روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
روضة البدر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 

 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المواضيع الأخيرة
» فن باعواد الكبريت
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola

» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله

» قصة سيدنا عزير
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة

» ** قصة أبيار على **
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة

» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله

» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة

» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله

» إعجاز بناء الكعبة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز

» صفات اليهود فى القرآن الكريم
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله

نوفمبر 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

صفحة 8 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 5 ... 7, 8, 9 ... 14 ... 20  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة ديسمبر 28, 2012 11:04 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============



الآيتان: 23 - 24 ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )



قوله تعالى: « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه » وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. « وغلقت الأبواب » غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. « وقالت هيت لك » أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ « هَيتَ لك » قال فقلت: إن قوما يقرؤونها « هِيتَ لك » فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي « قالت هَيتِ لك » بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير « هَيتُ لك » بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة:

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع « وقالت هِيتَ لك » بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب « وقالت هِيْتُ لك » بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: « وقالت هَئتُ لك » بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: « وقالت هِئتَ » بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر: « هئتَ لك » بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في « هئت » أي حسنت هيئتك، ويكون « لك » من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ « هيت لك » . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك « هئت » عن العرب. قال عكرمة: « هئت لك » أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في « هيت » لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات « هيت » بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة:

ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت

بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا

إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا

قال ابن عباس والحسن: « هيت » كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال:

قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا

أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات



قوله تعالى: « قال معاذ الله » أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. « إنه ربي » يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها « لولا أن رأى برهان ربه » ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين » فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: « ولقد همت به وهم بها » الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل:

هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

آخر:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] . قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب.

قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في « ص ] إن شاء الله تعالى. وجواب » لولا « على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله » كلا لو تعلمون علم اليقين « [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.»

قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.

قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: « وأوحينا إليه » [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.

قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.



قوله تعالى: « لولا أن رأى برهان ربه » « أن » في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت « ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » [ الإسراء: 32 ] . وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك. وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.



قوله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » الكاف من « كذلك » يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « المخلصين » بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.



الآية: 25 ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم )



قوله تعالى: « واستبقا الباب » قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من « استبقا » في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.



قوله تعالى: « وقدت قميصه من دبر » أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة:

تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف « فلما رأى قميصه عط من دبره » أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح.



في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.



قوله تعالى: « وألفيا سيدها لدى الباب » أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ « قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » أي زنى.



قوله تعالى: « إلا أن يسجن » تقول: يضرب ضربا وجيعا. و « ما جزاء » ابتداء، وخبره « أن يسجن » . « أو عذاب أليم » عطف على موضع « أن يسجن » لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي.

هدى من الله
Admin
Admin

عدد المساهمات : 10627
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد ديسمبر 30, 2012 12:01 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============



الآيات: 26 - 29 ( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )


قوله تعالى: « قال هي راودتني عن نفسي » قال العلماء: لما برأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال: « هي راودتني عن نفسي » نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق.


قوله تعالى: « وشهد شاهد من أهلها » لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول - أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السهيلي: وهو الصحيح؛ للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة... ) وذكر فيهم شاهد يوسف. وقال القشيري أبو نصر: قيل فيه: كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها؛ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تكلم أربعة وهم صغار... ) فذكر منهم شاهد يوسف؛ فهذا قول. الثاني - أن الشاهد قد القميص؛ رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها؛ ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله تعالى بعد « من أهلها » يبطل أن يكون القميص. الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني؛ قال مجاهد أيضا، وهذا يرده قوله تعالى: « من أهلها » . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه؛ فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف؛ هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها؛ وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس - رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال: كان رجلا ذا لحية. وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك. وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما. وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة؛ ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة؛ وليس هذا بمخالف للحديث ( تكلم أربعة وهم صغار ) منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرا ليس بشيخ؛ وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي.

قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ] إن شاء الله.



إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم.



قوله تعالى: « إن كان قميصه قد من قبل » كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى إن يكن؛ أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. « قد من قبل » فخبر عن « كان » بالفعل الماضي؛ كما قال زهير:

وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق « من قبل » بضم القاف والباء واللام، وكذا « دبر » قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد؛ كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز « من قبل » « ومن دبر » بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه. وروى محبوب عن أبي عمرو « من قبل » « ومن دبر » مخففان مجروران.


قوله تعالى: « فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن » قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: « ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » [ يوسف: 25 ] . وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في ( الأنفال ) . « إن كيدكن عظيم » وإنما قال « عظيم » لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: « إن كيد الشيطان كان ضعيفا » [ النساء: 76 ] وقال: « إن كيدكن عظيم » .


قوله تعالى: « يوسف أعرض عن هذا » القائل هذا هو الشاهد. و « يوسف » نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. « أعرض عن هذا » أي لا تذكره لأحد واكتمه. « واستغفري لذنبك » أقبل عليها فقال: وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. « إنك كنت من الخاطئين » ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل: « إنها كانت من قوم كافرين » [ النمل: 43 ] « وكانت من القانتين » [ التحريم: 12 ] . وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك؛ وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورا؛ فلذلك، كان ساكنا. وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود. الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها.

الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...



الآية: 30 - 31 ( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )


قوله تعالى: « وقال نسوة في المدينة » ويقال: « نُسوة » بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضل والسلمي، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب؛ وذلك أن القصة انتشرت في أهل مصر فتحدث النساء. قيل: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه. وقيل: امرأة الحاجب؛ عن ابن عباس وغيره. « تراود فتاها عن نفسه » الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. « قد شغفها حبا » قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها؛ عن مجاهد. وغيره. وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل تحت شغافها. وقال الحسن: الشغف باطن القلب. السدي وأبو عبيد: شغاف القلب غلافه، وهو جلد عليه. وقيل: هو وسط القلب؛ والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شغافها فغلب عليه؛ قال النابغة:

وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه الأصابع

وقد قيل: إن الشغاف داء؛ وأنشد الأصمعي للراجز:

يتبعها وهي له شغاف

وقرأ أبو جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن « شعفها » بالعين غير معجمة؛ قال ابن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها؛ قال: وعلى الأول العمل. قال الجوهري: وشعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شعف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن « قد شعفها » قال: بطنها حبا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب؛ لأن شعاف الجبال. أعاليها؛ وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين إذا أولع به؛ إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت امرئ القيس:

لتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي

قال: فشبهت لوعة الحب وجواه بذلك. وروي عن الشعبي أنه قال: الشغف بالغين المعجمة حب، والشعف بالعين غير المعجمة جنون. قال النحاس: وحكي « قد شغِفها » بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا « شغفها » بفتح الغين، وكذا « شعفها » أي تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن الحسن: الشغاف حجاب القلب، والشعاف سويداء القلب، فلو وصل الحب إلى الشعاف لماتت؛ وقال الحسن: ويقال إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب.


قوله تعالى: « إنا لنراها في ضلال مبين » أي في هذا الفعل. وقال قتادة: « فتاها » وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرها فيه. وقال مقاتل عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: إن امرأة العزيز استوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: أتخذه ولدا؛ قال: هو لك؛ فربته حتى أيفع وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزين وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله.


قوله تعالى: « فلما سمعت بمكرهن » أي بغيبتهن إياها، واحتيالهن في ذمها. وقيل: إنها أطلعتهن واستأمنتهن فأفشين سرها، فسمي ذلك مكرا. وقوله: « أرسلت إليهن » في الكلام حذف؛ أي أرسلت إليهن تدعوهن إلى وليمة لتوقعهن فيما وقعت فيه؛ فقال مجاهد عن ابن عباس: إن امرأة العزيز قالت لزوجها إني أريد أن أتخذ طعاما فأدعو هؤلاء النسوة؛ فقال لها: افعلي؛ فاتخذت طعاما، ثم نجدت لهن البيوت؛ نجدت أي زينت؛ والنجد ما ينجد به البيت من المتاع أي يزين، والجمع نجود عن أبي عبيد؛ والتنجيد التزيين؛ وأرسلت إليهن أن يحضرن طعامها، ولا تتخلف منكن امرأة ممن سميت. قال وهب بن منبه: إنهن كن أربعين امرأة فجئن على كره منهن، وقد قال فيهن أمية بن أبي الصلت:

حتى إذا جئنها قسرا ومهدت لهن أنضادا وكبابا

ويروى: أنماطا. قال وهب بن منبه: فجئن وأخذن مجالسهن. « وأعتدت لهن متكأ » أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها. قال ابن جبير: في كل مجلس جام فيه عسل وأترج وسكين حاد. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير « متكا » مخففا غير مهموز، والمتك هو الأترج بلغة القبط، وكذلك فسره مجاهد روى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: المتكأ مثقلا هو الطعام، والمتك مخففا هو الأترج؛ وقال الشاعر:

نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا مستعارا

وقد تقول أزد شنوءة: الأترجة المتكة؛ قال الجوهري: المُتْكَ ما تبقيه الخاتنة. وأصل المتك الزماورد. والمتكاء من النساء التي لم تحفض. قال الفراء: حدثني شيخ من ثقات أهل البصرة أن المتك مخففا الزماورد. وقال بعضهم: إنه الأترج؛ حكاه الأخفش. ابن زيد: أترجا وعسلا يؤكل به؛ قال الشاعر:

فظلنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله

أي أكلنا.

النحاس: قوله تعالى: « واعتدت » من العتاد؛ وهو كل ما جعلته عدة لشيء. « متكأ » أصح ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول جماعة من أهل، التفسير إنه الطعام فيجوز على تقدير: طعام متكأ، مثل: « واسأل القرية » ؛ ودل على هذا الحذف « وآتت كل واحدة منهن سكينا » لأن حضور النساء معهن سكاكين إنما هو لطعام يقطع بالسكاكين؛ كذا قال في كتاب « إعراب القرآن » له. وقال في كتاب « معاني القرآن » له: وروى معمر عن قتادة قال: « المتكأ » الطعام. وقيل: « المتكأ » كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث؛ وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، إلا أن الروايات قد صحت بذلك. وحكى القتبي أنه يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا، والأصل في « متكأ » موتكأ، ومثله متزن ومتعد؛ لأنه من وزنت، ووعدت ووكأت، ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. « كل واحدة منهن سكينا » مفعولان؛ وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكر ويؤنث، وأنشد الفراء:

فعيث في السنام غداة قر بسكين موثقة النصاب

الجوهري: والغالب عليه التذكير، وقال:

يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا فذلك سكين على الحلق حاذق

الأصمعي: لا يعرف في السكين إلا التذكير.


قوله تعالى: « وقالت اخرج عليهن » بضم التاء لالتقاء الساكنين؛ لأن الكسرة تثقل إذا كان بعدها ضمة، وكسرت التاء على الأصل. قيل: إنها قالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أعلمكن، ثم قالت لخادمها: إذا قلت لك ادع إيلا فادع يوسف؛ وإيل: صنم كانوا يعبدونه، وكان يوسف عليه السلام يعمل في الطين، وقد شد مئزره، وحسر عن ذراعيه؛ فقالت للخادم: ادع لي إيلا؛ أي ادع لي الرب؛ وإيل بالعبرانية الرب؛ قال: فتعجب النسوة وقلن: كيف يجيء؟! فصعدت الخادم فدعت يوسف، فلما انحدر قالت لهن: اقطعن ما معكن. « فلما رأينه أكبرنه » واختلف في معنى « أكبرنه » فروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أعظمنه وهبنه؛ وعنه أيضا أمنين وأمذين من الدهش؛ وقال الشاعر:

إذا ما رأين الفحل من فوق قارة صهلن وأكبرن المني المدفقا

وقال ابن سمعان عن عدة من أصحابه: إنهم قالوا أمذين عشقا؛ وهب بن منبه: عشقنه حتى مات منهن عشر في ذلك المجلس دهشا وحيرة ووجدا بيوسف. وقيل: معناه حضن من الدهش؛ قاله قتادة ومقاتل والسدي؛ قال الشاعر:

نأتي النساء على أطهارهن ولا نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا: ليس ذلك في كلام العرب، ولكنه يجوز أن يكن حضن من شدة إعظامهن له، وقد تقزع المرأة فتسقط ولدها أو تحيض. قال الزجاج يقال أكبرنه، ولا يقال حضنه، فليس الإكبار بمعنى الحيض؛ وأجاب الأزهري فقال: يجوز أكبرت بمعنى حاضت؛ لأن المرأة إذا حاضت في الابتداء خرجت من حيز الصغر إلى الكبر؛ قال: والهاء في « أكبرنه » يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية، وهذا مزيف، لأن هاء الوقف تسقط في الوصل، وأمثل منه قول ابن الأنباري: إن الهاء كناية عن مصدر الفعل، أي أكبرن إكبارا، بمعنى حضن حيضا. وعلى قول ابن عباس الأول تعود الهاء إلى يوسف؛ أي أعظمن يوسف وأجللنه.


قوله تعالى: « وقطعن أيديهن » بالمدى حتى بلغت السكاكين إلى العظم؛ قاله وهب بن منبه. سعيد بن جبير: لم يخرج عليهن حتى زينته، فخرج عليهن فجأة فدهشن فيه، وتحيرن لحسن وجهه وزينته وما عليه، فجعلن يقطعن أيديهن، ويحسبن أنهن يقطعن الأترج؛ قال مجاهد: قطعنها حتى ألقينها. وقيل: خدشنها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: حزا بالسكين، قال النحاس: يريد مجاهد أنه ليس قطعا تبين منه اليد، إنما هو خدش وحز، وذلك معروف في اللغة أن يقال إذا خدش الإنسان يد صاحبه قطع يده. وقال عكرمة: « أيديهن » أكمامهن، وفيه بعد. وقيل: أناملهن؛ أي ما وجدن ألما في القطع والجرح، أي لشغل قلوبهن بيوسف، والتقطيع يشير إلى الكثرة، فيمكن أن ترجع الكثرة إلى واحدة جرحت يدها في موضع، ويمكن أن يرجع إلى عددهن.



قوله تعالى: « وقلن حاش لله » أي معاذ الله. وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء. « وقلن حاشا لله » بإثبات الألف وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام في « لله » عوضا منها. وفيها أربع لغات؛ يقال: حاشاك وحاشا لك وحاش لك وحشا لك. ويقال: حاشا زيد وحاشا زيدا؛ قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: النصب أولى؛ لأنه قد صح أنها فعل لقولهم حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه؛ وقد قال، النابغة:

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

وقال بعضهم: حاش حرف، وأحاشي فعل. ويدل على كون حاشا فعلا وقوع حرف الجر بعدها. وحكى أبو زيد عن أعرابي: اللهم اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ؛ فنصب بها. وقرأ الحسن « وقلن حاش لله » بإمكان الشين، وعنه أيضا « حاش الإله » . ابن مسعود وأبي: « حاش الله » بغير لام، ومنه قول الشاعر:

حاشا أبي ثوبان إن به ضنا عن الملحاة والشتم

قال الزجاج: وأصل الكلمة من الحاشية، والحشا بمعنى الناحية، تقول: كنت في حشا فلان أي في ناحيته؛ فقولك: حاشا لزيد أي تنحى زيد من هذا وتباعد عنه، والاستثناء إخراج وتنحية عن جملة المذكورين. وقال أبو علي: هو فاعل من المحاشاة؛ أي حاشا يوسف وصار في حاشية وناحية مما قرف به، أو من أن يكون بشرا؛ فحاشا وحاش في الاستثناء حرف جر عند سيبويه، وعلى ما قال المبرد وأبو علي فعل.


قوله تعالى: « ما هذا بشرا » قال الخليل وسيبويه: « ما » بمنزلة ليس؛ تقول: ليس زيد قائما، و « ما هذا بشرا » و « ما هن أمهاتهم » [ المجادلة: 2 ] . وقال الكوفيون: لما حذفت الباء نصبت؛ وشرج هذا - فيما قال أحمد بن يحيى، - إنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض؛ فلما حذفت الباء نصبت لتدل على محلها، قال: وهذا قول الفراء، قال: ولم تعمل « ما » شيئا؛ فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر؛ لأن المعنى كالقمر! فرد أحمد بن يحيى بأن قال: الباء أدخل في حروف الخفض من الكاف؛ لأن الكاف تكون اسما. قال النحاس: لا يصح إلا قول البصريين؛ وهذا القول يتناقض؛ لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد:

أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق

ومنع نصا النصب؛ ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو، ثم يحذفون الباء ويرفعون. وحكى البصريون والكوفيون ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة تميم، وأنشدوا:

أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم لذي حسب نديد

الند والنديد والنديدة المثل والنظير. وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد. وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين: قال أبو إسحاق: وهذا غلط؛ كتاب الله عز وجل ولغة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى وأولى.

قلت: وفي مصحف حفصة رضي الله عنها « ما هذا ببشر » ذكره الغزنوي. قال القشيري أبو نصر: وذكرت النسوة أن صورة يوسف أحسن، من صورة البشر، بل هو في صورة ملك؛ وقال الله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] والجمع بين الآيتين أن قولهن: « حاش لله » تبرئة ليوسف عما رمته به امرأة العزيز. من المراودة، أي بعد يوسف عن هذا؛ وقولهن: « لله » أي لخوفه، أي براءة لله من هذا؛ أي قد نجا يوسف من ذلك، فليس هذا من الصورة في شيء؛ والمعنى: أنه في التبرئة عن المعاصي كالملائكة؛ فعلى هذا لا تناقض. وقيل: المراد تنزيهه عن مشابهة البشر في الصورة، لفرط جماله. وقوله: « لله » تأكيد لهذا المعنى؛ فعلى هذا المعنى قالت النسوة ذلك ظنا منهن أن صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] فإنه من كتابنا. وقد ظن بعض، الضعفة أن هذا القول لو كان ظنا باطلا منهن لوجب على الله أن يرد عليهن، ويبين كذبهن، وهذا باطل؛ إذ لا وجوب على الله تعالى، وليس كل ما يخبر به الله سبحانه من كفر الكافرين وكذب الكاذبين يجب عليه أن يقرن به الرد عليه، وأيضا أهل العرف قد يقولون في القبيح كأنه شيطان، وفي الحسن كأنه ملك؛ أي لم ير مثله، لأن الناس لا يرون الملائكة؛ فهو بناء على ظن في أن صورة الملك أحسن، أو على الإخبار بطهارة أخلاقه وبعده عن التهم.. « إن هذا إلا ملك » أي ما هذا إلا ملك؛ وقال الشاعر:

فلست لإني ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب

وروي عن الحسن: « ما هذا بشرى » بكسر الباء والشين، أي ما هذا عبدا مشترى، أي ما ينبغي لمثل هذا أن يباع، فوضع المصدر موضع اسم المفعول، كما قال: « أحل لكم صيد البحر » [ المائدة: 96 ] أي مصيده، وشبهه كثير. ويجوز أن يكون المعنى: ما هذا بثمن، أي مثله لا يثمن ولا يقوم؛ فيراد بالشراء على هذا الثمن المشترى به: كقولك: ما هذا بألف إذا نفيت قول القائل: هذا بألف. فالباء على هذا متعلقة بمحذوف هو الخبر، كأنه قال: ما هذا مقدرا بشراء. وقراءة العامة أشبه؛ لأن بعده « إن هذا إلا ملك كريم » مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيما لشأنه، ولأن مثل « بشرى » يكتب في المصحف بالياء.



الآية: 32 ( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين )


قوله تعالى: « قالت فذلكن الذي لمتنني فيه » لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها: « لمتنني فيه » أي بحبه، و « ذلك » بمعنى « هذا » وهو اختيار الطبري. وقيل: الهاء للحب، و « ذلك » عل بابه، والمعنى: ذلكن الحب الذي لمتنني فيه، أي حب هذا هو ذلك الحب. واللوم الوصف بالقبيح. ثم أقرت وقالت: « ولقد راودته عن نفسه فاستعصم » أي امتنع. وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية. وقيل: « استعصم » أي استعصى، والمعنى واحد. « ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن » عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، ووعدت بالسجن إن لم يفعل، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها. « وليكون من الصاغرين » أي الأذلاء. وخط المصحف « وليكونا » بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد؛ ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله: « ليسجنن » بالنون لأنها مثقلة، وعلى « ليكونا » بالألف لأنها مخففة، وهي تشبه نون الإعراب في قولك: رأيت رجلا وزيدا وعمرا، ومثله قوله: « لنسفعا بالناصية » ونحوها الوقف عليها بالألف، كقول الأعشى:

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

أي أراد فاعبدا، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف.



الآيتان: 33 - 34 ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم )


قوله تعالى: « قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه » أي دخول السجن، فحذف المضاف؛ قاله الزجاج والنحاس. « أحب إلي » أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية؛ لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق. وحكي أن يوسف عليه السلام لما قال: « السجن أحب إلي » أوحى الله إليه « يا يوسف! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت » . وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ: « السَّجن » بفتح السين وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبدالرحمن الأعرج ويعقوب؛ وهو مصدر سجنه سجنا. « وإلا تصرف عني كيدهن » أي كيد النسوان. وقيل: كيد النسوة اللاتي رأينه؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز، وقلن له: هي مظلومة وقد ظلمتها. وقيل: طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز؛ والقصد بذلك أن تعذله في حقها، وتأمره بمساعدتها، فلعله يجيب؛ فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له: يا يوسف! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك؛ تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده؛ فقال: يا رب كانت واحدة فصرن جماعة. وقيل: كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة؛ وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والكيد الاحتيال والاجتهاد؛ ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها؛ قال عمر بن لجأ:

تراءت كي تكيدك أم بشر وكيد بالتبرج ما تكيد


قوله تعالى: « أصب إليهن » جواب الشرط، أي أمل إليهن، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة؛ قال:

إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي

أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها. « وأكن من الجاهلين » أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم، أو ممن يعمل عمل الجهال؛ ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله؛ ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه.


قوله تعالى: « فاستجاب له ربه » لما قال. « وإلا تصرف عن كيدهن » تعرض للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن؛ فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى. « كيدهن » قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل؛ والعموم أولى.



الآية: 35 ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين )


قوله تعالى: « ثم بدا لهم » أي ظهر للعزيز وأهل مشورته « من بعد أن رأوا الآيات » أي علامات براءة يوسف - من قد القميص من دبر؛ وشهادة الشاهد، وحز الأيدي، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف: أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها. وقيل: هي البركات التي كانت تنفتح عليهم ما دام يوسف فيهم؛ والأول أصح. قال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: « ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات » قال: القميص من الآيات، وشهادة الشاهد من الآيات، وقطع الأيدي من الآيات، وإعظام النساء إياه من الآيات. وقيل: ألجأها الخجل من الناس، والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي إذا منعت من نظره، قال:

وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل

أو كادته رجاء أن يمل حبسه فيبذل نفسه.



قوله تعالى: « ليَسْجُنُنه » « يُسْجُنُنه » في موضع الفاعل؛ أي ظهر لهم أن يسجنوه؛ هذا قول سيبويه. قال المبرد: وهذا غلط؛ لا يكون الفاعل جملة، ولكن الفاعل ما دل عليه « بدا » وهو مصدر؛ أي بدا لهم بداء؛ فحذف لأن الفعل يدل عليه؛ كما قال الشاعر:

وحق لمن أبو موسى أبوه يوقفه الذي نصب الجبالا

أي وحق الحق، فحذف. وقيل: المعنى ثم بدا لهم رأي لم يكونوا يعرفونه؛ وحذف هذا لأن في الكلام دليلا عليه، وحذف أيضا القول؛ أي قالوا: ليسجننه، واللام جواب ليمين مضمر؛ قاله الفراء، وهو فعل مذكر لا فعل مؤنث؛ ولو كان فعلا مؤنثا لكان يسجنانه؛ ويدل على هذا قوله « لهم » ولم يقل لهن، فكأنه أخبر عن النسوة وأعوانهن فغلب المذكر؛ قاله أبو علي. وقال السدي: كان سبب حبس يوسف أن امرأة العزيز شكت إليه أنه شهرها ونشر خبرها؛ فالضمير على هذا في « لهم » للملك.


قوله تعالى: « حتى حين » أي إلى مدة غير معلومة؛ قاله كثير من المفسرين. وقال ابن عباس: إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير: إلى ستة أشهر. وحكى الكيا أنه عنى ثلاثة عشر شهرا. عكرمة: تسع سنين. الكلبي: خمس سنين. مقاتل: سبع. وقد مضى في « البقرة » القول في الحين وما يرتبط به من الأحكام. وقال وهب: أقام في السجن اثنتي عشرة سنة. و « حتى » بمعنى إلى؛ كقوله: « حتى مطلع الفجر » [ القدر: 5 ] . وجحل الله الحبس تطهيرا ليوسف صلى الله عليه وسلم من همه بالمرأة. وكأن العزيز - وإن عرف براءة يوسف - أطاع المرأة في سجن يوسف. قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، وحين قال للفتى: « اذكرني عند ربك » [ يوسف: 42 ] فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال لإخوته: « إنكم لسارقون » [ يوسف: 70 ] فقالوا: « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » . [ يوسف: 77 ] .


أكره يوسف عليه السلام على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره؛ ولو أكره رجل بالسجن على الزنى ما جاز له إجماعا. فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى وحده. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله تعالى لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين. « وما جعل عليكم في الدين من حرج » . [ الحج: 78 ] . وسيأتي بيان هذا في « النحل » إن شاء الله. وصبر يوسف، واستعاذ به من الكيد، فاستجاب له على ما تقدم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين ديسمبر 31, 2012 12:37 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============



الآية: 36 ( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين )


قوله تعالى: « ودخل معه السجن فتيان » « فتيان » تثنية فتى؛ وهو من ذوات الياء، وقولهم: الفتو شاذ. قال وهب وغيره: حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار، وطيف به « هذا جزاء من يعصي سيدته » وهو يقول: هذا أيسر من مقطعات النيران، وسرابيل القطران، وشراب الحميم، وأكل الزقوم. فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم؛ فجعل يقول لهم: اصبروا وابشروا تؤجروا؛ فقالوا له: يا فتى ! ما أحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، من أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم. وقال ابن عباس: لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني، وأنا أريد أن تسجنه، فسجنه في السجن؛ فكان يعزي فيه الحزين، ويعود فيه المريض، ويداوي فيه الجريح، ويصلي الليل كله، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب، وطهر به السجن، واستأنس به أهل السجن؛ فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه؛ ثم قال، له: يا يوسف! لقد أحببتك. حبا لم أحب شيئا حبك؛ فقال: أعوذ بالله من حبك، قال: ولم ذلك؟ فقال: أحبني أبي ففعل بي أخوتي ما فعلوه، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك، فأمر الملك بحبسهما، فاستأنسا بيوسف، فذلك قوله: « ودخل معه السجن فتيان » وقد قيل: إن الخباز وضع السم في الطعام، فلما حضر الطعام قال الساقي: أيها الملك! لا تأكل فإن الطعام مسموم. وقال الخباز: أيها الملك لا تشرب! فإن الشراب مسموم؛ فقال الملك للساقي: اشرب! فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل؛ فأبى، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه، فحبسهما سنة، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف. واسم الساقي منجا، والآخر مجلث؛ ذكره الثعلبي عن كعب. وقال النقاش: اسم أحدهما شرهم، والآخر سرهم؛ الأول، بالشين المعجمة. والآخر بالسين المهملة. وقال الطبري: الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو، قال السهيلي: وذكر اسم الآخر ولم أقيده.

وقال « فتيان » لأنهما كانا عبدين، والعبد يسمى فتى، صغيرا كان أو كبيرا؛ ذكره الماوردي. وقال القشيري: ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم؛ ولهذا قال: « تراود فتاها عن نفسه » [ يوسف: 30 ] . ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا. ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه. « قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله » « قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا » أي عنبا؛ كان يوسف قال لأهل السجن. إني أعبر الأحلام؛ فقال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني؛ فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا؛ قاله ابن مسعود. وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا؛ فسألاه عن رؤياهما. قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها؛ ولذلك صدق تأويلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وقيل: إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا؛ وهذا قول ابن مسعود والسدي. وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذبا، والآخر صادقا؛ قاله أبو مجلز. وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ( من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة ) . قال: حديث حسن. قال ابن عباس: لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين؛ فقال لهما يوسف: مالي أراكما مكروبين؟ قالا: يا سيدنا! إنا رأينا ما كرهنا؛ قال: فقصا علي، فقصا عليه؛ قالا: نبئنا بتأويل ما رأينا؛ وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام. « إنا نراك من المحسنين » فإحسانه، أنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويعزي الحزاني؛ قال الضحاك: كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به، وإذا ضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له، وسأل له. وقيل: « من المحسنين » أي العالمين الذين أحسنوا العلم، قال الفراء. وقال ابن إسحاق: « من المحسنين » لنا إن فسرته، كما يقول: افعل كذا وأنت محسن. قال: فما رأيتما؟ قال الخباز: رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير، وجعلته في ثلاث سلال، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه. وقال الآخر: رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض، فعصرتهن في ثلاث أوان، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى، فذلك قوله: « إني أراني أعصر خمرا » أي عنبا، بلغة عمان، قال الضحاك. وقرأ ابن مسعود: « إني أراني أعصر عنبا » . وقال الأصمعي: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له: ما معك؟ قال: خمر. وقيل: معنى. « أعصر خمرا » أي عنب خمر، فحذف المضاف. ويقال: خمرة وخمر وخمور، مثل تمرة وتمر وتمور.



الآية: 37 ( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون )


قال لهما يوسف: « لا يأتيكما طعام ترزقانه » يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما « إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما » لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما، فقالا: افعل! فقال لهما: يجيئكما كذا وكذا، فكان على ما قال؛ وكان هذا من علم الغيب خُص به يوسف. وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله، يعني دين الملك. ومعنى الكلام عندي: العلم بتأويل رؤياكما، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام، فقال: « يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون » [ يوسف:39 ] الآية كلها، على ما يأتي. وقيل: علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا به. وقيل: إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره فقال: « لا يأتيكما طعام ترزقانه » في النوم « إلا نبأتكما » بتفسيره في اليقظة، قاله السدي، فقالا له: هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال لهما يوسف عليه السلام: ما أنا بكاهن، وإنما ذلك مما علمنيه ربي، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما، بل هو بوحي من الله عز وجل. وقال ابن جريج: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه، فالمعنى: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة، فعلى هذا « ترزقانه » أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره. ويحتمل يرزقكما الله. قال الحسن: كان يخبرهما بما غاب، كعيسى عليه السلام. وقيل: إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام؛ وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب.



الآية: 38 ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )


قوله تعالى: « واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب » لأنهم أنبياء على الحق. « ما كان لنا » أي ما ينبغي لنا. « أن نشرك بالله من شيء » « من » للتأكيد، كقولك: ما جاءني من أحد. « ذلك من فضل الله علينا » إشارة إلى عصمته من الزنى. « وعلى الناس » أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك. وقيل: « ذلك من فضل الله علينا » إذ جعلنا أنبياء، « وعلى الناس » إذ جعلنا الرسل إليهم. « ولكن أكثر الناس لا يشكرون » على نعمة التوحيد والإيمان.



الآية: 39 ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار )


قوله تعالى: « يا صاحبي السجن » أي يا ساكني السجن؛ وذكر الصحبة لطول مقامهما فيه، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار. « أأرباب متفرقون » أي في الصغر والكبر والتوسط، أو متفرقون في العدد. « خير أم الله الواحد القهار » وقيل: الخطاب لهما ولأهل السجن، وكان بين أيديهم أصنام يعبدونها من دون الله تعالى، فقال ذلك إلزاما للحجة؛ أي آلهة شتى لا تضر ولا تنفع. « خير أم الله الواحد القهار » الذي قهر كل شيء. نظيره: « الله خير أما يشركون » [ النمل: 59 ] . وقيل: أشار بالتفرق إلى أنه لو تعدد الإله لتفرقوا في الإرادة ولعلا بعضهم على، بعض، وبين أنها إذا تفرقت لم تكن آلهة.



الآية: 40 ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )


قوله تعالى: « ما تعبدون من دونه إلا أسماء » بين عجز الأصنام وضعفها فقال: « ما تعبدون من دونه » أي من دون الله إلا ذوات أسماء لا معاني لها. « سميتموها أنتم وآباؤكم » من تلقاء أنفسكم. وقيل: عنى بالأسماء المسميات؛ أي ما تعبدون إلا أصناما ليس لها من الإلهية شيء إلا الاسم؛ لأنها جمادات. وقال: « ما تعبدون » وقد ابتدأ بخطاب الاثنين؛ لأنه قصد جميع من هو على مثل حالهما من الشرك. « إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم » فحذف، المفعول الثاني للدلالة؛ والمعنى: سميتموها آلهة من عند أنفسكم. « ما أنزل الله بها من سلطان » ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير: « من سلطان » أي من حجة. « إن الحكم إلا لله » الذي هو خالق الكل. « أمر ألا تعبدوا إلا إياه » تعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره. « ذلك الدين القيم » أي القويم. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون »



الآية: 41 ( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )


قوله تعالى: « أما أحدكما فيسقي ربه خمرا » أي قال للساقي: إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام، وقال للآخر: وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: والله ما رأيت شيئا؛ قال: رأيت أو لم تر « قضي الأمر الذي فيه تستفتيان » . وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد، كما قال الشاعر:

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

قال النحاس: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا؛ قال الله تعالى: « وأسقيناكم ماء فراتا » [ المرسلات: 27 ]

قال علماؤنا: إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها؟ قلنا: لا يلزمه؛ وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي، وتعبير النبي حكم، وقد قال: إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته؛ فإن قيل: فقد روى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني رأيت كأني أعشبت ثم أجدبت ثم أعشبت ثم أجدبت، فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر، ثم تؤمن ثم تكفر، ثم تموت كافرا؛ فقال الرجل: ما رأيت شيئا؛ فقال له عمر: قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف؛ قلنا: ليست لأحد بعد عمر؛ لأن عمر كان محدثا، وكان إذا ظن ظنا كان وإذا تكلم به وقع، على ما ورد في أخباره؛ وهي كثيرة؛ منها: أنه دخل عليه رجل فقال له: أظنك كاهنا فكان كما ظن؛ خرجه البخاري. ومنها: أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها، فقال له: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال: خرجه الموطأ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « الحجر » إن شاء الله تعالى.



الآية: 42 ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )


قوله تعالى: « وقال للذي ظن » « ظن » ه ربي كريم لا يكدر نعمة وإذا تنوشد في المهارق أنشدا

أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب. وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقل أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي ) . وفي القرآن: « اذكرني عند ربك » « إلى ربك » « إنه ربي أحسن مثواي » [ يوسف: 23 ] أي صاحبي؛ يعني العزيز. ويقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رب له. قال العلماء قول عليه السلام: ( لا يقل أحدكم ) ( وليقل ) من باب الإرشاد إلى إطلاق اسم الأولى؛ لا أن إطلاق ذلك الاسم محرم؛ ولأنه قد جاء عنه عليه السلام ( أن تلد الأمة ربها ) أي مالكها وسيدها؛ وهذا موافق للقرآن في إطلاق ذلك اللفظ؛ فكان محل النهي في هذا الباب ألا نتخذ هذه الأسماء عادة فنترك الأولى والأحسن. وقد قيل: إن قول الرجل عبدي وأمتي يجمع معنيين: أحدهما: أن العبودية بالحقيقة إنما هي لله تعالى؛ ففي قول الواحد من الناس لمملوكه عبدي وأمتي تعظيم عليه، وإضافة له إلى نفسه بما أضافه الله تعالى به إلى نفسه؛ وذلك غير جائز. والثاني: أن المملوك يدخله من ذلك شيء في استصغاره بتلك التسمية، فيحمله ذلك على سوء الطاعة. وقال ابن شعبان في « الزاهي » : ( لا يقل السيد عبدي وأمتي ولا يقل المملوك ربي ولا ربتي ) وهذا محمول على ما ذكرنا. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم ( لا يقل العبد ربي وليقل سيدي ) لأن الرب من أسماء الله تعالى المستعملة بالاتفاق؛ واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى أم لا؟ فإذا قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح؛ إذ لا التباس ولا إشكال، وإذا قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة ولا الاستعمال كلفظ الرب، فيحصل، الفرق. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون ذلك جائزا في شرع يوسف عليه السلام.


قوله تعالى: « فأنساه الشيطان ذكر ربه » الضمير في « فأنساه » فيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى يوسف عليه السلام، أي أنساه الشيطان ذكر الله عز وجل؛ وذلك أنه لما قال يوسف لساقي الملك - حين علم أنه سينجو ويعود إلى حالته الأولى مع الملك - « اذكرني عند ربك » نسي في ذلك الوقت أن يشكو إلى الله ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق؛ فعقب باللبث. قال عبدالعزيز بن عمير الكندي: دخل جبريل على يوسف النبي عليه السلام في السجن فعرفه يوسف، فقال: يا أخا المنذرين! مالي أراك بين الخاطئين؟! فقال جبريل عليه السلام: يا طاهر ابن الطاهرين! يقرئك السلام رب العالمين ويقول: أما استحيت إذ استغثت بالآدميين؟! وعزتي! لألبثنك في السجن بضع سنين؛ فقال: يا جبريل! أهو عني راض؟ قال: نعم! قال: لا أبالي الساعة. وروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله تعالى في ذلك وطول سجنه، وقال له: يا يوسف! من خلصك من القتل من أيدي أخوتك؟! قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف وثقت بمخلوق وتركت ربك فلم تسأله؟! قال: يا رب كلمة زلت مني! أسألك يا إله إبراهيم وإسحاق والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني؛ فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال: « اذكرني عند ربك » ما لبث في السجن بضع سنين ) . وقال ابن عباس: عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما « اذكرني عند ربك » ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وروى إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا كلمة يوسف - يعني قوله: « اذكرني عند ربك » - ما لبث في السجن ما لبث ) قال: ثم يبكي الحسن ويقول: نحن ينزل بنا الأمر فنشكو إلى الناس. وقيل: إن الهاء تعود على الناجي، فهو الناسي؛ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، أي لسيده؛ وفيه حذف، أي أنساه الشيطان ذكره لربه؛ وقد رجح بعض العلماء هذا القول فقال: لولا أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لما استحق العقاب باللبث في السجن؛ إذ الناسي غير مؤاخذ. وأجاب أهل القول الأول بأن النسيان قد يكون بمعنى الترك، فلما ترك ذكر الله ودعاه الشيطان إلى ذلك عوقب؛ رد عليهم أهل القول الثاني بقوله تعالى: « وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة » [ يوسف: 45 ] فدل على أن الناسي هو الساقي لا يوسف؛ مع قوله تعالى: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الحجر: 42 ] فكيف يصح أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطنة؟! قيل: أما النسيان فلا عصمة للأنبياء عنه إلا في وجه واحد، وهو الخبر عن الله تعالى فيما يبلغونه، فإنهم معصومون فيه؛ وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه فإنه ينسب إلى الشيطان إطلاقا، وذلك إنما يكون فيما أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وقال: ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ) . وقد تقدم.


قوله تعالى: « فلبث في السجن بضع سنين » البضع قطعة من الدهر مختلف فيها؛ قال يعقوب عن أبي زيد: يقال بضع وبضع بفتح الباء وكسرها، قال أكثرهم: ولا يقال بضع ومائة، وإنما هو إلى التسعين. وقال الهروي: العرب تستعمل البضع فيما بين الثلاث إلى التسع. والبضع والبضعة واحد، ومعناهما القطعة من العدد. وحكى أبو عبيدة أنه قال: البضع ما دون نصف العقد، يريد ما بين الواحد إلى أربعة، وهذا ليس بشيء. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: ( وكم البضع ) فقال: ما بين الثلاث إلى السبع. فقال: ( اذهب فزائد في الخطر ) . وعلى هذا أكثر المفسرين، أن البضع سبع، حكاه الثعلبي. قال الماوردي: وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطرب. وقال مجاهد: من ثلاث إلى تسع، وقال الأصمعي. ابن عباس: من ثلاث إلى عشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس قال الفراء: والبضع لا يذكر العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجونا ثلاثة أقاويل: أحدها: سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه، قال وهب: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين. الثاني: - اثنتا عشرة سنة، قال ابن عباس. الثالث: أربع عشرة سنة، قاله الضحاك. وقال مقاتل عن مجاهد عن ابن عباس قال: مكث يوسف في السجن خمسا وبضعا. واشتقاقه من بضعت الشيء أي قطعته، فهو قطعة من العدد، فعاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين أو تسع سنين بعد الخمس التي مضت، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله. قال وهب بن منبه: حبس يوسف في السجن سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين، وعذب بختنصر بالمسخ سبع سنين. وقال عبدالله بن راشد البصري عن سعيد بن أبي عروبة: إن البضع ما بين الخمس إلى الاثنتي عشرة سنة.


في هذه الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب وإن كان اليقين حاصلا فإن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يقين. والذي يدل على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان كما جرى لموسى في لقيا الخضر؛ وهذا بين فتأملوه.



الآية: 43 ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون )


قوله تعالى: « وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان » لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى الملك رؤياه، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال: إن الله مخرجك من سجنك، وممكن لك في الأرض، يذل لك ملوكها، ويطيعك جبابرتها، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك، وهي كيت وكيت، وتأويلها كذا وكذا، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة، وجعلها آخرا بشرى ورحمة؛ وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن، إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان، فهالته الرؤيا، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر، وأشراف قومه، فقال: « يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي » فقص عليهم، فقال القوم: « أضغاث أحلام » [ يوسف: 44 ] قال ابن جريج قال لي عطاء: إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الرؤيا منها حق، ومنها أضغاث أحلام، يعني بها الكاذبة. وقال الهروي: قوله تعالى: « أضغاث أحلام » أي أخلاط أحلام. والضغث في اللغة الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ وما أشبههما، أي قالوا: ليست رؤياك ببينة، والأحلام الرؤيا المختلطة. وقال مجاهد: أضغاث الرؤيا أهاويلها. وقال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا.


قوله تعالى: « سبع بقرات سمان » حذفت الهاء من « سبع » فرقا بين المذكر والمؤنث « سمان » من نعت البقرات، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا، نعت للسبع، وكذا خضرا، قال الفراء: ومثله: « سبع سماوات طباقا » [ نوح: 15 ] . وقد مضى في سورة « البقرة » اشتقاقها ومعناها. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني رخاء، وإن كانت عجافا كانت شدادا، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها، وإلا كانت فتنا مترادفة، كأنها وجوه البقر، كما في الخبر ( يشبه بعضها بعضا ) . وفي خبر آخر في الفتن ( كأنها صياصي البقر ) يريد لتشابهها، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة، أو عدو يضرب عليهم، وينزل بساحتهم. وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة؛ لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات. « يأكلهن سبع عجاف » من عجُف يعجُف، على وزن عظم يعظم، وروي عجِف يعجَف على وزن حمد يحمد.



قوله تعالى: « يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي » جمع الرؤيا رؤى: أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا. « إن كنتم للرؤيا تعبرون » العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر، بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يعبر بما يؤول إليه أمرها. واللام في « للرؤيا » للتبيين، أي إن كنتم تعبرون، ثم بين فقال: للرؤيا قاله الزجاج.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين ديسمبر 31, 2012 11:01 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============



الآية: 44 ( قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين )


قوله تعالى: « أضغاث أحلام » قال الفراء: ويجوز « أضغاث أحلام » قال النحاس: النصب بعيد، لأن المعنى: لم تر شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام، أي أخلاط. وواحد الأضغاث ضغث، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث؛ قال الشاعر:

كضغث حلم غر منه حالمه


قوله تعالى: « وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين » قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل. وقيل: نفوا عن أنفسهم علم التعبير. والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة، ولهذا قال الساقي: « أنا أنبئكم بتأويله » [ يوسف: 45 ] فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها. وقيل: إنهم لم يقصدوا تفسيرا، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله، وعلى هذا أيضا فعندهم علم. و « الأحلام » جمع حلم، والحلم بالضم ما يراه النائم، تقول منه حلم بالفتح واحتلم، وتقول: حلمت، بكذا وحلمته، قال:

فحلمتها وبنو رفيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم

أصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش؛ فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة.


وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر، لأن القوم قالوا: « أضغاث أحلام » ولم تقع كذلك؛ فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب، فكان كما عبر؛ وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على، رجل طائر، فإذا عبرت وقعت.



الآية: 45 ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون )


قوله تعالى: « وقال الذي نجا منهما » يعني ساقي الملك. « وادكر بعد أمة » أي بعد حين، عن ابن عباس وغيره؛ ومنه « إلى أمة معدودة » [ هود: 8 ] وأصله الجملة من الحين. وقال ابن درستويه: والأمة لا تكون الحين إلا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال - والله أعلم - : وادكر بعد حين أمة، أو بعد زمن أمة، وما أشبه ذلك؛ والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع؛ وقال جنس من الحيوان أمة؛ وفي الحديث: ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأم بقتلها ) . « وادكر » أي تذكر حاجة يوسف، وهو قوله: « اذكرني عند ربك » . وقرأ ابن عباس فيما روى عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عنه - « وادكر بعه أمة » . النحاس: المعروف من قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك « وادكر بعد أمه » بفتح الهمزة وتخفيف الميم؛ أي بعد نسيان؛ قال الشاعر:

أمهت وكنت لا أنسى حديثا كذاك الدهر يودي بالعقول

وعن شبيل بن عزرة الضبعي: « بعد أمه » بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأمه، وهما لغتان، ومعناهما النسيان؛ ويقال: أمه يأمه أمها إذا نسي؛ فعلى هذا « وادكر بعد أمه » ؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمه ذاهب العقل. قال الجوهري: وأما ما في حديث الزهري ( أمه ) بمعنى أقر واعترف فهي لغة غير مشهورة. وقرأ الأشهب العقيلي - « بعد إمة » أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة. ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة. وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخباز؛ فقوله: « وادكر » أي ذكر وأخبر. قال النحاس: أصل ادكر اذتكر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال؛ وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار أذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها. ثم قال: « أنا أنبئكم بتأويله » أي أنا أخبركم. وقرأ الحسن « أنا آتيكم بتأويله » وقال: كيف ينبئهم العلج؟! قال النحاس: ومعنى « أنبئكم » صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سألت. « فأرسلوني » خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه.



الآية: 46 ( يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون )


قوله تعالى: « يوسف » نداء مفرد، وكذا « الصديق » أي الكثير الصدق. « أفتنا » أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك. « لعلي أرجع إلى الناس » أي إلى الملك وأصحابه. « لعلهم يعلمون » التعبير، أو « لعلهم يعلمون » مكانك من الفضل والعلم فتخرج. ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيما.



الآية: 47 ( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون )


قوله تعالى: « قال تزرعون » لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسرها له، فقال: السبع من البقرات السمان والسنبلات الخضر سبع سنين مخصبات؛ وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبات؛ فذلك قوله: « تزرعون سبع سنين دأبا » أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى « تزرعون » تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقيل: هو حال؛ أي دائبين. وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة. وحكى أبو حاتم عن يعقوب « دأبا » بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دئب. قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر - إنه حرك لأن فيه حرفا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أول وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينا، أو غينا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال:

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وقد مضى في « آل عمران » القول فيه. « فما حصدتم فذروه في سنبله » قيل: لئلا يتسوس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر. « إلا قليلا مما تأكلون » أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر. ويحتمل أن يكون الأول أيضا أمرا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى: « تزرعون » أي ازرعوا.


هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحققين من أهل السنة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه.



الآية: 48 ( ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون )


قوله تعالى: « سبع شداد » يعني السنين المجدبات. « يأكلن » مجاز، والمعنى يأكل أهلهن. « ما قدمتم لهن » أي ما ادخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

والنهار لا يسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يسهى في النهار، وينام في الليل. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقربه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله؛ فقال يوسف: هذا أول يوم من السبع الشداد. « إلا قليلا » نصب على الاستثناء. « مما تحصنون » أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة: تحرزون. وقال قتادة: « تحصنون » تدخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدل على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.


هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تخرج على حسب ما رأى، لا سيما إذا تعلقت بمؤمن؛ فكيف إذا كانت آية لنبي. ومعجزة لرسول، وتصديقا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله - جل جلال - وبين عباده.



الآية: 49 ( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون )


قوله تعالى: « ثم يأتي من بعد ذلك عام » هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله. قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها إظهارا لفضله، وإعلاما لمكانه من العلم وبمعرفته. « فيه يغاث الناس » من الإغاثة أو الغوث؛ غوث الرجل فال واغوثاه، والاسم الغوث والغواث والغواث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرض أي أصابها؛ وغاث الله البلاد يغيثها غيثا، وغيثت الأرض تغاث غيثا، فهي أرض مغيثة ومغيوثة؛ فمعنى « يغاث الناس » يمطرون. « وفيه يعصرون » فال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدهن؛ ذكره البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قال: يعصرون العنب خمرا والسمسم دهنا، والزيتون زيتا. وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدل ذلك على كثرة النبات. وقيل: « يعصرون » أي ينجون؛ وهو من العصرة، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة، وكذلك العصرة؛ قال أبو زبيد:

صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصره المنجود

والمنجود الفزع. واعتصرت بفلان وتعصرت أي التجأت إليه. قال أبو الغوث: « يعصرون » يستغلون؛ وهو من عصر العنب. واعتصرت ماله أي استخرجته من يده. وقرأ عيسى « تعصرون » بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تمطرون؛ من قول الله: « وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا » [ النبأ: 14 ] وكذلك معنى « تعصرون » بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 01, 2013 11:52 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============



الآيتان: 50 - 51 ( وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين )



قوله تعالى: « وقال الملك ائتوني به » أي فذهب الرسول فأخبر الملك، فقال: ائتوني به. « فلما جاءه الرسول » أي يأمره بالخروج. « قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة » أي حال النسوة. « فاسأله ما بال النسوة » ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. « اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم » فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به، وأنه حبس بلا جرم. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - قال - ولو لبث في، السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ - « فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي يقطعن أيديهن » - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد إذ قال « لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له » أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي « [ البقرة: 260 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر ) . وروي نحو هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك، في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره. وفي رواية الطبري ( يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ) . قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا، وطلبا لبراءة الساحة؛ وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه؛ فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير؛ وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة؛ فلهذا قال للرسول: ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان: وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم؛ ونكب عن امرأة العزيز حسن عشرة، ورعاية لذمام الملك العزيز له. فإن قيل: كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره؟ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي، له جهة أيضا من الجودة؛ يقول: لو كنت أنا لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة؛ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور؛ وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة، التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما نتج له البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك؛ فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد.»


قوله تعالى: « فاسأله ما بال النسوة » ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح؛ وذلك حسن عشرة وأدب؛ وفي الكلام محذوف، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة. قال ابن عباس: فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن فـ « قال ما خطبكن » أي ما شأنكن. « إذ راودتن يوسف عن نفسه » وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها، على ما تقدم، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز، فكان ذلك مراودة منهن. « قلن حاش لله » أي معاذ الله. « ما علمنا عليه من سوء » أي زنى. « قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق » لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا؛ وكان ذلك لطفا من الله بيوسف. و « حصحص الحق » أي تبين وظهر؛ وأصله حصص، فقيل: حصحص؛ كما قال: كبكبوا في كببوا، وكفكف في كفف؛ قال الزجاج وغيره. وأصل الحص استئصال الشيء؛ يقال: حص شعره إذا استأصله جزا؛ قال أبو القيس بن الأسلت:

قد حصَّت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع

وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها، قال جرير:

يأوي إليكم بلا من ولا جحد من ساقه السنة الحصا والذيب

كأنه أراد أن يقول: والضبع، وهي السنة المجدبة؛ فوضع الذئب موضعه لأجل القافية؛ فمعنى « حصحص الحق » أي انقطع عن الباطل، بظهوره وثباته؛ قال:

ألا مبلغ عني خداشا فإنه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم

وقيل: هو مشتق من الحصة؛ فالمعنى: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وقال مجاهد وقتادة: وأصله مأخوذ من قولهم؛ حص شعره إذا استأصل قطعه؛ ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. والحصحص بالكسر التراب والحجارة؛ ذكره الجوهري. « أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين » وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه؛ فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار، حتى لا يخامر نفسا ظن، ولا يخالطها شك. وشددت النون في « خطبكن » و « راودتن » لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.



الآية: 52 ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )


قوله تعالى: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » اختلف فيمن قاله، فقيل: هو من، قول امرأة العزيز، وهو متصل بقولها: « الآن حصحص الحق » أي أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة؛ ثم قالت: « وما أبرئ نفسي » بل أنا راودته؛ وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع، ولهذا قالت: « إن ربي غفور رحيم » . وقيل: هو من قول يوسف؛ أي قال يوسف: ذلك الأمر الذي فعلته، من رد الرسول « ليعلم » العزيز « أني لم أخنه بالغيب » قاله الحسن وقتادة وغيرهما. ومعنى « بالغيب » وهو غائب. وإنما قال يوسف ذلك بحضرة الملك، وقال: « ليعلم » على الغائب توقيرا للملك. وقيل: قاله إذ عاد إليه الرسول وهو في السجن بعد؛ قال ابن عباس: جاء الرسول إلى يوسف عليه السلام بالخبر وجبريل معه يحدثه؛ فقال يوسف: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين » أي لم أخن سيدي بالغيب؛ فقال له جبريل عليه السلام: يا يوسف! ولا حين حللت الإزار، وجلست مجلس الرجل من المرأة؟! فقال يوسف: « وما أبرئ نفسي » الآية. وقال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟! فقال يوسف: « وما أبرئ نفسي » . وقيل: « ذلك ليعلم » من قول العزيز؛ أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني لم أغفل عن مجازاته على أمانته. « وأن الله لا يهدي كيد الخائنين » معناه: أن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.



الآية: 53 ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )


قوله تعالى: « وما أبرئ نفسي » قيل: هو من قول المرأة. وقال القشيري: فالظاهر أن قوله: « ذلك ليعلم » وقوله: « وما أبرئ نفسي » من قول يوسف.

قلت: إذا احتمل أن يكون من قول المرأة فالقول به أولى حتى نبرئ يوسف من حل الإزار والسراويل؛ وإذا قدرناه من قول يوسف فيكون مما خطر بقلبه، على ما قدمناه من القول المختار في قوله: « وهم بها » . قال أبو بكر الأنباري: من الناس من يقول: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » إلى قوله: « إن ربي غفور رحيم » من كلام امرأة العزيز؛ لأنه متصل بقولها: « أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين » [ يوسف: 51 ] وهذا مذهب الذين ينفون الهم عن يوسف عليه السلام؛ فمن بنى على قولهم قال: من قوله: « قالت امرأة العزيز » [ يوسف: 51 ] إلى قوله: « إن ربي غفور رحيم » كلام متصل بعضه ببعض، ولا يكون فيه وقف تام على حقيقة؛ ولسنا نختار هذا القول ولا نذهب إليه. وقال الحسن: لما قال يوسف « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال: « وما أبرئ نفسي » لأن تزكية النفس مذمومة؛ قال الله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم » [ النجم: 32 ] وقد بيناه في « النساء » . وقيل: هو من قول العزيز؛ أي وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف. « إن النفس لأمارة بالسوء » أي مشتهية له. « إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم » « إلا ما رحم ربي » في موضع نصب بالاستثناء؛ و « ما » بمعنى من؛ أي إلا من رحم ربي فعصمه؛ و « ما » بمعنى من كثير؛ قال الله تعالى: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء » [ النساء: 3 ] وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء؛ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما تقولون في صاحب لكم إن أنتم أكرمتموه وأطعمتموه وكسوتموه أفضى بكم إلى شر غاية وإن أهنتموه وأعريتموه وأجعتموه أفضى بكم إلى خير غاية ) قالوا: يا رسول الله! هذا شر صاحب في الأرض. فال: ( فوالذي نفسي بيده إنها لنفوسكم التي بين جنوبكم ) .



الآية: 54 ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين )


قوله تعالى: « وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي » لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه؛ وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده، وتيقن حسن خلال قال: « ائتوني به استخلصه لنفسي » فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - « ائتوني به » فقط، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال: « ائتوني به استخلصه لنفسي » وروي عن وهب بن منبه قال: لما دعي يوسف وقف بالباب فقال: حسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا؛ ثم أقعده الملك معه على سريره فقال. « إنك اليوم لدينا مكين أمين » قال له يوسف « اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ » [ يوسف: 55 ] بوجوه تصرفاتها. وقيل: حافظ للحساب، عليم بالألسن. وفي الخبر: ( يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة ) . وقيل: إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله. وقد قيل في هذه القصة: إن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك، من شره وشر غيره؛ ثم سلم على الملك بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ فال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأعجب الملك أمره، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة؛ ثم أجلسه على سريره وقال: أحب أن أسمع منك رؤياي، قال يوسف نعم أيها الملك! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا؛ فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه، وبدا أسه، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف،، لهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع، فأكلن لحومهن، ومزقن جلودهن، وحطمن عظامهن، ومشمشن مخهن؛ فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شيء هذا؟! هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن؛ فصرن سودا مغبرات؛ فانتبهت مذعورا أيها الملك؛ فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك! فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة؛ فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت، وأظهر الله فيه النماء والبركة، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام؛ فيكون القصب والسنبل علفا للدواب، وحبه للناس، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس؛ فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك؛ فقال الملك: ومن لي بتدبير هذه الأمور؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عليه السلام عند ذلك: « اجعلني على خزائن الأرض » [ يوسف: 55 ] أي على خزائن أرضك؛ وهي جمع خزانة؛ ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة، كقول النابغة:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير كواذب


قوله تعالى: « استخلصه لنفسي » جزم لأنه جواب الأمر؛ وهذا يدل على أن قوله: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » جرى في السجن. ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر: « ائتوني به » [ يوسف: 50 ] تأكيدا « استخلصه لنفسي » أي اجعله خالصا لنفسي، أفوض إليه أمر مملكتي؛ فذهبوا فجاؤوا به؛ ودل على هذا قوله: « فلما كلمه » أي كلم الملك يوسف، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف؛ « قال إنك اليوم لدينا مكين » « قال » الملك: « إنك اليوم لدينا مكين أمين » أي متمكن نافذ القول، « أمين » لا تخاف غدرا.



الآية: 55 ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )



قوله تعالى: « قال اجعلني على خزائن الأرض » قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله: « اجعلني على خزائن الأرض » أي على حفظها، فحذف المضاف. « إني حفيظ » لما وليت « عليم » بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس. وقيل: « حفيظ » لتقدير الأقوات « عليم » بسني المجاعات. قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك عنه سنة ) .

قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه حلة من إستبرق؛ وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مرفقه، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر؛ يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوج الملك يوسف راعيل امرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟! فقالت: أيها الصديق لا تلمني؛ فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي. فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف. وقال وهب بن منبه: إنما كان تزويجه زليخاء امرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تتكفف الناس، فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زهاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء؛ ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكر بعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت: أنا أعلم بخلق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فأتوا بها؛ فقالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدمي، وأرجل جمتك، بيدي، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعتوي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلي، وعمي بصري، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين؛ فبكى يوسف بكاء شديدا، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئا؟ فقالت: والله لنظرة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده اضطرابا وارتعاشا من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولا: إن كنت أيما تزوجناك، وإن كنت ذات بعل أغنيناك، فقالت للرسول: أعوذ بالله أن يستهزئ بي الملك! لم يردني أيام شبابي وغناي ومالي وعزي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة؟! فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرضت له، فقال لها: ألم يبلغك الرسول؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ فأمر بها فأصلح من شأنها وهيئت، ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراما ليوسف عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها؛ فقالت: يا نبي الله إن زوجي كان عنينا لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف؛ قال: فعاشا في خفض عيش، في كل يوم يجدد الله لهما خيرا، وولدت له ولدين؛ إفراثيم ومنشا. وفيما روي أن الله تعالى ألقى في قلب يوسف من محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها: ما شأنك لا تحبينني كما كنت في أول مرة؟ فقالت له: لما ذقت محبة الله تعالى شغلني ذلك عن كل شيء.


قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فان كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما - جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم؛ فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم؛ لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.


ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا؛ فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبدالرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ) . وعن أبي بردة قال قال أبو موسى: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، فقال: ( ما تقول يا أبا موسى - أو يا عبدالله بن قيس ) . قال قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: ( لن - أو - لا نستعمل على عملنا من أراده ) وذكر الحديث؛ خرجه مسلم أيضا وغيره؛ فالجواب: أولا: أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب؛ لقول عليه السلام، لعبدالرحمن: ( لا تسأل، الإمارة وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على، أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك؛ وهذا معنى قوله عليه السلام: ( وكل إليها ) ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: ( أعين عليها ) . الثاني: أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: « إني حفيظ عليم » فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال. الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم » . الرابع: أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم.


ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل؛ قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 03, 2013 1:35 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف


الآية: 56 ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين )


قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء » أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض؛ أي أقدرناه على ما يريد. وقال الكيا الطبري قوله تعالى: « وكذلك مكنا ليوسف في الأرض » دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى: « وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث » [ ص: 44 ] وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر، والذي أداه من التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله.

قلت: وهذا مردود على ما يأتي. يقال: مكناه ومكنا له، قال الله تعالى: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » [ الأنعام: 6 ] . قال الطبري: استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله؛ فال مجاهد: وأسلم على يديه. قال ابن عباس: ملكه بعد سنة ونصف. وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ) . ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين: إفراثيم ومنشا، ابني يوسف، ومن زعم أنها زليخاء قال: لم يتزوجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا، فضمها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوجها؛ ذكره الماوردي؛ وهو خلاف ما تقدم عن وهب، وذكره الثعلبي؛ فالله أعلم. ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبه الرجال والنساء، قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأهرام، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال: يا أهل مصر جوعوا؛ فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين.

وقال بعض أهل الحكمة: للجوع والقحط علامتان: إحداهما: أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية. والثانية: أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع!! ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادى الجوع الجوع!! قال: فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها؛ معاشر الناس! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء. وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف؛ قال ابن عباس: لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك يا يوسف! الجوع الجوع!! فقال يوسف: هذا أوان القحط؛ فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف؛ فباعهم أول سنة بالنقود، حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه؛ وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء؛ وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب، حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء، حتى احتوى على الكل؛ وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع، حتى ملكها كلها؛ وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق في السنة السابعة بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له؛ فقال الناس: والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا؛ فقال يوسف لملك مصر: كيف رأيت صنع ربي فيما خولني! والآن كل هذا لك، فما ترى فيه؟ فقال: فوضت إليك الأم فافعل ما شئت، وإنما نحن لك تبع؛ وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك، ولا أنا إلا من بعض مماليكك، وخول من خولك؛ فقال يوسف عليه السلام: إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء؛ وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ووددت عليهم أموالهم وأملاكهم، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي. ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنين، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع؛ وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار، حتى يذوق، الملك طعم الجوع. فلا ينسى الجائعين؛ فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار.


قوله تعالى: « نصيب برحمتنا من نشاء » أي بإحساننا؛ والرحمة النعمة والإحسان. « »


قوله تعالى: « ولا نضيع أجر المحسنين » أي ثوابهم. وقال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين؛ لصبره في الجب، وفي الرق، وفي السجن، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة. وقال الماوردي: واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين: أحدهما: أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني: أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه، وثوابه باق على حاله في الآخرة.


الآية: 57 ( ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )



أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا؛ لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا ينقطع؛ وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق؛ وأنشدوا:

أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وكتب بعضهم إلى صديق له:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروج به آخر الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن

وأنشد بعضهم:

إذا الحادثات بلغن النهي وكادت تذوب لهن المهج

وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج

والشعر في هذا المعنى كثير.



الآية: 58 ( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون )


قوله تعالى: « وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه » أي جاؤوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليمتاروا؛ وهذا من اختصار القرآن المعجز. قال ابن عباس وغيره: لما أصاب الناس القحط والشدة، ونزل ذلك بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للميرة، وذاع أمر يوسف عليه السلام في الآفاق، للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدل وسيرته؛ وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدة بالناس، يجلس للناس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم، لكل رأس وسقا. « فعرفهم » يوسف « وهم له منكرون » لأنهم خلقوه صبيا، ولم يتوهموا أنه بعد العبودية يبلغ إلى تلك الحال من المملكة، مع طول المدة؛ وهي أربعون سنة. وقيل: أنكروه لأنهم اعتقدوا أنه ملك كافر: وقيل: رأوه لابس حرير، وفي عنقه طوق ذهب، وعلى رأسه تاج، وقد تزيا بزي فرعون مصر؛ ويوسف رآهم على ما كان عهدهم في الملبس والحلية. ويحتمل أنهم رأوه وراء ستر فلم يعرفوه. وقيل: أنكروه لأمر خارق امتحانا امتحن الله به يعقوب.



الآية: 59 ( ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين )


قوله تعالى: « ولما جهزهم بجهازهم » يقال: جهزت القوم تجهيزا أي تكلفت لهم بجهازهم للسفر؛ وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الإهداء إلى الزوج؛ وجوز بعض الكوفيين الجهاز بكسر الجيم؛ والجهاز في هذه الآية الطعام الذي امتاروه من عنده. قال السدي: وكان مع إخوة يوسف أحد عشر بعيرا، وهم عشرة، فقالوا ليوسف: إن لنا أخا تخلف عنا، وبعيره معنا؛ فسألهم لم تخلف؟ فقالوا: لحب أبيه إياه، وذكروا له أنه كان له أخ أكبر منه فخرج إلى البرية فهلك؛ فقال لهم: أردت أن أرى أخاكم هذا الذي ذكرتم، لأعلم وجه محبة أبيكم إياه، وأعلم صدقكم؛ ويروى أنهم تركوا عنده شمعون رهينة، حتى يأتوا بأخيه بنيامين. وقال ابن عباس: قال يوسف للترجمان قل لهم: لغتكم مخالفة للغتنا، وزيكم مخالف لزينا، فلعلكم جواسيس؛ فقالوا: والله! ما نحن بجواسيس، بل نحن بنو أب واحد، فهو شيخ صديق؛ قال: فكم عدتكم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها؛ قال: فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا؛ قال: فمن يعلم صدقكم؟ قالوا: لا يعرفنا ههنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا، فبأي شيء تسكن نفسك إلينا؟ فقال يوسف: « ائتوني بأخ لكم من أبيكم » إن كنتم صادقين؛ فأنا أرضى بذلك


قوله تعالى: « ألا ترون أني أوفي الكيل » أي أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير لأخيكم ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه رخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. والثاني: أنه كال لهم بمكيال واف. « وأنا خير المنزلين » فيه وجهان: أحدهما: أنه خير المضيفين، لأنه أحسن ضيافتهم؛ قال مجاهد. الثاني: وهو محتمل؛ أي خير من نزلتم عليه من المأمونين؛ وهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى الثاني من المنزل وهو الدار.



الآية: 60 ( فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون )


قوله تعالى: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد، لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. « ولا تقربون » أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب، ولم يرد أنهم يبعدون منه ولا يعودون إليه؛ لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا؛ فارتهن شمعون عنده؛ قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه كان يوم الجب أجملهم قولا، وأحسنهم رأيا. و « تقربون » في موضع جزم بالنهي، فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء؛ لأنه رأس آية؛ ولو كان خبرا لكان « تقربون » بفتح النون.



الآية: 61 ( قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون )


قوله تعالى: « قالوا سنراود عنه أباه » أي سنطلبه منه، ونسأله أن يرسله معنا. « وإنا لفاعلون » أي لضامنون المجيء به، ومحتالون في ذلك.


مسألة: إن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟ قيل له: عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب، ليعظم له الثواب؛ فاتبع أمره فيه. الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف عليهما السلام. الثالث: لتتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. الرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته؛ لميل كان منه إليه؛ والأول أظهر. والله أعلم.



الآية: 62 ( وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون )


قوله تعالى: « وقال لفتيته » هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم؛ وهي اختيار أبي حاتم والنحاس وغيرهما. وقرأ سائر الكوفيين « لفتيانه » وهو اختيار أبي عبيد؛ وقال: هو في مصحف عبدالله كذلك. قال الثعلبي: وهما لغتان جيدتان؛ مثل الصبيان والصبية قال النحاس: « لفتيانه » مخالف للسواد الأعظم؛ لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون، ولا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع؛ وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان؛ لأن فتية عند العرب لأقل العدد، والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. وكان هؤلاء الفتية يسوون جهازهم، ولهذا أمكنهم جعل بضاعتهم في رحالهم. ويجوز أن يكونوا أحرارا، وكانوا أعوانا له، وبضاعتهم أثمان ما اشتروه من الطعام. وقيل: كانت دراهم ودنانير. وقال ابن عباس: النعال والأدم ومتاع المسافر، ويسمى رحلا؛ قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل، وللبيت رحل. وقال: « لعلهم يعرفونها » لجواز ألا تسلم في الطريق. وقيل: إنما فعل ذلك ليرجعوا إذا وجدوا ذلك؛ لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمنه. قيل: ليستعينوا بذلك على الرجوع لشراء الطعام. وقيل: استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام. وقيل: ليروا فضله، ويرغبوا في الرجوع إليه.



الآية: 63 ( فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون )


قوله تعالى: « فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل » لأنه قال لهم: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » وأخبروه بما كان من أمرهم وإكرامهم إياه، وأن شمعون مرتهن حتى يعلم صدق قولهم. « فأرسل معنا أخانا نكتل » أي قالوا عند ذلك: « فأرسل معنا أخانا نكتل » والأصل نكتال؛ فحذفت الضمة من اللام للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وقراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم « نكتل » بالنون وقرأ سائر الكوفيين « يكتل » بالياء؛ والأول اختيار أبي عبيد، ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال؛ وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ لأنه لا يخلو الكلام من أحد جهتين؛ أن يكون المعنى: فأرسل أخانا يكتل معنا؛ فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير؛ فيكون في الكلام دليل على الجميع، لقوله: « فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي » . « وإنا له لحافظون » من أن يناله سوء.



الآية: 64 ( قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين )


قوله تعالى: « قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل » أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه!. « فالله خير حفظا » نصب على البيان، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين « حافظا » على الحال. وقال الزجاج: على البيان؛ وفي هذا دليل على أنه أجابهم إلى إرسال معهم؛ ومعنى الآية: حفظ الله له خير من حفظكم إياه. قال كعب الأحبار: لما قال يعقوب: « فالله خير حافظا » قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك ابنيك كليهما بعدما توكلت علي



الآية: 65 ( ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير )


قوله تعالى: « ولما فتحوا متاعهم » الآية ليس فيها معنى يشكل. « ما نبغي » « ما » استفهام في موضع نصب؛ والمعنى: أي شيء نطلب وراء هذا؟! وفي لنا الكيل، ورد علينا الثمن؛ أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم. وقيل: هي نافية؛ أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا. وروي عن علقمة « ردت إلينا » بكسر الراء؛ لأن الأصل، رددت؛ فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء. وقوله: « ونمير أهلنا » أي نجلب لهم الطعام؛ قال الشاعر:

بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث

وقرأ السلمي بضم النون، أي نعينهم على الميرة. « ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير » أي حمل بعير لبنيامين.



الآية: 66 ( قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل )


قوله تعالى: « تؤتون » أي تعطوني. « موثقا من الله » أي عهدا يوثق به. قال السدي: حلفوا بالله ليردنه إليه ولا يسلمونه؛ واللام في « لتأتنني » لام القسم. « إلا أن يحاط بكم » قال مجاهد: إلا أن تهلكوا أو تموتوا. وقال قتادة: إلا أن تغلبوا عليه. قال الزجاج: وهو في موضع نصب. « فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل » أي حافظ للحلف. وقيل: حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل.


هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس؛ وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك وجميع أصحابه وأكثر العلماء: هي جائزة إذا كان المتحمل به مالا. وقد ضعف الشافعي الحمالة بالوجه في المال؛ وله قول كقول مالك. وقال عثمان البتي: إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمه الدية وأرش الجراح، وكانت له في مال الجاني، إذ لا قصاص على الكفيل؛ فهذه ثلاثة أقوال في الحمالة بالوجه. والصواب تفرقة مالك في ذلك، وأنها تكون في المال، ولا تكون في حد أو تعزير، على ما يأتي بيانه:



الآية: 67 ( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون )


لما عزموا على الخروج خشي عليهم العين؛ فأمرهم ألا يدخلوا مصر من باب واحد، وكانت مصر لها أربعة أبواب؛ وإنما خاف عليهم العين لكونهم أحد عشر رجلا لرجل واحد؛ وكانوا أهل جمال وكمال وبسطة؛ قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم.


إذا كان هذا معنى الآية فيكون فيها دليل على التحرز من العين، والعين حق؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ) . وفي تعوذه عليه السلام: ( أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ما يدل على ذلك.

وروى مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا ابيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله؛ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ( علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له ) فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس؛ في رواية ( اغتسل ) فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه؛ فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. وركب سعد بن أبي وقاص يوما فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين؛ فرجع إلى منزله فسقط، فبلغه ما قالت المرأة، فأرسل إليها فغسلت له؛ ففي هذين الحديثين أن العين حق، وأنها تقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول علماء الأمة، ومذهب، أهل السنة؛ وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالسنة وإجماع علماء هذه الأمة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود؛ فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أدخلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: « وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله » [ البقرة: 102 ] . قال الأصمعي: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه شخبها فقال: أيتهن هذه؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا، المروى بها والمورى عنها. قال الأصمعي. وسمعته يقول: إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.


واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يبرك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: ( ألا بركت ) فدل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يبرك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين! اللهم بارك فيه.


العائن إذا أصاب بعينه ولم يبرك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويجبر على ذلك إن أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لا سيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولا سيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه.


من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، ويكف أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه ينفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسق به؛ ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم.


روى مالك عن حميد بن قيس المكي أنه قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: ( ما لي أراهما ضارعين ) فقالت حاضنتهما: يا رسول الله! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر سبقته العين ) . وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرقي مما يستدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتضرعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم.


أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة العائن بالاغتسال للمعين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا: إنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم.


قوله تعالى: « وما أغني عنكم من الله من شيء » أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر. « إن الحكم إلا لله » أي الأمر والقضاء لله. « عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون » أي اعتمدت ووثقت. « وعليه فليتوكل المتوكلون » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 04, 2013 1:33 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============



الآية: 68 ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون )



قوله تعالى: « ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم » أي من أبواب شتى. « ما كان يغني عنهم من الله من شيء » إن أراد إيقاع مكروه بهم. « إلا حاجة » استثناء ليس من الأول. « في نفس يعقوب قضاها » أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرقوا؛ قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسدا أو حذرا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين هاهنا. ودلت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم.

قوله تعالى: « وإنه » يعني يعقوب. « لذو علم لما علمناه » أي بأمر دينه. وقيل: « لذو علم » أي عمل؛ فإن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه



الآية: 69 ( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون )


قوله تعالى: « ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه » قال قتادة: ضمه إليه، وأنزله معه. وقيل: أمر أن ينزل كل اثنين في منزل، فبقى أخوه منفردا فضمه إليه وقال: أشفقت عليه من الوحدة، « قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون » قال له سرا من إخوته: « إني أنا أخوك فلا تبتئس » أي لا تحزن « بما كانوا يعملون » .



الآية: 70 ( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون )


قوله تعالى: « فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه » لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له: لا تردني إليهم، فقال: قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه، فأبى بنيامين الخروج؛ فقال يوسف: لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك: فقال: لا أبالي! فدس الصاع في رحله؛ إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أمر بعض خواصه بذلك. والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر؛ ومنه جهز على الجريح أي قتله، ونجز أمره. والسقاية والصواع شيء واحد؛ إناء له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر؛ قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شيء يشرب به فهو صواع؛ وأنشد:

نشرب الخمر بالصواع جهارا

واختلف في جنسه؛ فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان صواع الملك شيء من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس؛ وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع؟ قال: الإناء؛ قال فيه الأعشى:

له درمك في رأسه ومشارب وقدر وطباخ وصاع وديسق

وقال عكرمة: كان من فضة. وقال عبدالرحمن بن زيد: كان من ذهب؛ وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقيل: إنما كان يكال به لعزة الطعام. والصاع يذكر ويؤنث؛ فمن أنثه قال: أصوع؛ مثل أدور، ومن ذكره قال أصواع؛ مثل أثواب. وقال مجاهد وأبو صالح: الصاع الطر جهالة بلغة حمير. وفيه قراءات: « صواع » قراءة العامة؛ و « صوغ » بالغين المعجمة، وهي قراءة يحيى بن يعمر؛ قال: وكان إناء أصيغ من ذهب. « وصوع » بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا. « وصوع » بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي. و « صياع » بياء بين الصاد والألف؛ قراءة سعيد بن جبير. « وصاع » بألف بين الصاد والعين؛ وهي قراءة أبي هريرة.


قوله تعالى: « ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون » أي نادى مناد وأعلم. « وأذن » للتكثير؛ فكأنه نادى مرارا « أيتها العير » . والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال. قال مجاهد: كان عيرهم حميرا. قال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة؛ والمعنى: يا أصحاب العير، كقوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ويا خيل الله اركبي: أي يا أصحاب خيل الله، وسيأتي. وهنا اعتراضان: الأول: إن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول: أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال: « يا أسفا على يوسف » [ يوسف: 84 ] ولم يعرج على بنيامين؛ ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي؛ فلا اعتراض. وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب: أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب، ثم باعوه؛ فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل، فصدق إطلاق ذلك عليهم. جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق؛ والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله، ولا أخبره بنفسه. وقد قيل: إن معنى الكلام الاستفهام؛ أي أو إنكم لسارقون؟ كقوله: « وتلك نعمة » [ الشعراء: 22 ] أي أو تلك نعمة تمنها علي؟ والغرض ألا يعزى إلى يوسف صلى الله عليه وسلم الكذب.



الآيتان: 71 - 72 ( قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم )


قوله تعالى: « ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم » . البعير هنا الجمل في قول أكثر المفسرين. وقيل: إنه الحمار، وهي لغة لبعض العرب؛ قاله مجاهد واختاره. وقال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي قال: « أيتها العير » . والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس. قال:

وإني زعيم إن رجعت مملكا بسير ترى منه الفرانق أزورا

وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها:

ومخرق عنه القميص تخاله يوم اللقاء من الحياء سقيما

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما


إن قيل: كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح؟ قيل له: حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق؛ فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة، وبذل مال لمن كان يفتش ويطلب.


قال بعض العلماء: في هذه الآية دليلان: أحدهما: جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز. في غيره؛ فإذا قال الرجل: من فعل كذا فله كذا صح. وشأن الجعل أن يكون أحد الطرفين معلوما والآخر مجهولا للضرورة إليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين؛ وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه؛ إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين، كسائر العقود؛ لقوله: « ولمن جاء به حمل بعير » وبهذا كله قال الشافعي.


متى قال الإنسان، من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به؛ فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جاء بآبق فله أربعون درهما ) ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد. قال ابن خويز منداد ولهذا قال أصحابنا: إن كان ممن يفعل بالإنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر.

قلت: وخالفنا في هذا كله الشافعي.


الدليل الثاني: جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام، قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة، وقد اختلف الفقهاء فيمن تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا؟ فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات؛ وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. وقال مالك والليث والأوزاعي: إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به إلى المطلوب؛ فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال فلا شيء عليه من المال؛ والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم، وإنما يطلب بمال؛ فإذا ضمنه له ولم يأته به فكأنه فوته عليه، وعزه منه؛ فلذلك لزمه المال. واحتج الطحاوي للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول به فلا معنى له؛ لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به.



واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ فقال الثوري والكوفيون والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ من شاء حتى يستوفي حقه؛ وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه فقال: لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أولى، إلا أن يكون معدما فإنه يؤخذ من الحميل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة؛ وهذا قول حسن. والقياس أن للرجل مطالبة أي الرجلين شاء. وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه ما لا تحول على الكفيل وبرئ صاحب، الأصل، إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء؛ واحتج ببراءة الميت من الدين، بضمان أبي قتادة، وبنحوه قال أبو ثور.


الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتا مستقرا؛ فلا تصح الحمالة بالكتابة لأنها ليست بدين ثابت مستقر؛ لأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة؛ وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره.

وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعي القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام؛ واحتج لهم الطحاوي بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبدالله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة.



الآيات: 73 - 75 ( قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين )


قوله تعالى: « قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض » يروى أنهم كانوا لا ينزلون على أحد ظلما، ولا يرعون زرع أحد، وأنهم جمعوا على أفواه إبلهم الأكمة لئلا تعيث في زروع الناس. ثم قال: « وما كنا سارقين » يروى أنهم ردوا البضاعة التي كانت في رحالهم؛ أي فمن رد ما وجد فكيف يكون سارقا؟ !.


قوله تعالى: « قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين » المعنى: فما جزاء الفاعل إن بان كذبكم؟ فأجاب إخوة يوسف: « جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه » أي يستعبد ويسترق. « فجزاؤه » مبتدأ، و « من وجد في رحله » خبره؛ والتقدير: جزاؤه استعباد من وجد في رحله؛ فهو كناية عن الاستعباد؛ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهذا جزاؤه. « كذلك نجزي الظالمين » أي كذلك نفعل في الظالمين إذا سرقوا أن يسترقوا، وكان هذا من دين يعقوب عليه السلام وحكمه. وقولهم هذا قول من لم يسترب نفسه؛ لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله، وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ؛ قاله الحسن والسدي وغيرهما. مسألة: قد تقدم في سورة « المائدة » أن القطع في السرقة ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 05, 2013 2:25 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============



الآية: 76 ( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم )


قوله تعالى: « فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه » إنما بدأ يوسف برحالهم لنفي التهمة والريبة من قلوبهم إن بدأ بوعاء أخيه. والوعاء يقال بضم الواو وكسرها، لغتان؛ وهو ما يحفظ فيه المتاع ويصونه. « ثم استخرجها من وعاء أخيه » يعني بنيامين؛ أي استخرج السقاية أو الصواع عند من يؤنث، وقال: « ولمن جاء به » [ يوسف: 72 ] فذكر؛ فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم، وظنوا الظنون كلها، وأقبلوا عليه وقالوا ويلك يا بنيامين! ما رأينا كاليوم قط، ولدت أمك « راحيل » أخوين لصين! قال لهم أخوهم: والله ما سرقته، ولا علم لي بمن وضعه في متاعي. ويروى أنهم قالوا له: يا بنيامين! أسرقت؟ قال: لا والله؛ قالوا: فمن جعل الصواع في رحلك؟ قال: الذي جعل البضاعة في رحالكم. ويقال: إن المفتش كان إذا فرغ من رجل رجل استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك؛ وظاهر كلام قتادة وغيره أن المستغفر كان يوسف؛ لأنه كان يفتشهم ويعلم أين الصواع حتى فرغ منهم، وانتهى إلى رحل بنيامين فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته: والله لا نبرح حتى تفتشه؛ فهو أطيب لنفسك ونفوسنا؛ ففتش فأخرج السقاية؛ وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن سرقهم برأيه؛ فيقال: إن جميع ذلك كان أمر من الله تعالى؛ ويقوي ذلك قوله تعالى: « كذلك كدنا ليوسف » .


قوله تعالى: « كدنا » معناه صنعنا؛ عن ابن عباس. القتبي: دبرنا. ابن الأنباري: أردنا؛ قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عهد الصبا ما قد مضى

وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا، خلافا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل.


أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في مال بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة؛ وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق. وقال مالك: إذا فوت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر. أو نحوه لزمته الزكاة. عند الحول، أخذا منه بقوله عليه السلام: ( خشية الصدقة ) . وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضره؛ لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله: ( خشية الصدقة ) إلا حينئذ. قال ابن العربي: سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول: كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبدالله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات الآلاف دينار من المال، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم: كبرت سني، وضعفت قوتي، وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه؛ فإذا جاء رأس الحول ودعا بنية لأمر قالوا: يا أبانا! إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا؛ أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه؛ يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق؛ وهذا خطب عظيم وقد صنف البخاري رضي الله عنه في جامعه كتابا مقصود فقال: « كتاب الحيل » .

قلت: وترجم فيه أبوابا منها: « باب الزكاة وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة » . وأدخل فيه حديث أنس بن مالك، وأن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة؛ وحديث طلحة بن عبيدالله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس. الحديث؛ وفي آخره: ( أفلح إن صدق ) أو ( دخل الجنة إن صدق ) . وقال بعض الناس: في عشرين ومائة بعير حقتان؛ فإن أهلكها متعمدا أو وهبها أو احتال فيها فرارا من الزكاة فلا شيء عليه؛ ثم أردف بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ويقول أنا كنزك ) الحديث، قال المهلب: إنما قصد البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد في إسقاط الزكاة فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من جمع الغنم وتفريقها خشية الصدقة فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: ( أفلح إن صدق ) أن من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح، ولا يقوم بذلك عذره عند الله؛ وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة؛ ومن نوى ذلك فالإثم، عنه غير ساقط، والله حسيبه؛ وهو كمن فر من صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم، واستعمل سفرا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله الذي كتبه الله على المؤمنين؛ فالوعيد متوجه عليه؛ ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأي وجه متعمدا كيف تطؤه الإبل، ويمثل له ماله شجاعا أقرع! ؟ وهذا يدل على أن الفرار من الزكاة لا يحل، وهو مطالب بذلك في الآخرة.


قال ابن العربي: قال بعض علماء الشافعية في قوله تعالى: « وكذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه » . دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق؛ وهذا وهم عظيم؛ وقوله تعالى: « وكذلك كدنا ليوسف في الأرض » قيل فيه: كما مكنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكنا له ملك الأرض عن العزيز، أو مثله مما لا يشبه ما ذكره. قال الشفعوي: ومثله قوله عز وجل: « وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث » [ ص:44 ] وهذا ليس حيلة، إنما هو حمل لليمين على الألفاظ أو على المقاصد. قال الشفعوي: ومثله حديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيب، الحديث؛ ومقصود الشافعية من هذا الحديث أنه عليه السلام أمره أن يبيع جمعا ويبتاع جنيبا من الذي باع منه الجمع أو من غيره. وقالت المالكية: معناه من غيره؛ لئلا يكون جنيبا بجمع، والدراهم ربا؛ كما قال ابن عباس: جريرة بجريرة والدراهم ربا.


قوله تعالى: « في دين الملك » أي سلطانه، عن ابن عباس ابن عيسى: عاداته، أي يظلم بلا حجة. مجاهد: في حكمه؛ وهو استرقاق السراق. « إلا أن يشاء الله » أي إلا بأن يشاء الله أن يجعل السقاية في رحله تعلة وعذرا له. وقال قتادة: بل كان حكم الملك الضرب والغرم ضعفين، ولكن شاء الله أن يجري على ألسنتهم حكم بني، إسرائيل، على ما تقدم.


قوله تعالى: « نرفع درجات من نشاء » أي بالعلم والإيمان. وقرئ « نرفع درجات من نشاء » بمعنى: نرفع من نشاء درجات؛ وقد مضى في « الأنعام » وقوله: « وفوق كل ذي علم عليم » روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: يكون ذا أعلم من ذا وذا أعلم من ذا، والله فوق كل عالم. وروى سفيان عن عبدالأعلى عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس رحمه الله فتحدث بحديث فتعجب منه رجل فقال: سبحان الله! وفوق كل ذي علم عليم؛ فقال ابن عباس: بئس ما قلت؛ الله العليم وهو فوق كل عالم.



الآية: 77 ( قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون )


قوله تعالى: « قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » اقتدى: أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق؛ وإنما قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله، لأنه ليس من أمهم؛ وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق؛ لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق. وقد اختلفوا في السرقة التي نسبوا إلى يوسف؛ فروي عن مجاهد وغيره أن عمة يوسف بنت إسحاق كانت أكبر من يعقوب، وكانت صارت إليها منطقة إسحاق لسنها؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالسن، وهذا مما نسخ حكمه بشرعنا، وكان من سرق استعبد. وكانت عمة يوسف حضنته وأحبته حبا شديدا؛ فلما ترعرع وشب فال لها يعقوب: سلمي يوسف إلي، فلست أقدر أن يغيب عني ساعة؛ فولعت به، وأشفقت من فراقه؛ فقالت له: دعه عندي أياما أنظر إليه فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها؛ فالتمست ثم فالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوا؛ فوجدت مع يوسف. فقالت: إنه والله لي سلم أصنع فيه ما شئت؛ ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك؛ فأمسكته حتى ماتت؛ فبذلك عيره إخوته في قولهم: « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » ومن ههنا تعلم يوسف وضع السقاية في رحل أخيه كما عملت به عمته. وقال سعيد بن جبير: إنما أمرته أن يسرق صنما كان لجده أبي أمه، فسرقه وكسره وألقاه على الطريق، وكان ذلك منهما تغييرا للمنكر؛ فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقال قتادة. وفي كتاب الزجاج: أنه كان صنما ذهب. وقال عطية العوفي: إنه كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه فغيره بذلك. وقيل: إنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين؛ حكاه ابن عسى وقيل: إنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه؛ قاله الحسن


قوله تعالى: « فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم » أي أسر في نفسه قولهم « إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » قاله ابن شجرة وابن عيسى. وقيل: إنه أسر في نفسه قوله: « أنتم شر مكانا » ثم جهر فقال: « والله أعلم بما تصفون » . قاله ابن عباس، أي أنتم شر مكانا ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. ومعنى قوله: « والله أعلم بما تصفون » أي الله أعلم أن ما قلتم كذب، وإن كانت لله رضا. وقد قيل: إن إخوة يوسف في ذلك الوقت ما كانوا أنبياء.



الآية: 78 ( قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين )


قوله تعالى: « قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه » خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته. وقولهم: « إن له أبا شيخا كبيرا » أي كبير القدر، ولم يريدوا كبر السن؛ لأن ذلك معروف من حال الشيء. « فخذ أحدنا مكانه » أي عبدا بدله؛ وقد قيل: إن هذا مجاز؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه؛ وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله. ويحتمل أن يكون قولهم: « فخذ أحدنا مكان » حقيقة؛ وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة؛ أي خذ أحدنا مكانه. حتى ينصرف إليك صاحبك؛ ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه؛ ويعرف يعقوب جلية الأمر؛ فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي، غير لازمة إذا أبى الطالب؛ وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة، فلا يجوز إجماعا. وفي « الواضحة » : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة، إلا في النفس. وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس. واختلف فيها عن الشافعي؛ فمرة ضعفها، ومرة أجازها.


قوله تعالى: « إنا نراك من المحسنين » يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم، ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحسانه علينا في هذه اليد أن أسديتها إلينا؛ وهذا تأويل ابن إسحاق.



الآية: 79 ( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون )


قوله تعالى: « قال معاذ الله » مصدر. « أن نأخذ » في موضع نصب؛ أي من أن نأخذ. « إلا من وجدنا » في موضع نصب بـ « أخذ » . « متاعنا عنده » أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه. « إنا إذا لظالمون » أي أن نأخذ غيره.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 05, 2013 11:20 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
=============


الآية: 80 ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين )



قوله تعالى: « فلما استيئسوا منه » أي يئسوا؛ مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر. « خلصوا » أي انفردوا وليس هو معهم. « نجيا » نصب على الحال من المضمر في « خلصوا » وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية؛ ويقع على الواحد كقوله تعالى: « وقربناه نجيا » [ مريم:52 ] وجمعه أنجية؛ قال الشاعر:

إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وقرأ ابن كثير: « استايسوا » « ولا تايسوا » « إنه لا يايس » « أفلم يايس » بألف من غير همز على القلب؛ قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة؛ والأصل قراءة الجماعة؛ لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس؛ بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته. وقال قوم: أيس ويئس لغتان؛ أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم. والنجي فعيل بمعنى المناجي.



قوله تعالى: « قال كبيرهم » قال قتادة: وهو روبيل، كان أكبرهم في السن. مجاهد: هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي. وقال الكلبي: يهوذا؛ وكان أعقلهم. وقال محمد بن كعب وابن إسحاق: هو لاوى، وهو أبو الأنبياء. « ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله » أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه. « ومن قبل ما فرطتم في يوسف » « ما » في محل نصب عطفا على « أن » والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف؛ ذكر النحاس وغيره. و « من » في قوله: « ومن قبل » متعلقة بـ « تعلموا » . ويجوز أن تكون « ما » زائدة؛ فيتعلق الظرفان اللذان هما « من قبل » و « في يوسف » بالفعل وهو « فرطتم » . ويجوز أن تكون « ما » والفعل مصدرا، و « من قبل » متعلقا بفعل مضمر؛ التقدير: تفريطكم في يوسف واقع من قبل؛ فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به « من قبل » . « فلن أبرح الأرض » أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها؛ يقال: برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا. « حتى يأذن لي أبي » بالرجوع فإني أستحي منه. « أو يحكم الله لي » بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي. وقيل: المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فأنصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال: « لتأتنني به إلا أن يحاط بكم » [ يوسف: 66 ] ومن حارب وعجز فقد أحيط به.

وقال ابن عباس: وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف؛ يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه. وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر؛ وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه؛ قالوا: بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا؛ ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال: أيها الملك! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها؛ وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتبجت ؟؟ شعراته؛ وكذا كان كل واحد من بني يعقوب؛ كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم؛ وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام؛ فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب؛ فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه؛ ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره؛ فخرج مسرعا إلى إخوته وقال: هل حضرني منكم أحد؟ قالوا: لا! قال: فأين ذهب شمعون؟ قالوا: ذهب إلى الجبل؛ فخرج فلقيه، وقد احتمل صخرة عظيمة؛ قال: ما تصنع بهذه؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه؛ قال: فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا؛ فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا! لقد مسني كف من نسل يعقوب. ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال: يا معشر العبرانيين! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة؛ وقد ركله يركله؛ قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه، وقال: هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: فإنه يقول: إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال: إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه؛ فقالوا: أيها العزيز! استر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك؛ فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول: إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله؛ ثم نقره رابعة وقال: إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه؛ ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول: إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا؛ ثم نقره سادسة وقال إنه يقول: لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم؛ لأجعلنكم نكالا للعالمين. ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا: لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله؛ فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم: اخرجوا عني! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا.



الآية: 81 ( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين )



قوله تعالى: « ارجعوا إلى أبيكم » قاله الذي قال: « فلن أبرح الأرض » . « فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق » وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين « إن ابنك سُرِّقَ » النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال: سمعت، الكسائي يقرأ: « يا أبانا إن ابنك سُرِّق » بضم السين وتشديد الراء مكسورة؛ على ما لم يسم فاعله؛ أي نسب، إلى السرقة ورمي بها؛ مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج: « سرق » يحتمل معنيين: أحدهما: علم منه السرق، والآخر: اتهم بالسرق. قال الجوهري: والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح.



قوله تعالى: « وما شهدنا إلا بما علمنا » يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب؛ كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين: دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم؛ قال معناه ابن إسحاق. وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك؛ قاله ابن زيد. « وما كنا للغيب حافظين » أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. وقال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا: نحفظ أخانا فيما نطيق. وقال ابن عباس: يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير؛ وعنه: ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه. وقيل: ما دام بمرأى منا لم يجر خلل، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق.



تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات؛ ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة؛ وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه؛ قال الله تعالى: « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » [ الزخرف: 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وقد مضى في « البقرة » .



اختلف قول مالك في شهادة المرور؛ وهو أن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه. والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب؛ وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق؛ لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم؛ فكان. خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم،

إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر.



الآية: 82 ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون )



قوله تعالى: « واسأل القرية التي كنا فيها والعير » حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: « واسأل القرية » أي أهلها؛ فحذف؛ ويريدون بالقرية مصر. وقيل: قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. وقيل المعنى « واسأل القرية » وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو ينطق الجماد له؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار؛ قال سيبويه: ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند؛ لأن هذا يشكل. والقول في العير كالقول في القرية سواء. « وإنا لصادقون » في قولنا.



في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم؛ وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد: ( على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي ) فقالا: سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي: ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) رواه البخاري ومسلم.



الآية: 83 ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم )



قوله تعالى: « قال بل سولت » أي زينت. « لكم أنفسكم » أن ابني وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله. « فصبر جميل » أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة.



الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: « فصبر جميل » أي لا أشكو ذلك إلى أحد. وروى قاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من بث لم يصبر ) . وقد تقدم في « البقرة » أن الصبر عند أول الصدمة، وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وأن تقادم عهدها. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن يعقوب أعطى على يوسف أجر مائة شهيد، وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب عليه السلام.



قوله تعالى: « عسى الله أن يأتيني بهم جميعا » لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره؛ لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره؛ ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال: « بهم » لأنهم ثلاثة؛ يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل: « فلن أبرح الأرض » . « إنه هو العليم » بحالي. « الحكيم » فيما يقضي.



الآية: 84 ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم )



قوله تعالى: « وتولى عنهم » أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال: « يا أسفا على يوسف » ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال: « يا أسفا على يوسف » قال قتادة والحسن: والمعنى يا حزناه! وقال مجاهد والضحاك: يا جزعاه!؛ قال كُثَيِّر:

فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت

والأسف شدة الحزن على ما فات. والنداء على معنى: تعال يا أسف فإنه من أوقاته. وقال الزجاج: الأصل يا أسفي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة. « وابيضت عيناه من الحزن » قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي؛ قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: « من الحزن » . وقيل: إن يعقوب كان يصلي، ويرسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته: « انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري » .



هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد روى البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) . وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة « المؤمنون » موعبا إن شاء الله تعالى.

قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها - أن يعقوب لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك. وقيل: إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك. والجواب الثالث: وهو أبينها - هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ) . وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله: « فهو كظيم » أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه؛ ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه؛ فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه؛ قال الله تعالى: « إذ نادى وهو مكظوم » [ القلم: 48 ] أي مملوء كربا. ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم؛ وهو المشتمل على حزنه. وعن ابن عباس: كظيم مغموم؛ قال الشاعر:

فإن أك كاظما لمصاب شاس فإني اليوم منطلق لساني

وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذهبت عيناه من الحزن « فهو كظيم » قال: فهو مكروب. وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله: « فهو كظيم » قال: فهو كمد؛ يقول: يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو؛ فهو كمد من ذلك. قال الجوهري: الكمد الحزن المكتوم؛ تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد. النحاس. يقال فلان كظيم وكاظم؛ أي حزين لا يشكو حزنه؛ قال الشاعر:

فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من الخوف المنايا كظم
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 07, 2013 12:42 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============



الآيتان: 85 - 86 ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون )



قوله تعالى: « قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف » أي قال له ولده: « تالله تفتا تذكر يوسف » قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت. وزعم الغراء أن « لا » مضمرة؛ أي لا تفتأ، وأنشد:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح؛ قال النحاس: والذي قال حسن صحيح. وزعم الخليل وسيبويه أن « لا » تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال؛ ولو كان واجبا لكان باللام والنون؛ وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك؛ يقال: ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر:

فما فئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع

أي ما برحت فتفتأ تبرح. وقال ابن عباس: تزال. « حتى تكون حرضا » أي تالفا. وقال ابن عباس ومجاهد: دنفا من المرض، وهو ما دون الموت؛ قال الشاعر:

سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا

كذا الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا

وقال قتادة: هرما. الضحاك: باليا دائرا. محمد بن إسحاق: فاسدا لا عقل لك. الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل؛ وكذا الحرض. ابن زيد: الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر. الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. المؤرج: ذائبا من الهم. وقال الأخفش: ذاهبا. ابن الأنباري: هالكا، وكلها متقاربة. وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره؛ وقال العرجي:

إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم

قال النحاس: يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض؛ إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان. الثعلبي: ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة؛ فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث. ويقال: حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض. ويقال: رجل محرض، وينشد:

طلبته الخيل يوما كاملا ولو الفته لأضحى محرضا

وقال امرؤ القيس:

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض

قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق. وقرأ أنس: « حُرْضا » بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان. وقرأ الحسن بضم الحاء والراء. قال الجوهري: الحَرَض والحُرُض الأشنان. « أو تكون من الهالكين » أي الميتين، وهو قول الجميع؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك.



قوله تعالى: « قال إنما أشكو بثي » حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها؛ وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه

وقال ابن عباس: « بثي » همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه. « وحزني إلى الله » معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. « وأعلم من الله ما لا تعلمون » أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي: أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبر. ولده بسيرة الملك وعدله خلفه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون.



الآية: 87 ( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )



قوله تعالى: « يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه » هذا يدل على أنه تيقن حياته؛ إما بالرؤيا، وإما بإنطاق الله تعالى الذئب كما في أول القصة، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه؛ وهو أظهر. والتحسس طلب الشيء بالحواس؛ فهو تفعل من الحس، أي اذهبوا إلى هذا الذهب طلب منكم أخاكم، واحتال عليكم في أخذه فاسألوا عنه وعن مذهبه. ويروى أن ملك الموت قال له: اطلبه من هاهنا! وأشار إلى ناحية مصر. وقيل: إن يعقوب تنبه على يوسف برد البضاعة، واحتباس أخيه، وإظهار الكرامة؛ فلذلك وجههم سلى جهة مصر دون غيرها. « ولا تيأسوا من روح الله » أي لا تقنطوا من فرج الله؛ قال ابن زيد، يريد: أن المؤمن يرجو فرج الله، والكافر يقنط في الشدة. وقال قتادة والضحاك: من رحمة الله. « إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون » دليل على أن القنوط من الكبائر، وهو اليأس في « الزمر » بيانه إن شاء الله تعالى.



الآية: 88 ( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين )



قوله تعالى: « فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز » أي الممتنع. « مسنا وأهلنا الضر » هذه المرة الثالثة من عودهم إلى مصر؛ وفي الكلام حذف، أي فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف قالوا: « مسنا » أي أصابنا « وأهلنا الضر » أي الجوع والحاجة؛ وفي هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر، أي الجوع؛ بل واجب عليه إذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع؛ كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه؛ ولا يكون ذلك قدحا في التوكل، وهذا ما لم يكن التشكي على سبيل التسخط؛ والصبر والتجلد في النوائب أحسن، والتعفف عن المسألة أفضل؛ وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى؛ وذلك قول يعقوب: « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون » [ يوسف: 86 ] أي من جميل صنعه، وغريب لطفه، وعائدته على عباده؛ فأما الشكوى على غير مشك فهو السفه، إلا أن يكون على وجه البث والتسلي؛ كما قال ابن دريد:

لا تحسبن يا دهر أني ضارع لنكبة تعرفني عرق المدى

مارست ما لو هوت الأفلاك من جوانب الجو عليه ما شكا

لكنها نفثة مصدر إذا جاش لغام من نواحيها غما



قوله تعالى: « وجئنا ببضاعة » البضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء؛ تقول: أبضعت الشيء واستبضعته أي جعلته بضاعة؛ وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر. « مزجاة » صفة لبضاعة؛ والإزجاء السوق بدفع؛ ومنه قوله تعالى: « ألم تر أن الله يزجي سحابا » [ النور: 43 ] والمعنى أنها بضاعة تدفع؛ ولا يقبلها كل أحد. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. واختلفت في تعيينها هنا؛ فقيل: كانت قديدا وحيسا؛ ذكره الواقدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل: خلق الغرائر والحبال؛ روى عن ابن عباس. وقيل: متاع الأعراب صوف وسمن؛ قال عبدالله بن الحارث. وقيل: الحبة الخضراء والصنوبر وهو البطم، حب شجرة بالشام؛ يؤكل ويعصر الزيت منه لعمل الصابون، قاله أبو صالح؛ فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام، وتنفق فيما بين الناس؛ فقالوا: خذها منا بحساب جياد تنفق من الطعام. وقيل: دراهم رديئه؛ فال ابن عباس أيضا. وقيل: ليس عليها صورة يوسف، وكانت دراهم مصر عليهم صورة يوسف. وقال الضحاك: النعال والأدم؛ وعنه: كانت سويقا منخلا. والله أعلم.



قوله تعالى: « فأوف لنا الكيل » يريدون كما تبيع بالدراهم الجياد لا تنقصنا بمكان دراهمنا؛ هذا قول أكثرا المفسرين. وقال ابن جريج. « فأوف لنا الكيل » يريدون الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم. « وتصدق علينا » أي تفضل علينا بما بين سعر الجياد والرديئة. قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن: لأن الصدفة تحرم على الأنبياء. وقيل المعنى: « تصدق علينا » بالزيادة على حقنا؛ قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج: المعنى « تصدق علينا » برد أخينا إلينا. وقال ابن شجرة: « تصدق علينا » تجوز عنا؛ استشهد بقول الشاعر:

تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب وأمر علينا الأشعري لياليا

« إن الله يجزي المتصدقين » يعني في الآخرة؛ يقال: هذا من معاريض الكلا؛ لأنه لم يكن عندهم أنه على دينهم، فلذلك لم يقولوا: إن الله يجزيك بصدقتك، فقالوا لفظا يوهمه أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه بالتأويل؛ قاله النقاش وفي الحديث: ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) .



استدل مالك وغيره من العلماء على أن أجرة الكيال على البائع؛ قال ابن القاسم وابن نافع قال مالك: قالوا ليوسف « فأوف لنا الكيل » فكان يوسف هو الذي يكيل، وكذلك الوزان والعداد وغيرهم، لأن الرجل إذا باع عدة معلومة من طعامه، وأوجب العقد عليه، وجب عليه أن يبرزها ويميز حق المشتري من حقه، إلا أن يبيع منه معينا صبره أو ما لا حق توفيه فيه ـ فخلى ما بينه وبينه، فما جرى على المبيع فهو على المبتاع؛ وليس كذلك ما فيه حق توفيه من كيل أو وزن، ألا ترى أنه لا يستحق البائع الثمن إلا بعد التوفية، وإن تلف فهو منه قبل التوفية.



وأما أجرة النقد فعلى البائع أيضا؛ لأن المبتاع الدافع لدراهمه يقول: إنها طيبة، فأنت الذي تدعي الرداءة فانظر لنفسك؛ وأيضا فإن النفع يقع له فصار الأجر عليه، وكذلك لا يجب على الذي يجب عليه القصاص؛ لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه، إلا أن يمكن من ذلك طائعا؛ ألا ترى أن قرضا عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه إذا طلب المقتص ذلك منه، فأجر القطاع على المقتص. وقال الشافعي في المشهور عنه: إنها على المقتص منه كالبائع.



يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق علي؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره؛ وسمع الحسن رجلا يقول: اللهم تصدق علي؛ فقال الحن: يا هذا! إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب؛ أما سمعت قول الله تعالى: « إن الله يجزي المتصدقين » قل: اللهم أعطني وتفضل علي.



الآيتان: 89 - 90 ( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين )



قوله تعالى: « قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه » استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ، وهو الذي قال الله: « لتنبئنهم بأمرهم هذا » [ يوسف: 15 ] الآية. « إذ أنتم جاهلون » دليل على أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف، غير أنبياء؛ لأنه لا يوصف بالجهل إلا من كانت هذه صفته؛ ويدل على أنه حسنت حالهم الآن؛ أي فعلتم ذلك إذ أنتم صغار جهال؛ قال معناه ابن عباس والحسن؛ ويكون قولهم: « وإن كنا لخاطئين » على هذا، لأنهم كبروا ولم يخبروا أباهم بما فعلوا حياء وخوفا منه. وقيل: جاهلون بما تؤول إليه العاقبة. والله أعلم.



قوله تعالى: « قالوا أئنك لأنت يوسف » لما دخلوا عليه فقالوا: « مسنا وأهلنا الضر » فخضوا له وتواضعوا رق لهم، وعرقهم بنفسه، فقال: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه » فتنبهوا فقالوا: « أئنك لأنت يوسف » قاله ابن إسحاق. وقيل: إن يوسف تبسم فشبهوه بيوسف واستفهموا قال ابن عباس لما قال لهم: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف » الآية، ثم تبسم يوسف - وكان إذا تبسم كأن ثناياه اللؤلؤ المنظوم - فشبهوه بيوسف، فقالوا له على جهة الاستفهام: « أئنك لأنت يوسف » . وعن ابن عباس أيضا: أن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة، فلما قال لهم: « هل علمتم ما فعلتم بيوسف » رفع التاج عنه فعرفوه، فقالوا: « أئنك لأنت يوسف » . وقال ابن عباس: كتب يعقوب إليه يطلب رد ابنه، وفي الكتاب: من يعقوب صفي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر - أما بعد - فإنا أهل بيت بلاء ومحن، ابتلى الله جدي إبراهيم بنمروذ وناره، ثم ابتلى أبي إسحاق بالذبح، ثم ابتلاني بولد كان لي أحب أولادي إلي حتى كف بصري من البكاء، وإني لم أسرق ولم ألد سارقا والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره فباح بالسر. وقرأ ابن كثير « إنك » على الخبر، ويجوز أن تكون هذه القراءة استفهاما كقوله: « وتلك نعمة » [ الشعراء: 22 ] . « قال أنا يوسف » أي أنا المظلوم والمراد قتله، ولم يقل أنا هو تعظيما للقصة. « قد من الله علينا » أي بالنجاة والملك. « إنه من يتق ويصبر » أي يتق الله ويصبر على المصائب، وعن المعاصي. « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » أي الصابرين في بلائه، القائمين بطاعته. وقرأ ابن كثير: « إنه من يتقي » بإثبات الياء؛ والقراءة بها جائزة على أن تجعل « من » بمعنى الذي، وتدخل « يتقي » في الصلة، فتثبت الياء لا غير، وترفع « ويصبر » . وقد يجوز أن تجزم « ويصير » على أن تجعل « يتقي » في موضع جزم و « من » للشرط، وتثبت الياء، وتجعل علامة الجزم حذف الضمة التي كانت في الياء على الأصل؛ كما قال:

ثم نادي إذا دخلت دمشقا يا يزيد بن خالد بن يزيد

وقال آخر:

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

وقراءة الجماعة ظاهرة، والهاء في « إنه » كناية عن الحديث، والجملة الخبر.



الآيتان: 91 - 92 ( قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )



قوله تعالى: « قالوا تالله لقد آثرك الله علينا » الأصل همزتان خففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فإنا مثير؛ وهو أيضا على أفعل ثم أعل، والأصل أثير نقلت حركة الياء على الثاء، فانقلبت الياء ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وأثرت الحديث على فعلت فأنا اثر؛ والمعنى: لقد فضلك الله علينا، واختارك بالعلم والحلم والحكم والعقل والملك. « وإن كنا لخاطئين » أي مذنبين من خطئ يخطأ إذا أتى الخطيئة، وفي ضمن هذا سؤال العفو. وقيل لابن عباس: كيف قالوا « وإن كنا لخاطئين » وقد تعمدوا لذلك؟ قال: وإن تعمدوا لذلك، فما تعمدوا حتى أخطؤوا الحق، وكذلك كل من أتى ذنبا تخطى المنهاج الذي عليه من الحق، حتى يقع في الشبهة والمعصية.



قوله تعالى: « لا تثريب عليكم اليوم » أي قال يوسف - وكان حليما موفقا: « لا تثريب عليكم اليوم » وتم الكلام. ومعنى « اليوم » : الوقت. والتثريب التعيير والتوبيخ، أي تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم؛ قال سفيان الثوري وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام: ( إذا زنت أمه أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) أي لا يعيرها؛ وقال بشر:

فعفوت عنهم عفو مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد

وقال الأصمعي: ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الإخوة، ولكم عندي العفو والصفح؛ وأصل التثريب الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة، وقد لاذ الناس بالبيت فقال: ( الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ثم قال: ( ماذا تظنون يا معشر قريش ) قالوا: خيرا، أخ كريم، ابن أخ كريم وقد قدرت؛ قال: ( وأنا أقول كما قال أخي يوسف « لا تثريب عليكم اليوم » فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي. « يغفر الله لكم » مستقبل فيه معنى الدعاء؛ سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم. وأجاز الأخفش الوقت على « عليكم » والأول هو المستعمل؛ فإن في الوقف على « عليكم » والابتداء بـ « اليوم يغفر الله لكم » جزم بالمغفرة في اليوم، وذلك لا يكون إلا عن وحي، وهذا بين. وقال عطاء الخراساني: طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ؛ ألم تر قول يوسف: « لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم » وقال يعقوب: « سوف أستغفر لكم ربي » .



الآية: 93 ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين )



قوله تعالى: « اذهبوا بقميصي هذا » نعت للقميص، والقميص مذكر، فأما قول الشاعر:

تدعو هوازن والقميص مفاضة فوق النطاق تشد بالأزرار

فتقديره: [ والقميص ] درع مفاضة. قاله النحاس. وقال ابن السدي عن أبيه عن مجاهد: قال لهم يوسف: « اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا » قال: كان يوسف أعلم بالله من أن يعلم أن قميصه يرد على يعقوب بصره، ولكن ذلك قميص إبراهيم الذي البسه الله في النار من حرير الجنة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة من فضة وعلقة في عنق يوسف، لما كان يخاف عليه من العين، وأخبره جبريل بأن أرسل قميصك فإن فيه ريح الجنة، وإن ريح الجنة لا يقع على سقيم ولا مبتلى إلا عوفي. وقال قميصه يهوذا، قال يوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته، وأنا الذي أحمله الآن لأسره، وليعود إليه بصره، فحمله؛ حكاه السدي. « وأتوني بأهلكم أجمعين » لتتخذوا مصر دارا. قال مسروق: فكانوا ثلاثة وتسعين، ما بين رجل وامرأة. وقد قيل: إن القميص الذي بعثه هو القميص الذي قد من دبره، ليعلم يعقوب أنه عصم من الزنى؛ والقول الأول أصح، وقد روى مرفوعا من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره القشيري والله أعلم.



الآية: 94 ( ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون )



قوله تعالى: « ولما فصلت العير » أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد. « قال أبوهم » أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: « إني لأجد ريح يوسف » وقد يحتمل، أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: « إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون » . قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال؛ وعنه أيضا مسيرة شهر. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش. بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: « إني لأجد » أي أشم؛ فهو وجود بحاسة الشم. « لولا أن تفندوني » قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تسفهون؛ ومنه قول النابغة:

إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند

أي عن السفه. وقال سعيد بن جبير والضحاك: لولا أن تكذبون. والفند الكذب. وقد أفند إفنادا كذب؛ ومنه قول الشاعر:

يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمري مردود

وقال ابن الأعرابي: « لولا أم تفندون » لولا أن تُضعفوا رأي؛ وقاله ابن إسحاق. والفند ضعف الرأي من كبر. وقول رابع: تضللون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني؛ والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا: تهرمون؛ وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي؛ يقال: فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال:

أهلكني باللوم والتفنيد

ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ؛ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:

. ... فاحددها عن الفند

أي امنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد؛ قال الشاعر:

يا عاذلي دعا الملام وأقصرا طال الهوى وأطلتما التفنيدا

ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده؛ ومنه قول ابن مقبل:

دع الدهر يفعل ما أراد فإنه إذا كلف الإفناد بالناس أفندا



الآية: 95 ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم )



قوله تعالى: « قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم » أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا؛ لأن يوسف عندهم كان قد مات. وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر. وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته. وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا؛ فالله أعلم.



الآية: 96 ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون )



قوله تعالى: « فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه » أي على عينيه. « فارتد بصيرا » « أن » زائدة، والبشير قيل هو شمعون. وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم؛ قال ابن عباس. وعن السدي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة. وقال يحيى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام؛ قال: الآن تمت النعمة؛ وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به؛ فقال: والله ما أصبت عندنا شيئا؛ وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت.

قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر. وفي الباب حديث كعب بن مالك - الطويل - وفيه: « فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته » وذكر الحديث، وقد تقدم بكماله في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به. وهو دليل على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغم والترح. ومن هذا الباب جواز حذاقة الصبيان، وإطعام الطعام فيها، قد نحر عمر بعد حفظه سورة « البقرة » جزورا. والله أعلم. « قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون » ذكرهم قوله: « إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون » [ يوسف: 86 ] .



الآيتان: 97 - 98 ( قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم )



قوله تعالى: « قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين » في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا؛ وهذا يدل على أن الذي قال له: « تالله إنك لفي ضلالك » القديم « بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله. »

قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له؛ فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها؛ وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينفع؛ فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها. والله أعلم. وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) قال المهلب فقوله صلى الله عليه وسلم: ( أخذ منه بقدر مظلمته ) يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة، والله أعلم.



قوله تعالى: « قال سوف أستغفر لكم ربي » قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر. وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء. وفي دعاء الحفظ - من كتاب الترمذي - عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - فقال: - بأبي أنت وأمي - تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك ) قال: أجل يا رسول الله! فعلمني؛ قال: ( إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه « سوف أستغفر لكم ربي » يقول حتى تأتي ليلة الجمعة ) وذكر الحديث. وقال قال أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير قال: « سوف استغفر لكم ربي » في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب. وعن عامر الشعبي قال: « سوف استغفر لكم ربي » أي أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي؛ وذكر سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم قال حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار ابن مسعود فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فلقيت ابن مسعود فقلت: كلمات أسمعك تقولهن في السحر فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: « سوف استغفر لكم ربي » .



الآية: 99 ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين )



قوله تعالى: « فلما دخلوا على يوسف » أي قصرا كان له هناك. « آوى إليه أبويه » قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا؛ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم؛ ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين. وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن؛ وقد تقدم في « البقرة » أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به.



قوله تعالى: « وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين » قال ابن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله؛ قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره؛ قال النحاس: يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول: « ادخلوا مصر إن شاء الله » . وقيل: إنما قال: « إن شاء الله » تبركا وجزما. « آمنين » من القحط، أو من فرعون؛ وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه.



الآية: 100 ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم )



قوله تعالى: « ورفع أبويه على العرش » قال قتادة: يريد السرير، وقد تقدمت محامله؛ قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه؛ ومنه قول النابغة الذبياني:

عروش تفانوا بعد وأمنة

وقد تقدم.



قوله تعالى: « وخروا له سجدا » الهاء في « خروا له » قيل: إنها تعود على الله تعالى؛ المعنى: وخروا شكرا لله سجدا؛ ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن؛ قال النقاش: وهذا خطأ؛ والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة: « رأيتهم لي ساجدين » [ يوسف: 4 ] . وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف، والصغير للكبير؛ سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام، فاقشعر جلده وقال: « هذا تأويل رؤياي من قبل » وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة. وقال سلمان الفارسي وعبدالله بن شداد: أربعون سنة؛ قال عبدالله بن شداد: وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا. وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة. وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة: ست وثلاثون سنة. وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض: ثمانون سنة. وقال وهب بن منبه: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة. وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة. وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب. وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة. وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صلى الله عليه وسلم. وقيل: أقام عنده ثماني عشرة سنة. وقال بعض المحدثين: بعضا وأربعين سنة؛ وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله. وقال ابن إسحاق: ثماني عشرة سنة، والله أعلم.



قال سعيد بعد جبير عن قتادة عن الحسن: في قوله: « وخروا له سجدا » - قال: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برؤوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم. وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم. وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة؛ قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم؛ وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة.

قلت: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض؛ حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له؛ وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء. نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن. وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: ( لا ) ؛ قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال ( لا ) . قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال ( نعم ) . خرجه أبو عمر في « التمهيد » فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قوموا إلى سيدكم وخيركم ) - يعني سعد بن معاذ - قلنا: ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة؛ وقد قيل: إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار؛ وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك.



فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع؟ قيل له: ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا؛ وقد قيل بالمنع في القرب والبعد؛ لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من تشبه بغيرنا فليس منا ) . وقال: ( لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة ) . وإذا سلم فإنه لا ينحني، ولا أن يقبل مع السلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رؤوس أكاسرتها « فهذا مثله. ولا بأس بالمصافحة؛ فقد صافح النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال: ( تصافحوا يذهب الغل ) وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا؛ فإن قيل: فقد كره مالك المصافحة؟ قلنا: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا؛ وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ؛ وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف. قال ابن العربي: إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين، ولا منقولا نقل »

قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة؛ وهو ما رواه البراء بن عازب قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم؟ فقال: ( نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما ) .



قوله تعالى: « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ولم يقل من الجب استعمالا للكرم؛ لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله: « لا تثريب عليكم » .

قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله: « رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه » [ يوسف: 33 ] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له. وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى؛ وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به؛ وأيضا دخله باختياره إذ قال: « رب السجن أحب إلي » فكان الكرب فيه أكثر؛ وقال فيه أيضا: « اذكرني عند ربك » [ يوسف: 42 ] فعوقب فيه.



قوله تعالى: « وجاء بكم من البدو » يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية؛ وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع؛ وإياه عنى جميل بقوله:

وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال: غاروا غورا أي أتوا الغور؛ والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا؛ ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. « من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي » بإيقاع الحسد؛ قاله ابن عباس. وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي؛ أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. « إن ربي لطيف لما يشاء » أي رفيق بعباده. وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون؛ كقوله: « الله لطيف بعباده يرزق من يشاء » [ الشورى: 19 ] . وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور؛ والمراد هنا الإكرام والرفق. قال قتادة، لطف بيوسف بما خراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان. ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب؛ وأخبره بقدومه فأذن له، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه؛ فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم؛ وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا؛ فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال: يا يهوذا! هذا فرعون مصر؟ قال: لا، بل هذا ابنك يوسف؛ فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل؛ فابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف؛ فبكى يعقوب فرحا، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن؛ قال ابن عباس: فالبكاء أربعة، بكاء من الخوف، وبكاء من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاء رياء. ثم فال يعقوب: الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل، مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته؛ فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف؛ وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام؛ رواه عكرمة عن ابن عباس. وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا. وقال الربيع بن خيثم: دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف. وقال وهب: بن منبه دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون، وهم ستمائة ألف وستمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين، سوى الذرية. والهرمى والزمنى؛ وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة، وقال أهل التواريخ: أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير: نقل يعقوب صلى الله عليه وسلم في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد؛ فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، من فعل ذلك منهم؛ وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة.



الآية: 101 ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين )



قوله تعالى: « رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث » قال قتادة: لم يتمن الموت أحد؛ نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام؛ حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور. وقال سهل بن عبدالله التستري: لا يتمنى الموت إلا ثلاث: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل. وثبت في الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) رواه مسلم. وفيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ) . وإذا ثبت هذا فكيف يقال: إن يوسف عليه السلام تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل؟ هذا بعيد! إلا أن يقال: إن ذلك كان جائزا في شرعه؛ أما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها، وخوف ذهاب الدين، على ما بيناه في كتاب « التذكرة » . « ومن » من قوله: « من الملك » للتبعيض، وكذلك قوله: « وعلمتني من تأويل الأحاديث » لأن ملك مصر ما كان كل الملك، وعلم التعبير ما كان كل العلوم. وقيل: « من » للجنس كقوله: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج:30 ] وقيل: للتأكد. أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث.



قوله تعالى: « فاطر السماوات والأرض » نصب على النعت للنداء، وهو رب، وهو نداء مضاف؛ والتقدير: يا رب! ويجوز أن يكون نداء ثانيا. والفاطر الخالق؛ فهو سبحانه فاطر الموجودات، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شيء، ولا مثال سبق؛ وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » مستوفى؛ عند قوله: « بديع السماوات والأرض » [ البقرة: 117 ] وزدناه بيانا في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. « أنت وليي » أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة. « توفني مسلما وألحقني بالصالحين » يريد آباءه الثلاثة؛ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فتوفاه الله - طاهرا طيبا صلى الله عليه وسلم - بمصر، ودفن في النيل في صندوق من رخام؛ وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه؛ كل يحب أن يدفن في محلتهم، لما يرجون من بركته؛ واجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل من حيث مفرق الماء بمصر، فيمر عليه الماء، ثم يتفرق في جميع مصر، فيكونوا فيه شرعا ففعلوا؛ فلما خرج موسى ببني إسرائيل أخرجه من النيل: ونقل تابوته بعد أربعمائة سنة إلى بيت المقدس، فدفنوه مع آبائه لدعوته: « وألحقني بالصالحين » وكان عمره مائة عام وسبعة أعوام. وعن الحسن قال: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم جمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنه؛ وكان له من الولد إفراثيم، ومنشا، ورحمة، زوجة أيوب؛ في قول ابن لهيعة. قال الزهري: وولد لإفراثيم - بن يوسف - نون بن إفراثيم، وولد لنون يوشع؛ فهو يوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي كان معه صاحب أمره، ونبأه الله في زمن موسى عليه السلام؛ فكان بعده نبيا، وهو الذي افتتح أريحا، وقتل من كان بها من الجبابرة، واستوقفت له الشمس حسب ما تقدم في « المائدة » . وولد لمنشا بن يوسف موسى بن منشا، قبل موسى بن عمران. وأهل التوراة يزعمون أنه هو الذي طلب العالم ليتعلم منه حتى أدركه، والعالم هو الذي خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن منشا معه حتى بلغه معه حيث بلغ؛ وكان ابن عباس ينكر ذلك؛ والحق الذي قاله ابن عباس؛ وكذلك في القرآن. ثم كان بين يوسف وموسى أمم وقرون، وكان فيما بينهما شعيب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.



الآية: 102 ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون )



قوله تعالى: « ذلك من أنباء الغيب » ابتداء وخبر. « نوحيه إليك » خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون « ذلك » بمعنى الذي! « نوحيه إليك » خبره؛ أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك؛ يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب « نوحيه إليك » أي نعلمك بوحي هذا إليك. « وما كنت لديهم » أي مع إخوة يوسف « إذ أجمعوا أمرهم » في إلقاء يوسف في الجب. « وهم يمكرون » أي بيوسف في إلقائه في الجب. وقيل: « يمكرون » بيعقوب حين جاؤوه بالقميص ملطخا بالدم؛ أي ما شاهدت تلك الأحوال، ولكن الله أطلعك عليها.



الآية: 103 ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )



قوله تعالى: « وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين » ظن أن العرب لما سألته عن هذه القصة وأخبرهم يؤمنون، فلم يؤمنوا؛ فنزلت الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي ليس تقدر على هداية من أردت هدايته؛ تقول: حرص يحرص، مثل: ضرب يضرب. وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد. والحرص طلب الشيء باختيار.



الآية: 104 ( وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين )



قوله تعالى: « وما تسألهم عليه من أجر » « من » صلة؛ أي ما تسألهم جعلا. « إن هو » أي ما هو؛ يعني القرآن والوحي. « إلا ذكر » أي عظة وتذكرة « للعالمين » .



الآية: 105 ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون )



قال الخليل وسيبويه: هي « أي » دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها، فصار في الكلام معنى كم، وقد مضى في « آل عمران » القول فيها مستوفى. ومضى القول في آية « السماوات والأرض » في « البقرة » . وقيل: الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة؛ أي هم غافلون معرضون عن تأمل. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد « والأرض » رفعا ابتداء، وخبره. « يمرون عليها » . وقرأ السدي « والأرض » نصبا بإضمار فعل، والوقف على هاتين القراءتين على « السماوات » . وقرأ ابن مسعود: « يمشون عليها » .



الآية: 106 ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )



قوله تعالى: « وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون » نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها، وهم يعبدون الأوثان؛ قاله الحسن، ومجاهد وعامر الشعبي وأكثر المفسرين. وقال عكرمة هو قوله: « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » [ الزخرف: 87 ] ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا؛ ودعن الحسن أيضا: أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان، آمنوا بالله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصح إيمانهم؛ حكاه ابن، الأنباري. وقال ابن عباس: نزلت في تلبية مشركي العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وعنه أيضا أنهم النصارى. وعنه أيضا أنهم المشبهة، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا. وقيل: نزلت في المنافقين؛ المعنى: « وما يؤمن أكثرهم بالله » أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه؛ ذكره الماوردي عن الحسن أيضا. وقال عطاء: هذا في الدعاء؛ وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء؛ بيانه: « وظنوا أنهم أحيط بهم » [ يونس: 22 ] الآية. وقوله: « وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه » [ يونس: 12 ] الآية. وفي آية أخرى: « وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض » [ فصلت: 51 ] . وقيل: معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ونحو هذا؛ فيجعلون. نعمة الله منسوبة إلى فلان، ووقايته منسوبة إلى الكلب.

قلت: وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقيل: نزلت هذه الآية في قصة الدخان؛ وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: « ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون » [ الدخان: 12 ] فذلك إيمانهم، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب؛ بيانه قوله: « إنكم عائدون » [ الدخان: 15 ] والعود لا يكون إلا بعد ابتداء؛ فيكون معنى: « إلا وهم مشركون » أي إلا وهم عائدون إلى الشرك، والله أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 08, 2013 12:57 am

تابع تفسير القرطبى لسورة يوسف
==============



الآية: 107 ( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون )



قوله تعالى: « أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله » قال ابن عباس: مجللة. وقال مجاهد: عذاب يغشاهم؛ نظيره. « يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم » [ العنكبوت: 55 ] . وقال قتادة: وقيعة تقع لهم. وقال الضحاك: يعني الصواعق والقوارع. « أو تأتيهم الساعة » يعني القيامة. « بغتة » نصب على الحال؛ وأصله المصدر. وقال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة؛ وهو قولهم: وقع أمر بغتة وفجأة؛ قال النحاس: ومعنى « بغتة » إصابة من حيث لم يتوقع. « وهم لا يشعرون » وهو توكيد. وقوله: « بغتة » قال ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم ومواضعهم، كما قال: « تأخذهم وهم يخصمون » [ يس: 49 ] على ما يأتي.



الآية: 108 ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )



قوله تعالى: « قل هذه سبيلي » ابتداء وخبر؛ أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي؛ قاله ابن زيد. وقال الربيع: دعوتي، مقاتل: ديني، والمعنى واحد؛ أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة. « على بصيرة » أي على يقين وحق؛ ومنه: فلان مستبصر بهذا. « أنا » توكيد. « ومن اتبعني » عطف على المضمر. « وسبحان الله » أي قل يا محمد: « وسبحان الله » . « وما أنا من المشركين » الذين يتخذون من دون الله أندادا.



الآية: 109 ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون )



قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى » هذا رد على القائلين: « لولا أنزل عليه ملك » [ الأنعام: 8 ] أي أرسلنا رجالا ليس فيهم امرأة ولا جني ولا ملك؛ وهذا يرد ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن في النساء أربع نبيات حواء وآسية وأم موسى ومريم ) . وقد تقدم في « آل عمران » شيء من هذا. « من أهل القرى » يريد المدائن؛ ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو؛ ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط، ولا من النساء، ولا من الجن. وقال قتادة: « من أهل القرى » أي من أهل الأمصار؛ لأنهم أعلم وأحلم. وقال العلماء: من شرط الرسول أن يكون رجلا آدميا مدنيا؛ وإنما قالوا آدميا تحرزا؛ من قوله: « يعوذون برجال من الجن » [ الجن: 6 ] والله أعلم.



قوله تعالى: « أفلم يسيروا في الأرض فينظروا » إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا. « ولدار الآخرة خير » ابتداء وخبره. وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة؛ وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى؛ قال الشاعر:

ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين

أي عرفانا يقينا؛ واحتج الكسائي بقولهم: صلاة الأولى؛ واحتج الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال؛ لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرف به؛ والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى؛ وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة، وأول ما أظهر؛ فلذلك قيل لها أيضا الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين؛ والمراد بهذه الدار الجنة؛ أي هي خير للمتقين. وقرئ: « وللدار الآخرة » . وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم. « أفلا تعقلون » بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.



الآية: 110 ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين )



قوله تعالى: « حتى إذا استيأس الرسل » تقدم القراءة فيه ومعناه. « وظنوا أنهم قد كذبوا » وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف، عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. « حتى إذا استيأس الرسل » أي يئسوا من إيمان قومهم. « وظنوا أنهم قد كذبوا » بالتشديد؛ أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم. وقيل المعنى: حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم، لا أن القوم كذبوا، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم؛ أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك؛ فيكون « وظنوا » على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبدالرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف « كذبوا » بالتخفيف؛ أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم. وفي رواية عن ابن عباس؛ ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم. وقيل: لم تصح هذه الرواية؛ لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر؛ فكيف قال: « جاءكم نصرنا » ؟ ! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم؛ وفي الخبر: ( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ) . ويجوز أن يقال: قربوا من ذلك الظن؛ كقولك: بلغت المنزل، أي قربت منه.

وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال: كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا؛ ثم تلا: « حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله » [ البقرة: 214 ] . وقال الترمذي الحكيم: وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر، لا من تهمة لوعد الله، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت، حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم؛ فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه. وقال المهدوي عن ابن عباس: ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر؛ واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام: « رب أرني كيف تحيى الموتى » [ البقرة: 260 ] الآية. والقراءة الأولى أولى. وقرأ مجاهد وحميد - « قد كذبوا » بفتح الكاف والذال مخففا؛ على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب. ويجوز أن يكون المعنى: ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا. وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل: « حتى إذا استيأس الرسل » قال قلت: أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أجل! لعمري! لقد استيقنوا بذلك؛ فقلت لها: « وظنوا أنهم قد كذبوا » قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك. وفي قوله تعالى: « جاءهم نصرنا » قولان: أحدهما: جاء الرسل نصر الله؛ قال مجاهد. الثاني: جاء قومهم عذاب الله؛ قاله ابن عباس. « فننجي من نشاء » قيل: الأنبياء ومن آمن معهم. وروي عن عاصم « فنجي من نشاء » بنون واحدة مفتوحة الياء، و « من » في موضع رفع، اسم ما لم يسم فاعله؛ واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة. وقرأ ابن محيصن « فنجا » فعل ماض، و « من » في موضع رفع لأنه الفاعل، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول. « ولا يرد بأسنا » أي عذابنا. « عن القوم المجرمين » أي الكافرين المشركين.



الآية: 111 ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )



قوله تعالى: « لقد كان في قصصهم عبرة » أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته، أو في قصص الأمم. « عبرة » أي فكرة وتذكرة وعظة. « لأولي الألباب » أي العقول. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: إن يعقوب عاش مائة سنة وسبعا وأربعين سنة، وتوفي أخوه عيصو معه في يوم واحد، وقبرا في قبر واحد؛ فذلك قوله: « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » إلى آخر السورة. « ما كان حديثا يفترى » أي ما كان القرآن حديثا يفترى، أو ما كانت هذه القصة حديثا يفترى. « ولكن تصديق الذي بين يديه » أي ولكن كان تصديق، ويجوز الرفع بمعنى لكن هو تصديق الذي بين يديه أي ما كان قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى؛ وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. « وتفصيل كل شيء » مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والشرائع والأحكام. « وهدى ورحمة لقوم يؤمنون » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 09, 2013 3:37 am

تفسير سورة الرعد للقرطبى
===========


مقدمة السورة

سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا آيتين منها نزلتا بمكة؛ وهما قوله عز وجل: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » [ الرعد: 31 ] [ إلى آخرهما ] .



الآية: 1 ( المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )


قوله تعالى: « المر تلك آيات الكتاب » تقدم القول فيها. « والذي أنزل إليك » يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك. « من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون » لا كما يقول المشركون: إنك تأتي به من تلقاء نفسك؛ فاعتصم به، وأعمل بما فيه. قال مقاتل: نزلت حين قال المشركون: إن محمدا أتى بالقرآن من تلقاء نفسه. « والذي » في موضع رفع عطفا على « آيات » أو على الابتداء، و « الحق » خبره؛ ويجوز أن يكون موضعه جرا على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، وارتفاع « الحق » على هذا على إضمار مبتدأ، تقديره: ذلك الحق؛ كقوله تعالى: « وهم يعلمون الحق » [ البقرة:146 - 147 ] يعني ذلك الحق. قال الفراء: وإن شئت جعلت « الذي » خفضا نعتا للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما يقال: أتانا هذا الكتاب عن أبي حفص والفاروق؛ ومنه قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليت الكتيبة في المزدحم

يريد: إلى الملك القرم بن الهمام، ليث الكتيبة. « ولكن أكثر الناس لا يؤمنون »



الآية: 2 ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون )


قوله تعالى: « الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها » الآية. لما بين تعالى أن القرآن حق، بين أن من أنزل قادر على الكمال؛ فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته؛ وقد تقدم هذا المعنى. وفي قوله: « بغير عمد ترونها » قولان: أحدهما: أنها مرفوعة بغير عمد ترونها؛ قاله قتادة وإياس بن معاوية وغيرهما. الثاني: لها عمد، ولكنا لا نراه؛ قال ابن عباس: لها عمد على جبل قاف؛ ويمكن أن يقال على هذا القول: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، وهي غير مرئية لنا؛ ذكره الزجاج. وقال ابن عباس أيضا: هي توحيد المؤمن. أعمدت السماء حين كادت تنفطر من كفر الكافر؛ ذكره الغزنوي. والعمد جمع عمود؛ قال النابغة:

وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد



قوله تعالى: « ثم استوى على العرش » تقدم الكلام فيه. « وسخر الشمس والقمر » أي ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده؛ وكل مخلوق مذلل للخالق. « كل يجري لأجل مسمى » أي إلى وقت معلوم؛ وهو فناء الدنيا، وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم، وتنتثر الكواكب. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها. وقيل: معنى الأجل المسمى أن القمر يقطع فلكه في شهر، والشمس في سنة. « يدبر الأمر » أي يصرفه على ما يريد. « يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون » « يفصل الآيات » أي يبينها أي من قدر على هذه الأشياء يقدر على الإعادة؛ ولهذا قال: « لعلكم بلقاء ربكم توقنون » .


الآية: 3 ( وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )


قوله تعالى: « وهو الذي مد الأرض » لما بين آيات السماوات بين آيات الأرض؛ أي بسط الأرض طولا وعرضا. « وجعل فيها رواسي » أي جبالا ثوابت؛ واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت؛ والإرساء الثبوت؛ قال عنترة:

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسوا إذا نفس الجبان تطلع

وقال جميل:

أحبها والذي أرسى قواعده حبا إذا ظهرت آياته بطنا

وقال ابن عباس وعطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس.

مسألة: في هذه الآية رد على من زعم أن الأرض كالكرة، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبوابها عليها؛ وزعم ابن الراوندي أن تحت الأرض جسما صعادا كالريح الصعادة؛ وهي منحدرة فاعتدل الهاوي والصعادي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون أن الأرض مركب من جسمين، أحدهما منحدر، والآخر مصعد، فاعتدلا، فلذلك وقفت. والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها. وقوله تعالى: « وأنهارا » أي مياها جارية في الأرض، فيها منافع الخلق. « ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين » بمعنى صنفين. قال أبو عبيدة: الزوج واحد، ويكون اثنين. الفراء: يعني بالزوجين ها هنا الذكر والأنثى؛ وهذا خلاف النص. وقيل: معنى « زوجين » نوعان، كالحلو والحامض، والرطب واليابس، والأبيض والأسود، والصغير والكبير. « إن في ذلك لآيات » أي دلالات وعلامات « لقوم يتفكرون »



الآية: 4 ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )


قوله تعالى: « وفي الأرض قطع متجاورات » « وفي الأرض قطع متجاورات » في الكلام حذف؛ المعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات؛ كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » والمعنى: وتقيكم البرد، ثم حذف لعلم السامع. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير متجاورات الصحارى وما كان غير عامر. « متجاورات » أي قرى متدانيات، ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زروع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار والتمر؛ فيكون البعض حلوا، والبعض حامضا؛ والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد؛ وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته؛ فإنه نبه سبحانه بقوله: « تسقى بماء واحد » على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته؛ وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع؛ إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع؛ فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما؛ وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته؛ جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.


ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع؛ وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار، وقد أقروا بحدوثها، وأنكروا محدثها، وأنكروا الأعراض. وقالت فرقة: بحدوث الثمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلا؛ والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر؛ فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه؛ وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده؛ واستيفاء هذا في علم الكلام.


قوله تعالى: « وجناتٌ من أعناب » قرأ الحسن « وجناتٍ » بكسر التاء، على التقدير: وجعل فيها جنات، فهو محمول على قوله: « وجعل فيها رواسي » . ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على « كل » التقدير: ومن كل الثمرات، ومن جنات. الباقون « جنات » بالرفع على تقدير: وبينهما جنات. « وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان » بالرفع. ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات؛ أي على تقدير: وفي الأرض زرع ونخيل. وخفضها الباقون نسقا على الأعناب؛ فيكون الزرع والنخيل من الجنات؛ ويجوز أن يكون معطوفا على « كل » حسب ما تقدم في « وجنات » . وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما « صنوان » بضم الصاد، الباقون بالكسر؛ وهما لغتان؛ وهما جمع صنو، وهي النخلات والنخلتان، يجمعهن أصل واحد، وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا؛ نظيرها قنوان، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق؛ النحاس: وكذلك هو في اللغة؛ يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عم الرجل صنو أبيه ) . ولا فرق فيها بين التثنية والجمع ولا بالإعراب؛ فتعرب نون الجمع، وتكسر نون التثنية؛ قال الشاعر:

العلم والحلم خلتا كرم للمرء زين هما اجتمعا

صنوان لا يستتم حسنهما إلا بجمع ذا وذاك معا



قوله تعالى: « يسقى بماء واحد » كصالح بني آدم وخبيثهم؛ أبوهم واحد؛ قاله النحاس والبخاري. وقرأ عاصم وابن عامر: « يسقى » بالياء، أي يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالتاء، لقوله: « جنات » واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة؛ قال أبو عمرو: والتأنيث أحسن؛ « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » ولم يقل بعضه. وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما « ويُفَضِّل » بالياء ردا على قوله: « يدبر الأمر » [ الرعد: 2 ] و « يفصل » [ الرعد: 2 ] و « يغشي » [ الرعد:3 ] الباقون بالنون على معنى: ونحن نفضل. وروى جابر بن عبدالله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه: ( الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « وفي الأرض قطع متجاورات » حتى بلغ قوله: « يسقى بماء واحد » ) و « الأكل » الثمر. قال ابن عباس: يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: « ونفضل بعضها على بعض في الأكل » قال: الفارسي والدقل والحلو والحامض ) ذكره الثعلبي. قال الحسن: المراد بهذه الآية المثل؛ ضربه الله تعالى لبني آدم، أصلهم واحد، وهم مختلفون في الخير والشر. والإيمان والكفر، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد؛ ومنه قول الشاعر:

الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجر الصندل والكافور والبان

ومنها شجر ينضج طول الدهر قطران

« إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى.



الآية: 5 ( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )


قوله تعالى: « وإن تعجب فعجب قولهم » أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث؛ والله تعالى لا يتعجب، ولا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. وقيل المعنى: أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء. وقيل: الآية في منكري الصانع؛ أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب؛ ونظم الآية يدل على الأول والثاني؛ لقوله: « أئذا كنا ترابا » أي انبعث إذا كنا ترابا؟ !. « أئنا لفي خلق جديد » وقرئ « إنا » . و « الأغلال » جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون يوم القيامة؛ بدليل قوله: « إذ الأغلال في أعناقهم » [ غافر: 71 ] إلى قوله: « ثم في النار يسجرون » [ غافر: 72 ] . وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 10, 2013 2:34 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الرعد
=============



الآية: 6 ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب )



قوله تعالى: « ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة » أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] . قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقيل: « قبل الحسنة » أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. « وقد خلت من قبلهم المثلات » العقوبات؛ الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مثلة، ويجوز « المثلات » تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه الله. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء.



قوله تعالى: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم » . « وإن ربك لشديد العقاب » إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحداً عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد ) .



الآية: 7 ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد )



قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لولا » أي هلا « أنزل عليه آية من ربه » . لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: « إنما أنت منذر » أي معلم. « ولكل قوم هاد » أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله؛ أي عليك الإنذار، والله هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم.



الآيتان: 8 - 9 ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال )



قوله تعالى: « الله يعلم ما تحمل كل أنثى » أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة « الأنعام » أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتيح الغيب خمس ) الحديث. وفيه ( لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ) . واختلف العلماء في تأويل قوله: « وما تغيض الأرحام وما تزداد » فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه. وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها. وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. « وما تزداد » بدم النفاس بعد الوضع.



في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه. حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر: الله أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، والله أعلم. واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض.



في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية.



واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبدالحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!؛ فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. وقال عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش.



قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن.



قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!.



قوله تعالى: « وكل شيء عنده بمقدار » يعني من النقصان والزيادة. ويقال: « بمقدار » قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم.

قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه « عالم الغيب والشهادة » أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و « الكبير » الذي كل شيء دونه. « المتعال » عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله.



الآية: 10 ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )



قوله تعالى: « سواء منكم من أسر القول ومن جهر به » إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و « منكم » يحتمل أن يكون وصفا لـ « سواء » التقدير: سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق « بسواء » على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل: « سواء » أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. « ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار » « بالنهار » أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس:

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس: « مستخف » مستتر، « وسارب » ظاهر. مجاهد: « مستخف » بالمعاصي، « وسارب » ظاهر. وقيل: معنى « سارب » ذاهب؛ قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر:

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيدة فهو سارب

أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر:

أني سربت وكنت غير سروب

وقال القتبي: « سارب بالنهار » أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه.



الآية: 11 ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )



قوله تعالى: « له معقبات » قوله تعالى: « له معقبات » أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: « معقبات » والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - « له معاقيب من بين يديه ومن خلفه » . ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى: « ولى مدبرا ولم يعقب » [ النمل: 10 ] أي لم يرجع؛ وفي الحديث: ( معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن ) فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين « معقبات » لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: « من بين يديه ومن خلفه » أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار.



قوله تعالى: « يحفظونه من أمر الله » اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، « يحفظونه من أمر الله » أي بأمر الله وبإذنه؛ فـ « من » بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: « من » بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل: « أطعمهم من جوع » [ قريش: 4 ] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجن؛ قال كعب: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر الله؛ وخصهم بأن قال: « من أمر الله » لأنهم غير معاينين؛ كما قال: « قل الروح من أمر ربي » [ الإسراء: 85 ] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أم الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه. وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير. وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله؛ فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في « له » لله عز وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول.

وقيل: « له معقبات من بين يديه ومن خلفه » يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله: « لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر » [ الرعد: 7 ] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال: « ولكل قوم هاد » [ الرعد: 7 ] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع: أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا؛ قال ابن عباس وعكرمة؛ وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ؛ قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب؛ وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة؛ فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه؛ فقوله: « يحفظونه من أمر الله » أي من امتثال أمر الله. وقال عبدالرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: « يحفظونه من أمر الله » وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك. الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر؛ - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه؛ والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) الحديث، رواه الأئمة.

وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - « معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه » فهذا قد بين المعنى. وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى « له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله » وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قاسم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل ) . ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم؛ والهاء في « له » لهن؛ على ما تقدم. وقال العلماء رضوان الله عليهم: إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه بصاحبه؛ فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ.



قوله تعالى: « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: وقد ( سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ) . والله أعلم.



قوله تعالى: « وإذا أراد الله بقوم سوءا » أي هلاكا وعذابا، « فلا مرد له » وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وله: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. « وما لهم من دونه من وال » أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر:

ما في السماء سوى الرحمن من وال

ووال وولي كقادر وقدير.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 11, 2013 5:08 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الرعد
=============



الآيتان: 12 - 13 ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال )


قوله تعالى: « هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال » أي بالمطر. « السحاب » جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. « ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته » قد مضى في « البقرة » القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى: « أذى من مطر » [ النساء: 102 ] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. « وينشئ السحاب الثقال » قال مجاهد: أي بالماء. « ويسبح الرعد بحمده » من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: « والملائكة من خيفته » فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. « من خيفته » من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبدالله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله.



قوله تعالى: « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: ( كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ) . ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: ( أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: ( دعه فإن يرد الله به خيرا يهده ) فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: ( لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ) . قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ( ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء ) . قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: ( لا ) . قال: فما تجعل لي؟ قال: ( أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله ) . قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: ( يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ) يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره ) . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال:

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد

أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد

فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد

وفيه قال:

إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب

يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب

وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه.

مسألة: روى أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل ) . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته ) . وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟ وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » .



قوله تعالى: « وهم يجادلون في الله » يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، « وهم يجادلون في الله » حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل: « وهم يجادلون في الله » « وهو شديد المحال » قال ابن الأعرابي: « المحال » المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد « وهو شديد المحال » أي النقمة. وقال الأزهري: « المحال » أي القوة والشدة. والمحل: الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: « المحال » العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: « المحال » الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ « وهو شديد الَمحال » بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة؛ وأنشد للأعشى:

فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد كثير الندى شديد المحال

وقال آخر:

ولبس بن أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا

وقال عبدالمطلب:

لا هم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك



الآية: 14 ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )


قوله تعالى: « له دعوة الحق » أي لله دعوة الصدق. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: لا إله إلا الله. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: إن الإخلاص في الدعاء هو دعوة الحق؛ قال بعض المتأخرين. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف؛ فإنه لا يدعى فيه إلا إياه. كما قال: « ضل من تدعون إلا إياه » [ الإسراء: 67 ] ؛ قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية؛ لأنه قال: « والذين يدعون من دونه » يعني الأصنام والأوثان. « لا يستجيبون لهم بشيء » أي لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. « إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه » ضرب الله عز وجل الماء مثلا ليأسهم من الإجابة لدعائهم؛ لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد؛ قال:

فأصبحت فيما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد

وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه؛ قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ههنا البئر؛ لأنها معدن للماء، وأن المثل كمن مد يده إلى البئر بغير رشاء؛ وشاهده قول الشاعر:

فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويت

قال علي رضي الله عنه: هو كالعطشان على شفة البئر، فلا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه، ومعنى « إلا كباسط » إلا كاستجابة باسط كفيه « إلى الماء » فالمصدر مضاف إلى الباسط، ثم حذف المضاف؛ وفاعل المصدر المضاف مراد في المعنى وهو الماء؛ والمعنى: إلا كإجابة باسط كفيه إلى الماء؛ واللام في قوله: « ليبلغ فاه » متعلقة بالبسط، وقوله: « وما هو ببالغه » كناية عن الماء؛ أي وما الماء ببالغ فاه. ويجوز أن يكون « هو » كناية عن الفم؛ أي ما الفم ببالغ الماء. « وما دعاء الكافرين إلا في ضلال » أي ليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، لأنها شرك، وقيل: إلا في ضلال أي يضل عنهم ذلك الدعاء، فلا يجدون منه سبيلا؛ كما قال: « أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا » [ الأعراف: 37 ] وقال ابن عباس: أي أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاءهم.



الآية: 15 ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال )


قوله تعالى: « ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها » قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفه الإيمان. وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة. وقال ابن زيد: « طوعا » من دخل في الإسلام رغبة، و « كرها » من دخل فيه رهبة بالسيف. وقيل: « طوعا » من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و « كرها » من يكره نفسه لله تعالى؛ فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى « والأرض » وبعض من في الأرض. قال القشري: وفي الآية مسلكان: أحدهما: أنها عامة والمراد بها التخصيص؛ فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين؛ فالآية محمولة على هؤلاء، ذكره الفراء. وقيل على هذا القول: الآية في المؤمنين؛ منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه. والمسلك الثاني: وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم؛ وعلى هذا طريقان: أحدهما: أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به. والثاني: وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع؛ وهذا كقوله: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » [ الإسراء: 44 ] وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة.


قوله تعالى: « وظلالهم بالغدو والآصال » أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال؛ لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية؛ وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء؛ وهو كقوله تعالى: « أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون » [ النحل: 48 ] قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع؛ وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره. وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت. قال القشيري: في هذا نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل؛ فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب؛ يقال: سجدت النخلة أي مالت. و « الآصال » جمع أصل، والأصل جمع أصيل؛ وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع؛ قال أبو ذؤيب الهذلي:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل

و « ظلالهم » يجوز أن يكون معطوفا على « من » ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و « بالغدو » يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة؛ يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به.



الآية: 16 ( قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار )


قوله تعالى: « قل من رب السماوات والأرض قل الله » أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: « قل من رب السماوات والأرض » ثم أمره أن يقول لهم: هو الله إلزاما للحجة إن لم يقولوا ذلك، وجهلوا من هو. « قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا » هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: « قل أفاتخذتم من دونه أولياء » معنى؛ دليله قوله: « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله » [ الزمر: 38 ] أي فإذا اعترفتم فلم تعبدون غيره؟،! وذلك الغير لا ينفع ولا يضر؛ وهو إلزام صحيح. ثم ضرب لهم مثلا فقال: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق، والمشرك الذي لا يبصر الحق. وقيل: الأعمى مثل لما عبدوه من دون الله، والبصير مثل الله تعالى: « أم هل تستوي الظلمات والنور » أي الشرك والإيمان. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر والأعمش وحمزة والكسائي « يسوي » بالياء لتقدم الفعل؛ ولأن تأنيث « الظلمات » ليس بحقيقي. الباقون بالتاء؛ واختاره أبو عبيد، قال: لأنه لم يحل بين المؤنث والفعل حائل. و « الظلمات والنور » مثل الإيمان والكفر؛ ونحن لا نقف على كيفية ذلك. « أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم » هذا من تمام الاحتجاج؛ أي خلق غير الله مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم. « قل الله خالق كل شيء » أي قل لهم يا محمد: « الله خالق كل شيء » ، فلزم لذلك أن يعبده كل شيء. والآية رد على المشركين والقدرية الذين زعموا أنهم خلقوا كما خلق الله. « وهو الواحد » قبل كل شيء. « القهار » الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد. قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع؛ أي سلهم عن خالق السماوات والأرض، فإنه يسهل تقرير الحجة فيه عليهم، ويقرب الأمر من الضرورة؛ فإن عجز الجماد وعجز كل مخلوق عن خلق السماوات والأرض معلوم، وإذا تقرر هذا وبان أن الصانع هو الله فكيف يجوز اعتداد الشريك له؟ ! وبين في أثناء الكلام أنه لو كان للعالم صانعان لاشتبه الخلق، ولم يتميز فعل هذا عن فعل ذلك، فبم يعلم أن الفعل من اثنين؟ !.



الآية: 17 ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )


قوله تعالى: « أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا » ضرب مثلا للحق والباطل؛ فشبه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، عله، ما نبينه. قال مجاهد: « فسالت أودية بقدرها » قال: بقدر ملئها. وقال ابن جريج: بقدر صغرها وكبرها. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن « بقدرها » بسكون الدال، والمعنى واحد. وقيل: معناها بما قدر لها. والأودية. جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. وقال أبو علي: « فسالت أودية » توسع؛ أي سال ماؤها فحذف، قال: ومعنى « بقدرها » بقدر مياهها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. « فاحتمل السيل زبدا رابيا » أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء؛ وتم الكلام؛ قال مجاهد. ثم قال: « ومما يوقدون عليه في النار » وهو المثل الثاني. « ابتغاء حلية » أي حلية الذهب والفضة. « أو متاع زبد مثله » قال مجاهد: الحديد والنحاس والرصاص. وقوله: « زبد مثله » أي يعلو هذه الأشياء زبد كما يعلو السيل؛ وإنما احتمل السيل الزبد لأن الماء خالطه تراب الأرض فصار ذلك زبدا، كذلك ما يوقد عليه في النار من الجوهر ومن الذهب والفضة مما ينبث في الأرض من المعادن فقد خالطه التراب؛ فإنما يوقد عليه ليذوب فيزايله تراب الأرض. وقوله: « كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء » قال مجاهد: جمودا. وقال أبو عبيدة قال أبو عمرو بن العلاء: أجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها. والجفاء ما أجفاه الوادي أي رمى به. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ « جفالا » قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. « وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض » قال مجاهد: هو الماء الخالص الصافي. وقيل: الماء وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص؛ وهو أن المثلين ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد. والخبث. وقيل: المراد مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: « أنزل من الماء ماء » قال: قرآنا، « فسالت أودية بقدرها » قال: الأودية قلوب العباد. قال صاحب « سوق العروس » إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي، ومثل المتشابه بالزبد. وقيل: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك ترتفع من حيث ما فيها فتضطرب من سلطان تلعها، كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع ما يجد في الوادي باقيا، وأما حلية الذهب والفضة فمثل الأحوال النية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما قيمة الأشياء. وقرأ جحيد وابن محيصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، « يوقدون » بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله: « ينفع الناس » فأخبر، ولا مخاطبة هاهنا. الباقون بالتاء لقوله في أول الكلام: « أفاتخذتم من دونه أولياء » [ الرعد: 16 ] الآية. وقوله: « في النار » متعلق بمحذوف، وهو في موضع الحال، وذو الحال الهاء التي في « عليه » التقدير: ومما توقدون عليه ثابتا في النار أو كامئا. وفي قوله: « في النار » ضمير مرفوع يعود إلى الهاء التي هي اسم ذي الحال ولا يستقيم أن يتعلق « في النار » بـ « يوقدون » من حيث لا يستقيم أوقدت عليه في النار؛ لأن الموقد عليه يكون في النار، فيصير قوله: « في النار » غير مقيد. وقوله: « ابتغاء حلية » مفعول له. « زبد مثله » ابتداء وخبر؛ أي زبد مثل زبد السيل. وقيل: إن خبر « زبد » قوله: « في النار » الكسائي: « زبد » ابتداء، و « مثله » نعت له، والخبر في الجملة التي قبله، وهو « مما يوقدون » . « كذلك يضرب الله الأمثال » أي كما بين لكم هذه الأمثال فكذلك يضربها بينات. تم الكلام.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 12, 2013 5:16 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الرعد
=============



الآية: 18 ( للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد )


قوله تعالى: « للذين استجابوا لربهم » أي أجابوا؛ واستجاب بمعنى أجاب؛ قال:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقد تقدم؛ أي أجاب إلى ما دعاه الله من التوحيد والنبوات. « الحسنى » لأنها في نهاية الحسن. وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدا. « والذين لم يستجيبوا » أي لم يجيبوا إلى الإيمان به. « لو أن لهم ما في الأرض جميعا » أي من الأموال. « ومثله معه » ملك لهم. « لافتدوا به » من عذاب يوم القيامة؛ نظيره في « آل عمران » « إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا » [ آل عمران: 10 ] ، « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به » [ آل عمران: 91 ] حسب ما تقدم بيانه هناك. « أولئك لهم سوء الحساب » أي لا يقبل لهم حسنة، ولا يتجاوز لهم عن سيئة. وقال فرقد السبخي قال لي إبراهيم النخعي: يا فرقد! أتدري ما سوء الحساب؟ قلت لا! قال أن يحاسب الرجل: بذنبه كله لا يفقد منه شيء. « ومأواهم جهنم » أي مسكنهم ومقامهم. « وبئس المهاد » أي الفراش الذي مهدوا لأنفسهم.



الآية: 19 ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب )


قوله تعالى: « أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى » هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وروي أنها نزلت في حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله. والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب. « إنما يتذكر أولو الألباب » .



الآية: 20 ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق )


قوله تعالى: « الذين يوفون بعهد الله » هذا من صفة ذوي الألباب، أي إنما يتذكر أولو الألباب الموفون بعهد الله. والعهد اسم الجنس؛ أي بجميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده؛ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: « ولا ينقضون الميثاق » يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي إذا عقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: تقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية؛ ويحتمل أن يشير إلى ميثاق بعينه، هو الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات.


روى أبو داود وغيره عن عوف بن مالك قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك حتى قالها ثلاثا؛ فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال: ( أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتصلوا الصلوات الخمس وتسمعوا وتطيعوا وأسر كلمة خفية - قال: لا تسألوا الناس شيئا ) . قال: ولقد كان بعضد، أولئك النفر يسقط - سوطه فما يسأل أحدا أن يناوله. إياه. قال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر ألا يسأل سواه؛ فقد كان أبو حمزة الخراساني من كبار العباد سمع أن أناسا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا أحدا شيئا، الحديث؛ فقال أبو حمزة: رب! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذ رأوه، وأنا أعاهدك ألا أسأل أحدا شيئا؛ قال: فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم، فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاشية الطريق؛ فلما حل في قعره قال: استغيث لعل أحدا يسمعني. ثم قال: إن الذي عاهدته يراني ويسمعني، والله! لا تكلمت بحرف للبشر، ثم لم يلبث إلا يسيرا إذ مر بذلك البئر نفر، فلما رأوه على حاشية الطريق قالوا: إنه لينبغي سد هذا البئر؛ ثم قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوها بالتراب؛ فلما رأى ذلك أبو حمزة قال: هذه مهلكة، ثم أراد أن يستغيث بهم، ثم قال: والله! لا أخرج منها أبدا؛ ثم رجع إلى نفسه فقال: أليس قد عاهدت من يراك؟ فسكت وتوكل، ثم استند في قعر البئر مفكرا في أمره، فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرفع عنه، وسمع في أثناء ذلك من يقول: هات يدك! قال: فأعطيته يدي فأقلني في مرة واحدة إلى فم البئر؛ فخرجت فلم أر أحدا؛ فسمعت هاتفا يقول: كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد:

نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى فأغنيتني بالعلم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف

تراءيت لي بالعلم حتى كأنما تخبرني بالغيب أنك في كف

أراني وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف

وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كيف الحياة مع الحتف

قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام والكمال، فاقتدوا به إن شاء الله تهتدوا. قال أبو الفرج الجوزي: سكوت هذا الرجل في هذا المقام على التوكل بزعمه إعانة على نفسه، وذلك لا يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه لا ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوكل بإخفائه الخروج من مكة، واستئجاره دليلا، واستكتامه ذلك الأمر، واستتاره في الغار، وقوله لسراقة: ( اخف عنا ) . فالتوكل الممدوح لا ينال بفعل محظور؛ وسكوت هذا الواقع في البئر محظور عليه، وبيان ذلك أن الله تعالى قد خلق للآدمي آلة يدفع عنه بها الضرر، وآلة يجتلب بها النفع، فإذا عطلها مدعيا للتوكل كان ذلك جهلا بالتوكل، وردا لحكمة التواضع؛ لأن التوكل إنما هو اعتماد القلب على الله تعالى، وليس من ضرورته قطع الأسباب؛ ولو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار؛ قاله سفيان الثوري وغيره، لأنه قد دل على طريقة السلامة، فإذا تقاعد عنها أعان على نفسه. وقال أبو الفرج: ولا التفات إلى قول أبي حمزة: « فجاء أسد فأخرجني » فإنه إن صح ذلك فقد يقع مثله اتفاقا وقد يكون لطفا من الله تعالى بالعبد الجاهل، ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به، إنما ينكر فعله الذي هو كسبه، وهو إعانته على نفسه التي هي وديعة لله تعالى عنده، وقد أمره بحفظها.



الآية: 21 ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب )


قوله تعالى: « والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل » ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. « ويخشون ربهم } قيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. » ويخافون سوء الحساب « سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة؛ ومن نوقش الحساب عذب. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: معنى. » يصلون ما أمر الله به « الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعا: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح؛ » ويخشون ربهم « فيما أمرهم بوصله، » ويخافون سوء الحساب « في تركه؛ والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا.»



الآية: 22 ( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار )


قوله تعالى: « والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم » قيل: « الذين » مستأنف؛ لأن « صبروا » ماض فلا ينعطف على « يوفون » وقيل.: هو من وصف من تقدم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل؛ لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا؛ ولما كان « الذين » يتضمن الشرط، والماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك؛ ولهذا قال: « الذين يوفون » ثم قال: « والذين صبروا » ثم عطف عليه فقال: « ويدرؤون بالحسنة السيئة » قال ابن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله « وأقاموا الصلاة » أدوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. « وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » يعني الزكاة المفروضة، عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في « البقرة » وغيرها. « ويدرؤون بالحسنة السيئة » أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال، قال ابن عباس. ابن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جويبر: يدفعون الظلم بالعفو. ابن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القتبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم؛ فالسفه السيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم؛ ونظيره: « إن الحسنات يذهبن السيئات » [ هود: 114 ] ومنه قول عليه السلام لمعاذ: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . قوله تعالى: « أولئك لهم عقبى الدار » أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غدا داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي؛ فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عني بالدار دار الدنيا؛ أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا.



الآيتان: 23 - 24 ( جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )


قوله تعالى: « جنات عدن يدخلونها » أي لهم جنات عدن؛ فـ « جنات عدن » بدل من « عقبي » ويجوز أن تكون تفسيرا لـ « عقبى الدار » أي لهم دخول جنات عدن؛ لأن « عقبى الدار » حدث و « جنات عدن » عين، والحدث إنما يفسر بحدث مثله؛ فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول. ويجوز أن يكون « جنات عدن » خبر ابتداء محذوف. و « جنات عدن » وسط الجنة وقصبتها، وسقفها عرش الرحمن؛ قال القشيري أبو نصر عبدالملك. وفي صحيح البخاري: ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) فيحتمل أن يكون « جنات » كذلك إن صح فذلك خبر. وقال عبدالله بن عمرو: إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج؛ فيه ألف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. و « عدن » مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام فيه؛ على ما يأتي بيانه في سورة « الكهف » إن شاء الله تعالى. « ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم » يجوز أن يكون معطوفا على « أولئك » المعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في « يدخلونها » وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما. ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها ويدخلها من صلح من آبائهم، أي من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب. ويجوز أن يكون موضع « من » نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، وإن لم يعمل مثل أعمالهم يلحقه الله بهم كرامة لهم. وقال ابن عباس: هذا الصلاح الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من الإيمان، فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان. فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى: أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة، وإن دخلها كل إنسان بعمل نفسه؛ بل برحمة الله تعالى.


قوله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب » أي بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم. « سلام عليكم » أي يقولون: سلام عليكم؛ فأضمر القول، أي قد سلمتم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاء لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي سلمكم الله، فهو خبر معناه الدعاء؛ ويتضمن الاعتراف بالعبودية. « بما صبرتم » أي بصبركم؛ فـ « ما » مع الفعل بمعنى المصدر، والباء في « بما » متعلقة بمعنى. « سلام عليكم » ويجوز أن تتعلق بمحذوف؛ أي هذه الكرامة بصبركم، أي على أمر الله تعالى ونهيه؛ قال سعيد بن جبير. وقيل: على الفقر في الدنيا؛ قاله أبو عمران الجوني. وقيل: على الجهاد في سبيل الله؛ كما روي عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل تدرون من يدخل الجنة من خلق الله ) ؟ قالوا: الله ورسول أعلم؛ قال: ( المجاهدون الذين تسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . وقال محمد بن إبراهيم: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان؛ وذكره البيهقي عن أبي هريرة قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبي بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله. وقال الحسن البصري رحمه الله: « بما صبرتم » عن فضول الدنيا. وقيل: « بما صبرتم » على ملازمة الطاعة، ومفارقة المعصية؛ قال معناه الفضيل بن عياض. ابن زيد: « بما صبرتم » عما تحبونه إذا فقدتموه. ويحتمل سابعا - « بما صبرتم » عن اتباع الشهوات. وعن عبدالله بن سلام وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم أهل الصبر؛ فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ قالوا: قبل الحساب؟ قالوا نعم! فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا. قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وقال ابن سلام: فتقول لهم الملائكة: « سلام عليكم بما صبرتم » . « فنعم عقبى الدار » أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها؛ عملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه؛ فالعقبى على هذا اسم، و « الدار » هي الدنيا. وقال أبو عمران الجوني: « فنعم عقبى الدار » الجنة عن النار. وعنه: « فنعم عقبى الدار » الجنة عن الدنيا.



الآية: 25 ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار )



قوله تعالى: « والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه » لما ذكر الموفين بعهده، والمواصلين لأمره، وذكر ما لهم ذكر عكسهم. نقض الميثاق: ترك أمره. وقيل: إهمال عقولهم، فلا يتدبرون بها ليعرفوا الله تعالى. « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » أي من الأرحام. والإيمان بجميع الأنبياء. « ويفسدون في الأرض » أي بالكفر وارتكاب المعاصي « أولئك لهم اللعنة » أي الطرد والإبعاد من الرحمة. « ولهم سوء الدار » أي سوء المنقلب، وهو جهنم. وقال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلا هو ! إنهم الحرورية.



الآية: 26 ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع )



قوله تعالى: « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » لما ذكر عاقبة المؤمن وعاقبة المشرك بين أنه تعالى الذي يبسط الرزق ويقدر في الدنيا، لأنها دار امتحان؛ فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته، والتقتير على بعض المؤمنين لا يدل على إهانتهم. « ويقدر » أي يضيق؛ ومنه « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. وقيل: « يقدر » يعطي بقدر الكفاية. « وفرحوا بالحياة الدنيا » يعني مشركي مكة؛ فرحوا بالدنيا ولم يعرفوا غيرها، وجهلوا ما عند الله؛ وهو معطوف على « ويفسدون في الأرض » . وفي الآية تقديم وتأخير؛ التقدير: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا. « وما الحياة الدنيا في الآخرة » أي في جنبها. « إلا متاع » أي متاع من الأمتعة، كالقصعة والسكرجة. وقال مجاهد: شيء قليل ذاهب؛ من متع النهار إذا ارتفع؛ فلا بد له من زوال. ابن عباس: زاد كزاد الراعي. وقيل: متاع الحياة الدنيا ما يستمتع بها منها. وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة، من التقوى والعمل الصالح، « ولهم سوء الدار » ثم ابتدأ. « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » أي يوسع ويضيق.



الآية: 27 ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب )



قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه » بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق، والقائل، عبدالله بن أبي أمية وأصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات. « قل إن الله يضل من يشاء » عز وجل « يضل من يشاء » أي كما أضلكم بعد ما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها يضلكم عند نزول غيرها. « ويهدي إليه من أناب » أي من رجع. والهاء في « إليه » للحق، أو للإسلام، أو لله عز وجل؛ على تقدير: ويهدي إلى دينه وطاعته من رجع إليه بقلبه. وقيل: هي للنبي صلى الله عليه وسلم.



الآية: 28 ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )



قوله تعالى: « الذين آمنوا » « الذين » في موضع نصب، لأنه مفعول؛ أي يهدي الله الذين أمنوا. وقيل بدل من قوله: « من أناب » فهو في محل نصب أيضا. « وتطمئن قلوبهم بذكر الله » أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن؛ قال: أي وهم تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله بألسنتهم؛ قال قتادة: وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: بالقرآن. وقال سفيان بن عيينة: بأمره. مقاتل: بوعده. ابن عباس: بالحلف باسمه، أو تطمئن بذكر فضله وإنعامه؛ كما تَْوجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه. وقيل: « يذكر الله » أي يذكرون الله ويتأملون آياته فيعرفون كمال قدرته عن بصيرة.



قوله تعالى: « ألا بذكر الله تطمئن القلوب » أي قلوب المؤمنين. قال ابن عباس: هذا في الحلف؛ فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه. وقيل: « بذكر الله » أي بطاعة الله. وقيل: بثواب الله. وقيل: بوعد الله. وقال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.



الآية: 29 ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب )



قوله تعالى: « الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم » ابتداء وخبره. وقيل: معناه لهم طوبى، فـ « طوبى » رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير: جعل لهم طوبى، ويعطف عليه « وحسن مآب » على الوجهين المذكورين، فترفع أو تنصب. وذكر عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن عبدالسلمي قال: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال: فيها فاكهة؟ قال: ( نعم شجرة تدعى طوبى ) قال: يا رسول الله! أي شجر أرضنا تشبه؟ قال ( لا تشبه شيئا من شجر أرضك أأتيت الشام هناك شجرة تدعي الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها ) . قال: يا رسول الله! فما عظم أصلها! قال: ( لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما ) . وذكر الحديث، وقد كتبناه بكمال في أبواب الجنة من كتاب « التذكرة » ، والحمد لله. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبدالله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها طوبى؛ يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما شاء؛ فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء، وعن النجائب والثياب. وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال: « طوبى » شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، ولا ثمرة إلا هي منها؛ وقد قيل: إن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا. وقال ابن عباس: « طوبى لهم » فرح لهم وقرة عين؛ وعنه أيضا أن « طوبى » اسم الجنة بالحبشية؛ وقال سعيد بن جبير. الربيع بن أنس: هو البستان بلغة الهند؛ قال القشيري: إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين. وقال قتادة: « طوبى لهم » حسنى لهم. عكرمة: نعمى لهم. إبراهيم النخعي: خير لهم، وعنه أيضا كرامة من الله لهم. الضحاك: غبطة لهم. النحاس: وهذه الأقوال متقاربة؛ لأن طوبى فعلى من الطيب؛ أي العيش الطيب لهم؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب. وقال الزجاج: طوبى فعلى من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم؛ والأصل طيبي، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها، كما قالوا: موسر وموقن.

قلت: والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع الذي ذكرناه، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي؛ ذكره أبو عمر في التمهيد، ومنه نقلناه؛ وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره؛ وذكر أيضا المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة ) ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي. وقال ابن عباس: « طوبى » شجرة في الجنة أصلها في دار علي، وفي دار كل مؤمن منها غصن. وقال أبو جعفر محمد بن علي: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « طوبى لهم وحسن مآب » قال: ( شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: ( شجرة أصلها في دار على وفروعها في الجنة ) . فقيل له: يا رسول الله! سئلت عنها فقلت: ( أصلها في داري وفروعها في الجنة ) ثم سئلت عنها فقلت: ( أصلها في دار علي وفروعها في الجنة ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد ) وعنه صلى الله عليه وسلم: ( هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها ) « وحسن مآب » آب إذا رجح. وقيل: تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم.



الآية: 30 ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب )



قوله تعالى: « كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم » أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك؛ قاله الحسن. وقيل: شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد عليه السلام بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله. « لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك » يعني القرآن. « وهم يكفرون بالرحمن » قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ اكتب باسمك اللهم، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ( اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ) فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: دعنا نقاتلهم؛ فقال: ( لا ولكن اكتب ما يريدون ) فنزلت. وقال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( اسجدوا للرحمن ) [ الفرقان: 60 ] « قالوا وما الرحمن » فنزلت. « قل » لهم يا محمد: الذي أنكرتم. « هو ربي لا إله إلا هو » ولا معبود سواه؛ هو واحد بذاته؛ وإن اختلفت أسماء صفاته. « عليه توكلت » واعتمدت ووثقت. « وإليه متاب » أي مرجعي غدا، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت، رضا بقضائه، وتسليما لأمره. وقيل: سمع أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: ( يا الله يا رحمن ) فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين؛ فنزلت هذه الآية، ونزل. « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن » [ الإسراء: 110 ] .



الآية: 31 ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد )



قوله تعالى: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » هذا متصل بقوله: « لولا أنزل عليه آية من ربه » [ يونس: 20 ] . وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم؛ فقال له عبدالله: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح؛ فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، حتى نغرس ونزرع؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا؛ فقد كان سليمان سحرت له الريح كما زعمت؛ فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصيا جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله؛ أحق ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأهون على الله منه؛ فأنزل الله تعالى: « ولو أن قرآنا سيرت به الجبال » الآية؛ قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك؛ والجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازا، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه؛ كما قال امرؤ القيس:

فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا

يعني لهان علي؛ هذا معنى قول قتادة؛ قال: لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزجاج: « ولو أن قرآنا » إلى قوله: « الموتى » لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله: « ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة » [ الأنعام: 111 ] إلى قوله: « ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله » [ الأنعام: 111 ] . « بل لله الأمر جميعا » أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله.



قوله تعالى: « أفلم ييئس الذين آمنوا » قال الفراء قال الكلبي: « ييأس » بمعنى يعلم، لغة النخع؛ وحكاه القشيري عن ابن عباس؛ أي أفلم يعلموا؛ وقاله الجوهري في الصحاح. وقيل: هو لغة هوازن؛ أي أفلم يعلم؛ عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

ييسرونني من الميسر، وقد تقدم في « البقرة » ويروى يأسرونني من الأسر. وقال رباح بن عدي:

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

في كتاب الرد « أني أنا ابنه » وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم؛ والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات. وقيل: هو من اليأس المعروف؛ أي أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار. وقرأ علي وابن عباس: « أفلم يتبين الذين آمنوا » من البيان. قال القشيري: وقيل لابن عباس المكتوب « أفلم ييئس » قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس؛ أي زاد بعض الحروف حتى صار « ييئس » . قال أبو بكر الأنباري: روي عن عكرمة عن ابن أبي: نجيح أنه قرأ - « أفلم يتبين الذين آمنوا » وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة؛ وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ ثم إن معناه: أفلم يتبين؛ فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها، وتأتي بتأويلها، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا؛ وأما سقوطه يبطل القرآن، ولزوم أصحابه البهتان. « أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا » « أن » مخففة من القيلة، أي أنه لو يشاء الله « لهدى الناس جميعا » وهو يرد على القدرية وغيرهم.



قوله تعالى: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » أي داهية تفجؤهم بكفرهم؛ وعتوهم؛ ويقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع؛ والأصل في القرع الضرب؛ قال:

أفني تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق

أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد أو من قتل أو من أسر أو جدب، أو غير ذلك من العذاب والبلاء؛ كما نزل بالمستهزئين، وهم رؤساء المشركين. وقال عكرمة عن ابن عباس: القارعة النكبة. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم « أو تحل » أي القارعة. « قريبا من دارهم » قاله قتادة والحسن. وقال ابن عباس: أو تحل أنت قريبا من دارهم. وقيل: نزلت الآية بالمدينة؛ أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة. « حتى يأتي وعد الله » في فتح مكة؛ قاله مجاهد وقتادة وقيل: نزلت بمكة؛ أي تصيبهم القوارع، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد، فتحل قريبا من دارهم، أو تحل بهم محاصرا لهم؛ وهذه المحاصرة لأهل الطائف، ولقلاع خيبر، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم. وقال الحسن: وعد الله يوم القيامة.



الآية: 32 ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب )


قوله تعالى: « ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم » تقدم معنى الاستهزاء في « البقرة » ومعنى الإملاء في « آل عمران » أي سخر بهم، وأزري عليهم؛ فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم؛ فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة. « فكيف كان عقاب » أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك.



الآية: 33 ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد )


قوله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق؛ كما يقال: قام فلان بشغل كذا؛ فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها؛ فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف؛ والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل: « أفمن هو قائم » أي عالم؛ قاله الأعمش. قال الشاعر:

فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت والله قائم

أي عالم؛ فالله عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. « وجعلوا » حال؛ أي أوقد جعلوا، أو عطف على « استهزئ » أي استهزؤوا وجعلوا؛ أي سموا « لله شركاء » يعني أصناما جعلوها آلهة. « قل سموهم » أي قل لهم يا محمد: « سموهم » أي بينوا أسماءهم، على جهة التهديد؛ أي إنما يسمون: اللات والعزى ومناة وهبل. « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » « أم » استفهام توبيخ، أي أتنبئونه؛ وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى؛ لأن قوله: « سموهم » معناه: ألهم أسماء الخالقين. « أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض » ؟. وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه. « أم بظاهر من القول » يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم؛ فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكا. وقيل: « أم تنبئونه » عطف على قوله: « أفمن هو قائم » أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم؛ أي أنتم تدعون لله شريكا، والله لا يعلم لنفسه شريكا؛ أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض. ومعنى. « أم بظاهر من القول » : الذي أنزل الله على أنبيائه. وقال قتادة: معناه بباطل من القول؛ ومنه قول الشاعر:

أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي باطل. وقال الضحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم؛ ويكون معنى الكلام: أتجبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. « بل زين للذين كفروا مكرهم » أي دع هذا! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: استدراك. على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس ومجاهد - « بل زين للذين كفروا مكرهم » مسمى الفاعل، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى، وقيل: الشيطان. ويجوز أن يسمى الكفر مكرا؛ لأن مكرهم بالرسول كان كفرا. « وصدوا عن السبيل » أي صدهم الله؛ وهي قراءة حمزة والكسائي. الباقون بالفتح؛ أي صدوا غيرهم؛ واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله: « ويصدون عن سبيل الله » [ الأنفال: 47 ] وقوله: « هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام » [ الفتح: 25 ] . وقراءة الضم أيضا حسنة في « زين » و « صدوا » لأنه معلوم أن الله فاعل، ذلك في مذهب أهل السنة؛ ففيه إثبات القدر، وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - « وصِدوا » بكسر الصاد؛ وكذلك. « هذه بضاعتنا ردت إلينا » [ يوسف: 65 ] بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله؛ وأصلها صددوا ورددت، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر. « ومن يضلل الله » بخذلانه. « فما له من هاد » أي موفق؛ وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم؛ لقوله: « ، ومن يضلل الله » فكذلك قوله: « وصدوا » . ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء؛ وكذلك « وال » و « واق » ؛ لأنك تقول في الرجل: هذا قاض ووال وهاد، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين. وقرئ « فما له من هادي » و « والي » و « واقي » بالياء؛ وهو على لغة من يقول: هذا داعي وواقي بالياء؛ لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين، وقد أمنا هذا في الوقف؛ فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي. وقال الخليل في نداء قاض: يا قاضي بإثبات الياء؛ إذ لا تنوين مع النداء، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي.



الآية: 34 ( لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق )


قوله تعالى: « لهم عذاب في الحياة الدنيا » أي للمشركين الصادين: بالقتل والسبي والإسار، وغير ذلك من الأسقام والمصائب. « ولعذاب الآخرة أشق » أي أشد؛ من قولك: شق علي كذا يشق. « وما لهم من الله من واق » أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع. و « من » زائدة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد يناير 13, 2013 6:51 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الرعد
=============



الآية: 35 ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار )


قوله تعالى: « مثل الجنة التي وعد المتقون » اختلف النحاة في رفع « مثل » فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع الابتداء وخبره « تجري من تحتها الأنهار » أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى: « ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل » [ الفتح: 29 ] وقال: « ولله المثل الأعلى » [ النحل: 60 ] أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك؛ كما تقول: مررت برجل شبهك؛ قال: ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج: مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال: لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] : أي ليس هو كشيء. وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة « تجري من تحتها الأنهار » وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل. « أكلها دائم وظلها » لا ينقطع؛ وفي الخبر: ( إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى ) وقد بيناه في « التذكرة » . « وظلها » أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني. « تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار » أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.



الآية: 36 ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب )


قوله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى: « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » [ الإسراء: 110 ] فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن! والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت: « وهم بذكر الرحمن هم كافرون » [ الأنبياء: 36 ] « وهم يكفرون بالرحمن » [ الرعد: 30 ] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » . « ومن الأحزاب » يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس. وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض. « قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به » قراءة الجماعة بالنصب عطفا على « أعبد » . وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود. « إليه أدعو » أي إلى عبادته أدعو الناس. « وإليه مآب » أي أرجع في أموري كلها.



الآية: 37 ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق )


قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه حكما عربيا » أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. « ولئن اتبعت أهواءهم » أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. « بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق » أي ناصر ينصرك. « ولا واق » يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة.



الآية: 38 ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب )


قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: « ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية » أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي.


هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ) الحديث. وقد تقدم في « آل عمران » وقال: ( من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني ) . ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال: ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه ) خرجه الموطأ وغيره. وفي صحيح البخاري عن أنس قال: ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: ( أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في « آل عمران » الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول: ( عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) يعني بقول: ( أنتق أرحاما ) أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا. وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال « لا » ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك.


قوله تعالى: « وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله » عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « لكل أجل كتاب » أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره. « لكل نبأ مستقر » [ الأنعام: 67 ] ؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب. وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة. وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال: يا موسى ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حلي الرجال، قال: فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه « لكل أجل كتاب » .



الآية: 39 ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )


قوله تعالى: « يمحو الله ما يشاء ويثبت » أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. « ويثبت » ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. « ويثبت » أي ويثبته؛ كقوله: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات الله.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم « ويثبت » بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول: « يثبت الله الذين آمنوا » [ إبراهيم: 27 ] . وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت ) . وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت. « وعنده أم الكتاب » الذي لا يتغير منه شيء. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم.

قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ: توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه ) . ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب ) فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان: أحدهما: معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال: « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه ) كيف يزاد في العمر والأجل؟ ! فقال: قال الله عز وجل: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » [ الأنعام: 2 ] . فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني: يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه. وقال الضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس.

وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، « يمحو الله ما يشاء » يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، « ويثبت » ما يشاء فلا يبدله، « وعنده أم الكتاب » يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى: « إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا » [ الفرقان: 70 ] الآية. وقال الحسن: « يمحو الله ما يشاء » من جاء أجله، « ويثبت » من لم يأت أجله. وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي. وقال السدي: « يمحو الله ما يشاء » يعني: القمر، « ويثبت » يعني: الشمس؛ بيانه قوله: « فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة » [ الإسراء: 12 ] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » الآية [ الزمر: 42 ] . وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله: « ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون » [ يس: 31 ] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: « ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » [ المؤمنون: 31 ] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا. وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. وقيل: يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة. وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ) . والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم. وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. « وعنده أم الكتاب » أصل ما كتب من الآجال وغيرها. وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل. وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر » [ الأنبياء: 105 ] وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق.



الآية: 40 ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )


قوله تعالى: « وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم » « ما » زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: « لهم عذاب في الحياة الدنيا » [ الرعد: 34 ] وقوله: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » [ الرعد: 31 ] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم « أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ » فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ « وعلينا الحساب » أي الجزاء والعقوبة.



الآية: 41 ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب )


قوله تعالى: « أولم يروا » يعني، أهل مكة، « أنا نأتي الأرض » أي نقصدها. « ننقصها من أطرافها » اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد: « ننقصها من أطرافها » موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: « أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول.

قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، « ننقصها من أطرفها » قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك. وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: نقصها بجور ولاتها.

قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم.


قوله تعالى: « والله يحكم لا معقب لحكمه » أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير. « وهو سريع الحساب » أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج. في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في « البقرة » بيانه.



الآية: 42 ( وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار )


قوله تعالى: « وقد مكر الذين من قبلهم » أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. « فلله المكر جميعا » أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به. « يعلم ما تكسب كل نفس » من خير وشر، فيجازي عليه. « وسيعلم الكفار » كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون: « الكفار » على الجمع. وقيل: عني به أبو جهل. « لمن عقبى الدار » أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد.



الآية: 43 ( ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب )


قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لست مرسلا » قال قتادة: هم مشركو العرب؛ أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول؛ أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. « قل كفى بالله » أي قل لهم يا محمد: « كفى بالله شهيدا بيني وبينكم » بصدقي وكذبكم. « ومن عنده علم الكتاب » وهذا إحجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير. وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير. وروى الترمذي عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك؛ قال: أخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل؛ قال فخرج عبدالله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ونزلت في آيات من كتاب الله؛ فنزلت في. « وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين » [ الأحقاف: 10 ] ونزلت في. « قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب » الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب « التذكرة » . وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه الجاهلية حصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله. وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير « ومن عنده علم الكتاب » ؟ قال: هو عبدالله بن سلام.

قلت: وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي. وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة؛ فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام؛ فمن عنده علم الكتاب جبريل؛ وهو قول ابن عباس. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى؛ وكانوا يقرؤون « ومن عنده علم الكتاب » وينكرون على من يقول: هو عبدالله بن سلام وسلمان؛ لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « ومن عنده علم الكتاب » وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك - « ومِن عنده » بكسر الميم والعين والدال « علم الكتاب » بضم العين ورفع الكتاب. وقال عبدالله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكذلك قال محمد ابن الحنفية. وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك؛ بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم. ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) وهو حديث باطل؛ النبي صلى الله عليه وسلم علم وأصحابه أبوابها؛ فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق؛ لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بصدقه.

قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبدالله بن سلام فعوَّل، على حديث الترمذي؛ وليس يمتنع أن ينزل في عبدالله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا؛ ويعضده من النظام أن قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا » يعني قريشا؛ فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبدالله بن سلام وغيره يحتمل أيضا؛ لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا؛ والله أعلم بحقيقة ذلك.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 14, 2013 5:38 am

تفسير سورة إبراهيم للقرطبى
============



سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدنيتين وقيل: ثلاث، نزلت في الذين حاربوا الله ورسوله وهي قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا » [ إبراهيم: 28 ] إلى قوله: « فإن مصيركم إلى النار » [ إبراهيم: 30 ] .



الآية: 1 ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )


قوله تعالى: « الر كتاب أنزلناه إليك » تقدم معناه. « لتخرج الناس » أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه. « من الظلمات إلى النور » أي من ظلمات الكفر الضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم؛ وهذا على التمثيل؛ لأن الكفر بمنزلة الظلمة؛ والإسلام بمنزلة النور. وقيل: من البدعة إلى السنة، ومن الشك إلى اليقين، والمعنى. متقارب. « بإذن ربهم » أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في « بإذن ربهم » متعلقة بـ « تخرج » وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي. « إلى صراط العزيز الحميد » هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقل الفاضل من غير واو، لأنهما شيء واحد؛ والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه. وقيل: « العزيز » الذي لا يغلبه غالب. وقيل: « العزيز » المنيع في ملكه وسلطانه. « الحميد » أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى؛ فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.



الآية: 2 ( الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد )


قوله تعالى: « الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض » أي ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا. وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما: « الله » بالرفع على الابتداء « الذي » خبره. وقيل: « الذي » صفة، والخبر مضمر؛ أي الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على كل شيء. الباقون بالخفض نعتا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت؛ كقولك: مررت بالظريف زيد. وقيل: على البدل من « الحميد » وليس صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلم فلا يوصف؛ كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد. وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السماوات وما في الأرض. وكان يعقوب إذا وقف على « الحميد » رفع، وإذا وصل خفض على النعت. قال ابن الأنباري: من خفض وقف على « وما في الأرض » . « وويل للكافرين من عذاب شديد » قد تقدم معنى الويل في « البقرة » وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة. « من عذاب شديد » أي من جهنم.



الآية: 3 ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد )


قوله تعالى: « الذين يستحبون الحياة الدنيا » أي يختارونها على الآخرة، والكافرون يفعلون ذلك. فـ « الذين » في موضع خفض صفة لهم. وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر، أي هم الذين وقيل: « الذين يستحبون » مبتدأ وخبره. « أولئك » . وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصد عن سبيل الله - أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره - فهو داخل في هذه الآية؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ) وهو حديث صحيح. وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان. وقيل: « يستحبون » أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها، لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته. « ويبغونها عوجا » أي يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم. والسبيل تذكر وتؤنث. والموج بكسر العين في الدين والأمر والأرضي، وفي كل ما لم يكن قائما؛ وبفتح العين في كل ما كان قائما، كالحائط والرمح ونحوه؛ وقد تقدم في « آل عمران » وغيرها. « أولئك في ضلال بعيد » أي ذهاب عن الحق بعيد عنه.



الآية: 4 ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم )


قوله تعالى: « وما أرسلنا من رسول » أي قبلك يا محمد « إلا بلسان قومه » أي بلغتهم، ليبينوا لهم أمر دينهم؛ ووحد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأن المراد اللغة؛ فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير؛ ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا » [ سبأ: 28 ] . وقال صلى الله عليه وسلم: ( أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . خرجه مسلم، وقد تقدم. « فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » رد على القدرية في نفوذ المشيئة، وهو مستأنف، وليس بمعطوف على « ليبين » لأن الإرسال إنما وقع للتبيين لا للإضلال. ويجوز النصب في « يضل » لأن الإرسال صار سببا للإضلال؛ فيكون كقوله: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] وإنما صار الإرسال سببا للإضلال لأنهم كفروا به لما جاءهم؛ فصار كأنه سبب لكفرهم « وهو العزيز الحكيم » تقدم معناه.



الآية: 5 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )


قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » أي بحجتنا وبراهيننا؛ أي بالمعجزات الدالة على صدقه. قال مجاهد: هي التسع الآيات. « أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور » نظيره قوله تعالى: لنبينا عليه السلام أول السورة: « لتخرج الناس من الظلمات إلى النور » : « أن » هنا بمعنى أي، كقوله تعالى: « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] أي امشوا.


قوله تعالى: « وذكرهم بأيام الله » أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: بنعم الله عليهم؛ وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا؛ أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تسمى النعم الأيام؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:

وأيام لنا غر طوال

وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة؛ يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها. قال ابن زيد: يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية؛ وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال: بلاؤه. وقال الطبري: وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم، أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة؛ وقد كانوا عبيدا مستذلين؛ واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه ) وذكر حديث الخضر؛ ودل هذا على جواز الوعظ المرفق للقلوب، المقوي لليقين. الخالي من كل بدعة، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة. « إن في ذلك » أي في التذكير بأيام الله « لآيات » أي دلالات. « لكل صبار » أي كثير الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه. « شكور » لنعم الله. وقال قتادة: هو العبد؛ إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وروى عن النبي أنه قال: ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر - ثم تلا هذه الآية - « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » . ) ونحوه عن الشعبي موقوفا. وتواري الحسن البصري عن الحجاج سبع سنين، فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته، وسجد شكرا، وقرأ: « إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور » . وإنما خص بالآيات كل صبار شكور؛ لأنه يعتبر بها ولا يغفل عنها؛ كما قال: « إنما أنت منذر من يخشاها » [ النازعات: 45 ] وإن كان منذرا للجميع.



الآية: 6 ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )


تقدم معناه في « البقرة » مستوفى والحمد لله.



الآية: 7 ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )


قوله تعالى: « وإذ تأذن ربكم » قيل: هو من قول موسى لقومه. وقيل: هو من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. و « تأذن » وأذن بمعنى أعلم؛ مثل أوعد وتوعد؛ روي معنى ذلك عن الحسن وغيره. ومنه الأذان، لأنه إعلام؛ قال الشاعر:

فلم نشعر بضوء الصبح حتى سمعنا في مجالسنا الأذينا

وكان ابن مسعود يقرأ: « وإذ قال ربكم » والمعنى واحد. « لئن شكرتم لأزيدنكم » أي لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي. الحسن: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي. ابن عباس: لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم من الثواب، والمعنى متقارب في هذه الأقوال؛ والآية نص في أن الشكر سبب المزيد؛ وقد تقدم في « البقرة » ما للعلماء في معنى الشكر. وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: ألا تتقوى بنعمه على معاصيه. وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة مجددة منك علي. قال: يا داود الآن شكرتني. قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل:

أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه

فغص باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد. « ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » أي جحدتم حقي. وقيل: نعمي؛ وعد بالعذاب على الكفر، كما وعد بالزيادة على الشكر، وحذفت الفاء التي في جواب الشرط من « إن » للشهرة.



الآية: 8 ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد )


قوله تعالى: « وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد » أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني. ( الحميد ) أي المحمود.



الآية: 9 ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب )



قوله تعالى: « ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود » النبأ الخبر، والجمع الأنباء؛ قال:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

ثم قيل: هو من قول موسى. وقيل: من قول الله؛ أي واذكر يا محمد إذ قال ربك كذا. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى. وخبر قوم نوح وعاد وثمود مشهور قصه الله في كتابه. وقوله: « والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله » أي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يعرف نسبهم إلا الله، والنسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم، وإنما ينسبون البعض؛ ويمسكون عن نسب البعض؛ وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع النسابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: ( كذب النسابون إن الله يقول: « لا يعلمهم إلا الله » ) . وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل. وقال بن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقول حين يقرأ: « لا يعلمهم إلا الله » . كذب النسابون. « جاءتهم رسلهم بالبينات » أي بالحجج والدلالات. « فردوا أيديهم في أفواههم » أي جعل أولئك القوم أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل؛ إذ كان فيه تسفيه أحلامهم، وشتم أصنامهم؛ قاله بن مسعود، ومثله قاله عبدالرحمن بن زيد؛ وقرأ: « عضوا عليكم الأنامل من » الغيظ « [ آل عمران: 119 ] . وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: كانوا إذا قال لهم نبيهم أنا رسول الله إليكم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم: أن اسكت، تكذيبا له، وردا لقوله؛ وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. والضميران للكفار؛ والقول الأول أصحها إسنادا؛ قال أبو عبيد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله في قوله تعالى: « فردوا أيديهم في أفواههم » قال: عضوا عليها غيظا؛ وقال الشاعر: »

لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد

وقد مضى هذا المعنى في « آل عمران » مجودا، والحمد لله. وقال مجاهد وقتادة: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم؛ فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل. وقيل معناه: أومأوا للرسل أن يسكتوا. وقال مقاتل: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقيل: رد الرسل أيدي القوم في أفواههم. وقيل: إن الأيدي هنا النعم؛ أي ردوا نعم الرسل بأفواههم، أي بالنطق والتكذيب، ومجيء الرسل بالشرائع نعم؛ والمعنى: كذبوا بأفواههم ما جاءت به الرسل. و « في » بمعنى الباء؛ يقال: جلست في البيت وبالبيت؛ وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض. وقال أبو عبيدة: هو ضرب مثل؛ أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا؛ والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في فيه. وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي: لم نسمع أحدا من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به؛ وقاله المغني: عضوا على الأيدي حنقا وغيظا؛ لقول الشاعر:

تردون في فيه غش الحسو د حتى يعض علي الأكفا

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه. وقال آخر:

قد أفني أنامل أزمة فأضحى يعض علي الوظيفا

وقالوا: - يعني الأمم للرسل: « وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به » أي بالإرسال على زعمكم، لا أنهم أقروا أنهم أرسلوا. « وإنا لفي شك » أي في ريب ومرية. « مما تدعوننا إليه » من التوحيد.


قوله تعالى: « مريب » أي موجب للريبة؛ يقال: أربته إذ فعلت أمرا من أوجب ريبة وشكا؛ أي نظن أنكم تطلبون الملك والدنيا.



الآية: 10 ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين )


قوله تعالى: « قالت رسلهم أفي الله شك » استفهام معناه الإنكار؛ أي لا شك في الله؛ أي في توحيده؛ قال قتادة. وقيل: في طاعته. ويحتمل وجها ثالثا: أفي قدرة الله شك؟ ! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها؛ يدل عليه قوله: « فاطر السماوات والأرض » خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم؛ لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. « يدعوكم » أي إلى طاعته بالرسل والكتب. « ليغفر لكم من ذنوبكم » قال أبو عبيد: « من » زائدة. وقال سيبويه: هي للتبعيض؛ ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع. وقيل: « من » للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة؛ أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. « ويؤخركم إلى أجل مسمى » يعني الموت، فلا يعذبكم في لدنيا. « قالوا إن أنتم » أي ما أنتم. « إلا بشر مثلنا » في الهيئة والصورة؛ تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة. « تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا » من الأصنام والأوثان « فأتونا بسلطان مبين » أي بحجة ظاهرة؛ وكان محالا منهم؛ فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.



الآية: 11 ( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون )


قوله تعالى: « قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم » أي في الصورة والهيئة كما قلتم. « ولكن الله يمن على من يشاء من عباده » أي يتفضل عليه بالنبوة. وقيل؛ بالتوفيق، والحكمة والمعرفة والهداية. وقال سهل بن عبدالله: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه.

قلت: وهذا قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر: يا عم أوصني؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: ( ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره ) . « وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان » أي بحجة وآية. « إلا بإذن الله » أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا؛ أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته؛ فلفظه؛ لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » تقدم معناه.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 15, 2013 6:23 am

تابع تفسير القرطبى لسورة ابراهيم
==============



الآية: 12 ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون )


قوله تعالى: « وما لنا ألا نتوكل على الله » « ما » استفهام في موضع رفع بالابتداء، و « لنا » الخبر؛ وما بعدها في موضع الحال؛ التقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله. « وقد هدانا سبلنا » أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته. « ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون » « ولنصبرنَّ » لام قسم؛ مجازه: والله لنصبرن « على ما آذيتمونا » به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا. « وعلى الله فليتوكل المتوكلون » .



الآيتان: 13 - 14 ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )


قوله تعالى: « وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا » اللام لام قسم؛ أي والله لنخرجنكم. « أو لتعودن » أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير؛ فإن « أو » على بابها من التخيير؛ خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم؛ وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده؛ ألا ترى إلى قوله: « وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا. سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا » [ الإسراء: 76 - 77 ] وقد تقدم هذا المعنى في « الأعراف » وغيرها. « في ملتنا » أي إلى ديننا، « فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم »



قوله تعالى: « ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد » أي مقامه بين يدي يوم القيامة؛ فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام؛ يقال: قام قياما ومقاما؛ وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإمامة، وبالضم فعل الإقامة؛ و « ذلك لمن خاف مقامي » أي قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال الله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » . [ الرعد 33 ] وقال الأخفش: « ذلك لمن خاف مقامي » أي عذابي، « وخاف وعيد » أي القرآن وزواجره. وقيل: إنه العذاب. والوعيد الاسم من الوعد.



الآية: 15 ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد )


قوله تعالى: « واستفتحوا » أي واستنصروا؛ أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في « البقرة » . ومنه الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر. وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: ( إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحا ) وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا؛ نظيره « ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين » [ العنكبوت: 29 ] « ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين » [ الأعراف: 77 ] . « وخاب كل جبار عنيد » الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا؛ هكذا هو عند أهل اللغة؛ ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره؛ يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم. وقيل: هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا؛ قال الشاعر:

إذا نزلت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العندا

وقال الهروي: قوله تعالى: « جبار عنيد » أي جائر عن القصد؛ وهو العنود والعنيد والعاند؛ وفي حديث ابن عباس وسئل عن المستحاضة فقال: إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند؛ فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته. وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ. وقال عمر يذكر سيرته: أضم العنود؛ قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا؛ أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها. وقال مقاتل: العنيد المتكبر. وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه. وقيل: العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل وبذهب عن طريق الحق فلا يسلكها؛ تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق. وقيل: العنيد العاصي. وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله.

قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر. وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل؛ ذكره المهدوي. وحكى الماوردي في كتاب « أدب الدنيا والدين » أن الوليد بن يزيد بن عبدالملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: « واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد » فمزق المصحف وأنشأ يقول:

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده.



الآية: 16 ( من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد )


قوله تعالى: « من ورائه جهنم » أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد؛ قال النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب

أي بعد الله جل جلاله؛ وكذلك قوله تعالى: « ومن ورائه عذاب غليظ » أي من بعده؛ وقوله تعالى: « ويكفرون بما وراءه » [ البقرة: 91 ] أي بما سواه؛ قاله الفراء. وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: « من ورائه » أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:

ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي

وقال آخر:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال لبيد:

ليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع

يريد أمامي. وفي التنزيل: « كان وراءهم ملك » [ الكهف: 79 ] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما. وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه. وقال النحاس في قول « من ورائه جهنم » أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري؛ أي استتر. وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن.


قوله تعالى: « ويسقى من ماء صديد » أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه. وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد. وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيدالله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقي من ماء صديد يتجرعه » قال: ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: « وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم » [ محمد: 15 ] ويقول الله: « وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب » ) [ الكهف: 29 ] ) خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعبيدالله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبدالله بن بسر.



الآية: 17 ( يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ )


قوله تعالى: « يتجرعه » أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. « ولا يكاد يسيغه » أي يبتلعه؛ يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و « يكاد » صلة؛ أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: « وما كادوا يفعلون » [ البقرة: 71 ] أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: « يصهر به ما في بطونهم والجلود » [ الحج: 20 ] فهذا يدل على الإساغة. وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به. « ويأتيه الموت من كل مكان » قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقول: « لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل » [ الزمر: 16 ] . وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره؛ للآلام التي في كل مكان من جسد. وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه. وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت. وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب؛ لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة؛ إما حية تنهشه؛ أو عقرب تلسعه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات؛ فذلك قوله: « ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت » . قال الضحاك: لا يموت فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة؛ ونظيره قوله: « لا يموت فيها ولا يحيا » [ طه: 74 ] . وقيل: يخلق الله في جسده آلا ما كل واحد منها كألم الموت. وقيل:


قوله تعالى: « وما هو بميت » لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه؛ ليكون ذلك زيادة في عذابه.

قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها » [ فاطر: 36 ] وبذلك وردت السنة؛ فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. « ومن ورائه » أي من أمامه. « عذاب غليظ » أي شديد متواصل الآلام غير فتور؛ ومنه قوله: « وليجدوا فيكم غلظة » [ التوبة: 123 ] أي شدة وقوة. وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: « ومن ورائه عذاب غليظ » قال: حبس الأنفاس.



الآية: 18 ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد )


قوله تعالى: « مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد » اختلف النحويون في رفع « مثل » فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر؛ التقدير: وفيما يتلى عليكم أو يقص « مثل الذين كفروا بربهم » ثم ابتدأ فقال: « أعمالهم كرماد » أي كمثل رماد « اشتدت به الريح » . وقال الزجاج: أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف؛ التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد؛ وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر؛ فـ « مثل » بمعنى صفة. ويجوز في الكلام جر « أعمالهم » على بدل الاشتمال من « الذين » واتصل هذا بقوله: « وخاب جبار عنيد » والمعنى: أعمالهم محبطة غير مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء؛ فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح؛ وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى. وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما. والثاني: أن يريد « في يوم عاصف » الريح؛ لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف

يريد كاسف الشمس فحذف؛ لأنه قد مر ذكره؛ ذكرهما الهروي. والثالث: أنه من نعت الريح؛ غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب؛ ذكره الثعلبي والماوردي. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر « في يوم عاصف » . « لا يقدرون » يعني الكفار. « مما كسبوا على شيء » يريد في الآخرة؛ أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. « ذلك هو الضلال البعيد » أي الخسران الكبير؛ وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت.



الآية: 19 ( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد )


قوله تعالى: « ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق » الرؤية هنا رؤية القلب؛ لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؛. وقرأ حمزة والكسائي - « خالق السماوات والأرض » . ومعنى « بالحق » ليستدل بها على قدرته. « إن يشأ يذهبكم » أيها الناس؛ أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء؛ فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه « يذهبكم ويأت بخلق جديد » أفضل وأطوع منكم؛ إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال.



الآية: 20 ( وما ذلك على الله بعزيز )



أي منيع متعذر.



الآية: 21 ( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )


قوله تعالى: « وبرزوا لله جميعا » أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره؛ ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس؛ فمعنى، « برزوا » ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ؛ الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: « وخاب كل جبار عنيد » أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. « لله » لأجل أمر الله إياهم بالبروز. « فقال الضعفاء » يعني الأتباع « للذين استكبروا » وهم القادة. « إنا كنا لكم تبعا » يجوز أن يكون تبع مصدرا؛ التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع؛ مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر. « فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء » أي دافعون « عنا من عذاب الله من شيء » أي شيئا، و « من » صلة؛ يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. « قالوا لو هدانا الله لهديناكم » أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل؛ لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » « سواء علينا » هذا ابتداء خبره « أجزعنا » أي: « سواء علينا » أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص « أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم؛ يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا؛ والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » ) . وقال محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر؛ فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا؛ فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا؛ فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص » أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال: » إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم « يقول: لست بمغن عنكم شيئا » وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل « الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } بكماله.»



الآية: 22 ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم )


قوله تعالى: « وقال الشيطان لما قضي الأمر » قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى: « لما قضي الأمر » أي حصل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في « مريم » عليها السلام. « إن الله وعدكم وعد الحق » يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: ( فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: « إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم » الآية ) . « وعد الحق » هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم: مسجد الجامع؛ قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم؛ فحذف المصدر لدلالة الحال. « وما كان لي عليكم من سلطان » أي من حجة وبيان؛ أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، « إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي » أي أغويتكم فتابعتموني. وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. « إلا أن دعوتكم » هو استثناء منقطع؛ أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، « فلا تلوموني ولوموا أنفسكم » وقيل: « وما كان لي عليكم من سلطان » أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي؛ وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد؛ وفيه نظر؛ لقوله: « لما قضي الأمر » فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين؛ والله أعلم. « فلا تلوموني ولوموا أنفسكم » إذا جئتموني من غير حجة. « ما أنا بمصرخكم » أي بمغيثكم. « وما أنتم بمصرخي » أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل.

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع وكان الصراخ له قرع الظنابيب

وقال أمية بن أبي الصلت:

ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر

يقال: صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث؛ تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد؛ قاله الجوهري. وقراءة العامة « بمصرخي » بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة « بمصرخي » بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة. وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم عن خطأ. وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو رديء، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. « إني كفرت بما أشركتموني من قبل » أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة؛ فـ « ما » بمعنى المصدر. وقال ابن جريج: إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. « إن الظالمين لهم عذاب أليم » . وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم؛ انظر إلى قول المتبوعين: « لو هدانا الله لهديناكم » وقول إبليس: « إن الله وعدكم وعد الحق » كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار؛ كما قال في موضع آخر: « كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها » [ الملك: 8 ] إلى قوله: « فاعترفوا بذنبهم » [ الملك: 11 ] واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا؛ قال الله عز وجل: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم » [ التوبة: 102 ] و « عسى » من الله واجبة.



الآية: 23 ( وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام )


قوله تعالى: « وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات » أي في جنات لأن دخلت لا يتعدى؛ كما لا يتعدى نقيضه وهو خرجت، ولا يقاس عليه؛ قاله المهدوي. ولما أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة أيضا. وقراءة الجماعة « أدخل » على أنه فعل مبني للمفعول. وقرأ الحسن « وأدخل » على الاستقبال والاستئناف. « بإذن ربهم » أي بأمره. وقيل: بمشيئته وتيسيره. وقال: « بإذن ربهم » ولم يقل: بإذني تعظيما وتفخيما. « تحيتهم فيها سلام » تقدم في « يونس » . والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 16, 2013 6:09 am

تابع تفسير القرطبى لسورة ابراهيم
==============



الآيتان: 24 - 25 ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون )


قوله تعالى: « ألم تر كيف ضرب الله مثلا » لما ذكر تعالى مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ذكر مثل أقوال المؤمنين وغيرها، ثم فسر ذلك المثل فقال: « كلمة طيبة » التمر، فحذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن. وقال مجاهد وابن جريج: الكلمة الطيبة الإيمان. عطية العوفي والربيع بن أنس: هي المؤمن نفسه. وقال مجاهد أيضا وعكرمة: الشجرة النخلة؛ فيجز أن يكون المعنى: أصل الكلمة في قلب المؤمن - وهو الإيمان - شبهه بالنخلة في المنبت، وشبه ارتفاع عمله في السماء بارتفاع فروع النخلة، وثواب الله له بالثمر. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة الإيمان عروقها والصلاة أصلها والزكاة فروعها والصيام أغصانها والتأذي الله نباتها وحسن الخلق ورقها والكف عن محارم الله ثمرتها ) . ويجوز أن يكون المعنى: أصل النخلة ثابت في الأرض؛ أي عروقها تشرب من الأرض وتسقيها السماء من فوقها، فهي زاكية نامية. وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع فيه رطب، فقال: ( مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها - قال - هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار - قال - هي الحنظل ) . وروي عن أنس قوله وقال: وهو أصح. وخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون ما هي ) فوقع في نفسي أنها النخلة. قال السهيلي ولا يصح فيها ما روي عن علي بن أبي طالب أنها جوزة الهند؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي - ثم قال - هي النخلة ) خرجه مالك « الموطأ » من رواية ابن القاسم وغيره إلا يحيى فإنه أسقطه من روايته. وخرجه أهل الصحيح وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادة تساوي رحلة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وهى النخلة لا تسقط ها أنملة وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ) . فبين معنى الحديث والمماثلة

قلت: وذكر الغزنوي عنه عليه السلام: ( مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك وإن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به ) . وقال: ( كلوا من عمتكم ) يعني النخلة خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام، وكذلك أنها برأسها تبقي، وبقلبها تحيا، وثمرها بامتزاج الذكر والأنثى. وقد قيل: إنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به؛ وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت الغصون من جوانب، والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهبت أصلا؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوان في الالتقاح لأنها لا تحمل حتى تلقح قال النبي صلى الله عليه وسلم: « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) . والإبار اللقاح وسيأتي في سورة » الحجر « بيانه. ولأنها من فضلة طينة آدم. ويقال: إن الله عز وجل لما صور آدم من الطين فضلت قطعة طين فصورها بيده وغرسها في جنة عدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكرموا عمتكم ) قالوا: ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال: ( النخلة ) . » تؤتي أكلها كل حين « قال الربيع: » كل حين « غدوة وعشية كذلك يصعد عمل المؤمن أول النهار وآخره؛ وقاله ابن عباس. وعنه » تؤتي أكلها كل حين « قال: هو شجرة جوزة الهند لا تتعطل من ثمرة، تحمل في كل شهر، شبه عمل المؤمن لله عز وجل في كل وقت: لنخلة التي تؤتي أكلها في أوقات مختلفة. وقال الضحاك: كل ساعة من ليل أو نهار شتاء وصيفا يوكل في جميع الأوقات، وكذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها. وقال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة، لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي بيت النابغة: »

تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه حينا وحينا تراجع

فهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت، فالإيمان ثابت في قلب المؤمن، وعمله وقوله وتسبيحه عال مرتفع في السماء ارتفاع فروع النخلة، وما يكسب من بركة الإيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلها، من الرطب والبسر والبلح والزهو والتمر والطلع. وفي رواية عن ابن عباس: إن الشجرة شجرة في الجنة تثمر في كل وقت. و ( مثلا ) مفعول بـ « ضرب » ، « وكلمة » بدل منه، والكاف في قوله: ( كشجرة ) في موضع نصب على الحال من « كلمة » التقدير: كلمة طيبة مشبهة بشجرة طيبة


قوله تعالى: « تؤتي أكلها كل حين » لما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة كان في ذلك بيان حكم الحين؛ ولهذا قلنا: من حلف ألا يكلم فلانا حينا، ولا يقول كذا حينا إن الحين سنة. وقد ورد الحين في موضع آخر يراد به أكثر من ذلك لقوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] قيل في « التفسير » : أربعون عاما. وحكى عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر، فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأل، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حينا لا يدرك، قوله: « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » [ الأنبياء: 111 ] فأرى أن تمسك ما بين صرام النخلة إلى حملها، فكأنه أعجبه؛ وهو قول أبي حنيفة في الحين أنه ستة أشهر اتباعا لعكرمة وغيره. وقد مضى ما للعلماء في الحين في « البقرة » مستوفى والحمد لله. « ويضرب الله الأمثال » أي الأشباه « للناس لعلهم يتذكرون » ويعتبرون؛ وقد تقدم.



الآية: 26 ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )


الكلمة الخبيثة كلمة الكفر. وقيل: الكافر نفسه. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا: أنها شجرة لم تخلق على الأرض. وقيل: هي شجرة الثوم؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: الكمأة أو الطحلبة. وقيل: الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض؛ قال الشاعر:

وهم كشوث فلا أصل ولا ورق

« اجتثت من فوق الأرض » اقتلعت من أصلها؛ قال ابن عباس؛ ومنه قول لقيط:

والجلاء الذي تجتث أصلكم فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا

وقال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما. وجثه قلعه، واجتثه اقتلعه من فوق الأرض؛ أي ليس لها أصل راسخ يشرب بعروقه من الأرض. « ما لها من قرار » أي من أصل في الأرض. وقيل: من ثبات؛ فكذلك الكافر لا حجة له ولا ثبات ولا خير فيه، وما يصعد له قول طيب ولا عمل صالح. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة في قوله تعالى: « ضرب الله مثلا كلمة طيبة » قال: لا إله إلا الله « كشجرة طيبة » قال: المؤمن، « أصلها ثابت » لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن؛ « ومثل كلمة خبيثة » قال: الشرك، « شجرة خبيثة » قال: المشرك؛ « اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار » أي ليس للمشرك أصل يعمل عليه. وقيل: يرجع المثل إلى الدعاء إلى الإيمان، والدعاء إلى الشرك؛ لأن الكلمة يفهم منها القول والدعاء إلى الشيء.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 17, 2013 1:44 am

تابع تفسير القرطبى لسورة ابراهيم
==============


الآية: 27 ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء )



قوله تعالى: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت » قال ابن عباس: هو لا إله إلا الله. وروى النسائي عن البراء قال قال: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » نزلت في عذاب القبر؛ يقال: من ربك؟ فيقول: ربي الله وديني دين محمد، فذلك قوله: « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » .

قلت: وقد جاء هكذا موقوفا في بعض طرق مسلم عن البراء أنه قول، والصحيح فيه الرفع كما في صحيح مسلم وكتاب النسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكر البخاري؛ حدثنا جعفر بن عمر، قال حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتاه آت ثم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله « يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » . وقد بينا هذا الباب في كتاب ( التذكرة ) وبينا هناك من يفتن في قبره ويسأل، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك. وقال سهل بن عمار: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أتاني في قبري ملكان فظان غليظان، فقالا: ما دينك ومن ربك ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت: ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة؟! فذهبا وقالا: أكتبت عن حريز بن عثمان؟ قلت نعم! فقالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله. وقيل: معنى، « يثبت الله » يديمهم الله على القول الثابت، ومنه قول عبدالله بن رواحة:

يثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصرا

وقيل: يثبتهم في الدارين جزاء لهم على القول الثابت. وقال القفال وجماعة: « في الحياة الدنيا » أي في القبر؛ لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، « وفي الآخرة » أي عند الحساب؛ وحكاه الماوردي عن البراء قال: المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة: « ويضل الله الظالمين » أي عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري؛ فيقول: لا دريت ولا تليت؛ وعند ذلك يضرب بالمقامع على ما ثبت في الأخبار؛ وقد ذكرنا ذلك في كتاب { التذكرة } . وقيل: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالا في الدنيا. « ويفعل الله ما يشاء » من عذاب قوم وإضلال قوم. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله معي عقلي؟ قال: ( نعم ) قال: كفيت إذا؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.



الآية: 28 ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار )



قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا » أي جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا، والمراد مشركو قريش وأن الآية نزلت فيهم؛ عن ابن عباس وعلي وغيرهما. وقيل: نزلت في المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال أبو الطفيل: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هم قريش الذين نحروا يوم بدر. وقيل: نزلت في الأفجرين من قريش بني مخزوم وبني أمية، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين؛ وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وقول رابع: أنهم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه حين لطم فجعل له عمر القصاص بمثلها، فلم يرض وأنف فارتد متنصرا ولحق بالروم في جماعة من قومه؛ عن ابن عباس وقتادة. ولما صار إلى بلد الروم ندم فقال:

تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليتني أرعى المخاض ببلدة ولم أنكر القول الذي قاله عمر

وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين. « وأحلوا قومهم » أي أنزلوهم. قال ابن عباس: هم قادة المشركين يوم بدر. « وأحلوا قومهم » أي الذين اتبعوهم. « دار البوار » قيل: جهنم؛ قال ابن زيد. وقيل: يوم بدر؛ قال علي بن أبي طالب ومجاهد. والبوار الهلاك؛ ومنه قول الشاعر:

فلم أر مثلهم أبطال حرب غداة الحرب إذ خيف البوار



الآية: 29 ( جهنم يصلونها وبئس القرار )



قوله تعالى: « جهنم يصلونها » بين أن دار البوار جهنم كما قال ابن زيد، وعلى هذا لا يجوز الوقف على « دار البوار » لأن جهنم منصوبة على الترجمة عن « دار البوار » فلو رفعها رافع بإضمار، على معنى: هي جهنم، أو بما عاد من الضمير في « يصلونها » لحسن الوقف على « دار البوار » . « وبئس القرار » أي المستقر.



الآية: 30 ( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار )



قوله تعالى: « وجعلوا لله أندادا » أي أصناما عبدوها؛ وقد تقدم في « البقرة » . « ليضلوا عن سبيله » أي عن دينه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج « ليضل عن سبيل الله » [ الحج: 9 ] ومثله في « لقمان » و « الزمر » وضمها الباقون على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وأما من فتح فعلى معنى أنهم هم يضلون عن سبيل الله على اللزوم، أي عاقبتم إلى الإضلال والضلال؛ فهذه لام العاقبة. « قل تمتعوا » وعيد لهم، وهو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع. « فإن مصيركم إلى النار » أي مردكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم.



الآية: 31 ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال )



قوله تعالى: « قل لعبادي الذين آمنوا » أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن « يقيموا الصلاة » يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرط مقدر، تقول: أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن أطعته يدخلك الجنة؛ هذا قول الفراء. وقال الزجاج: « يقيموا » مجزوم بمعنى اللام، أي ليقيموا فأسقطت اللام لأن الأمر دل على الغائب بـ « قل » . قال: ويحتمل أن يقال: « يقيموا » جواب أمر محذوف؛ أي قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. « وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية » يعني الزكاة؛ عن ابن عباس وغيره. وقال الجمهور: السر ما خفي والعلانية ما ظهر. وقال القاسم بن يحيى: إن السر التطوع والعلانية الفرض، وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مجودا عند قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » [ البقرة: 271 ] . « من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال » وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق » [ المنافقون: 0 1 ] . والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين جمع خلة كقلة وقلال. قال:

فلست بمقلي الخلال ولا قالي



الآيتان: 32 - 33 ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار )



قوله تعالى: « الله الذي خلق السماوات والأرض » أي أبدعها واخترعها على غير مثال سبق. « وأنزل من السماء » أي من السحاب. « ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم » أي من الشجر ثمرات « رزقا لكم » . « وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره » تقدم معناه في « البقرة » . « وسخر لكم الأنهار » يعني البحار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا، والبحار المالحة لاختلاف المنافع من الجهات. « وسخر لكم الشمس والقمر دائبين » أي في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره، والدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية. وقيل: دائبين في السير امتثالا لأمر الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران؛ روي معناه عن ابن عباس. « وسخر لكم الليل والنهار » أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، كما قال: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] .



الآية: 34 ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )



قوله تعالى: « وآتاكم من كل ما سألتموه » أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئا؛ فحذف؛ عن الأخفش. وقيل: المعنى وآتاكم من كل ما سألتموه، ومن كل ما لم تسألوه فحذف، فلم نسأل شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه التي ابتدأنا بها. وهذا كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] على ما يأتي. وقيل: « من » زائدة؛ أي أتاكم كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما « وآتاكم من كل » بالتنوين « ما سألتموه » وقد رويت هذه القراءة عن الحسن والضحاك وقتادة؛ هي على النفي أي من كل ما لم تسألوه؛ كالشمس والقمر وغيرهما. وقيل: من كل شيء ما سألتموه أي الذي ما سألتموه. « وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » أي نعم الله. « لا تحصوها » ولا تطيقوا عدها، ولا تقوموا بحصرها لكثرتها، كالسمع والبصر وتقويم الصور إلى غير ذلك من العافية والرزق؛ نعم لا تحصى وهذه النعم من الله، فلم تبدلون نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعنتم بها على الطاعة؟! « إن الإنسان لظلوم كفار » الإنسان لفظ جنس وأراد به الخصوص؛ قال ابن عباس: أراد أبا جهل. وقيل: جميع الكفار.



الآية: 35 ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام )



قوله تعالى: « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا » يعني مكة وقد مضى في « البقرة » . « واجنبني وبني أن نعبد الأصنام » أي اجعلني جانبا عن عبادتها، وأراد بقوله: ( بني ) بنيه من، صلبه وكانوا ثمانية، فما عبد أحد منهم صنما. وقيل: هو دعاء لمن أراد الله أن يدعو له. وقرأ الجحدري وعيسى « وأجنبني » بقطع الألف والمعنى واحد؛ يقال: جنبت ذلك الأمر؛ وأجنبته وجنبته إياه فتجانبه وأجتنبه أي تركه. وكان إبراهيم التيمي يقول في قصصه: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول « وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام » كما عبدها أبي وقومي.



الآية: 36 ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )



قوله تعالى: « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » لما كانت سببا للإضلال أضاف الفعل إليهن مجازا؛ فإن الأصنام جمادات لا تفعل. « فمن تبعني » في التوحيد. « فإنه مني » أي من أهل ديني. « ومن عصاني » أي أصر على الشرك. « فإنك غفور رحيم » قيل: قال هذا قبل أن يعرفه الله أن الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: غفور رحيم لمن تاب من معصيته قبل الموت. وقال مقاتل بن حيان: « ومن عصاني » فيما دون الشرك.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 18, 2013 11:24 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة ابراهيم
==============



الآية: 37 ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )



روى البخاري عن ابن عباس: ( أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد؛ وليس، بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنا لك؛ ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا؛ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند التثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: « ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع » [ إبراهيم: 37 ] حتى بلغ « يشكرون » وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال بتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فذلك سعي الناس بينهم ) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت، إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا ) قال: فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله ) وذكر الحديث بطوله.

مسألة: لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنا لك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية.



لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح: أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع؛ وذكر الحديث. وروي الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل ) . وروي أيضا عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي: وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مه المتوكلين، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال: دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج؛ فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبدالله بن عمرو: إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن.



قوله تعالى: « ومن ذريتي » « من » في قوله تعالى: « من ذريتي » للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي؛ يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل: هي صلة؛ أي أسكنت ذريتي. « عند بيتك المحرم » يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » . أضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل: محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في « المائدة » . « ربنا ليقيموا الصلاة » خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد اله عند العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد ) . الحديث. واللام في « ليقيموا الصلاة » لام كي؛ هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ « أسكنت » ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة.



تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها؛ لأن معنى « ربنا ليقيموا الصلاة » أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة « . قال الإمام الحافظ أبو عمر: وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة. قال ابن أبي. خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب المعلم ثقة. وذكر عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال: بصري ثقة.»

قلت: وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيدالله بن عمر؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه ) . وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل ) . قال أبو عمر: وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها؟ قال: بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة.



قوله تعالى: « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر:

وإن فؤادا قادني بصبابة إليك على طول المدى لصبور

وقيل: جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال: واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم؛ أي تنزع؛ يقال: هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله: « تهوي إليهم » مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال: « من الناس » فهم المسلمون؛ فقوله: « تهوي إليهم » أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد « تهوَى إليهم » أي تهواهم وتجلهم. « وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون » فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه: ( فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال: هل جاءكم من أحد! قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء: قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك؛ قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ) . قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث. وقال ابن عباس: قول إبراهيم « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله: وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء؛ فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فألفي ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ) فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته؛ الحديث.



الآية: 38 ( ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء )



قوله تعالى: « ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن » أي، ليس يخفى عليك شيء من أحوالنا. وقال ابن عباس ومقاتل: تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه من الوجه بإسماعيل وأمه حيث أسكنا بواد غير ذي زرع. « وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء » قيل: هو من قول إبراهيم. وقيل: هو من قول الله تعالى لما قال إبراهيم: « ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن » قال الله: « وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء » .



الآية: 39 ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء )



أي على كبر سني وسن امرأتي؛ قال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة. وإسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد عشر ومائة سنة. « إن ربي لسميع الدعاء » .



الآيتان: 40 - 41 ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب )



قوله تعالى: « رب اجعلني مقيم الصلاة » أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه. « ومن ذريتي » أي واجعل من ذريتي من يقيمها. « ربنا وتقبل دعاء » أي عبادتيكما قال: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] . وقال عليه السلام: « الدعاء مخ العبادة ) وقد تقدم في » البقرة « . » ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين « قيل: استغفر إبراهيم لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه. قلت: وعلى هذا قراءة سعيد بن جبير، » رب اغفر لي ولوالدي « يعني. أباه. وقيل: استغفر لهما طمعا في إيمانهما. وقيل: استغفر لهما بشرط أن يسلما. وقيل: أراد آدم وحواء. وقد روي أن العبد إذا قال: اللهم اغفر لي ولوالدي وكان أبواه قد ماتا كافرين انصرفت المغفرة إلى آدم وحواء لأنهما والدا الخلق أجمع. وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم النخعي يقرأ: » ولولدي « يعني ابنيه، وقيل: إنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم » وللمؤمنين « قال ابن عباس: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: » للمؤمنين « كلهم وهو أظهر. » يوم يقوم الحساب « أي يوم يقوم الناس للحساب.»



الآية: 42 ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )



قوله تعالى: « ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون » وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم؛ أي أصبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعبد للظالم، وتعزية للمظلوم. « إنما يؤخرهم » يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر بهم. وقراءة العامة « يؤخرهم » بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله « ولا تحسبن الله » . وقرأ الحسن والسلمي وروي عن أبي عمرو أيضا « نؤخرهم » بالنون للتعظيم. « ليوم تشخص فيه الأبصار » أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شخص الرجل بصره وشخص البصر نفسه أي سما وطمح من هول ما يرى. قال ابن عباس: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون.



الآية: 43 ( مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء )



قوله تعالى: « مهطعين » أي مسرعين؛ قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير؛ مأخوذ من أهطع يهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: « مهطعين إلى الداع » [ القمر: 8 ] أي مسرعين. قال الشاعر:

بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع

وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع؛ أي ناظرين من غير أن يطرفوا؛ قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك: « مهطعين » أي مديمي النظر. وقال النحاس: والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع؛ قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. « مقنعي رؤوسهم » أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذل. وإقناع الرأس رفعه؛ قال ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقتبي وغيرهما: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه؛ ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته إذا رفعه. وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل: ناكسي رؤوسهم؛ قال المهدوي: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا رأسه ذلة وخضوعا، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرد، والقول الأول أعرف في اللغة؛ قال الراجز:

أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنما أبصر شيئا أطمعا

وقال الشماخ يصف إبلا:

يباكرن العضاه بمقنعات نواجذهن كالحدأ الوقيع

يعني: برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مقنعة لارتفاعها. ومنه قنع الرجل إذا رضي؛ أي رفع رأسه عن السؤال. وقنع إذا سأل أي أتى ما يتقنع منه؛ عن النحاس. وفم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مقنع بالتشديد؛ أي عليه بيضة قاله الجوهري. « لا يرتد إليهم طرفهم » أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طرف الرجل يطرف طرفا إذا أطبق جفنه على الآخر، فسمي النظر طرفا لأنه به يكون. والطرف العين. قال عنترة:

وأغض طرفي ما بدت جارتي حتى يواري جارتي مأواها

وقال جميل:

وأقصر طرفي دون جمل كرامة لجمل وللطرف الذي أنا قاصره



قوله تعالى: « وأفئدتهم هواء » أي لا تغني شيئا من شدة الخوف. ابن عباس: خالية من كل خير. السدي: خرجت قلوبهم من صدورهم فنشبت في حلوقهم؛ وقال مجاهد ومرة وابن زيد: خاوية خربة متخرقة ليس فيها خير ولا عقل؛ كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء؛ وقال ابن عباس: والهواء في اللغة المجوف الخالي؛ ومنه قول حسان:

ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوفة نخب هواء

وقال زهير يصف صغيرة الرأس:

كأن الرجل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء

فارغ أي خال؛ وفي التنزيل: « وأصبح فؤاد أم موسى فارغا » [ القصص: 10 ] أي من كل شيء إلا من هم موسى. وقيل: في الكلام إضمار؛ أي ذات هواء وخلاء.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد يناير 20, 2013 6:16 am

تابع تفسير القرطبى لسورة ابراهيم
==============




الآية: 44 ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال )



قوله تعالى: « وأنذر الناس » قال ابن عباس: أراد أهل مكة. « يوم يأتيهم العذاب » وهو يوم القيامة؛ أي خوفهم ذلك اليوم. وإنما خصهم بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب، لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي. « فيقول الذين ظلموا » أي في ذلك اليوم « ربنا أخرنا » أي أمهلنا. « إلى أجل قريب » سألوه الرجوع إلى الدنيا حين ظهر الحق في الآخرة. « نجب دعوتك ونتبع الرسل » أي إلى الإسلام فيجابوا: « أولم تكونوا أقسمتم من قبل » يعني في دار الدنيا. « ما لكم من زوال » قال مجاهد: هو قسم قريش أنهم لا يبعثون. ابن جريج: هو ما حكاه عنهم في قوله: « وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت » [ النحل: 38 ] . « ما لكم من زوال » فيه تأويلان: أحدهما: ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة؛ أي لا تبعثون ولا تحشرون؛ وهذا قول مجاهد. الثاني: « ما لكم من زوال » أي من العذاب. وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله أربعة، فإذا كان في الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: « ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل » [ غافر: 11 ] فيجيبهم الله « ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وأن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير » [ غافر: 12 ] ثم يقولون: « ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » [ السجدة: 12 ] فيجيبهم الله تعالى: « فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون » [ السجدة: 14 ] ثم يقولون: « ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل » فيجيبهم الله تعالى « أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال » فيقولون: « ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل » [ فاطر: 37 ] فيجيبهم الله تعالى: « أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير » [ فاطر: 37 ] . ويقولون: « ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين » [ المؤمنون: 106 ] فيجيبهم الله تعالى: « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فلا يتكلمون بعدها أبدا؛ خرجه ابن المبارك في { دقائقه } بأطول من هذا - وقد كتبناه في كتاب { التذكرة } وزاد في الحديث « وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » [ إبراهيم:44 - 45 ] قال هذه الثالثة، وذكر الحديث وزاد بعد قوله: « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعضهم في وجه بعض، وأطبقت عليهم؛ وقال: فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه ذكر له أن ذلك قوله: « هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات:35 - 36 ] .



الآية: 45 ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال )



قوله تعالى: « وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال » أي في بلاد ثمود ونحوها فهلا اعتبرتم بمساكنهم، بعد ما تبين لكم ما فعلنا بهم، وبعد أن ضربنا لكم الأمثال في القرآن. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « ونبين لكم » بنون والجزم على أنه مستقبل ومعناه الماضي؛ وليناسب قوله: « كيف فعلنا بهم » . وقراءة الجماعة، « وتبين » وهي مثلها في المعنى؛ لأن ذلك لا تبين لهم إلا بتبيين الله إياهم.



الآية: 46 ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )



قوله تعالى: « وقد مكروا مكرهم » أي بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة؛ عن ابن عباس وغيره. « وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » « إن » بمعنى « ما » أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال لضعفه ووهنه؛ « وإن » بمعنى « ما » في القرآن في مواضع خمسة: أحدها هذا. الثاني: « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك » [ يونس: 94 ] . الثالث: « لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا » [ الأنبياء: 17 ] أي ما كنا. الرابع: « قل إن كان للرحمن ولد » [ الزخرف: 81 ] . الخامس: « ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه » [ الأحقاف: 26 ] . وقرا الجماعة « وإن كان » بالنون. وقرأ عمرو بن علي وابن مسعود وأبي « وإن كاد » بالدال. والعامة على كسر اللام في « لتزول » على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصيبا. وقرأ بن محيصن وابن جريج والكسائي « لتزول » بفتح اللام الأول على أنها لام الابتداء ورفع الثانية « وإن » مخففة من الثقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه؛ قال الطبري: الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة؛ قال أبو بكر الأنباري: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدثناه أحمد بن الحسين: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن دانيل قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبارا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعضلت واستعلجت أمر بأن يتخذ تابوت يسع فيه رجلين؛ وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور بالأوتاد؛ وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له من التابوت وأثار النسور، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله؛ فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب؛ ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدا، فقال: نكس العصا فنكسها، فانقضت النسور. فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها؛ قال: فسمعت عليا رضي الله عنه يقرأ « وإن كان مكرهم لتزول » بفتح اللام الأولى من « لتزول » وضم الثانية. وقد ذكر الثعلبي هذا الخبر بمعناه، وأن الجبار هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخا بالدماء وقال: كفيت نفسك إله السماء. قال عكرمة: تلطخ بدم سمكة من السماء، فذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلق. وقيل: طائر من الطير أصابه السهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأن الساعة قد قامت، فذلك قوله: « وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » . قال القشيري: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال. وذكر الماوردي عن ابن عباس: أن النمرود بن كنعان بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة، وجعل طول خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعا، وصعد منه مع النسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه. فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعي الصرح عليهم فهلكوا جميعا، فهذا معنى « وقد مكروا مكرهم » وفي الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلام والقرآن، لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال. وقال القشيري: « وعند الله مكرهم » أي هو عالم بذلك فيجازيهم أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. « وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال » بكسر اللام؛ أي ما كان مكرهم مكرا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وإن كان مكرهم » في تقديرهم « لتزول منه الجبال » وتؤثر في إبطال الإسلام. وقرئ « لتزول منه الجبال » بفتح اللام الأولى وضم الثانية؛ أي كان مكرا عظيما تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: « ومكروا مكرا كبارا » [ نوح: 22 ] والجبال لا تزول ولكن العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون.



الآية: 47 ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام )



قوله تعالى: « فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله » اسم الله تعالى و « مخلف » مفعولا تحسب؛ و « رسله » مفعول « وعده » وهو على الاتساع، والمعنى: مخلف وعده رسله؛ قال الشاعر:

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال القتبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير، والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في قولك: مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده. « إن الله عزيز ذو انتقام » أي من أعدائه. ومن أسمائه المنتقم وقد بيناه في « الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى » .



الآية: 48 ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار )



قوله تعالى: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » أي اذكر يوم تبدل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله. وقيل: هو صفة لقول: « يوم يقوم الحساب » [ إبراهيم: 41 ] . واختلف في كيفية تبديل الأرض، فقال كثير من الناس: إن تبدل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومد أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ابن ماجة في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب، قال حدثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ) ذكره الغزنوي. وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قال ابن عباس. وقيل: اختلاف أحوالها، فمرة كالمهل ومرة كالدهان؛ حكاه ابن الأنباري؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبينا في كتاب { التذكرة } وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه: فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في الظلمة دون الجسر ) . وذكر الحديث. وخرج عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات » فأين الناس يومئذ؟ قال: ( على الصراط ) . خرجه ابن ماجة بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذي عن عائشة وأنها هي لسائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه الأحاديث تنص على أن السماوات والأرض تبدل وتزال، ويخلق الله أرضا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجسر. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصه النقي ليس فيها علم لأحد ) . وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله عز وجل: « يوم تبدل الأرض غير الأرض » قال: تبدل خبرة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » [ الأنبياء: 8 ] . وقال ابن مسعود: إنه تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يعمل عليها خطيئة. وقال ابن عباس: بأرض من فضة بيضاء. وقال علي رضي الله عنه: تبدل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك. « وبرزوا لله الواحد القهار » أي من قبورهم، وقد تقدم.



الآية: 49 ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد )



قوله تعالى: « وترى المجرمين » وهم المشركون. « يومئذ » أي يوم القيامة. « مقرنين » أي مشدودين « في الأصفاد » وهي الأغلال والقيود، وأحدها صفد وصفد. ويقال: صفدته صفدا أي قيدته والاسم الصفد، فإذا أردت التكثير قلت: صفدته تصفيدا؛ قال عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

أي مقيدينا. وقال حسان:

من كل مأسور يشد صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حام

أي غله، وأصفدته إصفادا أعطيته. وقيل: صفدته وأصفدته جاريان في القيد والإعطاء جميعا؛ قال النابغة:

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد

فالصفد العطاء؛ لأنه يقيد ويعبد، قال أبو الطيب:

وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

قيل: يقرن كل كافر مع شيطان في غل، بيانه قوله: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] يعني قرناءهم من الشياطين. وقيل: إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي.



الآية: 50 ( سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار )



قوله تعالى: « سرابيلهم من قطران » أي قميصهم، عن ابن دريد وغيره، واحدها سربال، والفعل تسربلت وسربلت غيري؛ قال كعب بن مالك:

تلقاكم عصب حول النبي لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

« من قطران » يعني قطران الإبل الذي تهنأ به؛ قال الحسن. وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم. وفي الصحيح: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من فطران ودرع من جرب. وروي عن حماد أنهم قالوا: هو النحاس. وقرأ عيسى بن عمر: « قطران » بفتح القاف وتسكين الطاء. وفيه قراءة ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النجم:

جون كان العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا

وقراءة رابعة: « من قطران » رويت عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب؛ والقطر النحاس والصفر المذاب؛ ومنه قوله تعالى: « آتوني أفرغ عليه قطرا » [ الكهف: 96 ] . والآن: الذي قد انتهى إلى حره؛ ومنه قوله تعالى: « وبين حميم آن » . [ الرحمن: 44 ] . « وتغشى وجوههم النار » أي تضرب « وجوههم النار » فتغشيها.



الآية: 51 ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب )



قوله تعالى: « ليجزي الله كل نفس ما كسبت » أي بما كسبت. « إن الله سريع الحساب » تقدم.



الآية: 52 ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب )



قوله تعالى: « هذا بلاغ للناس » أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة. « ولينذروا به » أي ليخوفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ. « ولينذروا » بفتح الياء والذال، يقال: نذرت بالشيء أنذر إذا علمت به فاستعددت له، ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سرني أن نذرت بالشيء. « وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب » أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين. « وليذكر أولو الألباب » أي وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات في « ولينذروا » « وليعلموا » « وليذكر » متعلقة بمحذوف، التقدير: ولذلك أنزلناه. وروي يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم؛ قيل: وأين هو؟ قال قوله تعالى: « هذا بلاغ للناس ولينذروا به » إلى آخرها. تم تفسير سورة إبراهيم عليه السلام والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد يناير 20, 2013 11:38 pm

تفسير سورة الحجر للقرطبى
===========



الآية: 1 ( الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين )


تقدم معناه. و « الكتاب » قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين.



الآية: 2 ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين )


« رب » لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها « ما » هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون « ما » نكرة بمعنى شيء، و « يود » صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم « ربما » مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر:

ربَّما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء

وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها: رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر:

ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي

وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال: « ربما يود » وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - « ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين » ) . قال الحسن « إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة ومأواهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وقال الضحاك: هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدي من الضلالة. وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين.»



الآية: 3 ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )


قوله تعالى: « ذرهم يأكلوا ويتمتعوا » تهديد لهم. « ويلههم الأمل » أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى. « فسوف يعلمون » إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف.


في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) . وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجح فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك أخرها بالبخل والأمل ) . ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: ( يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:

يا ذا المؤمل أمالا وإن بعدت منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها

وقال الحسن: ( ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل ) . وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة.



الآية: 4 ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم )


أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.



الآية: 5 ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون )


« من » صلة؛ كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] .



الآيتان: 6 - 7 ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين )


قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و « لوما » تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في « لوما » بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي. وعلى هذا يجوز « لوما » بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام.

قال ابن مقبل:

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري

يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

أي هلا تعدون الكمي المقنعا.



الآية: 8 ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين )


قرأ حفص وحمزة والكسائي « ما ننزل الملائكة إلا بالحق » واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل « ما تُنَزَّل الملائكة » . الباقون « ما يَنَزَّل الملائكة » وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: « تنزل الملائكة والروح » [ القدر: 4 ] . ومعنى « إلا بالحق » إلا بالقرآن. وقيل بالرسالة؛ عن مجاهد. وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. « وما كانوا إذا منظرين » أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا. وأصل « إذا » إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها.



الآية: 9 ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )


قوله تعالى: « الذكر » يعني القرآن. « وإنا له لحافظون » من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره: « بما استحفظوا » [ المائدة: 44 ] ، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبدالله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز الكومي التلمساني قال: قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا علي بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المعروف بالطوماري حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: « بما استحفظوا من كتاب الله » [ المائدة: 44 ] ، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل: « وإنا له لحافظون » أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو « وإنا له لحافظون » من أن يكاد أو يقتل. نظيره « والله يعصمك من الناس » [ المائدة: 67 ] . و « نحن » يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و « نزلنا » الخبر. والجملة خبر « إن » . ويجوز أن يكون « نحن » تأكيدا لاسم « إن » في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لأن الذي بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات.



الآية: 10 ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين )


المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى: « أو يلبسكم شيعا » [ الأنعام: 65 ] . وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في « الأنعام » . - وقال الكلبي: إن الشيع هنا القرى.



الآية: 11 ( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون )


تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 21, 2013 11:13 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحجر
==============




الآيتان: 12 - 13 ( كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين )



قوله تعالى: « كذلك نسلكه » أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. « في قلوب المجرمين » من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل. وقال عدي بن زيد:

وقد سلكوك في يوم عصيب

والسلك ( بالكسر ) الخيط. وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي. « وقد خلت سنة الأولين » أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: « خلت سنة الأولين » بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك.



الآيتان: 14 - 15 ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون )



يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. « يعرجون » من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في « عليهم » للمشركين. وفي « فظلوا » للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة. ومعنى « سكرت » سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: « سكرت » غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر:

وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت عين الحرور تسكر

وقال مجاهد: « سكرت » حبست. ومنه قول أوس بن حجر:

فصرت على ليلة ساهره فليست بطلق ولا ساكره

قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز: « سكرت أبصارنا » سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير « سكرت » بالتخفيف، والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سكرت ملئت. قال المهدوي: والتخفيف والتشديد في « سكرت » ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن « سكر » لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ « سكرت » فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف [ من ] سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردي. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن « سكرت » بالتخفيف. قال الحسن: أي سحرت وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سحرت أبصارهم إذا غشيها سمادير حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ « سكرت » أخذه من سكور الريح. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة. والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن؛ أي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله. وسكور الريح سكونها وفتورها؛ فهو يرجع إلى معنى التحيير.



الآية: 16 ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين )



لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته. والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس: أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر؛ أي منازلهما. وأسماء هذه البروج: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب. وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف. وأصل البروج الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقد تقدم هذا المعنى في النساء. وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها. وارتفاعها. وقيل: الكواكب العظام؛ قال أبو صالح: يعني السبعة السيارة. وقال قوم: « بروجا » ؛ أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم. « وزيناها » يعني السماء؛ كما قال في سورة الملك: « ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح » [ الملك: 5 ] . « للناظرين » للمعتبرين والمتفكرين.



الآية: 17 ( وحفظناها من كل شيطان رجيم )



أي مرجوم. والرجم الرمي بالحجارة. وقيل: الرجم اللعن والطرد. وقد تقدم. وقال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم. وزعم الكلبي أن السماوات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سماوات إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ جميعها بعد بعثه وحرست منهم بالشهب. وقاله ابن عباس رضي الله عنه. قال ابن عباس: ( وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل؛ فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاؤوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب؛ على ما يأتي.



الآية: 18 ( إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين )



أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع. وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السماع. أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره؛ إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا؛ لقوله: « إنهم عن السمع لمعزولون » [ الشعراء: 212 ] . وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم؛ ذكره الحسن وابن عباس.



قوله تعالى: « فأتبعه شهاب مبين » أتبعه: أدركه ولحقه. شهاب: كوكب مضيء. وكذلك شهاب ثاقب. وقوله: « بشهاب قبس » [ النمل: 7 ] بشعلة نار في رأس عود؛ قاله ابن عزيز. وقال ذو الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفرية مسوم في سواد الليل منقضب

وسمي الكوكب شهابا لبريقه، يشبه النار. وقيل: شهاب لشعلة من نار، قبس لأهل الأرض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول: إنه كان من الأم كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعا، فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل. فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بكل ما جاؤوا به من كذبهم. وسيأتي هذا المعنى مرفوعا في سورة « سبأ » إن شاء الله تعالى.

واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل؛ فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم؛ فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن؛ ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق؛ ذكره الماوردي

قلت: والقول الأول أصح على ما يأتي بيانه في « الصافات » . واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث؛ فقال الأكثرون نعم. وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة « الجن » إن شاء الله تعالى. وفي « الصافات » أيضا. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل. ولا يبعد أن يقال: انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال: يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى. والشهاب في اللغة النار الساطعة. وذكر أبو داود عن عامر الشعبي قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم. فقال لهم - وكان رجلا أعمى - : لا تعجلوا، وانظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث. فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث. فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.



الآيتان: 19 - 20 ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين )



قوله تعالى: « والأرض مددناها » هذا من نعمه أيضا، ومما يدل على كمال قدرته. قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء؛ كما قال: « والأرض بعد ذلك دحاها » [ النازعات: 30 ] أي بسطها. وقال: « والأرض فرشناها فنعم الماهدون » [ الذاريات: 48 ] . وهو يرد على من زعم أنها كالكرة. وقد تقدم. « وألقينا فيها رواسي » جبالا ثابتة لئلا تتحرك بأهلها. « وأنبتنا فيها من كل شيء موزون » أي مقدر معلوم؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وإنما قال « موزون » لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء. قال الشاعر:

قد كنت قبل لقائكم ذا مِرَّة عندي لكل مخاصم ميزانه

وقال قتادة: موزون يعني مقسوم. وقال مجاهد: موزون معدود؛ ويقال: هذا كلام موزون؛ أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي أنبتنا في الأرض ما يوزن من الجواهر والحيوانات والمعادن. وقد قال الله عز وجل في الحيوان: « وأنبتها نباتا حسنا » [ آل عمران: 37 ] . والمقصود من الإنبات الإنشاء والإيجاد. وقيل: « أنبتنا فيها » أي في الجبال « من كل شيء موزون » من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير، حتى الزرنيخ والكحل، كل ذلك يوزن وزنا. روي معناه عن الحسن وابن زيد. وقيل: أنبتنا في الأرض الثمار مما يكال ويوزن. وقيل: ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدرا وأعم نفعا مما لا ثمن له. « وجعلنا لكم فيها معايش » يعني المطاعم والمشارب التي يعيشون بها؛ واحدها معيشة ( بسكون الياء ) . ومنه قول جرير:

تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالمرقق والصناب

والأصل معيشة على مفعلة ( بتحريك الياء ) . وقد تقدم في الأعراف. وقيل: إنها الملابس؛ قاله الحسن. وقيل: إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. « ومن لستم له برازقين » يريد الدواب والأنعام؛ قاله مجاهد. وعنده أيضا هم العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم: « نحن نرزقهم وإياكم » [ الإسراء: 31 ] ولفظ « من » يجوز أن يتناول العبيد والدواب إذا اجتمعوا؛ لأنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، غلب من يعقل. أي جعلنا لكم فيها معايش وعبيدا وإماء ودواب وأولادا نرزقهم ولا ترزقونهم. فـ « من » على هذا التأويل في موضع نصب؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: أراد به الوحش. قال سعيد: قرأ علينا منصور « ومن لستم له برازقين » قال: الوحش. فـ « من » على هذا تكون لما لا يعقل؛ مثل « فمنهم من يمشي على بطنه » [ النور: 45 ] الآية. وهي في محل خفض عطفا على الكاف والميم في قوله: « لكم » . وفيه قبح عند البصريين؛ فإنه لا يجوز عندهم عطف الظاهر على المضمر إلا بإعادة حرف الجر؛ مثل مررت به ويزيد. ولا يجوز مررت به وزيد إلا في الشعر. كما قال:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » وسورة « النساء » .



الآية: 21 ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم )



قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني المطر المنزل من السماء، لأن به نبات كل شيء. قال الحسن: المطر خزائن كل شيء. وقيل: الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق؛ قاله الكلبي. والمعنى واحد. « وما ننزله إلا بقدر معلوم » أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال: « ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء » [ الشورى: 27 ] . وروي عن ابن مسعود والحكم بن عيينة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر. في البحار والقفار.

والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن. وما كان في خزانة الإنسان كان معدا له. فكذلك ما يقدر عليه الرب فكأنه معد عنده؛ قاله القشيري. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » . والإنزال بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » وقوله: « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » [ الحديد: 25 ] . وقيل: الإنزال بمعنى الإعطاء، وسماه إنزالا لأن أحكام الله إنما تنزل من السماء.



الآية: 22 ( وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين )



قوله تعالى: « وأرسلنا الرياح » قراءة العامة « الرياح » بالجمع. وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد. كما يقال: جاءت الريح من كل جانب. كما يقال: أرض سباسب وثوب أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع. وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ « لواقح » وهي جمع. ومعنى لواقح حوامل؛ لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الأزهري: وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب؛ أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره، أي تنزله؛ قال الله تعالى: « حتى إذا أقلت سحابا ثقالا » [ الأعراف: 57 ] أي حملت. وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها. وقيل: لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل، ولكنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح، كأن الرياح لقحت بخير. وقيل: ذوات لقح، وكل ذلك صحيح؛ أي منها ما يلقح الشجر؛ كقولهم: عيشة راضية؛ أي فيها رضا، وليل نائم؛ أي فيه نوم. ومنها ما تأتي بالسحاب. يقال: لقحت الناقة ( بالكسر ) لقحا ولقاحا ( بالفتح ) فهي لاقح. وألقحها الفحل أي ألقى إليها الماء فحملته؛ فالرياح كالفحل للسحاب. قال الجوهري: ورياح لواقح ولا يقال ملاقح، وهو من النوادر. وحكى المهدوي عن أبي عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنه جمع ملقحة وملقح، ثم حذفت زوائده. وقيل: هو جمع لاقحة ولاقح، على معنى ذات اللقاح على النسب. ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملا. والعرب تقول للجنوب: لاقح وحامل، وللشمال حامل وعقيم. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر. وقيل: الريح الملاقح التي تحمل الندى فتمجه في السحاب، فإذا اجتمع فيه صار مطرا. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح التي ذكرها الله في كتابه وفيها منافح للناس ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال: ( ما هبت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غدقة ) . وقال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيها؛ فالصبا تهيجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدره، والشمال تفرقه.



روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم عن مالك - واللفظ لأشهب - قال مالك: قال الله تعالى: « وأرسلنا الرياح لواقح » فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولا أدري ما ييبس في أكمامه، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فساد الأخير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله؛ لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد ) . قال ابن عبدالبر: الإبار عند أهل العلم في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شيء من طلع [ ذكور ] النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث. ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها. والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط. وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض؛ قاله مالك. وقد روي عنه أن إباره أن يحبب. ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره ممن حال مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر؛ لأنه قد جاء عليه وقت الإبار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحب. فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له. كما أن الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه.



روى الأئمة كلهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع ) . قال علماؤنا: إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الأصول في البيع إلا بالشرط؛ لأنه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبا. بخلاف التي لم تؤبر؛ إذ ليس سقوطها مأمونا فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها؛ لأنها كالجنين. وهذا هو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يجوز استثناؤها؛ هو قول الشافعي.

لو اشتري النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد. وعنه في رواية: لا يجوز. وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث. وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.



ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن بيع الملاقح؛ والملاقح الفحول من الإبل، الواحد ملقح. والملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة ( بفتح القاف ) . والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة، الواحدة ملقوحة؛ من قولهم: لقحت؛ كالمحموم من حم، والمجنون من جن. وفي هذا جاء النهي. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ( نهى عن المجر وهو بيع ما في بطون الإناث. ونهى عن المضامين والملاقيح ) . قال أبو عبيد: المضامين ما في البطون، وهي الأجنة. والملاقيح ما في أصلاب الفحول. وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. وقيل بالعكس: إن المضامين ما في ظهور الجمال، والملاقيح ما في بطون الإناث. وهو قول ابن حبيب وغيره. وأي الأمرين كان، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز. وذكر المزني عن ابن هشام شاهدا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الأعراب:

منيتي ملاقحا في الأبطن تنتج ما تلقح بعد أزمن

وذكر الجوهري على ذلك شاهدا قول الراجز:

إنا وجدنا طرد الهوامل خيرا من التنان والمسائل

وعدة العام وعام قابل ملقوحة في بطن ناب حامل



قوله تعالى: « وأنزلنا من السماء » أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. « ماء » أي قطرا. « فأسقيناكموه » أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. وقيل: سقى وأسقى بمعنى. وقيل بالفرق، وقد تقدم. « وما أنتم له بخازنين » أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا. ومثله « وأنزلنا من السماء ماء طهورا » [ الفرقان: 48 ] ، « وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون » [ المؤمنون: 18 ] . وقال سفيان: لستم بمانعين المطر.



الآية: 23 ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون )



أي الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا. نظيره « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون » [ مريم: 40 ] . فملك كل شيء لله تعالى. ولكن ملك عباده أملاكا فإذا ماتوا انقطعت الدعاوى، فكان الله وارثا من هذا الوجه. وقيل: الإحياء في هذه الآية إحياء النطفة في الأرحام. فأما البعث فقد ذكره بعد هذا في قوله: « وإن ربك هو يحشرهم » [ الحجر: 25 ] .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 23, 2013 1:28 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحجر
==============




الآية: 24 ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين )



قوله تعالى: « ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين » فيه ثمان تأويلات: « المستقدمين » في الخلق إلى اليوم، و « المستأخرين » الذين لم يخلقوا بعد؛ قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني - « المستقدمين » الأموات، و « المستأخرين » الأحياء؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثالث: « المستقدمين » من تقدم أمة محمد، و « المستأخرين » أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله مجاهد. الرابع - « المستقدمين » في الطاعة والخير، و « المستأخرين » في المعصية والشر؛ قاله الحسن وقتادة أيضا. الخامس - « المستقدمين » في صفوف الحرب، و « المستأخرين » فيها؛ قاله سعيد بن المسيب. السادس: « المستقدمين » من قتل في الجهاد، و « المستأخرين » من لم يقتل، قاله القرظي. السابع: « المستقدمين » أول الخلق، و « المستأخرين » آخر الخلق، قال الشعبي. الثامن: « المستقدمين » في صفوف الصلاة، و « المستأخرين » فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم الله تعالى؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية؛ لما رواه النسائي والترمذي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: « كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عز وجل « ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين » . وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عباس. وهو أصح. »



هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) . فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الأول مجاور الإمام، حاز ثلاث مراتب في الفضل: أول الوقت، والصف الأول، ومجاورة الإمام. فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الأول، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الأول والمجاورة. فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الأول دون ما يلي الإمام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الأول، وفاته مجاورة الإمام. فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الأول فقد فاته فضيلة أول الوقت، وحاز فضيلة الصف الأول ومجاورة الإمام. وهكذا. ومجاورة الإمام لا تكون لكل أحد، وإنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ) الحديث. فيما يلي الإمام ينبغي أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها غيره أخر وتقدم وهو إلى الموضع؛ لأنه حقه بأمر صاحب الشرع، كالمحراب هو موضع الإمام تقدم أو تأخر؛ قاله ابن العربي.

قلت: وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه: تأخر يا فلان، تقدم يا فلان؛ ثم يتقدم فيكبر. وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وسيأتي في سورة « الصافات » زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.



وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال؛ فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل؛ فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.



الآية: 25 ( وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم )



قوله تعالى: « وإن ربك هو يحشرهم » أي للحساب والجزاء. « إنه حكيم عليم » تقدم.



الآية: 26 ( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون )



قوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان » يعني آدم عليه السلام. « من صلصال » أي من طين يابس؛ عن ابن عباس وغيره. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار؛ عن أبي عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة:

كعدو المصلصل الجوال

وقال مجاهد: هو الطين المنتن؛ واختاره الكسائي. قال: وهو من قول العرب: صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة:

ذاك فتى يبذل ذا قدره لا يفسد اللحم لديه الصلول

وطين صلال ومصلال؛ أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا، أي متفرق الأجزاء ثم بل فصار طينا؛ ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا؛ أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا؛ على قول الجمهور. وقد مضى في « البقرة » بيان هذا. والحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين؛ تقول منه: حمئت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة؛ عن ابن السكيت. وقال أبو عبيدة: الحمأة ( بسكون الميم ) مثل الكمأة. والجمع حمء، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمي به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس: ( هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالا كالفخار ) . ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغير؛ من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير؛ ومنه « يتسنه » [ البقرة: 259 ] و « ماء غير آسن » [ محمد: 15 ] . ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:

سقت صداي رضابا غير ذي أسن كالمسك فت على ماء العناقيد

وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين؛ ومنه المسن. قال الشاعر:

ثم خاصرتها إلى القبة الحمراء تمشي في مرمر مسنون

أي محكول مملس. حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال:

هي زهراء مثل لؤلوة الغواص ميزت من جوهر مكنون

فقال معاوية: صدق! فقال يزيد: [ إنه يقول ] :

وإذا ما نسبتها لم تجدها في سناء من المكارم دون

فقال: صدق! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية: كذب. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ( المسنون الرطب ) ؛ وهذا بمعنى المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن ( بالشين ) تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه: المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة:

تريك سنة وجه مفرقة ملساء ليس لها خال ولا ندب

وقال الأخفش: المسنون. المنصوب القائم؛ من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصلصال للتراب المدقق؛ حكاه المهدوي. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين. « من حمأ » مفسر لجنس الصلصال؛ كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب.



الآية: 27 ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم )



قوله تعالى: « والجان خلقناه من قبل » أي من قبل خلق آدم. وقال الحسن: يعني إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. وسمي جانا لتواريه عن الأعين. وفي صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يمالك ) . « من نار السموم » قال ابن مسعود: ( نار السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) . وقال ابن عباس: ( السموم الريح الحارة التي تقتل ) . وعنه ( أنها نار لا دخان لها ) ، والصواعق تكون منها، وهي نار تكون بين السماء والحجاب. فإذا أحدث الله أمرا اخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت. فالهدة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وقال الحسن: نار السموم نار دونها حجاب، والذي تسمعون من انغطاط السحاب صوتها. وعن ابن عباس أيضا قال: ( كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال - : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار.

قلت: هذا فيه نظر؛ فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر؛ إذ مثله لا يقال من جهة الرأي. وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ) . فقوله: ( خلقت الملائكة من نور ) يقتضي العموم. والله أعلم. وقال الجوهري: مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو يوم مسموم، والجمع سمائم. قال أبو عبيدة: ( السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار ) . القشيري: وسميت الريح الحارة سموما لدخولها في مسام البدن.



الآيتان: 28 - 29 ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )



قوله تعالى: « وإذ قال ربك للملائكة » تقدم في « البقرة » . « إني خالق بشرا من صلصال » من طين « فإذا سويته » أي سويت خلقه وصورته. « ونفخت فيه من روحي » النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ كقوله: ( أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ) . ومثله « وروح منه » وقد تقدم في « النساء » مبينا. وذكرنا في كتاب ( التذكرة ) الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد. وسيأتي ذلك إن شاء الله. ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد: فإذا ركبت فيه الحياة. « فقعوا له ساجدين » أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد؛ ففضل الأنبياء على الملائكة. وقد تقدم في « البقرة » هذا المعنى. وقال القفال: كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. وهو مذهب المعتزلة. وقيل: أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم.



الآيتان: 30 - 31 ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين )



قوله تعالى « فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس » فيه مسألتان: الأولى: لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود؛ لقول: « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » [ الأعراف: 12 ] وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام؛ كما تقدم في « البقرة » بيانه. ثم قيل: كان من الملائكة؛ فهو استثناء من الجنس. وقال قوم: لم يكن من الملائكة؛ فهو استثناء منقطع. وقد مضى في « البقرة » هذا كله مستوفى. وقال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس؛ لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. فآدم أبو الإنس. والجان أبو الجن. وإبليس أبو الشياطين؛ ذكره الماوردي. والذي تقدم في « البقرة » خلاف هذا، فتأمله هناك.

الثانية: الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال: لفلان علي دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة. ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات. وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما: استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل. فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول: علي عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ. وقال محمد بن الحسن: الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة ما أقر به. والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس؛ قال الله تعالى: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما سلاما » [ الواقعة: 25 - 26 ] فاستثنى السلام من جملة اللغو. ومثله « فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس » وإبليس من جملة الملائكة؛ قال الله تعالى: « إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه » [ الكهف: 50 ] وقال الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء، والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس؛ ومثله قول النابغة:

[ حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب ] ( دار الحديث )



الآيات: 32 - 35 ( قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين )



قوله تعالى: « قال يا إبليس ما لك » أي ما المانع لك. « ألا تكون مع الساجدين » أي في ألا تكون. « قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون » بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين؛ كما تقدم في « الأعراف » بيانه. « قال فاخرج منها » أي من السماوات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. « فإنك رجيم » أي مرجوم بالشهب. وقيل: ملعون مشؤوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف. « وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين » أي لعنتي، كما في سورة « ص » .



الآيات: 36 - 38 ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم )



قوله تعالى: « قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون » هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء؛ ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه؛ كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون: أجلا يموت؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. قال الله تعالى: « فإنك من المنظرين » يعني من المؤجلين. « إلى يوم الوقت المعلوم » قال ابن عباس: ( أراد به النفخة الأولى ) ، أي حين تموت الخلائق. وقيل: الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث؛ قال الله تعالى: « كل من عليها فان » [ الرحمن: 26 ] . وفي كلام الله تعالى له قولان: أحدهما: كلمه على لسان رسوله.

الثاني: كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.



الآية: 39 ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين )



قوله تعالى: « قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض » تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف. وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: « ولأغوينهم أجمعين » أي لأضلنهم عن طريق الهدى. وروى ابن لهيعة عبدالله عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) .



الآية: 40 ( إلا عبادك منهم المخلصين )



قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام؛ أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: ( الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس ) .



الآية: 41 ( قال هذا صراط علي مستقيم )



قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. الحسن: « علي » بمعنى إلي. مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تهدده: طريقك علي ومصيرك إلي. وكقوله: « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر: 14 ] . فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلا بعمله، يعني طريق العبودية. وقيل: المعنى علي أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان. وقيل: بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيربن وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب « هذا صراط علي مستقيم » برفع « علي » وتنوينه؛ ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق. وقيل: رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال.



الآية: 42 ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين )



قوله تعالى: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » قال العلماء: يعني على قلوبهم. وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.

قلت: لعل قائلا يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله: « فأزلهما الشيطان » [ البقرة: 36 ] ، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله: « إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا » [ آل عمران: 155 ] فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول؛ على ما تقدم في « البقرة » بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران. ثم إن قوله سبحانه: « ليس لك عليهم سلطان » يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة؛ كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس في النوم تفريط ) ففرج عنهم. « إلا من اتبعك من الغاوين » أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء؛ دليله « إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون » [ النحل: 100 ] .

وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول: عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثتاء « الغاوين » من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 23, 2013 11:24 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحجر
==============






الآيتان: 43 - 44 ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم )



قوله تعالى: « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » يعني إبليس ومن اتبعه. « لها سبعة أبواب » أي أطباق، طبق فوق طبق « لكل باب منهم » أي لكل طبقة « منهم جزء مقسوم » أي حظ معلوم. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال: سمعت حطان بن عبدالله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا: هي مثل أبوابنا. قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض، - زاد الثعلبي: ووضع إحدى يديه على الأخرى: وأن الله وضع الجنان على الأرض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة.

قلت: كذا وقع هذا التفسير. والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها. ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة. قال الله تعالى: « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » [ النساء: 145 ] - وقد تقدم في النساء - ، وقال: « أدخلوا آل فرعون أشد العذاب » [ غافر:46 ] . وقسم معاذ بن جبل رضي الله عنه العلماء السوء من هذه الأمة تقسيما على تلك الأبواب؛ ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتي ) قال: حديث غريب.

وقال أبي بن كعب: ( لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية. وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة. وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى: « لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم » جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله. ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) له، وقال: فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية. والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا. والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه، وهم الدهرية. والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي؛ لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه. والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم. والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب؛ فهم يعبدون ما يرغبون فيه، لهم جميع حظهم من الله تعالى. والعاتون على الله الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون. والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت الحديث. ويروى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » ؟ فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي؛ فأنزل الله تعالى « إن المتقين في جنات وعيون » [ الحجر: 45 ] . وقال بلال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية « لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم » فخرت الأعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا هذه مالك ) ؟ فقالت: أهذا شيء من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك؟ فقال: ( يا أعرابيه، بل هو من كتاب الله تعالى المنزل ) فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها؟ قال: ( يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم ) فقالت: والله إني امرأة مسكينة، ما لي مال، وما لي إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله، أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى: فأتاه جبريل فقال. « يا رسول الله، بشر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها ) .»



الآيتان: 45 - 46 ( إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين )



قوله تعالى: « إن المتقين في جنات وعيون » أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. و « في جنات » أي بساتين. « وعيون » هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. وأما العيون المذكورة في سورة « الإنسان » : الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفي « المطففين » : التسنيم، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله. وضم العين من « عيون » على الأصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما - « ادخلوها بسلام آمنين » قراءة العامة « ادخلوها » بوصل الألف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الأمر. تقديره: قيل ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب « ادخلوها » بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل. أي أدخلهم الله إياها. ومذهبهم كسر التنوين في مثل « برحمة ادخلوا الجنة » [ الأعراف: 49 ] وشبهه؛ إلا أنهم ههنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين؛ إذ هي ألف قطع، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان. « بسلام » أي بسلامة من كل داء وآفة. وقيل: بتحية من الله لهم. « آمنين » أي من الموت والعذاب والعزل والزوال.



الآيتان: 47 - 48 ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين )



قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجههم، وتجري عليهم نضرة النعيم؛ ونحوه عن علي رضي الله عنه. وقال علي بن الحسين: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل. والقول الأول أظهر، يدل عليه سياق الآية. وقال علي رضي الله عنه: ( أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء ) . والغل: الحقد والعداوة؛ يقال منه: غل يغل. ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم: غل يغل: ويقال من الخيانة: أغل يغل. كما قال:

جزى الله عنا حمزة بنة نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب

وقد مضى هذا في آل عمران. « إخوانا على سرر متقابلين » أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الأسرة تدور كيفما شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقيل: « متقابلين » قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود. وسرر جمع سرير. مثل جديد وجدد. وقيل: هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور. والأول أظهر. قال ابن عباس: ( على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر ) ، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة. « وإخوانا » نصب على الحال من « المتقين » أو من المضمر في « ادخلوها » ، أو من المضمر في « آمنين » ، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في « صدورهم » . « لا يمسهم فيها نصب » أي إعياء وتعب. « وما هم منها بمخرجين » دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون. أكلها دائم؛ « إن هذا لرزقنا ما له من نفاد » [ ص: 54 ] .



الآيتان: 49 - 50 ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم )



هذه الآية وزان قوله عليه السلام: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. وقد تقدم في الفاتحة. وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: ( أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار ) فشق ذلك عليهم فنزلت الآية. ذكره الماوردي والمهدوي. ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال: ( مالكم تضحكون لا أراكم تضحكون ) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري فقال لنا: ( إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتي « نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم » . فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها.

الآية [ 51 ] في الصفحة التالية ...



الآيات: 51 - 54 ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون )



قوله تعالى: « ونبئهم عن ضيف إبراهيم » ضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدم ذكرهم. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في « هود » ما يكفي والحمد لله. « إذ دخلوا عليه » جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر. ضافه وأضافه أماله؛ ومنه الحديث ( حين تضيف الشمس للغروب ) ، وضيفوفة السهم، والإضافة والنحوية. « فقالوا سلاما » أي سلموا سلاما. « قال إنا منكم وجلون » أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدم في هود. وقيل: أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام. « قالوا لا توجل » أي قالت الملائكة لا تخف. « إنا نبشرك بغلام عليم » أي حليم؛ قاله مقاتل. وقال الجمهور: عالم. وهو إسحاق. « قال أبشرتموني على أن مسني الكبر » « أن » مصدرية؛ أي علي مس الكبر إياي وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم، حيث يقول: « فبم تبشرون » استفهام تعجب. وقيل: استفهام حقيقي. وقرأ الحسن « توجل » بضم التاء. والأعمش « بشرتموني » بغير ألف، ونافع وشيبة « تبشرون » بكسر النون والتخفيف؛ مثل، « أتحاجوني » وقد تقدم تعليله. وقرأ ابن كثير وابن محيصن « تبشرون » بكسر النون مشددة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون. الباقون « تبشرون » بنصب النون بغير إضافة.



الآية: 55 ( قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين )



قوله تعالى: « قالوا بشرناك بالحق » أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لابد منه. « فلا تكن من القانطين » أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر. وقراءة العامة « من القانطين » بالألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب « من القنطين » بلا ألف. وروي عن أبي عمرو. وهو مقصور من « القانطين » . ويجوز أن يكون من لغة من قال: قنط يقنط؛ مثل حذر يحذر. وفتح النون وكسرها من « يقنط » لغتان قرئ بهما. وحكى فيه « يقنط » بالضم. ولم يأت فيه « قنط يقنط » [ و ] من فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنَط يقنِط، وفي المستقبل بلغة من قال: قنِظ يقنَط؛ ذكره المهدوي.



الآية: 56 ( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )



أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.



الآيات: 57 - 60 ( قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين )



لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال: فما خطبكم؟ والخطب الأمر الخطير. أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به. « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » أي مشركين ضالين. وفي الكلام إضمار؛ أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم. « إلا آل لوط » أتباعه وأهل دينه. « إنا لمنجوهم » وقرأ حمزة والكسائي « لمنْجُوهم » بالتخفيف من أنجى. الباقون: بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. والتنجية والإنجاء التخليص. « إلا امرأته » استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك. وقد تقدمت قصة قوم لوط في « الأعراف » وسورة « هود » بما فيه كفاية. « قدرنا إنها لمن الغابرين » أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب. والغابر: الباقي. قال:

لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج

الأغبار بقايا اللبن. وقرأ أبو بكر والمفضل « قَدَرنا » بالتخفيف هنا وفي النمل، وشدد الباقون. الهروي: يقال قدَّر وقدَر، بمعنى.



لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ فإذا قال رجل: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما؛ ثبت الإقرار بسبعة؛ لأن الدرهم مستثنى من الأربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: علي خمسة دراهم إلا درهم إلا ثلثيه؛ كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة؛ كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان؛ لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير. فقوله سبحانه: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته » فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال: « إلا امرأته » فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين؛ لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه.



الآيات: 61 - 65 ( فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون، قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون، فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون )



قوله تعالى: « فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون » أي لا أعرفكم. وقيل: كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه؛ فهذا هو الإنكار. « قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون » أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب. « وأتيناك بالحق » أي بالصدق. وقيل: بالعذاب. « وإنا لصادقون » أي في هلاكهم. « فأسر بأهلك بقطع من الليل » تقدم في « هود » . « واتبع أدبارهم » أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب. « ولا يلتفت منكم أحد » نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح. وقيل: المعنى لا يتخلف. « وامضوا حيث تؤمرون » قال ابن عباس ( يعني الشام ) . مقاتل. يعني صفد، قرية من قرى لوط. وقد تقدم. وقيل: إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمي اليقين لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل: من أين يخسف بهم؟ قال: ( من هاهنا ) وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط. جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم: ( أيقنت بالله ) فسمي اليقين.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 24, 2013 11:34 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحجر
=============



الآيات: 66 - 71 ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وجاء أهل المدينة يستبشرون، قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون، قالوا أولم ننهك عن العالمين، قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين )



قوله تعالى: « وقضينا إليه » أي أوحينا إلى لوط. « ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين » نظيره « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » . [ الأنعام: 45 ] « مصبحين » أي عند طلوع الصبح. وقد تقدم. « وجاء أهل المدينة » أي أهل مدينة لوط « يستبشرون » مستبشرين بالأضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة. « قال إن هؤلاء ضيفي » أي أضيافي. « فلا تفضحون » أي تخجلون. « واتقوا الله ولا تخزون » يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل. وقد تقدم في هود. « قالوا أولم ننهك عن العالمين » أي عن أن تضيف، أحدا لأنا نريد منهم الفاحشة. وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء؛ عن الحسن. وقد تقدم في الأعراف. وقيل: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة. « قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين » أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. وقد تقدم بيان هذا في هود.



الآية: 72 ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون )



قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله تعالى ههنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.

قلت: وهكذا قال القاضي عياض: أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه وبقائك يا محمد. وقيل وحياتك. وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: « ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي ضعفيه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أكرم على الله منه؛ أو لا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع. ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة » .

قلت: ما قاله حسن؛ فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاما معترضا في قصة لوط. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم في تفسيره: ويحتمل أن يقال: يرجع ذلك إلى قوم لوط، أي كانوا في سكرتهم يعمهون. وقيل: لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة: يا لوط، « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » ولا يدرون ما يحل بهم صباحا. فإن قيل: فقد أقسم تعالى بالتين والزيتون وطور سينين؛ فما في هذا؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده. والعمر والعمر ( بضم العين وفتحها ) لغتان ومعناهما واحد؛ إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال. وتقول: عمرك الله، أي أسأل الله تعميرك. و « لعمرك » رفع بالابتداء وخبره محذوف. المعنى لعمرك مما أقسم به.



كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري؛ لأن معناه وحياتي. قال إبراهيم النخعي: يكره للرجل أن يقول لعمري؛ لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. ونحو هذا قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك، وليس من كلام أهل الذكران، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره. وقال ابن حبيب: ينبغي أن يصرف « لعمرك » في الكلام لهذه الآية. وقال قتادة: هو من كلام العرب. قال ابن العربي: وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه.

قلت. القسم بـ « لعمرك ولعمري » ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير.

قال النابغة:

لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا على الأقارع

آخر:

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد

آخر:

أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان

آخر:

إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها

وقال بعض أهل المعاني: لا يجوز هذا؛ لأنه لا يقال لله عمر، وإنما هو تعالى أزلي. ذكره الزهراوي.



قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في « المائدة » ، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لزمته الكفارة. قال ابن خويز منداد: من جوز الحلف بغير الله تعالى مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة؛ إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما؛ لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه. قالوا: وقوله تعالى « لعمرك » أي وحياتك. وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وعلى مذهب مالك معنى قوله: « لعمرك » و « التين والزيتون » [ التين: 1 ] . « والطور. وكتاب مسطور » [ الطور: 1 - 2 ] « والنجم إذا هوى » [ النجم: 1 ] « والشمس وضحاها » [ الضحى. 1 ] « لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد » [ البلد: 1 - 3 ] كل هذا معناه: وخالق التين والزيتون، وبرب الكتاب المسطور، وبرب البلد الذي حللت به، وخالق عيشك وحياتك، وحق محمد؛ فلليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق. قال ابن خويز منداد: ومن جوز اليمين بغير الله تعالى تأول قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحلفوا بآبائكم ) وقال: إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم: ( للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ) . ومالك حمل الحديث على ظاهره. قال ابن خويز منداد: واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لي بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه.



الآيتان: 73 - 74 ( فأخذتهم الصيحة مشرقين، فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل )



قوله تعالى: « فأخذتهم الصيحة مشرقين » نصب على الحال، أي وقت شروق الشمس. يقال: أشرقت الشمس أي أضاءت، وشرقت إذا طلعت. وقيل: هما لغتان بمعنى. وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس. مثل أصبحوا وأمسوا، وهو المراد في الآية. وقيل: أراد شروق الفجر. وقيل: أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك. والله أعلم. و « الصيحة » العذاب. وتقدم ذكر « سجيل » [ هود: 82 ] .



الآية: 75 ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين )



قوله تعالى: « للمتوسمين » روى الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( للمتفرسين ) وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - « إن في ذلك لآيات للمتوسمين » ) . قال: هذا حديث غريب. وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للنظارين. قال الشاعر:

أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسموا

وقال قتادة: للمعتبرين. قال زهير:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم

وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب. وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم ) . قال العلماء: التوسم تفعل من الوسم، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه؛ ومنه قول عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم:

إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت البصر

آخر:

توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم

واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلأ الوسمي. وأنشد:

وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من ظاعن متوسم

وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر؛ مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس « للمتوسمين » قال: لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار؛ فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس،: ( ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ) . وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حداد. وروي عن جندب بن عبدالله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا؛ فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس. وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه. وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن. وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث. فقال: ما له قاتله الله! إني لأرى للمسلمين منه. يوما عصيبا؛ فكان منه في الفتنة ما كان. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: ( يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنى فقال له أنس: أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق ) . ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.



قال أبو بكر بن العربي: « إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح؛ فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها»



الآيات: 76 - 79 ( وإنها لبسبيل مقيم، إن في ذلك لآية للمؤمنين، وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين، فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين )



قوله تعالى: « وإنها » يعني قرى قوم لوط. « لبسبيل مقيم » أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام. « إن في ذلك لآية للمؤمنين » أي لعبرة للمصدقين. « وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين » يريد قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر مثمر. والأيكة: الغيضة، وهي جماعة الشجر، والجمع الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل. قال النابغة:

تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد

وقيل: الأيكة اسم القرية. وقيل اسم البلدة. وقال أبو عبيدة: الأيكة وليكة مدينتهم، بمنزلة بكة من مكة. وتقدم خبر شعيب وقومه. « وإنهما لبإمام مبين » أي بطريق واضح في نفسه، يعني مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة يعتبر بهما من يمر عليهما.



الآية: 80 ( ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين )



الحجر ينطلق على معان: منها حجر الكعبة. ومنها الحرام؛ قال الله تعالى: « وحجرا محجورا » [ الفرقان: 53 ] أي حراما محرما. والحجر العقل؛ قال الله تعالى: « لذي حجر » [ الفجر: 5 ] والحجر حجر القميص؛ والفتح أفصح. والحجر الفرس الأنثى. والحجر ديار ثمود، وهو المراد هنا، أي المدينة؛ قال الأزهري. قتادة: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود. الطبري: هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح. وقال: « المرسلين » وهو صالح وحده، ولكن من كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم؛ لأنهم على دين واحد في الأصول فلا يجوز التفريق بينهم. وقيل: كذبوا صالحا ومن تبعه ومن تقدمه من النبيين أيضا. والله أعلم

روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا واستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفي الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة. وروي أيضا عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ثم زجر فأسرع.

قلت: ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها: كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار؛ فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والإسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة ) .

مسألة: أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله. وقال ( اعلفوه الإبل ) . قلت: وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها: قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم؛ إذ لا تكليف عليها؛ وكذلك قال، في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. وثالثها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل، ولم يأمر بطرحه كما أمر لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر؛ فدل على أن لحم الحمر أشد. في التحريم وأغلظ في التنجيس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس. قال الشافعي: ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه؛ لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه. ورابعها: في أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها؛ خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال: تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم. وخامسها: أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم؛ كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم. هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض؛ كما كثير:

أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب

وكما قال آخر:

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

وسادسها: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال: لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب. قال ابن العربي: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ببت الله. وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد زاد علماؤنا: الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة. قال ابن العربي: ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير، ومنه ما منع لحق الله تعالى، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها؛ فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة. وذكر أبو مصعب عنه الكراهة. وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة، وبين مقبرة المسلمين والمشركين؛ لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر. وقال مالك في المجموعة: لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا؛ كأنه رأى لها علتين: الاستتار بها ونفارها فتفسد على المصلي صلاته، فإن كانت واحدة فلا بأس؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل؛ في الحديث الصحيح. وقال مالك: لا يصلي على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن القاسم الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل، وفي الدار المغصوبة، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. قال ابن العربي: وذلك عندي بخلاف الأرض. فإن الدار لا تدخل إلا بإذن، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك.

قلت: الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا واد به شيطان ) وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة. وقول علي: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. وقوله عليه السلام حين مر بالحجر من ثمود: ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ) ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها. قال الإمام الحافظ أبو عمر: المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا: إن ذلك من فضائله ومما خصى به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال صلى الله عليه وسلم: ( أوتيت خمسا - وقد روي ستا، وقد روي ثلاثا وأربعا، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع، قال فيهن - ( لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر. وختم بي النبيون ) رواه جماعة من الصحابة. وبعضهم يذكر بعضها، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره، وهي صحاح كلها. وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان؛ ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا؛ وكذلك روي عنه. وقال: ( ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ثم نزلت « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . وسمع رجلا يقوله: يا خير البرية؛ فقال: ( ذاك إبراهيم ) وقال: ( لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى ) وقال: ( السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ) ثم قال بعد ذلك كله: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) . ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله؛ فمن ههنا قلنا: إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان، وجائز فيها الزيادة. وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ( حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد ) ذكره البخاري ولم يخص موضعا من موضع.

وأما من احتج بحديث ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة. وقد كتب الليث بن سعد إلى عبدالله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، وكتب إليه عبدالله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل. ذكره الحلواني عن سعيد بن أبي مريم عن الليث، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه، وأبو صالح الذي رواه عن علي هو سعيد بن عبدالرحمن الغفاري، بصري ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن علي، ومن دونه مجهولون لا يعرفون. قال أبو عمر: وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد، رواه الفضل بن دكين قال: حدثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل، قلنا: يا أمير المؤمنين أمسيت، الصلاة الصلاة؛ فأبى أن يكلم أحدا. قالوا: يا أمير المؤمنين، قد أمسيت. قال بلى، ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها. والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة؛ قاله يحيى بن معين وغيره. وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) . قال الترمذي: رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي مرسلا، وكأنه أثبت وأصح. قال أبو عمر: فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا. ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنين: إن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة؛ فإنه قال: المقبرة والحمام بالألف واللام؛ فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر. ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المشركين من أحد وجهين: إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر؛ لأن كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك، وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بما لا معنى له. أو يكون من أجل أنها بقعة سخط، فلو كان كذلك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبني مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبني عليها، ولو جاز لقائل أن يخص من المقام مقبرة للصلاة فيها لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث. وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة من مقبرة؛ لأن الألف واللام إشارة إلى الجنس لا إلى معهود، ولو كان بين مقبرة المسلمين والمشركين فرق لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يهمله؛ لأنه بعث مبينا. ولو ساغ لجاهل أن يقول: مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول: حمام كذا؛ لأن في الحديث المقبرة والحمام. وكذلك قوله: المزبلة والمجزرة؛ غير جائز أن يقال: مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا؛ لأن التحكم في دين الله غير جائز.

وأجمع العلماء على أن التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز. وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر، أن صلاته ماضية جائزة. وقد تقدم هذا في سورة « براءة » . ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة؛ لأنها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها، وليس كذلك المقبرة. وقد وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد. روى النسائي عن طلق بن علي قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، وذكر الحديث. وفيه: ( فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا ) . وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. وقد تقدم في « براءة » . وحسبك بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى مبنيا في مقبرة المشركين؛ وهو حجة على كل من كره الصلاة فيها. وممن كره الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين الثوري أجزأه إذا صلى في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة؛ للأحاديث المعلومة في ذلك، ولحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) ، ولحديث أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ) . وهذان حديثان ثابتان من جهة الإسناد، ولا حجة فيهما؛ لأنهما محتملان للتأويل، ولا يجب أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا. ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكيناه من خطل القول الذي لا يشتغل بمثله، ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر. وثامنها: الحائط يلقى فيه النتن والعذرة ليكرم فلا يصلى فيه حتى يسقى ثلاث مرات، لما رواه الدارقطني عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن قال: ( إذا سقي ثلاث مرات فصل فيه ) . وخرجه أيضا من حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن هذه الحيطان التي تلقى فيها العذرات وهذا الزبل، أيصلى فيها؟ فقال: إذا سقيت ثلاث مرات فصل فيها. رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختلفا في الإسناد، والله أعلم.



الآية: 81 ( وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين )



قوله تعالى: « وآتيناهم آياتنا » أي بآياتنا. كقوله: « آتنا غداءنا » [ الكهف: 62 ] أي بغدائنا. والمراد الناقة، وكان فيها آيات جمة: خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. « معرضين » أي لم يعتبروا.



الآيات: 82 - 84 ( وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون )



قوله تعالى: « وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا » النحت في كلام العرب: البري والنجر. نحته ينحته ( بالكسر ) نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي التنزيل « أتعبدون ما تنحتون » [ الصافات: 95 ] أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لأنفسهم بشدة قوتهم. « آمنين » أي من أن تسقط عليهم أو تخرب. وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب. « فأخذتهم الصيحة مصبحين » أي في وقت الصبح، وهو نصب على الحال. وقد تقدم ذكر الصيحة في هود والأعراف. « فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون » من الأموال والحصون في الجبال، ولا ما أعطوه من القوة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 25, 2013 11:20 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحجر
==============




الآيتان: 85 - 86 ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل، إن ربك هو الخلاق العليم )



قوله تعالى: « وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق » أي للزوال والفناء. وقيل: أي لأجازي المحسن والمسيء؛ كما قال: « ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى » [ النجم: 31 ] . « وإن الساعة لآتية » أي لكائنة فيجزى كل بعمله. « فاصفح الصفح الجميل » مثل « واهجرهم هجرا جميلا » [ المزمل: 10 ] أي تجاوز عنهم يا محمد، واعفو عفوا حسنا؛ ثم نسخ بالسيف. قال قتادة: نسخه قوله: « فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم » [ النساء: 91 ] . وأن النبي صلى الله عليه وسلم فال لهم: ( لقد جئتكم بالذبح وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة ) ؛ قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: ليس بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم. والصفح: الإعراض؛ عن الحسن وغيره. « إن ربك هو الخلاق » أي المقدر للخلق والأخلاق. « العليم » بأهل الوفاق والنفاق.



الآية: 87 ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم )



قوله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني » اختلف العلماء في السبع المثاني؛ فقيل: الفاتحة؛ قاله علي بن أبي طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، من حديث أبي بن كعب وأبي سعيد بن المعلى. وقد تقدم في تفسير الفاتحة. وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ) . قال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص، وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشاعر:

نشدتكم بمنزل القرآن أم الكتاب السبع من مثاني

وقال ابن عباس: ( هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا؛ إذ ليس بينهما التسمية ) . روى النسائي حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: « سبعا من المثاني » قال: السبع الطول، وسميت مثاني لأن العبر والأحكام والحدود ثنيت فيها. وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من الطول شيء إذ ذاك. وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزل منها نجوما، فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما أتاه محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم ينزل عليه بعد. وممن قال إنها السبع الطول: عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال جرير:

جزى الله الفرزدق حين يمسي مضيعا للمفصل والمثاني

وقيل: ( المثاني القرآن كله؛ قال الله تعالى: « كتابا متشابها مثاني » [ الزمر: 23 ] ) . هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك، وقاله ابن عباس. وقيل له مثاني لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه. وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فقد كان نورا ساطعا يهتدى به يخص بتنزيل القران المعظم

أي القرآن. وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهي والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعديد نعم وأنباء قرون؛ قال زياد بن أبي مريم. والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك؛ إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده.



قوله تعالى: « والقرآن العظيم » فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة القرآن العظيم لاشتمالها على ما يتعلق بأصول الإسلام. وقد تقدم في الفاتحة. وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثاني القرآن العظيم. ومنه قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وقد تقدم عند قوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » [ البقرة: 238 ]



الآية: 88 ( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين )



قوله تعالى: « لا تمدن عينيك » المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس؛ فإنه ليس منا من لم يتغن بالقرآن؛ أي ليس منا من رأى أنه ليس يغني بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى. يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: « ولقد آتيناك سبعا من المثاني » أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، وأورد قوله عليه السلام: ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) أي من لم يستغن به. وقد تقدم هذا المعنى في أول الكتاب. « أزواجا منهم » أي أمثالا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج.



هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه. ومثله « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه » [ طه: 131 ] الآية. وليس كذلك؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) . وكان عليه الصلاة والسلام متشاغل بالنساء، جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الإنسانية، ويحافظ على الطيب، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى. ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى. ولم يكن في دين محمد الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية كما كان في دين عيسى، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة على الآدمي، يأخذ من الآدمية بشهواتها ويرجع إلى الله بقلب سليم. ورأى الفراء والمخلصون من الفضلاء الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب الأرض والسماوات اليوم أولى؛ لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل، والفرار عن الدنيا أصوب للعبد وأعدل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ) .



قوله تعالى: « ولا تحزن عليهم » أي ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا. وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه. وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب. « واخفض جناحك للمؤمنين » أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن. والجناحان من ابن آدم جانباه؛ ومنه « واضمم يدك إلى جناحك » [ طه: 22 ] وجناح الطائر يده. وقال الشاعر:

وحسبك فتية لزعيم قوم يمد على أخي سقم جناحا

أي تواضعا ولينا.



الآيتان: 89 - 90 ( وقل إني أنا النذير المبين، كما أنزلنا على المقتسمين )



في الكلام حذف؛ أي إني أنا النذير المبين عذابا، فحذف المفعول، إذ كان الإنذار يدل عليه، كما قال في موضع آخر: « أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود » [ فصلت: 13 ] . وقيل: الكاف زائدة، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين؛ كقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] وقيل: أنذرتكم مثل ما أنزلنا بالمقتسمين. وقيل: المعنى كما أنزلنا على المقتسمين، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الذين بغوا، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى.

واختلف في « المقتسمين » على أقوال سبعة: الأول: قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة؛ فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن. وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك.

الثاني: قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين. الثالث: قال ابن عباس: ( هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ) . وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم: هذه السورة لي وهذه السورة لك. وهو القول الرابع. الخامس: قال قتادة: قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه. السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين؛ كما قال تعالى: « تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله » [ النمل: 49 ] .

السابع: قال الأخفش: هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها. وقيل: إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج؛ ذكره الماوردي.



الآية: 91 ( الذين جعلوا القرآن عضين )



هذه صفة المقتسمين. وقيل: هو مبتدأ وخبره « لنسألنهم » . وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أي فرقته؛ وكل فرقة عضة. وقال بعضهم: كانت في الأصل عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين؛ كما قالوا: عزين في جمع عزة، والأصل عزوة. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: ( آمنوا ببعض وكفروا ببعض ) . وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر - هو رؤبة - :

وليس دين الله بالمعضى

أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة؛ لأن العضه والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة. قال الشاعر:

أعوذ بربي من النافثا ت في عُقَد العاضه المُعْضه

وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الأولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة. كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية وأثبتت هاء العلامة وهي للتأنيث. وقيل: هو من العضه وهي النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الإنسان ويقول، فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون؛ مثل عزة وعزون؛ قال تعالى: « الذين جعلوا القرآن عضين » . ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهي شجر الوادي ويخرج كالشوك.



الآيتان: 92 - 93 ( فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون )



قوله تعالى: « فوربك لنسألنهم أجمعين » أي لنسألن هؤلاء الذين جرى ذكرهم عما عملوا في الدنيا. وفي البخاري: وقال عدة من أهل العلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » عن لا إله إلا الله.

قلت: وهذا قد روي مرفوعا، روى الترمذي الحكيم قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن ليث عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: « فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعمون » قال: ( عن قول لا إله إلا الله ) قال أبو عبدالله: معناه عندنا عن صدق لا إله إلا الله ووفائها؛ وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل فقال: « عما كانوا يعملون » ولم يقل عما كانوا يقولون، وإن كان قد يجوز أن يكون القول أيضا عمل اللسان، فإنما المعني به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول والعمل عمل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عن لا إله إلا الله ) أي عن الوفاء بها والصدق لمقالها. كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ) قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: ( أن تحجزه عن محارم الله ) . رواه زيد بن أرقم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عهد إلي ألا يأتيني أحد من أمتي بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئا إلا وجبت له الجنة ) قالوا: يا رسول الله، وما الذي يخلط بلا إله إلا الله؟ قال: ( حرصا على الدنيا وجمعا لها ومنعا لها، يقولون قول الأنبياء ويعملون أعمال الجبابرة ) . وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم وقال الله كذبتم ) . أسانيدها في نوادر الأصول.

قلت: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ) ومحاسبتهم كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب على ما بيناه في كتاب ( التذكرة ) . فإن قيل: وهل يسأل الكافر ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف وذكرناه في التذكرة. والذي يظهر سؤال، للآية وقوله: « وقفوهم إنهم مسؤولون » [ الصافات: 24 ] وقوله: « إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم » [ الغاشية: 25 - 26 ] . فإن قيل: فقد قال تعالى: « ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون » [ القصص: 78 ] وقال: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » [ الرحمن: 39 ] ، وقال: « ولا يكلمهم الله » [ البقرة: 174 ] ، وقال: « إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » [ المطففين: 15 ] . قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: ( لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟ واعتمد قطرب هذا القول. وقيل: « لنسألنهم أجمعين » يعني المؤمنين المكلفين؛ بيانه قوله تعالى: « ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم » [ التكاثر: 8 ] . والقول بالعموم أولى كما ذكر. والله أعلم.



الآيتان: 94 - 95 ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين )



قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق. قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

أي يفرق ويشق. فقوله: « اصدع بما تؤمر » قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ « ما » مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: « فاصدع بما تؤمر » أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.



قوله تعالى: « وأعرض عن المشركين » أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: ( هو منسوخ بقوله « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] ) . وقال عبدالله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: « فاصدع بما تؤمر » فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. « وأعرض عن المشركين » لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى « فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون » . والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة. والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعا، قيل يوم بدر في يوم واحد؛ لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار. ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حَبَنا. ( يقال: حبِن ( بالكسر ) حَبَنا وحُبِن للمفعول عظم بطنه بالماء الأصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء؛ قاله في الصحاح ) . ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فمرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبرمة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله. وقد ذكر في سبب موتهم اختلاف قريب من هذا. وقيل: إنهم المراد بقوله تعالى: « فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] شبه ما أصابهم في موتهم بالسقف الواقع عليهم؛ على ما يأتي.



الآية: 96 ( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون )



هذه صفة المستهزئين. وقيل: هو ابتداء وخبره « فسوف يعلمون » .



الآية: 97 ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون )



قوله تعالى: « ولقد نعلم أنك يضيق صدرك » أي قلبك؛ لأن الصدر محل القلب. « بما يقولون » أي بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك، وتنال. ويناله أصحابك من أعدائك.



الآية: 98 ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين )



قوله تعالى: « فسبح بحمد ربك » أي فافزع إلى الصلاة، فهي غاية التسبيح ونهاية التقديس.



قوله تعالى: « وكن من الساجدين » لا خفاء أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال عليه السلام: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء ) . ولذلك خص السجود بالذكر

قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله، يسجد في هذا الموضع وسجدت معه فيها، ولم يره جماهير العلماء.

قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة



الآية: 99 ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )



فيه مسألة واحدة: وهو أن اليقين الموت. أمره بعبادته إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة قوله: « حتى يأتيك اليقين » وكان قوله: « واعبد ربك » كافيا في الأمر بالعبادة. قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال: « واعبد ربك » مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا؛ وإذا قال « حتى يأتيك اليقين » كان معناه لا تفارق هذا حتى تموت. فإن قيل: كيف قال سبحانه: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » ولم يقل أبدا؛ فالجواب أن اليقين أبلغ من قوله: أبدا؛ لاحتمال لفظ الأبد للحظة الواحدة ولجميع الأبد. وقد تقدم هذا المعنى. والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أبدا، وقال: نويت يوما أو شهرا كانت عليه الرجعة. ولو قال: طلقتها حياتها لم يراجعها. والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الأنصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما عثمان - أعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به ) وذكر الحديث. انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له؛ يعني كأنهم فيه شاكون. وقد قيل: إن اليقين هنا الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك؛ قال ابن شجرة؛ والأول أصح، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن. والله اعلم. وقد روى جبير بن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين لكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 26, 2013 11:08 pm

تفسير سورة النحل للقرطبى
===========


مقدمة السورة

سورة النحل وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] الآية؛ نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد. وغير قوله تعالى: « واصبر وما صبرك إلا بالله » [ النحل: 127 ] . وغير قوله: « ثم إن ربك للذين هاجروا » [ النحل:110 ] الآية. وأما قوله: « والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » [ النحل: 41 ] فمكي، في شأن هجرة الحبشة. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة، وهي قوله: « ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا » إلى قوله « بأحسن ما كانوا يعملون » [ النحل: 95 ] .



الآية: 1 ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون )



قوله تعالى: « أتى أمر الله فلا تستعجلوه » قيل: « أتى » بمعنى يأتي؛ فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء؛ لأنه آت لا محالة، كقوله: « ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار » [ الأعراف: 44 ] . و « أمر الله » عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. قال الحسن وابن جريج والضحاك: إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه. وفيه بعد؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم، حتى قال النضر بن الحارث: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » الآية، فاستعجل العذاب.

قلت: قد يستدل الضحاك بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر؛ خرجه مسلم والبخاري. وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله: « حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور » [ هود: 40 ] . وقيل: هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها. قال ابن عباس: لما نزلت « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « اقترب للناس حسابهم » [ الأنبياء: 1 ] الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت « أتى أمر الله » فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا؛ فنزلت « فلا تستعجلوه » فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وأشار بأصبعيه: السبابة والتي تليها. يقول: ( إن كادت لتسبقني فسبقتها ) . وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأن جبريل لما أمر بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا الله أكبر، قد قامت الساعة.



قوله تعالى: « سبحانه وتعالى عما يشركون » أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل: « عما يشركون » أي عن إشراكهم. وقيل: « ما » بمعنى الذي أي ارتفع عن الذين أشركوا به.



الآية: 2 ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون )



قرأ المفضل عن عاصم « تَنَزَّل الملائكةُ » والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبي بكر عن عاصم باختلاف عنه والأعمش « تُنَزَّل الملائكةُ » غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم « تُنَزِّل الملائكةَ » بالنون مسمى الفاعل، الباقون « يُنَزِّل » بالياء مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروي عن قتادة « تنزل الملائكة » بالنون والتخفيف. وقرأ الأعمش « تنزل » بفتح التاء وكسر الزاي، من النزول. « الملائكة » رفعا مثل « تنزل الملائكة » [ القدر: 4 ] « بالروح » أي بالوحي وهو النبوة؛ قاله ابن عباس. نظيره « يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده » [ غافر: 15 ] . الربيع بن أنس: بكلام الله وهو القرآن. وقيل: هو بيان الحق الذي يجب اتباعه. وقيل أرواح الخلق؛ قاله قتادة، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وكذا روي عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله عز وجل كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقيل بالرحمة؛ قاله الحسن وقتادة. وقيل بالهداية؛ لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان، وهو معنى قول الزجاج. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل. والباء في قوله: « بالروح » بمعنى مع، كقولك: خرج بثيابه، أي مع ثيابه. « من أمره » أي بأمره. « على من يشاء من عباده » أي على الذين اختارهم الله للنبوة. وهذا رد لقولهم: « لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم » [ الزخرف: 31 ] . « أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون » تحذير من عبادة الأوثان، ولذلك جاء الإنذار؛ لأن أصله التحذير مما يخاف منه. ودل على ذلك قوله: « فاتقون » . و « أن » في موضع نصب بنزع الخافض، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله، « فأن » في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الإنذار عليه.



الآية: 3 ( خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون )



قوله تعالى: « خلق السماوات والأرض بالحق » أي للزوال والفناء. وقيل: « بالحق » أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى بعد الموت. « تعالى عما يشركون » أي من هذه الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء.



الآية: 4 ( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين )



قوله تعالى: « خلق الإنسان من نطفة » لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الإنسان ومناكدته وتعدي طوره. و « الإنسان » اسم للجنس. وروي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رم. وفي هذا أيضا نزل « أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين » [ يس: 77 ] أي خلق الإنسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الأمور. فمعنى الكلام التعجب من الإنسان « وضرب لنا مثلا ونسي خلقه » [ يس: 78 ] وقوله: « فإذا هو خصيم » أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و « مبين » أي ظاهر الخصومة. وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه.



الآية: 5 ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون )



قوله تعالى: « والأنعام خلقها لكم » لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان:

عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فالنعم هنا الإبل خاصة. وقال الجوهري: والنعم واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والأنعام تذكر وتؤنث؛ قال الله تعالى: « مما في بطونه » [ النحل:66 ] . وفي موضع « مما في بطونها » [ المؤمنون: 21 ] . وانتصب الأنعام عطفا على الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه.



قوله تعالى: « دفء » الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف. وروي عن ابن عباس: دفؤها نسلها؛ والله أعلم قال الجوهري في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها؛ قال الله تعالى: « لكم فيها دفء » . وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ) . والدفء أيضا السخونة، تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول: ما عليه دفء؛ لأنه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة؛ لأنه مصدر. وتقول: اقعد في دفء هذا الحائط أي ركنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل؛ أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة؛ لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم؛ عن الأصمعي. وأنشد الشماخ:

وكيف يضيع صاحب مدفآت على أثباجهن من الصقيع



قوله تعالى: « ومنافع » قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والألبان واللحوم والسمن. « ومنها تأكلون » أفرد منفعة الأكل بالذكر لأنها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح.



دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله:

تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا فيه وظنوه مشتقا من الصوف

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي



الآية: 6 ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )



الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمُل الرجل - بالضم - جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا؛ عن الكسائي. وأنشد:

فهي جملاء كبدر طالع بذَّت الخلق جميعا بالجمال

وقول أبي ذؤيب:

جمالك أيها القلب القريح

يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال. فأما جمال الخلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لأحد من البشر. وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان؛ قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها؛ لأنها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا؛ قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل « ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون » وذلك في المواشي حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشي من المرعى، والسراح بالغداة؛ تقول: سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدي واللازم واحد.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 28, 2013 12:17 am

تابع تفسير القرطبى لسورة النحل
=============



الآية: 7 ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم )


قوله تعالى: « وتحمل أثقالكم » الأثقال أثقال الناس من متاع وطعام وغيره، وهو ما يثقل الإنسان حمله. وقيل: المراد أبدانهم؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « وأخرجت الأرض أثقالها » [ الزلزلة: 2 ] . والبلد مكة، في قول عكرمة. وقيل: هو محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. وشق الأنفس: مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين. قال الجوهري: والشق المشقة؛ ومنه قوله تعالى: « لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس » وهذا قد يفتح، حكاه أبو عبيدة. قال المهدوي: وكسر الشين وفتحها في « شق » متقاربان، وهما بمعنى المشقة، وهو من الشق في العصا ونحوها؛ لأنه ينال منها كالمشقة من الإنسان. وقال الثعلبي: وقرأ أبو جعفر « إلا بشق الأنفس » وهما لغتان، مثل رق ورق وجص وجص ورطل ورطل. وينشد قول الشاعر بكسر الشين وفتحها:

وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب

ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شقا. والشق أيضا بالكسر النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى؛ أي لم تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها، أي لم تكونوا تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب النصف الآخر. والشق أيضا الناحية من الجبل. وفي حديث أم زرع: وجدني في أهل غنيمة بشق. قال أبو عبيد: هو اسم موضع. والشق أيضا: الشقيق، يقال: هو أخي وشق نفسي. وشق اسم كاهن من كهان العرب. والشق أيضا: الجانب؛ ومنه قول امرئ القيس:

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم يحول

فهو مشترك.


منَّ الله سبحانه بالأنعام عموما، وخص الإبل هنا بالذكر في حمل الأثقال على سائر الأنعام؛ فإن الغنم للسرح والذبح، والبقر للحرث، والإبل للحمل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإني أومن به وأبو بكر وعمرو ) . فدل هذا الحديث على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل والرسل.


في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها. ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها ) رواه مالك في الموطأ عن أبي عبيد عن خالد بن معدان. وروى معاوية بن قرة قال: كان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون، فكان يقول: يا دمون، لا تخاصمني عند ربك. فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه، ولا تقدر أن تفصح بحوائجها، فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدي الله تعالى. وروى مطر بن محمد قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن خالد قال حدثنا المسيب بن آدم قال. رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق.


الآية: 8 ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون )


قوله تعالى: « والخيل » بالنصب معطوف، أي وخلق الخيل. وقرأ ابن أبي عبلة « والخيل والبغال والحمير » بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية. وواحد الخيل خائل، كضائن واحد ضين. وقيل لا واحد له. ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الأنعام وقيل دخلت ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب؛ فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير.


قال العلماء: ملكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وحكم كراء الرواحل والدواب مذكور في كتب الفقه.


لا خلاف بين العلماء في اكتراء الدواب والرواحل عليها والسفر بها؛ لقوله تعالى: « وتحمل أثقالكم » [ النحل: 7 ] الآية. وأجازوا أن يكري الرجل الدابة والراحلة إلى مدينة بعينها وإن لم يسم أين ينزل منها، وكم من منهل ينزل فيه، وكيف صفة سيره، وكم ينزل في طريقة، واجتزوا بالمتعارف بين الناس في ذلك. قال علماؤنا: والكراء يجري مجرى البيوع فيما يحل منه ويحرم. قال ابن القاسم فيمن اكترى دابة إلى موضع كذا بثوب مروي ولم يصف رقعته وذرعه: لم يجز؛ لأن مالكا لم يجيز هذا في البيع، ولا يجيز في ثمن الكراء إلا ما يجوز في ثمن البيع.

قلت: ولا يختلف في هذا إن شاء الله؛ لأن ذلك إجارة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة قمح فحمل عليها ما اشترط فتلفت أن لا شيء عليه. وهكذا إن حمل عليها عشرة أقفزة شعير. واختلفوا فيمن اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة فحمل عليها أحد عشر قفيزا، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: هو ضامن لقيمة الدابة وعليه الكراء. وقال ابن أبي ليلى: عليه قيمتها ولا أجر عليه. وفيه قول ثالث - وهو أن عليه الكراء وعليه جزء من أجر وجزء من قيمة الدابة بقدر ما زاد من الحمل؛ وهذا قول النعمان ويعقوب ومحمد. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا ضمان عليه في قول مالك إذا كان القفيز الزائد لا يفدح الدابة، ويعلم أن مثله لا تعطب فيه الدابة، ولرب الدابة أجر القفيز الزائد مع الكراء الأول؛ لأن عطبها ليس من أجل الزيادة. وذلك بخلاف مجاوزة المسافة؛ لأن مجاوزة المسافة تَعَد كله فيضمن إذا هلكت في قليله وكثيره. والزيادة على الحمل المشترط اجتمع فيه إذنٌ وتعد، فإذا كانت الزيادة لا تعطب في مثلها علم أن هلاكها مما أذن له فيه.



واختلف أهل العلم في الرجل يكتري الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذلك المكان ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصير إليه. فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن وليس عليه في التعدي كراء؛ هكذا قال الثوري. وقال أبو حنيفة: الأجر له فيما سمى، ولا أجر له فيما لم يسم؛ لأنه خالف فهو ضامن، وبه قال يعقوب. وقال الشافعي: عليه الكراء الذي سمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة، مشيخة أهل المدينة قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن القاسم: إذا بلغ المكتري الغاية التي اكترى إليها ثم زاد ميلا ونحوه أو أميالا أو زيادة كثيرة فعطبت الدابة، فلربها كراؤه الأول والخيار في أخذه كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. ابن المواز: وقد روى أنه ضامن ولو زاد خطوة. وقال ابن القاسم عن مالك في زيادة الميل ونحوه: وأما ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: إذا كانت الزيادة يسيرة أو جاز الأمد الذي تكاراها إليه بيسير، ثم رجع بها سالمة إلى موضع تكاراها إليه فماتت، أو ماتت في الطريق إلى الموضع الذي تكاراها إليه، فليس له إلا كراء الزيادة، كرده لما تسلف من الوديعة. ولو زاد كثيرا مما فيه مقام الأيام الكثيرة التي يتغير في مثلها سوقها فهو ضامن، كما لو ماتت في مجاوزة الأمد أو المسافة؛ لأنه إذا كانت زيادة يسيرة مما يعلم أن ذلك مما لم يعن على قتلها فهلاكها بعد ردها إلى الموضع المأذون له فيه كهلاك ما تسلف من الوديعة بعد رده لا محالة. وإن كانت الزيادة كثيرة فتلك الزيادة قد أعانت على قتلها.



قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى: « والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة » فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل؛ ونحوه عن أشهب. ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير؛ لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة دل على ما عداه بخلافه. وقال في « الأنعام » « ومنها تأكلون » مع ما امتن الله منها من الدفء والمنافع، فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. وبهذه الآية احتج ابن عباس والحكم بن عيينة، قال الحكم: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، وقرأ هذه الآية والتي قبلها وقال: هذه للأكل وهذه للركوب. وسئل ابن عباس عن لحوم الخيل فكرهها، وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب، وقرأ الآية التي قبلها « والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع » ثم قال: هذه للأكل. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير. لفظ الدارقطني. وعند النسائي أيضا عن خالد بن الوليد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ) . وقال الجمهور من الفقهاء والمحدثين: هي مباحة. وروي عن أبي حنيفة. وشذت طائفة فقالت بالتحريم؛ منهم الحكم كما ذكرنا، وروي عن أبي حنيفة. حكى الثلاث روايات عنه الروياني في بحر المذهب على مذهب الشافعي.

قلت: الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة. أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل. إذ لو دلت عليه لدلت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الأثقال والأكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرحا به، وقد تركب ويحرث بها؛ قال الله تعالى: « الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون » [ غافر:79 ] . وقال في الخيل: « لتركبوها وزينة » فذكر أيضا أغلب منافعها والمقصود منها، ولم يذكر حمل الأثقال عليها، وقد تحمل كما هو مشاهد فلذلك لم يذكر الأكل. وقد بينه عليه السلام الذي جعل إليه بيان ما أنزل عليه ما يأتي، ولا يلزم من كونها خلقت للركوب والزينة ألا تؤكل، فهذه البقرة قد أنطقها خالقها الذي أنطق كل شيء فقالت: إنما خلقت للحرث. فيلزم من علل أن الخيل لا تؤكل لأنها خلقت للركوب وألا تؤكل البقر لأنها خلقت للحرث. وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، فكذلك الخيل بالسنة الثابتة فيها. روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وفي رواية عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: الرواية عن جابر بأنهم أكلوها في خيبر حكاية حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورة، ولا يحتج بقضايا الأحوال. قلنا: الرواية عن جابر وإخباره بأنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيل ذلك الاحتمال، ولئن سلمناه فمعنا حديث أسماء قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فأكلناه؛ رواه مسلم. وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص فإنما هو دعوى، لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وقد روى الدارقطني زيادة حسنة ترفع كل تأويل في حديث أسماء، قالت أسماء: كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها. فذبحها إنما كان لخوف الموت عليها لا لغير ذلك من الأحوال. وبالله التوفيق. فإن قيل: حيوان من ذوات الحوافر فلا يؤكل كالحمار؟ قلنا: هذا قياس الشبه وقد اختلف أرباب الأصول في القول به، ولئن سلمناه فهو منتقض بالخنزير؛ فإنه ذو ظلف وقد باين ذوات الأظلاف، وعلى أن القياس إذا كان في مقابلة النص فهو فاسد الوضع لا التفات إليه. قال الطبري: وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب.



وأما البغال فإنها تلحق بالحمير، إن قلنا إن الخيل لا تؤكل؛ فإنها تكون متولدة من عينين لا يؤكلان. وإن قلنا إن الخيل تؤكل، فإنها عين متولدة من مأكول وغير مأكول فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها، لا تكون ذكاة ولا تحل به الذبيحة. وقد علل تحريم أكل الحمار بأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا.



في الآية دليل على أن الخيل لا زكاة فيها؛ لأن الله سبحانه من علينا بما أباحنا منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وقد روى مالك عن عبدالله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) . وروى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق ) . وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والليث وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها أو ذكورا وإناثا، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في الخيل السائمة في كل فرس دينار ) وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( الخيل ثلاثة... ) الحديث. وفيه: ( ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ) . والجواب عن الأول أنه حديث لم يروه إلا غورك السعدي عن جعفر عن محمد عن أبيه عن جابر. قال الدارقطني: تفرد به غورك عن جعفر وهو ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء. وأما الحديث فالحق المذكور فيه هو الخروج عليها إذا وقع النفير وتعين بها لقتال العدو إذا تعين ذلك عليه، ويحمل المنقطعين عليها إذا احتاجوا لذلك، وهذا واجب عليه إذا تعين ذلك، كما يتعين عليه أن يطعمهم عند الضرورة، فهذه حقوق الله في رقابها. فإن قيل: هذا هو الحق الذي في ظهورها وبقي الحق الذي في رقابها؛ قيل: قد روي ( لا ينسى حق الله فيها ) ولا فرق بين قوله: ( حق الله فيها ) أو ( في رقابها وظهورها ) فإن المعنى يرجع إلى شيء واحد؛ لأن الحق يتعلق بجملتها. وقد قال جماعة من العلماء : إن الحق هنا حسن ملكها وتعهد شبعها والإحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها؛ كما جاء في الحديث ( لا تتخذوا ظهورها كراسي ) . وإنما خص رقابها بالذكر لأن الرقاب والأعناق تَسْتعّار كثيرا في مواضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة؛ ومنه قوله تعالى: « فتحرير رقبة مؤمنة » [ النساء: 92 ] وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته حتى جعلوه في الرباع والأموال؛ ألا ترى قول كثير:

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال

وأيضا فإن الحيوان الذي تجب فيه الزكاة له نصاب من جنسه، ولما خرجت الخيل عن ذلك علمنا سقوط الزكاة فيها. وأيضا فإيجابه الزكاة في إناثها منفردة دون الذكور تناقض منه. وليس في الحديث فصل بينهما. ونقيس الإناث على الذكور في نفي الصدقة بأنه حيوان مقتنى لنسله لا لدره، ولا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير. وقد روي عنه أنه لا زكاة في إناثها وإن انفردت كذكورها منفردة، وهذا الذي عليه الجمهور. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وقد روي من حديث مالك، ورواه عنه جويرية عن الزهري أن السائب بن يزيد قال : لقد رأيت أبي يقوم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر. وهذا حجة لأبي حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل غيرهما. تفرد به جويرية عن مالك وهو ثقة.


قوله تعالى: « وزينة » منصوب بإضمار فعل، المعنى: وجعلها زينة. وقيل : هو مفعول من أجله. والزينة: ما يتزين به، وهذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله سبحانه لعباده فيه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير ) . خرجه البرقاني وابن ماجة في السنن. وإنما جمع النبي صلى الله عليه وسلم العز في الإبل؛ لأن فيها اللباس والأكل واللبن والحمل والغزو وإن نقصها الكر والفر وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح ولين الجانب؛ بخلاف الفدادين أهل الوبر. وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الخير بنواصي الخيل بقية الدهر لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعاش، وما يوصل إليه من قهر الأعداء وغلب الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى.


قوله تعالى: « ويخلق ما لا تعلمون » قال الجمهور: من الخلق. وقيل: من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الأرض والبر والبحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل : ويخلق ما لا تعلمون « مما أعد الله في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر. وقال قتادة والسدي: هو خلق السوس في الثياب والدود في الفواكه. ابن عباس: عين تحت العرش؛ حكاه الماوردي. الثعلبي: وقال ابن عباس عن يمين العرش نهر من النور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع سبعين مرة، يدخله جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعِظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله من كل ريشة سبعين ألف قطرة، ويخرج من كل قطرة سبعة آلاف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك إلى البيت المعمور، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إليه إلى يوم القيامة. وقول خامس: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء، مسيرة الشمس ثلاثين يوما مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يعصى في الأرض، قالوا: يا رسول الله، من ولد آدم؟ قال: ( لا يعلمون أن الله خلق آدم ) . قالوا: يا رسول الله، فأين إبليس منهم؟ قال : ( لا يعلمون أن الله خلق إبليس ) - ثم تلا « ويخلق ما لا تعلمون » ذكره الماوردي. »

قلت: ومن هذا المعنى ما ذكر البيهقي عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا وبين الأندلس، ما يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون ولا يزرعون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم؛ ذكره في بدء الخلق من « كتاب الأسماء والصفات » . وخرج من حديث موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ) .



الآية: 9 ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين )


قوله تعالى: « وعلى الله قصد السبيل » أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. وقصد السبيل: استعانة الطريق؛ يقال: طريق قاصد أي يؤدي إلى المطلوب. « ومنها جائر » أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به؛ ومنه قول امرئ القيس:

ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل

وقال طرفة:

عدولية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورا ويهتدي

العدولية سفينة منسوبة إلى عَدَوْلَي قرية بالبحرين. والعدولي: الملاح؛ قاله في الصحاح. وفي التنزيل « وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » [ الأنعام: 153 ] . وقيل: المعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه فلا يهتدى إليه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة؛ قاله ابن عباس. الثاني: ملل الكفر من اليهودية والمجوسية والنصرانية. وفي مصحف عبدالله « ومنكم جائر » وكذا قرأ علي « ومنكم » بالكاف. وقيل: المعنى وعنها جائر؛ أي عن السبيل. فـ « من » بمعنى عن. وقال ابن عباس: أي من أراد الله أن يهديه سهل له طريق الإيمان، ومن أراد أن يضله ثقل عليه الإيمان وفروعه. وقيل: معنى « قصد السبيل » مسيركم ورجوعكم. والسبيل واحدة بمعنى الجمع، ولذلك أنث الكناية فقال: « ومنها » والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز.


قوله تعالى: « ولو شاء لهداكم أجمعين » بين أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويرد على القدرية ومن وافقها كما تقدم.



الآية: 10 ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون )



الشراب ما يشرب، والشجر معروف. أي ينبت من الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا. و « تسيمون » ترعون إبلكم؛ يقال: سامت السائمة تسوم سوما أي رعت، فهي سائمة. والسوام والسائم بمعنى، وهو المال الراعي. وجمع السائم والسائمة سوائم. وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرعي، فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة. قال:

أولى لك ابن مسيمة الأجمال

وأصل السوم الإبعاد في المرعى. وقال الزجاج: أخذ من السومة وهي العلامة؛ أي أنها تؤثر في الأرض علامات برعيها، أو لأنها تعلم للإرسال في المرعى.

قلت: والخيل المسومة تكون المرعية. وتكون المعلمة. وقوله: « مسومين » [ آل عمران: 125 ] قال الأخفش تكون معلمين وتكون مرسلين؛ من قولك: سوم فيها الخيل أي أرسلها، ومنه السائمة، وإنما جاء بالياء والنون لأن الخيل سومت وعليها ركبانها.



الآية: 11 ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون )


قوله تعالى: « ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات » قرأ أبو بكر عن عاصم « ننبت » بالنون على التعظيم. العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم؛ يقال: ينبت الأرض وأنبتت بمعنى، ونبت البقل وأنبت بمعنى. وأنشد الفراء:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت. وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس. وأنبت الغلام نبتت عانته. ونبت الشجر غرسه؛ يقال: نبت أجلك بين عينيك. ونبت الصبي تنبيتا ربيته. والمنبت موضع النبات؛ يقال: ما أحسن نابتة بني فلان؛ أي ما ينت عليه أموالهم وأولادهم. ونبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نشء صغار. وإن بني فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحادث الأغمار. والنبيت حي من اليمن. والينبوت شجر؛ كله عن الجوهري. « والزيتون » جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة. « إن في ذلك » أي الإنزال والإنبات. « لآية » أي دلالة « لقوم يتفكرون » .



الآية: 12 ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )


قوله تعالى: « وسخر لكم الليل والنهار » أي للسكون والأعمال؛ كما قال: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] . « والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره » أي مذللات لمعرفة الأوقات ونضج الثمار والزرع والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام « والشمس والقمر والنجوم مسخرات » بالرفع على الابتداء والخبر. الباقون بالنصب عطفا على ما قبله. وقرأ حفص عن عاصم برفع « والنجوم » ، « مسخرات » خبره. وقرئ « والشمس والقمر والنجوم » بالنصب. « مسخرات » بالرفع، وهو خبر ابتداء محذوف أي في مسخرات، وهي في قراءة من نصبها حال مؤكدة؛ كقوله: « وهو الحق مصدقا » [ البقرة: 91 ] . « إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون » أي يعقلون عن الله ما نبههم عليه ووفقهم له.



الآية: 13 ( وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون )


قوله تعالى: « وما ذرأ » أي وسخر ما ذرأ في الأرض لكم. « ذرأ » أي خلق؛ ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، فهو ذارئ؛ ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. يقال: أنمى الله ذرأك وذروك، أي ذريتك. وأصل الذرو والذرء التفريق عن جمع. وفي الحديث: ذرء النار؛ أي أنهم خلقوا لها.


ما ذرأه الله سبحانه منه مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار وغيرها، ومنه غير ذلك. والدليل عليه ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا. فقيل له: وما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وبرأ وذرأ. وفيه عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، الحديث. وفيه: وشر ما ذرأ في الأرض. وقد ذكرناه وما في معناه في غير هذا الموضع.


قوله تعالى: « مختلفا ألوانه » « مختلفا » نصب على الحال. و « ألوانه » هيئاته ومناظره، يعني الدواب والشجر وغيرها. « إن في ذلك » أي في اختلاف ألوانها. « لآية » أي لعبرة. « لقوم يذكرون » أي يتعظون ويعلمون أن في تسخير هذه المكونات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره.



الآية: 14 ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )


قوله تعالى: « وهو الذي سخر البحر » تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا. وقال أبو حنيفة: اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها؛ فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، كذلك الطير، وكذلك السمك، وهو جحد قولي الشافعي. والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال: « ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين » [ الأنعام: 143 ] ثم قال: « ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين » فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » [ المائدة: 1 ] فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر: « ولحم طير مما يشتهون » [ الواقعة: 21 ] وهذا جمع طائر الذي هو الواحد، لقوله تعالى: « ولا طائر يطير بجناحيه » [ الأنعام: 38 ] فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا: « لحما طريا » فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روي عن ابن عمر أنه سئل عن لحم المعز بلحم الكباش أشيء واحد؟ فقال لا؛ ولا مخالف له فصار كالإجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل؛ فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاما لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضا فإنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ) وهذان جنسان، وأيضا فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلا لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة، وكذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلا.

وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر.


اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما؛ فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة. لا يحنث إلا بكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي، وهو أحسن.


قوله تعالى: « وتستخرجوا منه حلية تلبسونها » يعني به اللؤلؤ والمرجان؛ لقوله تعالى: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » [ الرحمن: 22 ] . وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط. وقال: إن في الزمرد بحريا. وقد خطئ الهذلي في قوله في وصف الدرّة:

فجاء بها من در ة لطمية على وجهها ماء الفرات يدوم

فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذي ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روي.


امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير. روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . وسيأتي في سورة « الحج » الكلام فيه إن شاء الله. وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله؛ فاتخذ الناس مثله؛ فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: ( لا ألبسه أبدا ) ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس. قال أبو داود: لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. وأجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابي. وكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنه من زي الرجال، فإن لم يجدن ذهبا فليصفرنه بزعفران أو بشبهه. وجمهور العلماء من السلف والخلف على تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب، إلا ما روي عن أبي بكر بن عبدالرحمن وخباب، وهو خلاف شاذ، وكل منهما لم يبلغهما النهي والنسخ. والله أعلم. وأما ما رواه أنس بن مالك أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم، من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - أخرجه الصحيحان واللفظ للبخاري - فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب؛ لأن الذي نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. رواه عبدالعزيز بن صهيب وقتادة عن أنس، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجملة على الواحد إذا خالفها، مع ما يشهد للجماعة من حديث ابن عمر.


إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلي به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجي بشماله؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك: إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. وروي عنه الكراهة وهو الأولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد ابن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام.


روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه « محمد رسول الله » وقال: ( إني اتخذت خاتما من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه ) . قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك: ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم، ونهيه عليه السلام: لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه. وروى أهل الشام أنه لا يجوز الخاتم لغير ذي سلطان. وروى في ذلك حديثا عن أبي ريحانة، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: ( لا ينقشن أحد على نقشه ) يرده ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس، إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري « محمد يسأل الله العافية » . وكان نقش خاتم مالك « حسبي الله ونعم الوكيل » . وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » أن نقش خاتم موسى عليه السلام « لكل أجل كتاب » [ الرعد: 38 ] . وبلغ عمر بن عبدالعزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتما من حديد بدرهم، واكتب عليه « رحم الله امرأ عرف قدر نفسه » .


من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث؛ وبه قال أبو حنيفة. قال ابن خويز منداد: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف؛ ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الأرض فراشا والشمس سراجا. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث؛ لقوله تعالى: « وتستخرجوا منه حلية تلبسونها » والذي يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان.


قوله تعالى: « وترى الفلك مواخر فيه » الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر؛ يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر؛ قال تعالى: « في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] فجاء به مذكرا، وقال: « والفلك التي تجري في البحر » فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا؛ وقال: « حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة » [ يونس: 22 ] فجمع؛ فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك؛ مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها؛ ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها تدور بالماء أسهل دور. وقوله: « مواخر » قال ابن عباس: جواري، من جرت تجري. سعيد بن جبير: معترضة. الحسن: مواقر. قتادة والضحاك: أي تذهب وتجيء، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. وقيل: « مواخر » ملججة في داخل البحر؛ وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال. مخرت السفينة تمخر وتمخر مخرا ومخورا إذا جرت تشق الماء مع صوت؛ ومنه قوله تعالى: « وترى الفلك مواخر فيه » يعني جواري. وقال الجوهري: ومخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الأرض شقها للزراعة، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة؛ أي خليقة بجودة نبات الزرع. وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح؛ ولم يقيد كونه في ماء، وقال: إن من ذلك قول واصل مولى أبي عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح؛ أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله. « ولتبتغوا من فضله » أي ولتركبوه للتجارة وطلب الربح. « ولعلكم تشكرون » تقدم



الآية: 15 ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون )


قوله تعالى: « وألقى في الأرض رواسي » أي جبالا ثابتة. رسا يرسو إذا ثبت وأقام. قال:

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تُطلَّع

« أن تميد بكم » أي لئلا تميد؛ عند الكوفيين. وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين. والميد: الاضطراب يمينا وشمالا؛ ماد الشيء يميد ميدا إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة. إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قمصت ومالت وقالت: أي رب! أتجعل علي من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي علي الجيف والنتن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. وروى الترمذي في آخر « كتاب التفسير » حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال قالوا يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله ) . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

قلت: وفي هذه الآية أدل دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادرا على سكونها دون الجبال. وقد تقدم هذا المعنى. « وأنهارا » أي وجعل فيها أنهارا، أو ألقى فيها أنهارا. « وسبلا » أي طرقا ومسالك. « لعلكم تهتدون » أي إلى حيث تقصدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيرون.



الآية: 16 ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون )


قوله تعالى: « وعلامات » قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار؛ أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء بها. « وبالنجم هم يهتدون » يعني بالليل، والنجم يراد به النجوم. وقرأ ابن وثاب « وبالنجم » . الحسن: بضم النون والجيم جميعا ومراده النجوم، فقصره؛ كما قال الشاعر:

إن الفقير بيننا قاض حكم أن ترد الماء إذا غاب النجم

وكذلك القول لمن قرأ « النجم » إلا أنه سكن استخفافا. ويجوز أن يكون النجم جمع نجم كسُقُف وسَقف. واختلف في النجوم؛ فقال الفراء: الجدي والفرقدان. وقيل: الثريا. قال الشاعر:

حتى إذا ما استقل النجم في غلس وغودر البقل ملوى ومحصود

أي منه ملوي ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون. وقال الكلبي: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم؛ لأن من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقاله قتادة والنخعي. وقيل: تم الكلام عند قوله « وعلامات » ثم ابتدأ وقال: « وبالنجم هم يهتدون » . وعلى الأول: أي وجعل لكم علامات ونجوما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما: في الأسفار، وهذا قول الجمهور. الثاني: في القبلة. وقال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « وبالنجم هم يهتدون » قال: ( هو الجدي يا ابن عباس، عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم ) ذكره الماوردي.

قال ابن العربي: أما جميع النجوم فلا يهتدي بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبي والشمالي منها، وذلك قليل في الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدي بها إلا من يهتدي بجميع النجوم. وإنما الهدي لكل أحد بالجدي والفرقدين؛ لأنها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السمت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق، وفي البحر عند مجرى السفن، وفي القبلة إذا جهل السمت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة.

قلت: وسأل ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجم فقال: ( هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم ) . وذلك أن آخر الجدي بنات نعش الصغرى والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينها.


قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما: أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه. والآخر: أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهي الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلى مجتهدا إلى غير ناحيتها وهو ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له؛ فإذا صلى مجتهدا مستدلا ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدى فرضه على ما أمر به. وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » مستوفى والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 28, 2013 11:09 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة النحل
=============



الآية: 17 ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون )


قوله تعالى: « أفمن يخلق » هو الله تعالى. « كمن لا يخلق » يريد الأصنام. « أفلا تذكرون » أخبر عن الأوثان التي لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعقل على ما تستعمله العرب في ذلك؛ فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ « من » كقوله: « ألهم أرجل » [ الأعراف: 195 ] . وقيل: لاقتران الضمير في الذكر بالخالق. قال الفراء: هو كقول العرب: اشتبه علي الراكب وجمله فلا أدري من ذا ومن ذا؛ وإن كان أحدهما غير إنسان. قال المهدوي: ويسأل بـ « من » عن البارئ تعالى ولا يسأل عنه بـ « ما » ؛ لأن « ما » إنما يسأل بها عن الأجناس، والله تعالى ليس بذي جنس، ولذلك أجاب موسى عليه السلام حين قال له: « فمن ربكما يا موسى » [ طه: 49 ] ولم يجب حين قال له: « وما رب العالمين » [ الشعراء: 23 ] إلا بجواب « من » وأضرب عن جواب « ما » حين كان السؤال فاسدا. ومعنى الآية: من كان قادرا على خلق الأشياء المتقدمة الذكر كان بالعبادة أحق ممن هو مخلوق لا يضر ولا ينفع؛ « هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه » [ لقمان: 11 ] « أروني ماذا خلقوا من الأرض » [ فاطر: 40 ] .



الآيتان: 18 - 19 ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون )


قوله تعالى: « أي إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » تقدم في إبراهيم. « إن الله لغفور رحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون » أي ما تبطنونه وما تظهرونه. وقد تقدم.



الآيتان: 20 - 21 ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )


قوله تعالى: « والذين يدعون من دون الله » قراءة العامة « تدعون » بالتاء لأن ما قبله خطاب. روى أبو بكر عن عاصم وهبيرة عن حفص « يدعون » بالياء، وهي قراءة يعقوب. فأما قوله: « ما تسرون وما تعلنون » فكلهم بالتاء على الخطاب؛ إلا ما روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه قرأ بالياء. « لا يخلقون شيئا » أي لا يقدرون على خلق شيء « وهم يخلقون » . « أموات غير أحياء » أي هم أموات، يعني الأصنام، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة. « وما يشعرون » يعني الأصنام. « أيان يبعثون » وقرأ السلمي، « إيان » بكسر الهمزة، وهما لغتان، موضعه نصب بـ « يبعثون » وهي في معنى الاستفهام. والمعنى: لا يدرون متى يبعثون. وعبر عنها كما عبر عن الآدميين؛ لأنهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على ذلك. وقد قيل: إن الله يبعث الأصنام يوم القيامة ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهي في الدنيا جماد لا تعلم متى تبعث. قال ابن عباس؛ تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: إن الأصنام تطرح في النار مع عبادتها يوم القيامة؛ دليله « إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم » [ الأنبياء: 98 ] . وقيل: تم الكلام عند قوله: « لا يخلقون شيئا وهم يخلقون » ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات، وهذا الموت موت كفر. « وما يشعرون أيان يبعثون » أي وما يدري الكفار متى يبعثون، أي وقت البعث؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث حتى يستعدوا للقاء الله وقيل: أي وما يدريهم متى الساعة، ولعلها تكون قريبا.



الآيتان: 22 - 23 ( إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون، لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين )


قوله تعالى: « إلهكم إله واحد » لما بين استحالة الإشراك بالله تعالى بين أن المعبود واحد لا رب غيره ولا معبود سواه. « فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة » أي لا تقبل الوعظ ولا ينفع فيها الذكر، وهذا رد على القدرية. « وهم مستكبرون » متكبرون متعظمون عن قبول الحق. وقد تقدم. « لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون » أي من القول والعمل فيجازيهم. قال الخليل: « لا جرم » كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. وقد مضى القول فيه. « إنه لا يحب المستكبرين » أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم. وعن الحسن بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبدالله، فنزل وجلس معهم وقال: « إنه لا يحب المستكبرين » فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني؛ فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا. قال العلماء. وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر؛ فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله. وفي الحديث الصحيح ( إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم ) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها ) .



الآية: 24 ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين )


قوله تعالى: « وإذا قيل لكم ماذا أنزل ربكم » يعني وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث « ماذا أنزل ربكم » . قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث « كليلة ودمنة » فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين؛ أي ليس هو من تنزيل ربنا. وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارا فأجابوا بقولهم: « أساطير الأولين » فأقروا بإنكار شيء هو أساطير الأولين. والأساطير: الأباطيل والترهات. والقول في « ماذا أنزل ربكم » كالقول في « ماذا ينفقون » [ البقرة: 215 ] وقوله: « أساطير الأولين » . خبر ابتداء محذوف، التقدير: الذي أنزله أساطير الأولين.



الآية: 25 ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون )


قوله تعالى: « ليحملوا أوزارهم » قيل: هي لام كي، وهي متعلقة بما قبلها. وقيل: لام العاقبة، كقوله: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] . أي قولهم في القرآن والنبي أدّاهم إلى أن حملوا أوزارهم؛ أي ذنوبهم. وقيل: هي لام الأمر، والمعنى التهدد. « كاملة » لم يتركوا منها شيئا لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم. « ومن أوزار الذين يضلونهم » قال مجاهد: يحملون وزر من أضلوه ولا ينقص من إثم المضل شيء. وفي الخبر ( أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) خرجه مسلم بمعناه. و « من » للجنس لا للتبعيض؛ فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم. وقوله: « بغير علم » أي يضلون الخلق جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام؛ إذ لو علموا لما أضلوا. « ألا ساء ما يزرون » أي بئس الوزر الذي يحملونه. ونظير هذه الآية « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] وقد تقدم.



الآية: 26 ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون )


قوله تعالى: « قد مكر الذين من قبلهم » أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. « فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم » قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النمرود بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله؛ فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة « إبراهيم » . ومعنى « فأتى الله بنيانهم » أي أتى أمره البنيان، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل: كان طول فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمي بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقرأ ابن هرمز وابن محيصن « السقف » بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا؛ كما تقدم في « وبالنجم » في الوجهين. والأشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله: « من فوقهم » قال ابن الأعرابي: وُكِد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله: « من فوقهم » ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال: « من فوقهم » أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف السماء؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم؛ قال ابن عباس. وقيل: إن قوله: « فأتى الله بنيانهم من القواعد » تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل: إنه بختنصر وأصحابه؛ قال بعض المفسرين. وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر؛ قال الكلبي. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم. « وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون » أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمرودا.



الآية: 27 ( ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين )


قوله تعالى: « ثم يوم القيامة يخزيهم » أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم « ويقول أين شركائي » أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. « الذين كنتم تشاقون فيهم » أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير « شركاي » بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. وقرأ نافع « تشاقون » بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم. وفتحها الباقون. « قال الذين أوتوا العلم » قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. « إن الخزي اليوم » أي الهوان والذل يوم القيامة. « والسوء » أي العذاب. « على الكافرين » .



الآية: 28 ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون )


قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » هذا من صفة الكافرين. و « ظالمي أنفسهم » نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. « فألقوا السلم » أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا: « ما كنا نعمل من سوء » أي من شرك. فقالت لهم الملائكة: « بلى » قد كنتم تعملون الأسواء. « إن الله عليم بما كنتم تعملون » وقال عكرمة. نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها؛ فقال: « الذين تتوفاهم الملائكة » بقبض أرواحهم. « ظالمي أنفسهم » في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. « فألقوا السلم » يعني في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصلح؛ قال الأخفش. الثاني: الاستسلام؛ قال قطرب. الثالث: الخضوع؛ قاله مقاتل. « ما كنا نعمل من سوء » يعني من كفر. « بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون » يعني أن أعمالهم أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم. وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال: « فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا » [ غافر: 85 ] .



الآية: 29 ( فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين )


قوله تعالى: « فادخلوا أبواب جهنم » أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. « خالدين فيها » أي ماكثين فيها. « فلبئس مثوى » أي مقام « المتكبرين » الذين تكبروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق: « إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون » [ الصافات: 35 ] .



الآيتان: 30 - 31 ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين، جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين )


قوله تعالى: « وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا » أي قالوا: أنزل خيرا؛ وتم الكلام. و « ماذا » على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لأهل الإيمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: « أساطير الأولين » [ النحل: 24 ] وانتصب في قوله: « خيرا » فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذي يقوله محمد هو أساطير الأولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرا، وهذا مفهوم معناه من الإعراب، والحمد لله.


قوله تعالى: « للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة » قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة؛ أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل: « للذين أحسنوا » اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة « ولدار الآخرة خير » أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا؛ لفنائها وبقاء الآخرة. « ولنعم دار المتقين » فيه وجهان: قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا؛ لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة؛ وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون « جنات عدن » بدلا من الدار فلذلك ارتفع. « جنات عدن » بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهي مبينة لقوله: « دار المتقين » . أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. « يدخلونها » في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل: « جنات » رفع بالابتداء، وخبره « يدخلونها » وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. « تجري من تحتها الأنهار » تقدم. « لهم فيها ما يشاؤون » أي مما تمنوه وأرادوه. « كذلك يجزي الله المتقين » أي مثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 29, 2013 11:02 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة النحل
=============


الآية: 32 ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )


قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين » قرأ الأعمش وحمزة « يتوفاهم الملائكة » في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء؛ لأن المراد به الجماعة من الملائكة. و « طيبين » فيه ستة أقوال: الأول: « طيبين » طاهرين من الشرك. الثاني: صالحين. الثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع: طيبين الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس: « طيبين » أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم؛ بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. « يقولون سلام عليكم » يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيرا لهم بالجنة؛ لأن السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثني حيوة قال أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم » . وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك مقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في كتاب التذكرة وذكرنا هناك الأخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. « ادخلوا الجنة » يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة « بما كنتم تعملون » يعني في الدنيا من الصالحات.



الآية: 33 ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )


قوله تعالى: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف « يأتيهم الملائكة » بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. « أو يأتي أمر ربك » أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الأشياء لأنهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الإيمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. « كذلك فعل الذين من قبلهم » أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. « وما ظلمهم الله » أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.



الآية: 34 ( فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )


قوله تعالى: « فأصابهم سيئات ما عملوا » قيل: فيه تقديم وتأخير؛ التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم وجزاء الخبيث من أعمالهم. « وحاق بهم » أي أحاط بهم ودار. « ما كانوا به يستهزئون » أي عقاب استهزائهم.



الآية: 35 ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين )


قوله تعالى: « وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء » أي شيئا، و « من » صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين. وقد مضى. « كذلك فعل الذين من قبلهم » أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. « فهل على الرسل إلا البلاغ المبين » أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهي إلى الله تعالى.



الآية: 36 ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )


قوله تعالى: « ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله » أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. « واجتنبوا الطاغوت » أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. « فمنهم من هدى الله » أي أرشده إلى دينه وعبادته. « ومنهم من حقت عليه الضلالة » أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول: « فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة » وقد تقدم. « فسيروا في الأرض » أي فسيروا معتبرين في الأرض « فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين » أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.



الآية: 37 ( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين )


قوله تعالى: « إن تحرص على هداهم » أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. « فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين » أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. « فيهدي » فعل مستقبل وماضيه هدى. و « من » في موضع نصب « بيهدي » ويجوز أن يكون هدى يهدي بمعنى اهتدى يهتدي، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ « أمن لا يهدي إلا أن يهدى » [ يونس: 35 ] بمعنى يهتدي. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس: حكي لي عن محمد بن يزيد كأن معنى « لا يهدي من يضل » من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يهدي أو يهدي. وعلى قول الفراء « يهدي » بمعنى يهتدي، فيكون « من » في موضع رفع، والعائد إلى « من » الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم « إن » الضمير المستكن في « يضل » . وقرأ الباقون « لا يهدى » بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هاد؛ دليله قوله: « من يضلل الله فلا هادي له » [ الأعراف: 186 ] و « من » في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله، وهي بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من « فإن الله » الضمير المستكن في « يضل » .



الآية: 38 ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )


قوله تعالى: « وأقسموا بالله جهد أيمانهم » هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان علي مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. « بلى » هذا رد عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم. « وعدا عليه حقا » مصدر مؤكد؛ لأن قوله « يبعثهم » يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » أنهم مبعوثون. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) . وقد تقدم.



الآية: 39 ( ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين )


قوله تعالى: « ليبين لهم » أي ليظهر لهم. « الذي يختلفون فيه » أي من أمر البعث. « وليعلم الذين كفروا » بالبعث وأقسموا عليه « أنهم كانوا كاذبين » وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب.



الآية: 40 ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )


أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه؛ لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي « فيكون » نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب « كن » . الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفي الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه لو كان قوله: « كن » مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها؛ والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدري، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له؛ لأن أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الأفعال تحصل من غير قصد؛ وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.



الآية: 41 ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون )


قوله تعالى: « والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا » قد تقدم في « النساء » معنى الهجرة، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل: « في » بمعنى اللام، أي لله. « من بعد ما ظلموا » أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. « لنبوئنهم في الدنيا حسنة » في الحسنة ستة أقوال: الأول: نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن؛ قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم؛ قاله الضحاك. الرابع: إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. « ولأجر الآخرة أكبر » أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ « وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا » [ الإنسان: 20 ] « لو كانوا يعلمون » أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. وقيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر؛ ثم تلا عليهم هذه الآية.



الآية: 42 ( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )


قيل: « الذين » بدل من « الذين » الأول. وقيل: من الضمير في « لنبوئنهم » وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. « وعلى ربهم يتوكلون » في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل؛ قال الله تعالى: « الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون » .



الآيتان: 43 - 44 ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون )


قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم » قراءة العامة « يوحى » بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم « نوحي إليهم » بنون العظمة وكسر الحاء. نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله: « وما أرسلنا من قبلك » إلى الأمم الماضية يا محمد « إلا رجالا » آدميين. « فاسألوا أهل الذكر » قال سفيان: يعني مؤمني أهل الكتاب. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن. وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. « إن كنتم لا تعلمون » يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. « بالبينات والزبر » قيل: « بالبينات، متعلق » بأرسلنا « . وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، » فإلا « بمعنى غير؛ كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه » أرسلنا « أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق » بالبينات « بـ » أرسلنا « الأول على هذا القول؛ لأن ما قبل » إلا « لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول » بتعلمون « والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعني؛ كما قال الأعشى: »

وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيبا

أي أعني المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم. « وأنزلنا إليك الذكر » يعني القرآن. « لتبين للناس ما نزل إليهم » في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. « ولعلهم يتفكرون » فيتعظون.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 31, 2013 12:18 am

تابع تفسير القرطبى لسورة النحل
=============



الآيات: 45 - 47 ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم )



قوله تعالى: « أفأمن الذين مكروا السيئات » أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. « أن يخسف الله بهم الأرض » قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها؛ ومنه قوله: « فخسفنا به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] . وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. « أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون » كما فعل بقوم لوط وغيرهم. يريد يوم بدر؛ فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. « أو يأخذهم في تقلبهم » أي في أسفارهم وتصرفهم؛ قاله قتادة. وقيل: « في تقلبهم » على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. « فما هم بمعجزين » أي مسابقين الله ولا فائتيه. « أو يأخذهم على تخوف » قال ابن عباس ومجاهد وغيرهم أي على تنقص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف؛ المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: « على تخوف » أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص؛ تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه - بالفاء والنون - بمعنى؛ يقال: تخونني فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة:

لا، بل هو الشوق من دار تخونها مرا سحاب ومرا بارح ترب

وقال لبيد:

تخونها نزولي وارتحالي

أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدي: التخوف « بالفاء » التنقص، لغة لأزد شنوءة. وأنشد:

تخوف غدرهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل

وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: « أو يأخذهم على تخوف » فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم؛ قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:

تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما يُنجر به الخشب. وقال الليث بن سعد: « على تخوف » على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة: « على تخوف » أن يعاقب أو يتجاوز. « فإن ربكم لرؤوف رحيم » أي لا يعاجل بل يمهل.



الآية: 48 ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون )



قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش « تروا » بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات؛ وهو الاختيار. « من شيء » يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل؛ قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. « يتفيأ ظلاله » قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى؛ فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها؛ ومنه قيل للظل بالعشي: فيء؛ لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع؛ ومنه « حتى تفيء إلى أمر الله » [ الحجرات: 9 ] . روي معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقال الزجاج: يعني سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى « وهم داخرون » أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دخر الرجل - بالفتح - فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة:

فلم يبق إلا داخر في مخيس ومنجحر في غير أرضك في جحر

كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق؛ أي موضع التذلل، وقال.

أما تراني كيسا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا

ووحد اليمين في قوله: « عن اليمين » وجمع الشمال؛ لأن معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الأيمان والشمائل، واليمين والشمائل، أو اليمين والشمال، أو الأيمان والشمال لجاز؛ لأن المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى؛ كقوله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » [ البقرة: 7 ] وكقوله: « ويخرجهم من الظلمات إلى النور » [ المائدة: 16 ] ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ « ما » والشمال على معناها. ومثل هذا في الكلام كثير. فال الشاعر:

الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لأن الشمس إذا طلعت وأنت متَوجّه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل.



الآيتان: 49 - 50 ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون )



قوله تعالى: « ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة » أي من كل ما يدب على الأرض. « والملائكة » يعني الملائكة الذين في الأرض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها؛ كقوله: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الأجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد « ولله يسجد من في السماوات » من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، « وما في الأرض من دابة » وتسجد ملائكة الأرض. « وهم لا يستكبرون » عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى « يخافون ربهم من فوقهم » أي عقاب ربهم وعذابه، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التي هي فوق قدرتهم؛ ففي الكلام حذف. وقيل: معنى « يخافون ربهم من فوقهم » يعني الملائكة، يخافون ربهم وهي من فوق ما في الأرض من دابة ومع ذلك يخافون؛ فلأن يخاف من دونهم أولى؛ دليل هذا القول قوله تعالى: « ويفعلون ما يؤمرون » يعني الملائكة.



الآية: 51 ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون )



قوله تعالى: « وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين » قيل: المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: جاء قوله « اثنين » توكيدا. ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد. « إنما هو إله واحد » يعني ذاته المقدسة. وقد قام الدليل العقلي والشرعي على وحدانيته والحمد لله. « فإياي فارهبوني » أي خافون. وقد تقدم.



الآية: 52 ( وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون )



قوله تعالى: « وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا » الدين: الطاعة والإخلاص. و « واصبا » معناه دائما؛ قال الفراء، حكاه الجوهري. وصب الشيء يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى: « ولهم عذاب واصب » [ الصافات:9 ] أي دائم. وقال الدولي:

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه بدم يكون الدهر أجمع واصبا

أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما:

ما أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا

وقيل: الوصب التعب والإعياء؛ أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر:

لا يمسك الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر

وقال ابن عباس: « واصبا » واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. « أفغير الله تتقون » أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. « فغير » نصب بـ « تتقون » .

الآية [ 53 ] في الصفحة التالية ...



الآيات: 53 - 55 ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون )



قوله تعالى: « وما بكم من نعمة فمن الله » قال الفراء. « ما » بمعنى الجزاء. والباء في « بكم » متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. « من نعمة » أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. « ثم إذا مسكم الضر » أي السقم والبلاء والقحط. « فإليه تجأرون » أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار؛ يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم « عجلا جسدا له جؤار » ؛ حكاه الأخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الأعشى يصف بقرة:

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا

« ثم إذا كشف الضر عنكم » أي البلاء والسقم. « إذا فريق منكم بربهم يشركون » بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. « ليكفروا بما آتيناهم » أي ليجحدوا نعمة الله التي أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كي. وقيل لام العاقبة. وقيل: « ليكفروا بما آتيناهم » أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث؛ كما قال:

والكفر مخبثة لنفس المنعم

« فتمتعوا » أمر تهديد. وقرأ عبدالله « قل تمتعوا » . « فسوف تعلمون » أي عاقبة أمركم.



الآية: 56 ( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون )



قوله تعالى: « ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم » ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي الأصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه؛ قال مجاهد وقتادة وغيرهما. فـ « يعلمون » على هذا للمشركين. وقيل هي للأوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على « ما » ومفعول يعلم محذوف، والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في « الأنعام:136 » تفسير هذا المعنى، ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: « تالله لتسئلن » وهذا سؤال توبيخ. « عما كنتم تفترون » أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا.



الآية: 57 ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )



قوله تعالى: « ويجعلون لله البنات » نزلت في خزاعة وكنانة؛ فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. « سبحانه » نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الأولاد. « ولهم ما يشتهون » أي يجعلون لأنفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع « ما » رفع بالابتداء، والخبر « لهم » وتم الكلام عند قوله: « سبحانه » . وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم.



الآية: 58 ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم )



قوله تعالى: « وإذا بشر أحدهم بالأنثى » أي أخبر أحدهم بولادة بنت. « ظل وجهه مسودا »

أي متغيرا، وليس يريد السواد الذي هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا؛ قال الزجاج. وحكى الماوردي أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. « وهو كظيم » أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الغم؛ مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة؛ قاله علي بن عيسى. وقد تقدم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 8 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 31, 2013 11:11 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة النحل
=============



الآية: 59 ( يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون )



قوله تعالى: « يتوارى من القوم » أي يختفي ويتغيب. « من سوء ما بشر به » أي من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. « أيمسكه » ذكر الكناية لأنه مردود على « ما » . « على هون » أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفي « على هوان » والهون الهوان بلغة قريش؛ قاله اليزيدي وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء:

نهين النفوس وهون النفو س يوم الكريهة أبقى لها

وقرأ الأعمش « أيمسكه على سوء » ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدري « أم يدسها في التراب » يرده على قوله: « بالأنثى » ويلزمه أن يقرأ « أيمسكها » . وقيل: يرجع الهوان إلى البنت؛ أي أيمسكها وهي مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له؛ أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء؛ وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر:

وعمي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد

وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لإخفائه عن الأبصار؛ وهذا محتمل.



مسألة: ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ) . ففي هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والإحسان إليهن ما يقي من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما؛ فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار ) . وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو ) وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار ) . وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال:

إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وخور عشر

أحب أصهاري إلي القبر

وقال عبدالله بن طاهر:

لكل أبي بنت يراعي شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر

« ألا ساء ما يحكمون » أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره « ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى » [ النجم: 21 ] أي جائرة، وسيأتي.



الآية: 60 ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم )



قوله تعالى: « للذين لا يؤمنون بالآخرة » أي لهؤلاء الواصفين لله البنات « مثل السوء » أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. « ولله المثل الأعلى » أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد؛ قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس: « مثل السوء » النار، و « المثل الأعلى » شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: ليس كمثله شيء. وقيل: « ولله المثل الأعلى » كقوله: « الله نور السماوات والأرض مثل نوره » [ النور: 35 ] . فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال: « فلا تضربوا لله الأمثال » [ النحل: 74 ] فالجواب أن قوله: « فلا تضربوا لله الأمثال » أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. « وهو العزيز الحكيم » تقدم.



الآية: 61 ( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )



قوله تعالى: « ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم » أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. « ما ترك عليها » أي على الأرض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله: « من دابة » فإن الدابة لا تدب إلا على الأرض. والمعنى المراد من دابة كافرة، فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء. وقيل: المراد بالآية العموم؛ أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة من نبي ولا غيره؛ وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في حجرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل؛ كما قال: « ويعفو عن كثير » [ الشورى: 30 ] . « فإذا جاء أجلهم » أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. أو الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين « جاء آجالهم » بالجمع وقيل: « فإذا جاء أجلهم » أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم. « لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » وقد تقدم. فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم ) . وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم ) فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: ( يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ) . وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في « كتاب التذكرة » وتقدم في « المائدة » وآخر « الأنعام » ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل « فإذا جاء أجلهم » أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم.



الآية: 62 ( ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون )



قوله تعالى: « ويجعلون لله ما يكرهون » أي من البنات. « وتصف ألسنتهم الكذب » أي وتقول ألسنتهم الكذب. « الكذب » مفعول « تصف » و « أن » في محل نصب بدل من الكذب؛ لأنه بيان له. وقيل: « الحسنى » الجزاء الحسن؛ قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن « الكذب » برفع الكاف والذال والباء نعتا للألسنة؛ وكذا « ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب » [ النحل: 116 ] . والكذب جمع كذوب؛ مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. « أن لهم الحسنى » قال مجاهد: هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. « لا جرم أن لهم النار » قال الخليل: « لا جرم » كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار. « وأنهم مفرطون » متركون منسيون في النار؛ قاله ابن الأعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وصعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذي يتقدم إلى الماء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا فرطكم على الحوض ) أي متقدمكم. وقال القطامي:

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد

والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش « مفرطون » بكسر الراء وتخفيفها، وهي قراءة عبدالله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ « مفرطون » بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله؛ فهو من التفريط في الواجب.



الآية: 63 ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم )



قوله تعالى: « تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم » أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم. « فهو وليهم اليوم » أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم. وقيل: « فهو وليهم » أي قرينهم في النار. « اليوم » يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم. « ولهم عذاب أليم » في الآخرة.



الآية: 64 ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )



قوله تعالى: « وما أنزلنا عليك الكتاب » أي القرآن « إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك « هدى ورحمة » على موضع قوله: « لتبين » لأن محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. « وهدى ورحمة لقوم يؤمنون » أي رشدا ورحمة للمؤمنين.



الآية: 65 ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون )



قوله تعالى: « والله أنزل من السماء » أي السحاب. « ماء فأحيا به الأرض بعد موتها » عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. « إن في ذلك لآية » أي دلالة على البعث على وحدانيته؛ إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة. « لقوم يسمعون » عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان؛ « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » [ الحج: 46 ] .



الآية: 66 ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين )



قوله تعالى: « وإن لكم في الأنعام لعبرة » قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. « لعبرة » أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه « فاعتبروا » [ الحشر: 2 ] . وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا.



قوله تعالى: « نسقيكم » قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال

وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة « تسقيكم » بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.



قوله تعالى: « مما في بطونه » اختلف الناس في الضمير من قوله: « مما في بطونه » على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى: « إنها تذكرة، فمن شاء ذكره » [ عبس: 11 - 12 ] وقال الشاعر:

مثل الفراخ نتفت حواصله

ومثله كثير. وقال الكسائي: « مما في بطونه » أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: « نسقيكم مما في بطونها » [ المؤمنون: 21 ] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.



استنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح ) فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى.



قوله تعالى: « من بين فرث ودم لبنا خالصا » نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش؛ « حكمة بالغة فما تغن النذر » [ القمر:5 ] . « خالصا » يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:

بخالصة الأردان خضر المناكب

أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.



قال النقاش: في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع. اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة؛ وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه.

قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؛ وقد قال تعالى: « يخرج من بين الصلب والترائب » [ الطارق: 7 ] ، وقال: « والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة » [ النحل: 72 ] وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر؛ وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة؛ فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون.



في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ) . ولم يخص.



قوله تعالى: « سائغا للشاربين » أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني؛ وقال تعالى: « يتجرعه ولا يكاد يسيغه » [ إبراهيم: 17 ] . والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص؛ ومنه قول الكميت:

فكانت سواغا أن جئزت بغصة

وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.



في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وفي الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.



روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن ) . قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة؛ فقال في الصحيح: ( فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك ) . ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات؛ فهو مبارك كله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 8 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 5 ... 7, 8, 9 ... 14 ... 20  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى