتا فهو مصوت. ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت؛ كقولهم: رجال مال ونال؛ أي كثير المال والنوال.
الآيات: 20 - 21 ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير )
قوله تعالى: « ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض » ذكر نعمه على بني آدم، وأنه سخر لهم « ما في السموات » من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم. « وما في الأرض » عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى. « وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة » أي أكملها وأتمها. وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: « وأصبغ » بالصاد على بدلها من السين؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا. والنعم: جمع نعمة كسدرة وسدر ( بفتح الدال ) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص. الباقون: « نعمة » على الإفراد؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى: « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » [ إبراهيم: 34 ] . وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح. وقيل: إن معناها الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: ( الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ) . قال النحاس: وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل: « ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم » [ المائدة: 6 ] قال: يدخلكم الجنة. وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة. وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. وقال المحاسبي: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات. وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة، كلها ترجع إلى هذا.
قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله » تقدمت. نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن ربك، من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته؛ قاله مجاهد. وقد مضى هذا في « الرعد » . وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يقول: إن الملائكة بنات الله؛ قاله ابن عباس. « يجادل » يخاصم « بغير علم » أي بغير حجة « ولا هدى ولا كتاب منير » أي نير بين؛ إلا الشيطان فيما يلقي إليهم. « وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم » [ الأنعام: 121 ] وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد. « أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير » فيتبعونه.
الآية: 22 ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور )
قوله تعالى: « ومن يسلم وجهه إلى الله » أي يخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى. « وهو محسن » لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة القلب لا تنفع؛ نظيره: « ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن » [ طه: 112 ] . وفي حديث جبريل قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . « فقد استمسك بالعروة الوثقى » قال ابن عباس: لا إله إلا الله؛ وقد مضى في « البقرة » . وقد قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والسلمي وعبدالله بن مسلم بن يسار: « ومن يسلم » . النحاس: و « يسلم » في هذا أعرف؛ كما قال عز وجل: « فقل أسلمت وجهي لله » [ آل عمران: 20 ] ومعنى: « أسلمت وجهي لله » قصدت بعبادتي إلى الله عز وجل؛ ويكون « يسلم » على التكثير؛ إلا أن المستعمل في سلمت أنه بمعنى دفعت؛ يقال سلمت في الحنطة، وقد يقال أسلمت. الزمخشري: قرأ علّي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: « ومن يسلم » بالتشديد؛ يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله تعالى؛ فإن قلت: ماله عدي بإلى، وقد عدي باللام في قول عز وجل: « بلى من أسلم وجهه لله » ؟ [ البقرة: 112 ] قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله؛ أي خالصا له. ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه. « وإلى الله عاقبة الأمور » أي مصيرها.
الآيات: 23 - 24 ( ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور، نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ )
قوله تعالى: « ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا » أي نجازيهم بما عملوا. « إن الله عليم بذات الصدور » . « نمتعهم قليلا » أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. « ثم نضطرهم » أي نلجئهم ونسوقهم. « إلى عذاب غليظ » وهو عذاب جهنم. ولفظ « من » يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: « كفره » ثم قال: « مرجعهم » وما بعده على المعنى.
الآيات: 25 - 26 ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد )
قوله تعالى: « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله » أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره. « قل الحمد لله » أي على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. « بل أكثرهم لا يعلمون » أي لا ينظرون ولا يتدبرون. « لله ما في السماوات والأرض » أي ملكا وخلقا. « إن الله هو الغني » أي الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم لينفعهم. « الحميد » أي المحمود على صنعه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة لقمان
===============
===============
الآية: 27 ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم )
لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، وأنها لا نهاية لها. وقال القفال: لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى؛ والمخلوق لا بد له من نهاية، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق. وقد مضى الكلام في معنى « كلمات الله » في آخر « الكهف » . وقال أبو علّي: المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود. وهذا نحو مما قاله القفال، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة؛ لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور. ومعنى نزول الآية: يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم. قال ابن عباس: إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد، كيف عنينا بهذا القول « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا » [ الإسراء: 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان كل شيء؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( التوراة قليل من كثير ) ونزلت هذه الآية، والآية مدنية. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون؛ فلو سمى كل دابة وحدها، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال، وما زاد فيها في كل زمان، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر.
قلت: هذا معنى قول القفال، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى. وقال قوم: إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر؛ فنزلت وقال السّدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد! فنزلت.
قوله تعالى: « والبحر يمده » قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء، وخبره في الجملة التي بعدها، والجملة في موضع الحال؛ كأنه قال: والبحر هذه حاله؛ كذا قدرها سيبويه. وقال بعض النحويين: هو عطف على « أن » لأنها في موضع رفع بالابتداء. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: « والبحر » بالنصب على العطف على « ما » وهي اسم « أن » . وقيل: أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه. وقرأ ابن هرمز والحسن: « يمده » ؛ من أمّد. قالت فرقة: هما بمعنى واحد. وقالت فرقة: مّد الشيء بعضه بعضا؛ كما تقول: مّد النيل الخليج؛ أي زاد فيه. وأمّد الشيء ما ليس منه. وقد مضى هذا في « البقرة. وآل عمران » . وقرأ جعفر بن محمد: « والبحر مداده » . « ما نفدت كلمات الله » تقدم. « إن الله عزيز حكيم » . وقال أبو عبيدة: البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام.
الآية: 28 ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير )
قوله تعالى: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعا إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قّدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبّي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » ، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. « إن الله سميع » لما يقولون « بصير » بما يفعلون.
الآيات: 29 - 30 ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير )
قوله تعالى: « ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وسخر الشمس والقمر » أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وإتماما للمنافع. « كل يجري إلى أجل مسمى » قال الحسن: إلى يوم القيامة. قتادة: إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه. « وأن الله بما تعملون خبير » أي من قدر على هذه الأشياء فلا بد من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقراءة العامة « تعملون » بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمّي ونصر بن عاصم والدوري عن أبي عمرو بالياء على الخبر. « ذلك » أي فعل الله تعالى ذلك لتعلموا وتقروا « بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل » أي الشيطان؛ قاله مجاهد. وقيل: ما أشركوا به الله تعالى من الأصنام والأوثان. « وأن الله هو العلي الكبير » العلّي في مكانته، الكبير في سلطانه.
الآية: 31 ( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )
قوله تعالى: « ألم تر أن الفلك » أي السفن « تجري » في موضع الخبر. « في البحر بنعمة الله » أي بلطفه بكم وبرحمته لكم في خلاصكم منه. وقرأ ابن هرمُز: « بنعمات الله » جمع نعمة وهو جمع السلامة، وكان الأصل تحريك العين فأسكنت. « ليريكم من آياته » « من » للتبعيض، أي ليريكم جري السفن؛ قال يحيى بن سلام. وقال ابن شجرة: « من آياته » ما تشاهدون من قدرة الله تعالى فيه. النقاش: ما يرزقهم الله منه. وقال الحسن: مفتاح البحار السفن، ومفتاح الأرض الطرق، ومفتاح السماء الدعاء. « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » أي صبار لقضائه شكور على نعمائه. وقال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن بهذه الصفة؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال الإيمان. والآية: العلامة، والعلامة لا تستبين في صدر كل مؤمن إنما تستبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء. قال الشعبّي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ ألم تر إلى قوله تعالى: « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » وقوله: « وفي الأرض آيات للموقنين » [ الذاريات: 20 ] وقال عليه السلام: ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) .
الآية: 32 ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور )
قوله تعالى: « وإذا غشيهم موج كالظلل » قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب؛ وقاله قتادة: جمع ظلة؛ شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها. قال النابغة في وصف بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال على حافاته فلق الدنان
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر. وأصله من الحركة والازدحام؛ ومنه: ماج البحر، والناس يموجون. قال كعب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
وقرأ محمد ابن الحنفية: « موج كالظلال » جمع ظل. « دعوا الله مخلصين له الدين » موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه؛ وقد تقدم. « فلما نجاهم » يعني من البحر. « إلى البر فمنهم مقتصد » قال ابن عباس: موف بما عاهد عليه الله في البحر. النقاش: يعني عدل في العهد، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر. وقال الحسن: « مقتصد » مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: « مقتصد » في القول مضمر للكفر. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر. ودل على المحذوف قوله تعالى: « وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور » الختار: الغدار. والختر: أسوأ الغدر. قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختار
قال الجوهري: الختر الغدر؛ يقال: ختره فهو ختار. الماوردي: وهو قول الجمهور. وقال عطية: إنه الجاحد. ويقال: ختر يختِر ويختُر ( بالضم والكسر ) خترا؛ ذكره القشيري، وجحد الآيات إنكار أعيانها. والجحد بالآيات إنكار دلائلها.
الآية: 33 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم » يعني الكافر والمؤمن؛ أي خافوه ووحدوه. « واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا » تقدم معنى « يجزي » في البقرة وغيرها. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحله القسم ) . وقال: ( من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهّن كّن له حجابا من النار ) . قيل له: المعنّي بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر. والمعنّي بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. « إن وعد الله حق » أي البعث « فلا تغرنكم » أي تخدعنكم « الحياة الدنيا » بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة « ولا يغرنكم بالله الغرور » قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغّر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة؛ وفي سورة « النساء » : « يعدهم ويمنيهم » . وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين؛ أي لا تغتروا. كأنه مصدر غّر يغر غرورا. قال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة.
الآية: 34 ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )
زعم الفراء أن هذا معنى النفي؛ أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى. قال أبو جعفر النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله الله عز وجل: « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » [ الأنعام: 59 ] : ( إنها هذه ) :
قلت: قد ذكرنا في سورة « الأنعام » حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري. وفي حديث جبريل عليه السلام قال: ( أخبرني عن الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما تكسب غدا ) قال: ( صدقت ) . لفظ أبي داود الطيالسّي. وقال عبدالله بن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس: « إن الله عنده علم الساعة، الآية إلى آخرها. وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبّي مرسل؛ فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن؛ لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك؛ حسبما تقدم ذكره في الأنعام. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده. وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس: إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علّي الحول حتى أموت. قال: فأين موتك يا يهودّي؟ فقال: لا أدري. فقال ابن عباس: صدق الله. » وما تدري نفس بأي أرض تموت « فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام. ومات اليهودّي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى. قال علّي بن الحسين راوي هذا الحديث: هذا أعجب الأحاديث. وقال مقاتل: إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة، أتى النبّي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ذكره القشيري والماوردّي. وروى أبو المليح عن أبي عّزة الهذلي قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - » إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - بأي أرض تموت « ) ذكره الماوردّي، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود بمعناه. وقد ذكرناه في كتاب { التذكرة } مستوفى. وقراءة العامة: » وينزل « مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزه والكسائي مخففا. وقرأ أبي بن كعب: » بأية أرض « الباقون » بأي أرض « . قال الفراء: اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي. وقيل: أراد بالأرض المكان فذكر. قال الشاعر: »
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقال الأخفش: يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية. وشبه سيبويه تأنيث « أي » بتأنيث كل في قولهم: كلتهن. « إن الله عليم خبير » « خبير » نعت لـ « عليم » أو خبر بعد خبر. والله تعالى أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة السجدة للقرطبى
=============
=============
مقدمة السورة
وهي مكية، غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة؛ وهي قوله تعالى: « أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا » [ السجدة: 18 ] تمام ثلاث آيات؛ قاله الكلبّي ومقاتل. وقال غيرهما: إلا خمس آيات، من قوله تعالى: « تتجافى جنوبهم » إلى قوله « الذي كنتم به تكذبون » [ السجدة: 16 ] . وهي ثلاثون آية. وقيل تسع وعشرون. وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبّي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة « الم. تنزيل » السجدة، و « هل أتى على النسان حين من الدهر » الحديث. وخرج الدارمي أبو محمد في مسنده عن جابر بن عبدالله قال: كان النبّي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ: « الم. تنزيل » السجدة. و « تبارك الذي بيده الملك » [ الملك: 1 ] . قال الدارمي: وأخبرنا أبو المغيرة قال حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرؤوا المنجية، وهي « الم. تنزيل » فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها، ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي؛ فشّفعها الرب فيه وقال ( اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة ) .
الآيات: 1 - 2 ( الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين )
قوله تعالى: « الم. تنزيل الكتاب » الإجماع على رفع « تنزيلُ الكتاب » ولو كان منصوبا على المصدر لجاز؛ كما قرأ الكوفيون: « إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم » [ يس: 5 ] . و « تنزيل » رفع بالابتداء والخبر « لا ريب فيه » . أو خبر على إضمار مبتدأ؛ أي هذا تنزيل، أو المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل. ودلت: « الم » على ذكر الحروف. ويجوز أن يكون « لا ريب فيه » في موضع الحال من « الكتاب » . و « من رب العالمين » الخبر. قال مكّي: وهو أحسنها. « لا ريب فيه من رب العالمين » لا شك فيه أنه من عند الله؛ فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.
الآية: 3 ( أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » هذه « أم » المنقطعة التي تقّدر ببل وألف الاستفهام؛ أي بل أيقولون. وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث؛ فإنه عز وجل أثبت أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: « أم يقولون افتراه » أي افتعله واختلقه. « بل هو الحق من ربك » كذبهم في دعوى الافتراء « لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون » قال قتادة: يعني قريشا، كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. و « لتنذر » متعلق بما قبلها فلا يوقف على « من ربك » . ويجوز أن يتعلق بمحذوف؛ التقدير: أنزله لتنذر قوما، فيجوز الوقف على « من ربك » . و « ما » « ما أتاهم » نفي. « من نذير » صلة. و « نذير » في محل الرفع، وهو المعلم المخوف. وقيل: المراد بالقوم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام؛ قاله ابن عباس ومقاتل. وقيل: كانت الحجة ثابتة لله جل وعز عليهم بإنذار من تقدم من الرسل وإن لم يروا رسولا؛ وقد تقّدم هذا المعنى.
الآية: 4 ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )
قوله تعالى: « الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام » عرفهم كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه. ومعنى: « خلق » أبدع وأوجد بعد العدم وبعد أن لم تكن شيئا. « في ستة أيام » « في ستة أيام » من يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة. قال الحسن: من أيام الدنيا. وقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض مقداره ألف سنة من سني الدنيا. وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة؛ أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة. « ثم استوى على العرش » تقدم. وذكرنا أقوال العلماء في ذلك مستوفى في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) . وليست « ثم » للترتيب وإنما هي بمعنى الواو. « ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع » أي ما للكافرين من ولي يمنع من عذابهم ولا شفيع. ويجوز الرفع على الموضع. « أفلا تتذكرون » في قدرته ومخلوقاته.
الآية: 5 ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون )
قوله تعالى: « يدبر الأمر من السماء إلى الأرض » قال ابن عباس: ينزل القضاء والقدر. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل. وروى عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن سابط قال: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل؛ صلوات الله عليهم أجمعين. فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. وقد قيل: إن العرش موضع التدبير؛ كما أن ما دون العرش موضع التفصيل؛ قال الله تعالى: « ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات » [ الرعد: 2 ] . وما دون السموات موضع التصريف؛ قال الله تعالى: « ولقد صرفناه بينهم ليذكروا » [ الفرقان: 50 ] .
قوله تعالى: « ثم يعرج إليه » قال يحيى بن سلام: هو جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي. وقال النقاش: هو الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. وقيل: إنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة؛ قاله ابن شجرة. وقيل: « ثم يعرج إليه » أي يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا « في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون » « في يوم كان مقداره ألف سنة » وهو يوم القيامة. وعلى الأقوال المتقدمة فالكناية في « يعرج » كناية عن الملك، ولم يجر له ذكر لأنه مفهوم من المعنى، وقد جاء صريحا في « سأل سائل » قوله: « تعرج الملائكة والروح إليه » [ المعارج: 4 ] . والضمير في « إليه » يعود على السماء على لغة من يذكرها، أو على مكان الملك الذي يرجع إليه، أو على اسم الله تعالى؛ والمراد إلى الموضع الذي أقره فيه، وإذا رجعت إلى الله فقد رجعت إلى السماء، أي إلى سدرة المنتهى؛ فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض ومنها ينزل ما يهبط به إليها؛ ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم. والهاء في « مقداره » راجعة إلى التدبير؛ والمعنى: كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة من سني الدنيا؛ أي يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى ملائكته، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى، ثم كذلك أبدا؛ قاله مجاهد. وقيل: الهاء للعروج. وقيل: المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة. وقيل: المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع، في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة. وقال ابن عباس: المعنى كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة؛ لأن النزول خمسمائة والصعود خمسمائة. وروي ذلك عن جماعة من المفسرين، وهو اختيار الطبري؛ ذكره المهدوّي. وهو معنى القول الأول. أي أن جبريل لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم من أيامكم؛ ذكره الزمخشري. وذكر الماوردّي على ابن عباس والضحاك أن الملك يصعد في يوم مسيرة ألف سنة. وعن قتادة أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة؛ فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة، ومقدار صعوده خمسمائة على قول قتادة والسّدي. وعلى قول ابن عباس والضحاك: النزول ألف سنة، والصعود ألف سنة. « مما تعدون » أي مما تحسبون من أيام الدنيا. وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين؛ لأن ذلك ليس عند الله. والعرب قد تعّبر عن مدة العصر باليوم؛ كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وليس يريد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعّبر عن كل واحد من الشطرين بيوم. وقرأ ابن أبي عبلة: « يعرج » على البناء للمفعول. وقرئ: « يعدون » بالياء. فأما قوله تعالى: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » فمشكل مع هذه الآية. وقد سأل عبدالله بن فيروز الديلمّي عبدالله بن عباس عن هذه الآية وعن قوله: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » فقال: أيام سمّاها سبحانه، وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. ثم سئل عنها سعيد بن المسّيب فقال: لا أدري. فأخبرته بقول ابن عباس فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني. ثم تكلم العلماء في ذلك فقيل: إن آية « سأل سائل » [ المعارج: 1 ] هو إشارة إلى يوم القيامة، بخلاف هذه الآية. والمعنى: أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة؛ قاله ابن عباس. والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر. قال:
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنه ما مقداره ألف سنة ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: أوقات القيامة مختلفة، فيعّذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مّدته خمسون ألف سنة. وقيل: مواقف القيامة خمسون موقفا؛ كل موقف ألف سنة. فمعنى: « يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة » أي مقدار وقت، أو موقف من يوم القيامة. وقال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت؛ فالمعنى: تعرج الملائكة والروح إليه في وقت كان مقداره ألف سنة، وفي وقت آخر كان مقداره خمسين ألف سنة. وعن وهب بن منّبه: « في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » قال: ما بين أسفل الأرض إلى العرش. وذكر الثعلبّي عن مجاهد وقتادة والضحاك في قوله تعالى: « تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » [ المعارج: 4 ] أراد من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها جبريل. يقول تعالى: يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقوله: « إليه » يعني إلى المكان الذي أمرهم الله تعالى أن يعرجوا إليه. وهذا كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: « إني ذاهب إلى ربي سيهدين » [ الصافات: 99 ] أراد أرض الشام. وقال تعالى: « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله » [ النساء: 100 ] أي إلى المدينة. وقال أبو هريرة قال النبّي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني من ربي عز وجل برسالة ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى على الأرض لم يرفعها بعد ) .
الآية: 6 ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم )
قوله تعالى: « ذلك عالم الغيب والشهادة » أي علم ما غاب عن الخلق وما حضرهم. و « ذلك » بمعنى أنا. حسبما تقدم بيانه في أول البقرة. وفي الكلام معنى التهديد والوعيد؛ أي أخلصوا أفعالكم وأقوالكم فإني أجازي عليها.رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة السجدة
================
================
الآيات: 7 - 9 ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون )
قوله تعالى: « الذي أحسن كل شيء خلقه » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: « خلقه » بإسكان اللام. وفتحها الباقون. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم طلبا لسهولتها. وهو فعل ماض في موضع خفض نعت لـ « شيء » . والمعنى على ما روي عن ابن عباس: أحكم كل شيء حلقه، أي جاء به على ما أراد، لم يتغير عن إرادته. وقول آخر - أن كل شيء خلقه حسن؛ لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله؛ وهو دال على خالقه. ومن أسكن اللام فهو مصدر عند سيبويه؛ لأن قوله: « أحسن كل شيء خلقه » يدل على: خلق كل شيء خلقا؛ فهو مثل: « صنع الله » [ النمل: 88 ] و « كتاب الله عليكم » [ النساء: 24 ] . وعند غيره منصوب على البدل من « كل » أي الذي أحسن خلق كل شيء. وهو مفعول ثان عند بعض النحويين، على أن يكون معنى: « أحسن » أفهم وأعلم؛ فيتعّدى إلى مفعولين، أي أفهم كل شيء خلقه. وقيل: هو منصوب على التفسير؛ والمعنى: أحسن كل شيء خلقا. وقيل: هو منصوب بإسقاط حرف الجر، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه. وروي معناه عن ابن عباس و « أحسن » أي أتقن وأحكم؛ فهو أحسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها. ومن هذا المعنى قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد « أحسن كل شيء خلقه » قال: أتقنه. وهو مثل قوله تبارك وتعالى: « الذي أعطى كل شيء خلقه » [ طه: 50 ] أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، ولا خلق البهيمة على خلق الإنسان. ويجوز: « خلقه » بالرفع؛ على تقدير ذلك خلقه. وقيل: هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى؛ والمعنى: حسن خلق كل شيء حسن. وقيل: هو عموم في اللفظ والمعنى، أي جعل كل شيء خلقه حسنا، حتى جعل الكلب في خلقه حسنا؛ قاله ابن عباس. وقال قتادة: في است القرد حسنة.
قوله تعالى: « وبدأ خلق الإنسان من طين » يعني آدم. « ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين » تقّدم في « المؤمنون » وغيرها. وقال الزجاج: « من ماء مهين » ضعيف. وقال غيره: « مهين » لا خطر له عند الناس. « ثم سواه » رجع إلى آدم، أي سوى خلقه. « ونفخ فيه من روحه » ثم رجع إلى ذريته فقال: « وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة » وقيل: ثم جعل ذلك الماء المهين خلقا معتدلا، وركب فيه الروح وأضافه إلى نفسه تشريفا. وأيضا فإنه من فعله وخلقه كما أضاف العبد إليه بقوله: « عبدي » . وعبر عنه بالنفخ لأن الروح في جنس الريح. وقد مضى هذا مبينا في « النساء » وغيرها. « قليلا ما تشكرون » أي ثم أنتم لا تشكرون بل تكفرون.
الآية: 10 ( وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون )
قوله تعالى: « وقالوا أئذا ضللنا في الأرض » هذا قول منكري البعث؛ أي هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. وأصله من قول العرب: ضل الماء في اللبن إذا ذهب. والعرب تقول للشيء غلب عليه حتى فيه أثره: قد ضّل. قال الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتيّ به فضلَّ ضلالا
وقال قطرب: معنى ضللنا غبنا في الأرض. وأنشد قول النابغة الذبياني:
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأ ابن محيصن ويحيى بن يعمر: « ضلِلنا » بكسر اللام، وهي لغة. قال الجوهري: وقد ضللت أضل قال الله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » [ سبأ: 50 ] . فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون: « ضلِلت » - بكسر اللام - أضل. وهو ضال تال، وهي الضلالة والتلالة. وأضّله أي أضاعه وأهلكه. يقال: أضل الميّت إذا دفن. قال:
فآب مضلوه...... البيت
ابن السكيت. أضللت بعيري إذا ذهب منك. وضللت المسجد والدار: إذا لم تعرف موضعهما. وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى له. وفي الحديث ( لعلي أضل الله ) يريد أضل عنه، أي أخفى عليه، من قوله تعالى: « أإذا ضللنا في الأرض » أي خفينا. وأضله الله فضل؛ تقول: إنك تهدي الضال ولا تهدي المتضال. وقرأ الأعمش والحسن: « صللنا » بالصاد؛ أي أنتنا. وهي قراءة علّي بن أبي طالب رضي الله عنه. النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يقال: صل اللحم وأصل، وخّم وأخّم إذا أنتن. الجوهري: صّل اللحم يصل - بالكسر - صلولا، أي أنتن، مطبوخا كان أو نيئا. قال الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدره لا يفسد اللحم لديه الصلول
قوله تعالى: « إنا لفي خلق جديد » وأصل مثله. « إنا لفي خلق جديد » أي نخلق بعد ذلك خلقا جديدا؟ ويقرأ: « أئنا » . النحاس: وفي هذا سؤال صعب من العربية؛ يقال: ما العامل في « إذا » ؟ و « إن » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. والسؤال في الاستفهام أشّد؛ لأن ما بعد الاستفهام أجدر؛ ألا يعمل فيما قبله من « إن » كيف وقد اجتمعا. فالجواب على قراءة من قرأ: « إنا » أن العامل « ضللنا » ، وعلى قراءة من قرأ: « أإنا » أن العامل مضمر، والتقدير أنبعث إذا متنا. وفيه أيضا سؤال آخر، يقال: أين جواب « إذا » على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك أن بعدها فعلا ماضيا؛ فلذلك جاز هذا. « بل هم بلقاء ربهم كافرون » أي ليس لهم جحود قدرة الله تعالى عن الإعادة؛ لأنهم يعترفون بقدرته ولكنهم اعتقدوا أن لا حساب عليهم، وأنهم لا يلقون الله تعالى.
الآية: 11 ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون )
قوله تعالى: « قل يتوفاكم ملك الموت » لما ذكر استبعادهم للبعث ذكر توفيهم وأنه يعيدهم. « يتوفاكم » من توفى العدد والشيء إذا استوفاه وقبضه جميعا. يقال: توفاه الله أي استوفى روحه ثم قبضه. وتوفيت مالي من فلان أي استوفيته. « ملك الموت » واسمه عزرائيل ومعناه عبدالله؛ كما تقدم في « البقرة » . وتصرفه كله بأمر الله تعالى وبخلقه واختراعه. وروي في الحديث أن ( البهائم كلها يتوفى الله أرواحها دون ملك الموت ) كأنه يعدم حياتها؛ ذكره ابن عطية.
قلت: وقد روي خلافه، وأن ملك الموت يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث والبعوضة. روى جعفر بن محمد عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارفق بصاحبي فإنه مؤمن ) فقال ملك الموت عليه السلام: ( يا محمد، طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق. واعلم أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم. والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها ) . قال جعفر بن علّي: بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلوات؛ ذكره الماوردي. وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علّي بن ثابت البغدادي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أبو محمد عبدالله بن عثمان الصفار قال حّدثنا أبو بكر حامد المصري قال حّدثنا يحيى ابن أيوب العلاف قال حدثنا سليمان بن مهير الكلابّي قال: حضرت مالك بن أنس رضي الله عنه فأتاه رجل فسأله: أبا عبدالله، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ قال: فأطرق مالك طويلا ثم قال: ألها أنفس؟ قال نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها؛ « الله يتوفى الأنفس حين موتها » [ الزمر:42 ] . قال ابن عطية بعد ذكره الحديث وكذلك الأمر في بني آدم، إلا أنه نوع شرف بتصرف ملك وملائكة معه في قبض أرواحهم. فخلق الله تعالى ملك الموت وخلق على يديه قبض الأرواح، واستلالها من الأجسام وإخراجها منها. وخلق الله تعالى جندا يكونون معه يعملون عمله بأمره؛ فقال تعالى: « ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة » ، [ الأنفال: 50 ] وقال تعالى: « توفته رسلنا » [ الأنعام: 61 ] وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » . والبارئ خالق الكل، الفاعل حقيقة لكل فعل؛ قال الله تعالى: « الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها » [ الزمر: 42 ] . « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] . « يحيي ويميت » [ الأعراف: 158 ] . فملك الموت يقبض والأعوان يعالجون والله تعالى يزهق الروح. وهذا هو الجمع بين الآي والأحاديث؛ لكنه لما كان ملك الموت متولي ذلك بالوساطة والمباشرة أضيف التوفي إليه كما أضيف الخلق للملك؛ كما تقّدم في « الحج » . وروي عن مجاهد أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث شاء. وقد روي هذا المعنى مرفوعا، وقد ذكرناه في ( كتاب التذكرة ) . وروي أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح قال: رب جعلتني أذكر بسوء ويشتمني بنو آدم. فقال الله تعالى له: ( إني أجعل للموت عللا وأسبابا من الأمراض والأسقام ينسبون الموت إليها فلا يذكرك أحد إلا بخير ) . وقد ذكرناه في التذكرة مستوفى - وقد ذكرنا أنه يدعو الأرواح فتجيئه ويقبضها، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب - بما فيه شفاء لمن أراد الوقوف على ذلك.
استدل بهذه الآية بعض العلماء على جواز الوكالة من قوله: « وكل بكم » أي بقبض الأرواح. قال ابن العربّي: « وهذا أخذ من لفظه لا من معناه، ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله تعالى: » قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا « [ الأعراف: 158 ] : إنها نيابة عن الله تبارك وتعالى ووكالة في تبليغ رسالته، ولقلنا أيضا في قوله تبارك وتعالى: » وآتوا الزكاة « [ النور: 56 ] إنه وكالة؛ فإن الله تعالى ضمن الرزق لكل دابة وخّص الأغنياء بالأغذية وأوعز إليهم بأن رزق الفقراء عندهم، وأمر بتسليمه إليهم مقدارا معلوما في وقت معلوم، دّبره بعلمه، وأنفذه من حكمه، وقّدره بحكمته. والأحكام لا تتعلق بالألفاظ إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلق عليها. ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى، وقد قال تعالى: » إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة « [ التوبة: 111 ] ولا يقال: هذه الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده؛ لأن المقصدين مختلفان. أما إنه إذا لم يكن بّد من المعاني فيقال: إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحق ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل، أو يرتبط به رضا إذا وجد ذلك.»
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة السجدة
==============
==============
الآية: 12 ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون )
قوله تعالى: « ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم » ابتداء وخبر. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته. والمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد، قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك. « ناكسوا رؤوسهم » أي من الندم والخزي والحزن والذل والغم. « عند ربهم » أي عند محاسبة ربهم وجزاء أعمالهم. « ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » « ربنا » أي يقولون ربنا. « أبصرنا » أي أبصرنا ما كنا نكذب. « وسمعنا » ما كنا ننكر. وقيل: « أبصرنا » صدق وعيدك. « وسمعنا » تصديق رسلك. أبصروا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع. « فأرجعنا » أي إلى الدنيا. « نعمل صالحا إنا موقنون » أي مصدقون بالبعث؛ قاله النقاش. وقيل: مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق؛ قاله يحيى بن سلام. قال سفيان الثوري: فأكذبهم الله تعالى: فقال: « ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون » . وقيل: معنى « إنا موقنون » أي قد زالت عنا الشكوك الآن؛ وكانوا يسمعون ويبصرون في الدنيا، ولكن لم يكونوا يتدبرون، وكانوا كمن لا يبصر ولا يسمع، فلما تنبهوا في الآخرة صاروا حينئذ كأنهم سمعوا وأبصروا. وقيل: أي ربنا لك الحجة، فقد أبصرنا رسلك وعجائب خلقك في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا. فهذا اعتراف منهم، ثم طلبوا أن يردوا إلى الدنيا ليؤمنوا.
الآية: 13 ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين )
قال محمد بن كعب القرظي: لما قالوا: « ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » رّد عليهم بقوله: « ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها » يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد « ولكن حق القول مني » الآية؛ ذكره ابن المبارك في ( رقائقه ) في حديث طويل. وقد ذكرناه في ( التذكرة ) . النحاس: « ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها » في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة؛ أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا « ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » أي حق القول مني لأعّذبن من عصاني بنار جهنم. وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا؛ كما قال تعالى: « ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه » [ الأنعام: 28 ] .
وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره. وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع؛ لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين. وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رذل عندنا وعندكم، فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارا لا جبرا؛ قال الله تعالى: « لمن شاء منكم أن يستقيم » [ التكوير: 28 ] ، وقال: « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » . ثم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله » [ التكوير: 29 ] . فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفي أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله؛ ولهذا فّرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتا إلى قوله: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله » [ التكوير: 29 ] . وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتا منهم إلى قوله تعالى: « لمن شاء منكم أن يستقيم » [ التكوير: 28 ] . ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد؛ وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية؛ وخبر الأمور أوساطها. وذلك أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار إذا حّرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش؛ ومن لا يفرق بين الحركتين: حركة الارتعاش وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته - فهو معتوه في عقله ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء. وهذا هو الحق المبين، وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط. و:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه: « لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » [ البقرة: 286 ] .
الآية: 14 ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا » فيه قولان: أحدهما: أنه من النسيان الذي لا ذكر معه؛ أي لم يعملوا لهذا اليوم فكانوا بمنزلة الناسين. والآخر: أن « نسيتم » بما تركتم، وكذا « إنا نسيناكم » . واحتج محمد بن يزيد بقوله تعالى: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » [ طه:115 ] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أن الله عز وجل أخبر عن إبليس أنه قال: « ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين » [ الأعراف: 20 ] فلو كان آدم ناسيا لكان قد ذكره. وأنشد:
كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
أي تركوه. ولو كان من النسيان لكان قد عملوا به مرة. قال الضحاك: « نسيتم » أي تركتم أمري. يحيى بن سلام: أي تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم. « نسيناكم » تركناكم من الخير؛ قاله السدي. مجاهد: تركناكم في العذاب. وفي استئناف قوله: « إنا نسيناكم » وبناء الفعل على « إن » واسمها تشديد في الانتقام منهم. والمعنى: فذوقوا هذا؛ أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغّم بسبب نسيان الله. أو ذوقوا العذاب المخلد، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم. « بما كنتم تعملون » يعني في الدنيا من المعاصي. وقد يعّبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم. قال عمر بن أبي ربيعة:
فذق هجرها إن كنت تزعم أنها فساد ألا يا ربما كذب الزعم
الجوهري: وذقت ما عند فلان؛ أي خبرته. وذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شّدتها. وأذاقه الله وبال أمره. قال طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وتذوقته أي ذقته شيئا بعد شيء. وأمر مستذاق أي مجّرب معلوم. قال الشاعر:
وعهد الغانيات كعهد قين ونت عنه الجعائل مستذاق
والذواق: الملول.
الآية: 15 ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون )
هذه تسلية للنبّي صلى الله عليه وسلم؛ أي أنهم لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك؛ إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له والمتعظون به، وهم الذين إذا قرئ عليهم القرآن « خروا سجدا » قال ابن عباس: ركعا. قال المهدوي: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة؛ واستدل بقوله تبارك وتعالى: « وخر راكعا وأناب » [ ص: 24 ] . وقيل: المراد به السجود، وعليه أكثر العلماء؛ أي خروا سجدا لله تعالى على وجوههم تعظيما لآياته وخوفا من سطوته وعذابه. « وسبحوا بحمد ربهم » أي خلطوا التسبيح بالحمد؛ أي نزهوه وحمدوه؛ فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين. وقال سفيان: « وسبحوا بحمد ربهم » أي صلوا حمدا لربهم. « وهم لا يستكبرون » عن عبادته؛ قاله يحيى بن سلام. النقاش: « لا يستكبرون » كما استكبر أهل مكة عن السجود.
الآية: 16 ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون )
قوله تعالى: « تتجافى جنوبهم عن المضاجع » أي ترتفع وتنبو عن مواضع الاضطجاع. وهو في موضع نصب على الحال؛ أي متجافية جنوبهم. والمضاجع جمع مضجع؛ وهي مواضع النوم. ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أولى. ومنه قول عبدالله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الزجاج والرمانّي: التجافي التنحي إلى جهة فوق. وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه. والجنوب جمع جنب. وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إما في صلاة وإما في غير صلاة؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: للصلاة. وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التنفل بالليل؛ قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعّي ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم. ويدل عليه قوله تعالى: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] لأنهم جوزوا على ما أخفوا بما خفي. والله أعلم. وسيأتي بيانه.
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة؛ منها حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل - قال ثم تلا - « تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - يعملون » ) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة؛ قال الحسن وعطاء. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن هذه الآية « تتجافى جنوبهم عن المضاجع » نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة قال: هذا حديث حسن غريب. الثالث: التنفل ما بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة وعكرمة. وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية « تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون » قال: كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء. الرابع: قال الضحاك: تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدرداء وعبادة.
قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى. وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكر لله جل وعز؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة ) . وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل. قال ابن عطية: وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريبا شاقا. ومصلي الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت؛ كما كان عليه السلام يصليها. والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أول الوقت يقوم سحرا يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر؛ فقد حصل التجافي أول الليل وآخره. يزيد هذا ما رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله ) ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث: ( من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة ) . وقد مضى في سورة « النور » عن كعب فيمن صلى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر.
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبدالكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بني له قصر في الجنة ) فقال له عمر بن الخطاب: إذا تكثر قصورنا وبيوتنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الله أكبر وأفضل - أو قال - أطيب ) . وعن عبدالله بن عمرو بن العاصي قال: صلاة الأّوابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة. وكان عبدالله بن مسعود يصلي في تلك الساعة ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء؛ ذكره ابن المبارك. ورواه الثعلبي مرفوعا عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من جفت جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بني له قصران في الجنة مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة ) . وهي صلاة الأّوابين وغفلة الغافلين. وأن من الدعاء المستجاب الذي لا يرّد الدعاء بين المغرب والعشاء.
فصل في فضل التجافي - ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسّرحون إلى الجنة. ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع « يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون » . قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة. قال: ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانوا « لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار » [ النور: 37 ] ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة. ذكره الثعلبّي مرفوعا عن أسماء بنت يزيد قال النبّي صلى الله عليه وسلم: ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون، ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الحامدون لله على كل حال في السّراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس ) . وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن رجل عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي ذّر قال: ثلاثة يضحك الله إليهم ويستبشر الله بهم: رجل قام من الليل وترك فراشه ودفئه، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة؛ فيقول الله لملائكته: ( ما حمل عبدي على ما صنع ) فيقولون: ربنا أنت أعلم به منا؛ فيقول: ( أنا أعلم به ولكن أخبروني ) فيقولون: رجيته شيئا فرجاه وخوفته فحافه. فيقول: ( أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه ) قال: ورجل كان في سرية فلقي العدو فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يقتل أو يفتح الله عليهم؛ فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة. ورجل سرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه، فنام أصحابه وقام هو يصلي؛ فيقول الله لملائكته... ) وذكر القصة.
قوله تعالى: « يدعون ربهم » في موضع نصب على الحال؛ أي داعين. ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة؛ أي تتجافى جنوبهم وهم أيضا في كل حال يدعون ربهم ليلهم ونهارهم. و « خوفا » مفعول من أجله. ويجوز أن يكون مصدرا. « وطمعا » مثله؛ أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. « ومما رزقناهم ينفقون » تكون « ما » بمعنى الذي وتكون مصدرا، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من « من » و « ينفقون » قيل: معناه الزكاة المفروضة. وقيل: النوافل؛ وهذا القول أمدح.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة السجدة
===============
===============
الآية: 17 ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
قرأ حمزة: « ما أخفيْ لهم » بإسكان الياء. وفتحها الباقون. وفي قراءة عبدالله « ما نخفي » بالنون مضمومة. وروى المفضل عن الأعمش « ما يُخفى لهم » بالياء المضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة: « من قرَّات أعين » . فمن أسكن الياء من قوله: « ما أخفي فهو مستقبل وألفه ألف المتكلم. و » ما « في موضع نصب بـ » أخفي « وهي استفهام، والجملة في موضع نصب لوقوعها موقع المفعولين، والضمير العائد على » ما « محذوف. ومن فتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول. و » ما « في موضع رفع بالابتداء، والخبر » أخفي « وما بعده، والضمير في » أخفي « عائد على » ما « . قال الزجاج: ويقرأ » ما أخفى لهم « بمعنى ما أخفى الله لهم؛ وهي قراءة محمد بن كعب، و » ما « في موضع نصب. المهدوّي: ومن قرأ: » قرات أعين « فهو جمع قرة، وحسن الجمع فيه لإضافته إلى جمع، والإفراد لأنه مصدر، وهو اسم للجنس. وقال أبو بكر الأنبارّي: وهذا غير مخالف للمصحف؛ لأن تاء » قرة « تكتب تاء لغة من يجري الوصل على الوقف؛ كما كتبوا ( رحمت الله ) بالتاء. ولا يستنكر سقوط الألف من » قرات « في الخط وهو موجود في اللفظ؛ كما لم يستنكر سقوط الألف من السموات وهي ثابتة في اللسان والنطق. والمعنى المراد: أنه أخبر تعالى بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك. وفي معنى هذه الآية: قال النبّي صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم قرأ هذه الآية - » تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله - بما كانوا يعملون « ) خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي. وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب: على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن عباس: الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره.»
قلت: وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا؛ كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سأل موسى عليه السلام ربه فقال يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة قال هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله معه ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب قال رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال - ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون » . وقد روي عن المغيرة موقوفا قوله. وخرج مسلم أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم عليه - ثم قرأ - « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » . وقال ابن سيرين: المراد به النظر إلى الله تعالى. وقال الحسن: أخفى القوم أعمالا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
الآية: 18 ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون )
قوله تعالى: « أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا » أي ليس المؤمن كالفاسق؛ فلهذا آتينا هؤلاء المؤمنين الثواب العظيم. قال ابن عباس وعطاء بن يسار: نزلت الآية في علّي ابن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ وذلك أنهما تلاحيا فقال له الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة - وروي وأملأ في الكتيبة - جسدا. فقال له علّي: اسكت! فإنك فاسق؛ فنزلت الآية. وذكر الزجاج والنحاس أنها نزلت في علّي وعقبة بن أبي مُعيط. قال ابن عطية: وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية؛ لأن عقبة لم يكن بالمدينة، وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد. وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان في نفسه، أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن، حتى نزلت فيه: « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » [ الحجرات: 6 ] على ما يأتي في الحجرات بيانه. ويحتمل أن تطلق الشريعة ذلك عليه؛ لأنه كان على طرف مما يبغي. وهو الذي شرب الخمر في زمن عثمان رضي الله عنه، وصلى الصبح بالناس ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم، ونحو هذا مما يطول ذكره.
لما قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر - لأن التكذيب في آخر الآية يقتضي ذلك - اقتضى ذلك نفي المساواة بين المؤمن والكافر؛ ولهذا منع القصاص بينهما؛ إذ من شرط وجوب القصاص المساواة بين القاتل والمقتول. وبذلك احتج علماؤنا على أبي حنيفة في قتله المسلم بالذمّي. وقال: أراد نفي المساواة ها هنا في الآخرة في الثواب وفي الدنيا في العدالة. ونحن حملناه على عمومه، وهو أصح، إذ لا دليل يخصه؛ قاله ابن العربي.
قوله تعالى: « لا يستوون » قال الزجاج وغيره: « من » يصلح للواحد والجمع. النحاس: لفظ « من » يؤدي عن الجماعة؛ فلهذا قال: « لا يستوون » ؛ هذا قول كثير من النحويين. وقال بعضهم: « لا يستوون » الاثنين؛ لأن الاثنين جمع؛ لأنه واحد جمع مع آخر. وقاله الزجاج أيضا. والحديث يدل على هذا القول؛ لأنه عن ابن عباس وغيره قال: نزلت « أفمن كان مؤمنا » في علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، « كمن كان فاسقا » في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الشاعر:
أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
الآيات: 19 - 20 ( أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
قوله تعالى: « أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى » أخبر عن مقر الفريقين غدا؛ فللمؤمنين جنات المأوى، أي يأوون إلى الجنات؛ فأضاف الجنات إلى المأوى لأن ذلك الموضع يتضمن جنات. « نزلا » أي ضيافة. والنزل: ما يهيأ للنازل والضيف. وقد مضى في آخر « آل عمران » وهو نصب على الحال من الجنات؛ أي لهم الجنات معّدة، ويجوز أن يكون مفعولا له. « وأما الذين فسقوا » أي خرجوا عن الإيمان إلى الكفر « فمأواهم النار » أي مقامهم فيها. « كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها » أي إذا دفعهم لهب النار إلى أعلاها ردوا إلى موضعهم فيها، لأنهم يطمعون في الخروج منها. وقد مضى هذا في « الحج » . « وقيل لهم » أي يقول لهم خزنة جهنم. أو يقول الله لهم: « ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون » والذوق يستعمل محسوسا ومعنى. وقد مضى في هذه السورة بيانه.
الآية: 21 ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون )
قوله تعالى: « ولنذيقنهم من العذاب الأدنى » قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبي بن كعب وإبراهيم النخعّي: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا؛ وقاله ابن عباس. وعنه أيضا أنه الحدود. وقال ابن مسعود والحسين بن علّي وعبدالله بن الحارث: هو القتل بالسيف يوم بدر. وقال مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف؛ وقاله مجاهد. وعنه أيضا: العذاب الأدنى عذاب القبر؛ وقاله البراء بن عازب. قالوا: والأكبر عذاب يوم القيامة. قال القشيري: وقيل عذاب القبر. وفيه نظر؛ لقوله: « لعلهم يرجعون » . قال: ومن حمل العذاب على القتل قال: « لعلهم يرجعون » أي يرجع من بقي منهم. ولا خلاف أن العذاب الأكبر عذاب جهنم؛ إلا ما روي عن جعفر بن محمد أنه خروج المهدي بالسيف. والأدنى غلاء السعر. وقد قيل: إن معنى قوله: « لعلهم يرجعون » . على قول مجاهد والبراء: أي لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله: « فارجعنا نعمل صالحا » [ السجدة: 12 ] . وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: « إذا قمتم إلى الصلاة » [ المائدة: 6 ] . ويدل عليه قراءة من قرأ: « يرجعون » على البناء للمفعول؛ ذكره الزمخشري.
الآية: 22 ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون )
قوله تعالى: « ومن أظلم » أي لا أحد أظلم لنفسه. « ممن ذكر بآيات ربه » أي بحججه وعلاماته. « ثم أعرض عنها » بترك القبول. « إنا من المجرمين منتقمون » لتكذيبهم وإعراضهم.
الآيات: 23 - 25 ( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون، إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )
قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه » أي فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى؛ قال ابن عباس. وقد لقيه ليلة الإسراء. قتادة: المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الإسراء. والمعنى واحد. وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة، وستلقاه فيها. وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول؛ قال مجاهد والزجاج. وعن الحسن أنه قال في معناه: « ولقد آتينا موسى الكتاب » فأوذي وكذب، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى؛ فالهاء عائدة على مخذوف، والمعنى من لقاء ما لاقى. النحاس: وهذا قول غريب، إلا أنه من رواية عمرو بن عبيد. وقيل في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم فلا تكن في مرية من لقائه؛ فجاء معترضا بين « ولقد آتينا موسى الكتاب » وبين « وجعلناه هدى لبني إسرائيل » . والضمير في « وجعلناه » فيه وجهان: أحدهما: جعلنا موسى؛ قاله قتادة. الثاني: جعلنا الكتاب؛ قاله الحسن. « وجعلنا منهم أئمة » أي قادة وقدوة يقتدى بهم في دينهم. والكوفيون يقرؤون « أئمة » النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين؛ لأنه جمع بين همزتين في كلمه واحدة، وهو من دقيق النحو.
وشرحه: أن الأصل « أأْمِمَة » ثم ألقيت حركة الميم على الهمزة وأدغمت الميم، وخففت الهمزة الثانية لئلا يجتمع همزتان، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد؛ فأما في حرف واحد فلا يجوز إلا تخفيف الثانية نحو قولك: آدم وآخر. ويقال: هذا أوم من هذا وأيّم؛ بالواو والياء. وقد مضى هذا في « التوبة » والله تعالى أعلم. « يهدون بأمرنا » أي يدعون الخلق إلى طاعتنا. « بأمرنا » أي أمرناهم بذلك. وقيل: « بأمرنا » أي لأمرنا؛ أي يهدون الناس لديننا. ثم قيل: المراد الأنبياء عليهم السلام؛ قاله قتادة. وقيل: المراد الفقهاء والعلماء. « لما صبروا » قراءة العامة « لما » بفتح اللام وتشديد الميم وفتحها؛ أي حين صبروا. وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب: « لما صبروا » أي لصبرهم جعلناهم أئمة. واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود « بما صبروا » بالباء. وهذا الصبر صبر على الدين وعلى البلاء. وقيل: صبروا عن الدنيا. « إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة » أي يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار، فيجازي كلا بما يستحق. وقيل: يقضي بين الأنبياء وبين قومهم؛ حكاه النقاش.
الآية: 26 ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون )
قوله تعالى: « أولم يهد لهم » وقرأ أبو عبدالرحمن السلمّي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب « نهد لهم » بالنون؛ فهذه قراءة بينة. النحاس: وبالياء فيها إشكال؛ لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل، فأين الفاعل لـ « يهد » ؟ فتكلم النحويون في هذا؛ فقال الفراء: « كم » في موضع رفع بـ « يهد » وهذا نقض لأصول النحويين في قولهم: إن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في « كم » بوجه؛ أعني ما قبلها. ومذهب أبي العباس أن « يهد » يدل على الهدى؛ والمعنى أو لم يهد لهم الهدى. وقيل: المعنى أو لم يهد الله لهم؛ فيكون معنى الياء والنون واحدا؛ أي أو لم نبين لهم إهلاكنا القرون الكافرة من قبلهم. وقال الزجاج: « كم » هي موضع نصب بـ « أهلكنا » . « يمشون في مساكنهم » يحتمل الضمير في « يمشون » أن يعود على الماشين في مساكن المهلكين؛ أي وهؤلاء يمشون ولا يعتبرون. ويحتمل أن يعود على المهلكين فيكون حالا؛ والمعنى: أهلكناهم ماشين في مساكنهم. « إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون » آيات الله وعظاته فيتعظون.
الآية: 27 ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون )
قوله تعالى: « أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز » أي أولم يعلموا كمال قدرتنا بسوقنا الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها لنحييها. الزمخشري: الجرز الأرض التي جرز نباتها، أي قطع؛ إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز؛ ويدل عليه قوله تعالى: « فنخرج به زرعا » قال ابن عباس: هي أرض باليمن. وقال مجاهد: هي أبين. وقال عكرمة: هي الأرض الظمأى. وقال الضحاك: هي الأرض الميتة العطشى. وقال الفراء: هي الأرض التي لا نبات فيها. وقال الأصمعّي: هي الأرض التي لا تنبت شيئا. وقال محمد بن يزيد: يبعد أن تكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام؛ إلا أنه يجوز على قول من قال: العباس والضحاك. والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه. وهذا إنما هو نعت والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام؛ وهو مشتق من قولهم: رجل جروز إذا كان لا يبقي شيء شيئا إلا أكله. قال الراجز:
خب جروز وإذا جاع بكى ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شيء تجده. وسيف جراز: أي قاطع ماض. وجرزت الجراد الزرع: إذا استأصلته بالأكل. وحكى الفراء وغيره أنه يقال: أرض جُرْز وجُرُز وجَرْز وجَرَز. وكذلك بخل ورغب ووهب؛ في الأربعة أربع لغات. وقد روي أن هذه الأرض لا أنهار فيها، وهي بعيدة من البحر، وإنما يأتيها في كل عام ودان فيزرعون ثلاث مرات في كل عام. وعن مجاهد أيضا: أنها أرض النيل. « فنخرج به » أي بالماء. « زرعا تأكل منه أنعامهم » من الكلأ والحشيش. « وأنفسهم » من الحب والخضر والفواكه. « أفلا يبصرون » هذا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم. و « فنخرج » يكون معطوفا على « نسوق » أو منقطعا مما قبله. « تأكل منه أنعامهم » في موضع نصب على النعت.
الآيات: 28 - 29 ( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون )
قوله تعالى: « ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين » « متى » في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف. قال قتادة: الفتح القضاء. وقال الفراء والقتبّي: يعني فتح مكة. وأولى من هذا ما قاله مجاهد، قال: يعني يوم القيامة. ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء. فقال الكفار على التهزيء. متى يوم الفتح، أي هذا الحكم. ويقال للحاكم: فاتح وفتاح؛ لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل. وفي القرآن: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] وقد مضى هذا في « البقرة » وغيرها. « قل يوم الفتح » على الظرف. وأجاز الفراء الرفع. « لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون » أي يؤخرون ويمهلون للتوبة؛ إن كان يوم الفتح يوم بدر أو فتح مكة. ففي بدر قتلوا، ويوم الفتح هربوا فلحقهم خالد بن الوليد فقتلهم.
الآية: 30 ( فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون )
قوله تعالى: « فأعرض عنهم » معناه فأعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به. « وانتظر إنهم منتظرون » أي انتظر يوم الفتح، يوم يحكم الله لك عليهم. ابن عباس: « فأعرض عنهم » أي عن مشركي قريش مكة، وأن هذا منسوخ بالسيف في « براءة » في قوله: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . « وانتظر » أي موعدي لك. قيل: يعني يوم بدر. « إنهم منتظرون » أي ينتظرون بكم حوادث الزمان. وقيل: الآية غير منسوخة؛ إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال كالهدنة وغيرها. وقيل: أعرض عنهم بعدما بلغت الحجة، وانتظر إنهم منتظرون. إن قيل: كيف ينتظرون القيامة وهم لا يؤمنون؟ ففي هذا جوابان: أحدهما: أن يكون المعنى إنهم منتظرون الموت وهو من أسباب القيامة؛ فيكون هذا مجازا. والآخر: أن فيهم من يشك وفيهم من يؤمن بالقيامة؛ فيكون هذا جوابا لهذين الصنفين. والله أعلم. وقرأ ابن السميقع: « إنهم منتظرون » بفتح الظاء. ورويت عن مجاهد وابن محيصن. قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار، مجازه: إنهم منتظرون بهم. قال أبو حاتم: الصحيح الكسر؛ أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك. وقد قيل: إن قراءة ابن السميقع ( بفتح الظاء ) معناها: وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم؛ يعني أنهم هالكون لا محالة، وانتظر ذلك فإن الملائكة في السماء ينتظرونه؛ ذكره الزمخشري. وهو معنى قول الفراء. والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الاحزاب للقرطبى
============
============
مقدمة السورة
مدنية في قول جميعهم. نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها. وهي ثلاث وسبعون آية. وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة. وكانت فيها آية الرجم: ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ؛ ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب. وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا، وأن آية الرجم رفع لفظها. وقد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن. قال أبو بكر: فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة: أن الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا.
قلت: هذا وجه من وجوه النسخ، وقد تقدم في « البقرة » القول فيه مستوفى والحمد لله. وروى زر قال قال لي أبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت ثلاثا وسبعين آية؛ قال: فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض.
الآية: 1 ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما )
قوله تعالى: « يا أيها النبي اتق الله » ضمت « أي » لأنه نداء مفرد، والتنبيه لازم لها. و « النبي » نعت لأي عند النحويين؛ إلا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأي. مكّي: ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء. النحاس: وهو خطأ عند أكثر النحويين؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة؛ وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها. ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين. وأجازه المازنّي، جعله كقولك: يا زيد الظريف، بنصب « الظريف » على موضع زيد. مكّي: وهذا نعت يستغنى عنه، ونعت « أي » لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع. وأيضا فإن نعت « أي » هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبني قينقاع؛ وقد تابعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه؛ ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم؛ فنزلت. وقيل؛ إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبّي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان، نزلوا المدينة على عبدالله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد، وقد أعطاهم النبّي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني قد أعطيتهم الأمان ) فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة؛ فنزلت الآية. « يا أيها النبي اتق الله » أي خف الله. « ولا تطع الكافرين » من أهل مكة، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة. « والمنافقين » من أهل المدينة، يعني عبدالله بن أبي وطعمة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه، ولا تمل إليهم. « إن الله كان عليما » بكفرهم « حكيما » فيما يفعل بهم. الزمخشري: وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمّي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير والجّد بن قيس، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا. وذكر الخبر بمعنى ما تقدم. وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة. « ولا تطع الكافرين » من أهل مكة. « والمنافقين » من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع؛ فنزلت. النحاس: ودل بقوله « إن الله كان عليما حكيما » على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام؛ أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه؛ لأنه حكيم. ثم قيل: الخطاب له ولأمته.
الآيات: 2 - 3 ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )
قوله تعالى: « واتبع ما يوحى إليك من ربك » يعني القرآن. وفيه زجر عن اتباع مراسم الجاهلية، وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. والخطاب له ولأمته. « إن الله كان بما تعملون خبيرا » قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلمي وأبو عمرو وابن أبي إسحاق: « يعملون » بالياء على الخبر؛ وكذلك في قوله: « بما تعملون بصيرا » [ الفتح: 24 ] . « وتوكل على الله » أي اعتمد عليه في كل أحوالك؛ فهو الذي يمنعك ولا يضرك من خذلك. « وكفى بالله وكيلا » حافظا. وقال شيخ من أهل الشام: قدم على النبّي صلى الله عليه وسلم وفد من ثقيف فطلبوا منه أن يمتعهم باللات سنة - وهي الطاغية التي كانت ثقيف تعبدها - وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا عندك؛ فهم النبّي صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت « وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا » أي كافيا لك ما تخافه منهم. و « بالله » في موضع رفع لأنه الفاعل. و « وكيلا » نصب على البيان أو الحال.
الآية: 4 ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل )
قال مجاهد: نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه، وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. قال: وكان من فهر. الواحدي والقشيري وغيرهما: نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله؛ فقال أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي؛ فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وقال السهيلّي: كان جميل بن معمر الجمحّي، وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب ابن حذافة بن جمح، واسم جمح: تيم؛ وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية، وفيه يقول الشاعر:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر
قلت: كذا قالوا جميل بن معمر. وقال الزمخشري: جميل بن أسد الفهري. وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول؛ فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل. وقيل: نزلت في عبدالله بن خطل. وقال الزهري وابن حبان: نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبّي صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين. قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة، وهو من منقطعات الزهري، رواه معمر عنه. وقيل: هو مثل ضرب للمظاهر؛ أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان. وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا؛ فالمنافق ذو قلبين؛ فالمقصود رد النفاق. وقيل: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف؛ فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب. ويظهر من الآية بجملتها نقي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، والله أعلم.
القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهّي، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا. وهو بين لمتين: لمة من الملك، ولمة من الشيطان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. خرجه الترمذي؛ وقد مضى في « البقرة » . وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة. والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز، والله أعلم.
أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم؛ أي إنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد. وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية، متى نسي شيئا أو وهم. يقول على جهة الاعتذار: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
قوله تعالى: « وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم » يعني قول الرجل لامرأته: أنت علّي كظهر أمي. وذلك مذكور في سورة « المجادلة » على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « وما جعل أدعياءكم أبناءكم » أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت: « ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله » [ الأحزاب: 5 ] وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشأم، سبته خيل من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبّي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبّي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث: ( خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء ) . فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه؛ فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ( يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه ) وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا. وكان أبوه لما سبي يدور الشأم ويقول:
بكيت على زيد ولم أدر ما أفعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله لا أدري وإني لسائل أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هـبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتيَ أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل
فأخبر أنه بمكة؛ فجاء إليه فهلك عنده. وروي أنه جاء فخيره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف. وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله: « فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها » [ الأحزاب: 37 ] إن شاء الله تعالى. وقتل زيد بمؤتة من أرض الشأم سنة ثمان من الهجرة، وكان النبّي صلى الله عليه وسلم أمره في تلك الغزاة، وقال: ( إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة ) . فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي زيد وجعفر بكى وقال: ( أخواي ومؤنساي ومحدثاي ) .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
==============
==============
الآية: 5 ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما )
قوله تعالى: « ادعوهم لآبائهم » نزلت في زيد بن حارثة، على ما تقّدم بيانه. وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، دليل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية والإسلام، يتوارث به ويتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله. « ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله » أي أعدل. فرفع الله حكم التبني ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا؛ فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان. وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن؛ فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه، فإن لم يكن له ولاء معروف قال له يا أخي؛ يعني في الدين، قال الله تعالى: « إنما المؤمنون إخوة » [ الحجرات: 10 ] .
لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى « وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم » وكذلك لو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس؛ قاله قتادة. ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود؛ فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو؛ ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه. ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه وإن كان متعمدا. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة. وغير هؤلاء ممن تبني وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى: « ولكن ما تعمدت قلوبكم » أي فعليكم الجناح. والله أعلم. ولذلك قال بعده: « وكان الله غفورا رحيما » أي « غفورا » للعمد، « رحيما » برفع إثم الخطأ.
وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى: « وليس عليكم جناح فيما أخطأتم » مجمل؛ أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم، وكانت فتيا عطاء وكثير من العلماء. على هذا إذا حلف رجل ألا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه، فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زيوفا أنه لا شيء عليه. وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث؛ لأنه لم يتعمد ذلك. و « ما » في موضع خفض ردا على « ما » التي مع « أخطأتم » . ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم. قال قتادة وغيره: من نسب رجلا إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه، خطأ فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح. وقيل: هو أن يقول له في المخاطبة: يا بنّي؛ على غير تبن.
قوله تعالى: « ذلكم قولكم بأفواهكم » « بأفواهكم » تأكيد لبطلان القول؛ أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود، إنما هو قول لسانّي فقط. وهذا كما تقول: أنا أمشي إليك على قدم؛ فإنما تريد بذلك المبرة. وهذا كثير. وقد تقّدم هذا المعنى في غير موضع. « والله يقول الحق » « الحق » نعت لمصدر محذوف؛ أي يقول القول الحق. « وهو يهدي السبيل » معناه يبين؛ فهو يتعدى بغير حرف جر.
قوله تعالى: « الأدعياء جمع دعي وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه أو يدعي غير أبيه والمصدر الدِّعوة بالكسر فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مولى وأخا في الدين وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية وقال أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الراوي عنه: ولو علم - والله - أن أباه حمارا لانتمى إليه ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث. »
روي في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة كلاهما قال سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) . وفي حديث أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ) .
الآية: 6 ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا )
قوله تعالى: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام؛ منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلّي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ) أخرجه الصحيحان. وفيهما أيضا ( فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه ) . قال ابن العربّي: فانقلبت الآن الحال بالذنوب، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه؛ فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبّي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه؛ ( ولا عطر بعد عروس ) . قال ابن عطية: وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: ( أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش ) .
قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه ) . وعن جابر مثله؛ وقال: ( وأنتم تفلتون من يدي ) . قال العلماء الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار؛ فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه. وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا؛ فهو أولى بنا من أنفسنا؛ ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بناصرنا أحقر من الفراش وأذل من الفراش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وقيل: أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى. وقيل أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم؛ أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه.
قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال: ( فعلّي قضاؤه ) . والضياع ( بفتح الضاد ) مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعا بكسر الضاد.
قوله تعالى: « وأزواجه أمهاتهم » شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي في وجوب التعظيم والمبّرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات. وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني. وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى. واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة؛ على قولين: فروى الشعبّي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمة؛ فقالت لها: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح.
قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء؛ تعظيما لحقهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة. ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر؛ فيكون قوله: « وأزواجه أمهاتهم » عائدا إلى الجميع. ثم إن في مصحف أبي بن كعب « وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » . وقرأ ابن عباس: « من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » . وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم. والله أعلم.
قوله تعالى: « وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين » قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا. وفيه قولان: أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال « والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء يهاجروا » [ الأنفال: 72 ] فتوارث المسلمون بالهجرة؛ فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله: « وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض » . الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين؛ روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير: « وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله » وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم؛ فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله؛ فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا. وثبت عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك، فارتث كعب يوم أحد فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته؛ فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى: « وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله » . فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة. وقد مضى في « الأنفال » الكلام في توريث ذوي الأرحام. وقوله: « في كتاب الله » يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه. و « من المؤمنين » متعلق بـ « أولى » لا بقوله: « وأولو الأرحام » بالإجماع؛ لأن ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل إشكالها؛ قاله ابن العربي. النحاس: « وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين » يجوز أن يتعلق « من المؤمنين » بـ « أولو » فيكون التقدير: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين. ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين. وقال المهدوي: وقيل إن معناه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين. والله تعالى أعلم.
واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر؛ على وجهين: أحدهما: هن محرم، لا يحرم النظر إليهن. الثاني: أن النظر إليهن محرم، لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنا لأختها من الرضاعة، فيصير محرما يستبيح النظر. وأما اللاتي طلقهّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لا يثبت لهن ذلك، بل هن كسائر النساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن، وقال: ( أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة ) . الثالث: من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها؛ حفظا لحرمته وحراسة لخلوته. ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة؛ وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت: لم هذا! وما ضرب علّي رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين؛ فكّف عنها عمر رضي الله عنه.
قال قوم: لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى: « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم » [ الأحزاب: 40 ] . ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين؛ كما قال: ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم... ) الحديث. خرجه أبو داود. والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى: « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم » [ الأحزاب: 40 ] أي في النسب. وسيأتي. وقرأ ابن عباس: « من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه » . وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حكمها يا غلام؟ فقال: إنها في مصحف أبي؛ فذهب إليه فسأله فقال له أبي: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر. وقد قيل في قول لوط عليه السلام « هؤلاء بناتي » [ الحجر: 71 ] : إنما أراد المؤمنات؛ أي تزوجوهن. وقد تقّدم.
قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعّي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين. وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين؛ يعني في الحرمة لا في النسب.
قوله تعالى: « إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا » يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت؛ أي إن ذلك جائز؛ قاله قتادة والحسن وعطاء. وقال محمد ابن الحنفية، نزلت في إجازة الوصية لليهودّي والنصرانّي؛ أي يفعل هذا مع الولّي والقريب وإن كان كافرا؛ فالمشرك ولّي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية. واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيا؛ فجوز بعض ومنع بعض. ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض؛ منهم مالك رحمه الله تعالى. وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين. ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم الولّي أيضا حسن. وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولّي الإسلام. « كان ذلك في الكتاب مسطورا » « الكتاب » يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في « كتاب الله » . و « مسطورا » من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا. وقال قتادة: أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما. قال قتادة: وفي بعض القراءة « كان ذلك عند الله مكتوبا » . وقال القرظّي: كان ذلك في التوراة.
الآية: 7 ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا )
قوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم » أي عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا؛ أي كان مسطورا حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء. « ومنك » يا محمد « ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم » وإنما خص هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيين تفضيلا لهم. وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل وأئمة الأمم. ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين؛ أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الديانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد؛ فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق؛ فلا تداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار. ونظيره: « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا » إلى قوله « ولا تتفرقوا فيه » [ الشورى: 13 ] . ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار. وقيل: أي النبّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطورا ومأخوذا به المواثيق من الأنبياء. « وأخذنا منهم ميثاقا غليظا » أي عهدا وثيقا عظيما على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة،وأن يصدق بعضهم بعضا. والميثاق هو اليمين بالله تعالى؛ فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأول باليمين. وقيل: الأول هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوة. ونظير هذا قوله تعالى: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري » [ آل عمران: 81 ] الآية. أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نبّي بعده. وقّدم محمدا في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » قال: ( كنت أولهم في الخلق وآخرهم في البعث ) . وقال مجاهد: هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير الفرطبى لسورة الاحزاب
==============
الآية: 8 ( ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما )
قوله تعالى: « ليسأل الصادقين عن صدقهم » فيه أربعة أوجه: أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش. وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف من سواهم. الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم؛ حكاه علّي بن عيسى. الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ حكاه ابن شجرة. الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، وفي التنزيل: « فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين » [ الأعراف: 6 ] . وقد تقّدم. وقيل: فائدة سؤالهم توبيخ الكفار؛ كما قال تعالى: « أأنت قلت للناس » [ المائدة: 116 ] . « وأعد للكافرين عذابا أليما » وهو عذاب جهنم.
الآية: 9 ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا )
يعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة، وكانت حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة، وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل.
الأولى: اختلف في أي سنة كانت؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله: كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي وبنو قريظة في يوم واحد، وبين بني قريظة والنضير أربع سنين. قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة، وذلك قوله تعالى: « إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر » [ الأحزاب: 10 ] . قال: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من ها هنا واليهود من ها هنا والنجدية من ها هنا. يريد مالك: إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان. وكان سببها: أن نفرا من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وحيّي بن أخطب النضريون وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك؛ فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم؛ فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة، والحارث بن عوف المري على بني مرة، ومسعود بن رخيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا. وقال الأنصار: سلمان منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا أهل البيت ) . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر. فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لو إذا فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره. وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره، حتى كمل الخندق. وكانت فيه آيات بينات وعلامات للنبوات.
قلت: ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي:
الثانية: مشاورة السلطان أصحابه وخاصته في أمر القتال؛ وقد مضى ذلك في « آل عمران، والنمل » . وفيه التحصن من العدو بما أمكن من الأسباب واستعمالها؛ وقد مضى ذلك في غير موضع. وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوما على الناس؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يد على من سواهم؛ وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وأما ما كان فيه من الآيات وهي:
الثالثة: فروى النسائي عن أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال: « وتمت كلمة ربك صدقا » [ الأنعام: 115 ] الآية؛ فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب الثانية وقال: « وتمت » [ الأنعام: 115 ] الآية؛ فندر الثلث الآخر؛ فبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: « وتمت كلمة ربك صدقا » الآية؛ فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس. قال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حين ضربت! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت ذلك يا سلمان ) ؟ فقال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: ( فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني - قال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني - قالوا: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم ضرب الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم ) . وخرجه أيضا عن البراء قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال: ( باسم الله ) فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: ( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا ) قال: ثم ضرب أخرى وقال: ( باسم الله ) فكسر ثلثا آخر ثم قال: ( الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ) . ثم ضرب الثالثة وقال: ( باسم الله ) فقطع الحجر وقال: ( الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء ) . صححه أبو محمد عبدالحق.
الرابعة: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم - في قول ابن شهاب - وخرج عدو الله حيّي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهده؛ فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له؛ فقال له: افتح لي يا أخي؛ فقال له: لا أفتح لك، فإنك رجل مشؤوم، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حيّي: افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك؛ فقال: لا أفعل؛ فقال: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك؛ فغضب كعب وفتح له؛ فقال: يا كعب! إنما جئتك بعّز الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغطفان وقادتها؛ قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه؛ فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه! ويحك يا حيّي؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فلم يزل حيّي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم، وقال له حيّي بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود. فلما انتهى خبر كعب وحيّي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وسيد الأوس سعد بن معاذ، وبعث معهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كان كذبا فاجهروا به للناس ) فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد له عندنا؛ فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه؛ وكانت فيه حّدة فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا: عضل والقارة - يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبّي صلى الله عليه وسلم. ( أبشروا يا معشر المسلمين ) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم؛ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب، حتى ظنوا بالله الظنونا؛ وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها.
وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال: معتب ابن قشير أحد بني عمرو بن عوف. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: ( بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث: ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
الخامسة: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم؛ إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهري، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه، فلما وقف هو وخيله؛ نادى: من يبارز؟ فبرز له علّي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما؟ قال نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علّي: أنا والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه، فعقره وصار نحو علّي، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النقع حتى رئي علّي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علّي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين. وقال علّي رضي الله عنه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت دين محمد بضراب
نازلته فتركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثواب ولو أنني كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالسير يشك فيها لعلّي. قال ابن هشام: وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو؛ فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم ما إن تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل
قال ابن هشام: فرعل صغير الضباع. وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معها، وعلى سعد درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربته وهو يقول:
لبث قليلا يلحق الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا كان الأجل
ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل. واختلف فيمن رماه؛ فقيل: رماه حبان بن قيس ابن العرقة، أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال له: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عّرق الله وجهك في النار. وقيل: إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان. وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمّي، حليف بني مخزوم. ولحسان مع صفية بنت عبدالمطلب خبر طريف يومئذ؛ ذكره ابن إسحاق وغيره. قالت صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت، وحسان معنا في النساء والصبيان، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدّو لا يستطيعون الانصراف إلينا، فإذا يهودي يدور، فقلت لحسان: انزل إليه فاقتله؛ فقال: ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبدالمطلب! فأخذت عمودا ونزلت من الحصن فقتلته، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فلم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبدالمطلب! قال: فنزلت فسلبته. قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام، ولهجي بذلك ابنه عبدالرحمن؛ فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب؛ مثل النجاشي وغيره.
السادسة: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعّي فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا فأخرج فإن الحرب خدعة ) . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم؛ قالوا: قل فلست عندنا بمتهم؛ فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش، وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه ونصحا لكم، فاكتموا علّي؛ قالوا نفعل؛ قال: تعلمون أن معشر يهود، قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعّدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا؛ فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود؛ فردوا إليهم الرسل وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدأ فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم. فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود. وخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد؛ فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم.
السابعة: فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئ جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل؛ ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني، قال لي: ( مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا ) - لقتلته بسهم؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله.
قلت: وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم، وفيه آيات عظيمة، رواه جرير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقّر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال: ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علّي ) قال: فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ولا تذعرهم علّي ) ولو رميته لأصبته: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: ( قم يا نومان ) . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبّي، على بغلة عليها قطيفه ديباج فقال له: يا محمد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها. إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
الثامنة: مناديا فنادى: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة؛ فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. وقد مضى بيانه في « الأنبياء » . وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب أن أجاهدكم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه. اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة. وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم ( فارع ) ، وعليه درع مقلصة مشمر الكمين، وبه أثر صفرة وهو يرتجز:
لبث قليلا يدرك الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت عائشة رضي الله عنها: لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه؛ فأصيب في أكحله. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أجمل من سعد بن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصيب في أكحله ثم قال: اللهم إن كان حرب قريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه؛ فلما حكم في بني قريظة توفي؛ ففرح الناس وقالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته.
التاسعة: ولما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علّي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونهض علّي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فانصرف علّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له. فقال له: ( أظنك سمعت منهم شتمي. لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا. فقال لهم: ( نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ) فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا: إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا. قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا؛ فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم. وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا. فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعّدى في السبت. ثم بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوس، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فقال نعم، - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم. ثم ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم. فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة. قال ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » [ الأنفال: 27 ] الآية. وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذنب. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة قال: ( أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى ) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم » [ التوبة: 102 ] الآية. فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، وقد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد أسعفت عبدالله بن أبي ابن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى. قال - : فذلك إلى سعد بن معاذ ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق. فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة ) . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم - زمن ابن إسحاق - فخندق بها خنادق، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذ حيّي بن أخطب وكعب بن أسد، وكانا رأس القوم، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وكان على حيّي حلة فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة لئلا يسلبها. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك.
ولكنه من يخذل الله يخذل
ثم قال: يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بنانة امرأة الحكم القرظّي التي طرحت الّرحى على خلاد ابن سويد فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت. وكان عطية القرظّي ممن لم ينبت، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة. ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم؛ منهم عبدالرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة. ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سليط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلت إلى القبلتين؛ فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا - وكانت له عنده يد - وقال: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي، قال: ذلك يفعل الكريم بالكريم، ثم قال: وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ قال: فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأعطاه أهله وولده؛ فأتى فأعلمه فقال: كيف يعيش رجل لا مال له؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله، فرجع إليه فأخبره؛ قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قال: قتلوا. قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، ولن أصب فيها دلوا أبدا، يعني النخل، فألحقني بهم، فأبى أن يقتله فقتله غيره. واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه.
العاشرة: وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما. وقد قيل: للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا. ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة أحد بني عمرو بن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبدالله بن جحش؛ فالله أعلم. قال: أبو عمر: وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » [ الأنفال: 41 ] الآية. وكان عبدالله بن جحش قد خمس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله؛ وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه: ( اهتز لموته عرش الرحمن ) يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له. وقال ابن القاسم عن مالك: حدثني يحيى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبلها. قال مالك: ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.
قلت: الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير: سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبدالأشهل، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبدالله بن سهل، وكلاهما أيضا من بني عبدالأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار ثلاثة: منبه بن عثمان ابن عبيد بن السباق بن عبدالدار، أصابه سهم مات منه بمكة. وقد قيل: إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق. ونوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، وغلب المسلمون على جسده؛ فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال: ( لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ) فخلى بينهم وبينه. وعمرو بن عبد ودّ الذي قتله علّي مبارزة، وقد تقدم. واستشهد يوم قريظة من المسلمين خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج؛ طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته. ومات في الحصار أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي، أخو عكاشة بن محصن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم. ولم يصب غير هذين، ولم يغز كفار قريش المؤمنين بعد الخندق. وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا؛ وذلك قول الله عز وجل: « وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا » [ الأحزاب: 25 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها، وذلك قبل أن ينزل: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » [ البقرة: 239 ] خرجه النسائي أيضا. وقد مضت هذه المسألة في « طه » . وقد ذكرنا في هذه الغزاة أحكاما كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر. ثم نرجع إلى أول الآي وهي تسع عشرة آية تضمنت ما ذكرناه.
قوله تعالى: « إذ جاءتكم جنود » يعني الأحزاب. « فأرسلنا عليهم ريحا » قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم. قال: والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ. وقال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي لنصرة النبّي صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن محوة لا تسري بليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وكانت هذه الريح معجزة للنبّي الله عليه وسلم؛ لأن النبّي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبا منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها. « وجنودا لم تروها » وقرئ بالياء؛ أي لم يرها المشركون. قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إلي فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب. « وكان الله بما تعملون بصيرا » وقرئ: « يعملون » بالياء على الخبر، وهي قراءة أبي عمرو. الباقون بالتاء؛ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
===============
الآية: 10 ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون )
قوله تعالى: « إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم » « إذ » في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا « وإذ قالت طائفة منهم » . « من فوقكم » يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر، وعيينه بن حصن في أهل نجد، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. « ومن أسفل منكم » يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. « وإذ زاغت الأبصار » أي شخصت. وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول. « وبلغت القلوب الحناجر » أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحنجور ( بزيادة النون ) حرف الحلق. « وتظنون بالله الظنونا » قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القراء في قوله تعالى: « الظنونا، والرسولا، والسبيلا » آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال:
نحن جلبنا القرح القوافلا تستنفر الأواخر الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى: « ولأوضعوا خلالكم » [ التوبة: 47 ] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ. « الظنون. والسبيل. والرسول » بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطهن في المصحف بألف لأن الألف التي في « أطعنا » والداخلة في أول « الرسول. والظنون. والسبيل » كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هواز. وفيه حجة أخرى: أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط؛ فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ، وأنها كالألف في « سحران » وفي « فطر السموات والأرض » وفي « وعدنا موسى » وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط. وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا. وقرئ على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف. أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف. ولقيت الرجلا؛ بألف في الحالتين كلتيهما. قال الشاعر:
أسائلة عميرة عن أبيها خلال الجيش تعترف الركابا
فأثبت الألف في « الركاب » بناء على هذه اللغة. وقال الآخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباري: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقويها.
الآية: 11 ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )
قوله تعالى: « هنالك ابتلي المؤمنون » « هنا » للقريب من المكان. و « هنالك » للبعيد. و « هناك » للوسط. ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. « وزلزلوا زلزالا شديدا » أي حركوا تحريكا. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا. والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدري « زلزالا » بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و « هنالك » يجوز أن يكون العامل فيه « ابتلي » فلا يوقف على « هنالك » . ويجوز أن يكون « وتظنون بالله الظنونا » فيوقف على « هنالك » .
الآية: 12 ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )
قوله تعالى: « وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض » أي شك ونفاق. « ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا » أي باطلا من القول. وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائي؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الآية: 13 ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا )
قوله تعالى: « وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا » الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
و « يثرب » هي المدينة؛ وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السهيلّي: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. « لا مقام لكم » بفتح الميم قراءة العامة. وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة: بضم الميم؛ يكون مصدرا من أقام يقيم؛ أي لا إقامة، أو موضعا يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه. « فارجعوا » أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبّي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون.
قوله تعالى: « ويستأذن فريق منهم النبي » في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة ابن الحارث، في قول ابن عباس. وقال يزيد بن رومان: قال ذلك أوس بن قيظّي عن ملأ من قومه. « يقولون إن بيوتنا عورة » أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدّو. وقيل: ممكنة للسراق لخلوها من الرجال. يقال: دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عور المكان عورا فهو عور. وبيوت عورة. وأعور فهو معور. وقيل: عورة ذات عورة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة؛ قاله الهروي. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي: « عورة » بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن؛ قال الشاعر:
متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
الجوهري: والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل. المهدوي: ومن كسر الواو في « عورة » فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عور؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يعل فيقال: عار؛ كيوم راح، ورجل مال؛ أصلهما روح ومول. ثم قال تعالى « وما هي بعورة » تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه. « إن يريدون إلا فرارا » أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل. وقيل: من الدين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سلمة؛ وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى: « إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا » [ آل عمران: 122 ] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: والله ما ساءنا ما كنا هممنا به؛ إذ الله ولينا. وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن قيظّي. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه.
الآية: 14 ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا )
قوله تعالى: « ولو دخلت عليهم من أقطارها » وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قطر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القتر لغة في القطر. « ثم سئلوا الفتنة لآتوها » أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمّد؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك، فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا. وفيه دليل على قراءة المّد، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله: « ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار » ؛ فهذا يدل على « لأتوها » مقصورا. وفي « الفتنة » هنا وجهان: أحدهما: سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. « وما تلبثوا بها إلا يسيرا » أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا؛ قال السدي والقتيبّي والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
الآية: 15 ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا )
قوله تعالى: « ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل » أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلّن. وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. « وكان عهد الله مسؤولا » أي مسؤولا عنه. قال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا النبّي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربك ما شئت. فقال: ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم ) فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبّي الله؟ قال: ( لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ) . فذلك قوله تعالى: « وكان عهد الله مسؤولا » أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.
الآية: 16 ( قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا )
قوله تعالى: « قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل » أي من حضر أجله مات أو قتل؛ فلا ينفع الفرار. « وإذا لا تمتعون إلا قليلا » أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم؛ وكل ما هو آت فقريب. وروى الساجي عن يعقوب الحضرمّي « وإذا لا يمتعون » بياء. وفي بعض الروايات « وإذا لا تمتعوا » نصب بـ « إذا » والرفع بمعنى ولا تمتعون. و « إذا » ملغاة، ويجوز إعمالها. فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء. فإذا كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذا أكرمك.
الآية: 17 ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا )
قوله تعالى: « قل من ذا الذي يعصمكم من الله » أي يمنعكم منه. « إن أراد بكم سوءا » أي هلاكا. « أو أراد بكم رحمة » أي خيرا ونصرا وعافية. « ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا » أي لا قريبا ينفعهم ولا ناصرا ينصرهم.
===============
الآية: 10 ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون )
قوله تعالى: « إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم » « إذ » في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا « وإذ قالت طائفة منهم » . « من فوقكم » يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر، وعيينه بن حصن في أهل نجد، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. « ومن أسفل منكم » يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. « وإذ زاغت الأبصار » أي شخصت. وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول. « وبلغت القلوب الحناجر » أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحنجور ( بزيادة النون ) حرف الحلق. « وتظنون بالله الظنونا » قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القراء في قوله تعالى: « الظنونا، والرسولا، والسبيلا » آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال:
نحن جلبنا القرح القوافلا تستنفر الأواخر الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى: « ولأوضعوا خلالكم » [ التوبة: 47 ] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ. « الظنون. والسبيل. والرسول » بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطهن في المصحف بألف لأن الألف التي في « أطعنا » والداخلة في أول « الرسول. والظنون. والسبيل » كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هواز. وفيه حجة أخرى: أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط؛ فلما عمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ، وأنها كالألف في « سحران » وفي « فطر السموات والأرض » وفي « وعدنا موسى » وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط. وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا. وقرئ على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف. أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف. ولقيت الرجلا؛ بألف في الحالتين كلتيهما. قال الشاعر:
أسائلة عميرة عن أبيها خلال الجيش تعترف الركابا
فأثبت الألف في « الركاب » بناء على هذه اللغة. وقال الآخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباري: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقويها.
الآية: 11 ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )
قوله تعالى: « هنالك ابتلي المؤمنون » « هنا » للقريب من المكان. و « هنالك » للبعيد. و « هناك » للوسط. ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. « وزلزلوا زلزالا شديدا » أي حركوا تحريكا. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا. والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدري « زلزالا » بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و « هنالك » يجوز أن يكون العامل فيه « ابتلي » فلا يوقف على « هنالك » . ويجوز أن يكون « وتظنون بالله الظنونا » فيوقف على « هنالك » .
الآية: 12 ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )
قوله تعالى: « وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض » أي شك ونفاق. « ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا » أي باطلا من القول. وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائي؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الآية: 13 ( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا )
قوله تعالى: « وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا » الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
و « يثرب » هي المدينة؛ وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السهيلّي: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. « لا مقام لكم » بفتح الميم قراءة العامة. وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة: بضم الميم؛ يكون مصدرا من أقام يقيم؛ أي لا إقامة، أو موضعا يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه. « فارجعوا » أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبّي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون.
قوله تعالى: « ويستأذن فريق منهم النبي » في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة ابن الحارث، في قول ابن عباس. وقال يزيد بن رومان: قال ذلك أوس بن قيظّي عن ملأ من قومه. « يقولون إن بيوتنا عورة » أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدّو. وقيل: ممكنة للسراق لخلوها من الرجال. يقال: دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عور المكان عورا فهو عور. وبيوت عورة. وأعور فهو معور. وقيل: عورة ذات عورة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة؛ قاله الهروي. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي: « عورة » بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن؛ قال الشاعر:
متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
الجوهري: والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل. المهدوي: ومن كسر الواو في « عورة » فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عور؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يعل فيقال: عار؛ كيوم راح، ورجل مال؛ أصلهما روح ومول. ثم قال تعالى « وما هي بعورة » تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه. « إن يريدون إلا فرارا » أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل. وقيل: من الدين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سلمة؛ وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى: « إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا » [ آل عمران: 122 ] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: والله ما ساءنا ما كنا هممنا به؛ إذ الله ولينا. وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن قيظّي. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه.
الآية: 14 ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا )
قوله تعالى: « ولو دخلت عليهم من أقطارها » وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قطر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القتر لغة في القطر. « ثم سئلوا الفتنة لآتوها » أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمّد؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك، فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا. وفيه دليل على قراءة المّد، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله: « ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار » ؛ فهذا يدل على « لأتوها » مقصورا. وفي « الفتنة » هنا وجهان: أحدهما: سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. « وما تلبثوا بها إلا يسيرا » أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا؛ قال السدي والقتيبّي والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
الآية: 15 ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا )
قوله تعالى: « ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل » أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلّن. وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. « وكان عهد الله مسؤولا » أي مسؤولا عنه. قال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا النبّي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربك ما شئت. فقال: ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم ) فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبّي الله؟ قال: ( لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ) . فذلك قوله تعالى: « وكان عهد الله مسؤولا » أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.
الآية: 16 ( قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا )
قوله تعالى: « قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل » أي من حضر أجله مات أو قتل؛ فلا ينفع الفرار. « وإذا لا تمتعون إلا قليلا » أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم؛ وكل ما هو آت فقريب. وروى الساجي عن يعقوب الحضرمّي « وإذا لا يمتعون » بياء. وفي بعض الروايات « وإذا لا تمتعوا » نصب بـ « إذا » والرفع بمعنى ولا تمتعون. و « إذا » ملغاة، ويجوز إعمالها. فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء. فإذا كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذا أكرمك.
الآية: 17 ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا )
قوله تعالى: « قل من ذا الذي يعصمكم من الله » أي يمنعكم منه. « إن أراد بكم سوءا » أي هلاكا. « أو أراد بكم رحمة » أي خيرا ونصرا وعافية. « ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا » أي لا قريبا ينفعهم ولا ناصرا ينصرهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
===============
الآية: 18 ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا )
قوله تعالى: « قد يعلم الله المعوقين منكم » أي المعترضين منكم لأن يصدوا الناس عن النبّي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه. وعوق، على التكثير « والقائلين لإخوانهم هلم إلينا » على لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقولون: « هلموا » للجماعة، وهلمي للمرأة؛ لأن الأصل: « ها » التي للتنبيه ضمت إليها « لم » ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح. ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف. ومعنى « هلم » أقبل؛ وهؤلاء طائفتان؛ أي منكم من يثبط ويعوق. والعوق المنع والصرف؛ يقال: عاقه يعوقه عوقا، وعوقه واعتاقه بمعنى واحد. قال مقاتل: هم عبدالله بن أبي وأصحابه المنافقون. « والقائلين لإخوانهم هلم » فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون؛ قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا. الثاني: أنهم اليهود من بني قريظة؛ قالوا لإخوانهم من المنافقين: هلم إلينا؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. والثالث: ما حكاه ابن زيد: أن رجلا من أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؛ فقال أخوه - وكان من أمه وأبيه - : هلم إلّي، قد تبع بك وبصاحبك؛ أي قد أحيط بك وبصاحبك. فقال له: كذبت، والله لأخبرنه بأمرك؛ وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: « قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا » . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. ولفظه: قال ابن زيد هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبّي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ؛ فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك، والذي تحلف به لا يستقل بها محمد أبدا. فقال: كذبت. فذهب إلى النبّي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية. « ولا يأتون البأس إلا قليلا » خوفا من الموت. وقيل: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة.
الآية: 19 ( أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا )
قوله تعالى: « أشحة عليكم » أي بخلاء عليكم؛ أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله؛ قال مجاهد وقتادة. وقيل: بالقتال معكم. وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها؛ قاله السدي. وانتصب على الحال. قال الزجاج: ونصبه عند الفراء من أربع جهات: إحداها: أن يكون على الذم؛ ويجوز أن يكون عنده نصبا بمعنى يعوقون أشحة. ويجوز أن يكون التقدير: والقائلين أشحة. ويجوز عنده « ولا يأتون البأس إلا قليلا » أشحة؛ أي أنهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة. النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه « المعوقين » ولا « القائلين » ؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول. ابن الأنباري: « إلا قليلا » غير تام؛ لأن « أشحة » متعلق بالأول، فهو ينتصب من أربعة أوجه: أحدها: أن تنصبه على القطع من « المعوقين » كأنه قال: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين. ويجوز أن يكون منصوبا على القطع من « القائلين » أي وهم أشحة. ويجوز أن تنصبه على القطع مما في « يأتون » ؛ كأنه قال: ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء. ويجوز أن تنصب « أشحة » على الذّم. فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله: « إلا قليلا » . « أشحة عليكم » وقف حسن. ومثله « أشحة على الخير » حال من المضمر في « سلقوكم » وهو العامل فيه. « فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت » وصفهم بالجبن؛ وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محددا بصره، وربما غشي عليه. وفي « الخوف » وجهان: أحدهما: من قتال العدو إذا أقبل؛ قال السّدي. الثاني: الخوف من النبّي صلى الله عليه وسلم إذا غلب؛ قاله ابن شجرة. « رأيتهم ينظرون إليك » خوفا من القتال على القول الأول. ومن النبّي صلى الله عليه وسلم على الثاني. « تدور أعينهم » لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة. وقيل: لشّدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من كل جهة. « فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد » وحكى الفراء « صلقوكم » بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. وأصل الصلق الصوت؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة ) . قال الأعشى:
فيهم المجد والسماحة والنجـ ـدة فيهم والخاطب السلاق
قال قتادة: ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: هذا قول حسن؛ لأن بعده « أشحة على الخير » وقيل: المعنى بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم. وقال القتبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد السلق: الأذى. ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقنا هوازنا بنواهل حتى انحنينا
« أشحة على الخير » أي على الغنيمة؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السّدي. « أولئك لم يؤمنوا » يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان؛ والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكفر. « فأحبط الله أعمالهم » أي لم يثبتهم عليها؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها. « وكان ذلك على الله يسيرا » يحتمل وجهين: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هينا. الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هينا.
الآية: 20 ( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا )
قوله تعالى: « يحسبون الأحزاب لم يذهبوا » أي لجبنهم؛ يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا، ولكنهم لم يتباعدوا في السير. « وإن يأت الأحزاب » أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال. « يودوا لو أنهم بادون في الأعراب » تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر. وقرأ طلحة بن مصرف « لو أنهم بدى في الأعراب » ؛ يقال: باد وبدى؛ مثل غاز وغزى. ويمد مثل صائم وصوام. بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية. وهي البداوة والبداوة؛ بالكسر والفتح. وأصل الكلمة من البدو وهو الظهور. « يسألون » وقرأ يعقوب في رواية رويس « يتساءلون عن أنبائكم » أي عن أخبار النبّي صلى الله عليه وسلم. يتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه، أما غلب أبو سفيان وأحزابه! أي يوّدوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم. وقيل: أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين، وهل أصيبوا. وقيل: كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين. « ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا » أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة؛ ولو كان ذلك لله لكان قليله كثيرا.
الآية: 21 ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )
قوله تعالى: « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » هذا عتاب للمتخلفين عن القتال؛ أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق. والأسوة القدوة. وقرأ عاصم « أسوة » بضم الهمزة. الباقون بالكسر؛ وهما لغتان. والجمع فيهما واحد عند الفراء. والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة: الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء؛ فيقولون كسوة وكسا، ولحية ولحى. الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان. والجمع أسى وإسى. وروى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » قال: في جوع النبّي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال: تفرد به عقبة بن حسان عن مالك، ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد.
قوله تعالى « أسوة » الأسوة القدوة. والأسوة ما يتأسى به؛ أي يتعزى به. فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله؛ فلقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يلف إلا صابرا محتسبا، وشاكرا راضيا. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث غريب. وقال صلى الله عليه وسلم لما شج: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) وقد تقدم. « لمن كان يرجو الله واليوم الآخر » قال سعيد بن جبير: المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال. وقيل: أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر. ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب « يرجو » إلا بغير ألف إذا كان لواحد؛ لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد. « وذكر الله كثيرا » خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه. وقيل: إن « لمن » بدل من قوله: « لكم » ولا يجيزه البصريون؛ لأن الغائب لا يبدل من المخاطب، وإنما اللام من « لمن » متعلقة بـ « حسنة » ، و « أسوة » اسم « كان » و « لكم » الخبر. واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون؛ عطفا على ما تقدم من خطابهم. الثاني: المؤمنون؛ لقوله: « لمن كان يرجو الله واليوم الآخر »
واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام، هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب؛ على قولين: أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب. الثاني: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب. ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
الآية: 22 ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )
قوله تعالى: « ولما رأى المؤمنون الأحزاب » ومن العرب من يقول: « راء » على القلب. « قالوا هذا ما وعدنا الله » يريد قوله تعالى في سورة البقرة: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » [ البقرة: 214 ] الآية. فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق فقالوا: « هذا ما وعدنا الله ورسول » ، قال قتادة. وقول ثان رواه كثير بن عبدالله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال: ( أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها - يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى - فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعد صادق، إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر. فطلعت الأحزاب فقال المومنون: « هذا ما وعدنا الله ورسوله » . ذكره الماوردي. و « ما وعدنا » إن جعلت « ما » بمعنى الذي فالهاء محذوفة. وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد « وما زادهم إلا إيمانا وتسليما » قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. وقال علي بن سليمان: « رأى » يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب وتسليما، قال الحسن. ولو قال: ما زادوهم لجاز. ولما أشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق، قام عليه السلام على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي، وتوقع ما وعده الله من النصر وقال: ( من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة ) فلم يجبه أحد. وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد، فنظر إلى جانبه وقال: ( من هذا ) ؟ فقال حذيفة. فقال: ( ألم تسمع كلامي منذ الليلة ) ؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، منعني أن أجيبك الضر والقر. قال: ( انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني ) . فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: ( يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي ) فنزل جبريل وقال: ( إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك ) فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: ( شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي ) . وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك قال حذيفة: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصباء. وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش: النجاء النجاء! وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس. وتفرقت الأحزاب، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المدينة وبه من الشعث ما شاء الله، فجاءته فاطمة بغسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال: ( وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء، ما زلت أتبعهم حتى، جاوزت بهم الروحاء - ثم قال - انهض إلى بني قريظة ) . وقال أبو - سفيان: ما زلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحاء.
===============
الآية: 18 ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا )
قوله تعالى: « قد يعلم الله المعوقين منكم » أي المعترضين منكم لأن يصدوا الناس عن النبّي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه. وعوق، على التكثير « والقائلين لإخوانهم هلم إلينا » على لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقولون: « هلموا » للجماعة، وهلمي للمرأة؛ لأن الأصل: « ها » التي للتنبيه ضمت إليها « لم » ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح. ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف. ومعنى « هلم » أقبل؛ وهؤلاء طائفتان؛ أي منكم من يثبط ويعوق. والعوق المنع والصرف؛ يقال: عاقه يعوقه عوقا، وعوقه واعتاقه بمعنى واحد. قال مقاتل: هم عبدالله بن أبي وأصحابه المنافقون. « والقائلين لإخوانهم هلم » فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون؛ قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا. الثاني: أنهم اليهود من بني قريظة؛ قالوا لإخوانهم من المنافقين: هلم إلينا؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. والثالث: ما حكاه ابن زيد: أن رجلا من أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؛ فقال أخوه - وكان من أمه وأبيه - : هلم إلّي، قد تبع بك وبصاحبك؛ أي قد أحيط بك وبصاحبك. فقال له: كذبت، والله لأخبرنه بأمرك؛ وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: « قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا » . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. ولفظه: قال ابن زيد هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبّي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ؛ فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك، والذي تحلف به لا يستقل بها محمد أبدا. فقال: كذبت. فذهب إلى النبّي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية. « ولا يأتون البأس إلا قليلا » خوفا من الموت. وقيل: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة.
الآية: 19 ( أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا )
قوله تعالى: « أشحة عليكم » أي بخلاء عليكم؛ أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله؛ قال مجاهد وقتادة. وقيل: بالقتال معكم. وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها؛ قاله السدي. وانتصب على الحال. قال الزجاج: ونصبه عند الفراء من أربع جهات: إحداها: أن يكون على الذم؛ ويجوز أن يكون عنده نصبا بمعنى يعوقون أشحة. ويجوز أن يكون التقدير: والقائلين أشحة. ويجوز عنده « ولا يأتون البأس إلا قليلا » أشحة؛ أي أنهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة. النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه « المعوقين » ولا « القائلين » ؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول. ابن الأنباري: « إلا قليلا » غير تام؛ لأن « أشحة » متعلق بالأول، فهو ينتصب من أربعة أوجه: أحدها: أن تنصبه على القطع من « المعوقين » كأنه قال: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين. ويجوز أن يكون منصوبا على القطع من « القائلين » أي وهم أشحة. ويجوز أن تنصبه على القطع مما في « يأتون » ؛ كأنه قال: ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء. ويجوز أن تنصب « أشحة » على الذّم. فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله: « إلا قليلا » . « أشحة عليكم » وقف حسن. ومثله « أشحة على الخير » حال من المضمر في « سلقوكم » وهو العامل فيه. « فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت » وصفهم بالجبن؛ وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محددا بصره، وربما غشي عليه. وفي « الخوف » وجهان: أحدهما: من قتال العدو إذا أقبل؛ قال السّدي. الثاني: الخوف من النبّي صلى الله عليه وسلم إذا غلب؛ قاله ابن شجرة. « رأيتهم ينظرون إليك » خوفا من القتال على القول الأول. ومن النبّي صلى الله عليه وسلم على الثاني. « تدور أعينهم » لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة. وقيل: لشّدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من كل جهة. « فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد » وحكى الفراء « صلقوكم » بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. وأصل الصلق الصوت؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة ) . قال الأعشى:
فيهم المجد والسماحة والنجـ ـدة فيهم والخاطب السلاق
قال قتادة: ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: هذا قول حسن؛ لأن بعده « أشحة على الخير » وقيل: المعنى بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم. وقال القتبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد السلق: الأذى. ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقنا هوازنا بنواهل حتى انحنينا
« أشحة على الخير » أي على الغنيمة؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السّدي. « أولئك لم يؤمنوا » يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان؛ والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكفر. « فأحبط الله أعمالهم » أي لم يثبتهم عليها؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها. « وكان ذلك على الله يسيرا » يحتمل وجهين: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هينا. الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هينا.
الآية: 20 ( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا )
قوله تعالى: « يحسبون الأحزاب لم يذهبوا » أي لجبنهم؛ يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا، ولكنهم لم يتباعدوا في السير. « وإن يأت الأحزاب » أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال. « يودوا لو أنهم بادون في الأعراب » تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر. وقرأ طلحة بن مصرف « لو أنهم بدى في الأعراب » ؛ يقال: باد وبدى؛ مثل غاز وغزى. ويمد مثل صائم وصوام. بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية. وهي البداوة والبداوة؛ بالكسر والفتح. وأصل الكلمة من البدو وهو الظهور. « يسألون » وقرأ يعقوب في رواية رويس « يتساءلون عن أنبائكم » أي عن أخبار النبّي صلى الله عليه وسلم. يتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه، أما غلب أبو سفيان وأحزابه! أي يوّدوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم. وقيل: أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين، وهل أصيبوا. وقيل: كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين. « ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا » أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة؛ ولو كان ذلك لله لكان قليله كثيرا.
الآية: 21 ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )
قوله تعالى: « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » هذا عتاب للمتخلفين عن القتال؛ أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق. والأسوة القدوة. وقرأ عاصم « أسوة » بضم الهمزة. الباقون بالكسر؛ وهما لغتان. والجمع فيهما واحد عند الفراء. والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة: الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء؛ فيقولون كسوة وكسا، ولحية ولحى. الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان. والجمع أسى وإسى. وروى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة » قال: في جوع النبّي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال: تفرد به عقبة بن حسان عن مالك، ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد.
قوله تعالى « أسوة » الأسوة القدوة. والأسوة ما يتأسى به؛ أي يتعزى به. فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله؛ فلقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يلف إلا صابرا محتسبا، وشاكرا راضيا. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث غريب. وقال صلى الله عليه وسلم لما شج: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) وقد تقدم. « لمن كان يرجو الله واليوم الآخر » قال سعيد بن جبير: المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال. وقيل: أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر. ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب « يرجو » إلا بغير ألف إذا كان لواحد؛ لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد. « وذكر الله كثيرا » خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه. وقيل: إن « لمن » بدل من قوله: « لكم » ولا يجيزه البصريون؛ لأن الغائب لا يبدل من المخاطب، وإنما اللام من « لمن » متعلقة بـ « حسنة » ، و « أسوة » اسم « كان » و « لكم » الخبر. واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون؛ عطفا على ما تقدم من خطابهم. الثاني: المؤمنون؛ لقوله: « لمن كان يرجو الله واليوم الآخر »
واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام، هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب؛ على قولين: أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب. الثاني: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب. ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
الآية: 22 ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )
قوله تعالى: « ولما رأى المؤمنون الأحزاب » ومن العرب من يقول: « راء » على القلب. « قالوا هذا ما وعدنا الله » يريد قوله تعالى في سورة البقرة: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » [ البقرة: 214 ] الآية. فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق فقالوا: « هذا ما وعدنا الله ورسول » ، قال قتادة. وقول ثان رواه كثير بن عبدالله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال: ( أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها - يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى - فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعد صادق، إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر. فطلعت الأحزاب فقال المومنون: « هذا ما وعدنا الله ورسوله » . ذكره الماوردي. و « ما وعدنا » إن جعلت « ما » بمعنى الذي فالهاء محذوفة. وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد « وما زادهم إلا إيمانا وتسليما » قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. وقال علي بن سليمان: « رأى » يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب وتسليما، قال الحسن. ولو قال: ما زادوهم لجاز. ولما أشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق، قام عليه السلام على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي، وتوقع ما وعده الله من النصر وقال: ( من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة ) فلم يجبه أحد. وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد، فنظر إلى جانبه وقال: ( من هذا ) ؟ فقال حذيفة. فقال: ( ألم تسمع كلامي منذ الليلة ) ؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، منعني أن أجيبك الضر والقر. قال: ( انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني ) . فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: ( يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي ) فنزل جبريل وقال: ( إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك ) فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: ( شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي ) . وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك قال حذيفة: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصباء. وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش: النجاء النجاء! وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس. وتفرقت الأحزاب، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المدينة وبه من الشعث ما شاء الله، فجاءته فاطمة بغسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال: ( وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء، ما زلت أتبعهم حتى، جاوزت بهم الروحاء - ثم قال - انهض إلى بني قريظة ) . وقال أبو - سفيان: ما زلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحاء.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
=============
الآيات: 23 - 24 ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما )
قوله تعالى: « من المؤمنين رجال » رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن « صدقوا » في موضع النعت. « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » « من » في موضع رفع بالابتداء. وكذا « ومنهم من ينتظر » والخبر في المجرور. والنحب: النذر والعهد، تقول منه: نحبت انحب، بالضم. قال الشاعر:
وإذا نحبت كلب على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر:
قد نحب المجد علينا نحبا
وقال آخر:
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمي أنس بن النضر - سميت به - والم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة! أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » لفظ الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » الآية: منهم طلحة بن عبيدالله ثبت مع رسول،الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت، يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوجب طلحة الجنة ) . وفي الترمذي عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأل فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أين السائل عمن قضى نحبه ) ؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: ( هذا ممن قضى نحبه ) قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير. وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له، ثم تلا هذه الآية: « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه - إلى - تبديلا » ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) . وقيل: النحب الموت، أي مات على ما عاهد عليه، عن ابن عباس. والنحب أيضا الوقت والمدة يقال: قضى فلان نحبه إذا مات. وقال ذو الرمة:
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر
والنحب أيضا الحاجة والهمة، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب، وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل، مثل حمزة وسعد بن معاذ وانس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا » . قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل، رضي الله عنهم. « ليجزي الله الصادقين بصدقهم » أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. « ويعذب المنافقين » في الآخرة « إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما » أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة، لأن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. « إن الله كان غفورا رحيما »
الآية: 25 ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )
قوله تعالى: « ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا » قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت « الذين كفروا » ها هنا أبو سفيان وعيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة إلى نجد « وكفى الله المؤمنين القتال » بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة - بالرعب. « وكان الله قويا » أمره « عزيزا » لا يغلب.
الآيات: 26 - 27 ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا )
قوله تعالى: « وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم » يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان وهم بنو قريظة وقد مضى خبرهم « من صياصيهم » أي حصونهم واحدها صيصة. قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة: صيصة. قال، دريد بن الممدد:
فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر قرونها، لأنها تمتنع بها. وربما كانت، تركب في، الرماح مكان الأسنة، ويقال: جذ الله صئصئه، أي أصله « وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون » وهم الرجال. « وتأسرون فريقا » وهم النساء والذرية، على ما تقدم. « وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها » بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال الحسن: هي فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. « وكان الله على كل شيء قديرا » فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، قال محمد بن إسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، قال النقاش. وقيل: « وكان الله على كل شيء » مما وعدكموه « قديرا » لا ترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال تأسرون وتأسرون ( بكسر السين وضمها ) حكاه الفراء.
الآيات: 28 - 29 ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها النبي » قال علماؤنا: هذه الآية متصلة: بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: أذينه بغيرة بعضهن على بعض. وقيل: أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى،: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له. وقيل: إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير فخيرهن، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر ابن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا. قال: - فقال والله لأقولن شيئا اضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجدت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده !! فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية: » يا أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما « . قال: فبدأ بعائشة فقال: ( يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسول والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: ( يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قال ثم قال: ( إن الله يقول: » يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما « فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت. قال: هذا حديث حسن صحيح قال العلماء: وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.»
قوله تعالى: « قل لأزواجك » كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها. فأولهن: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسمعت نادبته تقول حين مات: واهند بن هنداه، واربيب رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين، وقيل: عشر. أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها.
ومنهن: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديما وبايعت، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، وأسلم أيضا، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل: مات بالحبشة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فتزوجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين.
ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت مسماة لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله، دعني أسلها من، جبير سلا رفيقا، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها. وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين.
ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها. قال الواقدي: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة.. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عمر ابنها صغيرا، وتوفيت في سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ثنتين وستين، والأول أصح. وصلى، عليها سعيد ابن زيد. وقيل أبو هريرة. وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
ومنهن، أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين. وقال الدارقطني: كانت أم حبيبة تحت عبيدالله بن جحش فمات بأرض، الحبشة على النصرانية، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة.
ومنهن: زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان اسم أبيها برة، فقالت: يا رسول الله، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين.
ومنهن: زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبدالله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين، لإطعامها إياهم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيع بن شماس فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان اسم برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين. وقيل: سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين.
ومنهن: صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها.. وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة اثنتين وخمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوجها في سنة ست، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر. قال أبو الفرج الجوزي: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها.
قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبدالرحمن السهلي في عداد أزواج النبي صلى.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين. وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين.
فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن. فأما من تزجهن ولم يدخل بهن فمنهن: الكلابية. واختلفوا في اسمها، فقيل فاطمة. وقيل عمرة. وقيل العالية. قال الزهري: تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقية. تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين.
ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. وفي البخاري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين. وفي لفظ آخر قال أبو أسيد: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية، فلما دخل عليها قال: ( هبي لي نفسك ) فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك فقال: ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال: ( يا أبا أسيد، اكسها رازقيين وألحقها بأهلها ) .
ومنهن: قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حضرموت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده، فارتد وارتدت معه. ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيرها ولا حجبها. ولقد برأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها.
ومنهن: أم شريك الأزدية، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها. وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم.
ومنهن: خولة بنت الهزيل بن هبيرة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلكت قبل أن تصل إليه.
ومنهن: شراف بنت خليفه، أخت دحية، تزوجها ولم يدخل بها.
ومنهن ليلى بنت الخطيم، أخت قيس، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها.
ومنهن: عمرة بنت معاوية الكندية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي: تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات.
ومنهن: ابنة جندب بن ضمرة الجندعية. قال بعضهم: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك.
ومنهن: الغفارية. قال بعضهم: تزوج امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال: ( الحقي بأهلك ) . ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي، عقد عليهن ولم يدخل بهن، صلى الله عليه وسلم
فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن، ومن وهبت له نفسها:
فمنهن: أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني مرأة مصبية واعتذرت إليه فعذرها.
ومنهن: ضباعة بنت عامر.
ومنهن: صفية بنت بشامة بن نضلة، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت: زوجي. فأرسلها، فلعنتها بنو تميم، قال ابن عباس.
ومنهن: أم شريك. وقد تقدم ذكرها.
ومنهن: ليلى بنت الخطيم، وقد تقدم ذكرها.
ومنهن: خولة بنت حكم بن أمية، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون.
ومنهن: جمرة بنت الحارث بن عوف المري، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
ومنهن: سودة القرشية، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية. فقالت: أخاف أن يضغو صبيتي عند رأسك. فحمدها ودعا لها.
ومنهن: امرأة لم يذكر اسمها. قال مجاهد: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: أستأمر أبي. فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان له من السراري سريتان: مارية القبطية، وريحانة، في قول قتادة. وقال غيره: كان له أربع: مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
قوله تعالى: « إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها » « إن » شرط، وجوابه « فتعالين » ، فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير.
قوله تعالى: « فتعالين » هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعال بمعنى أقبل، وضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم « أمتعكن » وقرئ « أمتعُكن » بضم العين. وكذا « أسرحكن » بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل: هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها.
اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأول: أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة. ومنهن من قال: إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق، ذكره الحسن وقتادة. ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.
قلت: القول الأول أصح، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية: فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق، لذلك قال: ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث. ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة. فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة، أو النكاح. والله أعلم.
واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن علي وزيد أيضا: إن أختارت زوجها فواحدة بائنة، وهو قول الحسن البصري والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن. والصحيح الأول، لقول عائشة: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا أختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي. وروي عن علي أنها إذا أختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وروي عن زيد: بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لأن الملك إنما يكون بذلك. وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا أختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعا، وهو قول عبدالعزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأول قول مالك في المشهور. وروى ابن خويز مندد. عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجهم. قال سحنون: وعليه أكثر أصحابنا.
وتحصيل مذهب مالك: أن المخيرة إذا أختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن أختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته، لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير: « فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا » فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ومن جهه المعنى أن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا أختارت نفسها، ولا يملك منها شيئا، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا أختارته، فإذا أختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما. وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة، لأنها تبين في الحال.
واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار، فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى أفترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها، وعلى هذا أكثر الفقهاء. وقال مرة: لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى: « فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » [ النساء: 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها، فصار كالعقد بينهما، فإن قبلته وإلا سقط، كالذي يقول: قد وهبت لك أو بايعتك، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا محال. هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها.
قلت: وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة: ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح، وخرجه البخاري، وصححه الترمذي. وقد تقدم في أول الباب. وهو حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن أفترقا من مجلسهما، روي هذا عن الحسن والزهري، وقال مالك في إحدى روايتيه. قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا الباب، أتباع السنة في عائشة في هذا الحديث، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبيها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأم. قال المروزي. هذا أصح الأقاويل عندي، وقال ابن المنذر والطحاوي.
الآيات: 30 - 31 ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما )
قال العلماء: لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن: « لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج » [ الأحزاب: 52 ] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » [ الأحزاب: 53 ] وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة - والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك - يضاعف لها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة - أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر. وقيل: لما كان أزوج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقيل، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: « إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة » [ الأحزاب: 57 ] . واختار هذا القول الكيا الطبري.
قال قوم: لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة. والعذاب بمعنى الحد، قال الله تعالى: « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين » [ النور: 2 ] . وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين، وقال أبو عبيدة: ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة. وضعفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان، له باللفظ تعلق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، قال ابن عطية. وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين « يضاعف ويضعف » قال: « يضاعف » للمرار الكثيرة. و « يضعف » مرتين. وقرأ « يضعف » لهذا. وقال أبو عبيدة: « يضاعف لها العذاب » يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من، أهل اللغة علمته، والمعنى في « يضاعف ويضعف » واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلي درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين. ويدل على هذا « نؤتها أجرها مرتين » ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر « آتهم ضعفين من العذاب » [ الأحزاب: 68 ] أي مثلن. وروى معمر عن قتادة « يضاعف لها العذاب ضعفين » قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين، لأنه قال: « نؤتها أجرها مرتين، » . فأما في الوصايا، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا، أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة، قال، الله تعالى: « فأولئك لهم جزاء الضعف » [ سبأ: 37 ] ولم يرد مثلا ولا مثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في « النور » الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن، والحمد لله.
قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ « يا نساء النبي » رفع بها صوته، فقيل له في ذلك فقال: ( أذكرهن العهد ) . قرأ الجمهور: « من يأت » بالياء. وكذلك « من يقنت » حملا على لفظ « من » . والقنوت الطاعة، وقد تقدم. وقرأ يعقوب: « من تأت » و « تقنت » بالتاء من فوق، حملا على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله « فاحشة مبينة » تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وودت. وقرأ ابن كثير « مبينة » بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: « يضاعف » بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة « يضاعف » بالنون المضمومة ونصب « العذاب » وهذه قراءة ابن محيصن. وهذه مفاعلة من واحد، كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائي « يضاعف » بالياء وفتح العين، « العذاب » رفعا. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كذ وابن عامر « نضعف » بالنون وكسر العين المشددة، « العذاب » نصبا. قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة، لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة. وهذا حسن، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا. وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به « ضعفين » هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدوة الدنيا عذاب الآخرة، على ما هي حال الناس عليه، بحكم حديث عبادة بن الصامت. وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة، ذكره النحاس.
الآية: 32 ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا )
قوله تعالى: « يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن » يعني في الفضل والشرف. وقال: « كأحد » ولم يقل كواحدة، لأن أحدا نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي، يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة، وقد تقدم في « آل عمران » الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال: « إن اتقيتن » أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن.
قوله تعالى: « فلا تخضعن بالقول » في موضع جزم بالنهي، إلا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه، أي لا تلن القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا. « فيطمع الذي في قلبه مرض » « فيطمع » بالنصب على جواب النهي. « الذي في قلبه مرض » أي شك ونفاق، عن قتادة والسدي. وقيل: تشوف الفجور، وهو الفسق والغزل، قال عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ « فيطمِع » بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطا، وأن يكون قرأ « فيطمَعِ » بفتح الميم وكسر العين بعطفه على « تخضعن » فهذا وجه جيد حسن. ويجوز « فيطمع » بمعنى فيطمع الخضوع أو القول. « وقلن قولا معروفا » قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
=============
الآيات: 23 - 24 ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما )
قوله تعالى: « من المؤمنين رجال » رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن « صدقوا » في موضع النعت. « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » « من » في موضع رفع بالابتداء. وكذا « ومنهم من ينتظر » والخبر في المجرور. والنحب: النذر والعهد، تقول منه: نحبت انحب، بالضم. قال الشاعر:
وإذا نحبت كلب على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر:
قد نحب المجد علينا نحبا
وقال آخر:
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمي أنس بن النضر - سميت به - والم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة! أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية « رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » لفظ الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه » الآية: منهم طلحة بن عبيدالله ثبت مع رسول،الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت، يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوجب طلحة الجنة ) . وفي الترمذي عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأل فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أين السائل عمن قضى نحبه ) ؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: ( هذا ممن قضى نحبه ) قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير. وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له، ثم تلا هذه الآية: « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه - إلى - تبديلا » ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) . وقيل: النحب الموت، أي مات على ما عاهد عليه، عن ابن عباس. والنحب أيضا الوقت والمدة يقال: قضى فلان نحبه إذا مات. وقال ذو الرمة:
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر
والنحب أيضا الحاجة والهمة، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب، وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل، مثل حمزة وسعد بن معاذ وانس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا » . قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل، رضي الله عنهم. « ليجزي الله الصادقين بصدقهم » أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. « ويعذب المنافقين » في الآخرة « إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما » أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة، لأن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. « إن الله كان غفورا رحيما »
الآية: 25 ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )
قوله تعالى: « ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا » قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت « الذين كفروا » ها هنا أبو سفيان وعيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة إلى نجد « وكفى الله المؤمنين القتال » بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة - بالرعب. « وكان الله قويا » أمره « عزيزا » لا يغلب.
الآيات: 26 - 27 ( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا )
قوله تعالى: « وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم » يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان وهم بنو قريظة وقد مضى خبرهم « من صياصيهم » أي حصونهم واحدها صيصة. قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة: صيصة. قال، دريد بن الممدد:
فجئت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر قرونها، لأنها تمتنع بها. وربما كانت، تركب في، الرماح مكان الأسنة، ويقال: جذ الله صئصئه، أي أصله « وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون » وهم الرجال. « وتأسرون فريقا » وهم النساء والذرية، على ما تقدم. « وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها » بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال الحسن: هي فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. « وكان الله على كل شيء قديرا » فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، قال محمد بن إسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، قال النقاش. وقيل: « وكان الله على كل شيء » مما وعدكموه « قديرا » لا ترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال تأسرون وتأسرون ( بكسر السين وضمها ) حكاه الفراء.
الآيات: 28 - 29 ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها النبي » قال علماؤنا: هذه الآية متصلة: بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: أذينه بغيرة بعضهن على بعض. وقيل: أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى،: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له. وقيل: إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير فخيرهن، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر ابن عبدالله قال: دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا. قال: - فقال والله لأقولن شيئا اضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجدت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده !! فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية: » يا أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما « . قال: فبدأ بعائشة فقال: ( يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسول والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: ( يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قال ثم قال: ( إن الله يقول: » يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما « فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت. قال: هذا حديث حسن صحيح قال العلماء: وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.»
قوله تعالى: « قل لأزواجك » كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها. فأولهن: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسمعت نادبته تقول حين مات: واهند بن هنداه، واربيب رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين، وقيل: عشر. أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها.
ومنهن: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديما وبايعت، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، وأسلم أيضا، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل: مات بالحبشة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فتزوجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين.
ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت مسماة لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله، دعني أسلها من، جبير سلا رفيقا، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها. وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين.
ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها. قال الواقدي: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة.. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عمر ابنها صغيرا، وتوفيت في سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ثنتين وستين، والأول أصح. وصلى، عليها سعيد ابن زيد. وقيل أبو هريرة. وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
ومنهن، أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين. وقال الدارقطني: كانت أم حبيبة تحت عبيدالله بن جحش فمات بأرض، الحبشة على النصرانية، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة.
ومنهن: زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان اسم أبيها برة، فقالت: يا رسول الله، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين.
ومنهن: زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبدالله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين، لإطعامها إياهم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيع بن شماس فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان اسم برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين. وقيل: سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين.
ومنهن: صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها.. وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة اثنتين وخمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوجها في سنة ست، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر. قال أبو الفرج الجوزي: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها.
قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبدالرحمن السهلي في عداد أزواج النبي صلى.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين. وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين.
فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن. فأما من تزجهن ولم يدخل بهن فمنهن: الكلابية. واختلفوا في اسمها، فقيل فاطمة. وقيل عمرة. وقيل العالية. قال الزهري: تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقية. تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين.
ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. وفي البخاري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين. وفي لفظ آخر قال أبو أسيد: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية، فلما دخل عليها قال: ( هبي لي نفسك ) فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك فقال: ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال: ( يا أبا أسيد، اكسها رازقيين وألحقها بأهلها ) .
ومنهن: قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حضرموت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده، فارتد وارتدت معه. ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيرها ولا حجبها. ولقد برأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها.
ومنهن: أم شريك الأزدية، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها. وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم.
ومنهن: خولة بنت الهزيل بن هبيرة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلكت قبل أن تصل إليه.
ومنهن: شراف بنت خليفه، أخت دحية، تزوجها ولم يدخل بها.
ومنهن ليلى بنت الخطيم، أخت قيس، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها.
ومنهن: عمرة بنت معاوية الكندية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي: تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات.
ومنهن: ابنة جندب بن ضمرة الجندعية. قال بعضهم: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك.
ومنهن: الغفارية. قال بعضهم: تزوج امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال: ( الحقي بأهلك ) . ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي، عقد عليهن ولم يدخل بهن، صلى الله عليه وسلم
فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن، ومن وهبت له نفسها:
فمنهن: أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني مرأة مصبية واعتذرت إليه فعذرها.
ومنهن: ضباعة بنت عامر.
ومنهن: صفية بنت بشامة بن نضلة، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت: زوجي. فأرسلها، فلعنتها بنو تميم، قال ابن عباس.
ومنهن: أم شريك. وقد تقدم ذكرها.
ومنهن: ليلى بنت الخطيم، وقد تقدم ذكرها.
ومنهن: خولة بنت حكم بن أمية، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون.
ومنهن: جمرة بنت الحارث بن عوف المري، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
ومنهن: سودة القرشية، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية. فقالت: أخاف أن يضغو صبيتي عند رأسك. فحمدها ودعا لها.
ومنهن: امرأة لم يذكر اسمها. قال مجاهد: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: أستأمر أبي. فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان له من السراري سريتان: مارية القبطية، وريحانة، في قول قتادة. وقال غيره: كان له أربع: مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
قوله تعالى: « إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها » « إن » شرط، وجوابه « فتعالين » ، فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير.
قوله تعالى: « فتعالين » هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعال بمعنى أقبل، وضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم « أمتعكن » وقرئ « أمتعُكن » بضم العين. وكذا « أسرحكن » بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل: هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها.
اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأول: أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة. ومنهن من قال: إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق، ذكره الحسن وقتادة. ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.
قلت: القول الأول أصح، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية: فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق، لذلك قال: ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث. ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة. فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة، أو النكاح. والله أعلم.
واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن علي وزيد أيضا: إن أختارت زوجها فواحدة بائنة، وهو قول الحسن البصري والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن. والصحيح الأول، لقول عائشة: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا أختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي. وروي عن علي أنها إذا أختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وروي عن زيد: بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لأن الملك إنما يكون بذلك. وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا أختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعا، وهو قول عبدالعزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأول قول مالك في المشهور. وروى ابن خويز مندد. عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجهم. قال سحنون: وعليه أكثر أصحابنا.
وتحصيل مذهب مالك: أن المخيرة إذا أختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن أختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته، لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير: « فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا » فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. ومن جهه المعنى أن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا أختارت نفسها، ولا يملك منها شيئا، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا أختارته، فإذا أختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما. وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة، لأنها تبين في الحال.
واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار، فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى أفترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها، وعلى هذا أكثر الفقهاء. وقال مرة: لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى: « فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره » [ النساء: 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها، فصار كالعقد بينهما، فإن قبلته وإلا سقط، كالذي يقول: قد وهبت لك أو بايعتك، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا محال. هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها.
قلت: وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة: ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح، وخرجه البخاري، وصححه الترمذي. وقد تقدم في أول الباب. وهو حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن أفترقا من مجلسهما، روي هذا عن الحسن والزهري، وقال مالك في إحدى روايتيه. قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا الباب، أتباع السنة في عائشة في هذا الحديث، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبيها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأم. قال المروزي. هذا أصح الأقاويل عندي، وقال ابن المنذر والطحاوي.
الآيات: 30 - 31 ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما )
قال العلماء: لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن: « لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج » [ الأحزاب: 52 ] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » [ الأحزاب: 53 ] وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة - والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك - يضاعف لها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة - أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر. وقيل: لما كان أزوج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقيل، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: « إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة » [ الأحزاب: 57 ] . واختار هذا القول الكيا الطبري.
قال قوم: لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة. والعذاب بمعنى الحد، قال الله تعالى: « وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين » [ النور: 2 ] . وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين، وقال أبو عبيدة: ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة. وضعفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان، له باللفظ تعلق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، قال ابن عطية. وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين « يضاعف ويضعف » قال: « يضاعف » للمرار الكثيرة. و « يضعف » مرتين. وقرأ « يضعف » لهذا. وقال أبو عبيدة: « يضاعف لها العذاب » يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من، أهل اللغة علمته، والمعنى في « يضاعف ويضعف » واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلي درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين. ويدل على هذا « نؤتها أجرها مرتين » ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر « آتهم ضعفين من العذاب » [ الأحزاب: 68 ] أي مثلن. وروى معمر عن قتادة « يضاعف لها العذاب ضعفين » قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين، لأنه قال: « نؤتها أجرها مرتين، » . فأما في الوصايا، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا، أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة، قال، الله تعالى: « فأولئك لهم جزاء الضعف » [ سبأ: 37 ] ولم يرد مثلا ولا مثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في « النور » الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن، والحمد لله.
قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ « يا نساء النبي » رفع بها صوته، فقيل له في ذلك فقال: ( أذكرهن العهد ) . قرأ الجمهور: « من يأت » بالياء. وكذلك « من يقنت » حملا على لفظ « من » . والقنوت الطاعة، وقد تقدم. وقرأ يعقوب: « من تأت » و « تقنت » بالتاء من فوق، حملا على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله « فاحشة مبينة » تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وودت. وقرأ ابن كثير « مبينة » بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: « يضاعف » بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة « يضاعف » بالنون المضمومة ونصب « العذاب » وهذه قراءة ابن محيصن. وهذه مفاعلة من واحد، كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائي « يضاعف » بالياء وفتح العين، « العذاب » رفعا. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كذ وابن عامر « نضعف » بالنون وكسر العين المشددة، « العذاب » نصبا. قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة، لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة. وهذا حسن، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا. وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به « ضعفين » هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدوة الدنيا عذاب الآخرة، على ما هي حال الناس عليه، بحكم حديث عبادة بن الصامت. وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة، ذكره النحاس.
الآية: 32 ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا )
قوله تعالى: « يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن » يعني في الفضل والشرف. وقال: « كأحد » ولم يقل كواحدة، لأن أحدا نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي، يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة، وقد تقدم في « آل عمران » الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال: « إن اتقيتن » أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن.
قوله تعالى: « فلا تخضعن بالقول » في موضع جزم بالنهي، إلا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه، أي لا تلن القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا. « فيطمع الذي في قلبه مرض » « فيطمع » بالنصب على جواب النهي. « الذي في قلبه مرض » أي شك ونفاق، عن قتادة والسدي. وقيل: تشوف الفجور، وهو الفسق والغزل، قال عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ « فيطمِع » بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطا، وأن يكون قرأ « فيطمَعِ » بفتح الميم وكسر العين بعطفه على « تخضعن » فهذا وجه جيد حسن. ويجوز « فيطمع » بمعنى فيطمع الخضوع أو القول. « وقلن قولا معروفا » قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
===============
الآية: 33 ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
قوله تعالى: « وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » « وقرن » قرأ الجمهور « وقرن » بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا أي سكن، والأمر قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر، والأصل أقررن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا، كما قالوا في ظللت: ظللت، ومسست: مست، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو علي: بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف، كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه، فالتقدير: إقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير « قرن » . وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في « الغريب المصنف » عن الكسائي، وهو من أجل مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل « اقررن » حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قرن. قال الفراء: هو كنا تقول: أحست صاحبك، أي هل أحسست. وقال أبو عثمان المازني: قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين. ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضا أن « قرن » لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأما قول أبي حاتم: « لا مذهب له » فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول، قال: وهو من قررت به عينا أقر، والمعنى: وأقررن به عينا في بيوتكن. وهو وجه حسن، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول. كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، ما زلت قوالا بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عبلة « وأقررن » بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة.
معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع. فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: « ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » . وقد تقدم معنى التبرج في « النور » . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، قاله المبرد. واختلف الناس في « الجاهلية الأولى، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال الحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة. وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبي: ما بين نوج وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو العالية: هي زمان داود وسليمان، كان فيه للمرأة قميصي من الدر غير مخيط الجانبين. وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وبما سأل أحدهما صاحبه البدل. وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة كان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كان عليه، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول، إلى غير هذا»
قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق.
ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها. وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه.
قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض، عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان: أقيمي هنا يا أم المؤمنين، وردي هؤلاء الرعاع، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها نذرت عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها، وطمعو
قوله تعالى: « وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله » أي فيما أمر ونهى « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته، على ما يأتي بيانه بعد و « أهل البيت » نصب على المدح قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. « ويطهركم تطهيرا » مصدر فيه معنى التوكيد.
الآية: 34 ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا )
وله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة » هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن. وذهبوا إلى أن البيت أريد به مسكن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن » . وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وفي هذا أحاديث. عن النبي عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: « ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم » بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان « عنكن ويطهركن » ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك، فيقول: هم بخير، قال الله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » [ هود: 73 ] .
والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: « ويطهركم » لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام. والله أعلم. أما أن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسنا، فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: ( هؤلاء أهل بيتي ) - وقرأ الآية - وقال: ( اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: ( أنت على مكانك وأنت على خير ) أخرجه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب. وقال القشيري: وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: ( نعم ) . وقال الثعالبي: هم بنو هاشم، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم. وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قول الكلبي يكون قوله: « واذكرن » ابتداء مخاطبة الله تعالى، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة قال أهل العلم بالتأويل: « آيات الله » القرآن. « والحكمة » السنة. والصحيح أن قوله: « واذكرن » منسوق على ما قبله. وقال « عنكم » لقوله « أهل » فالأهل مذكر، فسماهن وإن كن إناثا باسم التذكير فلذلك صار « عنكم » . ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله: « يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - إن الله كان لطيفا خبيرا » منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: ( اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) . فهذه دعوة من، النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل.
لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أي أذكرن موضع النعمة، إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة. الثاني: أذكرن آيات الله وأقدرن، قدرها، وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حال ينبغي أن تحسن أفعال. الثالث: « أذكرن » بمعنى أحفظن وأقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول: أحفظن أوامر الله تعالى، ونواهيه، وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله. فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين.
قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع أصحابة، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا، ولهذا قلنا: يجوز العمل بخبر بسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت. ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال، كما قال أبو حنيفة، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر.
الآية: 35 ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )
روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء! فنزلت هذه الآية: « إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات » الآية. هذا حديث حسن غريب. و « المسلمين » اسم « إن » . « والمسلمات » عطف عليه. ويجوز رفعهن عند البصريين، فأما الفراء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب.
بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته. والقانت: العابد المطيع. والصادق: معناه فيما عوهد عليه أن يفي به. والصابر عن الشهوات وعلى، الطاعات في المكره والمنشط. والخاشع: الخائف لله. والمتصدق بالفرض والنفل. وقيل. بالفرض خاصة، والأول أماح. والصائم كذلك. « والحافظين فروجهم والحافظات » أي عما لا يحل من الزنى وغيره. وفي قوله: « والحافظات » حذف يدل عليه المتقدم، تقديره: والحافظاتها، فاكتفى بما تقدم. وفي « الذاكرات » أيضا مثله، ونظيره قول الشاعر:
وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب
وروى سيبويه: « لون مذهب » بالنصب. وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء، كأنه قال: واستشعرته، فيمن رفع لونا. والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغدوا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم. وقد تقدم هذا كله مفصلا في مواضعه، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام، فأغنى عن الإعادة. والحمد لله رب العالمين. قال مجاهد: لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
الآية: 36 ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )
روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبين أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية. فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته. في رواية: فامتنعت وامتنع أخوها عبدالله لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبدا، إلى أن نزلت هذه الآية، فقال له أخوها: مرني بما شئت، فزوجها من زيد. وقيل: إنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، قال ابن زيد. وقال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن يعصياه.
لفظة « ما كان، وما ينبغي » ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب » [ الشورى: 51 ] . وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا.
في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا لمالك والشافعي والمغيرة وسحنون. وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش. وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير. وزوج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة. وتزوج بلال أخت عبدالرحمن بن عوف. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع.
قوله تعالى: « أن يكون لهم الخيرة من أمرهم » قرأ الكوفيون: « أن يكون » بالياء. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله. الباقون بالتاء، لأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن. والتذكير على أن الخيرة بمعنى التخيير، فالخيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميقع « الخيرة » بإسكان الياء. وهذه الآية في ضمن قوله تعالى: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » [ الأحزاب: 6 ] . ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعصى الله ورسول فقد ضل. وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة « أفعل » للوجوب في أصل وضعها، لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة: المكلف عند سماع أمره وأمر رسول الله، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم.
===============
الآية: 33 ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
قوله تعالى: « وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » « وقرن » قرأ الجمهور « وقرن » بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا أي سكن، والأمر قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر، والأصل أقررن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا، كما قالوا في ظللت: ظللت، ومسست: مست، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو علي: بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف، كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه، فالتقدير: إقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير « قرن » . وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في « الغريب المصنف » عن الكسائي، وهو من أجل مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل « اقررن » حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قرن. قال الفراء: هو كنا تقول: أحست صاحبك، أي هل أحسست. وقال أبو عثمان المازني: قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين. ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضا أن « قرن » لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأما قول أبي حاتم: « لا مذهب له » فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول، قال: وهو من قررت به عينا أقر، والمعنى: وأقررن به عينا في بيوتكن. وهو وجه حسن، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول. كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، ما زلت قوالا بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عبلة « وأقررن » بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة.
معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع. فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: « ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى » . وقد تقدم معنى التبرج في « النور » . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، قاله المبرد. واختلف الناس في « الجاهلية الأولى، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال الحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة. وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبي: ما بين نوج وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو العالية: هي زمان داود وسليمان، كان فيه للمرأة قميصي من الدر غير مخيط الجانبين. وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وبما سأل أحدهما صاحبه البدل. وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة كان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كان عليه، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول، إلى غير هذا»
قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق.
ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها. وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه.
قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض، عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان: أقيمي هنا يا أم المؤمنين، وردي هؤلاء الرعاع، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها نذرت عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها، وطمعو
قوله تعالى: « وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله » أي فيما أمر ونهى « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته، على ما يأتي بيانه بعد و « أهل البيت » نصب على المدح قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. « ويطهركم تطهيرا » مصدر فيه معنى التوكيد.
الآية: 34 ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا )
وله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة » هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة، لا رجل معهن. وذهبوا إلى أن البيت أريد به مسكن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن » . وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وفي هذا أحاديث. عن النبي عليه السلام، واحتجوا بقوله تعالى: « ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم » بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان « عنكن ويطهركن » ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك، أي امرأتك ونساؤك، فيقول: هم بخير، قال الله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » [ هود: 73 ] .
والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: « ويطهركم » لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام. والله أعلم. أما أن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسنا، فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: ( هؤلاء أهل بيتي ) - وقرأ الآية - وقال: ( اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: ( أنت على مكانك وأنت على خير ) أخرجه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب. وقال القشيري: وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: ( نعم ) . وقال الثعالبي: هم بنو هاشم، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم. وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قول الكلبي يكون قوله: « واذكرن » ابتداء مخاطبة الله تعالى، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة قال أهل العلم بالتأويل: « آيات الله » القرآن. « والحكمة » السنة. والصحيح أن قوله: « واذكرن » منسوق على ما قبله. وقال « عنكم » لقوله « أهل » فالأهل مذكر، فسماهن وإن كن إناثا باسم التذكير فلذلك صار « عنكم » . ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله: « يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - إن الله كان لطيفا خبيرا » منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: ( اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) . فهذه دعوة من، النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل.
لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أي أذكرن موضع النعمة، إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة. الثاني: أذكرن آيات الله وأقدرن، قدرها، وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حال ينبغي أن تحسن أفعال. الثالث: « أذكرن » بمعنى أحفظن وأقرأن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول: أحفظن أوامر الله تعالى، ونواهيه، وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله. فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين.
قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن، وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع أصحابة، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا، ولهذا قلنا: يجوز العمل بخبر بسرة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت. ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال، كما قال أبو حنيفة، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر.
الآية: 35 ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )
روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء! فنزلت هذه الآية: « إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات » الآية. هذا حديث حسن غريب. و « المسلمين » اسم « إن » . « والمسلمات » عطف عليه. ويجوز رفعهن عند البصريين، فأما الفراء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب.
بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته. والقانت: العابد المطيع. والصادق: معناه فيما عوهد عليه أن يفي به. والصابر عن الشهوات وعلى، الطاعات في المكره والمنشط. والخاشع: الخائف لله. والمتصدق بالفرض والنفل. وقيل. بالفرض خاصة، والأول أماح. والصائم كذلك. « والحافظين فروجهم والحافظات » أي عما لا يحل من الزنى وغيره. وفي قوله: « والحافظات » حذف يدل عليه المتقدم، تقديره: والحافظاتها، فاكتفى بما تقدم. وفي « الذاكرات » أيضا مثله، ونظيره قول الشاعر:
وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب
وروى سيبويه: « لون مذهب » بالنصب. وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء، كأنه قال: واستشعرته، فيمن رفع لونا. والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغدوا وعشيا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم. وقد تقدم هذا كله مفصلا في مواضعه، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام، فأغنى عن الإعادة. والحمد لله رب العالمين. قال مجاهد: لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
الآية: 36 ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )
روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبين أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية. فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته. في رواية: فامتنعت وامتنع أخوها عبدالله لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبدا، إلى أن نزلت هذه الآية، فقال له أخوها: مرني بما شئت، فزوجها من زيد. وقيل: إنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا غيره، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، قال ابن زيد. وقال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن يعصياه.
لفظة « ما كان، وما ينبغي » ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب » [ الشورى: 51 ] . وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا.
في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا لمالك والشافعي والمغيرة وسحنون. وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش. وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير. وزوج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة. وتزوج بلال أخت عبدالرحمن بن عوف. وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع.
قوله تعالى: « أن يكون لهم الخيرة من أمرهم » قرأ الكوفيون: « أن يكون » بالياء. وهو اختيار أبي عبيد، لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله. الباقون بالتاء، لأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن. والتذكير على أن الخيرة بمعنى التخيير، فالخيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميقع « الخيرة » بإسكان الياء. وهذه الآية في ضمن قوله تعالى: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » [ الأحزاب: 6 ] . ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعصى الله ورسول فقد ضل. وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة « أفعل » للوجوب في أصل وضعها، لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة: المكلف عند سماع أمره وأمر رسول الله، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
=============
الآية: 37 ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا )
روى الترمذي قال: حدثنا علي بن حجر قال حدثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » يعني بالإسلام « وأنعمت عليه » بالعتق فأعتقته. « أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه - إلى قوله - وكان أمر الله مفعولا » وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين » [ الأحزاب: 40 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى « ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم » [ الأحزاب: 5 ] فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » هذا الحرف لم يرو بطوله.
قلت: هذا القدر هو الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن هذه الآية « وتخفي في نفسك ما الله مبديه » نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وقال عمرو بن مسعود وعائشة والحسن: ما أنزل الله على رسوله آية أشد عليه من هذه الآية. وقال الحسن وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه. وروي في الخبر أنه: أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب: ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر على. هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك. وفي بعض الروايات: أن زيدا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها، فهذا قريب من ذلك. وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل! وإني أريد أن أطلقها، فقال له: ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) الآية. فطلقها زيد فنزلت: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » الآية.
واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره - إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكوا منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان وتعظما. بالشرف، قال له: ( اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك ) وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. وقال مقاتل زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينا، ثم إنه عليه السلام أتى زيدا يوما، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: ( سبحان الله مقلب القلوب ) ! فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . وقيل: إن الله بعث ريحا فرفعت الستر وزينب متفضلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء يطلب زيدا، فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال ابن عباس: « وتخفي في نفسك » الحب لها. « وتخشى الناس » أي تستحييهم وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها، ويقولون أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. « والله أحق أن تخشاه » في كل الأحوال. وقيل والله أحق أن تستحي منه، ولا تأمر زيدا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه. الله على جميع هذا. وروي عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: ( اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك ) وهو يعلم أنه سيفارها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: « أمسك » مع علمه بأنه يطلق. وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله تعالى: « وتخشى الناس » إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى علي بن الحسين قوله: فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر، ودرأ من الدرر، أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد: ( أمسك عليك زوجك ) وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه. وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه. وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس.
قال ابن العربي: فإن قيل لأي معنى قال له: ( أمسك عليك زوجك ) وقد أخبره الله أنها زوجه. قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: كيف، يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه؟ وهذا تناقض. قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يكون، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما. وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقول: « وأتق الله » أي في طلاقها، فلا تطلقها. وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق. وقيل: « اتق الله » فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. « وتخفي في نفسك » قيل تعلق قلبه. وقيل: مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها، لأن الله قد أعلمه بذلك.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد: ( ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ) قال: فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها.
قلت: معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وترجم له النسائي ( صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها ) روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزبد: ( فاذكرها عليّ ) قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت،: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال: فقال ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار الحديث. في رواية ( حتى تركوه ) . وفي رواية عن أنسى أيضا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة. قال علماؤنا: فقوله عليه السلام لزيد: ( فاذكرها علي ) أي اخطبها، كما بينه الحديث الأول. وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه.
قلت: وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب عليّ فلانة، لزوجه المطلقة منه، ولا حرج في ذلك. والله أعلم.
لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها، ولذلك قال: « فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها » . وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم « وطرا زوجتكها » . ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول. إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وسيأتي.
المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه، وقد تقدم خبره في أول السورة. وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد. ورد مكة في شغل له، فقال: ما أسمك يا غلام؟ قال: زيد، قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمك؟ قال: سعدى، وكنت في أخوالي طي، فضمه إلى صدوه. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبدالله، فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا. فقال: ( أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده ) فبعث إلى زيد وقال: ( هل تعرف هؤلاء ) ؟ قال نعما هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأي صاحب كنت لك ) ؟ فبكى وقال: لم سألتني عن ذلك؟ قال: ( أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت ) فقال: ما أختار عليك أحدا. فجذبه عمه وقال: زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك! فقال: أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشهدوا أني وارث وموروث ) . فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: « ادعوهم لآبائهم » [ الأحزاب: 5 ] ونزل « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم » [ الأحزاب: 40 ] .
قال الإمام أبو القاسم عبدالرحمن السهلي رضي الله عنه: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل « ادعوهم لآبائهم » [ الأحزاب: 5 ] فقال: أنا زيد بن حارثة. وحرم عليه أن يقول: أنا زيد ابن محمد. فلما نرع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى: « فلما قضى زيد منها وطرا » يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار لاسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا ) فبكى وقال: أوذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا؟ هل يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة. وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه. وزاد في الآية أن قال: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » أي بالإيمان، فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
قوله تعالى: « وطرا » الوطر كل حاجة للمرء له فيها همة، والجمع الأوطار. قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع. وفيه إضمار، أي لما قضى وطرا منها وطلقها « زوجناكها » . وقراءة أهل البيت « زوجتكها » . وقيل: الوطر عبارة عن الطلاق، قال قتادة.
ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب: « إني أريد أن أنكحك » [ القصص: 27 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون: « أنكحه إياها » فتقدم ضمير الزوج كما في الآيتين. وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء ( اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن ) . قال ابن عطية: وهذا غير لازم، لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان سواء، فقدم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوامون.
قوله تعالى: « زوجناكها » دليل على ثبوت الوارث في النكاح، وقد: تقدم الخلاف في ذلك. روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير فيقول: ( هذه امرأتك ) خرجه الصحيح. وقالت زينب: أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات. وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أنكحت عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل. وروي عن زينب أنها قالت: لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى مني فلا يقدر علي.
الآيات: 38 - 39 ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا )
قوله تعالى: « سنة الله في الذين خلوا من قبل » هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة. أعلمهم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحله لهم، أي سن لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سنة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان. فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية. وذكر الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام، حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها. و « سنة » نصب على المصدر، أي سن الله له سنة واسعة و « الذين خلوا » هم الأنبياء، بدليل وصفهم بعد بقوله: « الذين يبلغون رسالات الله » .
الآية: 40 ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما )
لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور. إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
قوله تعالى: « ولكن رسول الله » قال الأخفش والفراء: أي ولكن كان رسول الله. وأجازا « ولكن رسول الله وخاتم » بالرفع وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس « ولكن رسول الله » بالرفع، على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأت فرقة « ولكن » بتشديد النون، ونصب « رسول الله » على أنه اسم « لكن » والخبر محذوف « وخاتم » قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم. وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وقيل: الخاتم والخاتم لغتان، مثل طابع وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم وطابق
قال ابن عطية: هذه الألفاظ عنه جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية: من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه! والله الهادي. برحمته.
قلت: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله ) . قال أبو عمر: يعني الرؤيا والله أعلم التي هي جزء منها، كما قال عليه السلام: ( ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ) . وقرأ ابن مسعود « من رجالكم ولكن نبيا ختم النبيين » . قال الرماني: ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى: ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون. منها ويقولون لولا موضع اللبنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء ) . نحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) .
الآية: 41 ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا )
أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه، ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم. وجعل تعالى ذلك دون حد لسهولته على العبد. ولعظم الأجر فيه قال ابن عباس: لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله. وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) . وقيل: الذكر الكثير ما جرى على الإخلاص من القلب، والقليل ما يقع على حكم النفاق كالذكر باللسان.
الآية: 42 ( وسبحوه بكرة وأصيلا )
أي اشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال، مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب. وقيل: ادعوه. قال جرير:
فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفا دعا ربه فاختاره حين سبحا
وقيل: المراد صلوا لله بكرة وأصيلا، والصلاة تسمى تسبيحا. وخصر، الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لأنها أحق بالتحريض عليها، لاتصالها بأطراف الليل. وقال قتادة والطبري: الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر. والأصيل: العشي وجمعه أصائل. والأصل بمعنى الأصيل، وجمعه آصال، قاله المبرد. وقال غيره: أصل جمع أصيل، كرغيف ورغف. وقد تقدم.
مسألة: هذه الآية مدنية، فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولا صلاتين، في طرفي النهار. والرواية بذلك ضعيفة فلا التفات إليها ولا معول عليها. وقال مضى الكلام في كيفية فرض الصلاة وما للعلماء في ذلك في « الإسراء » والحمد لله.
الآية: 43 ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما )
قوله تعالى: « هو الذي يصلي عليكم » قال ابن عباس: لما نزل « إن الله وملائكته يصلون على النبي » [ الأحزاب: 56 ] قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قلت: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] . والصلاة من الله على العبد هي رحمته له وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال: « ويستغفرون للذين آمنوا » [ غافر: 7 ] وسيأتي. وفي الحديث: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أيصلي ربك جل وعز؟ فأعظم ذلك، فأوحى الله جل وعز: « إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي » ذكره النحاس. وقال ابن عطية: وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، كيف صلاة الله على عباده. قال: ( سبوح قدوس - رحمتي سبقت غضبي ) . واختلف في تأويل هذا القول، فقيل: إنه كلمة من كلام الله تعالى وهي صلاته على عباده. وقيل سبوح قدوس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وقدمه بين يدي نطقه باللفظ الذي هو صلاة الله وهو ( رحمتي سبقت غضبي ) من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله على عباده وجها لا يليق بالله عز وجل، فقدم التنزيه والتعظيم بين يدي إخباره. « ليخرجكم من الظلمات إلى النور » أي من الضلالة إلى الهدى. ومعنى هذا التثبيت على الهداية، لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. « وكان بالمؤمنين رحيما » أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم فقال: « وكان بالمؤمنين رحيما » .
=============
الآية: 37 ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا )
روى الترمذي قال: حدثنا علي بن حجر قال حدثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » يعني بالإسلام « وأنعمت عليه » بالعتق فأعتقته. « أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه - إلى قوله - وكان أمر الله مفعولا » وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين » [ الأحزاب: 40 ] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى « ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم » [ الأحزاب: 5 ] فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » هذا الحرف لم يرو بطوله.
قلت: هذا القدر هو الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن هذه الآية « وتخفي في نفسك ما الله مبديه » نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وقال عمرو بن مسعود وعائشة والحسن: ما أنزل الله على رسوله آية أشد عليه من هذه الآية. وقال الحسن وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه. وروي في الخبر أنه: أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب: ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر على. هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك. وفي بعض الروايات: أن زيدا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها، فهذا قريب من ذلك. وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل! وإني أريد أن أطلقها، فقال له: ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) الآية. فطلقها زيد فنزلت: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه » الآية.
واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره - إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ثم إن زيدا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكوا منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان وتعظما. بالشرف، قال له: ( اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك ) وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. وقال مقاتل زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينا، ثم إنه عليه السلام أتى زيدا يوما، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: ( سبحان الله مقلب القلوب ) ! فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . وقيل: إن الله بعث ريحا فرفعت الستر وزينب متفضلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء يطلب زيدا، فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال ابن عباس: « وتخفي في نفسك » الحب لها. « وتخشى الناس » أي تستحييهم وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طلقها، ويقولون أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. « والله أحق أن تخشاه » في كل الأحوال. وقيل والله أحق أن تستحي منه، ولا تأمر زيدا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه. الله على جميع هذا. وروي عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: ( اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك ) وهو يعلم أنه سيفارها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: « أمسك » مع علمه بأنه يطلق. وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله تعالى: « وتخشى الناس » إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى علي بن الحسين قوله: فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر، ودرأ من الدرر، أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد: ( أمسك عليك زوجك ) وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه. وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه. وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس.
قال ابن العربي: فإن قيل لأي معنى قال له: ( أمسك عليك زوجك ) وقد أخبره الله أنها زوجه. قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: كيف، يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه؟ وهذا تناقض. قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يكون، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما. وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقول: « وأتق الله » أي في طلاقها، فلا تطلقها. وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق. وقيل: « اتق الله » فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. « وتخفي في نفسك » قيل تعلق قلبه. وقيل: مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدا سيطلقها، لأن الله قد أعلمه بذلك.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد: ( ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ) قال: فذهبت ووليتها ظهري توقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها.
قلت: معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وترجم له النسائي ( صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها ) روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزبد: ( فاذكرها عليّ ) قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت،: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال: فقال ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار الحديث. في رواية ( حتى تركوه ) . وفي رواية عن أنسى أيضا قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة. قال علماؤنا: فقوله عليه السلام لزيد: ( فاذكرها علي ) أي اخطبها، كما بينه الحديث الأول. وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه.
قلت: وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب عليّ فلانة، لزوجه المطلقة منه، ولا حرج في ذلك. والله أعلم.
لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها، ولذلك قال: « فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها » . وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم « وطرا زوجتكها » . ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ومشروعا لنا وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول. إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وسيأتي.
المنعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه، وقد تقدم خبره في أول السورة. وروي أن عمه لقيه يوما وكان قد. ورد مكة في شغل له، فقال: ما أسمك يا غلام؟ قال: زيد، قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمك؟ قال: سعدى، وكنت في أخوالي طي، فضمه إلى صدوه. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم، فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبدالله، فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا. فقال: ( أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده ) فبعث إلى زيد وقال: ( هل تعرف هؤلاء ) ؟ قال نعما هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأي صاحب كنت لك ) ؟ فبكى وقال: لم سألتني عن ذلك؟ قال: ( أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فألحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت ) فقال: ما أختار عليك أحدا. فجذبه عمه وقال: زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك! فقال: أي والله العبودية عند محمد أحب إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشهدوا أني وارث وموروث ) . فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: « ادعوهم لآبائهم » [ الأحزاب: 5 ] ونزل « ما كان محمد أبا أحد من رجالكم » [ الأحزاب: 40 ] .
قال الإمام أبو القاسم عبدالرحمن السهلي رضي الله عنه: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل « ادعوهم لآبائهم » [ الأحزاب: 5 ] فقال: أنا زيد بن حارثة. وحرم عليه أن يقول: أنا زيد ابن محمد. فلما نرع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى: « فلما قضى زيد منها وطرا » يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار لاسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا ) فبكى وقال: أوذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا؟ هل يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورا على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة. وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه. وزاد في الآية أن قال: « وإذ تقول للذي أنعم الله عليه » أي بالإيمان، فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
قوله تعالى: « وطرا » الوطر كل حاجة للمرء له فيها همة، والجمع الأوطار. قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع. وفيه إضمار، أي لما قضى وطرا منها وطلقها « زوجناكها » . وقراءة أهل البيت « زوجتكها » . وقيل: الوطر عبارة عن الطلاق، قال قتادة.
ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب: « إني أريد أن أنكحك » [ القصص: 27 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون: « أنكحه إياها » فتقدم ضمير الزوج كما في الآيتين. وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء ( اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن ) . قال ابن عطية: وهذا غير لازم، لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان سواء، فقدم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوامون.
قوله تعالى: « زوجناكها » دليل على ثبوت الوارث في النكاح، وقد: تقدم الخلاف في ذلك. روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير فيقول: ( هذه امرأتك ) خرجه الصحيح. وقالت زينب: أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات. وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أنكحت عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل. وروي عن زينب أنها قالت: لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى مني فلا يقدر علي.
الآيات: 38 - 39 ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا )
قوله تعالى: « سنة الله في الذين خلوا من قبل » هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة. أعلمهم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحله لهم، أي سن لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سنة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان. فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية. وذكر الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام، حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها. و « سنة » نصب على المصدر، أي سن الله له سنة واسعة و « الذين خلوا » هم الأنبياء، بدليل وصفهم بعد بقوله: « الذين يبلغون رسالات الله » .
الآية: 40 ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما )
لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور. إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
قوله تعالى: « ولكن رسول الله » قال الأخفش والفراء: أي ولكن كان رسول الله. وأجازا « ولكن رسول الله وخاتم » بالرفع وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس « ولكن رسول الله » بالرفع، على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأت فرقة « ولكن » بتشديد النون، ونصب « رسول الله » على أنه اسم « لكن » والخبر محذوف « وخاتم » قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم. وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. وقيل: الخاتم والخاتم لغتان، مثل طابع وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم وطابق
قال ابن عطية: هذه الألفاظ عنه جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية: من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد، إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه! والله الهادي. برحمته.
قلت: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله ) . قال أبو عمر: يعني الرؤيا والله أعلم التي هي جزء منها، كما قال عليه السلام: ( ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ) . وقرأ ابن مسعود « من رجالكم ولكن نبيا ختم النبيين » . قال الرماني: ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى: ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون. منها ويقولون لولا موضع اللبنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء ) . نحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) .
الآية: 41 ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا )
أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه، ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم. وجعل تعالى ذلك دون حد لسهولته على العبد. ولعظم الأجر فيه قال ابن عباس: لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله. وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) . وقيل: الذكر الكثير ما جرى على الإخلاص من القلب، والقليل ما يقع على حكم النفاق كالذكر باللسان.
الآية: 42 ( وسبحوه بكرة وأصيلا )
أي اشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال، مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب. وقيل: ادعوه. قال جرير:
فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفا دعا ربه فاختاره حين سبحا
وقيل: المراد صلوا لله بكرة وأصيلا، والصلاة تسمى تسبيحا. وخصر، الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لأنها أحق بالتحريض عليها، لاتصالها بأطراف الليل. وقال قتادة والطبري: الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر. والأصيل: العشي وجمعه أصائل. والأصل بمعنى الأصيل، وجمعه آصال، قاله المبرد. وقال غيره: أصل جمع أصيل، كرغيف ورغف. وقد تقدم.
مسألة: هذه الآية مدنية، فلا تعلق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أولا صلاتين، في طرفي النهار. والرواية بذلك ضعيفة فلا التفات إليها ولا معول عليها. وقال مضى الكلام في كيفية فرض الصلاة وما للعلماء في ذلك في « الإسراء » والحمد لله.
الآية: 43 ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما )
قوله تعالى: « هو الذي يصلي عليكم » قال ابن عباس: لما نزل « إن الله وملائكته يصلون على النبي » [ الأحزاب: 56 ] قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قلت: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] . والصلاة من الله على العبد هي رحمته له وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال: « ويستغفرون للذين آمنوا » [ غافر: 7 ] وسيأتي. وفي الحديث: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أيصلي ربك جل وعز؟ فأعظم ذلك، فأوحى الله جل وعز: « إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي » ذكره النحاس. وقال ابن عطية: وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، كيف صلاة الله على عباده. قال: ( سبوح قدوس - رحمتي سبقت غضبي ) . واختلف في تأويل هذا القول، فقيل: إنه كلمة من كلام الله تعالى وهي صلاته على عباده. وقيل سبوح قدوس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وقدمه بين يدي نطقه باللفظ الذي هو صلاة الله وهو ( رحمتي سبقت غضبي ) من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله على عباده وجها لا يليق بالله عز وجل، فقدم التنزيه والتعظيم بين يدي إخباره. « ليخرجكم من الظلمات إلى النور » أي من الضلالة إلى الهدى. ومعنى هذا التثبيت على الهداية، لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. « وكان بالمؤمنين رحيما » أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم فقال: « وكان بالمؤمنين رحيما » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
===============
الآية: 44 ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريم )
اختلف في الضمير الذي في « يلقونه » على من يعود، فقيل على الله تعالى، أي كان بالمؤمنين رحيما، فهو يؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة. وفي ذلك اليوم يلقونه. و « تحيتهم » أي تحية بعضهم لبعض. « سلام » أي سلامة. ولكم من عذاب الله. وقيل: هذه التحية من الله تعالى، المعنى: فيسلمهم من الآفات، أو يبشرهم بالأمن من المخافات « يوم يلقونه » أي يوم القيامة بعد دخول الجنة. قال معناه الزجاج، واستشهد بقوله جل وعز: « وتحيتهم فيها سلام » [ يونس: 10 ] . وقيل: « يوم يلقونه » أي يوم: يلقون ملك الموت، وقد ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. روي عن البراء بن عازب قال: « تحيتهم يوم يلقونه سلام » فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى عليه.
الآيات: 45 - 46 ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )
هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية من أسمائه صلى الله عليه وسلم ست أسماء ولنبينا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة. وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) . وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله « رؤوفا رحيما » . وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول: ( أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة ) . وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى ( بالشفا ) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مسمياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين أسما وذكر صاحب ( وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين ) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين آسما، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: ( اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل عليّ ) وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: « شاهدا » قال سعيد عن قتادة: « شاهدا » على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك « ومبشرا » معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة « ونذيرا » معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. « وداعيا إلى الله » الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. « بإذنه » هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. « وسراجا منيرا » هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: « وسراجا » أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: عن الموحشين. رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا » دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فقال: ( انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا. ومبشرا ونذيرا - من النار - وداعيا إلى الله - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بإذنه - بأمره - وسراجا منيرا - قال - بالقرآن » . وقال الزجاج: « وسراجا » أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وأجاز أيضا أن يكون بمعنى: وتاليا كتاب الله.
الآيات: 47 - 48 ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )
قوله تعالى: « وبشر المؤمنين » الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف لا في « أرسلناك » . قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: « والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير » [ الشورى: 22 ] . فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في حم. عسق « تفسير لها. » ولا تطع الكافرين والمنافقين « أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. » الكافرين « : أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. » والمنافقين « : عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعلة المصلحة. » ودع أذاهم « أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. » وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا « أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله » وكفى بالله وكيلا « وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القاسم على الأمر.»
الآية: 49 ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن » لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولا بها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها - كما بيناه - خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للأمة، فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك. فإن دخل بها فعليها العدة إجماعا.
النكاح حقيقة في الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم. ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ: الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
استدل بعض العلماء بقوله تعالى: « ثم طلقتموهن » وبمهلة « ثم » على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه. وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا طلاق قبل نكاح ) ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. قال حبيب بن أبي ثابت: سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق؟ فقال: ليس بشيء، ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق. وقالت طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وقد مضى في « التوبة » الكلام فيها ودليل الفريقين. والحمد لله. فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حر، لم يلزمه شيء. وإن قال كل امرأة أتزوجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العنت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوج. وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمم لأنه ضيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألا يتزوج لحرج وخيف عليه العنت. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكح، وليس بشيء وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خويز منداد.
استدل داود - ومن قال بقوله - إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها. وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضى في عدتها من طلاقها الأول - وهو أحد قولي، الشافعي - ؛ لأن طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها. ومن طلق، امرأته في كل طهر مره بنت ولم تستأنف. وقال مالك: إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان أرتجعها ولا حاجة له بها. وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام. وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضا، فقال مالك والشافعي وزفر وعثمان البتي: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى. وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي،: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة. جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه. وقال داود: لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدة الأولى ولا عدة مستقبلة. ( والأولى ما قاله مالك والشافعي، والله أعلم.
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] ، ولقوله: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر » [ الطلاق: 4 ] . وقد مضى في « البقرة » ، ومضى فيها الكلام في المتعة، فأغنى عن الإعادة هنا. « وسرحوهن سراحا جميلا » فيه وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة بحسب الميسرة والعسرة، قال ابن عباس. الثاني: أنه طلاقها طاهرا من غير جماع، قال قتادة وقيل: فسرحوهن بعد الطلاق إلى أهلهن، فلا يجتمع الرجل والمطلقة في موضع واحد.
قوله تعالى: « فمتعوهن » قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » [ البقرة: 237 ] أي فلم يذكر المتعة. وقد مضى الكلام فيه. وقوله « وسرحوهن » طلقوهن. والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية. وعند الشافعي صريح. « جميلا » سنة، غير بدعة.
الآية: 50 ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما )
روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك » قالت: فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربي: وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها.
لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعه ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك » والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه. قال في سياق الآية « وبنات عمك وبتات عماتك » الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في « البقرة » .
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك » فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قال ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم. وقيل: المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترتك على الدنيا والآخرة، قال الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لأن قوله: « آتيت أجورهن » ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ومجيء الأم على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت. هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك.
قلت: والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
قوله تعالى: « وما ملكت يمينك » أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقا، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد. « مما أفاء الله عليك » أي رده عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئا، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
قوله تعالى: « وبنات عمك وبنات عماتك » أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وأتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: « وبنات عمك وبنات عماتك » لأن ذلك داخل فيما تقدم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا، كما قال تعالى: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . والله أعلم.
قوله تعالى: « اللاتي هاجرن معك » فيه قولان: الأول: لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبدالمطلب، وبنات أولاد بنات عبدالمطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه ) . الثاني: لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة، لقوله تعالى. « والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء. حتى يهاجروا » ومن لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم، صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى « معك » المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحة فيها، ومن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي لأن لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت: خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جحه. وكذلك قال: « خالك » ، « وخالاتك » والحكمة في ذلك: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه، قاله ابن العربي.
قوله تعالى: « وامرأة مؤمنة » عطف على « أحللنا » المعنى وأحللنا كل امرأة تهب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى، فروي عن ابن عباس أنه قال: لم تكن. عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال قوم: كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى « ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء » [ الأحزاب: 51 ] فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل هذا على أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزمخشري: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة. بن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزية. وقيل غزيلة. وقيل ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل عند. الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم، ذكره أبو عمر بن عبدالبر. وقال الشعبي وعروة: وهي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
قرأ جمهور الناس « إن وهبت » بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر، أي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة، وقد دللنا على خلافه. وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه، أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا، فنزلت الآية. بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا. وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي « أن » يفتح الألف. وقرأ الأعمش « وامرأة مؤمنة وهبت » . قال النحاس: وكسر « إن » أجمع للمعاني، لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى. على واحدة بعينها، لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
قوله تعالى: « مؤمنة » يدل على أن الكافرة لا تحل له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات. وبهذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
و « إن وهبت نفسها » دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في « النساء » وغيرها. وقال الزجاج: معنى « إن وهبت نفسها للنبي » حلت. وقرأ الحسن: « إن وهبت » بفتح الهمزة. و « أن » في موضع نصب. قال الزجاج: أي لأن. وقال غيره: « إن وهبت » بدل اشتمال من « امرأة » .
قوله تعالى: « إن أراد النبي أن يستنكحها » أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل، شيئا فلا يجب عليه القبول، بد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه، فبين الله ذلك في حق رسول صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى، ليرفع عنه الحرج، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم.
قوله تعالى « خالصة لك » أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل. ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على، نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي أشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في « القصص » مستوفاة. والحمد لله.
خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد - في باب الفرض والتحريم والتحليل - مزية على الأمة وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له. أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول - التهجد بالليل، يقال: إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات، لقوله تعالى: « يا أيها المزمل قم الليل » [ المزمل: 1 - 2 ] الآية. والمنصوص أنه كان، واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] وسيأتي. الثاني: الضحى. الثالث: الأضحى. الرابع: الوتر، وهو يدخل في قسم التهجد. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسرا. السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخير النساء. التاسع: إذا عمل عملا أثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأول: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني: صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخول. الرابع: حرم الله عليه إذا ليس بأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس: الأكل متكئا. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدل بأزواجه، وسيأتي. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحرة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها غيره تنزيها له وتطهيرا. فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى: « وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك » [ العنكبوت: 48 ] . وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب، والأول هو المشهور. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: « لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم » [ الحجر: 88 ] الآية.
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى. الحادي عشر: أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخول مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قال الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة « مريم » بيانه أيضا.
بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر: إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم مفصلا في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام، والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » [ الأحزاب: 6 ] . وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته. مسجدا وطهورا. وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث. الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته. كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد أنشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من أبين أصابعه صلى الله عليه وسلم وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم الله إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
قوله تعالى « من دون المؤمنين » فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: « أن يستنكحها » أي ينكحها، يقال: نكح واستنكح، مثل عجب واستعجب، وعجل واستعجل. ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء. و « خالصة » نصب على الحال، قال الزجاج. وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي.
قوله تعالى: « من دون المؤمنين » فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام. أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي. قال معناه أبي بن كعب وقتاه وغيرهما.
قوله تعالى: « لكيلا يكون عليك حرج » أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح « لكيلا يكون عليك حرج » . فـ « لكيلا » متعلق بقوله: « إنا أحللنا أزواجك » أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك، في شيء. « وكان الله غفورا رحيما » ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: « وكان الله غفورا رحيما » .
===============
الآية: 44 ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريم )
اختلف في الضمير الذي في « يلقونه » على من يعود، فقيل على الله تعالى، أي كان بالمؤمنين رحيما، فهو يؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة. وفي ذلك اليوم يلقونه. و « تحيتهم » أي تحية بعضهم لبعض. « سلام » أي سلامة. ولكم من عذاب الله. وقيل: هذه التحية من الله تعالى، المعنى: فيسلمهم من الآفات، أو يبشرهم بالأمن من المخافات « يوم يلقونه » أي يوم القيامة بعد دخول الجنة. قال معناه الزجاج، واستشهد بقوله جل وعز: « وتحيتهم فيها سلام » [ يونس: 10 ] . وقيل: « يوم يلقونه » أي يوم: يلقون ملك الموت، وقد ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. روي عن البراء بن عازب قال: « تحيتهم يوم يلقونه سلام » فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى عليه.
الآيات: 45 - 46 ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )
هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية من أسمائه صلى الله عليه وسلم ست أسماء ولنبينا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة. وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) . وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله « رؤوفا رحيما » . وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول: ( أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة ) . وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى ( بالشفا ) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مسمياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين أسما وذكر صاحب ( وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين ) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين آسما، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: ( اذهبا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل عليّ ) وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: « شاهدا » قال سعيد عن قتادة: « شاهدا » على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك « ومبشرا » معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة « ونذيرا » معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. « وداعيا إلى الله » الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. « بإذنه » هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. « وسراجا منيرا » هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: « وسراجا » أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: عن الموحشين. رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا » دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فقال: ( انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا. ومبشرا ونذيرا - من النار - وداعيا إلى الله - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بإذنه - بأمره - وسراجا منيرا - قال - بالقرآن » . وقال الزجاج: « وسراجا » أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وأجاز أيضا أن يكون بمعنى: وتاليا كتاب الله.
الآيات: 47 - 48 ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )
قوله تعالى: « وبشر المؤمنين » الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف لا في « أرسلناك » . قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بين تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: « والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير » [ الشورى: 22 ] . فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في حم. عسق « تفسير لها. » ولا تطع الكافرين والمنافقين « أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. » الكافرين « : أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. » والمنافقين « : عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعلة المصلحة. » ودع أذاهم « أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. » وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا « أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله » وكفى بالله وكيلا « وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القاسم على الأمر.»
الآية: 49 ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن » لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولا بها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها - كما بيناه - خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للأمة، فالمطلقة إذا لم تكن ممسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك. فإن دخل بها فعليها العدة إجماعا.
النكاح حقيقة في الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنه سبب في اقتراف الإثم. ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ: الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
استدل بعض العلماء بقوله تعالى: « ثم طلقتموهن » وبمهلة « ثم » على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها، فإن ذلك لا يلزمه. وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام. سمى البخاري منهم اثنين وعشرين. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا طلاق قبل نكاح ) ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. قال حبيب بن أبي ثابت: سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق؟ فقال: ليس بشيء، ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق. وقالت طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح، منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وقد مضى في « التوبة » الكلام فيها ودليل الفريقين. والحمد لله. فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق وكل عبد أشتريه حر، لم يلزمه شيء. وإن قال كل امرأة أتزوجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العنت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوج. وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمم لأنه ضيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألا يتزوج لحرج وخيف عليه العنت. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكح، وليس بشيء وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خويز منداد.
استدل داود - ومن قال بقوله - إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها. وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضى في عدتها من طلاقها الأول - وهو أحد قولي، الشافعي - ؛ لأن طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها. ومن طلق، امرأته في كل طهر مره بنت ولم تستأنف. وقال مالك: إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان أرتجعها ولا حاجة له بها. وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام. وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضا، فقال مالك والشافعي وزفر وعثمان البتي: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى. وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي،: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة. جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه. وقال داود: لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدة الأولى ولا عدة مستقبلة. ( والأولى ما قاله مالك والشافعي، والله أعلم.
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] ، ولقوله: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر » [ الطلاق: 4 ] . وقد مضى في « البقرة » ، ومضى فيها الكلام في المتعة، فأغنى عن الإعادة هنا. « وسرحوهن سراحا جميلا » فيه وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة بحسب الميسرة والعسرة، قال ابن عباس. الثاني: أنه طلاقها طاهرا من غير جماع، قال قتادة وقيل: فسرحوهن بعد الطلاق إلى أهلهن، فلا يجتمع الرجل والمطلقة في موضع واحد.
قوله تعالى: « فمتعوهن » قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » [ البقرة: 237 ] أي فلم يذكر المتعة. وقد مضى الكلام فيه. وقوله « وسرحوهن » طلقوهن. والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية. وعند الشافعي صريح. « جميلا » سنة، غير بدعة.
الآية: 50 ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما )
روى السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك » قالت: فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء. خرجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربي: وهو ضعيف جدا ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتج بها.
لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعه ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك » والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه. قال في سياق الآية « وبنات عمك وبتات عماتك » الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في « البقرة » .
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: « إنا أحللنا لك أزواجك » فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، قال ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم. وقيل: المراد أحللنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترتك على الدنيا والآخرة، قال الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لأن قوله: « آتيت أجورهن » ماض، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ومجيء الأم على هذا التأويل ضيقا على النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت. هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى، سر نساؤه بذلك.
قلت: والقول الأول أصح لما ذكرناه ويدل أيضا على صحته ما خرجه الترمذي عن عطاء قال قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
قوله تعالى: « وما ملكت يمينك » أحل الله تعالى السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته مطلقا، وأحل الأزواج لنبيه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وأحله للخلق بعدد. « مما أفاء الله عليك » أي رده عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئا، أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
قوله تعالى: « وبنات عمك وبنات عماتك » أي أحللنا لك ذلك زائدا من الأزواج اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور، لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجت وأتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: « وبنات عمك وبنات عماتك » لأن ذلك داخل فيما تقدم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خص هؤلاء بالذكر تشريفا، كما قال تعالى: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . والله أعلم.
قوله تعالى: « اللاتي هاجرن معك » فيه قولان: الأول: لا يحل لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبدالمطلب، وبنات أولاد بنات عبدالمطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زهرة إلا من أسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه ) . الثاني: لا يحل لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة، لقوله تعالى. « والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء. حتى يهاجروا » ومن لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم، صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى « معك » المعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحة فيها، ومن هاجر حل له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان معي وخرج معي، أي كان عمله كعملي لأن لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت: خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا: الاشتراك في الفعل، والاقتران فيه.
ذكر الله تبارك وتعالى العم فردا والعمات جحه. وكذلك قال: « خالك » ، « وخالاتك » والحكمة في ذلك: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه، قاله ابن العربي.
قوله تعالى: « وامرأة مؤمنة » عطف على « أحللنا » المعنى وأحللنا كل امرأة تهب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى، فروي عن ابن عباس أنه قال: لم تكن. عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال قوم: كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى « ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء » [ الأحزاب: 51 ] فقلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل هذا على أنهن كن غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزمخشري: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة. بن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها، فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غزية. وقيل غزيلة. وقيل ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل عند. الطفيل بن الحارث فولدت له شريكا. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم، ذكره أبو عمر بن عبدالبر. وقال الشعبي وعروة: وهي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
قرأ جمهور الناس « إن وهبت » بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر، أي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة، وقد دللنا على خلافه. وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقر على الباطل إذا سمعه، أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظرا بيانا، فنزلت الآية. بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا. وقرأ الحسن البصري وأبى بن كعب والشعبي « أن » يفتح الألف. وقرأ الأعمش « وامرأة مؤمنة وهبت » . قال النحاس: وكسر « إن » أجمع للمعاني، لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى. على واحدة بعينها، لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
قوله تعالى: « مؤمنة » يدل على أن الكافرة لا تحل له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه. قال ابن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات. وبهذا كان لا يحل له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
و « إن وهبت نفسها » دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في « النساء » وغيرها. وقال الزجاج: معنى « إن وهبت نفسها للنبي » حلت. وقرأ الحسن: « إن وهبت » بفتح الهمزة. و « أن » في موضع نصب. قال الزجاج: أي لأن. وقال غيره: « إن وهبت » بدل اشتمال من « امرأة » .
قوله تعالى: « إن أراد النبي أن يستنكحها » أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل، شيئا فلا يجب عليه القبول، بد أن من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردها هجنة في العادة، ووصمة على الواهب وأذية لقلبه، فبين الله ذلك في حق رسول صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى، ليرفع عنه الحرج، ومبطل بطل الناس في عادتهم وقولهم.
قوله تعالى « خالصة لك » أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز، فلا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل. ووجه الخاصية أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على، نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي أشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في « القصص » مستوفاة. والحمد لله.
خص الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد - في باب الفرض والتحريم والتحليل - مزية على الأمة وهبت له، ومرتبة خص بها، ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له. أشياء لم تحلل لهم، منها متفق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فرض عليه فتسعة: الأول - التهجد بالليل، يقال: إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات، لقوله تعالى: « يا أيها المزمل قم الليل » [ المزمل: 1 - 2 ] الآية. والمنصوص أنه كان، واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] وسيأتي. الثاني: الضحى. الثالث: الأضحى. الرابع: الوتر، وهو يدخل في قسم التهجد. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسرا. السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخير النساء. التاسع: إذا عمل عملا أثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأول: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني: صدقة التطوع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذم بعض الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخول. الرابع: حرم الله عليه إذا ليس بأمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس: الأكل متكئا. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدل بأزواجه، وسيأتي. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحرة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها غيره تنزيها له وتطهيرا. فحرم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه، تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته قال الله تعالى: « وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك » [ العنكبوت: 48 ] . وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب، والأول هو المشهور. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: « لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم » [ الحجر: 88 ] الآية.
وأما ما أحل له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأول: صفي المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولي. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القسم بين الأزواج عنه، وسيأتي. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها، وحل له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى. الحادي عشر: أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخول مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قال الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصا، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقرر بيانه في آية المواريث، وسورة « مريم » بيانه أيضا.
بقاء زوجيته من بعد الموت. السادس عشر: إذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدم مفصلا في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام، والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم » [ الأحزاب: 6 ] . وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته. مسجدا وطهورا. وكان من الأنبياء من لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث. الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجعلت معجزاته. كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجار الماء من الصخرة وقد أنشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من أبين أصابعه صلى الله عليه وسلم وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم الله إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وقد سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة.
قوله تعالى « من دون المؤمنين » فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: « أن يستنكحها » أي ينكحها، يقال: نكح واستنكح، مثل عجب واستعجب، وعجل واستعجل. ويجوز أن يرد الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء. و « خالصة » نصب على الحال، قال الزجاج. وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دل عليه المضمر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولي.
قوله تعالى: « من دون المؤمنين » فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام. أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة وولي. قال معناه أبي بن كعب وقتاه وغيرهما.
قوله تعالى: « لكيلا يكون عليك حرج » أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السعة، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح « لكيلا يكون عليك حرج » . فـ « لكيلا » متعلق بقوله: « إنا أحللنا أزواجك » أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك، في شيء. « وكان الله غفورا رحيما » ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: « وكان الله غفورا رحيما » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
===============
الآية: 51 ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما )
قوله تعالى: « ترجي من تشاء » قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته. « وتؤوي » تضم، يقال: آوى إليه. ( ممدودة الألف ) ضم إليه. وأوى ( مقصورة الألف ) انضم إليه.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها. التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته. وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت، أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله عز وجل « ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن أبتغيت ممن عزلت » قالت: قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. فالابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه. والمعنى المراد: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه، إن شاء أن يقسم قسم، وإن وشاء أن يترك القسم ترك. فخص النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وقيل: كان القسم واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية. قال أبو رزين: كان رسول الله قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له: اقسم لنا ما شئت. فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن. وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء. وقيل: المراد الواهبات. ورى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: « ترجي من تشاء منهن » قالت: هذا في الواهبات أنفسهن. قال الشعبي: هن الواهبات أنفسهن، تزوج ) رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن وترك منهن. وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحدا من أزواجه، بل آواهن كلهن. وقال ابن عباس وغيره: المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء. وقيل غير هذا. وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة. وما أخترناه أصح والله أعلم.
ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله: « ترجي من تشاء » الآية، ناسخ لقوله: « لا يحل لك النساء من بعد » [ الأحزاب: 52 ] الآية. وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. وكلامه يضعف من، جهات. وفي « البقرة » عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر، وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه.
قوله تعالى: « ومن ابتغيت ممن عزلت » « لمن ابغت » طلبت، والابتغاء الطلب. و « عزلت » أزلت، والعزلة الإزالة، أي إن أردت أن تؤوي إليك أمراة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك. كذلك حكم الإرجاء، فدل أحد الطرفين على الثاني. « فلا جناح عليك » أي لا ميل، يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض. أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ.
قوله تعالى: « ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن » قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل. وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه. فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وقرئ: « تقر أعينهن » بضم التاء ونصب الأعين. « وتقر أعينهن » على البناء للمفعول. وكان - السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن كما قدمناه - ويقول: ( اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله.. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. قالت عائشة: أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها - يعني في بيت عائشة - فأذن له... الحديث، خرجه الصحيح. وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد، يقول: ( أين أنا اليوم أين أنا غدا ) استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها. قالت: فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري، صلى الله عليه وسلم.
على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، هذا قول عامة العلماء. وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار. ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها وعليه أن يعدل... كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم. والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء. قال عبدالملك: للحرة ليلتان وللأمة ليلة. وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر، ولا حظ لهن فيه.
ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة. واختلف في دخول لحاجة وضرورة، فالأكثرون على جوازه، مالك وغيره. وفي كتاب ابن حبيب منعه. وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء. قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون. فأسهم بينهما أيهما تدلى أول.
قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ( ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فهما، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم في قسمه ( اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وفي كتاب أبي داود « يعني القلب » ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم » [ النساء: 129 ] وقوله تعالى: « والله يعلم ما في قلوبكم » . وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا، تنبيها منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض، وهو العالم بكل شيء « لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء » [ آل عمران: 5 ] « يعلم السر وأخفى » [ طه: 7 ] لكنه سمح في ذلك، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل، وإلى ذلك يعود قوله: « وكان الله غفورا رحيما » . وقد قيل في قوله: « ذلك أدنى أن تقر أعينهن » أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل. وروى أبو داود عن أبي هريره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) « ويرضين بما آتيتهن كلهن » توكيد للضمير، أي ويرضين كلهن. وأجاز أبو حاتم والزجاج « ويرضين بما آتيتهن كلهن » على التوكيد للمضمر الذي في « آتيتهن » . والفراء لا يجيزه، لأن المعنى ليس عليه، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن. النحاس: والذي قاله حسن.
قوله تعالى: « والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما » خبر عام، والإشارة إلى، ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص. وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون. وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت،: أي الناس أحب إليك؟ فقال: ( عائشة ) فقلت: من الرجال؟ قال: ( أبوها ) قلت: ثم من؟ قال: ( عمر بن الخطاب... ) فعد رجالا. وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول « البقرة » ، وفي أول هذه السورة. يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له: ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب. فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضمتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
الآية: 52 ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا )
قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » اختلاف العلماء في تأويل قوله: « لا يحل لك النساء من بعد » على أقوال سبعة: الأولى: إنها منسوخة بالسنة، والناسخ لها حديث عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقد تقدم. الثاني: أنها منسوخة بآية أخرى، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل: « ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء » . قال النحاس: وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة واحد في النسخ. وقد يجوز أحل - له عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن. وهو مع هذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك. وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال: محال أن تنسخ هذه الآية يعني « ترجي من تشاء منهن » « لا يحل لك النساء من بعد » وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون ورجح قول من قال نسخت بالسنة. قال النحاس: وهذه المعاوضة لا تلزم وقائلها غالط، لأن القرآن بمنزلة صورة واحدة، كما صح عن ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان. ومبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم أن قوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » [ البقرة: 240 ] منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافا - بالآية التي قبلها « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » [ البقرة: 234 ] . الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم حظر عليه أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن. الرحمن بن الحارث بن هشام. قال النحاس: وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ. الرابع: أنه لما حرم عليهن أن يتزوجن بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن، قاله أبو أمامة بن سهل ابن حنيف.
قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » أي من بعد الأصناف التي سميت، قاله أبي بن بن كعب وعكرمة وأبو رزين، وهو اختيار محمد بن جرير. ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: « لا يحل لك السعاة » معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات. وهذا تأويل فيه بعد. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا. وهو القول السادس. قال مجاهد: لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين. وهذا القول يبعد، لأنه يقدره: من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وكذلك قدر « ولا أن تبدل بهن » أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية.
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك. قال: وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن كعب القرظي. « ولا أن تبدل بهن من أزواج » قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، فأنزل الله عز وجل « ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن » قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عيينة فأين الاستئذان ) ؟ فقال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت. قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذه عائشة أم المؤمنين ) قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال: ( يا عيينة، إن الله قد حرم ذلك ) . قال فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، من هذا؟ قال: ( أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ) . وقد أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبري: وما فعلت العرب قط هذا. وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة... الحديث، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول.
قلت: وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم. قال المبرد: وقرئ « لا يحل » بالياء والتاء. فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء. وزعم الفراء قال: اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء، وهذا غلط، وكيف يقال: اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه.
قوله تعالى: « ولو أعجبك حسنهن » قال ابن عباس: نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حسنها، فأراد أن يتزوجها، فنزلت الآية، وهذا حديث ضعيف قال ابن العربي.
في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ) . وقال عليه السلام لآخر: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا ) أخرجه الصحيح. قال الحميدي وأبو الفرج الجوزي. يعني صفراء أو زرقاء. وقيل رمصاء.
الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها. ومما يدل على أن الأم على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ) . فقوله: ( فإن استطاع فليفعل ) لا يقال مثله في الواجب. وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر. وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم، للأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى: « ولو أعجبك حسنهن » . وقال سهل بن أبي خيثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك على إجار من أجاجير المدينة فقلت له: أتفعل هذا؟ فقال نعم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها ) . الإجار: السطح، بلغة أهل الشام والحجاز. قال أبو عبيد: وجمع الإجار أجاجير وأجاجرة.
اختلف فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. قال داود: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ. وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة. والله أعلم.
قوله تعالى: « إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا » اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين: تحل لعموم قوله: « إلا ما ملكت يمينك » ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. قالوا: قوله تعالى « لا يحل لك النساء من بعد » أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرى بها. القول الثاني: لا تحل، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى: « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » [ الممتحنة: 10 ] فكيف به صلى الله عليه وسلم. و « ما » في قوله: « إلا ما ملكت يمينك » في موضع رفع بدل من « النساء » . ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء، وفيه ضعف. ويجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: إلا ملك يمينك، وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول.
الآية: 53 ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم » « أن » في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء. ليس من الأول. « غير ناظرين إناه » نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في « غير » الخفض على النعت لله للطعام، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل مع رجل ملازم له هو. وهذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن: سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى قوله إن ذلكم كان عند الله عظيما » أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأول الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وأدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل، عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت الآية. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: قال، عمر وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود: أن عمر أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب، إنك تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فأنزل الله تعالى: « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب » وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيناه. أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب. قال، ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه. وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام.
قوله تعالى: « بيوت النبي » دليل على أن البيت للرجل، ومحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا » [ الأحزاب: 34 ] قلنا: إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم والإذن إنما يكون للمالك.
واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: ( لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي فهو صدقة ) . هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن. قالوا: ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا. وإنما كان لهن سكن حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه. والله الموفق.
قوله تعالى: « غير ناظرين إناه » أي غير منتظرين وقت نضجه. و « إناه » مقصور، وفيه لغات: « إنى » بكسر الهمزة. قال الشيباني:
وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام
وقرأ ابن أبي عبلة: « غير ناظرين إناه » . مجرورا صفة لـ « طعام » . الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق. ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين، إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وأنى ( بفتحها ) ، وأناء ( بفتح الهمزة والمد ) قال الحطيئة:
وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعري فطال بي الإناء
يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.
قوله تعالى: « ولكن إذا دعيتم فادخلوا » فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول. والفاء في جواب « إذا » لازمة لما فيها من معنى المجازاة. « فإذا طعمتم فانتشروا » أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.
في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه، لأنه قال: « فإذا طعمتم فانتشروا » فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
قوله تعالى: « ولا مستأنسين لحديث » عطف على قوله: « غير ناظرين » و « غير » منصوبة على الحال من الكاف والميم في « لكم » أي غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى، المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. « إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق » أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك، في البشر. وفي الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى: ( إذا رأت الماء ) .
قوله تعالى: « وإذا سألتموهن متاعا » روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع...، الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب، مائه يدخل عليهن البر والفاجر، فأنزل الله عز وجل « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوه من وراء حجاب » .
واختلف في المتاع، فقيل: ما يتمتع به من العواري وقال فتوى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف، ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.
استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رأه قبل ذهاب بصره.
قوله تعالى: « ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن » يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحال وأحصن لنفسه وأتم لعصمته. « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
قوله تعالى: « ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فأنزل، الله تعالى: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » الآية. ونزلت: « وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب 6 ] . وقال القشيري أبو نصر عبدالرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء - في نفسه - لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيدالله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه. وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كني عنه ابن عباس ببعض الصحابة. وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيدالله.
قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة، ولا يصح. قال ابن عطية: لله در ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيدالله. قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا! والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » . وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجة في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في ( كتاب التذكرة ) من أبواب الجنة.
اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجه أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة، لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام: ( ما تركت بعد نفقة عيالي ) وروي ( أهلي ) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام: ( زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة ) . وقال عليه السلام: ( كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة ) . فرع - فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي. قال، القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع. « إن ذلكم كان عند الله عظيما » يعني أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أونكاح أزواجه، فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.
قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها - والله أعلم - بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
===============
الآية: 51 ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما )
قوله تعالى: « ترجي من تشاء » قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته. « وتؤوي » تضم، يقال: آوى إليه. ( ممدودة الألف ) ضم إليه. وأوى ( مقصورة الألف ) انضم إليه.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها. التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته. وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت، أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله عز وجل « ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن أبتغيت ممن عزلت » قالت: قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. فالابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه. والمعنى المراد: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في أزواجه، إن شاء أن يقسم قسم، وإن وشاء أن يترك القسم ترك. فخص النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وقيل: كان القسم واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية. قال أبو رزين: كان رسول الله قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له: اقسم لنا ما شئت. فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن. وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء. وقيل: المراد الواهبات. ورى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: « ترجي من تشاء منهن » قالت: هذا في الواهبات أنفسهن. قال الشعبي: هن الواهبات أنفسهن، تزوج ) رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن وترك منهن. وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحدا من أزواجه، بل آواهن كلهن. وقال ابن عباس وغيره: المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء. وقيل غير هذا. وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة. وما أخترناه أصح والله أعلم.
ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله: « ترجي من تشاء » الآية، ناسخ لقوله: « لا يحل لك النساء من بعد » [ الأحزاب: 52 ] الآية. وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. وكلامه يضعف من، جهات. وفي « البقرة » عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر، وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه.
قوله تعالى: « ومن ابتغيت ممن عزلت » « لمن ابغت » طلبت، والابتغاء الطلب. و « عزلت » أزلت، والعزلة الإزالة، أي إن أردت أن تؤوي إليك أمراة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك. كذلك حكم الإرجاء، فدل أحد الطرفين على الثاني. « فلا جناح عليك » أي لا ميل، يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض. أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ.
قوله تعالى: « ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن » قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين، لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه وإن قل. وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه. فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه وقرئ: « تقر أعينهن » بضم التاء ونصب الأعين. « وتقر أعينهن » على البناء للمفعول. وكان - السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن كما قدمناه - ويقول: ( اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله.. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. قالت عائشة: أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها - يعني في بيت عائشة - فأذن له... الحديث، خرجه الصحيح. وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد، يقول: ( أين أنا اليوم أين أنا غدا ) استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها. قالت: فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري، صلى الله عليه وسلم.
على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، هذا قول عامة العلماء. وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار. ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها وعليه أن يعدل... كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم. والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء. قال عبدالملك: للحرة ليلتان وللأمة ليلة. وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر، ولا حظ لهن فيه.
ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة. واختلف في دخول لحاجة وضرورة، فالأكثرون على جوازه، مالك وغيره. وفي كتاب ابن حبيب منعه. وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء. قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون. فأسهم بينهما أيهما تدلى أول.
قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ( ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فهما، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم في قسمه ( اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) . أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وفي كتاب أبي داود « يعني القلب » ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: « ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم » [ النساء: 129 ] وقوله تعالى: « والله يعلم ما في قلوبكم » . وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا، تنبيها منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض، وهو العالم بكل شيء « لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء » [ آل عمران: 5 ] « يعلم السر وأخفى » [ طه: 7 ] لكنه سمح في ذلك، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل، وإلى ذلك يعود قوله: « وكان الله غفورا رحيما » . وقد قيل في قوله: « ذلك أدنى أن تقر أعينهن » أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل. وروى أبو داود عن أبي هريره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) « ويرضين بما آتيتهن كلهن » توكيد للضمير، أي ويرضين كلهن. وأجاز أبو حاتم والزجاج « ويرضين بما آتيتهن كلهن » على التوكيد للمضمر الذي في « آتيتهن » . والفراء لا يجيزه، لأن المعنى ليس عليه، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن. النحاس: والذي قاله حسن.
قوله تعالى: « والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما » خبر عام، والإشارة إلى، ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص. وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون. وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت،: أي الناس أحب إليك؟ فقال: ( عائشة ) فقلت: من الرجال؟ قال: ( أبوها ) قلت: ثم من؟ قال: ( عمر بن الخطاب... ) فعد رجالا. وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول « البقرة » ، وفي أول هذه السورة. يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له: ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب. فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضمتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
الآية: 52 ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا )
قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » اختلاف العلماء في تأويل قوله: « لا يحل لك النساء من بعد » على أقوال سبعة: الأولى: إنها منسوخة بالسنة، والناسخ لها حديث عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقد تقدم. الثاني: أنها منسوخة بآية أخرى، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل: « ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء » . قال النحاس: وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة واحد في النسخ. وقد يجوز أحل - له عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن. وهو مع هذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك. وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال: محال أن تنسخ هذه الآية يعني « ترجي من تشاء منهن » « لا يحل لك النساء من بعد » وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون ورجح قول من قال نسخت بالسنة. قال النحاس: وهذه المعاوضة لا تلزم وقائلها غالط، لأن القرآن بمنزلة صورة واحدة، كما صح عن ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان. ومبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم أن قوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » [ البقرة: 240 ] منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافا - بالآية التي قبلها « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » [ البقرة: 234 ] . الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم حظر عليه أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن. الرحمن بن الحارث بن هشام. قال النحاس: وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ. الرابع: أنه لما حرم عليهن أن يتزوجن بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن، قاله أبو أمامة بن سهل ابن حنيف.
قوله تعالى: « لا يحل لك النساء من بعد » أي من بعد الأصناف التي سميت، قاله أبي بن بن كعب وعكرمة وأبو رزين، وهو اختيار محمد بن جرير. ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: « لا يحل لك السعاة » معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات. وهذا تأويل فيه بعد. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا. وهو القول السادس. قال مجاهد: لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين. وهذا القول يبعد، لأنه يقدره: من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وكذلك قدر « ولا أن تبدل بهن » أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية.
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك. قال: وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن كعب القرظي. « ولا أن تبدل بهن من أزواج » قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، فأنزل الله عز وجل « ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن » قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عيينة فأين الاستئذان ) ؟ فقال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت. قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذه عائشة أم المؤمنين ) قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال: ( يا عيينة، إن الله قد حرم ذلك ) . قال فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، من هذا؟ قال: ( أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ) . وقد أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبري: وما فعلت العرب قط هذا. وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة... الحديث، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول.
قلت: وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم. قال المبرد: وقرئ « لا يحل » بالياء والتاء. فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء. وزعم الفراء قال: اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء، وهذا غلط، وكيف يقال: اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه.
قوله تعالى: « ولو أعجبك حسنهن » قال ابن عباس: نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس، أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حسنها، فأراد أن يتزوجها، فنزلت الآية، وهذا حديث ضعيف قال ابن العربي.
في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ) . وقال عليه السلام لآخر: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا ) أخرجه الصحيح. قال الحميدي وأبو الفرج الجوزي. يعني صفراء أو زرقاء. وقيل رمصاء.
الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها. ومما يدل على أن الأم على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ) . فقوله: ( فإن استطاع فليفعل ) لا يقال مثله في الواجب. وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر. وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم، للأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى: « ولو أعجبك حسنهن » . وقال سهل بن أبي خيثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك على إجار من أجاجير المدينة فقلت له: أتفعل هذا؟ فقال نعم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها ) . الإجار: السطح، بلغة أهل الشام والحجاز. قال أبو عبيد: وجمع الإجار أجاجير وأجاجرة.
اختلف فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. قال داود: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ. وأصول الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة. والله أعلم.
قوله تعالى: « إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا » اختلف العلماء في إحلال الأمة الكافرة للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين: تحل لعموم قوله: « إلا ما ملكت يمينك » ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. قالوا: قوله تعالى « لا يحل لك النساء من بعد » أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرى بها. القول الثاني: لا تحل، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى: « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » [ الممتحنة: 10 ] فكيف به صلى الله عليه وسلم. و « ما » في قوله: « إلا ما ملكت يمينك » في موضع رفع بدل من « النساء » . ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء، وفيه ضعف. ويجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: إلا ملك يمينك، وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول.
الآية: 53 ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم » « أن » في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء. ليس من الأول. « غير ناظرين إناه » نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في « غير » الخفض على النعت لله للطعام، لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل مع رجل ملازم له هو. وهذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن: سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش امرأة زيد أولم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل « يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلى قوله إن ذلكم كان عند الله عظيما » أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبي: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأول الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وأدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفا. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل، عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت الآية. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: قال، عمر وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود: أن عمر أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب، إنك تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا فأنزل الله تعالى: « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب » وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيناه. أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب. قال، ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه. وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نضج الطعام.
قوله تعالى: « بيوت النبي » دليل على أن البيت للرجل، ومحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: « واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا » [ الأحزاب: 34 ] قلنا: إضافة البيوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة ملك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم والإذن إنما يكون للمالك.
واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهن أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكا لهن، بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهن في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهن بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر وابن العربي وغيرهم، فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال: ( لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي فهو صدقة ) . هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن. قالوا: ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن. قالوا: وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا. وإنما كان لهن سكن حياتهن، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهن، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعم جميعهم نفعه. والله الموفق.
قوله تعالى: « غير ناظرين إناه » أي غير منتظرين وقت نضجه. و « إناه » مقصور، وفيه لغات: « إنى » بكسر الهمزة. قال الشيباني:
وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام
وقرأ ابن أبي عبلة: « غير ناظرين إناه » . مجرورا صفة لـ « طعام » . الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق. ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين، إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وأنى ( بفتحها ) ، وأناء ( بفتح الهمزة والمد ) قال الحطيئة:
وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعري فطال بي الإناء
يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.
قوله تعالى: « ولكن إذا دعيتم فادخلوا » فأكد المنع، وخص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول. والفاء في جواب « إذا » لازمة لما فيها من معنى المجازاة. « فإذا طعمتم فانتشروا » أمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.
في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه، لأنه قال: « فإذا طعمتم فانتشروا » فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
قوله تعالى: « ولا مستأنسين لحديث » عطف على قوله: « غير ناظرين » و « غير » منصوبة على الحال من الكاف والميم في « لكم » أي غير ناظرين ولا مستأنسين، والمعنى، المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. « إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق » أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك، في البشر. وفي الصحيح عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى: ( إذا رأت الماء ) .
قوله تعالى: « وإذا سألتموهن متاعا » روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع...، الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب، مائه يدخل عليهن البر والفاجر، فأنزل الله عز وجل « وإذا سألتموهن متاعا فاسألوه من وراء حجاب » .
واختلف في المتاع، فقيل: ما يتمتع به من العواري وقال فتوى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب، في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف، ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.
استدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيما رأه قبل ذهاب بصره.
قوله تعالى: « ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن » يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن لحال وأحصن لنفسه وأتم لعصمته. « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
قوله تعالى: « ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلا قال: لو قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فأنزل، الله تعالى: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله » الآية. ونزلت: « وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب 6 ] . وقال القشيري أبو نصر عبدالرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء - في نفسه - لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيدالله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفر الله عنه. وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به، هكذا كني عنه ابن عباس ببعض الصحابة. وحكى مكي عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيدالله.
قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة، ولا يصح. قال ابن عطية: لله در ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيدالله. قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا! والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه، فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا، لقوله تعالى: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » . وقد قيل: إنما منع من التزوج بزوجاته، لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجة في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوجي من بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في ( كتاب التذكرة ) من أبواب الجنة.
اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجه أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة، لأنه توفي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام: ( ما تركت بعد نفقة عيالي ) وروي ( أهلي ) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام: ( زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة ) . وقال عليه السلام: ( كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة ) . فرع - فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية وغيرها، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدم. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي. قال، القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع. « إن ذلكم كان عند الله عظيما » يعني أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أونكاح أزواجه، فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.
قد بينا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسودة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بعد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها - والله أعلم - بيد أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها، مراعاة للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
==============
الآية: 54 ( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما )
البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به ها هنا التوبيخ والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله: « ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن » ، ومن أشير إليه في قوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » فقيل لهم في هذه الآية: إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها. فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها. والله أعلم.
الآية: 55 ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا )
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية.
ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى: « نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل » [ البقرة: 133 ] وإسماعيل كان العم. قال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها. وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة « النور » ، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله.
قوله تعالى: « واتقين الله » لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثن توعد تعالى بقوله: « إن الله كان على كل شيء شهيدا » .
الآية: 56 ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره
مسألة: واختلف العلماء في الضمير في قوله: « يصلون » فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بئس الخطيب أنت، قل ومن يعصى الله ورسوله ) أخرجه الصحيح. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يقع في ذلك ما يشاء. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فعله. ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بئس الخطيب أنت ) لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما، وسكت سكتة. واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسول ومن يعصهما. فقال: ( قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت ) . إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له: ( بئس الخطيب ) أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال: ( قل ومن يعص الله ورسول ) كما في كتاب مسلم. وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على « ومن يعصهما » . وقرأ ابن عباس: « وملائكه » بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول « إن » . والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة.
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه » أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. الزمخشري: فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: ( من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله ) . وروى أنه قيل له: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: « إن الله وملائكته يصلون على النبي » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي. علي إلا قال ذلك الملكان غفر. الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين أمين. ولا أذكر. عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين ) . ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس. وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر. وكذلك قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط: الصلاة عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار في ذلك.
واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى، تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى: ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم ) . ورواه النسائي عن طلحة مثله، بإسقاط قوله: ( في العالمين ) وقوله: ( والسلام كما قد علمتم ) . وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد. الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم. وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة. أخرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي. قال أبو عمر: روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبدالرحمن بن ابن ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزل قوله: تعالى: « يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما » جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: ( قل الهم صل على محمد. وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى: « إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما » فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام. عليه، وهو قوله: ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) . وروى المسعودي عن عون بن عبدالله عن أبي فاختة عن الأسود عن عبدالله أنه قال: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا فعلمنا، قال: ( قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام أبعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل حمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حمد مجيد ) . ورويناه بالإسناد المتصل في كتاب ( الشفا ) للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) . قال ابن العربي: من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه. ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا، وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين.
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ) . وقال سهل بن عبدالله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات، لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. قال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال: الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب ) .
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها. قال ابن المنذر: يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم. وهو قول جل أهل العلم. وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. وقال أبو عمر: قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال: وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه. وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه. وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه. وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره. وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي: وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة. والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب. وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد. بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا. وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني.
قوله تعالى: « وسلموا تسليما » قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه. وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره. وروى النسائي عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقلت: إنا لنرى البشرى في وجهك! فقال: ( إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا ) . وعن محمد بن عبدالرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ) وروى النسائي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام ) . قال القشيري والتسليم قولك: سلام عليك.
الآية: 57 ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا )
اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله. والمشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: ( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك... ) الحديث. وقد تقدم في سورة « مريم » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى: ( يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما ) . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) أخرجه أيضا مسلم. وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( لعن الله المصورين ) .
قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقد تقدم هذا في سورة « النمل » والحمد لله. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله. وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا. أما قولهم: « فساحر شاعر. كاهن مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد » إلى غير ذلك. وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي. وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا. وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه .. ومنه..
قال علماؤنا: والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته؛ فقام رسول الله صلى فقال: ( إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده ) . وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا « أبنى » وهي القرية التي عند موتة، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة. فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته؛ من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة؛ فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها؛ فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله محلى مكة فقال: من استعملت على هذا الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه لقارئ لكتاب الله لأنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) .
كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. وقال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه، وينقي أنفه ويقول: ( لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج ) . وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه؛ فقالوا: ما أحتبس إلا لأجل هذا! تحقيرا له. فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم. ذكره البخاري في التاريخ بمعناه. والله أعلم.
كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه. وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض. وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان: إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك! وقال قولا قبيحا. فقال له أسامة: إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش ) . فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في محابه.
قوله تعالى: « لعنهم الله » معناه أبعدوا من كل خير. واللعن في اللغة: الإبعاد، ومنه اللعان. « وأعد لهم عذابا مهينا » تقدم معناه في غير موضع. والحمد لله رب العالمين.
الآية: 58 ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا )
أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وهذه الآية نظير الآية التي في النساء: « ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا » [ النساء: 112 ] كما قال هنا. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام. وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: « فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا » وقد بيناه. وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب: قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها « والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا » الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم. فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. وقد قال: إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر بالسان؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. رضي الله عنه.
الآية: 59 ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما )
قوله تعالى: « قل لأزواجك وبناتك » قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة. قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع. خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية. وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث.
فالذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وقال عروة: ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب. وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن له موضعا تتم رضاعه في الجنة ) . وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم. وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة.
وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها..
ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة. واسم أبي العاصي لقيط. وقيل هاشم. وقيل هشيم وقيل مقسم. وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها.
ومنهن: رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه: « تبت يدا أبي لهب » [ المسد: 1 ] قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها. وسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان:
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك. وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة. وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية. ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة. وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله.
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار. يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره.
قوله تعالى: « من جلابيبهن » الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. وفي صحيح مسلم عن أم عطية: قلت: يا رسول الله. إحدانا لا يكون لها. جلباب؟ قال: ( لتلبسها أختها من جلبابها ) .
واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها.
أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: ( سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ) . وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية؛ فقال: ( اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به ) . والصديع النصف. ثم قال له: ( مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف ) . وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال: الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات. ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعينه. وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت: لم تؤمن بسورة « النور » امرأة تلبس هذا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) . وقال عمر رضي الله عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.
قوله تعالى: « ذلك أدنى أن يعرفن » أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء. وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) حتى قالت - عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. « وكان الله غفورا رحيما » تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
الآيات: 60 - 62 ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا )
قوله تعالى: « لئن لم ينته المنافقون » الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: « المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة » قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في « البقرة » . وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب: « الذين في قلوبهم مرض » يعني الذين هي قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة « البقرة » . والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر: أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
قوله تعالى: « لنغرينك بهم » أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » [ التوبة: 84 ] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء؛ وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: « أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا » . فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم؛ أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس يقتلن في الحل والحرم ) . فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقيل: إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم. ولام « لنغرينك » لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في « إن » توطئة لها. « ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا » أي في المدينة. « إلا قليلا » نصب على الحال من الضمير في « يجاورونك » ؛ فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء. فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم. والجواب الآخر: أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف. ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار. وقد مضى في « النساء » .
قوله تعالى: « ملعونين » هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال. وقال ابن الأنباري: « قليلا ملعونين » وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام « إلا قليلا » وتنصب « ملعونين » على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر: « وامرأته حمالة الحطب » . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة « التوبة » جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم ) فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. « سنة الله » نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. « ولن تجد لسنة الله تبديلا » أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش. وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله. المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في « آل عمران » وغيرها.
الآية: 63 ( يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا )
قوله تعالى: « يسألك الناس عن الساعة » هؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون. « قل إنما علمها عند الله » أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، وليس إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز. « وما يدريك » أي ما يعلمك. « لعل الساعة تكون قريبا » أي في زمان قريب. وقال صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار إلى السبابة والوسطى، خرجه أهل الصحيح. وقيل: أي ليست الساعة تكون قريبا، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم؛ كقوله: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » [ الأعراف: 56 ] ولم يقل قريبة ذهابا بالرحمة إلى العفو، إذ ليس تأنيثها أصليا. وقد مضى هذا مستوفى. وقيل: إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت.
الآيات: 64 - 65 ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا )
قوله تعالى: « إن الله لعن الكافرين » أي طردهم وأبعدهم. واللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. وقد مضى في « البقرة » بيانه. « وأعد لهم سعيرا » أنث السعير لأنها بمعنى النار. « لا يجدون وليا ولا نصيرا » خالدين في السعير لا يجدون من ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه.
الآيات: 66 - 67 ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا )
قوله تعالى: « يوم تقلب وجوههم في النار » قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام، على الفعل المجهول. وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق: « نقلب » بنون وكسر - اللام. « وجوههم » نصبا. وقرأ عيسى أيضا: « تقلب » بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسود مرة وتخضر أخرى. وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا « يقولون ياليتنا » ويجوز أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا. « أطعنا الله وأطعنا الرسولا » أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الألف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها. وكذا « السبيلا » وقد مضى في أول السورة. وقرأ الحسن: « ساداتنا » بكسر التاء، جمع سادة. وكان في هذا زجر عن التقليد. والسادة جمع السيد، وهو فعلة، مثل كتبة وفجرة. وساداتنا جمع الجمع. والسادة والكبراء بمعنى. وقال قتادة: هم المطعمون في غزوة بدر. والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه « فأضلونا السبيل » أي عن السبيل وهو التوحيد، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر، قوله: كقوله « لقد أضلني عن الذكر » [ الفرقان:92 ] .
الآية: 68 ( ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا )
قوله تعالى: « ربنا آتهم ضعفين من العذاب » قال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال؛ أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا. « والعنهم لعنا كبيرا » قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء. الباقون بالثاء، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، لقوله تعالى: « أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون » [ البقرة: 159 ] وهذا المعنى كثير. وقال محمد بن أبي السري: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكأن رجلا يناظرني فيمن يبغض أصحاب محمد فقال: وألعنهم لعنا كثيرا، ثم كررها حتى غاب عني، لا يقولها إلا بالثاء. وقراءة الباء ترجع في المعنى إلى الثاء؛ لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار.
==============
الآية: 54 ( إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما )
البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به ها هنا التوبيخ والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله: « ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن » ، ومن أشير إليه في قوله: « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا » فقيل لهم في هذه الآية: إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها. فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها. والله أعلم.
الآية: 55 ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا )
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية.
ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحل للمرأة البروز له، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أبا، قال الله تعالى: « نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل » [ البقرة: 133 ] وإسماعيل كان العم. قال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها. وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة « النور » ، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله.
قوله تعالى: « واتقين الله » لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثن توعد تعالى بقوله: « إن الله كان على كل شيء شهيدا » .
الآية: 56 ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن لأمة الدعاء والتعظيم لأمره
مسألة: واختلف العلماء في الضمير في قوله: « يصلون » فقالت فرقة: الضمير فيه لله والملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بئس الخطيب أنت، قل ومن يعصى الله ورسوله ) أخرجه الصحيح. قالوا: لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير، ولله أن يقع في ذلك ما يشاء. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس في الآية اجتماع في ضمير، وذلك جائز للبشر فعله. ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بئس الخطيب أنت ) لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما، وسكت سكتة. واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسول ومن يعصهما. فقال: ( قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت ) . إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له: ( بئس الخطيب ) أصلح له بعد ذلك جميع كلامه، فقال: ( قل ومن يعص الله ورسول ) كما في كتاب مسلم. وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على « ومن يعصهما » . وقرأ ابن عباس: « وملائكه » بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول « إن » . والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة.
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه » أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه. الزمخشري: فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة. وقد اختلفوا في حال وجوبها، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: ( من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله ) . وروى أنه قيل له: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: « إن الله وملائكته يصلون على النبي » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي. علي إلا قال ذلك الملكان غفر. الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين أمين. ولا أذكر. عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين ) . ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس. وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر. وكذلك قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط: الصلاة عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار في ذلك.
واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى، تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى: ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم ) . ورواه النسائي عن طلحة مثله، بإسقاط قوله: ( في العالمين ) وقوله: ( والسلام كما قد علمتم ) . وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد. الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم. وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة. أخرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي. قال أبو عمر: روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبدالرحمن بن ابن ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزل قوله: تعالى: « يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما » جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ فقال: ( قل الهم صل على محمد. وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى: « إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما » فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام. عليه، وهو قوله: ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) . وروى المسعودي عن عون بن عبدالله عن أبي فاختة عن الأسود عن عبدالله أنه قال: إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا فعلمنا، قال: ( قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام أبعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل حمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حمد مجيد ) . ورويناه بالإسناد المتصل في كتاب ( الشفا ) للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) . قال ابن العربي: من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه. ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا، وإنما يختارون السالم الطيب، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص، بل ربما أصاب الخسران المبين.
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ) . وقال سهل بن عبدالله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات، لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. قال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال: الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب ) .
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها. قال ابن المنذر: يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم. وهو قول جل أهل العلم. وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان. وقال أبو عمر: قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة. قال: وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه. وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه. وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه، وهو عندهم تحصيل مذهبه. وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره. وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي: وليست بواجبة في، الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم له فيها قدوة. والدليل على أنها ليست من فروض، الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روي التشهد عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب. وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس فيه ذكر الصلاة على، النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد. بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبدالوهاب، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح: إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا. وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم. وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أنه قول أبي جعفر، قال الدارقطني.
قوله تعالى: « وسلموا تسليما » قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه. وكذلك من بعدهم امروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره. وروى النسائي عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقلت: إنا لنرى البشرى في وجهك! فقال: ( إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا ) . وعن محمد بن عبدالرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ) وروى النسائي عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام ) . قال القشيري والتسليم قولك: سلام عليك.
الآية: 57 ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا )
اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون؟ فقال الجمهور من العلماء: معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله: وقالت اليهود يد الله مغلولة. والنصارى: المسيح ابن الله. والمشركون: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه. وفي صحيح البخاري قال الله تعالى: ( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك... ) الحديث. وقد تقدم في سورة « مريم » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى: ( يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما ) . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) أخرجه أيضا مسلم. وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( لعن الله المصورين ) .
قلت: وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها؛ إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى. وقد تقدم هذا في سورة « النمل » والحمد لله. وقالت فرقة: ذلك على حذف مضاف، تقديره: يؤذون أولياء الله. وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد، ومن الأفعال أيضا. أما قولهم: « فساحر شاعر. كاهن مجنون. وأما فعلهم: فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد » إلى غير ذلك. وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي. وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسول لا يكون إلا بغير حق أبدا. وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه .. ومنه..
قال علماؤنا: والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته؛ فقام رسول الله صلى فقال: ( إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده ) . وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزوا « أبنى » وهي القرية التي عند موتة، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة. فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته؛ من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة؛ فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها؛ فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش. وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله محلى مكة فقال: من استعملت على هذا الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى! قال: إنه لقارئ لكتاب الله لأنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) .
كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعي، وكان أسود شديد السواد، وكأن زيد أبوه أبيض من القطن. هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. وقال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه، وينقي أنفه ويقول: ( لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج ) . وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه؛ فقالوا: ما أحتبس إلا لأجل هذا! تحقيرا له. فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم. ذكره البخاري في التاريخ بمعناه. والله أعلم.
كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبدالله ألفين؛ فقال له عبدالله: فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، أبيك، ففضل رضي الله عنه من محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه. وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض. وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه؛ وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان: إنما أردت أن نرى مكانك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك! وقال قولا قبيحا. فقال له أسامة: إنك أذيتني، وإنك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش ) . فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين، فقد أذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في محابه.
قوله تعالى: « لعنهم الله » معناه أبعدوا من كل خير. واللعن في اللغة: الإبعاد، ومنه اللعان. « وأعد لهم عذابا مهينا » تقدم معناه في غير موضع. والحمد لله رب العالمين.
الآية: 58 ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا )
أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وهذه الآية نظير الآية التي في النساء: « ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا » [ النساء: 112 ] كما قال هنا. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه، لأن أذاه في الجملة حرام. وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: « فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا » وقد بيناه. وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب: قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها « والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا » الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم. فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. وقد قال: إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر بالسان؛ فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. رضي الله عنه.
الآية: 59 ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما )
قوله تعالى: « قل لأزواجك وبناتك » قد مضى الكلام في تفضيل أزواجه واحدة واحدة. قال قتادة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسع. خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من سائر العرب: ميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. وواحدة من بني هارون: صفية. وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث.
فالذكور من أولاده: القاسم، أمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، وهو أول من مات من أولاده، وعاش سنتين. وقال عروة: ولدت خديجة للنبي صلى الله ليه وسلم القاصم والطاهر وعبدالله والطيب. وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن له موضعا تتم رضاعه في الجنة ) . وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم. وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة.
وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، ولدتها وقريش تبني النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وبنى بها في ذي الحجة. وقيل: تزوجها في رجب، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها..
ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة. واسم أبي العاصي لقيط. وقيل هاشم. وقيل هشيم وقيل مقسم. وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها.
ومنهن: رقة - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم وأنزل عليه: « تبت يدا أبي لهب » [ المسد: 1 ] قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها. وسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان:
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا، ثم ولدت بعد ذلك عبدالله، وكان عثمان يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات، ولم تلد له شيئا بعد ذلك. وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة. وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر، فدخل المدينة حين سوي التراب على بقية. ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية، ولم يكن دخل بها، حتى نزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوقيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة. وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله.
لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار. يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره.
قوله تعالى: « من جلابيبهن » الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. وروى عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء. وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن. وفي صحيح مسلم عن أم عطية: قلت: يا رسول الله. إحدانا لا يكون لها. جلباب؟ قال: ( لتلبسها أختها من جلبابها ) .
واختلف الناس في صورة إرخائه؛ فقال ابن عباس وزبيدة السلماني: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها.
أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: ( سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ) . وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية؛ فقال: ( اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به ) . والصديع النصف. ثم قال له: ( مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف ) . وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال: الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات. ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق، فقالت عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعينه. وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر، فلما رأتها قالت: لم تؤمن بسورة « النور » امرأة تلبس هذا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) . وقال عمر رضي الله عنه: ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.
قوله تعالى: « ذلك أدنى أن يعرفن » أي الحراس، حتى لا يختلط بالإماء؛ فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن. وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء. وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) حتى قالت - عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. « وكان الله غفورا رحيما » تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
الآيات: 60 - 62 ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا )
قوله تعالى: « لئن لم ينته المنافقون » الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد؛ كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: « المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة » قال: هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في « البقرة » . وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب: « الذين في قلوبهم مرض » يعني الذين هي قلوبهم الزنى. وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء. وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب. وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين؛ دليله آية المنافقين في أول سورة « البقرة » . والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف: واحد أراجيف الأخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر: أبس الأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور فالإرجاف حرام، لأن فيه إذاية. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
قوله تعالى: « لنغرينك بهم » أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل. وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل: « ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » [ التوبة: 84 ] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء؛ وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: « أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا » . فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم؛ أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس يقتلن في الحل والحرم ) . فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقيل: إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم. ولام « لنغرينك » لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في « إن » توطئة لها. « ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا » أي في المدينة. « إلا قليلا » نصب على الحال من الضمير في « يجاورونك » ؛ فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء. فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم. والجواب الآخر: أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف. ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار. وقد مضى في « النساء » .
قوله تعالى: « ملعونين » هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال. وقال ابن الأنباري: « قليلا ملعونين » وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام « إلا قليلا » وتنصب « ملعونين » على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر: « وامرأته حمالة الحطب » . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة « التوبة » جمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم ) فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد. « سنة الله » نصب على المصدر؛ أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. « ولن تجد لسنة الله تبديلا » أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش. وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله. المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في « آل عمران » وغيرها.
الآية: 63 ( يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا )
قوله تعالى: « يسألك الناس عن الساعة » هؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون. « قل إنما علمها عند الله » أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، وليس إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز. « وما يدريك » أي ما يعلمك. « لعل الساعة تكون قريبا » أي في زمان قريب. وقال صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار إلى السبابة والوسطى، خرجه أهل الصحيح. وقيل: أي ليست الساعة تكون قريبا، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم؛ كقوله: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » [ الأعراف: 56 ] ولم يقل قريبة ذهابا بالرحمة إلى العفو، إذ ليس تأنيثها أصليا. وقد مضى هذا مستوفى. وقيل: إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت.
الآيات: 64 - 65 ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا )
قوله تعالى: « إن الله لعن الكافرين » أي طردهم وأبعدهم. واللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. وقد مضى في « البقرة » بيانه. « وأعد لهم سعيرا » أنث السعير لأنها بمعنى النار. « لا يجدون وليا ولا نصيرا » خالدين في السعير لا يجدون من ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه.
الآيات: 66 - 67 ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا )
قوله تعالى: « يوم تقلب وجوههم في النار » قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام، على الفعل المجهول. وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق: « نقلب » بنون وكسر - اللام. « وجوههم » نصبا. وقرأ عيسى أيضا: « تقلب » بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسود مرة وتخضر أخرى. وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا « يقولون ياليتنا » ويجوز أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا. « أطعنا الله وأطعنا الرسولا » أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الألف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها. وكذا « السبيلا » وقد مضى في أول السورة. وقرأ الحسن: « ساداتنا » بكسر التاء، جمع سادة. وكان في هذا زجر عن التقليد. والسادة جمع السيد، وهو فعلة، مثل كتبة وفجرة. وساداتنا جمع الجمع. والسادة والكبراء بمعنى. وقال قتادة: هم المطعمون في غزوة بدر. والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه « فأضلونا السبيل » أي عن السبيل وهو التوحيد، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر، قوله: كقوله « لقد أضلني عن الذكر » [ الفرقان:92 ] .
الآية: 68 ( ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا )
قوله تعالى: « ربنا آتهم ضعفين من العذاب » قال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال؛ أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا. « والعنهم لعنا كبيرا » قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء. الباقون بالثاء، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، لقوله تعالى: « أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون » [ البقرة: 159 ] وهذا المعنى كثير. وقال محمد بن أبي السري: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكأن رجلا يناظرني فيمن يبغض أصحاب محمد فقال: وألعنهم لعنا كثيرا، ثم كررها حتى غاب عني، لا يقولها إلا بالثاء. وقراءة الباء ترجع في المعنى إلى الثاء؛ لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الاحزاب
==============
الآية: 69 ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها )
لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى. واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم: زيد بن محمد. وقال أبو وائل: أذيته أنه صلى الله عليه وسلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: ( رحم الله لقد أوذي لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر. وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال: ( كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك « فبرأه الله مما قالوا » أخرجه البخاري ومسلم بمعناه. ولفظ مسلم: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا ) قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. فهذا قول. وروي عن ابن عباس عن علي، بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون؛ وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا. فأذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل. وقد قيل: إن الملائكة تكليما بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم، وإنه تعالى جعله أصم أبكم. ومات هارون قبل موسى في التيه، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين. وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات. وقد قيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون. والصحيح الأول. ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك.
مسألة: في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخول في الماء عريانا دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا ) . قال القاضي عياض: وهو ضعيف عند أهل العلم.
قلت: أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبدالأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به، فلما خرج قيل له، قال: إنما تسترت ممن يراني ولا أراه؛ يعني من ربي والملائكة. فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل. و « حجر » منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى: « يوسف أعرض عن هذا » [ يوسف: 29 ] . و « ثوبي » منصوب بفعل مضمر؛ التقدير: أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه.
قوله تعالى: « وكان عند الله وجيها » أي عظيما. والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنزلة. ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. وقرأ ابن مسعود: « وكان عبدا لله » . وقيل: معنى « وجيها » أي كلمه تكليما. قال أبو بكر الأنباري في ( كتاب الرد ) : زعم من طعن في، القرآن أن المسلمين صحفوا « وكان عند الله وجيها » وأن الصواب عنده « وكان عبدا لله وجيها » وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه، وذلك أن الآية لو حملت على قول وقرئت: « وكان عبدا » نقص الثناء على موسى عليه السلام؛ وذلك أن « وجيها » يكون عند. أهل الدنيا وعند أهل، زمانه وعند أهل الآخرة، فلا يوقف على مكان المدح، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله. فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله: « وكان عند الله وجيها » استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله، فمن غير اللفظ صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح.
الآيات: 70 - 71 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا » أي قصدا وحقا. وقال ابن عباس: أي صوابا. وقال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولا سديدا في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا النبي إلى ما لا يحل. وقال عكرمة وابن عباس أيضا: القول السداد لا إله إلا الله. وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره. وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين. وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك.
وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين. ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب؛ وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة. « ومن يطع الله ورسوله » أي فيما أمر به ونهى عنه « فقد فاز فوزا عظيما » .
الآيات: 72 - 73 ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما )
لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. روى الترمذي الحكيم أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبدالله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ) . فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد. وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها. وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وفي حديث مرفوع ( الأمانة الصلاة ) إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل. وكذلك الصيام وغسل الجنابة. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق. فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه. وذلك أن الله تعالى قال له: ( يا آدم، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ) قال: ( اللهم لا قال: ( فإن لي بيتا بمكة فأته ) فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة؟ فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت. فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك. فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها » . الآية. وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت. فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي؟ قال: إن حسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك. قال: فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال » قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه. وقيل: هذه ألأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قال بعض المتكلمين. ومعنى « عرضنا » أظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع. والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن « فأبين أن يحملنها » أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز: « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] .
قوله تعالى: « وحملها الإنسان » قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. « إنه كان ظلوما » لنفسه « جهولا » بربه. فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر. لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له، قال الحسن وغيره. قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد. الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقول: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل » [ الحشر: 21 ] - ثم قال: - « وتلك الأمثال نضربها للناس » [ الحشر: 21 ] . قال القفال: فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبر عن هذا المعنى بقوله: « إنا عرضنا الأمانة » الآية.
وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست، قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل: « عرضنا » بمعنى عارضنا الإمامة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل، فقبله ولم يزل عاملا به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يهب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. « إنه كان ظلوما » لنفسه « جهولا » بعاقبة ما تقلد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف، ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى، باطنه وجدناه بعيدا مما قال! وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومئ في مقالته. إلى أنه سلطه على جميع ما في، الأرض، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على، السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال - حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حصلها، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه « ظلوما » أي لنفسه، « جهولا » بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن: إن هذه « الأمانة » ، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا رب، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قبل أن يدعي فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حقويه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه « الأمانة » ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها، وحملتها أنت من غير أن تدعي لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوما جهولا. وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. « وحملها الإنسان » أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى « حملها » خان فيها. وقال الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: « الإنسان » آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم: « الإنسان » النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا. وقال السدي: الإنسان قابيل. فالله أعلم.
قوله تعالى: « ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات » اللام في « ليعذب » متعلقة بـ « حمل » أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وقيل بـ « عرضنا » ؛ أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم: الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. « ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات » قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول؛ أي يتوب الله عليهم بكل حال. « وكان الله غفورا رحيما » خبر بعد خبر « لكان » . ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر. والله أعلم بالصواب.
==============
الآية: 69 ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها )
لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى. واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم: زيد بن محمد. وقال أبو وائل: أذيته أنه صلى الله عليه وسلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: ( رحم الله لقد أوذي لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر. وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه قال: ( كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك « فبرأه الله مما قالوا » أخرجه البخاري ومسلم بمعناه. ولفظ مسلم: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا ) قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. فهذا قول. وروي عن ابن عباس عن علي، بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون؛ وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا. فأذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل. وقد قيل: إن الملائكة تكليما بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم، وإنه تعالى جعله أصم أبكم. ومات هارون قبل موسى في التيه، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين. وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات. وقد قيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون. والصحيح الأول. ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك.
مسألة: في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخول في الماء عريانا دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا ) . قال القاضي عياض: وهو ضعيف عند أهل العلم.
قلت: أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبدالأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به، فلما خرج قيل له، قال: إنما تسترت ممن يراني ولا أراه؛ يعني من ربي والملائكة. فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل. و « حجر » منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى: « يوسف أعرض عن هذا » [ يوسف: 29 ] . و « ثوبي » منصوب بفعل مضمر؛ التقدير: أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه.
قوله تعالى: « وكان عند الله وجيها » أي عظيما. والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنزلة. ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. وقرأ ابن مسعود: « وكان عبدا لله » . وقيل: معنى « وجيها » أي كلمه تكليما. قال أبو بكر الأنباري في ( كتاب الرد ) : زعم من طعن في، القرآن أن المسلمين صحفوا « وكان عند الله وجيها » وأن الصواب عنده « وكان عبدا لله وجيها » وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه، وذلك أن الآية لو حملت على قول وقرئت: « وكان عبدا » نقص الثناء على موسى عليه السلام؛ وذلك أن « وجيها » يكون عند. أهل الدنيا وعند أهل، زمانه وعند أهل الآخرة، فلا يوقف على مكان المدح، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله. فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله: « وكان عند الله وجيها » استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله، فمن غير اللفظ صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح.
الآيات: 70 - 71 ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )
قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا » أي قصدا وحقا. وقال ابن عباس: أي صوابا. وقال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولا سديدا في شأن زينب وزيد، ولا تنسبوا النبي إلى ما لا يحل. وقال عكرمة وابن عباس أيضا: القول السداد لا إله إلا الله. وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره. وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين. وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. والقول السداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك.
وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين. ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب؛ وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة. « ومن يطع الله ورسوله » أي فيما أمر به ونهى عنه « فقد فاز فوزا عظيما » .
الآيات: 72 - 73 ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما )
لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. روى الترمذي الحكيم أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبدالله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ) . فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد. وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها. وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وفي حديث مرفوع ( الأمانة الصلاة ) إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل. وكذلك الصيام وغسل الجنابة. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق. فإن حفظتها حفظتك فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه. وذلك أن الله تعالى قال له: ( يا آدم، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ) قال: ( اللهم لا قال: ( فإن لي بيتا بمكة فأته ) فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة؟ فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت. فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك. فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها » . الآية. وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت. فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي؟ قال: إن حسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك. قال: فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال » قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه. وقيل: هذه ألأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قال بعض المتكلمين. ومعنى « عرضنا » أظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع. والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن « فأبين أن يحملنها » أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز: « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] .
قوله تعالى: « وحملها الإنسان » قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. « إنه كان ظلوما » لنفسه « جهولا » بربه. فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر. لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له، قال الحسن وغيره. قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد. الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقول: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل » [ الحشر: 21 ] - ثم قال: - « وتلك الأمثال نضربها للناس » [ الحشر: 21 ] . قال القفال: فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبر عن هذا المعنى بقوله: « إنا عرضنا الأمانة » الآية.
وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست، قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل: « عرضنا » بمعنى عارضنا الإمامة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال، إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل، فقبله ولم يزل عاملا به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يهب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. « إنه كان ظلوما » لنفسه « جهولا » بعاقبة ما تقلد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف، ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى، باطنه وجدناه بعيدا مما قال! وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومئ في مقالته. إلى أنه سلطه على جميع ما في، الأرض، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على، السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال - حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حصلها، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه « ظلوما » أي لنفسه، « جهولا » بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن: إن هذه « الأمانة » ، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا رب، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قبل أن يدعي فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حقويه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه « الأمانة » ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها، وحملتها أنت من غير أن تدعي لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوما جهولا. وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. « وحملها الإنسان » أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى « حملها » خان فيها. وقال الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: « الإنسان » آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم: « الإنسان » النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا. وقال السدي: الإنسان قابيل. فالله أعلم.
قوله تعالى: « ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات » اللام في « ليعذب » متعلقة بـ « حمل » أي حملها ليعذب العاصي ويثبت المطيع؛ فهي لام التعليل؛ لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وقيل بـ « عرضنا » ؛ أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم: الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. « ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات » قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول؛ أي يتوب الله عليهم بكل حال. « وكان الله غفورا رحيما » خبر بعد خبر « لكان » . ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر. والله أعلم بالصواب.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة سبأ للقرطبى
==========
مقدمة السورة
مكية في قول الجميع، إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: « ويرى الذين أوتوا العلم » الآية. فقالت فرقة: هي مكية، والمراد المؤمنون أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس. وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة؛ كعبدالله بن سلام وغيره؛ قال مقاتل. وقال قتادة: هم أمة محمد
صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون أية.
الآية: 1 ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير )
قوله تعالى: « الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض » « الذي » في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه « الحمد لله»
أهل الحمد « بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله؛ إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. » وله الحمد في الآخرة « قيل: هو قوله تعالى: » وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده « [ الزمر: 47 ] . وقيل: هو قوله » وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين « [ يونس: 10 ] فهو المحمود في»
الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. « وهو الحكيم » في فعله « الخبير » بأمرخلقه.
الآية: 2 ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور )
قوله تعالى: « يعلم ما يلج في الأرض » أي ما يدخل فيها من قطر وغيره، كما قال: « فسلكه ينابيع في الأرض » [ الزمر: 21 ] من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. « وما يخرج منها » من نبات وغيره « وما ينزل من السماء » من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب « وما ننزل » بالنون والتشديد. « وما يعرج فيها » من الملائكة وأعمال العباد؛ قاله الحسن وغيره « وهو الرحيم الغفور » .
الآيات: 3 - 4 ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة » قيل: المراد أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. « قل بلى وربي لتأتينكم » « قل » يا محمد « بلى وربي لتأتينكم » وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرؤون « قل بلى وربي ليأتينكم » بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » [ الأنعام: 158 ] . فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أن يبعث لخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. « عالم الغيب » بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو « عالم » بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله: « لتأتينكم » . وقرأ حمزة والكسائي: « علام الغيب » على المبالغة والنعت. « لا يعزب عنه » أي لا يغيب عنه، « ويعزب » أيضا. قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة. يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب. « مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض » أي قدر نملة صغيرة. « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » وفي قراءة الأعمش « ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ » بالفتح فيهما عطفا على « ذرة » . وقراءة العامة بالرفع عطفا على « مثقال » . « إلا في كتاب مبين » فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء. « ليجزي » منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي. « الذين آمنوا وعملوا الصالحات » بالثواب، والكافرين بالعقاب. « أولئك » يعني المؤمنين. « لهم مغفرة » لذنوبهم. « ورزق كريم » وهو الجنة.
الآية: 5 ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم )
قوله تعالى: « والذين سعوا في آياتنا » أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. « معاجزين » مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم؛ فهؤلاء « لهم عذاب من رجز أليم » يقال: عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه « أولئك لهم عذاب من رجز أليم » « أليم » قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز، فإن الله هو العذاب، قال الله تعالى: « فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء » [ البقرة:59 ] . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « عذاب من رجز أليم » يرفع الميم هنا وفي « الجاثية » نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو « معجزين » مثبطين؛ أي ثبطوا الناس عن الإيمان بالمعجزات وآيات القرآن.
الآية: 6 ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد )
لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل: « الذين أوتوا العلم » هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل جميع المسلمين، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على « ليجزى » أي ليجزي وليرى، قال الزجاج والفراء. وفيه نظر، لأن قوله: « ليجزي » متعلق بقول: « لتأتينكم الساعة » ، ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري.
قلت: وإذا كان « ليجزي » متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن عطف « ويرى » عليه، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. « الذي » في موضع نصب على أنه مفعول أول لـ « يرى » « وهو الحق » مفعول ثان، و « هو » فاصلة. والكوفيون يقولون « هو » عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و « الحق » خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني، والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الألف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قوله: كان أخوك هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الألف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. « ويهدي إلى صراط العزيز الحميد » أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله: « العزيز » على أنه لا يغالب. وبقوله: « الحميد » على أنه لا يليق به صفة العجز.
الآية: 7 ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل » وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها « ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق » هذا إخبار عمن قال: « لا تأتينا الساعة » [ سبأ: 3 ] أي هل نرشدكم إلى رجل ينبكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد. البلي في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري: « فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قولهم: » هل ندلكم على رجل ينبئكم « فنكروه لهم عرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على. مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و » إذا « في موضع نصب والعامل فيها » مزقتم « قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها » ينبئكم « ، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد » إن « ، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ومعمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا؛ التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه » مزقتم « ؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل » إذا « للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع » إذا « للمجازاة في الشعر. ومعنى » مزقتم كل ممزق « فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء؛ يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق.»
الآية: 8 ( أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد )
قوله تعالى: « أفترى على الله كذبا » لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « أطلع الغيب » [ مريم: 78 ] مستوفى. « أم به جنة » وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون « افترى على الله كذبا » . والافتراء الاختلاق. « أم به جنة » أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. « بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد » أي ليس الأمر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
الآية: 9 ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب )
أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط « بالياء في الثلاث؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص » كسفا « بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في » الإسراء « وغيرها. » إن في ذلك لآية « أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا » لآية « أي دلالة ظاهرة. » لكل عبد منيب « أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.»
الآية: 10 ( ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد )
قوله تعالى: « ولقد آتينا داود منا فضلا » بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. « آتينا » أعطينا. « فضلا » أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى: « ولقد آتينا داود وسليمان علما » [ النمل: 15 ] . الرابع - القوة، قال الله تعالى: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد » [ ص: 17 ] . الخامس::تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: « يا جبال أوبي معه » . السادس: التروية، قال الله تعالى: « فغفرنا له ذلك » [ ص: 25 ] . السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض » [ ص: 26 ] الآية. الثامن: إلانة الحديد، قال تعالى: « وألنا له الحديد » . التاسع: حسن الصوت، وكان، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: « يزيد في الخلق ما يشاء » [ فاطر: 1 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: ( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) . قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى: « ياجبال أوبي معه » أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: « إنا سخرنا الجبال معه » يسبحن بالعشي والإشراق « [ ص: 18 ] . قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل. قال ابن مقبل: »
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: « أوبي معه » أي رجعي معه؛ من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. « والطير » بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبدالملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في « أوبي » وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع « يا جبال » أي نادينا الجبال والطير، قال سيبويه. وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على « ولقد آتينا داود ما فضلا » . النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير.
قوله تعالى: « وألنا له الحديد » قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجيين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثني بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟ فقال له الملك ( نعم العبد لولا خلة فيه ) قال داود: ( وما هي ) ؟ قال: ( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) . فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، وتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة: في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . وقد مضى هذا في « الأنبياء » مجودا والحمد لله.
==========
مقدمة السورة
مكية في قول الجميع، إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: « ويرى الذين أوتوا العلم » الآية. فقالت فرقة: هي مكية، والمراد المؤمنون أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس. وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة؛ كعبدالله بن سلام وغيره؛ قال مقاتل. وقال قتادة: هم أمة محمد
صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون أية.
الآية: 1 ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير )
قوله تعالى: « الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض » « الذي » في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه « الحمد لله»
أهل الحمد « بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله؛ إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. » وله الحمد في الآخرة « قيل: هو قوله تعالى: » وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده « [ الزمر: 47 ] . وقيل: هو قوله » وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين « [ يونس: 10 ] فهو المحمود في»
الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. « وهو الحكيم » في فعله « الخبير » بأمرخلقه.
الآية: 2 ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور )
قوله تعالى: « يعلم ما يلج في الأرض » أي ما يدخل فيها من قطر وغيره، كما قال: « فسلكه ينابيع في الأرض » [ الزمر: 21 ] من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. « وما يخرج منها » من نبات وغيره « وما ينزل من السماء » من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب « وما ننزل » بالنون والتشديد. « وما يعرج فيها » من الملائكة وأعمال العباد؛ قاله الحسن وغيره « وهو الرحيم الغفور » .
الآيات: 3 - 4 ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة » قيل: المراد أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. « قل بلى وربي لتأتينكم » « قل » يا محمد « بلى وربي لتأتينكم » وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرؤون « قل بلى وربي ليأتينكم » بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » [ الأنعام: 158 ] . فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أن يبعث لخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. « عالم الغيب » بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو « عالم » بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله: « لتأتينكم » . وقرأ حمزة والكسائي: « علام الغيب » على المبالغة والنعت. « لا يعزب عنه » أي لا يغيب عنه، « ويعزب » أيضا. قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة. يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب. « مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض » أي قدر نملة صغيرة. « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » وفي قراءة الأعمش « ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ » بالفتح فيهما عطفا على « ذرة » . وقراءة العامة بالرفع عطفا على « مثقال » . « إلا في كتاب مبين » فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء. « ليجزي » منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي. « الذين آمنوا وعملوا الصالحات » بالثواب، والكافرين بالعقاب. « أولئك » يعني المؤمنين. « لهم مغفرة » لذنوبهم. « ورزق كريم » وهو الجنة.
الآية: 5 ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم )
قوله تعالى: « والذين سعوا في آياتنا » أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. « معاجزين » مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم؛ فهؤلاء « لهم عذاب من رجز أليم » يقال: عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه « أولئك لهم عذاب من رجز أليم » « أليم » قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز، فإن الله هو العذاب، قال الله تعالى: « فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء » [ البقرة:59 ] . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « عذاب من رجز أليم » يرفع الميم هنا وفي « الجاثية » نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو « معجزين » مثبطين؛ أي ثبطوا الناس عن الإيمان بالمعجزات وآيات القرآن.
الآية: 6 ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد )
لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل: « الذين أوتوا العلم » هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل جميع المسلمين، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على « ليجزى » أي ليجزي وليرى، قال الزجاج والفراء. وفيه نظر، لأن قوله: « ليجزي » متعلق بقول: « لتأتينكم الساعة » ، ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري.
قلت: وإذا كان « ليجزي » متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن عطف « ويرى » عليه، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. « الذي » في موضع نصب على أنه مفعول أول لـ « يرى » « وهو الحق » مفعول ثان، و « هو » فاصلة. والكوفيون يقولون « هو » عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و « الحق » خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني، والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الألف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قوله: كان أخوك هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الألف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. « ويهدي إلى صراط العزيز الحميد » أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله: « العزيز » على أنه لا يغالب. وبقوله: « الحميد » على أنه لا يليق به صفة العجز.
الآية: 7 ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل » وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها « ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق » هذا إخبار عمن قال: « لا تأتينا الساعة » [ سبأ: 3 ] أي هل نرشدكم إلى رجل ينبكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد. البلي في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري: « فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قولهم: » هل ندلكم على رجل ينبئكم « فنكروه لهم عرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على. مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و » إذا « في موضع نصب والعامل فيها » مزقتم « قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها » ينبئكم « ، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد » إن « ، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ومعمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا؛ التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه » مزقتم « ؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل » إذا « للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع » إذا « للمجازاة في الشعر. ومعنى » مزقتم كل ممزق « فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء؛ يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق.»
الآية: 8 ( أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد )
قوله تعالى: « أفترى على الله كذبا » لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « أطلع الغيب » [ مريم: 78 ] مستوفى. « أم به جنة » وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون « افترى على الله كذبا » . والافتراء الاختلاق. « أم به جنة » أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. « بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد » أي ليس الأمر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
الآية: 9 ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب )
أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط « بالياء في الثلاث؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص » كسفا « بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في » الإسراء « وغيرها. » إن في ذلك لآية « أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا » لآية « أي دلالة ظاهرة. » لكل عبد منيب « أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.»
الآية: 10 ( ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد )
قوله تعالى: « ولقد آتينا داود منا فضلا » بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. « آتينا » أعطينا. « فضلا » أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى: « ولقد آتينا داود وسليمان علما » [ النمل: 15 ] . الرابع - القوة، قال الله تعالى: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد » [ ص: 17 ] . الخامس::تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: « يا جبال أوبي معه » . السادس: التروية، قال الله تعالى: « فغفرنا له ذلك » [ ص: 25 ] . السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض » [ ص: 26 ] الآية. الثامن: إلانة الحديد، قال تعالى: « وألنا له الحديد » . التاسع: حسن الصوت، وكان، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: « يزيد في الخلق ما يشاء » [ فاطر: 1 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: ( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) . قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى: « ياجبال أوبي معه » أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: « إنا سخرنا الجبال معه » يسبحن بالعشي والإشراق « [ ص: 18 ] . قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل. قال ابن مقبل: »
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: « أوبي معه » أي رجعي معه؛ من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. « والطير » بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبدالملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في « أوبي » وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع « يا جبال » أي نادينا الجبال والطير، قال سيبويه. وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على « ولقد آتينا داود ما فضلا » . النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير.
قوله تعالى: « وألنا له الحديد » قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجيين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثني بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟ فقال له الملك ( نعم العبد لولا خلة فيه ) قال داود: ( وما هي ) ؟ قال: ( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) . فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، وتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة: في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . وقد مضى هذا في « الأنبياء » مجودا والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة سبأ
===========
الآية: 11 ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير )
قوله تعالى: « أن اعمل سابغات » أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. « وقدر في السرد » قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي « يقصم » بالقاف، والفاء أيضا رواية. « في السرد » السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشماخ:
فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
والسراد: السير الذي يخرز به؛ قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا كما خرج السراد من النقال
ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سردي أي جريء، قال: لأنه يمضى قوما. وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده لينال طول العيش غير مروم
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما داودُ أو صَنـَعُ السوابغ تبَّع
قوله تعالى: « واعملوا صالحا » أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: « اعملوا آل داود شكرا » [ سبأ: 13 ] . « إني بما تعملون بصير » وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور.
الآية: 12 ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير )
قوله تعالى: « ولسليمان الريح » قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: « الريحُ » بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. « غدوها شهر ورواحها شهر » أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: « غدوها شهر ورواحها شهر » . وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إما من الجن وإما من الإنس - : نحن نزلنا وما بنيناه، ومبينا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل رفعة وإن نسوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله تعالى: « وأسلنا له عين القطر » القطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدته عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته أو قال الخليل: القطر: النحاس المذاب.
قلت: دليله قراءة من قرأ: « من قطرٍ آن » . « ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه » أي بأمره « ومن يزغ منهم عن أمرنا » الذي أمرناه به من طاعة سليمان. « نذقه من عذاب السعير » أي في الآخرة، قال أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و « من » في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.
الآية: 13 ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور )
قوله تعالى: « من محاريب وتماثيل » المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم. وقال الضحاك: « من محاريب » أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال عدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أوكالـ ـبيض في الروض زهره مستنير
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: « إذ تسوروا المحراب » [ ص: 21 ] وقوله: « فخرج على قومه من المحراب » [ مريم: 11 ] أي أشرف عليهم. وفي الخبر ( أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح ( والتهليل لجة واحدة.
قوله تعالى: « وتماثيل » جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياه. ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ) . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « نوح » عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.
حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه.
قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: « وتماثيل » . وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: « وتماثيل » فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقتر بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: « ما يشاء » فاقتران المشية به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور. المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة، ثم جاء ( إلا ما كان رقما في ثوب ) فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: ( أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا ) . ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهية لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قال ابن العربي.
روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) . قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: ( إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل ) . وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: ( أخريه عني ) قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.
قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم ( ما كان رقما في ثوب ) ، لحديث سهل بن حنيف.
قلت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن. وقوله: ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ) ولم يستثن. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) . يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيء كان. وقد قال جل وعز: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] على ما تقدم بيانه فأعلمه.
وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذاك، والله أعلم.
قوله تعالى: « وجفان كالجواب » قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: « وجفان كالجواب » الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع؛ ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد؛ أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:
تروج على آل الملحق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
ويروى أيضا:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح... ... ...
ذكره النحاس. « وقدور راسيات » قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى « راسيات » ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبدالله بن الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقول:
كالجوابي لا تني مترعة لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد.
قوله تعالى: « اعملوا آل داود شكرا » قد مضى معنى الشكر في « البقرة » وغيرها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: ( ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ) قال فقلنا: ما هن. فقال: ( العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية ) . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: ( يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ) فقال: ( يا داود الآن عرفتني ) . وقد مضى هذا المعنى في سورة « إبراهيم » . وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى « أعملوا آل داود شكرا » قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني - قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر - قال نعم، فكفاه. وقال الزهري: « أعملوا آل داود شكرا » أي قولوا الحمد لله. و « شكرا » نصب على جهة المفعول؛ أي اعملوا عملا هو الشكر. وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم » [ ص: 24 ] وهو المراد بقوله « وقليل من عبادي الشكور » . وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى « أن اشكر لي » [ لقمان: 14 ] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه؛ فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ( أفلا أكون عبدا شكورا ) . انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان؛ فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم.
قوله تعالى: « وقليل من عبادي الشكور » يحتمل أن يكون، مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل؛ فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى « وقليل من عبادي الشكور » . فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.
===========
الآية: 11 ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير )
قوله تعالى: « أن اعمل سابغات » أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. « وقدر في السرد » قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي « يقصم » بالقاف، والفاء أيضا رواية. « في السرد » السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشماخ:
فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز
والسراد: السير الذي يخرز به؛ قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا كما خرج السراد من النقال
ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سردي أي جريء، قال: لأنه يمضى قوما. وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده لينال طول العيش غير مروم
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما داودُ أو صَنـَعُ السوابغ تبَّع
قوله تعالى: « واعملوا صالحا » أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: « اعملوا آل داود شكرا » [ سبأ: 13 ] . « إني بما تعملون بصير » وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور.
الآية: 12 ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير )
قوله تعالى: « ولسليمان الريح » قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: « الريحُ » بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. « غدوها شهر ورواحها شهر » أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: « غدوها شهر ورواحها شهر » . وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إما من الجن وإما من الإنس - : نحن نزلنا وما بنيناه، ومبينا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل رفعة وإن نسوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله تعالى: « وأسلنا له عين القطر » القطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدته عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته أو قال الخليل: القطر: النحاس المذاب.
قلت: دليله قراءة من قرأ: « من قطرٍ آن » . « ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه » أي بأمره « ومن يزغ منهم عن أمرنا » الذي أمرناه به من طاعة سليمان. « نذقه من عذاب السعير » أي في الآخرة، قال أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و « من » في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.
الآية: 13 ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور )
قوله تعالى: « من محاريب وتماثيل » المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم. وقال الضحاك: « من محاريب » أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال عدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أوكالـ ـبيض في الروض زهره مستنير
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: « إذ تسوروا المحراب » [ ص: 21 ] وقوله: « فخرج على قومه من المحراب » [ مريم: 11 ] أي أشرف عليهم. وفي الخبر ( أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح ( والتهليل لجة واحدة.
قوله تعالى: « وتماثيل » جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياه. ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ) . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « نوح » عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.
حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه.
قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: « وتماثيل » . وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: « وتماثيل » فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقتر بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: « ما يشاء » فاقتران المشية به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور. المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة، ثم جاء ( إلا ما كان رقما في ثوب ) فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: ( أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا ) . ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهية لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قال ابن العربي.
روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) . قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: ( إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل ) . وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: ( أخريه عني ) قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.
قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم ( ما كان رقما في ثوب ) ، لحديث سهل بن حنيف.
قلت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن. وقوله: ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ) ولم يستثن. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) . يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيء كان. وقد قال جل وعز: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] على ما تقدم بيانه فأعلمه.
وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذاك، والله أعلم.
قوله تعالى: « وجفان كالجواب » قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: « وجفان كالجواب » الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع؛ ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد؛ أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:
تروج على آل الملحق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
ويروى أيضا:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح... ... ...
ذكره النحاس. « وقدور راسيات » قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى « راسيات » ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبدالله بن الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقول:
كالجوابي لا تني مترعة لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد.
قوله تعالى: « اعملوا آل داود شكرا » قد مضى معنى الشكر في « البقرة » وغيرها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: ( ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ) قال فقلنا: ما هن. فقال: ( العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية ) . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: ( يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ) فقال: ( يا داود الآن عرفتني ) . وقد مضى هذا المعنى في سورة « إبراهيم » . وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى « أعملوا آل داود شكرا » قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني - قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر - قال نعم، فكفاه. وقال الزهري: « أعملوا آل داود شكرا » أي قولوا الحمد لله. و « شكرا » نصب على جهة المفعول؛ أي اعملوا عملا هو الشكر. وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم » [ ص: 24 ] وهو المراد بقوله « وقليل من عبادي الشكور » . وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى « أن اشكر لي » [ لقمان: 14 ] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه؛ فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ( أفلا أكون عبدا شكورا ) . انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان؛ فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم.
قوله تعالى: « وقليل من عبادي الشكور » يحتمل أن يكون، مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل؛ فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى « وقليل من عبادي الشكور » . فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة سبأ
===========
الآية: 14 ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين )
قوله تعالى: « فلما قضينا عليه الموت » أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت « ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته » وذلك أنه كان متكئا على المنسأة ( وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري ) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم « تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب » ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات؛ فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به؛ فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا؛ فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا؛ فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ قال: ولأي شيء أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد؛ ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت؛ فقال: اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب؛ فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس « تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب » . وقرأ يعقوب في رواية رويس « تبنت الجن » غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو « تأكل منساته » بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف، لغتان، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر فهمز وفتح:
ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال آخر:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
وقال آخر فسكن همزها:
وقائم قد قام من تكأته كقومة الشيخ إلى منسأته
وأصلها من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء وساق. وقال طرفة:
أمون كألواح الإران نسئتها على لاحب كأنه ظهر برجد
فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة: هي العصا، ثم قرأ « منساته » أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم، وروي عن صعيد بن جبير « من » مفصولة « سأته » مهموزة مكسورة التاء؛ فقيل: إنه من سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همز سية القوس عن رؤية. قال الجوهري: سية القوس ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض عن الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز « سية القوس » وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها أرضة؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ « دابة الأرض » بفتح الراء، وهو جمع الأرضة؛ ذكره الماوردي. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة ( بالتحريك ) : دويبة تأكل الخشب؛ يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا ( بالتسكين ) فهي مأروضة إذا أكلتها.
قوله تعالى: « فلما خر » أي سقط « تبينت الجن » قال الزجاج: أي تبينت الجن موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خر تبينت، الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. و « أن » في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب على، تقدير حذف اللام. « ما لبثوا » أقاموا. « في العذاب المهين » السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته. ولا سقيم إلا شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين؛ ذكره الماوردي.
قلت: وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وقد ذكرنا هذا الحديث في « آل عمران » وذكرنا بناءه في « الإسراء » .
الآية: 15 ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور )
قوله تعالى: « لقد كان لسبأ في مسكنهم آية » قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: ( ما فعل الغطيفي ) ؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ( ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: ( الذين منهم خثعم وبجيلة ) . وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « لسبأَ » بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده « في مساكنهم » . النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في « النمل » زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيلها العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري « لسبأْ » بإسكان الهمزة. « في مساكنهم » قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص « مسكنهم » موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت « مسكنهم » كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم » [ البقرة: 7 ] فجاء بالسمع موحدا. وكذا « مقعد صدق » [ القمر: 55 ] و « مسكن » مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. « آية » اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. « جنتان عن يمين وشمال » يجوز أن يكون بدلا من « آية » ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على « آية » وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب « آية » على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها. « كلوا من رزق ربكم » أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. « كلوا من رزق ربكم » أي من ثمار الجنتين. « واشكروا له » يعني على ما رزقكم. « بلدة طيبة » هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. « ورب غفور » أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول « البقرة » . وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
الآية: 16 ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل )
قوله تعالى: « فأعرضوا » يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم « أكفر من حمار » هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: « تفرقوا أيادي سبا » . وقيل: الأوس والخزرج منهم. « فأرسلنا عليهم سيل العرم » والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام ( بالضم ) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة ( بالفتح ) . والعرم العارم؛ عن الجوهري.
قوله تعالى: « وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط » وقرأ أبو عمرو ( أكل خمط ) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة « ذواتي أكل خمط » بالتنوين على أنه نعت لـ « أكل » أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى: « وأثل » قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ ( منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. « وشيء من سدر قليل » قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . ويحتمل أن يرجع قوله « قليل » إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية: 17 ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور )
قوله تعالى: « ذلك جزيناهم بما كفروا » أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع « ذلك » نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. « وهل يجازى إلا الكفور » قراءة العامة « يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، » الكفور « رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: » نجازي « بالنون وكسر الزاي، » الكفور « بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله » جزيناهم « ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا. »
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حوسب هلك ) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: « فسوف يحاسب حسابا يسيرا » [ الإنشقاق: 8 ] ؟ قال: ( إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك ) . وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: « ذلك جزيناهم بما كفروا » وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور « ومعنى » يجازى « : يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى » جزيناهم « . وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان » جازى « يقع بمعنى » جزى « . مجازا.»
الآية: 18 ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين )
قوله تعالى: « وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة » قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون « باركنا فيها » بكثرة العدد. « قرى ظاهرة » قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى « ظاهرة » : متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل « ظاهرة » أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها « ظاهرة » لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. « وقدرنا فيها السير » أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. « سيروا فيها » أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. « ليالي وأياما آمنين » ظرفان « آمنين » نصب على الحال. وقال: « ليالي وأياما » بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
===========
الآية: 14 ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين )
قوله تعالى: « فلما قضينا عليه الموت » أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت « ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته » وذلك أنه كان متكئا على المنسأة ( وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري ) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم « تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب » ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات؛ فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به؛ فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا؛ فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا؛ فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ قال: ولأي شيء أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد؛ ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت؛ فقال: اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب؛ فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس « تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب » . وقرأ يعقوب في رواية رويس « تبنت الجن » غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو « تأكل منساته » بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف، لغتان، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر فهمز وفتح:
ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال آخر:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
وقال آخر فسكن همزها:
وقائم قد قام من تكأته كقومة الشيخ إلى منسأته
وأصلها من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء وساق. وقال طرفة:
أمون كألواح الإران نسئتها على لاحب كأنه ظهر برجد
فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة: هي العصا، ثم قرأ « منساته » أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم، وروي عن صعيد بن جبير « من » مفصولة « سأته » مهموزة مكسورة التاء؛ فقيل: إنه من سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همز سية القوس عن رؤية. قال الجوهري: سية القوس ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض عن الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز « سية القوس » وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها أرضة؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ « دابة الأرض » بفتح الراء، وهو جمع الأرضة؛ ذكره الماوردي. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة ( بالتحريك ) : دويبة تأكل الخشب؛ يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا ( بالتسكين ) فهي مأروضة إذا أكلتها.
قوله تعالى: « فلما خر » أي سقط « تبينت الجن » قال الزجاج: أي تبينت الجن موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خر تبينت، الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. و « أن » في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب على، تقدير حذف اللام. « ما لبثوا » أقاموا. « في العذاب المهين » السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته. ولا سقيم إلا شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين؛ ذكره الماوردي.
قلت: وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وقد ذكرنا هذا الحديث في « آل عمران » وذكرنا بناءه في « الإسراء » .
الآية: 15 ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور )
قوله تعالى: « لقد كان لسبأ في مسكنهم آية » قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: ( ما فعل الغطيفي ) ؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ( ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: ( الذين منهم خثعم وبجيلة ) . وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « لسبأَ » بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده « في مساكنهم » . النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في « النمل » زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيلها العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري « لسبأْ » بإسكان الهمزة. « في مساكنهم » قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص « مسكنهم » موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت « مسكنهم » كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم » [ البقرة: 7 ] فجاء بالسمع موحدا. وكذا « مقعد صدق » [ القمر: 55 ] و « مسكن » مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. « آية » اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. « جنتان عن يمين وشمال » يجوز أن يكون بدلا من « آية » ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على « آية » وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب « آية » على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها. « كلوا من رزق ربكم » أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. « كلوا من رزق ربكم » أي من ثمار الجنتين. « واشكروا له » يعني على ما رزقكم. « بلدة طيبة » هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. « ورب غفور » أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول « البقرة » . وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.
الآية: 16 ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل )
قوله تعالى: « فأعرضوا » يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم « أكفر من حمار » هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: « تفرقوا أيادي سبا » . وقيل: الأوس والخزرج منهم. « فأرسلنا عليهم سيل العرم » والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام ( بالضم ) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة ( بالفتح ) . والعرم العارم؛ عن الجوهري.
قوله تعالى: « وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط » وقرأ أبو عمرو ( أكل خمط ) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة « ذواتي أكل خمط » بالتنوين على أنه نعت لـ « أكل » أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى: « وأثل » قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ ( منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. « وشيء من سدر قليل » قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . ويحتمل أن يرجع قوله « قليل » إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية: 17 ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور )
قوله تعالى: « ذلك جزيناهم بما كفروا » أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع « ذلك » نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. « وهل يجازى إلا الكفور » قراءة العامة « يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، » الكفور « رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: » نجازي « بالنون وكسر الزاي، » الكفور « بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله » جزيناهم « ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا. »
مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حوسب هلك ) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: « فسوف يحاسب حسابا يسيرا » [ الإنشقاق: 8 ] ؟ قال: ( إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك ) . وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: « ذلك جزيناهم بما كفروا » وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور « ومعنى » يجازى « : يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى » جزيناهم « . وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان » جازى « يقع بمعنى » جزى « . مجازا.»
الآية: 18 ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين )
قوله تعالى: « وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة » قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون « باركنا فيها » بكثرة العدد. « قرى ظاهرة » قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى « ظاهرة » : متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل « ظاهرة » أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها « ظاهرة » لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. « وقدرنا فيها السير » أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. « سيروا فيها » أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. « ليالي وأياما آمنين » ظرفان « آمنين » نصب على الحال. وقال: « ليالي وأياما » بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة سبأ
===========
الآية: 19 ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )
قوله تعالى: « فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا » لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: « فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها » [ البقرة: 61 ] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة « ربنا » بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. « باعد » سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: « ربنا » كذلك على الدعاء « بعد » من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: « ربنا » رفعا « باعد » بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس « ربنا بعد بين أسفارنا » بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري « ربنا بعد بن أسفارنا. « ربنا » نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: » بعد بين أسفارنا « ورفع » بين « بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب » بين « على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. » وظلموا أنفسهم « أي بكفرهم » فجعلناهم أحاديث « أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. » ومزقناهم كل ممزق « أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. » إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور « الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. » شكور « لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في » البقرة « .»
الآية: 20 ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين )
قوله تعالى: « ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه » فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، « ولقد صدق عليهم » بالتخفيف « إبليس » بالرفع « ظنه » بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي « صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: « ظنه » نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: » لأقعدن لهم صراطك المستقيم « [ الأعراف: 16 ] وقال: » لأغوينهم أجمعين « [ الحجر: 39 ] ؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: » صدق « بالتشديد « ظنه » بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج » صدق عليهم « بالتخفيف « إبليس » بالنصب « ظنه » بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل » صدق « « إبليس » مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و » على « متعلقة بـ » صدق « ، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « برفع إبليس والظن، مع التخفيف في » صدق « على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « . وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء » لأحتنكن ذريته إلا قليلا « [ الإسراء: 62 ] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. » فاتبعوه « قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. » إلا فريقا من المؤمنين « نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان « [ الحجر: 42 ] . فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ » من « على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى » واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك « [ الإسراء: 64 ] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين « [ الحجر: 42 ] علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.»
الآية: 21 ( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ )
قوله تعالى: « وما كان له عليهم من سلطان » أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. « إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك » يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: « أين شركائي » [ النحل: 27 ] ، على قولكم وعندكم، وليس قوله: « إلا لنعلم » جواب « وما كان له عليهم من سلطان » في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ « إلا » بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: « كان » زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: « كنتم خير أمة » [ آل عمران: 110 ] أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: « إلا لنعلم » إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسول » [ المائدة: 33 ] أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: « ليميز الله الخبيث من الطيب » [ الأنفال: 37 ] وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » وغيرها. وقرأ الزهري « إلا ليعلم » على ما لم يسم فاعله. « وربك على كل شيء حفيظ » أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية: 22 ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير )
قوله تعالى: « قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله » أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، « وما له منهم من ظهير » أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
الآية: 23 ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )
قوله تعالى: « ولا تنفع الشفاعة » أي شفاعة الملائكة وغيرهم. « عنده » أي عند الله. « إلا لمن أذن له » قراءة العامة « أذن » بفتح الهمزة؛ لذكر الله تعالى أولا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « أذن » بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و « من يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. » حتى إذا فزع عن قلوبهم « قال ابن عباس: خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله؛ كما قال: » وهم من خشيته مشفقون « [ الأنبياء: 28 ] والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: ماذا قال ربكم » أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: « قالوا الحق » وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. « وهو العلي الكبير » فله أن يحكم في عباده بما يريد. ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي الكلام إضمار؛ أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل: هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى؛ أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقول كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض ) قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث، أمره الله تعالى ) .
وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: « حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم » قال: كان لكل قبيل من الجن مقعه من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة؛ حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من حيث السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار! قال فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ها هنا جاء الحدث؛ فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في صورة « الحجر » ، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة « الجن » بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة. وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد: في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق.
وقراءة العامة « فزع عن قلوبهم » . وقرأ ابن عباس « فزع عن قلوبهم » مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرأ الحسن: « فزع » مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا؛ وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى « فزع » بالراء والغين المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة. وعنهما أيضا « فرغ » بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا « فرغ » بالتشديد.
الآية: 24 ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )
قوله تعالى: « قل من يرزقكم من السماوات والأرض » لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال: قل يا محمد للمشركين « من يرزقكم من السموات والأرض » أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات؛ أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع. « والأرض » أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا: إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد. « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض. « أو إياكم » معطوف على اسم « إن » ولو عطف على الموضع لكان « أو أنتم » ويكون « لعلى هدى » للأول لا غير وإذا قلت: « أو إياكم » كان للثاني أولى، وحذفت من الأول أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » . و « أو » عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. وقال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والربابا
يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا تأملنا رياحا أو رزاما
===========
الآية: 19 ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )
قوله تعالى: « فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا » لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: « فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها » [ البقرة: 61 ] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة « ربنا » بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. « باعد » سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: « ربنا » كذلك على الدعاء « بعد » من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: « ربنا » رفعا « باعد » بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس « ربنا بعد بين أسفارنا » بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري « ربنا بعد بن أسفارنا. « ربنا » نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: » بعد بين أسفارنا « ورفع » بين « بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب » بين « على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. » وظلموا أنفسهم « أي بكفرهم » فجعلناهم أحاديث « أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. » ومزقناهم كل ممزق « أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. » إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور « الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. » شكور « لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في » البقرة « .»
الآية: 20 ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين )
قوله تعالى: « ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه » فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، « ولقد صدق عليهم » بالتخفيف « إبليس » بالرفع « ظنه » بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي « صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: « ظنه » نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: » لأقعدن لهم صراطك المستقيم « [ الأعراف: 16 ] وقال: » لأغوينهم أجمعين « [ الحجر: 39 ] ؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: » صدق « بالتشديد « ظنه » بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج » صدق عليهم « بالتخفيف « إبليس » بالنصب « ظنه » بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل » صدق « « إبليس » مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و » على « متعلقة بـ » صدق « ، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « برفع إبليس والظن، مع التخفيف في » صدق « على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « . وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء » لأحتنكن ذريته إلا قليلا « [ الإسراء: 62 ] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. » فاتبعوه « قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. » إلا فريقا من المؤمنين « نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان « [ الحجر: 42 ] . فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ » من « على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى » واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك « [ الإسراء: 64 ] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين « [ الحجر: 42 ] علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.»
الآية: 21 ( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ )
قوله تعالى: « وما كان له عليهم من سلطان » أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. « إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك » يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: « أين شركائي » [ النحل: 27 ] ، على قولكم وعندكم، وليس قوله: « إلا لنعلم » جواب « وما كان له عليهم من سلطان » في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ « إلا » بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: « كان » زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: « كنتم خير أمة » [ آل عمران: 110 ] أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: « إلا لنعلم » إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسول » [ المائدة: 33 ] أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: « ليميز الله الخبيث من الطيب » [ الأنفال: 37 ] وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » وغيرها. وقرأ الزهري « إلا ليعلم » على ما لم يسم فاعله. « وربك على كل شيء حفيظ » أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية: 22 ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير )
قوله تعالى: « قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله » أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، « وما له منهم من ظهير » أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
الآية: 23 ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )
قوله تعالى: « ولا تنفع الشفاعة » أي شفاعة الملائكة وغيرهم. « عنده » أي عند الله. « إلا لمن أذن له » قراءة العامة « أذن » بفتح الهمزة؛ لذكر الله تعالى أولا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « أذن » بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و « من يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. » حتى إذا فزع عن قلوبهم « قال ابن عباس: خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله؛ كما قال: » وهم من خشيته مشفقون « [ الأنبياء: 28 ] والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: ماذا قال ربكم » أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: « قالوا الحق » وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. « وهو العلي الكبير » فله أن يحكم في عباده بما يريد. ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي الكلام إضمار؛ أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل: هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى؛ أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقول كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض ) قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث، أمره الله تعالى ) .
وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: « حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم » قال: كان لكل قبيل من الجن مقعه من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة؛ حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من حيث السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار! قال فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ها هنا جاء الحدث؛ فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في صورة « الحجر » ، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة « الجن » بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة. وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد: في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق.
وقراءة العامة « فزع عن قلوبهم » . وقرأ ابن عباس « فزع عن قلوبهم » مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرأ الحسن: « فزع » مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا؛ وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى « فزع » بالراء والغين المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة. وعنهما أيضا « فرغ » بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا « فرغ » بالتشديد.
الآية: 24 ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )
قوله تعالى: « قل من يرزقكم من السماوات والأرض » لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال: قل يا محمد للمشركين « من يرزقكم من السموات والأرض » أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات؛ أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع. « والأرض » أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا: إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد. « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض. « أو إياكم » معطوف على اسم « إن » ولو عطف على الموضع لكان « أو أنتم » ويكون « لعلى هدى » للأول لا غير وإذا قلت: « أو إياكم » كان للثاني أولى، وحذفت من الأول أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » . و « أو » عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. وقال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والربابا
يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا تأملنا رياحا أو رزاما
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة سبأ
===========
الآية: 25 ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون
قوله تعالى: « قل لا تسألون عما أجرمنا » أي اكتسبنا، « ولا نسأل » نحن أيضا « عما تعملون » أي إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال: « لكم دينكم ولي دين » [ الكافرون: 6 ] والله مجازي الجميع. فهذه آية مهادنة ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف وقيل: نزل هذا قبل آية السيف.
الآية: 26 ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم )
قوله تعالى: « قل يجمع بيننا ربنا » يريد يوم القيامة « ثم يفتح بيننا بالحق » أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال « وهو الفتاح » أي القاضي بالحق « العليم » بأحوال الخلق. وهذا كله منسوخ بآية السيف.
الآية: 27 ( قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « قل أروني الذين ألحقتم به شركاء » يكون « أروني » هنا من رؤية القلب، فيكون « شركاء » المفعول الثالث، أي عرفوني الأصنام والأوثان التي، جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء، فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها. وجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون « شركاء » حالا. « كلا » أي ليس الأمر كما زعمتم. وقيل: إن « كلا » رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال: أروني الذين ألحقتم به شركاء. قالوا: هي الأصنام. فقال كلا، أي ليس له شركاء « بل هو الله العزيز الحكيم » .
الآيات: 28 - 30 ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون )
قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس » أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة؛ في الكلام تقديم وتأخير. وقال الزجاج: أي وما أرسلنا إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقيل: معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام. والهاء للمبالغة. وقيل: أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه: كف الثوب، لأنه ضم طرفيه. « بشيرا » أي بالجنة لمن أطاع. « ونذيرا » من النار لمن كفر. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون ما عند الله وهم المشركون؛ وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا. « ويقولون متى هذا الوعد » يعني موعدكم لنا بقيام الساعة. « إن كنتم صادقين » فقال تعالى: « قل » أي قل لهم يا محمد « لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون » فلا يغرنكم تأخيره. والميعاد الميقات. ويعني بهذا الميعاد وقت البعث وقيل وقت حضور الموت؛ أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون حقيقة قولي. وقيل: أراد بهذا اليوم يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا في حكم الله تعالى. وأجاز النحويون « ميعاد يوم » على أن « ميعاد » ابتداء و « يوم » بدل منه، والخبر « لكم » . وأجازوا « ميعاد يوما » يكون ظرفا، وتكون الهاء في « عنه » ترجع إلى « يوم » ولا يصح « ميعاد يوم لا تستأخرون » بغير تنوين، وإضافة « يوم » إلى ما بعده إذا قدرت الهاء عائدة على اليوم، لأن ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في الجملة. ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم.
الآيات: 31 - 33 ( وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا » يريد كفار قريش. « لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه » قال سعيد عن قتادة: « ولا بالذي بين يديه » من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال « ولو ترى » يا محمد « إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول » أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب « لو » محذوف؛ أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا. ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال: « يقول الذين استضعفوا » في الدنيا من الكافرين « للذين استكبروا » وهم القادة والرؤساء « لولا أنتم لكنا مؤمنين » أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة « لولا أنتم » ومن العرب من يقول « لولاكم » حكاها سيبويه؛ تكون « لولا » تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز « لولاكم » لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا. « قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم » هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم. « بل كنتم مجرمين » أي مشركين مصرين على الكفر. « وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار » المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » [ نوح: 4 ] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون، ساعة » [ الأعراف: 34 ] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلى همي
أي نمت فيه. ونظيره: « والنهار مبصرا » [ يونس: 67 ] . وقرأ قتادة: « بل مكرٌ الليلَ والنهارَ » بتنوين « مكر » ونصب « الليل والنهار » ، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرأ سعيد بن جبير « بل مكَرُّ » بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه « أنحن صددناكم » كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير « بل مكر الليل والنهار » قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما كقوله « فطال عليهم الأمد » [ الحديد: 16 ] . وقرأ راشد « بل مكَرَّ الليل والنهار » بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس.
قوله تعالى: « إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا » أي أشباها وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد؛ وأنشد:
أينما تجعلون إلي ندا وما أنتم لذي حسب نديد
وقد مضى هذا في « البقرة » . « وأسروا الندامة » أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يسرون مقتلي
وروي « يشرون » . وقيل: « وأسروا الندامة » أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم. قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة « يونس، وآل عمران » . وقيل: إظهارهم الندامة قولهم: « فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين » [ الشعراء: 102 ] . وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: « وأسروا النجوى » [ الأنبياء: 3 ] .
قوله تعالى: « وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا » الأغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال: ما له ؟؟ وغل. والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع « الذين كفروا » إليهم. وقيل: تم الكلام عند قوله: « لما رأوا العذاب » ثم ابتدأ فقال: « وجعلنا الأغلال » بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. « هل يجزون إلا ما كانوا يعملون » في الدنيا.
===========
الآية: 25 ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون
قوله تعالى: « قل لا تسألون عما أجرمنا » أي اكتسبنا، « ولا نسأل » نحن أيضا « عما تعملون » أي إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال: « لكم دينكم ولي دين » [ الكافرون: 6 ] والله مجازي الجميع. فهذه آية مهادنة ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف وقيل: نزل هذا قبل آية السيف.
الآية: 26 ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم )
قوله تعالى: « قل يجمع بيننا ربنا » يريد يوم القيامة « ثم يفتح بيننا بالحق » أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال « وهو الفتاح » أي القاضي بالحق « العليم » بأحوال الخلق. وهذا كله منسوخ بآية السيف.
الآية: 27 ( قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « قل أروني الذين ألحقتم به شركاء » يكون « أروني » هنا من رؤية القلب، فيكون « شركاء » المفعول الثالث، أي عرفوني الأصنام والأوثان التي، جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء، فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها. وجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون « شركاء » حالا. « كلا » أي ليس الأمر كما زعمتم. وقيل: إن « كلا » رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال: أروني الذين ألحقتم به شركاء. قالوا: هي الأصنام. فقال كلا، أي ليس له شركاء « بل هو الله العزيز الحكيم » .
الآيات: 28 - 30 ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون )
قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس » أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة؛ في الكلام تقديم وتأخير. وقال الزجاج: أي وما أرسلنا إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقيل: معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام. والهاء للمبالغة. وقيل: أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه: كف الثوب، لأنه ضم طرفيه. « بشيرا » أي بالجنة لمن أطاع. « ونذيرا » من النار لمن كفر. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون ما عند الله وهم المشركون؛ وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا. « ويقولون متى هذا الوعد » يعني موعدكم لنا بقيام الساعة. « إن كنتم صادقين » فقال تعالى: « قل » أي قل لهم يا محمد « لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون » فلا يغرنكم تأخيره. والميعاد الميقات. ويعني بهذا الميعاد وقت البعث وقيل وقت حضور الموت؛ أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون حقيقة قولي. وقيل: أراد بهذا اليوم يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا في حكم الله تعالى. وأجاز النحويون « ميعاد يوم » على أن « ميعاد » ابتداء و « يوم » بدل منه، والخبر « لكم » . وأجازوا « ميعاد يوما » يكون ظرفا، وتكون الهاء في « عنه » ترجع إلى « يوم » ولا يصح « ميعاد يوم لا تستأخرون » بغير تنوين، وإضافة « يوم » إلى ما بعده إذا قدرت الهاء عائدة على اليوم، لأن ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في الجملة. ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم.
الآيات: 31 - 33 ( وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « وقال الذين كفروا » يريد كفار قريش. « لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه » قال سعيد عن قتادة: « ولا بالذي بين يديه » من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال « ولو ترى » يا محمد « إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول » أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب « لو » محذوف؛ أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا. ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال: « يقول الذين استضعفوا » في الدنيا من الكافرين « للذين استكبروا » وهم القادة والرؤساء « لولا أنتم لكنا مؤمنين » أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة « لولا أنتم » ومن العرب من يقول « لولاكم » حكاها سيبويه؛ تكون « لولا » تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز « لولاكم » لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا. « قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم » هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم. « بل كنتم مجرمين » أي مشركين مصرين على الكفر. « وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار » المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » [ نوح: 4 ] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون، ساعة » [ الأعراف: 34 ] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلى همي
أي نمت فيه. ونظيره: « والنهار مبصرا » [ يونس: 67 ] . وقرأ قتادة: « بل مكرٌ الليلَ والنهارَ » بتنوين « مكر » ونصب « الليل والنهار » ، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرأ سعيد بن جبير « بل مكَرُّ » بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه « أنحن صددناكم » كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير « بل مكر الليل والنهار » قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما كقوله « فطال عليهم الأمد » [ الحديد: 16 ] . وقرأ راشد « بل مكَرَّ الليل والنهار » بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس.
قوله تعالى: « إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا » أي أشباها وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد؛ وأنشد:
أينما تجعلون إلي ندا وما أنتم لذي حسب نديد
وقد مضى هذا في « البقرة » . « وأسروا الندامة » أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يسرون مقتلي
وروي « يشرون » . وقيل: « وأسروا الندامة » أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم. قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة « يونس، وآل عمران » . وقيل: إظهارهم الندامة قولهم: « فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين » [ الشعراء: 102 ] . وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: « وأسروا النجوى » [ الأنبياء: 3 ] .
قوله تعالى: « وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا » الأغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال: ما له ؟؟ وغل. والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع « الذين كفروا » إليهم. وقيل: تم الكلام عند قوله: « لما رأوا العذاب » ثم ابتدأ فقال: « وجعلنا الأغلال » بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. « هل يجزون إلا ما كانوا يعملون » في الدنيا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة سبأ
===========
الآيات: 34 - 38 ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون، والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون )
قوله تعالى: « وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها » قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: « إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا » أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك. « وما نحن بمعذبين » لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل إن ربي يبسط الرزق » أي يوسعه « لمن يشاء ويقدر » أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال تأكيدا: « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى » قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع « قربى » نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا. وزعم الفراء أن التي « تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء: »
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. « إلا من آمن وعمل صالحا » قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عدنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا » .
قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ! في « آل عمران ومريم والفرقان » . و « من » في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في « تقربكم » . النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله « إلا من أتى الله بقلب سليم » يكون منصوبا عنده بـ « ينفع » . وأجاز الفراء أن يكون « من » في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. « فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا » يعني قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » [ الأنعام: 160 ] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.
وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية. قراءة العامة « جزاء الضعف » بالإضافة. وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم « جزاء » منونا منصوبا « الضعف » رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير. « وجزاء الضعف » على أن يجازوا الضعف. و « جزاء الضعف » مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرأ الجمهور « في الغرفات » على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله: « لنبوئنهم من الجنة غرفا » [ العنكبوت: 58 ] . الزمخشري: وقرئ « في الغرفات » بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف « في الغرفة » على التوحيد؛ لقوله تعالى: « أولئك يجزون الغرفة » [ الفرقان: 75 ] . والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك. « آمنون » أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان. « والذين يسعون في آياتنا » في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا. « معاجزين » معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. « أولئك في العذاب محضرون » أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.
الآية: 39 ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين )
قوله تعالى: « قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » كرر تأكيدا. « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه » أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قال لي أنفق أنفق عليك... ) الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر.
مسألة: روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية ) . قال عبدالحميد: قلت لابن المنكدر: « ما وقى الرجل عرضه » ؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبدالحميد وثقه ابن معين.
قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) . وقد مضى هذا المعنى في « الأعراف » مستوفى.
قوله تعالى: « وهو خير الرازقين » لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال: « وهو خير الرازقين » والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال: « إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين » [ الذاريات: 58 ] .
الآيات: 40 - 41 ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون )
قوله تعالى: « ويوم يحشرهم جميعا » هذا متصل بقوله: « ولو ترى إذ الظالمون موقوفون » [ سبأ: 31 ] . أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا « يوم نحشرهم جميعا » العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب « ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون » قال سعيد عن قتادة: هذا استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى: « أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » [ المائدة: 116 ] قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين. « قالوا سبحانك » أي تنزيها لك. « أنت ولينا من دونهم » أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. « بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون » أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا » [ الصافات: 158 ] .
الآية: 42 ( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون )
قوله تعالى: « فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا » أي شفاعة ونجاة. « ولا ضرا » أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف « ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون » يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.
الآية: 43 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » يعني القرآن. « قالوا ما هذا إلا رجل » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. « يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم » أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها. « وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى » يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق. « وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين » فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
الآيات: 44 - 45 ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير )
قوله تعالى: « وما آتيناهم من كتب يدرسونها » أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: « أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون » [ الزخرف: 21 ] فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق: « وكذب الذين من قبلهم » أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. « وما بلغوا » أي ما بلغ أهل مكة « معشار ما آتيناهم » تلك الأمم. والمعشار والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه. وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء. الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. « فكذبوا رسلي فكيف كان نكير » أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري.
الآية: 46 ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
قوله تعالى: « قل إنما أعظكم بواحدة » تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد: « إنما أعظكم » أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. « بواحدة » أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، « أن تقوموا لله مثنى وفرادى » « أن » في موضع خفض على البدل من « واحدة » ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: « وأن تقوموا لليتامى بالقسط » [ النساء: 127 ] . « مثنى وفرادى » أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي. وقيل: إنما قال: « مثنى وفرادى » لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم. « ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة » الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على « ثم تتفكروا » . وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. « إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد » وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية « وأنذر عشيرتك الأقربين » [ الشعراء: 214 ] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال: ( يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . قال فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة: « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
الآية: 47 ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد )
قوله تعالى: « قل ما سألتكم من أجر » أي جعل على تبليغ الرسالة « فهو لكم » أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه « إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد » أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.
الآية: 48 ( قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب )
قوله تعالى: « قل إن ربي يقذف بالحق » أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب. وقرأ عيسى بن عمر « علام الغيوب » على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر « إن » ومثله « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » [ ص: 64 ] وقرئ: « الغيوب » بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.
الآية: 49 ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد )
قوله تعالى: « قل جاء الحق » قال سعيد عن قتادة: يريد القرآن. النحاس: والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. « وما يبدئ الباطل » قال قتادة: الشيطان؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا « وما يعيد » فـ « ما » نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء، كقوله: « فهل ترى لهم من باقية » [ الحاقة: 8 ] أي لا ترى.
الآية: 50 ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب )
قوله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي. وقراءه العامة « ضللت » بفتح اللام. وقرأ يحيى بن وثاب وغيره: « قل إن ضللت » بكسر اللام وفتح الضاد من « أضل » ، والضلال والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت ( بفتح اللام ) أضل ( بكسر الضاد ) ، قال الله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون « ضللت » بالكسر « أضل » ، أي إثم ضلالتي على نفسي. « وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي » من الحكمة والبيان « إنه سميع قريب » أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
الآية: 51 ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب )
قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت » ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى: لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس. الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم؛ وقاله قتادة. وقال ابن مغفل: إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد ابن جبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم. « فلا فوت » « فلا فوت » فلا نجاة؛ قاله ابن عباس. مجاهد: فلا مهرب. « وأخذوا من مكان قريب » أي من القبور. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس: نزلت في، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم؛ فهو الأخذ من مكان قريب.
قلت: وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب: ( فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا إلى المشرق؛ وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب » فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل: « أخذوا من مكان قريب » أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة؛ يقال: فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار: ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . ومن قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال: هو فزع يوم القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل: « اخذوا من مكان قريب » من جهنم فألقوا فيها.
الآية: 52 ( وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد )
قوله تعالى: « وقالوا آمنا به » أي القرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. الحسن: بالبعث. قتادة: بالرسول صلى الله عليه وسلم « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » قال ابن عباس والضحاك: التناوش الرجعة؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من ذلك! ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تؤوب إلي وليس إلى تناوشها سبيل
وقال السدي: هي التوبة؛ أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. وقيل: التناوش التناول؛ قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. قال: ومنه المناوشة في القتال؛ وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش أي ذو بطش. والتناوش. التناول: والانتياش مثله. قال الراجز:
كانت تنوش العنق انتياشا
قوله تعالى: « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » يقول: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة: « وأنى لهم التناوش » بالهمز. النحاس: وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة؛ لأن « التناوش » بالهمز البعد، فكيف يكون: وأنى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] والأصل « وقتت » لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال: يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد، يقال: نأشت الشيء أخذته من بعد والنئيش: الشيء البطيء. قال الجوهري: التناؤش ( بالهم ) التأخر والتباعد. وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته؛ فانتأش. ويقال: فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال آخر:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر
وقال الفراء: الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب؛ مثل: ذمت الرجل وذأمته أي عبته. « من مكان بعيد » أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال: « وأنى لهم » قال: الرد، سألوه وليس بحين رد.
الآية: 53 ( وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد )
قوله تعالى: « وقد كفروا به » أي بالله عز وجل وقيل: بمحمد « من قبل » يعني في الدنيا. « ويقذفون بالغيب من مكان بعيد » العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. « من مكان بعيد » على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن؛ قال قتادة. وقيل: « يقذفون » أي يرمون في القرآن فيقولون: سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل: في محمد؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون. « من مكان بعيد » أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد. وقيل: أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرأ مجاهد « ويقذفون بالغيب » غير مسمى الفاعل، أي يرمون به. وقيل: يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم.
الآية: 54 ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب )
قوله تعالى: « وحيل بينهم وبين ما يشتهون » قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب. وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل « حول » فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. « كما فعل بأشياعهم » الأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة. « من قبل » أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة. « إنهم كانوا في شك » أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. قيل: في الدين والتوحيد، والمعنى واحد. « مريب » أي يستراب به، يقال: أراب الرجل أي صار ذا ريبة، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال: يقال شك مريب؛ كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر؛ في التأكيد. ختمت السور، والحمد لله رب العالمين.
===========
الآيات: 34 - 38 ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون، والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون )
قوله تعالى: « وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها » قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: « إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا » أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك. « وما نحن بمعذبين » لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل إن ربي يبسط الرزق » أي يوسعه « لمن يشاء ويقدر » أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال تأكيدا: « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى » قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع « قربى » نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا. وزعم الفراء أن التي « تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء: »
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. « إلا من آمن وعمل صالحا » قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عدنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا » .
قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ! في « آل عمران ومريم والفرقان » . و « من » في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في « تقربكم » . النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله « إلا من أتى الله بقلب سليم » يكون منصوبا عنده بـ « ينفع » . وأجاز الفراء أن يكون « من » في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. « فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا » يعني قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » [ الأنعام: 160 ] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.
وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية. قراءة العامة « جزاء الضعف » بالإضافة. وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم « جزاء » منونا منصوبا « الضعف » رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير. « وجزاء الضعف » على أن يجازوا الضعف. و « جزاء الضعف » مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرأ الجمهور « في الغرفات » على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله: « لنبوئنهم من الجنة غرفا » [ العنكبوت: 58 ] . الزمخشري: وقرئ « في الغرفات » بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف « في الغرفة » على التوحيد؛ لقوله تعالى: « أولئك يجزون الغرفة » [ الفرقان: 75 ] . والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك. « آمنون » أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان. « والذين يسعون في آياتنا » في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا. « معاجزين » معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. « أولئك في العذاب محضرون » أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.
الآية: 39 ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين )
قوله تعالى: « قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » كرر تأكيدا. « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه » أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قال لي أنفق أنفق عليك... ) الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر.
مسألة: روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية ) . قال عبدالحميد: قلت لابن المنكدر: « ما وقى الرجل عرضه » ؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبدالحميد وثقه ابن معين.
قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) . وقد مضى هذا المعنى في « الأعراف » مستوفى.
قوله تعالى: « وهو خير الرازقين » لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال: « وهو خير الرازقين » والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال: « إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين » [ الذاريات: 58 ] .
الآيات: 40 - 41 ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون )
قوله تعالى: « ويوم يحشرهم جميعا » هذا متصل بقوله: « ولو ترى إذ الظالمون موقوفون » [ سبأ: 31 ] . أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا « يوم نحشرهم جميعا » العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب « ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون » قال سعيد عن قتادة: هذا استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى: « أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » [ المائدة: 116 ] قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين. « قالوا سبحانك » أي تنزيها لك. « أنت ولينا من دونهم » أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. « بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون » أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا » [ الصافات: 158 ] .
الآية: 42 ( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون )
قوله تعالى: « فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا » أي شفاعة ونجاة. « ولا ضرا » أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف « ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون » يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.
الآية: 43 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » يعني القرآن. « قالوا ما هذا إلا رجل » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. « يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم » أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها. « وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى » يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق. « وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين » فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
الآيات: 44 - 45 ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير )
قوله تعالى: « وما آتيناهم من كتب يدرسونها » أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: « أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون » [ الزخرف: 21 ] فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق: « وكذب الذين من قبلهم » أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. « وما بلغوا » أي ما بلغ أهل مكة « معشار ما آتيناهم » تلك الأمم. والمعشار والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه. وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء. الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. « فكذبوا رسلي فكيف كان نكير » أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري.
الآية: 46 ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
قوله تعالى: « قل إنما أعظكم بواحدة » تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد: « إنما أعظكم » أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. « بواحدة » أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، « أن تقوموا لله مثنى وفرادى » « أن » في موضع خفض على البدل من « واحدة » ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: « وأن تقوموا لليتامى بالقسط » [ النساء: 127 ] . « مثنى وفرادى » أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي. وقيل: إنما قال: « مثنى وفرادى » لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم. « ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة » الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على « ثم تتفكروا » . وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. « إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد » وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية « وأنذر عشيرتك الأقربين » [ الشعراء: 214 ] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال: ( يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . قال فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة: « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
الآية: 47 ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد )
قوله تعالى: « قل ما سألتكم من أجر » أي جعل على تبليغ الرسالة « فهو لكم » أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه « إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد » أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.
الآية: 48 ( قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب )
قوله تعالى: « قل إن ربي يقذف بالحق » أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب. وقرأ عيسى بن عمر « علام الغيوب » على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر « إن » ومثله « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » [ ص: 64 ] وقرئ: « الغيوب » بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.
الآية: 49 ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد )
قوله تعالى: « قل جاء الحق » قال سعيد عن قتادة: يريد القرآن. النحاس: والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. « وما يبدئ الباطل » قال قتادة: الشيطان؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا « وما يعيد » فـ « ما » نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء، كقوله: « فهل ترى لهم من باقية » [ الحاقة: 8 ] أي لا ترى.
الآية: 50 ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب )
قوله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي. وقراءه العامة « ضللت » بفتح اللام. وقرأ يحيى بن وثاب وغيره: « قل إن ضللت » بكسر اللام وفتح الضاد من « أضل » ، والضلال والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت ( بفتح اللام ) أضل ( بكسر الضاد ) ، قال الله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون « ضللت » بالكسر « أضل » ، أي إثم ضلالتي على نفسي. « وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي » من الحكمة والبيان « إنه سميع قريب » أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
الآية: 51 ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب )
قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت » ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى: لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس. الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم؛ وقاله قتادة. وقال ابن مغفل: إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد ابن جبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم. « فلا فوت » « فلا فوت » فلا نجاة؛ قاله ابن عباس. مجاهد: فلا مهرب. « وأخذوا من مكان قريب » أي من القبور. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس: نزلت في، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم؛ فهو الأخذ من مكان قريب.
قلت: وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب: ( فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا إلى المشرق؛ وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب » فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل: « أخذوا من مكان قريب » أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة؛ يقال: فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار: ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . ومن قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال: هو فزع يوم القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل: « اخذوا من مكان قريب » من جهنم فألقوا فيها.
الآية: 52 ( وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد )
قوله تعالى: « وقالوا آمنا به » أي القرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. الحسن: بالبعث. قتادة: بالرسول صلى الله عليه وسلم « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » قال ابن عباس والضحاك: التناوش الرجعة؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من ذلك! ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تؤوب إلي وليس إلى تناوشها سبيل
وقال السدي: هي التوبة؛ أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. وقيل: التناوش التناول؛ قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. قال: ومنه المناوشة في القتال؛ وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش أي ذو بطش. والتناوش. التناول: والانتياش مثله. قال الراجز:
كانت تنوش العنق انتياشا
قوله تعالى: « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » يقول: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة: « وأنى لهم التناوش » بالهمز. النحاس: وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة؛ لأن « التناوش » بالهمز البعد، فكيف يكون: وأنى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] والأصل « وقتت » لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال: يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد، يقال: نأشت الشيء أخذته من بعد والنئيش: الشيء البطيء. قال الجوهري: التناؤش ( بالهم ) التأخر والتباعد. وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته؛ فانتأش. ويقال: فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال آخر:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر
وقال الفراء: الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب؛ مثل: ذمت الرجل وذأمته أي عبته. « من مكان بعيد » أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال: « وأنى لهم » قال: الرد، سألوه وليس بحين رد.
الآية: 53 ( وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد )
قوله تعالى: « وقد كفروا به » أي بالله عز وجل وقيل: بمحمد « من قبل » يعني في الدنيا. « ويقذفون بالغيب من مكان بعيد » العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. « من مكان بعيد » على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن؛ قال قتادة. وقيل: « يقذفون » أي يرمون في القرآن فيقولون: سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل: في محمد؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون. « من مكان بعيد » أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد. وقيل: أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرأ مجاهد « ويقذفون بالغيب » غير مسمى الفاعل، أي يرمون به. وقيل: يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم.
الآية: 54 ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب )
قوله تعالى: « وحيل بينهم وبين ما يشتهون » قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب. وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل « حول » فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. « كما فعل بأشياعهم » الأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة. « من قبل » أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة. « إنهم كانوا في شك » أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. قيل: في الدين والتوحيد، والمعنى واحد. « مريب » أي يستراب به، يقال: أراب الرجل أي صار ذا ريبة، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال: يقال شك مريب؛ كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر؛ في التأكيد. ختمت السور، والحمد لله رب العالمين.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة فاطر للقرطبى
=========
الآية: 1 ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « الحمد لله فاطر السماوات والأرض » يجوز في « فاطر » ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد مثله وكذا « جاعل الملائكة » . والفاطر: الخالق. وقد مضى في « يوسف » وغيرها. والفطر. الشق عن الشيء؛ يقال: فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير طلع، فهو بعير فاطر. وتفطر الشيء تشقق. وسيف فطار، أي فيه تشقق. قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما « فاطر السموات والأرض » حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها. والفطر. حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر السموات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة. « جاعل الملائكة » لا يجوز فيه التنوين، لأنه لما مضى. « رسلا » مفعول ثان، ويقال على إضمار فعل؛ لأن « فاعلا » إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا، وإعمال على أنه مستقبل حذف التوين منه تخفيفا. وقرأ الضحاك « الحمد لله فطر السموات والأرض » على الفصل الماضي. « جاعل الملائكة رسلا » الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ الحسن: « جاعل الملائكة » بالرفع. وقرأ خليد بن نشيط « جعل الملائكة » وكله ظاهر. « أولي أجنحة » نعت، أي أصحاب أجنحة. « مثنى وثلاث ورباع » أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة؛ ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلا. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: ( يا محمد، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته ) . و « أولو » اسم جمع لذو، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. وقد مضى الكلام في « مثنى وثلاث ورباع » في « النساء » وأنه غير منصرف.
قوله تعالى: « يزيد في الخلق ما يشاء » أي في خلق الملائكة، في قول أكثر المفسرين؛ ذكره المهدوي. وقال الحسن: « يزيد في الخلق » أي في أجنحة الملائكة ما يشاء. وقال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت. وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب. وقال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال: ( أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا ) . وقال قتادة: « يزيد في الخلق ما يشاء » الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم. وقيل: الخط الحسن. وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا ) . وقيل: الوجه الحسن. وقيل في الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن؛ ذكره القشيري. النقاش هو الشعر الجعد. وقيل: العقل والتمييز. وقيل: العلوم والصنائع. « إن الله على كل شيء قدير » من النقصان والزيادة. الزمخشري: والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق؛ من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف.
الآية: 2 ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها » وأجاز النحويون في غير القرآن « فلا ممسك له » على لفظ « ما » و « لها » على المعنى. وأجازوا « وما يمسك فلا مرسل لها » وأجازوا « ما يفتح الله للناس من رحمة » ( بالرفع ) تكون « ما » بمعنى الذي. أي إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله. وقيل: ما يأتيهم به الله من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكه، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أحد على أن يرسله. وقيل: هو الدعاء: قاله الضحاك. ابن عباس: من توبة. وقيل: من توفيق وهداية.
قلت: ولفظ الرحمة يجمع ذلك إذ هي منكرة للإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة على البدل، فهو عام في جميع ما ذكر. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية « ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها » . « وهو العزيز الحكيم » تقدم.
الآية: 3 ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون )
قوله تعالى: « يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم » معنى هذا الذكر الشكر. « هل من خالق غير الله » يجوز في « غير » الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله؛ بمعنى ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع؛ لأن المعنى: هل خاق غير الله، و « من » زائدة. والنصب على الاستثناء. والخفض، على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق غير الله جل وعز، خلق الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي: « هل من خالق غير الله » بالخفض. الباقون بالرفع. « يرزقكم من السماء » أي المطر. « والأرض » أي النبات. « لا إله إلا هو فأنى تؤفكون » من الإفك ( بالفتح ) وهو الصرف؛ يقال: ما أفكك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: من الإفك ( بالكسر ) وهو الكذب، ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم؛ لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون معه خالقين، على ما تقدم في غير موضع.
الآية: 4 ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور )
قوله تعالى: « وإن يكذبوك » يعني كفار قريش. « فقد كذبت رسل من قبلك » يعزي نبيه ويسليه صلى الله عليه وسلم وليتأسى بمن قبله في الصبر. « وإلى الله ترجع الأمور » قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف ( بفتح التاء ) على أنه مسمى الفاعل. واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: « ألا إلى الله تصير الأمور » [ الشورى: 53 ] الباقون « تُرْجَع » على الفعل المجهول.
الآية: 5 ( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
قوله تعالى: « يا أيها الناس إن وعد الله حق » هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. « فلا تغرنكم الحياة الدنيا » قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي. « ولا يغرنكم بالله الغرور » قال ابن السكيت وأبو حاتم: « الغرور » الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون « الغرور » مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق؛ لأن « غررته » متعد، والمصدر المتعدي إنما هو على فعل؛ نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها؛ قالوا: لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. وقراءة العامة « الغرور » ( بفتح الغين ) وهو الشيطان؛ أي لا يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرأ أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد بن المقع « الغرور » ( برفع الغين ) وهو الباطل؛ أي لا يغرنكم الباطل. وقال ابن السكيت: والغرور ( بالضم ) ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غار؛ مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر « غره » كاللزوم والنهوك.
الآيات: 6 - 7 ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير )
قوله تعالى: « إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا » أي فعادوه ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قوله: « ولأضلنهم ولأمنينهم » [ النساء: 119 ] الآية. وقوله: « لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم » [ الأعراف: 16 - 17 ] الآية. فأخبرنا جل وعز أن الشيطان لنا عدو مبين؛ واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب يا مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك: يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مجودا. و « عدو » في قوله: « إن الشيطان لكم عدو » يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال؛ كما قال جل وعز: « فإنهم عدو لي » [ الشعراء: 77 ] . وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاؤوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. « إنما يدعو حزبه » كفت « ما » « إن » عن العمل فوقع بعدها الفعل. « حزبه » أي أشياعه. « ليكونوا من أصحاب السعير » فهذه عداوته. « الذين كفروا لهم عذاب شديد » « الذين كفروا لهم عذاب شديد » يكون « الذين » بدلا « من أصحاب » فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا من « حزبه » فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره لهم عذاب شديد « ؛ وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تم في قوله: » من أصحاب السعير « ثم ابتدأ فقال « الذين كفروا لهم عذاب شديد » . » والذين آمنوا وعملوا الصالحات « في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره » لهم مغفرة « أي لذنوبهم. » وأجر كبير « وهو الجنة.»
الآية: 8 ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )
قوله تعالى: « أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء » « من » في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال جل وعز: « فلعلك باخع نفسك » [ الكهف: 6 ] قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن: ( هم أرق قلوبا وأبخع طاعة ) ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل: « لعلك باخع نفسك » : معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف؛ المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف « فإن الله يضل من، يشاء ويهدي من يشاء » . وقرأ يزيد بن القعقاع: « فلا تذهب نفسك » وفي « أفمن زين له سوء عمله » أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس؛ قال أبو قلابة. ويكون، « سوء عمله » معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج؛ رواه عمر بن القاسم. يكون « سوء عمله » تحريف التأويل. الثالث: الشيطان؛ قال الحسن. ويكون « سوء عمله » الإغواء. الرابع: كفار قريش؛ قاله الكلبي. ويكون « سوء عمله » الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. « فرآه حسنا » أي صوابا؛ قال الكلبي. وقال: جميلا.
قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال؛ لقوله تعالى: « ليس عليك هداهم » [ البقرة: 272 ] ، وقوله: « ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » [ آل عمران: 176 ] ، وقال: « فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا » [ الكهف: 6 ] ، وقوله: « لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين » ، وقوله في هذه الآية: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم؛ أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن: « فلا تُذهِب » بضم التاء وكسر الهاء « نفسك » نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان. « حسرات » منصوب مفعول من أجله؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و « عليهم » صلة « تذهب » ، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر؛ كما قال جرير:
مَشَقَ الهواجر لحمَهن مع السُّرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا.
=========
الآية: 1 ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « الحمد لله فاطر السماوات والأرض » يجوز في « فاطر » ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد مثله وكذا « جاعل الملائكة » . والفاطر: الخالق. وقد مضى في « يوسف » وغيرها. والفطر. الشق عن الشيء؛ يقال: فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير طلع، فهو بعير فاطر. وتفطر الشيء تشقق. وسيف فطار، أي فيه تشقق. قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما « فاطر السموات والأرض » حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها. والفطر. حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر السموات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة. « جاعل الملائكة » لا يجوز فيه التنوين، لأنه لما مضى. « رسلا » مفعول ثان، ويقال على إضمار فعل؛ لأن « فاعلا » إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا، وإعمال على أنه مستقبل حذف التوين منه تخفيفا. وقرأ الضحاك « الحمد لله فطر السموات والأرض » على الفصل الماضي. « جاعل الملائكة رسلا » الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ الحسن: « جاعل الملائكة » بالرفع. وقرأ خليد بن نشيط « جعل الملائكة » وكله ظاهر. « أولي أجنحة » نعت، أي أصحاب أجنحة. « مثنى وثلاث ورباع » أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة؛ ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلا. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: ( يا محمد، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته ) . و « أولو » اسم جمع لذو، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. وقد مضى الكلام في « مثنى وثلاث ورباع » في « النساء » وأنه غير منصرف.
قوله تعالى: « يزيد في الخلق ما يشاء » أي في خلق الملائكة، في قول أكثر المفسرين؛ ذكره المهدوي. وقال الحسن: « يزيد في الخلق » أي في أجنحة الملائكة ما يشاء. وقال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت. وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب. وقال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال: ( أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا ) . وقال قتادة: « يزيد في الخلق ما يشاء » الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم. وقيل: الخط الحسن. وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا ) . وقيل: الوجه الحسن. وقيل في الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن؛ ذكره القشيري. النقاش هو الشعر الجعد. وقيل: العقل والتمييز. وقيل: العلوم والصنائع. « إن الله على كل شيء قدير » من النقصان والزيادة. الزمخشري: والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق؛ من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف.
الآية: 2 ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم )
قوله تعالى: « ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها » وأجاز النحويون في غير القرآن « فلا ممسك له » على لفظ « ما » و « لها » على المعنى. وأجازوا « وما يمسك فلا مرسل لها » وأجازوا « ما يفتح الله للناس من رحمة » ( بالرفع ) تكون « ما » بمعنى الذي. أي إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله. وقيل: ما يأتيهم به الله من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكه، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أحد على أن يرسله. وقيل: هو الدعاء: قاله الضحاك. ابن عباس: من توبة. وقيل: من توفيق وهداية.
قلت: ولفظ الرحمة يجمع ذلك إذ هي منكرة للإشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة على البدل، فهو عام في جميع ما ذكر. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية « ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها » . « وهو العزيز الحكيم » تقدم.
الآية: 3 ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون )
قوله تعالى: « يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم » معنى هذا الذكر الشكر. « هل من خالق غير الله » يجوز في « غير » الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله؛ بمعنى ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع؛ لأن المعنى: هل خاق غير الله، و « من » زائدة. والنصب على الاستثناء. والخفض، على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق غير الله جل وعز، خلق الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي: « هل من خالق غير الله » بالخفض. الباقون بالرفع. « يرزقكم من السماء » أي المطر. « والأرض » أي النبات. « لا إله إلا هو فأنى تؤفكون » من الإفك ( بالفتح ) وهو الصرف؛ يقال: ما أفكك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: من الإفك ( بالكسر ) وهو الكذب، ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم؛ لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون معه خالقين، على ما تقدم في غير موضع.
الآية: 4 ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور )
قوله تعالى: « وإن يكذبوك » يعني كفار قريش. « فقد كذبت رسل من قبلك » يعزي نبيه ويسليه صلى الله عليه وسلم وليتأسى بمن قبله في الصبر. « وإلى الله ترجع الأمور » قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف ( بفتح التاء ) على أنه مسمى الفاعل. واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: « ألا إلى الله تصير الأمور » [ الشورى: 53 ] الباقون « تُرْجَع » على الفعل المجهول.
الآية: 5 ( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
قوله تعالى: « يا أيها الناس إن وعد الله حق » هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. « فلا تغرنكم الحياة الدنيا » قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي. « ولا يغرنكم بالله الغرور » قال ابن السكيت وأبو حاتم: « الغرور » الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون « الغرور » مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق؛ لأن « غررته » متعد، والمصدر المتعدي إنما هو على فعل؛ نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها؛ قالوا: لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. وقراءة العامة « الغرور » ( بفتح الغين ) وهو الشيطان؛ أي لا يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرأ أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد بن المقع « الغرور » ( برفع الغين ) وهو الباطل؛ أي لا يغرنكم الباطل. وقال ابن السكيت: والغرور ( بالضم ) ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غار؛ مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر « غره » كاللزوم والنهوك.
الآيات: 6 - 7 ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير )
قوله تعالى: « إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا » أي فعادوه ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قوله: « ولأضلنهم ولأمنينهم » [ النساء: 119 ] الآية. وقوله: « لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم » [ الأعراف: 16 - 17 ] الآية. فأخبرنا جل وعز أن الشيطان لنا عدو مبين؛ واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب يا مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك: يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مجودا. و « عدو » في قوله: « إن الشيطان لكم عدو » يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال؛ كما قال جل وعز: « فإنهم عدو لي » [ الشعراء: 77 ] . وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاؤوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. « إنما يدعو حزبه » كفت « ما » « إن » عن العمل فوقع بعدها الفعل. « حزبه » أي أشياعه. « ليكونوا من أصحاب السعير » فهذه عداوته. « الذين كفروا لهم عذاب شديد » « الذين كفروا لهم عذاب شديد » يكون « الذين » بدلا « من أصحاب » فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا من « حزبه » فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره لهم عذاب شديد « ؛ وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تم في قوله: » من أصحاب السعير « ثم ابتدأ فقال « الذين كفروا لهم عذاب شديد » . » والذين آمنوا وعملوا الصالحات « في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره » لهم مغفرة « أي لذنوبهم. » وأجر كبير « وهو الجنة.»
الآية: 8 ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )
قوله تعالى: « أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء » « من » في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال جل وعز: « فلعلك باخع نفسك » [ الكهف: 6 ] قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن: ( هم أرق قلوبا وأبخع طاعة ) ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل: « لعلك باخع نفسك » : معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف؛ المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف « فإن الله يضل من، يشاء ويهدي من يشاء » . وقرأ يزيد بن القعقاع: « فلا تذهب نفسك » وفي « أفمن زين له سوء عمله » أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس؛ قال أبو قلابة. ويكون، « سوء عمله » معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج؛ رواه عمر بن القاسم. يكون « سوء عمله » تحريف التأويل. الثالث: الشيطان؛ قال الحسن. ويكون « سوء عمله » الإغواء. الرابع: كفار قريش؛ قاله الكلبي. ويكون « سوء عمله » الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. « فرآه حسنا » أي صوابا؛ قال الكلبي. وقال: جميلا.
قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال؛ لقوله تعالى: « ليس عليك هداهم » [ البقرة: 272 ] ، وقوله: « ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » [ آل عمران: 176 ] ، وقال: « فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا » [ الكهف: 6 ] ، وقوله: « لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين » ، وقوله في هذه الآية: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات » وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم؛ أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن: « فلا تُذهِب » بضم التاء وكسر الهاء « نفسك » نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان. « حسرات » منصوب مفعول من أجله؛ أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و « عليهم » صلة « تذهب » ، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر؛ كما قال جرير:
مَشَقَ الهواجر لحمَهن مع السُّرى حتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا؛ أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي حسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة فاطر
==========
الآية: 9 ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور )
قوله تعالى: « والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت » ميّت وميْت واحد، وكذا ميتة وميتة؛ هذا قول الحذاق من النحويين. وقال محمد بن يزيه: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدا، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميْت ميّت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد:
هينون لينون أيسار بنو يَسَر سواس مكرمة أبناء أيسار
قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميّت وميْت، وسيد وسيد. قال: « فسقناه » بعد أن قال: « والله الذي أرسل الرياح » وهو من باب تلوين الخطاب. وقال ابن عبيدة: سبيله « فتسوقه » ، لأنه قال: « فتثير سحابا » . الزمخشري: فإن قلت: لم جاء « فتثير » على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية؛ وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك؛ كما قال تأبط شرا:
بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: « فسقنا » و « أحيينا » معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة « الرياح » . وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي « الريح » توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى. « كذلك النشور » أي كذلك تحيون بعدما متم؛ من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع؛ أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ( أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا ) قلت: نعم يا رسول الله. قال ( فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه ) وقد ذكرنا هذا الخبر في « الأعراف » وغيرها.
الآية: 10 ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور )
قوله تعالى: « من كان يريد العزة فلله العزة جميعا » التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها؛ لأن العزة إذا كانت تودى إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. « جميعا » منصوب على الحال. وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا.
قلت: وهذا أحسن، وروي مرفوعا على ما يأتي. « فلله العزة جميعا » ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره؛ فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: « ولا يحزنك قولهم إن العزة لله » [ يونس: 65 ] . ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( من تواضع لله رفعه الله ) . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال: « الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا » [ النساء: 139 ] . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء. وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله « من كان يريد العزة فلله العزة جميعا » : ( من أراد عز الدارين فليطع العزيز. وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به؛ فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
قوله تعالى: « إليه يصعد الكلم الطيب » وتم الكلام. ثم تبتدئ « والعمل الصالح يرفعه » على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله؛ لأن موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل. وقال الزجاج: يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه؛ فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله « إليه » أي إلى الله يصعد. وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم. وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و « الكلم الطيب » هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة. وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفيه قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل كل قول بلا فعالٍ هباء
إن قولا بلا فعال جميل ونكاحا بلا ولي سواء
وقرأ الضحاك « يُصعد » بضم الياء. وقرأ. جمهور الناس « الكلم » جمع كلمة. وقرأ أبو عبدالرحمن « الكلام » .
قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس؛ وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة؛ فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم. « والعمل الصالح يرفعه » قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث ( لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة ) . قال ابن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف؛ فيكون قوله: « والعمل الصالح يرفعه » موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها؛ كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي: « إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيء يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران » .
قلت: ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار ( أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله ) . فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في « يرفعه » ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلى أن « الكلم الطيب » هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب؛ فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال: « الكلم الطيب » القرآن « والعمل الصالح يرفعه » القرآن. وقيل: تعود على الله جل وعز؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب؛ لأن العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام؛ لأن الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى؛ لأن القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس « والعمل الصالح يرفعه الله » . وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، ( وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك؛ من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: ( يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ) فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: ( إن الأسود شيطان ) خرجه مسلم. وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى: « والذين يمكرون السيئات » ذكر الطبري في ( كتاب آداب النفوس ) : حدثني يونس بن عبدالأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل: « والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور » قال: هم أصحاب الرياء؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون « السيئات » مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله: « وكنتم قوما بورا » [ الفتح: 12 ] أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في « سبأ » .
الآية: 11 ( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير )
قوله تعالى: « والله خلقكم من تراب ثم من نطفة » قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب. « ثم من نطفة » قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. « ثم جعلكم أزواجا » قال: أي زوج بعضكم بعضا، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. « وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه » أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن تدبيره. « وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب » سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: « وما يعمر من معمر » إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره؛ فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى « وما يعمر من معمر » أي ما يكون من عمره « ولا ينقص من عمره » بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في « عمره » ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: « يمحوا الله ما يشاء ويثبت » [ الرعد: 39 ] والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب؛ أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير المعمر.
قوله تعالى: « إن ذلك على الله يسير » أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة « ينقص » بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب « ينقص » بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شيء. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعد ولازم. وقرأ الأعرج والزهري « من عمْره » بتخفيف الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحْق والسحُق. و « يسير » أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب. والفضل منه: يسر ولو سميت به إنسانا انصرف؛ لأنه فعيل.
الآية: 12 ( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )
قوله تعالى: « وما يستوي البحران هذا عذب فرات » قال ابن عباس: « فرات » حلو، و « أجاج » مر. وقرأ طلحة: « هذا مَلِح أجاج » بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق « سيغ شرابه » مثل سيد وميت. « ومن كل تأكلون لحما طريا » لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في « النحل » الكلام فيه.
قوله تعالى: « وتستخرجون حلية تلبسونها » مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما؛ لأن في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج. وقيل: من مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] . وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: « ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها » فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
وفي قوله: « تلبسونها » ، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه؛ فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل. وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح عن أنس ( فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ) . الحديث.
قوله تعالى: « وترى الفلك فيه مواخر » قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في « النحل » . « لتبتغوا من فضله » فال مجاهد: التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة؛ كما تقدم في « البقرة » . وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. « ولعلكم تشكرون » على ما آتاكم من فضله. وقيل: على ما أنجاكم من هوله.
الآية: 13 ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير )
قوله تعالى: « يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى » تقدم في « لقمان » بيانه. « ذلكم الله ربكم له الملك » أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر؛ فهو الذي يعبد. « والذين تدعون من دونه » يعني الأصنام. « ما يملكون من قطمير » أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة؛ قاله أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة؛ وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
الآية: 14 ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير )
قوله تعالى: « إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم » أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. « ولو سمعوا ما استجابوا لكم » إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. « ويوم القيامة يكفرون بشرككم » أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم؛ كما أخبر عن عيسى بقوله: « ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » [ المائدة: 116 ] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. « ولا ينبئك مثل خبير » هو الله جل وعز؛ أي لا أحد يخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله.
==========
الآية: 9 ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور )
قوله تعالى: « والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت » ميّت وميْت واحد، وكذا ميتة وميتة؛ هذا قول الحذاق من النحويين. وقال محمد بن يزيه: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدا، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميْت ميّت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد:
هينون لينون أيسار بنو يَسَر سواس مكرمة أبناء أيسار
قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميّت وميْت، وسيد وسيد. قال: « فسقناه » بعد أن قال: « والله الذي أرسل الرياح » وهو من باب تلوين الخطاب. وقال ابن عبيدة: سبيله « فتسوقه » ، لأنه قال: « فتثير سحابا » . الزمخشري: فإن قلت: لم جاء « فتثير » على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية؛ وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك؛ كما قال تأبط شرا:
بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: « فسقنا » و « أحيينا » معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة « الرياح » . وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي « الريح » توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى. « كذلك النشور » أي كذلك تحيون بعدما متم؛ من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع؛ أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ( أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا ) قلت: نعم يا رسول الله. قال ( فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه ) وقد ذكرنا هذا الخبر في « الأعراف » وغيرها.
الآية: 10 ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور )
قوله تعالى: « من كان يريد العزة فلله العزة جميعا » التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها؛ لأن العزة إذا كانت تودى إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. « جميعا » منصوب على الحال. وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا.
قلت: وهذا أحسن، وروي مرفوعا على ما يأتي. « فلله العزة جميعا » ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره؛ فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: « ولا يحزنك قولهم إن العزة لله » [ يونس: 65 ] . ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( من تواضع لله رفعه الله ) . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال: « الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا » [ النساء: 139 ] . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء. وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله « من كان يريد العزة فلله العزة جميعا » : ( من أراد عز الدارين فليطع العزيز. وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به؛ فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
قوله تعالى: « إليه يصعد الكلم الطيب » وتم الكلام. ثم تبتدئ « والعمل الصالح يرفعه » على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله؛ لأن موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل. وقال الزجاج: يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه؛ فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله « إليه » أي إلى الله يصعد. وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم. وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و « الكلم الطيب » هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة. وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله حتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفيه قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل كل قول بلا فعالٍ هباء
إن قولا بلا فعال جميل ونكاحا بلا ولي سواء
وقرأ الضحاك « يُصعد » بضم الياء. وقرأ. جمهور الناس « الكلم » جمع كلمة. وقرأ أبو عبدالرحمن « الكلام » .
قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس؛ وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة؛ فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم. « والعمل الصالح يرفعه » قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث ( لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة ) . قال ابن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف؛ فيكون قوله: « والعمل الصالح يرفعه » موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها؛ كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي: « إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيء يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران » .
قلت: ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار ( أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله ) . فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في « يرفعه » ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلى أن « الكلم الطيب » هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب؛ فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال: « الكلم الطيب » القرآن « والعمل الصالح يرفعه » القرآن. وقيل: تعود على الله جل وعز؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب؛ لأن العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام؛ لأن الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى؛ لأن القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس « والعمل الصالح يرفعه الله » . وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، ( وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك؛ من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: ( يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ) فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: ( إن الأسود شيطان ) خرجه مسلم. وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى: « والذين يمكرون السيئات » ذكر الطبري في ( كتاب آداب النفوس ) : حدثني يونس بن عبدالأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل: « والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور » قال: هم أصحاب الرياء؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون « السيئات » مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله: « وكنتم قوما بورا » [ الفتح: 12 ] أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في « سبأ » .
الآية: 11 ( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير )
قوله تعالى: « والله خلقكم من تراب ثم من نطفة » قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب. « ثم من نطفة » قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. « ثم جعلكم أزواجا » قال: أي زوج بعضكم بعضا، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. « وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه » أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن تدبيره. « وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب » سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: « وما يعمر من معمر » إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره؛ فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى « وما يعمر من معمر » أي ما يكون من عمره « ولا ينقص من عمره » بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في « عمره » ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: « يمحوا الله ما يشاء ويثبت » [ الرعد: 39 ] والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب؛ أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير المعمر.
قوله تعالى: « إن ذلك على الله يسير » أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة « ينقص » بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب « ينقص » بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شيء. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعد ولازم. وقرأ الأعرج والزهري « من عمْره » بتخفيف الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحْق والسحُق. و « يسير » أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب. والفضل منه: يسر ولو سميت به إنسانا انصرف؛ لأنه فعيل.
الآية: 12 ( وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )
قوله تعالى: « وما يستوي البحران هذا عذب فرات » قال ابن عباس: « فرات » حلو، و « أجاج » مر. وقرأ طلحة: « هذا مَلِح أجاج » بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق « سيغ شرابه » مثل سيد وميت. « ومن كل تأكلون لحما طريا » لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في « النحل » الكلام فيه.
قوله تعالى: « وتستخرجون حلية تلبسونها » مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما؛ لأن في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج. وقيل: من مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] . وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: « ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها » فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
وفي قوله: « تلبسونها » ، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه؛ فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل. وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح عن أنس ( فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ) . الحديث.
قوله تعالى: « وترى الفلك فيه مواخر » قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في « النحل » . « لتبتغوا من فضله » فال مجاهد: التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة؛ كما تقدم في « البقرة » . وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. « ولعلكم تشكرون » على ما آتاكم من فضله. وقيل: على ما أنجاكم من هوله.
الآية: 13 ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير )
قوله تعالى: « يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى » تقدم في « لقمان » بيانه. « ذلكم الله ربكم له الملك » أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر؛ فهو الذي يعبد. « والذين تدعون من دونه » يعني الأصنام. « ما يملكون من قطمير » أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة؛ قاله أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة؛ وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
الآية: 14 ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير )
قوله تعالى: « إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم » أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. « ولو سمعوا ما استجابوا لكم » إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. « ويوم القيامة يكفرون بشرككم » أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم؛ كما أخبر عن عيسى بقوله: « ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » [ المائدة: 116 ] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. « ولا ينبئك مثل خبير » هو الله جل وعز؛ أي لا أحد يخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة فاطر
===========
الآية: 15 ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )
قوله تعالى: « يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله » أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: « فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: » وخلق الإنسان ضعيفا « [ النساء: 28 ] ، وقال: » الله الذي خلقكم من ضعف « [ الروم: 54 ] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل » الفقراء « بـ » الغني « فما فائدة » الحميد « ؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر » الحميد « ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه » . وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. « والله هو الغني الحميد » تكون « هو » زائدة، فيكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآيات: 16 - 17 ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز )
قوله تعالى: « إن يشأ يذهبكم » فيه حذف؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم؛ أي يفنيكم. « ويأت بخلق جديد » أي أطوع منكم وأزكى. « وما ذلك على الله بعزيز » أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.
الآية: 18 ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير )
قوله تعالى: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل « توزر » حذفت الواو اتباعا ليزر. « وازرة » نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا « وإن تدع مثقلة إلى حملها » قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. « لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى » التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله « وإن كان ذو عسرة » [ البقرة: 280 ] فتكون « كان » بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير؛ على هذا. وخيرا فخير؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: « وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى » . وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء؛ يقول: بلى يا أماه؛ فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا؛ فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: « إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة » أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: « إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب » [ يس: 11 ] . « ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه » أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: « ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه » . « وإلى الله المصير » أي إليه مرجع جميع الخلق.
الآيات: 19 - 22 ( وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور )
قوله تعالى: « وما يستوي الأعمى والبصير » أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: « قل لا يستوي الخبيث والطيب » [ المائدة: 100 ] . « ولا الظلمات ولا النور » قال الأخفش سعيد: « لا » زائدة؛ والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح؛ لأن الحرور فعول من الحر، وفيه معنى التكثير، أي الحر المؤذي.
قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم ) . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: ( فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها ) وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار؛ فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار؛ فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: « أكلها دائم وظلها » [ الرعد: 35 ] والنار ذات حرور، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد.
قوله تعالى: « وما يستوي الأحياء ولا الأموات » قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. « إن الله يسمع من يشاء » أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. « وما أنت بمسمع من في القبور » أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم؛ أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: « بمسمع من في القبور » بحذف التنوين تخفيفا؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية: 23 ( إن أنت إلا نذير )
أي رسول منذر؛ فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية: 24 ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
قوله تعالى: « إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا » أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. « وإن من أمة إلا خلا فيها نذير » أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الآيات: 25 - 26 ( وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير، ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير )
قوله تعالى: « وإن يكذبوك » يعني كفار قريش. « فقد كذب الذين من قبلهم » أنبياءهم، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. « وبالزبر » أي الكتب المكتوبة. « وبالكتاب المنير » أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى، معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. « ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير » أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في « نكيري » حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
الآيات: 27 - 28 ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور )
قوله تعالى: « ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها » هذه الرؤية رؤية القلب والعلم؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل؛ فـ « أن » واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. « فأخرجنا به ثمرات » هو من باب تلوين الخطاب. « مختلفا ألوانها » نصبت « مختلفا » نعتا لـ « ثمرات » . « ألوانها » رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل. « ثمرات » لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. « به » أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. « ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها » الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد ( بقسم الجيم والدال ) نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد؛ قال تعالى: « ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها » أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الأمر؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري « جدد » بالضم جمع جديدة، هي الجدة؛ يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه « جدد بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. » ومن الناس والدواب « وقرئ: » والدواب « مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: » ولا الضألين « لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين، فحرك ذلك أولهما، وحذف هذا آخرهما؛ قاله الزمخشري. » والأنعام مختلف ألوانه « أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: » مختلف ألوانه « فذكر الضمير مراعاة لـ » من « ؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى » ما « مضمرة؛ مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. » وغرابيب سود « قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد؛ ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب؛ أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يبغض الشيخ الغربيب ) يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس: »
العين طامحة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى: « كذلك » هنا تمام الكلام؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، « إنما يخشى الله من عباده العلماء » يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس « إنما يخشى الله من عباده العلماء » قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر؛ فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ « إنما يخشى اللهُ » بالرفع « من عباده العلماءَ » بالنصب، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. « إن الله عزيز غفور » تعليل لوجوب الخشية، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآيات: 29 - 30 ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور )
قوله تعالى: « إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. « يرجون تجارة لن تبور » قال أحمد بن يحيى: خبر « إن » « يرجون » . « ويزيدهم من فضله » قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: « رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله » إلى قوله « ويزيدهم من فضله » [ النور: 37 - 38 ] ، وقوله في آخر النساء: « فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله » [ النساء: 173 ] وهناك بيناه. « إنه غفور » للذنوب. « شكور » يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
===========
الآية: 15 ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )
قوله تعالى: « يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله » أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: « فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: » وخلق الإنسان ضعيفا « [ النساء: 28 ] ، وقال: » الله الذي خلقكم من ضعف « [ الروم: 54 ] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل » الفقراء « بـ » الغني « فما فائدة » الحميد « ؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر » الحميد « ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه » . وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. « والله هو الغني الحميد » تكون « هو » زائدة، فيكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
الآيات: 16 - 17 ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز )
قوله تعالى: « إن يشأ يذهبكم » فيه حذف؛ المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم؛ أي يفنيكم. « ويأت بخلق جديد » أي أطوع منكم وأزكى. « وما ذلك على الله بعزيز » أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى.
الآية: 18 ( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير )
قوله تعالى: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل « توزر » حذفت الواو اتباعا ليزر. « وازرة » نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا « وإن تدع مثقلة إلى حملها » قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. « لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى » التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله « وإن كان ذو عسرة » [ البقرة: 280 ] فتكون « كان » بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا؛ أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير؛ على هذا. وخيرا فخير؛ على الأول. وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني؛ فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة؛ فيقول: إن الذي سألتني يسير؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو؛ فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: « وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى » . وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء؛ يقول: بلى يا أماه؛ فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا؛ فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: « إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة » أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: « إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب » [ يس: 11 ] . « ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه » أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: « ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه » . « وإلى الله المصير » أي إليه مرجع جميع الخلق.
الآيات: 19 - 22 ( وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور )
قوله تعالى: « وما يستوي الأعمى والبصير » أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: « قل لا يستوي الخبيث والطيب » [ المائدة: 100 ] . « ولا الظلمات ولا النور » قال الأخفش سعيد: « لا » زائدة؛ والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، أو قيل بالعكس. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح؛ لأن الحرور فعول من الحر، وفيه معنى التكثير، أي الحر المؤذي.
قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم ) . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: ( فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها ) وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار؛ فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار؛ فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: « أكلها دائم وظلها » [ الرعد: 35 ] والنار ذات حرور، وقال معناه الذي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد.
قوله تعالى: « وما يستوي الأحياء ولا الأموات » قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. « إن الله يسمع من يشاء » أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. « وما أنت بمسمع من في القبور » أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم؛ أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: « بمسمع من في القبور » بحذف التنوين تخفيفا؛ أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
الآية: 23 ( إن أنت إلا نذير )
أي رسول منذر؛ فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.
الآية: 24 ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
قوله تعالى: « إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا » أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. « وإن من أمة إلا خلا فيها نذير » أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الآيات: 25 - 26 ( وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير، ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير )
قوله تعالى: « وإن يكذبوك » يعني كفار قريش. « فقد كذب الذين من قبلهم » أنبياءهم، يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم. « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. « وبالزبر » أي الكتب المكتوبة. « وبالكتاب المنير » أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى، معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. « ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير » أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في « نكيري » حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
الآيات: 27 - 28 ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور )
قوله تعالى: « ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها » هذه الرؤية رؤية القلب والعلم؛ أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل؛ فـ « أن » واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. « فأخرجنا به ثمرات » هو من باب تلوين الخطاب. « مختلفا ألوانها » نصبت « مختلفا » نعتا لـ « ثمرات » . « ألوانها » رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل. « ثمرات » لما دعا عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه؛ ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه. « به » أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. « ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها » الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد ( بقسم الجيم والدال ) نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد طاو ويرتفع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته؛ حكاه ابن بحر قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد؛ قال تعالى: « ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها » أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الأمر؛ إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري « جدد » بالضم جمع جديدة، هي الجدة؛ يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسربها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع
وروي عنه « جدد بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. » ومن الناس والدواب « وقرئ: » والدواب « مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: » ولا الضألين « لأن كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين، فحرك ذلك أولهما، وحذف هذا آخرهما؛ قاله الزمخشري. » والأنعام مختلف ألوانه « أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: » مختلف ألوانه « فذكر الضمير مراعاة لـ » من « ؛ قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى » ما « مضمرة؛ مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه، أي أبيض وأحمر وأسود. » وغرابيب سود « قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد؛ ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب؛ أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يبغض الشيخ الغربيب ) يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس: »
العين طامحة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية يعصر منها ملاحي وغربيب
قوله تعالى: « كذلك » هنا تمام الكلام؛ أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، « إنما يخشى الله من عباده العلماء » يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته؛ فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس « إنما يخشى الله من عباده العلماء » قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير. وقال الربيع بن أنس من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم - ثم تلا هذه الآية - إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سمواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر؛ فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ « إنما يخشى اللهُ » بالرفع « من عباده العلماءَ » بالنصب، وهو عمر بن عبدالعزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. « إن الله عزيز غفور » تعليل لوجوب الخشية، لدلاله على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
الآيات: 29 - 30 ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور )
قوله تعالى: « إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن. « يرجون تجارة لن تبور » قال أحمد بن يحيى: خبر « إن » « يرجون » . « ويزيدهم من فضله » قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: « رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله » إلى قوله « ويزيدهم من فضله » [ النور: 37 - 38 ] ، وقوله في آخر النساء: « فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله » [ النساء: 173 ] وهناك بيناه. « إنه غفور » للذنوب. « شكور » يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
صفحة 13 من اصل 20 • 1 ... 8 ... 12, 13, 14 ... 16 ... 20
مواضيع مماثلة
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
صفحة 13 من اصل 20
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola
» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله
» قصة سيدنا عزير
الإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة
» ** قصة أبيار على **
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة
» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله
» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة
» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله
» إعجاز بناء الكعبة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز
» صفات اليهود فى القرآن الكريم
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله