بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
هدى من الله | ||||
لولو حسن | ||||
روز | ||||
هنا سيد | ||||
توتى بدر | ||||
fola | ||||
روضة البدر | ||||
ام دهب و مصطفى | ||||
امة الرحمن | ||||
لولا |
تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
====
القول في تأويل
( بسم الله الرحمن الرحيم )
القول في تأويل قوله : بِسْمِ .
قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته ، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها ، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: « بسم الله » ، على من بطن من مراده الذي هو محذوف.
وذلك أن الباء من « بسم الله » مقتضية فعلا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامعَ القائل « بسم الله » معرفتُه بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مُرادَه قولا إذْ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضرَ منطقُه به - إمّا معه، وإمّا قبله بلا فصْلٍ- ما قد أغنى سامِعَه عن دلالةٍ شاهدةٍ على الذي من أجله افتتح قِيلَه به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظيرَ استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: « طعامًا » - عن أن يكرّر المسئُولُ مع قوله « طعامًا » ، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه ، بتقدُّم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أنّ قول القائل إذا قال: « بسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليًا سورةً، أن إتباعه « بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة، يُنبئ عن معنى قوله: « بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهومٌ به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: « بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله « بسم الله » ، وأنه أراد بقِيلِه « بسم الله » ، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشرُ بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ أول ما نـزل به جبريلُ على محمد، قال: « يا محمد، قُل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ثم قال: « قل بسم الله الرحمن الرحيم » . قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويلُ قوله « بسم الله » ما وصفتَ، والجالبُ الباءَ في « بسم الله » ما ذكرتَ، فكيف قيل « بسم الله » ، بمعنى أقرأ باسم الله ، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ الله، فبعَوْن الله وتوفيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعلٍ فعلا فبالله قيامُه وقعودُه وفعلُه. وهَلا - إذْ كان ذلك كذلك - قيل « بسم الله الرحمن الرحيم » ولم يَقُل « بسم الله » ؟ فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله - أوضحُ معنى لسامعه من قوله « بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم « أقوم أو أقعد باسم الله » ، يوهم سامعَه أن قيامه وقعوده بمعنى غيرِ الله.
قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصودَ إليه من معنى ذلك غيرُ ما توهَّمته في نفسك. وإنما معنى قوله « بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي اللهَ ، أو أقوم وأقعد بتسميتي اللهَ وذكرِه - لا أنه يعني بقِيلِه « بسم الله » : أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكونَ قولُ القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله « بسم الله » .
فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، فكيف قيل: « بسم الله » وقد علمتَ أنّ الاسم اسمٌ، وأن التسمية مصدرٌ من قولك سَمَّيت؟
قيل: إن العربَ قد تخرج المصادرَ مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمتُ فلانًا كرامةً، وإنما بناءُ مصدر « أفعلتُ » - إذا أخرج على فعله - « الإفعالُ » . وكقولهم: أهنت فلانًا هَوانًا، وكلّمته كلامًا. وبناء مصدر: « فعَّلت » التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر:
أَكُفْــرًا بعــد رَدِّ المَــوْتِ عَنِّـي وبعــد عَطَــائِكَ المِئَــةَ الرِّتَاعَـا
يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر:
وَإن كـانَ هـذا البُخْـلُ منْـك سَجيةً لقـد كُـنْتُ فـي طَولِي رَجَاءكَ أَشْعَبَا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
أَظُلَيْـــمُ إن مُصَـــابَكم رَجُــلا أَهْـــدَى السّــلامَ تحيَّــةً ظُلْــمُ
يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثُرُ، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وُفِّق لفهمه.
فإذْ كان الأمر - على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادرَ الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا ، فبيِّنٌ بذلك صوابُ ما قلنا من التأويل في قول القائل « بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي.
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، إنما معناه: أقرأ مبتدئًا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله. فجُعِل « الاسمُ » مكان التسمية، كما جُعل الكلامُ مكان التكليم، والعطاءُ مكان الإعطاء.
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوِي الخبر عن عبد الله بن عباس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أوّل ما نـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: « يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ، ثم قال: « قل: بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال ابن عباس: « بسم الله » ، يقول له جبريلُ: يا محمد ، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته: « بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى - ويوضح فسادَ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أوّلِ كلِّ شيء ، مع أن العباد إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنـزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام « بالله » ، ولم يقل « بسم الله » ، أنه مخالف - بتركه قِيلَ : « بسم الله » ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله « بسم الله » « بالله » ، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: « بسم الله الرحمن الرحيم » هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه « بالله » ، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل « بسم الله » - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: « بسم الله » ، أنه مراد به « بالله » ، وأن اسم الله هو الله.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في بيت لبيد بن ربيعة:
إلَـى الحَـوْلِ , ثم اسْمُ السَّلام عليكُمَا, ومـن يَبْـكِ حَـوْلا كـاملا فَقَد اعتَذَرْ
فقد تأوله مُقدَّم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسمَ السلام هو السلام؟
قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسمَ الطعام، وشربتُ اسمَ الشراب؛ وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: « ثمّ اسم السلام عليكما » ، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادِّعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافتَه إلى السلام إنما جاز، إذْ كان اسم المسمَّى هو المسمَّى بعينه.
ويُسأل القائلون قولَ من حكينا قولَه هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: « أكلتُ اسمَ العسل » ، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلامُ عليك؟
فإن قالوا: نعم ! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطِّئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا سئلوا الفرقَ بينهما: فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا أُلزموا في الآخر مثله.
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟
قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.
أحدُهما: أن « السلام » اسمٌ من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنَى بقوله: « ثم اسم السلام عليكما » ، ثم الزما اسمَ الله وذكرَه بعد ذلك، وَدَعَا ذكري والبكاءَ عليّ؛ على وجه الإغراء. فرفعَ الاسم، إذْ أخّر الحرفَ الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعَلُ العرب ذلك، إذا أخّرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصبُ به وهو مؤخَّر. ومن ذلك قول الشاعر:
يَــا أَيُّهــا المـائحُ دَلـوِي دُونَكـا! إنــي رأيــتُ النَّـاس يَحْمدُونَكـا!
فأغرَى ب « دونك » ، وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونَك دلوي. فذلك قول لبيد:
* إلى الحوْلِ, ثمَّ اسمُ السَّلامُ عَلَيْكُمَا *
يعني: عليكما اسمَ السلام، أي: الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجدَ بي، لأن من بكى حَوْلا على امرئ ميّت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي اللهَ عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: « اسم الله عليك » يعوِّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسمُ الله عليكما من السوء، وكأنّ الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد.
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أنّ معناه: ثم السلام عليكما، أترَى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزًا ، أو أحدهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟
فإن قال: لا ! أبان مقدارَه من العلم بتصاريف وُجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته.
وإن قال: بَلَى !
قيل له: فما برهانك على صحة ما ادَّعيت من التأويل أنه الصوابُ، دون الذي ذكرتَ أنه محتملُه - من الوجه الذي يلزمنا تسلميه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الخبر الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [ وهو يلقب بزبريق ] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب « بسم » فقال له عيسى: وما « بسم » ؟ فقال له المعلم: ما أدري ! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته.
فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ ب س م ] ، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: « بسم » ، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي « بسم الله الرحمن الرحيم » ، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهِ .
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره « الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس- : هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: « الله » ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في « فعل ويفعل » أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا.
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في « فعل ويفعل » .
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: « تألَّه فلان » - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للــــهِ دَرُّ الغانِيـــات المُـــدَّهِ سَــبَّحْنَ واسْــتَرْجَعْنَ مِـن تَـأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ « التألُّه » ، التفعُّل من: « ألَه يأله » ، وأن معنى « أله » - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب « فعل يفعل » يغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ ( وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ ) [ سورة الأعراف: 127 ] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: ( وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك ) ، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله « ويذرَكَ وإلاهتك » قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ « أله » عَبد، وأن « الإلاهة » مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟
قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب « الله » فقال له عيسى: « أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة » .
- أن يقال ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل « الله » - من كلام العرب أصله « الإله » .
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف : 38 ] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَـرْمِينَنِي بـالطَّرْف, أَيْ أَنـتَ مُذْنبٌ وتَقْلينَنــي, لكِــنَّ إيــاكِ لا أَقْـلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من « أنا » فالتقت نون « أنا » ونون « لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون « أنا » فصارتا نونًا مشددة. فكذلك « الله » أصله « الإله » ، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال أبو جعفر: وأما « الرحمن » ، فهو فَعلان، من رَحم، و « الرحيم » فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من « فَعِل يفْعَل » على « فعلان » ، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم « رَحمن » من رَحِمَ، لأن « فعِلَ » منه: رَحم يرْحم. وقيل « رحيم » ، وإن كانت عَين « فعِل » منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على « فعيل » ، وإن كانت عين « فعل » منها مكسورةً أو مفتوحةً، كما قالوا من « علم » عالم وعليم، ومن « قدَر » قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها، لأن البناء من « فَعِل يفْعَل » و « فعَل يفعِل » فاعلٌ. فلو كان « الرحمن والرحيم » خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما « الراحم » .
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجهُ تكرير ذلك، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر ؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية، فلا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ قول القائل: « الرحمن » - عن أبنية الأسماء من « فَعِل يفعَل » - أشدُّ عدولا من قوله « الرّحيم » . ولا خلاف مع ذلك بينهم، أنّ كل اسم كان له أصل في « فَعِلَ يفعَل » - ثم كان عن أصله من « فَعِل يفعَلُ » أشد عدولا - أنّ الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من « فَعِل يفعَل » ، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًّا. فهذا ما في قول القائل « الرحمن » ، من زيادة المعنى على قوله « الرحيم » في اللغة.
وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:-
فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العَرْزَمي يقول: « الرحمن الرحيم » ، قال: الرحمن بجميع الخلق ، الرّحيم، قال: بالمؤمنين.
حدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة » .
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو « رحمن » ، وتسميته باسمه الذي هو « رحيم » ، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟
قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيُّهما أولى بالصحة؟ وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا.
فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خصّ عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه، مما خُذِل عنه من أشرك به، وكفر وخالف ما أمره به، وركب معاصيَه؛ وكان مع ذلك قد جعلَ، جَلَّ ثناؤه، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين، لمن آمن به، وصدّق رسله، وعمل بطاعته، خالصًا، دون من أشرك وكفر به - كان بيِّنًا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البَسْط في الرزق، وتسخير السحاب بالغَيْثِ، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تُحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ سورة إبراهيم: 34 ، وسورة النحل : 18 ] .
وأما في الآخرة، فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحمانًا، تسويته بين جميعهم جل ذكرُه في عَدله وقضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مِثْقال ذَرّة، وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لَدُنْهُ أجرًا عظيما، وتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعَهم برحمته، الذي كان به رحمانًا في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [ سورة الأحزاب: 43 ] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصّهم به، دونَ من خذَله من أهل الكفر به.
وأمَّا ما خصّهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين، فما وصفنا آنفًا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصرُ عنها الأمانيّ.
وأما القول الآخر في تأويله فهو ما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن، الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرّحمن الرحيم: الرقيقُ الرفيقُ بمن أحبَّ أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنُف عليه. وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربُّنا رحمن، هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله « الرحمن » من المعنى، ما ليس لقوله « الرحيم » . لأنه جعل معنى « الرحمن » بمعنى الرقيق على من رقَّ عليه، ومعنى « الرحيم » بمعنى الرفيق بمن رفق به.
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرْزَمي ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس. وإن كان هذا القول موافقًا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غيرَ تأويل الرحمن.
والقول الثالث في تأويل ذلك ما:-
حدثني به عمران بن بَكَّار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللَّخمي من أهلِ فلَسْطين، قال: سمعت عطاء الخراساني يقول: كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ.
والذي أراد ، إن شاء الله ، عطاءٌ بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه « الرحمنُ الرحيمُ » ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد « الرحمن الرحيم » ، فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما، أو يتسمَّى رَحمن. فأما « رحمن رحيم » ، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأنّ معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقِه، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين، إبانةً لها من خلقه، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
وقد زعم بعضُ أهل الغَباء أنّ العرب كانت لا تعرف « الرحمن » ، ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [ سورة الفرقان: 60 ] ، إنكارًا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أوْ: لا وكأنه لم يتْلُ من كتاب الله قول الله الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ - يعني محمدًا - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [ سورة البقرة: 146 ] وهم مع ذلك به مكذِّبون، ولنبوته جاحدون! فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقةَ ما قد ثبت عندهم صحتُه، واستحكمتْ لديهم معرفتُه. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
أَلا ضــربَتْ تلـكَ الفتـاةُ هَجِينَهَـا أَلا قَضَــبَ الرحْـمَنُ رَبِّـي يَمِينَهَـا
وقال سلامة بن جَندلٍ السَّعْدي:
عَجِــلْتُمْ عَلَيْنَــا عَجْلَتَيْنَــا عَلَيْكُـمُ وَمَـا يَشَـإ الرحْـمَنُ يَعْقِـدْ وَيُطْلِـقِ
وقد زعم أيضًا بعضُ من ضعُفت معرفتُه بتأويل أهل التأويل، وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أنّ « الرحمن » مجازه: ذو الرحمة، و « الرحيم » مجازه: الرّاحم ، ثم قال: قد يقدِّرون اللفظين من لفظٍ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان ونَديم، ثم استشهد ببيتِ بُرْج بن مُسْهِر الطائي:
وَنَدْمَــانٍ يزيــدُ الكــأسَ طِيبًـا , سَــقَيْتُ وَقَــدْ تَغَــوَّرَتِ النُّجُـومُ
واستشهد بأبياتٍ نظائره في النَّديم والنَّدمان، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيَيْهما على صحته. ثم مثّل ذلك باللَّفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ.
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثَبت أن له الرحمة، وصحَّ أنها له صفة؛ وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه.
ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة، إذا وُصِف بأنه ذو الرحمة. فأين معنى « الرحمن الرحيم » على تأويله، من معنى الكلمتين يأتيان مقدَّرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه، كان واضحًا عوارُه.
وإن قال لنا قائل: ولم قدّم اسمَ الله الذي هو « الله » ، على اسمه الذي هو « الرحمن » ، واسمه الذي هو « الرحمن » ، على اسمه الذي هو « الرحيم » ؟
قيل: لأن من شأن العرب، إذا أرادوا الخبر عن مُخبَر عنه، أن يقدِّموا اسمه، ثم يتبعوه صفاتِه ونعوتَه. وهذا هو الواجب في الحُكم: أن يكون الاسم مقدَّمًا قبل نعته وصِفَته، ليعلم السامع الخبرَ، عمَّن الخبرُ. فإذا كان ذلك كذلك - وكانَ لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خَصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثلُ « الله » و « الرحمن » و « الخالق » ؛ وأسماءٌ أباحَ لهم أن يُسمِّيَ بعضهم بعضًا بها، وذلك: كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامعُ ذلك مَنْ تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ، ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو « الله » ، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه، لا من جهة التسمِّي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى « الله » تعالى ذكره المعبود ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح.
أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [ سورة الإسراء: 110 ] . ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو « الله » .
وأما اسمه الذي هو « الرحيم » فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو « الله » ، على اسمه الذي هو « الرحمن » ، واسمه الذي هو « الرحمن » على اسمه الذي هو « الرحيم » .
وقد كان الحسنُ البصريّ يقول في « الرحمن » مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي مَنَعَ التسميَ بها العبادَ.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: « الرحمن » اسمٌ ممنوع.
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمِّي به جميعَ الناس، ما يُغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
( القول في تأويل فاتحة الكتاب )
الْحَمْدُ لِلَّهِ :
قال أبو جعفر: ومعنى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كلِّ ما برَأَ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وَغذَاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المُقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولا وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جلّ ذكره وتقدَّست أسماؤه: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، جاء الخبرُ عن ابن عباس وغيره:-
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما: قل يا محمد « الحمد لله » قال ابن عباس: « الحمد لله » : هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك.
وحدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حَبيب، عن الحكم بن عُمَير - وكانت له صحبة - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا قلت « الحمد لله ربِّ العالمين » ، فقد شكرت الله، فزادك.
قال: وقد قيل: إنّ قول القائل « الحمد لله » ، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحُسنى، وقوله: « الشكر لله » ، ثناء عليه بنعمه وأياديه.
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال: « الحمد لله » ، ثناءٌ على الله. ولم يبيّن في الرواية عنه، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب، قال: من قال « الحمد لله » ، فذلك ثناء على الله.
حدثني علي بن الحسن الخرّاز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجَرْمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القُرْقُساني، عن مُبارك بن فَضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيءٌ أحبَّ إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نَفسه فقال: « الحمد لله » .
قال أبو جعفر: ولا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم ، لقول القائل: « الحمد لله شكرًا » - بالصحة. فقد تبيّن - إذْ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا - أنّ الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يُقال « الحمد لله شكرًا » ، فيُخْرِج من قول القائل « الحمد لله » مُصَدَّرَ: « أشكُرُ » ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه.
فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد؟ وهلا قيل: حمدًا لله رب العالمين؟
قيل: إن لدخول الألف واللام في الحمد، معنى لا يؤديه قول القائل « حَمْدًا » ، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبِئٌ عن أن معناه : جميعُ المحامد والشكرُ الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دَلّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون المحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: « حمدًا لله » أو « حمدٌ لله » : أحمد الله حمدًا، وليس التأويل في قول القائل: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، تاليًا سورةَ أم القرآن: أحمدُ الله، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ، من أنّ جميع المحامد لله بألوهيّته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا، والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى، تتابعتْ قراءة القرّاء وعلماء الأمة على رَفع الحمد من ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدًا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي مُحيلا معناه، ومستحقًّا العقوبةَ على قراءته إياه كذلك، إذا تعمَّد قراءتَه كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله « الحمد لله » ؟ أحَمِد الله نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها، ثم علَّمنَاه لنقول ذلك كما قال ووصَف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عزّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ؟ أم ذلك من قِيلِ جبريلَ أو محمدٍ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بَطل أن يكون ذلك لله كلامًا .
قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جلّ ذكره حَمِد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ، ثم علَّم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . فقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ مما علمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: « قولوا » ، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟
قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة، ولم تَشكَّك أنّ سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت - حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت، قولا أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر:
وأَعْلَــمُ أَنَّنِــي سَــأَكُونُ رَمْسًـا إذَا سَـــارَ النَّـــوَاعِجُ لا يَسِــيرُ
فَقَــالَ السّــائلون لِمَــنْ حَـفَرْتُمْ? فَقَــالَ المُخْــبِرُون لَهُــمْ: وزيـرُ
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميِّتُ وزيرٌ، فأسقَط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر:
وَرأَيــتِ زَوْجَــكِ فــي الــوغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا
وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد، وإنما أراد: وحاملا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه: « مُصاحَبًا مُعافًى » ، يحذفون « سر، واخرج » ، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذكره: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، لمَّا عُلم بقوله جل وعزّ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ما أراد بقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، من معنى أمره عبادَه، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف.
وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: « الحمد لله رب العالمين » ، وبيّنا أن جبريل إنما علّم محمدًا ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر يُنبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.
القول في تأويل قوله : رَبِّ .
قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو اللَّهِ ، في بِسْمِ اللَّهِ ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأما تأويل قوله ( رَبِّ ) ، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان: فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة:
وأَهْلكْــنَ يومًــا ربَّ كِنْـدَة وابنَـه ورَبَّ مَعـدٍّ , بيـن خَـبْتٍ وعَرْعَـرِ
يعني بربِّ كندة: سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
تَخُــبُّ إلـى النُّعْمَـانِ حَـتَّى تَنالَـهُ فِـدًى لـكَ مـن رَبٍّ طَـرِيفِي وَتَالِدِي
والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
كــانُوا كَسَـالِئَةٍ حَمْقَـاءَ إذْ حَـقَنتْ سِـلاءَها فِـي أدِيـم غَـيْرِ مَرْبُـوبِ
يعني بذلك: في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة:
فكُـنْتَ امـرَأً أَفْضَـتْ إليـك رِبَابَتي وَقَبْلَــكَ رَبَّتْنـي, فَضِعْـتُ رُبُـوبُ
يعنى بقوله: « أفضتْ إليك » أي وصلتْ إليك رِبَابتي، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب: واحدهم ربٌّ . والمالك للشيء يدعى رَبَّه. وقد يتصرف أيضًا معنى « الربّ » في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، جاءت الرواية عن ابن عباس:-
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: « يا محمد قل: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) » ، قال ابن عباس: يقول: قل الحمد لله الذي له الخلق كله - السمواتُ كلهن ومن فيهنّ، والأَرَضُون كلُّهنّ ومن فيهنّ وما بينهن، مما يُعلم ومما لا يُعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربَّك هذا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله : الْعَالَمِينَ .
قاله أبو جعفر: والعالَمون جمع عالَم، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
* فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ *
فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامّة المفسرين.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم ولا يعلم.
وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( رب العالمين ) : الجن والإنس.
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قول الله جل وعزّ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: ربِّ الجن والإنس.
حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير: قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الجنّ والإنس.
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته.
حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس والجن.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله.
حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: كلّ صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قال: الجن والإنس.
====
القول في تأويل
( بسم الله الرحمن الرحيم )
القول في تأويل قوله : بِسْمِ .
قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته ، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها ، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم ، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: « بسم الله » ، على من بطن من مراده الذي هو محذوف.
وذلك أن الباء من « بسم الله » مقتضية فعلا يكون لها جالبًا، ولا فعلَ معها ظاهرٌ، فأغنت سامعَ القائل « بسم الله » معرفتُه بمراد قائله، عن إظهار قائل ذلك مُرادَه قولا إذْ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرًا، قد أحضرَ منطقُه به - إمّا معه، وإمّا قبله بلا فصْلٍ- ما قد أغنى سامِعَه عن دلالةٍ شاهدةٍ على الذي من أجله افتتح قِيلَه به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظيرَ استغنائه - إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم؟ فقال: « طعامًا » - عن أن يكرّر المسئُولُ مع قوله « طعامًا » ، أكلت، لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه ، بتقدُّم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذًا أنّ قول القائل إذا قال: « بسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليًا سورةً، أن إتباعه « بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة، يُنبئ عن معنى قوله: « بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهومٌ به أنه مريد بذلك: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: « بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله « بسم الله » ، وأنه أراد بقِيلِه « بسم الله » ، أقوم باسم الله، وأقعد باسم الله. وكذلك سائر الأفعال.
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشرُ بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إنَّ أول ما نـزل به جبريلُ على محمد، قال: « يا محمد، قُل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ثم قال: « قل بسم الله الرحمن الرحيم » . قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويلُ قوله « بسم الله » ما وصفتَ، والجالبُ الباءَ في « بسم الله » ما ذكرتَ، فكيف قيل « بسم الله » ، بمعنى أقرأ باسم الله ، أو أقوم أو أقعد باسم الله؟ وقد علمتَ أن كلَّ قارئٍ كتابَ الله، فبعَوْن الله وتوفيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعلٍ فعلا فبالله قيامُه وقعودُه وفعلُه. وهَلا - إذْ كان ذلك كذلك - قيل « بسم الله الرحمن الرحيم » ولم يَقُل « بسم الله » ؟ فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله - أوضحُ معنى لسامعه من قوله « بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم « أقوم أو أقعد باسم الله » ، يوهم سامعَه أن قيامه وقعوده بمعنى غيرِ الله.
قيل له، وبالله التوفيق: إن المقصودَ إليه من معنى ذلك غيرُ ما توهَّمته في نفسك. وإنما معنى قوله « بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسميتي اللهَ ، أو أقوم وأقعد بتسميتي اللهَ وذكرِه - لا أنه يعني بقِيلِه « بسم الله » : أقوم بالله، أو أقرأ بالله، فيكونَ قولُ القائل: أقرأ بالله، أو أقوم أو أقعد بالله - أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله « بسم الله » .
فإن قال: فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ، فكيف قيل: « بسم الله » وقد علمتَ أنّ الاسم اسمٌ، وأن التسمية مصدرٌ من قولك سَمَّيت؟
قيل: إن العربَ قد تخرج المصادرَ مبهمةً على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمتُ فلانًا كرامةً، وإنما بناءُ مصدر « أفعلتُ » - إذا أخرج على فعله - « الإفعالُ » . وكقولهم: أهنت فلانًا هَوانًا، وكلّمته كلامًا. وبناء مصدر: « فعَّلت » التفعيل. ومن ذلك قول الشاعر:
أَكُفْــرًا بعــد رَدِّ المَــوْتِ عَنِّـي وبعــد عَطَــائِكَ المِئَــةَ الرِّتَاعَـا
يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر:
وَإن كـانَ هـذا البُخْـلُ منْـك سَجيةً لقـد كُـنْتُ فـي طَولِي رَجَاءكَ أَشْعَبَا
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر:
أَظُلَيْـــمُ إن مُصَـــابَكم رَجُــلا أَهْـــدَى السّــلامَ تحيَّــةً ظُلْــمُ
يريد: إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثُرُ، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وُفِّق لفهمه.
فإذْ كان الأمر - على ما وصفنا، من إخراج العرب مصادرَ الأفعال على غير بناء أفعالها - كثيرًا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودًا فاشيًا ، فبيِّنٌ بذلك صوابُ ما قلنا من التأويل في قول القائل « بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي.
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، إنما معناه: أقرأ مبتدئًا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله. فجُعِل « الاسمُ » مكان التسمية، كما جُعل الكلامُ مكان التكليم، والعطاءُ مكان الإعطاء.
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، رُوِي الخبر عن عبد الله بن عباس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أوّل ما نـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: « يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم » ، ثم قال: « قل: بسم الله الرحمن الرحيم » .
قال ابن عباس: « بسم الله » ، يقول له جبريلُ: يا محمد ، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا - من أنه يراد بقول القائل مفتتحًا قراءته: « بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى - ويوضح فسادَ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم أوّلِ كلِّ شيء ، مع أن العباد إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنـزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام « بالله » ، ولم يقل « بسم الله » ، أنه مخالف - بتركه قِيلَ : « بسم الله » ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله « بسم الله » « بالله » ، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: « بسم الله الرحمن الرحيم » هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه « بالله » ، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل « بسم الله » - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: « بسم الله » ، أنه مراد به « بالله » ، وأن اسم الله هو الله.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل: فما أنت قائلٌ في بيت لبيد بن ربيعة:
إلَـى الحَـوْلِ , ثم اسْمُ السَّلام عليكُمَا, ومـن يَبْـكِ حَـوْلا كـاملا فَقَد اعتَذَرْ
فقد تأوله مُقدَّم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسمَ السلام هو السلام؟
قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأوّل، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسمَ الطعام، وشربتُ اسمَ الشراب؛ وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: « ثمّ اسم السلام عليكما » ، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادِّعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافتَه إلى السلام إنما جاز، إذْ كان اسم المسمَّى هو المسمَّى بعينه.
ويُسأل القائلون قولَ من حكينا قولَه هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال: « أكلتُ اسمَ العسل » ، يعني بذلك: أكلت العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلامُ عليك؟
فإن قالوا: نعم ! خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطِّئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا: لا سئلوا الفرقَ بينهما: فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا أُلزموا في الآخر مثله.
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟
قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.
أحدُهما: أن « السلام » اسمٌ من أسماء الله، فجائز أن يكون لبيد عنَى بقوله: « ثم اسم السلام عليكما » ، ثم الزما اسمَ الله وذكرَه بعد ذلك، وَدَعَا ذكري والبكاءَ عليّ؛ على وجه الإغراء. فرفعَ الاسم، إذْ أخّر الحرفَ الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعَلُ العرب ذلك، إذا أخّرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به، وإن كانت قد تنصبُ به وهو مؤخَّر. ومن ذلك قول الشاعر:
يَــا أَيُّهــا المـائحُ دَلـوِي دُونَكـا! إنــي رأيــتُ النَّـاس يَحْمدُونَكـا!
فأغرَى ب « دونك » ، وهي مؤخرة، وإنما معناه: دونَك دلوي. فذلك قول لبيد:
* إلى الحوْلِ, ثمَّ اسمُ السَّلامُ عَلَيْكُمَا *
يعني: عليكما اسمَ السلام، أي: الزما ذكر الله ودعا ذكري والوجدَ بي، لأن من بكى حَوْلا على امرئ ميّت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي اللهَ عليكما، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه: « اسم الله عليك » يعوِّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسمُ الله عليكما من السوء، وكأنّ الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد.
ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أنّ معناه: ثم السلام عليكما، أترَى ما قلنا - من هذين الوجهين - جائزًا ، أو أحدهما، أو غيرَ ما قلتَ فيه؟
فإن قال: لا ! أبان مقدارَه من العلم بتصاريف وُجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته.
وإن قال: بَلَى !
قيل له: فما برهانك على صحة ما ادَّعيت من التأويل أنه الصوابُ، دون الذي ذكرتَ أنه محتملُه - من الوجه الذي يلزمنا تسلميه لك؟ ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الخبر الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك [ وهو يلقب بزبريق ] قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومِسْعَرِ بن كِدَام، عن عطية، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّه إلى الكتَّاب ليعلِّمه، فقال له المعلم: اكتب « بسم » فقال له عيسى: وما « بسم » ؟ فقال له المعلم: ما أدري ! فقال عيسى: الباء بهاءُ الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته.
فأخشى أنْ يكون غلطًا من المحدِّث، وأن يكون أراد [ ب س م ] ، على سبيل ما يعلَّم المبتدئ من الصبيان في الكتّاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك، فوصَله، فقال: « بسم » ، لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي « بسم الله الرحمن الرحيم » ، على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حُمِل تأويله على ذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهِ .
قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله تعالى ذكره « الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس- : هو الذي يَألَهه كل شيء، ويعبده كل خلْقٍ.
وذلك أنّ أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: « الله » ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين.
فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في « فعل ويفعل » أصل كان منه بناءُ هذا الاسم؟
قيل: أمّا سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالا.
فإن قال: وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود، وأنّ له أصلا في « فعل ويفعل » .
قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: « تألَّه فلان » - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
للــــهِ دَرُّ الغانِيـــات المُـــدَّهِ سَــبَّحْنَ واسْــتَرْجَعْنَ مِـن تَـأَلُّهِي
يعني: من تعبدي وطلبي اللهَ بعملي.
ولا شك أنّ « التألُّه » ، التفعُّل من: « ألَه يأله » ، وأن معنى « أله » - إذا نُطق به:- عَبَدَ اللهَ. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب « فعل يفعل » يغير زيادة.
وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عُمر، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه قرأ ( وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ ) [ سورة الأعراف: 127 ] قال: عبادتَك، ويقال : إنه كان يُعبَد ولا يَعبُد.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: ( وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك ) ، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قوله « ويذرَكَ وإلاهتك » قال: وعبادتَك ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل: ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عَبَد الله فلانٌ عبادةً، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أنّ « أله » عَبد، وأن « الإلاهة » مصدرُه.
فإن قال: فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله: ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟
قيل: أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-
حدثنا به إسماعيل بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام، عن عطية العَوْفي، عن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب « الله » فقال له عيسى: « أتدري ما الله؟ الله إلهُ الآلهة » .
- أن يقال ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل « الله » - من كلام العرب أصله « الإله » .
فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، مع اختلاف لفظيهما؟
قيل: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف : 38 ] أصله: لكن أنا، هو الله ربي، كما قال الشاعر:
وَتَـرْمِينَنِي بـالطَّرْف, أَيْ أَنـتَ مُذْنبٌ وتَقْلينَنــي, لكِــنَّ إيــاكِ لا أَقْـلِي
يريد: لكن أنا إياك لا أقلي، فحذَف الهمزة من « أنا » فالتقت نون « أنا » ونون « لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون « أنا » فصارتا نونًا مشددة. فكذلك « الله » أصله « الإله » ، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال أبو جعفر: وأما « الرحمن » ، فهو فَعلان، من رَحم، و « الرحيم » فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من « فَعِل يفْعَل » على « فعلان » ، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم « رَحمن » من رَحِمَ، لأن « فعِلَ » منه: رَحم يرْحم. وقيل « رحيم » ، وإن كانت عَين « فعِل » منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على « فعيل » ، وإن كانت عين « فعل » منها مكسورةً أو مفتوحةً، كما قالوا من « علم » عالم وعليم، ومن « قدَر » قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها، لأن البناء من « فَعِل يفْعَل » و « فعَل يفعِل » فاعلٌ. فلو كان « الرحمن والرحيم » خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما « الراحم » .
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجهُ تكرير ذلك، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر ؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية، فلا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ قول القائل: « الرحمن » - عن أبنية الأسماء من « فَعِل يفعَل » - أشدُّ عدولا من قوله « الرّحيم » . ولا خلاف مع ذلك بينهم، أنّ كل اسم كان له أصل في « فَعِلَ يفعَل » - ثم كان عن أصله من « فَعِل يفعَلُ » أشد عدولا - أنّ الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من « فَعِل يفعَل » ، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًّا. فهذا ما في قول القائل « الرحمن » ، من زيادة المعنى على قوله « الرحيم » في اللغة.
وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:-
فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العَرْزَمي يقول: « الرحمن الرحيم » ، قال: الرحمن بجميع الخلق ، الرّحيم، قال: بالمؤمنين.
حدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة » .
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو « رحمن » ، وتسميته باسمه الذي هو « رحيم » ، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟
قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيُّهما أولى بالصحة؟ وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا.
فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خصّ عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه، مما خُذِل عنه من أشرك به، وكفر وخالف ما أمره به، وركب معاصيَه؛ وكان مع ذلك قد جعلَ، جَلَّ ثناؤه، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين، لمن آمن به، وصدّق رسله، وعمل بطاعته، خالصًا، دون من أشرك وكفر به - كان بيِّنًا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البَسْط في الرزق، وتسخير السحاب بالغَيْثِ، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تُحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ سورة إبراهيم: 34 ، وسورة النحل : 18 ] .
وأما في الآخرة، فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحمانًا، تسويته بين جميعهم جل ذكرُه في عَدله وقضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مِثْقال ذَرّة، وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لَدُنْهُ أجرًا عظيما، وتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعَهم برحمته، الذي كان به رحمانًا في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [ سورة الأحزاب: 43 ] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصّهم به، دونَ من خذَله من أهل الكفر به.
وأمَّا ما خصّهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين، فما وصفنا آنفًا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصرُ عنها الأمانيّ.
وأما القول الآخر في تأويله فهو ما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن، الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرّحمن الرحيم: الرقيقُ الرفيقُ بمن أحبَّ أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنُف عليه. وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربُّنا رحمن، هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله « الرحمن » من المعنى، ما ليس لقوله « الرحيم » . لأنه جعل معنى « الرحمن » بمعنى الرقيق على من رقَّ عليه، ومعنى « الرحيم » بمعنى الرفيق بمن رفق به.
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرْزَمي ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس. وإن كان هذا القول موافقًا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غيرَ تأويل الرحمن.
والقول الثالث في تأويل ذلك ما:-
حدثني به عمران بن بَكَّار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللَّخمي من أهلِ فلَسْطين، قال: سمعت عطاء الخراساني يقول: كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ.
والذي أراد ، إن شاء الله ، عطاءٌ بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه « الرحمنُ الرحيمُ » ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد « الرحمن الرحيم » ، فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما، أو يتسمَّى رَحمن. فأما « رحمن رحيم » ، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأنّ معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقِه، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين، إبانةً لها من خلقه، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
وقد زعم بعضُ أهل الغَباء أنّ العرب كانت لا تعرف « الرحمن » ، ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [ سورة الفرقان: 60 ] ، إنكارًا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أوْ: لا وكأنه لم يتْلُ من كتاب الله قول الله الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ - يعني محمدًا - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [ سورة البقرة: 146 ] وهم مع ذلك به مكذِّبون، ولنبوته جاحدون! فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقةَ ما قد ثبت عندهم صحتُه، واستحكمتْ لديهم معرفتُه. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
أَلا ضــربَتْ تلـكَ الفتـاةُ هَجِينَهَـا أَلا قَضَــبَ الرحْـمَنُ رَبِّـي يَمِينَهَـا
وقال سلامة بن جَندلٍ السَّعْدي:
عَجِــلْتُمْ عَلَيْنَــا عَجْلَتَيْنَــا عَلَيْكُـمُ وَمَـا يَشَـإ الرحْـمَنُ يَعْقِـدْ وَيُطْلِـقِ
وقد زعم أيضًا بعضُ من ضعُفت معرفتُه بتأويل أهل التأويل، وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أنّ « الرحمن » مجازه: ذو الرحمة، و « الرحيم » مجازه: الرّاحم ، ثم قال: قد يقدِّرون اللفظين من لفظٍ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان ونَديم، ثم استشهد ببيتِ بُرْج بن مُسْهِر الطائي:
وَنَدْمَــانٍ يزيــدُ الكــأسَ طِيبًـا , سَــقَيْتُ وَقَــدْ تَغَــوَّرَتِ النُّجُـومُ
واستشهد بأبياتٍ نظائره في النَّديم والنَّدمان، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيَيْهما على صحته. ثم مثّل ذلك باللَّفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ.
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثَبت أن له الرحمة، وصحَّ أنها له صفة؛ وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه.
ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة، إذا وُصِف بأنه ذو الرحمة. فأين معنى « الرحمن الرحيم » على تأويله، من معنى الكلمتين يأتيان مقدَّرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه، كان واضحًا عوارُه.
وإن قال لنا قائل: ولم قدّم اسمَ الله الذي هو « الله » ، على اسمه الذي هو « الرحمن » ، واسمه الذي هو « الرحمن » ، على اسمه الذي هو « الرحيم » ؟
قيل: لأن من شأن العرب، إذا أرادوا الخبر عن مُخبَر عنه، أن يقدِّموا اسمه، ثم يتبعوه صفاتِه ونعوتَه. وهذا هو الواجب في الحُكم: أن يكون الاسم مقدَّمًا قبل نعته وصِفَته، ليعلم السامع الخبرَ، عمَّن الخبرُ. فإذا كان ذلك كذلك - وكانَ لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خَصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثلُ « الله » و « الرحمن » و « الخالق » ؛ وأسماءٌ أباحَ لهم أن يُسمِّيَ بعضهم بعضًا بها، وذلك: كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامعُ ذلك مَنْ تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ، ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو « الله » ، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه، لا من جهة التسمِّي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى « الله » تعالى ذكره المعبود ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح.
أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ فاستكبر ذلك من المقرِّ به، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [ سورة الإسراء: 110 ] . ثم ثنَّى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو « الله » .
وأما اسمه الذي هو « الرحيم » فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو « الله » ، على اسمه الذي هو « الرحمن » ، واسمه الذي هو « الرحمن » على اسمه الذي هو « الرحيم » .
وقد كان الحسنُ البصريّ يقول في « الرحمن » مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي مَنَعَ التسميَ بها العبادَ.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: « الرحمن » اسمٌ ممنوع.
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمِّي به جميعَ الناس، ما يُغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
( القول في تأويل فاتحة الكتاب )
الْحَمْدُ لِلَّهِ :
قال أبو جعفر: ومعنى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كلِّ ما برَأَ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وَغذَاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المُقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولا وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جلّ ذكره وتقدَّست أسماؤه: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، جاء الخبرُ عن ابن عباس وغيره:-
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما: قل يا محمد « الحمد لله » قال ابن عباس: « الحمد لله » : هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك.
وحدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حَبيب، عن الحكم بن عُمَير - وكانت له صحبة - قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا قلت « الحمد لله ربِّ العالمين » ، فقد شكرت الله، فزادك.
قال: وقد قيل: إنّ قول القائل « الحمد لله » ، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحُسنى، وقوله: « الشكر لله » ، ثناء عليه بنعمه وأياديه.
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال: « الحمد لله » ، ثناءٌ على الله. ولم يبيّن في الرواية عنه، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب، قال: من قال « الحمد لله » ، فذلك ثناء على الله.
حدثني علي بن الحسن الخرّاز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجَرْمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القُرْقُساني، عن مُبارك بن فَضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيءٌ أحبَّ إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نَفسه فقال: « الحمد لله » .
قال أبو جعفر: ولا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم ، لقول القائل: « الحمد لله شكرًا » - بالصحة. فقد تبيّن - إذْ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا - أنّ الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يُقال « الحمد لله شكرًا » ، فيُخْرِج من قول القائل « الحمد لله » مُصَدَّرَ: « أشكُرُ » ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه.
فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد؟ وهلا قيل: حمدًا لله رب العالمين؟
قيل: إن لدخول الألف واللام في الحمد، معنى لا يؤديه قول القائل « حَمْدًا » ، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبِئٌ عن أن معناه : جميعُ المحامد والشكرُ الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دَلّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ ذلك لله، دون المحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: « حمدًا لله » أو « حمدٌ لله » : أحمد الله حمدًا، وليس التأويل في قول القائل: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، تاليًا سورةَ أم القرآن: أحمدُ الله، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ، من أنّ جميع المحامد لله بألوهيّته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا، والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى، تتابعتْ قراءة القرّاء وعلماء الأمة على رَفع الحمد من ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدًا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي مُحيلا معناه، ومستحقًّا العقوبةَ على قراءته إياه كذلك، إذا تعمَّد قراءتَه كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله « الحمد لله » ؟ أحَمِد الله نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها، ثم علَّمنَاه لنقول ذلك كما قال ووصَف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عزّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ؟ أم ذلك من قِيلِ جبريلَ أو محمدٍ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بَطل أن يكون ذلك لله كلامًا .
قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جلّ ذكره حَمِد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ، ثم علَّم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم قولوا: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . فقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ مما علمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: « قولوا » ، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟
قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة، ولم تَشكَّك أنّ سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت - حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت، قولا أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر:
وأَعْلَــمُ أَنَّنِــي سَــأَكُونُ رَمْسًـا إذَا سَـــارَ النَّـــوَاعِجُ لا يَسِــيرُ
فَقَــالَ السّــائلون لِمَــنْ حَـفَرْتُمْ? فَقَــالَ المُخْــبِرُون لَهُــمْ: وزيـرُ
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميِّتُ وزيرٌ، فأسقَط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر:
وَرأَيــتِ زَوْجَــكِ فــي الــوغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا
وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد، وإنما أراد: وحاملا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه: « مُصاحَبًا مُعافًى » ، يحذفون « سر، واخرج » ، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذكره: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، لمَّا عُلم بقوله جل وعزّ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ما أراد بقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، من معنى أمره عبادَه، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف.
وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: « الحمد لله رب العالمين » ، وبيّنا أن جبريل إنما علّم محمدًا ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر يُنبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.
القول في تأويل قوله : رَبِّ .
قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو اللَّهِ ، في بِسْمِ اللَّهِ ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأما تأويل قوله ( رَبِّ ) ، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان: فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة:
وأَهْلكْــنَ يومًــا ربَّ كِنْـدَة وابنَـه ورَبَّ مَعـدٍّ , بيـن خَـبْتٍ وعَرْعَـرِ
يعني بربِّ كندة: سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
تَخُــبُّ إلـى النُّعْمَـانِ حَـتَّى تَنالَـهُ فِـدًى لـكَ مـن رَبٍّ طَـرِيفِي وَتَالِدِي
والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
كــانُوا كَسَـالِئَةٍ حَمْقَـاءَ إذْ حَـقَنتْ سِـلاءَها فِـي أدِيـم غَـيْرِ مَرْبُـوبِ
يعني بذلك: في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة:
فكُـنْتَ امـرَأً أَفْضَـتْ إليـك رِبَابَتي وَقَبْلَــكَ رَبَّتْنـي, فَضِعْـتُ رُبُـوبُ
يعنى بقوله: « أفضتْ إليك » أي وصلتْ إليك رِبَابتي، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب: واحدهم ربٌّ . والمالك للشيء يدعى رَبَّه. وقد يتصرف أيضًا معنى « الربّ » في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، جاءت الرواية عن ابن عباس:-
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحّاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: « يا محمد قل: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) » ، قال ابن عباس: يقول: قل الحمد لله الذي له الخلق كله - السمواتُ كلهن ومن فيهنّ، والأَرَضُون كلُّهنّ ومن فيهنّ وما بينهن، مما يُعلم ومما لا يُعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربَّك هذا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله : الْعَالَمِينَ .
قاله أبو جعفر: والعالَمون جمع عالَم، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
* فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ *
فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامّة المفسرين.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم ولا يعلم.
وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( رب العالمين ) : الجن والإنس.
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قول الله جل وعزّ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: ربِّ الجن والإنس.
حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير: قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الجنّ والإنس.
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته.
حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس والجن.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله.
حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: كلّ صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قال: الجن والإنس.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة الفاتحة .. للطبرى
=====
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته.
حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس والجن.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله.
حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: كلّ صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قال: الجن والإنس.
القول في تأويل قوله : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال أبو جعفر: قد مضى البيانُ عن تأويل قوله ( الرحمن الرحيم ) ، في تأويل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
ولم نَحْتَجْ إلى الإبانة عن وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، إذْ كنا لا نرى أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب - آيةٌ، فيكونَ علينا لسائلٍ مسألةٌ بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، وقد مضى وصفُ الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مع قرب مكان إحدى الآيتين من الأخرى، ومجاورتها صَاحِبتها؟ بل ذلك لنا حُجة على خطأ دعوى من ادَّعى أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب آية. إذ لو كان ذلك كذلك، لكان ذلك إعادةَ آية بمعنى واحد ولفظ واحدٍ مرتين من غير فَصْل يَفصِل بينهما. وغيرُ موجودٍ في شيء من كتاب الله آيتان مُتجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصلَ بينهما من كلام يُخالف معناه معناهما. وإنما يُؤتى بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فُصولٍ تفصِل بين ذلك، وكلامٍ يُعترضُ به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، ولا فاصِلَ بين قول الله تبارك وتعالى اسمه « الرحمن الرحيم » من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وقولِ الله: « الرحمن الرحيم » ، من الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فإن قال : فإن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فاصل من ذلك.
قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، وقالوا: إن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم، وإنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رَبّ العالمين مَلِك يوم الدين. واستشهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله: « مَلِك يوم الدين » ، فقالوا : إن قوله « ملِكِ يوم الدين » تعليم من الله عبدَه أنْ يصفَه بالمُلْك في قراءة من قرأ ملِك ، وبالمِلْك في قراءة من قرأ مَالِكِ . قالوا: فالذي هو أولى أن يكونَ مجاورَ وصفه بالمُلْك أو المِلْك، ما كان نظيرَ ذلك من الوصف؛ وذلك هو قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الذي هو خبر عن مِلْكه جميع أجناس الخلق؛ وأن يكون مجاورَ وصفه بالعظمة والألُوهة ما كان له نظيرًا في المعنى من الثناء عليه، وذلك قوله: ( الرحمن الرحيم ) .
فزعموا أنّ ذلك لهم دليلٌ على أن قوله « الرحمن الرحيم » بمعنى التقديم قبل رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وإن كان في الظاهر مؤخرًا. وقالوا : نظائرُ ذلك - من التقديم الذي هو بمعنى التأخير، والمؤخَّر الذي هو بمعنى التقديم - في كلام العرب أفشى، وفي منطقها أكثر، من أن يُحصى. من ذلك قول جرير بن عطية:
طَـافَ الخَيَـالُ - وأَيْـنَ مِنْكَ? - لِمَامَا فَــارْجِعْ لــزَوْرِكَ بالسَّـلام سَـلاما
بمعنى طاف الخيال لمامًا، وأين هو منك؟ وكما قال جل ثناؤه في كتابه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [ سورة الكهف: 1 ] بمعنى : الحمدُ لله الذي أنـزل على عبده الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجًا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهدٌ على صحة قول من أنكر أن تكون - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب - آيةً
القول في تأويل قوله : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
قال أبو جعفر: القرَّاء مختلفون في تلاوة ( ملك يَوْمِ الدِّينِ ) . فبعضهم يتلوه « مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ » ، وبعضهم يتلوه ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وبعضهم يتلوه ( مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) بنصب الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في « كتاب القراآت » ، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قَصَدْنا له، في كتابنا هذا، البيانَ عن وجوه تأويل آي القرآن، دون وجوه قراءتها.
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِك من « المُلْك » مشتق، وأن المالك من « المِلْك » مأخوذٌ. فتأويل قراءةِ من قرأ ذلك: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، أن لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة ، وأنّ له - من دُونهم، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنـزيله: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ سورة غافر: 16 ] . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار.
وأما تأويلُ قراءة من قرأ: ( مالك يوم الدين ) ، فما:-
حدثنا به أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ سورة النبأ: 38 ] وقال: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [ سورة طه: 108 ] . وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى [ سورة الأنبياء: 28 ] .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي، التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ « مَلِكِ » بمعنى « المُلك » . لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك ، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا .
وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله ( ملِكِ يوم الدين ) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه إيَّاهم كذلك بقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه ( مالِكِ يوم الدين ) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: ( مالك يوم الدين ) ، المعنى الذي في قوله: ( مَلِك يوم الدين ) ، وهو وصْفه بأنه الملِك.
فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ ( مالك يوم الدين ) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه: مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله ( مالك يوم الدين ) - فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ .
وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنـزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نـزل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.
فإن غَبِيَ - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ سورة الجاثية: 16 ] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله، وعالم الزمان الذي بعدَه، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية [ سورة آل عمران: 110 ] . فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا - مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم- أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.
وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ أنه معنيٌّ به أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة، وأنّ « مالك يوم الدين » استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.
ويُسْأل زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، تحكَّم فقال: إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة . فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الزاعم أن تأويل قوله ( مالك يوم الدين ) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله - له لازمٌ. إذْ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ ( مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جلّ ثناؤه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ سورة يوسف: 29 ] بتأويل: يا يوسف أعرضْ عن هذا، وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر - فيما يقال- جاهلي:
إنْ كُــنْتَ أَزْنَنْتَنــي بِهَــا كَذِبًـا جَــزْءُ, فلاقَيْــتَ مِثْلَهَــا عَجِـلا
يريد: يا جزءُ، وكما قال الآخر:
كَــذَبْتُمْ وبيــتِ اللـه لا تَنْكِحُونَهَـا, بَنـي شَـاب قَرْنَاهـا تَصُـرُّ وتَحْـلبُ
يريد: يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من « مالك » ، على المعنى الذي وصفتُ - حيرتهُ في توجيه قَوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وِجْهَته، مع جر ( مالك يوم الدين ) وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه ( مالك يوم الدين ) ، فنصب: « مالكَ يوم الدين » ليكون إِيَّاكَ نَعْبُدُ له خطابًا. كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نَستعين . ولو كان عَلم تأويل أول السورة، وأن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أمرٌ من الله عبدَه بقيلِ ذلك - كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس: أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره: قل يا محمد، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وقل أيضًا يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ - وكان عَقَل عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك: لو قام لقمتُ - لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر « مالك يوم الدين » .
ومن نظير « مالك يوم الدين » مجرورًا، ثم عَوْده إلى الخطاب بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، لما ذكرنا قبل - البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي:
يَـا لَهْـفَ نَفْسـي كـان جِـدَّةُ خَـالِدٍ وَبَيَــاضُ وَجْـهِكَ للـتُّرابِ الأَعْفَـرِ
فرجعَ إلى الخطاب بقوله: « وبياضُ وَجْهك » ، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة:
بَــاتَتْ تَشَـكَّى إلـيّ النَّفْسُ مُجْهِشَـةً وقــد حَـمَلْتُكِ سَـبْعًا بَعْـدَ سَـبْعِينَا
فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول الله ، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وَجرَين بكم . والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فقراءة: « مالكَ يوم الدين » محظورة غير جائزة، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يَوْمِ الدِّينِ .
قال أبو جعفر: والدين في هذا الموضع، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جُعَيْل:
إِذَا مَـــا رَمَوْنَـــا رَمَيْنَـــاهُم ودِنَّــاهُمُ مِثْــلَ مــا يُقْرِضُونَــا
وكما قال الآخر:
وَاعْلَــمْ وأَيْقِــنْ أنَّ مُلْكـكَ زائـلٌ واعلــمْ بــأَنَّكَ مَــا تـدِينُ تُـدَانُ
يعني: ما تَجْزِي تُجازى.
ومن ذلك قول الله جل ثناؤه كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ - يعني: بالجزاء - وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [ سورة الانفطار: 9 ، 10 ] يُحصون ما تعملون من الأعمال، وقوله تعالى فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [ سورة الواقعة: 86 ] ، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين.
وللدين معانٍ في كلام العرب، غير معنى الحساب والجزاء، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله.
وبما قُلنا في تأويل قوله ( يوم الدين ) جاءت الآثار عن السلف من المفسِّرين، مع تصحيح الشواهد تأويلَهم الذي تأوّلوه في ذلك.
حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( يَوْمِ الدِّينِ ) ، قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إلا من عَفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [ سورة الأعراف: 54 ] .
وحدثني موسى بن هارون الهَمْدَاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القَنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، هو يوم الحساب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قال: يوم يَدينُ الله العبادَ بأعمالهم.
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، ( مالك يوم الدين ) قال: يوم يُدان الناس بالحساب.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ .
قال أبو جعفر: وتأويل قوله ( إيَّاكَ نعبُدُ ) : لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك.
كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك .
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف- وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة- لأنّ العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا . ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَــارِي عِتَاقًــا نَاجيـاتٍ وأَتْبَعـت وَظِيفًــا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ
يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك - من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها - لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
كالذي حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قال: إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كلها .
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته ؟ أوَ جائزٌ، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه؟
قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك - مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه، فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق - مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن مَحبته، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته - فسادٌ في تدبير، ولا جَور في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته .
وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ، أو يكلّفه فرضَ عمل، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان - على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف- حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك . بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَورٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا - على تصويب قول القائل: « اللهم إنا نستعينك » ، وتخطئَتِهم قول القائل: « اللهم لا تَجُرْ علينا » - دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم : « اللهم إنّا نستعينك- اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ منك. »
فإن قال قائل : وكيف قيل: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها.
قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: « قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ » ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي « ، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ. »
قال أبو جعفر: وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤ القيس:
ولَـوْ أَنّ مَـا أسْـعَى لأَدْنَـى مَعِيشـةٍ كَفـاني, ولـم أطلُـبْ, قليلٌ من المالِ
يريد بذلك: كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك - من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس- بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال: فما وجْه تكراره: « إياك » مع قوله : « نستعين » ، وقد تقدَّم ذلك قَبْل نَعْبُدُ ؟ وهلا قيل: « إياك نعبُدُ ونستعين » ، إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ؟
قيل له: إن الكاف التي مع « إيَّا » ، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل - أعني بقوله: نَعْبُدُ - لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُثِّرت بـ « إيّا » متقدِّمةً، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمّا كانت الكاف من « إياكَ » هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال: « اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك » ، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال: « اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد » - كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بـ « إيّا » ، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا.
وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ أنّ إعادة « إياك » مع « نستعين » ، بعد تقدّمها في قوله: « إياك نستعين » ، بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
وجَـاعِل الشَّـمس مِصْـرًا لا خَفَاءَ بِه بَيْـن النَّهـارِ وَبيْـنَ اللَّيـل قد فَصَلا
وكقول أعشى هَمْدان:
بَيْــنَ الأشَــجِّ وبَيْـنَ قَيْسٍ بـاذخٌ بَـــخْ بَــخْ لوَالِــدِهِ وللمَولُــودِ
وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ « إيّاك » أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفًا من العلة، وليس ذلك حُكم « بين » لأنها لا تكون - إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرًا إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال: « الشمس قد فَصَلت بين النهار » ، لكان من الكلام خَلْفًا لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه « بين » .
ولو قال قائل: « اللهمّ إياك نعبد » ، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ - كانت نظيرةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ - إلى « إياك » كحاجة نَعْبُدُ إليها وأنّ الصواب أن تكونَ معها « إياك » ، إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم « بين » فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله.
=====
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لَهِيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: ابن آدم، والجن والإنس، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته.
حدثني محمد بن حُميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس والجن.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله.
حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال: كلّ صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، في قوله: ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قال: الجن والإنس.
القول في تأويل قوله : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال أبو جعفر: قد مضى البيانُ عن تأويل قوله ( الرحمن الرحيم ) ، في تأويل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
ولم نَحْتَجْ إلى الإبانة عن وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، إذْ كنا لا نرى أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب - آيةٌ، فيكونَ علينا لسائلٍ مسألةٌ بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، وقد مضى وصفُ الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مع قرب مكان إحدى الآيتين من الأخرى، ومجاورتها صَاحِبتها؟ بل ذلك لنا حُجة على خطأ دعوى من ادَّعى أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب آية. إذ لو كان ذلك كذلك، لكان ذلك إعادةَ آية بمعنى واحد ولفظ واحدٍ مرتين من غير فَصْل يَفصِل بينهما. وغيرُ موجودٍ في شيء من كتاب الله آيتان مُتجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصلَ بينهما من كلام يُخالف معناه معناهما. وإنما يُؤتى بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فُصولٍ تفصِل بين ذلك، وكلامٍ يُعترضُ به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، ولا فاصِلَ بين قول الله تبارك وتعالى اسمه « الرحمن الرحيم » من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وقولِ الله: « الرحمن الرحيم » ، من الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فإن قال : فإن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فاصل من ذلك.
قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، وقالوا: إن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم، وإنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رَبّ العالمين مَلِك يوم الدين. واستشهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله: « مَلِك يوم الدين » ، فقالوا : إن قوله « ملِكِ يوم الدين » تعليم من الله عبدَه أنْ يصفَه بالمُلْك في قراءة من قرأ ملِك ، وبالمِلْك في قراءة من قرأ مَالِكِ . قالوا: فالذي هو أولى أن يكونَ مجاورَ وصفه بالمُلْك أو المِلْك، ما كان نظيرَ ذلك من الوصف؛ وذلك هو قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الذي هو خبر عن مِلْكه جميع أجناس الخلق؛ وأن يكون مجاورَ وصفه بالعظمة والألُوهة ما كان له نظيرًا في المعنى من الثناء عليه، وذلك قوله: ( الرحمن الرحيم ) .
فزعموا أنّ ذلك لهم دليلٌ على أن قوله « الرحمن الرحيم » بمعنى التقديم قبل رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وإن كان في الظاهر مؤخرًا. وقالوا : نظائرُ ذلك - من التقديم الذي هو بمعنى التأخير، والمؤخَّر الذي هو بمعنى التقديم - في كلام العرب أفشى، وفي منطقها أكثر، من أن يُحصى. من ذلك قول جرير بن عطية:
طَـافَ الخَيَـالُ - وأَيْـنَ مِنْكَ? - لِمَامَا فَــارْجِعْ لــزَوْرِكَ بالسَّـلام سَـلاما
بمعنى طاف الخيال لمامًا، وأين هو منك؟ وكما قال جل ثناؤه في كتابه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [ سورة الكهف: 1 ] بمعنى : الحمدُ لله الذي أنـزل على عبده الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجًا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهدٌ على صحة قول من أنكر أن تكون - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من فاتحة الكتاب - آيةً
القول في تأويل قوله : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
قال أبو جعفر: القرَّاء مختلفون في تلاوة ( ملك يَوْمِ الدِّينِ ) . فبعضهم يتلوه « مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ » ، وبعضهم يتلوه ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وبعضهم يتلوه ( مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) بنصب الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في « كتاب القراآت » ، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قَصَدْنا له، في كتابنا هذا، البيانَ عن وجوه تأويل آي القرآن، دون وجوه قراءتها.
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن المَلِك من « المُلْك » مشتق، وأن المالك من « المِلْك » مأخوذٌ. فتأويل قراءةِ من قرأ ذلك: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، أن لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة ، وأنّ له - من دُونهم، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنـزيله: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ سورة غافر: 16 ] . فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار.
وأما تأويلُ قراءة من قرأ: ( مالك يوم الدين ) ، فما:-
حدثنا به أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ سورة النبأ: 38 ] وقال: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [ سورة طه: 108 ] . وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى [ سورة الأنبياء: 28 ] .
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي، التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ « مَلِكِ » بمعنى « المُلك » . لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك ، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا .
وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله ( ملِكِ يوم الدين ) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه إيَّاهم كذلك بقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه ( مالِكِ يوم الدين ) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: ( مالك يوم الدين ) ، المعنى الذي في قوله: ( مَلِك يوم الدين ) ، وهو وصْفه بأنه الملِك.
فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ ( مالك يوم الدين ) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه: مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله ( مالك يوم الدين ) - فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ .
وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنـزيل، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ، أو بحجّة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نـزل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.
فإن غَبِيَ - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء، فإنّ في قول الله جل ثناؤه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ سورة الجاثية: 16 ] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله، وعالم الزمان الذي بعدَه، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية [ سورة آل عمران: 110 ] . فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا - مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم- أفضلَ العالمين، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.
وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ أنه معنيٌّ به أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ: ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة، وأنّ « مالك يوم الدين » استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.
ويُسْأل زاعم ذلك، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ ، تحكَّم فقال: إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله، والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول: أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة . فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الزاعم أن تأويل قوله ( مالك يوم الدين ) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله - له لازمٌ. إذْ كانت إقامةُ القيامة، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ ( مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء، كما قال جلّ ثناؤه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ سورة يوسف: 29 ] بتأويل: يا يوسف أعرضْ عن هذا، وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر - فيما يقال- جاهلي:
إنْ كُــنْتَ أَزْنَنْتَنــي بِهَــا كَذِبًـا جَــزْءُ, فلاقَيْــتَ مِثْلَهَــا عَجِـلا
يريد: يا جزءُ، وكما قال الآخر:
كَــذَبْتُمْ وبيــتِ اللـه لا تَنْكِحُونَهَـا, بَنـي شَـاب قَرْنَاهـا تَصُـرُّ وتَحْـلبُ
يريد: يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من « مالك » ، على المعنى الذي وصفتُ - حيرتهُ في توجيه قَوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وِجْهَته، مع جر ( مالك يوم الدين ) وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه ( مالك يوم الدين ) ، فنصب: « مالكَ يوم الدين » ليكون إِيَّاكَ نَعْبُدُ له خطابًا. كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نَستعين . ولو كان عَلم تأويل أول السورة، وأن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أمرٌ من الله عبدَه بقيلِ ذلك - كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس: أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره: قل يا محمد، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وقل أيضًا يا محمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ - وكان عَقَل عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلتُ لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلتُ لأخيك: لو قام لقمتُ - لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر « مالك يوم الدين » .
ومن نظير « مالك يوم الدين » مجرورًا، ثم عَوْده إلى الخطاب بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، لما ذكرنا قبل - البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي:
يَـا لَهْـفَ نَفْسـي كـان جِـدَّةُ خَـالِدٍ وَبَيَــاضُ وَجْـهِكَ للـتُّرابِ الأَعْفَـرِ
فرجعَ إلى الخطاب بقوله: « وبياضُ وَجْهك » ، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة:
بَــاتَتْ تَشَـكَّى إلـيّ النَّفْسُ مُجْهِشَـةً وقــد حَـمَلْتُكِ سَـبْعًا بَعْـدَ سَـبْعِينَا
فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول الله ، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وَجرَين بكم . والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فقراءة: « مالكَ يوم الدين » محظورة غير جائزة، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يَوْمِ الدِّينِ .
قال أبو جعفر: والدين في هذا الموضع، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جُعَيْل:
إِذَا مَـــا رَمَوْنَـــا رَمَيْنَـــاهُم ودِنَّــاهُمُ مِثْــلَ مــا يُقْرِضُونَــا
وكما قال الآخر:
وَاعْلَــمْ وأَيْقِــنْ أنَّ مُلْكـكَ زائـلٌ واعلــمْ بــأَنَّكَ مَــا تـدِينُ تُـدَانُ
يعني: ما تَجْزِي تُجازى.
ومن ذلك قول الله جل ثناؤه كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ - يعني: بالجزاء - وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [ سورة الانفطار: 9 ، 10 ] يُحصون ما تعملون من الأعمال، وقوله تعالى فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [ سورة الواقعة: 86 ] ، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين.
وللدين معانٍ في كلام العرب، غير معنى الحساب والجزاء، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله.
وبما قُلنا في تأويل قوله ( يوم الدين ) جاءت الآثار عن السلف من المفسِّرين، مع تصحيح الشواهد تأويلَهم الذي تأوّلوه في ذلك.
حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( يَوْمِ الدِّينِ ) ، قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، إلا من عَفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [ سورة الأعراف: 54 ] .
وحدثني موسى بن هارون الهَمْدَاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القَنَّاد، قال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، هو يوم الحساب.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قال: يوم يَدينُ الله العبادَ بأعمالهم.
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، ( مالك يوم الدين ) قال: يوم يُدان الناس بالحساب.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ .
قال أبو جعفر: وتأويل قوله ( إيَّاكَ نعبُدُ ) : لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك.
كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك .
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف- وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة- لأنّ العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا . ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَــارِي عِتَاقًــا نَاجيـاتٍ وأَتْبَعـت وَظِيفًــا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ
يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك - من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها - لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
كالذي حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قال: إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كلها .
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته ؟ أوَ جائزٌ، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه؟
قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك - مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه، فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق - مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن مَحبته، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته - فسادٌ في تدبير، ولا جَور في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته .
وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر ، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ، أو يكلّفه فرضَ عمل، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان - على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف- حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك . بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَورٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا - على تصويب قول القائل: « اللهم إنا نستعينك » ، وتخطئَتِهم قول القائل: « اللهم لا تَجُرْ علينا » - دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم : « اللهم إنّا نستعينك- اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ منك. »
فإن قال قائل : وكيف قيل: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها.
قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: « قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ » ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي « ، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ. »
قال أبو جعفر: وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤ القيس:
ولَـوْ أَنّ مَـا أسْـعَى لأَدْنَـى مَعِيشـةٍ كَفـاني, ولـم أطلُـبْ, قليلٌ من المالِ
يريد بذلك: كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك - من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس- بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال: فما وجْه تكراره: « إياك » مع قوله : « نستعين » ، وقد تقدَّم ذلك قَبْل نَعْبُدُ ؟ وهلا قيل: « إياك نعبُدُ ونستعين » ، إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ؟
قيل له: إن الكاف التي مع « إيَّا » ، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل - أعني بقوله: نَعْبُدُ - لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُثِّرت بـ « إيّا » متقدِّمةً، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمّا كانت الكاف من « إياكَ » هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال: « اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك » ، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال: « اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد » - كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بـ « إيّا » ، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا.
وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ أنّ إعادة « إياك » مع « نستعين » ، بعد تقدّمها في قوله: « إياك نستعين » ، بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
وجَـاعِل الشَّـمس مِصْـرًا لا خَفَاءَ بِه بَيْـن النَّهـارِ وَبيْـنَ اللَّيـل قد فَصَلا
وكقول أعشى هَمْدان:
بَيْــنَ الأشَــجِّ وبَيْـنَ قَيْسٍ بـاذخٌ بَـــخْ بَــخْ لوَالِــدِهِ وللمَولُــودِ
وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ « إيّاك » أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفًا من العلة، وليس ذلك حُكم « بين » لأنها لا تكون - إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرًا إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال: « الشمس قد فَصَلت بين النهار » ، لكان من الكلام خَلْفًا لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه « بين » .
ولو قال قائل: « اللهمّ إياك نعبد » ، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ - كانت نظيرةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ - إلى « إياك » كحاجة نَعْبُدُ إليها وأنّ الصواب أن تكونَ معها « إياك » ، إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم « بين » فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة الفاتحة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله : اهْدِنَا .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، في هذا الموضع عندنا: وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس:-
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : « قل، يا محمد » اهدنا الصراط المستقيمَ « . يقول: ألهمنا الطريق الهادي . »
وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظيرُ معنى قوله: ( إياك نستعين ) ، في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره . كما في قوله: ( إياك نستعين ) ، مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته، فيما بقي من عُمُره.
فكانَ معنى الكلام: اللهمّ إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك من الآلهة والأوثان، فأعِنَّا على عبادتك، ووفِّقنا لما وفَّقت له مَن أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج.
فإن قال قائل: وأنَّى وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق؟
قيل له: ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر:
لا تَحْــرِمَنِّي هَــدَاكَ اللـه مَسْـألتِي وَلا أكُـونَنْ كـمن أوْدَى بـه السَّـفَرُ
يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر:
ولا تُعْجِـــلَنِّي هـــدَاَك المليــكُ فـــإنّ لكـــلِّ مَقــامٍ مَقَــالا
فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.
ومنه قول الله جل ثناؤه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ في غير آيه من تنـزيله. وقد عُلم بذلك، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم.
وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهدِنا ) : زدْنا هدايةٍ.
وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق .
فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه ، وذلك من الدعاء خَلفٌ ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها.
وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أن معنى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث.
وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله ، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه . لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا، فسادُ قولهم.
وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جلّ ثناؤه: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ سورة الصافات: 23 ] ، أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ، نظير قَول طَرفة بن العبد:
لَعبـــتْ بَعْــدِي السُّــيُولُ بــهِ وجَــرَى فــي رَوْنَــقٍ رِهمُــهْ
لِلفَتَــــى عَقْـــلٌ يَعِيشُ بِـــهِ حَـــيْثُ تَهْــدِي سَــاقَه قَدَمُــهْ
أي تَرِدُ به الموارد.
وفي قول الله جل ثناؤه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى الصِّرَاطَ في هذا الموضع، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: « إياك نستعينُ » مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله « اهْدِنا » إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره.
والعربُ تقول: هديتُ فلانًا الطريقَ، وهَديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جلّ ثناؤه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [ سورة الأعراف: 43 ] ، وقال في موضع آخر: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سورة النحل: 121 ] ، وقال: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
وكل ذلك فاش في منطقها، موجودٌ في كلامها، من ذلك قول الشاعر:
أَسْـتَغْفِرُ اللـهَ ذَنْبًـا لَسْـتُ مُحْصِيَـهُ, رَبَّ العِبــاد, إليـهِ الوَجْـهُ والعَمَـلُ
يريد: أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ سورة غافر: 55 ] .
ومنه قول نابغة بني ذُبْيان:
فَيَصِيدُنَــا العَـيْرَ المُـدِلَّ بِحُـضْرِهِ قَبْــلَ الــوَنَى وَالأَشْـعَبَ النَبَّاحَـا
يريد: فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية.
القول في تأويل قوله : الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ .
قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن « الصراط المستقيم » ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي:
أمــيرُ المــؤمنين عَـلَى صِـرَاطٍ إذا اعـــوَجَّ المَــوَارِدُ مُسْــتَقيمِ
يريد على طريق الحق. ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب:
صَبَحْنَــا أَرْضَهُــمْ بـالخَيْلِ حَـتّى تركْنَاهـــا أَدَقَّ مِــنَ الصِّــرَاطِ
ومنه قول الراجز:
* فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ *
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا.
ثم تستعيرُ العرب « الصراط » فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج، فتصفُ المستقيمَ باستقامته، والمعوجَّ باعوجاجه.
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، أن يكونا معنيًّا به: وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك، من قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراط المستقيم. لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء ، فقد وُفّق للإسلام، وتصديقِ الرسلِ، والتمسكِ بالكتاب، والعملِ بما أمر الله به، والانـزجار عمّا زَجره عنه، واتّباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وقد اختلفتْ تراجمةُ القرآن في المعنيِّ بالصراط المستقيم . يشمل معاني جميعهم في ذلك، ما اخترنا من التأويل فيه.
ومما قالته في ذلك، ما رُوي عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكر القرآن، فقال: هو الصراط المستقيم.
حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجُعْفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وحُدِّثْتُ عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سَلمة، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَخْتريّ ، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن عليّ، قال: الصِّراطُ المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال: حدثنا سفيان - ح- وحدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال. حدثنا مِهْران، عن سفيان ، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: « الصِّراطُ المستقيم » كتابُ الله
حدثني محمود بن خِدَاشِ الطالَقاني، قال: حدثنا حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسِي ، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح، جميعًا، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول: ألهمنا الطريقَ الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له .
حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفُرَات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: ذلك الإسلام .
حدثني محمود بن خِدَاش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكِلابي، عن إسماعيل الأزرق، عن أبي عُمر البزّار، عن ابن الحنفية، في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العِباد غيرَه .
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدّثنا عَمرو بن طلحة القنَّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي - في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: هو الإسلام
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : الطريق .
حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآمُلي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية، في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه من بعدِه أبو بكر وعمر. قال: فذكرتُ ذلك للحسن، فقال: صدَق أبو العالية ونصح
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: « اهدنا الصراط المستقيم » ، قال: الإسلام .
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال : حدثني معاوية بن صالح، أنّ عبد الرحمن بن جُبير، حدّثه عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا » . والصِّراط: الإسلامُ.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله .
قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سمّاه مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلافٌ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه.
القول في تأويل قوله : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
وقوله ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو ؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنـزيله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [ سورة النساء: 66- 69 ] .
قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنـزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره.
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « صراطَ الذين أنعمت عليهم » يقول: طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدُوك .
حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع: « صراط الذين أنعمتَ عليهم » ، قال: النبيّون .
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: « أنعمت عليهم » قال: المؤمنين .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: « أنعمت عليهم » ، المسلمين .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله « صراط الذين أنعمت عليهم » ، قال: النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه .
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: « صراط الذين أنعمت عليهم » ، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر ؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: « أنعمت عليك » ، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله : « صراط الذين أنعمت عليهم » ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدّمنا البيان - فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله: « صراط الذين أنعمتَ عليهم » من ذلك . لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه: « صراطَ الذين أنعمت عليهم » ، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه - كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان:
كــأَنَّك مِــنْ جِمــالِ بَنِـي أُقَيْشٍ يُقَعْقَــعُ خَــلْفَ رِجْلَيْــهِ بشَــنِّ
يريد : كأنك من جمال بني أقيش، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر « الجمال » الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
تَـــرَى أَرْبـــاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهـــا إِذا صَــدِئَ الحــديدُ عَـلَى الكُمَـاةِ
يريد: متقلديها هم، فحذف « هم » ، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله : « صراط الذين أنعمت عليهم » .
القول في تأويل قوله : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
قال أبو جعفر: والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة « غير » بجر الراء منها . والخفضُ يأتيها من وجهين:
أحدهما: أن يكون « غير » صفة لِ « الَّذِينَ » ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان الَّذِينَ خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون « غير » نعتًا لِـ « الَّذِينَ » و « الَّذِينَ » معرفة و « غير » نكرة، لأن « الَّذِينَ » بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أماراتٌ بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك. فلما كان الَّذِينَ كذلك صفتُها، وكانت « غير » مضافةً إلى مجهول من الأسماء، نظيرَ « الَّذِينَ » ، في أنه معرفة غير موقتة، كما « الَّذِينَ » معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون « غير المغضوب عليهم » نعتًا لِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ كما يقال : « لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل » ، يراد: لا أجلس إلا إلى مَن يعلم، لا إلى مَن يجهل.
ولو كان الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون « غير المغضوب عليهم » لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة- أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال: « مررت بعبد الله غير العالم » ، فتخفض « غير » ، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مَرَرتُ بعبد الله، مررت بغيرِ العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في: « غير المغضوب عليهم » .
والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون « الَّذِينَ » بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت « غير » مخفوضةً بنية تكرير « الصراط » الذي خُفِض « الَّذِينَ » عليها، فكأنك قلت: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، صراطَ غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في « غير المغضوب عليهم » ، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه.
فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غيرَ جائزٍ أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف القوم؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به.
هذا، إذا وجَّهنا « غير » إلى أنها مخفوضة على نية تكرير « الصراطِ » الخافضِ « الَّذِينَ » ، ولم نجعل « غير المغضوب عليهم ولا الضالين » من صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم.
فأمّا إذا وجهنا « غير المغضوب عليهم ولا الضالين » إلى أنها من نَعت، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب « غير » في « غير المغضوب عليهم » ، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء . وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به - في الصواب مخرجٌ.
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في « عليهم » العائدة على « الَّذِينَ » . لأنها وإن كانت مخفوضة بـِ « على » ، فهي في محل نصب بقوله أَنْعَمْتَ . فكأن تأويل الكلام - إذا نصبت « غير » التي مع « المغضوب عليهم » - : صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغَضوبٍ عليهم، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في « غير » في قولك: مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ، فتقطع « غيرَ الكريم » من « عبد الله » ، إذْ كان « عبدُ الله » معرفة مؤقتة، و « غير الكريم » نكرة مجهولة.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب « غير » في « غير المغضوب عليهم » ، على وَجه استثناءِ « غير المغضوب عليهم » من معاني صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، إلا المغضوبَ عَليهم - الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق- فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَفْــتُ فِيهَــا أُصَيْـلالا أُسَـائِلُها عَيَّـت جَوابًـا, ومَـا بـالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إلا أَوَارِيَّ لأيًـــا مَـــا أُبَيِّنُهُــا والنُّـؤْيُ كـالحَوْضِ بالمَظْلُومَـةِ الجَلَدِ
والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد « أحد » في شيء. فكذلك عنده، استثنى « غير المغضوب عليهم » من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء.
وأما نحِويُّو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال: « ولا الضالين » .
لأن « لا » نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك.
وفي الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك . وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نـزولُه، علمنا - إذ كان قولُه وَلا الضَّالِّينَ معطوفًا على قوله « غير المغضوب عليهم » - أن « غير » بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل « غير المغضوب عليهم » ، باختلاف أوجه إعراب ذلك.
وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه- وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن- لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءةُ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بخفض الراء من « غير » . بتأويل أنها صفة لِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ونعتٌ لهم - لما قد قدمنا من البيان- إن شئتَ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار صِرَاطَ . كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.
فإن قال لنا قائل: فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟
قيل: هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنـزيله فقال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 60 ] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منّهً منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا .
فإن قيل: وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنـزيله على ما وصفت؟ قيل:
حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: المغضوبُ عليهم، اليهود .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال : حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المغضوبَ عليهم اليهود .
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جلّ وعزّ « غير المغضوب عليهم » قال: هم اليهود .
حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شَقِيق: أنّ رُجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى، فقال: مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، اليهود .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، عن سعيد الجُرَيْري، عن عروة، عن عبد الله بن شَقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شَقيق: أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القُرَى، وهو عَلى فَرسه، وسأله رجل من بني القَين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء ؟- قال: المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود .
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « غير المغضوب عليهم » ، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم .
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « غير المغضوب عليهم » ، هم اليهود .
حدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: « غير المغضوب عليهم » ، قال: هم اليهود.
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع: « غير المغضوب عليهم » ، قال: اليهود.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: « غير المغضوب عليهم » قال: اليهود.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد: « غير المغضوب عليهم » ، اليهود.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال: « المغضوب عليهم » ، اليهود .
قال أبو جعفر: واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره:
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة الزخرف: 55 ] .
وكما قال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [ سورة المائدة : 60 ] .
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم.
لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها .
=====
القول في تأويل قوله : اهْدِنَا .
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، في هذا الموضع عندنا: وَفِّقْنا للثبات عليه، كما رُوي ذلك عن ابن عباس:-
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : « قل، يا محمد » اهدنا الصراط المستقيمَ « . يقول: ألهمنا الطريق الهادي . »
وإلهامه إياه ذلك، هو توفيقه له، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظيرُ معنى قوله: ( إياك نستعين ) ، في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره، دون ما قد مضى من أعماله، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره . كما في قوله: ( إياك نستعين ) ، مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته، فيما بقي من عُمُره.
فكانَ معنى الكلام: اللهمّ إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك من الآلهة والأوثان، فأعِنَّا على عبادتك، ووفِّقنا لما وفَّقت له مَن أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك، من السبيل والمنهاج.
فإن قال قائل: وأنَّى وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق؟
قيل له: ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر:
لا تَحْــرِمَنِّي هَــدَاكَ اللـه مَسْـألتِي وَلا أكُـونَنْ كـمن أوْدَى بـه السَّـفَرُ
يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر:
ولا تُعْجِـــلَنِّي هـــدَاَك المليــكُ فـــإنّ لكـــلِّ مَقــامٍ مَقَــالا
فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.
ومنه قول الله جل ثناؤه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ في غير آيه من تنـزيله. وقد عُلم بذلك، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم.
وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : ( اهدِنا ) : زدْنا هدايةٍ.
وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق .
فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه ، وذلك من الدعاء خَلفٌ ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها.
وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أن معنى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث.
وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله ، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه . لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا، فسادُ قولهم.
وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جلّ ثناؤه: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ سورة الصافات: 23 ] ، أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ، نظير قَول طَرفة بن العبد:
لَعبـــتْ بَعْــدِي السُّــيُولُ بــهِ وجَــرَى فــي رَوْنَــقٍ رِهمُــهْ
لِلفَتَــــى عَقْـــلٌ يَعِيشُ بِـــهِ حَـــيْثُ تَهْــدِي سَــاقَه قَدَمُــهْ
أي تَرِدُ به الموارد.
وفي قول الله جل ثناؤه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى الصِّرَاطَ في هذا الموضع، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: « إياك نستعينُ » مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله « اهْدِنا » إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره.
والعربُ تقول: هديتُ فلانًا الطريقَ، وهَديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جلّ ثناؤه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [ سورة الأعراف: 43 ] ، وقال في موضع آخر: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سورة النحل: 121 ] ، وقال: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
وكل ذلك فاش في منطقها، موجودٌ في كلامها، من ذلك قول الشاعر:
أَسْـتَغْفِرُ اللـهَ ذَنْبًـا لَسْـتُ مُحْصِيَـهُ, رَبَّ العِبــاد, إليـهِ الوَجْـهُ والعَمَـلُ
يريد: أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ سورة غافر: 55 ] .
ومنه قول نابغة بني ذُبْيان:
فَيَصِيدُنَــا العَـيْرَ المُـدِلَّ بِحُـضْرِهِ قَبْــلَ الــوَنَى وَالأَشْـعَبَ النَبَّاحَـا
يريد: فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية.
القول في تأويل قوله : الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ .
قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن « الصراط المستقيم » ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي:
أمــيرُ المــؤمنين عَـلَى صِـرَاطٍ إذا اعـــوَجَّ المَــوَارِدُ مُسْــتَقيمِ
يريد على طريق الحق. ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب:
صَبَحْنَــا أَرْضَهُــمْ بـالخَيْلِ حَـتّى تركْنَاهـــا أَدَقَّ مِــنَ الصِّــرَاطِ
ومنه قول الراجز:
* فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ *
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا.
ثم تستعيرُ العرب « الصراط » فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج، فتصفُ المستقيمَ باستقامته، والمعوجَّ باعوجاجه.
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، أن يكونا معنيًّا به: وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك، من قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصِّراط المستقيم. لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء ، فقد وُفّق للإسلام، وتصديقِ الرسلِ، والتمسكِ بالكتاب، والعملِ بما أمر الله به، والانـزجار عمّا زَجره عنه، واتّباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وقد اختلفتْ تراجمةُ القرآن في المعنيِّ بالصراط المستقيم . يشمل معاني جميعهم في ذلك، ما اخترنا من التأويل فيه.
ومما قالته في ذلك، ما رُوي عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال، وذكر القرآن، فقال: هو الصراط المستقيم.
حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا حسين الجُعْفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وحُدِّثْتُ عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سَلمة، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَخْتريّ ، عن الحارث، عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث الأعور، عن الحارث، عن عليّ، قال: الصِّراطُ المستقيم: كتاب الله تعالى ذكره
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال: حدثنا سفيان - ح- وحدثنا محمد بن حُميد الرازي، قال. حدثنا مِهْران، عن سفيان ، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: « الصِّراطُ المستقيم » كتابُ الله
حدثني محمود بن خِدَاشِ الطالَقاني، قال: حدثنا حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسِي ، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح، جميعًا، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد الله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوق، عن الضحّاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول: ألهمنا الطريقَ الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له .
حدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفُرَات بن السائب، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس، في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: ذلك الإسلام .
حدثني محمود بن خِدَاش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكِلابي، عن إسماعيل الأزرق، عن أبي عُمر البزّار، عن ابن الحنفية، في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العِباد غيرَه .
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدّثنا عَمرو بن طلحة القنَّاد، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي - في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: هو الإسلام
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : الطريق .
حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآمُلي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية، في قوله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحباه من بعدِه أبو بكر وعمر. قال: فذكرتُ ذلك للحسن، فقال: صدَق أبو العالية ونصح
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: « اهدنا الصراط المستقيم » ، قال: الإسلام .
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال : حدثني معاوية بن صالح، أنّ عبد الرحمن بن جُبير، حدّثه عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا » . والصِّراط: الإسلامُ.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله .
قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سمّاه مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلافٌ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه.
القول في تأويل قوله : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
وقوله ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو ؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنـزيله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [ سورة النساء: 66- 69 ] .
قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنـزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره.
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « صراطَ الذين أنعمت عليهم » يقول: طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدُوك .
حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع: « صراط الذين أنعمتَ عليهم » ، قال: النبيّون .
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: « أنعمت عليهم » قال: المؤمنين .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: « أنعمت عليهم » ، المسلمين .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله « صراط الذين أنعمت عليهم » ، قال: النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه .
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: « صراط الذين أنعمت عليهم » ، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر ؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: « أنعمت عليك » ، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله : « صراط الذين أنعمت عليهم » ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدّمنا البيان - فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله: « صراط الذين أنعمتَ عليهم » من ذلك . لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه: « صراطَ الذين أنعمت عليهم » ، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه - كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان:
كــأَنَّك مِــنْ جِمــالِ بَنِـي أُقَيْشٍ يُقَعْقَــعُ خَــلْفَ رِجْلَيْــهِ بشَــنِّ
يريد : كأنك من جمال بني أقيش، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر « الجمال » الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
تَـــرَى أَرْبـــاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهـــا إِذا صَــدِئَ الحــديدُ عَـلَى الكُمَـاةِ
يريد: متقلديها هم، فحذف « هم » ، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله : « صراط الذين أنعمت عليهم » .
القول في تأويل قوله : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
قال أبو جعفر: والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة « غير » بجر الراء منها . والخفضُ يأتيها من وجهين:
أحدهما: أن يكون « غير » صفة لِ « الَّذِينَ » ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان الَّذِينَ خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون « غير » نعتًا لِـ « الَّذِينَ » و « الَّذِينَ » معرفة و « غير » نكرة، لأن « الَّذِينَ » بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أماراتٌ بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك. فلما كان الَّذِينَ كذلك صفتُها، وكانت « غير » مضافةً إلى مجهول من الأسماء، نظيرَ « الَّذِينَ » ، في أنه معرفة غير موقتة، كما « الَّذِينَ » معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون « غير المغضوب عليهم » نعتًا لِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ كما يقال : « لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل » ، يراد: لا أجلس إلا إلى مَن يعلم، لا إلى مَن يجهل.
ولو كان الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون « غير المغضوب عليهم » لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة- أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال: « مررت بعبد الله غير العالم » ، فتخفض « غير » ، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مَرَرتُ بعبد الله، مررت بغيرِ العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في: « غير المغضوب عليهم » .
والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون « الَّذِينَ » بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت « غير » مخفوضةً بنية تكرير « الصراط » الذي خُفِض « الَّذِينَ » عليها، فكأنك قلت: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، صراطَ غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في « غير المغضوب عليهم » ، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه.
فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غيرَ جائزٍ أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف القوم؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به.
هذا، إذا وجَّهنا « غير » إلى أنها مخفوضة على نية تكرير « الصراطِ » الخافضِ « الَّذِينَ » ، ولم نجعل « غير المغضوب عليهم ولا الضالين » من صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم.
فأمّا إذا وجهنا « غير المغضوب عليهم ولا الضالين » إلى أنها من نَعت، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب « غير » في « غير المغضوب عليهم » ، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء . وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به - في الصواب مخرجٌ.
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في « عليهم » العائدة على « الَّذِينَ » . لأنها وإن كانت مخفوضة بـِ « على » ، فهي في محل نصب بقوله أَنْعَمْتَ . فكأن تأويل الكلام - إذا نصبت « غير » التي مع « المغضوب عليهم » - : صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغَضوبٍ عليهم، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في « غير » في قولك: مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ، فتقطع « غيرَ الكريم » من « عبد الله » ، إذْ كان « عبدُ الله » معرفة مؤقتة، و « غير الكريم » نكرة مجهولة.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب « غير » في « غير المغضوب عليهم » ، على وَجه استثناءِ « غير المغضوب عليهم » من معاني صفة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، إلا المغضوبَ عَليهم - الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق- فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَفْــتُ فِيهَــا أُصَيْـلالا أُسَـائِلُها عَيَّـت جَوابًـا, ومَـا بـالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إلا أَوَارِيَّ لأيًـــا مَـــا أُبَيِّنُهُــا والنُّـؤْيُ كـالحَوْضِ بالمَظْلُومَـةِ الجَلَدِ
والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد « أحد » في شيء. فكذلك عنده، استثنى « غير المغضوب عليهم » من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء.
وأما نحِويُّو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال: « ولا الضالين » .
لأن « لا » نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك.
وفي الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك . وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نـزولُه، علمنا - إذ كان قولُه وَلا الضَّالِّينَ معطوفًا على قوله « غير المغضوب عليهم » - أن « غير » بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل « غير المغضوب عليهم » ، باختلاف أوجه إعراب ذلك.
وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه- وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن- لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءةُ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بخفض الراء من « غير » . بتأويل أنها صفة لِ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ونعتٌ لهم - لما قد قدمنا من البيان- إن شئتَ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار صِرَاطَ . كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.
فإن قال لنا قائل: فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟
قيل: هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنـزيله فقال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 60 ] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منّهً منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا .
فإن قيل: وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنـزيله على ما وصفت؟ قيل:
حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: المغضوبُ عليهم، اليهود .
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال : حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المغضوبَ عليهم اليهود .
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جلّ وعزّ « غير المغضوب عليهم » قال: هم اليهود .
حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شَقِيق: أنّ رُجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى، فقال: مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، اليهود .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، عن سعيد الجُرَيْري، عن عروة، عن عبد الله بن شَقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شَقيق: أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القُرَى، وهو عَلى فَرسه، وسأله رجل من بني القَين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء ؟- قال: المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود .
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال : حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « غير المغضوب عليهم » ، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم .
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « غير المغضوب عليهم » ، هم اليهود .
حدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: « غير المغضوب عليهم » ، قال: هم اليهود.
حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع: « غير المغضوب عليهم » ، قال: اليهود.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: « غير المغضوب عليهم » قال: اليهود.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد: « غير المغضوب عليهم » ، اليهود.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال: « المغضوب عليهم » ، اليهود .
قال أبو جعفر: واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره:
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة الزخرف: 55 ] .
وكما قال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [ سورة المائدة : 60 ] .
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم.
لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة الفاتحة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلا الضَّالِّينَ .
قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن « لا » مع « الضالين » أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج:
فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ
ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أي في بئر هلكة، وأن « لا » بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم:
فَمَــا أَلُـومُ الْبِيـضَ أَنْ لا تَسْـخَرَا لَمَّــا رَأَيْــنَ الشَّــمْطَ الْقَفَنْــدَرَا
وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص:
وَيَلْحَــيْنَنِي فِـي اللَّهْـوِ أَنْ لا أُحِبَّـه وَللَّهْــوُ دَاعٍ دَائِــبٌ غَـيْرُ غَـافِلِ
يريد: وَيلحينني في اللهو أن أحبه، وبقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ [ سورة الأعراف: 12 ] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول « غير » التي « مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، أنها بمعنى » سوى . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده: اهدنا الصراط المستقيمَ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، الذين همُ سوى المغضوب والضالين.
وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعمُ أن « غير » التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، لو كانت بمعنى سوى، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ « لا » ، إذْ كانت « لا » لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل: « عندي سِوَى أخيك ولا أبيك » ، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول: لما كان ذلك خطأ في كلام العرب، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل: أن « غير » مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بمعنى: سوى المغضوب عليهم، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ « لا » . وكان يزعم أن « غير » هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه « غير » إلى معنى النفي ومستعملا فيهم: « أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل » ، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويَستنكرُ أن تأتي « لا » بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً، ولـمَّا يتقدمها جحد. ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق، لصحَّ قول قائل قال: « أردْتُ أن لا أكرم أخاك » ، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك، دلالةٌ واضحة على أنَّ « لا » تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في « لا » التي في بيت العجاج، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به، بقوله: إنها جَحْدٌ صحيح، وأنّ معنى البيت: سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به . من قولهم: « طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا » ، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر، أعني مثل بَيت أبي النجم:
فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا
إنما جاز أن تكون « لا » بمعنى الحذف، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول، كما قال الشاعر:
مَـا كَـانَ يَـرْضَى رَسُـولُ اللهِ فِعْلَهُمُ وَالطَّيِّبَــانِ أَبُــو بَكْـرٍ وَلا عُمَـرُ
فجازَ ذلك، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام.
قال أبو جعفر: وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ « لا » التي معناها الحذف، ولا جائزٍ العطفُ بها على « سوى » ، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ « غير » في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الجحد، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ « لا » أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ ، وفسدَ أن يكون عطفًا على « غير » التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، لو كانت بمعنى « إلا » التي هي استثناء، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى « سوى » ، وكانت « لا » موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها - صحَّ وثبت أن لا وجهَ لـ « غير » ، التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وَجه لقوله: « ولا الضالين » ، إلا العطف على غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا- اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل: ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم، أو نَضِلَّ ضلالهم؟
قيل: هم الذين وصَفهم الله في تنـزيله فقال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 77 ] .
فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟
قيل:
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ولا الضالين » قال: النصارى .
حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سِمَاك ، قال: سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الضَّالين: النَّصارى » .
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال: حدثنا محمد بن مُصْعَب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: « ولا الضالين » ، قال: النصارى هم الضالون .
حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل ، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضّالون: النصارى .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابنُ عُلَيَّة، عن سعيد الجُرَيري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العُقَيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين، فقال: يا رسولَ الله، من هؤلاء؟- قال: « هؤلاء الضَّالون » ، يعني النصارى.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالّون. يعني النصارى.
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: « ولا الضالين » قال: النصارى.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « ولا الضالين » قال: وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين النصارى.
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ولا الضالين » ، هم النصارى.
حدثني أحمد بن حازم الغِفاري، قال: أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع: « ولا الضالين » ، النصارى.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « ولا الضالين » ، النصارى.
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: الضالين، النصارى.
قال أبو جعفر: فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟
قيل: بلى!
فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟
قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه.
فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى بالضّلال، بقوله : « ولا الضالين » ، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم - دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه ، ولو وَجب ذلك، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل: « تحركت الشجرةُ » ، إذْ حرَّكتها الرياح؛ و « اضطربت الأرض » ، إذْ حرَّكتها الزلزلة، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب.
وفي قول الله جلّ ثناؤه: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ سورة يونس: 22 ] - بإضافته الجريَ إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها- ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: « ولا الضالين » ، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون: أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنـزيله، أنه المضلُّ الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [ سورة الجاثية: 23 ] . فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره.
ولكنّ القرآن نـزلَ بلسان العرب، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه - وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد منه- أحيانًا، وأحيانًا إلى مسبِّبه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً ؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له - وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا.
( مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن )
إن سألَنا منهم سائل فقال: إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان: بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه، وأبينُه عن مُراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ، مع ذلك: إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك، كلامُ الله جل ثناؤه، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان ، فما الوجه - إذ كان الأمر على ما وصفت- في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف: مَلك يوم الدين، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا ؟
قيل له: إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته - بما أنـزل إليه من كتابه- معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنـزله إلى نبيّ قبله، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنـزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله، فإنما أنـزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنـزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير - لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنـزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنـزل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ. وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب .
ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب وتأليفُه البديع؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء، وتبلَّدت - قصورًا عن أن تأتيَ بمثله- لديه أفهامُ الفُهماء، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي، مَع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنـزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو مَا في أمِّ القرآن ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيهَ العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته، ليذكرُوه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيدَ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته، تعريفَ عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رَغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته، وأنـزل بمن خالف أمره من عقوباته - ترهيبَ عباده عن ركوب معاصيه ، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زُهْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال العبد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قال الله: « حمدني عبدي » . وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال: « أثنى عليّ عبدي » . وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال: « مجَّدني عبدي. فهذا لي » . وإذا قَال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إلى أن يختم السورة، قال: « فذاكَ لهُ » .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فذكر نحوه، ولم يرفعه .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله .
حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب، قال: حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرِّف بن طَرِيف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجلّ: « قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين، وله ما سَأل » . فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: « حمدَني عَبدي » ، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال: « أثنى عليّ عَبدي » ، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: « مجَّدني عَبدي » قال: « هذا لي، و ما بقي » .
« آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ »
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلا الضَّالِّينَ .
قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن « لا » مع « الضالين » أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج:
فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ
ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أي في بئر هلكة، وأن « لا » بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم:
فَمَــا أَلُـومُ الْبِيـضَ أَنْ لا تَسْـخَرَا لَمَّــا رَأَيْــنَ الشَّــمْطَ الْقَفَنْــدَرَا
وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص:
وَيَلْحَــيْنَنِي فِـي اللَّهْـوِ أَنْ لا أُحِبَّـه وَللَّهْــوُ دَاعٍ دَائِــبٌ غَـيْرُ غَـافِلِ
يريد: وَيلحينني في اللهو أن أحبه، وبقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ [ سورة الأعراف: 12 ] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول « غير » التي « مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، أنها بمعنى » سوى . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده: اهدنا الصراط المستقيمَ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، الذين همُ سوى المغضوب والضالين.
وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله ، ويزعمُ أن « غير » التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، لو كانت بمعنى سوى، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ « لا » ، إذْ كانت « لا » لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل: « عندي سِوَى أخيك ولا أبيك » ، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول: لما كان ذلك خطأ في كلام العرب، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل: أن « غير » مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بمعنى: سوى المغضوب عليهم، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ « لا » . وكان يزعم أن « غير » هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه « غير » إلى معنى النفي ومستعملا فيهم: « أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل » ، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويَستنكرُ أن تأتي « لا » بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً، ولـمَّا يتقدمها جحد. ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق، لصحَّ قول قائل قال: « أردْتُ أن لا أكرم أخاك » ، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك، دلالةٌ واضحة على أنَّ « لا » تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في « لا » التي في بيت العجاج، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به، بقوله: إنها جَحْدٌ صحيح، وأنّ معنى البيت: سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به . من قولهم: « طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا » ، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر، أعني مثل بَيت أبي النجم:
فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا
إنما جاز أن تكون « لا » بمعنى الحذف، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول، كما قال الشاعر:
مَـا كَـانَ يَـرْضَى رَسُـولُ اللهِ فِعْلَهُمُ وَالطَّيِّبَــانِ أَبُــو بَكْـرٍ وَلا عُمَـرُ
فجازَ ذلك، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام.
قال أبو جعفر: وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ « لا » التي معناها الحذف، ولا جائزٍ العطفُ بها على « سوى » ، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ « غير » في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الجحد، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ « لا » أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ ، وفسدَ أن يكون عطفًا على « غير » التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، لو كانت بمعنى « إلا » التي هي استثناء، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى « سوى » ، وكانت « لا » موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها - صحَّ وثبت أن لا وجهَ لـ « غير » ، التي مع الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وَجه لقوله: « ولا الضالين » ، إلا العطف على غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا- اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل: ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم، أو نَضِلَّ ضلالهم؟
قيل: هم الذين وصَفهم الله في تنـزيله فقال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 77 ] .
فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟
قيل:
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ولا الضالين » قال: النصارى .
حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سِمَاك ، قال: سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الضَّالين: النَّصارى » .
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال: حدثنا محمد بن مُصْعَب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: « ولا الضالين » ، قال: النصارى هم الضالون .
حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل ، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضّالون: النصارى .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابنُ عُلَيَّة، عن سعيد الجُرَيري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العُقَيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين، فقال: يا رسولَ الله، من هؤلاء؟- قال: « هؤلاء الضَّالون » ، يعني النصارى.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالّون. يعني النصارى.
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: « ولا الضالين » قال: النصارى.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « ولا الضالين » قال: وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين النصارى.
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ولا الضالين » ، هم النصارى.
حدثني أحمد بن حازم الغِفاري، قال: أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع: « ولا الضالين » ، النصارى.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « ولا الضالين » ، النصارى.
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: الضالين، النصارى.
قال أبو جعفر: فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟
قيل: بلى!
فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟
قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه.
فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى بالضّلال، بقوله : « ولا الضالين » ، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم - دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه ، ولو وَجب ذلك، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل: « تحركت الشجرةُ » ، إذْ حرَّكتها الرياح؛ و « اضطربت الأرض » ، إذْ حرَّكتها الزلزلة، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب.
وفي قول الله جلّ ثناؤه: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ سورة يونس: 22 ] - بإضافته الجريَ إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها- ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: « ولا الضالين » ، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون: أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنـزيله، أنه المضلُّ الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [ سورة الجاثية: 23 ] . فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره.
ولكنّ القرآن نـزلَ بلسان العرب، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه - وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد منه- أحيانًا، وأحيانًا إلى مسبِّبه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً ؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له - وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا.
( مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن )
إن سألَنا منهم سائل فقال: إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان: بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه، وأبينُه عن مُراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ، مع ذلك: إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك، كلامُ الله جل ثناؤه، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان ، فما الوجه - إذ كان الأمر على ما وصفت- في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف: مَلك يوم الدين، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا ؟
قيل له: إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته - بما أنـزل إليه من كتابه- معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنـزله إلى نبيّ قبله، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنـزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله، فإنما أنـزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنـزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير - لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنـزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنـزل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ. وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب .
ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب وتأليفُه البديع؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء، وتبلَّدت - قصورًا عن أن تأتيَ بمثله- لديه أفهامُ الفُهماء، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي، مَع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنـزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو مَا في أمِّ القرآن ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيهَ العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته، ليذكرُوه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيدَ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته، تعريفَ عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رَغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته، وأنـزل بمن خالف أمره من عقوباته - ترهيبَ عباده عن ركوب معاصيه ، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زُهْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال العبد : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قال الله: « حمدني عبدي » . وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال: « أثنى عليّ عبدي » . وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال: « مجَّدني عبدي. فهذا لي » . وإذا قَال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إلى أن يختم السورة، قال: « فذاكَ لهُ » .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فذكر نحوه، ولم يرفعه .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله .
حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب، قال: حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرِّف بن طَرِيف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجلّ: « قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين، وله ما سَأل » . فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: « حمدَني عَبدي » ، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قال: « أثنى عليّ عَبدي » ، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: « مجَّدني عَبدي » قال: « هذا لي، و ما بقي » .
« آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ »
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ أعنْ
( القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة )
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: الم .
قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره « الم » فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكرُ من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « الم » ، قال: اسم من أسماء القرآن.
حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي, قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج , عن ابن جُريج، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح يفتح الله بها القرآن.
حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن يحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد, قال: « الم » ، و حم ، و المص ، و ص ، فواتحُ افتتح الله بها .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس.
وقال آخرون: هو اسم للسورة.
* ذكرُ من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا عبد الله بن وهب, قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن قول الله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ و الم * تَنْـزِيلُ ، و المر تِلْكَ ، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا شعبة, قال: سألت السُّدِّي عن حم و طسم و « الم » ، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثني أبو النعمان, قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي, عن مُرّة الهمداني, قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عُبيد الله بن موسى, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَّية, قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: « الم » ، قسم .
وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ, كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضُّحَى, عن ابن عباس: « الم » قال: أنا الله أعلم .
حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: قوله: « الم » ، قال: أنا الله أعلم.
حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني, عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « الم » قال: أما « الم » فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
حدثنا محمد بن معْمَر, قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « الم » و حم و ن ، قال: اسم مُقطَّع .
وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب, عن خُصَيْف, عن مجاهد, قال: فواتح السور كلها ق و ص و حم و طسم و الر وغير ذلك، هجاء موضوع.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي, عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره: « الم » ، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا, دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه, وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه, وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم: « وعجيب ينطقون في أسمائه, ويعيشون في رزقه, فكيف يكفرون؟ » . قال: الألف: مفتاح اسمه: « الله » , واللام: مفتاح اسمه: « لطيف » , والميم: مفتاح اسمه: « مجيد » . والألف آلاء الله, واللام لطفه, والميم: مجده. الألف سنةٌ, واللام ثلاثون سنة, والميم أربعون سنة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بنحوه .
وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه, إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .
وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ, وسرُّ القرآن فواتحه.
وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر « أ ب ت ث » ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذَلِكَ الْكِتَابُ الذي أنـزلته إليك مجموعًا لا رَيْبَ فِيهِ .
فإن قال قائل: فإن « أ ب ت ث » ، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان « الحمدُ » اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في « ط ظ » , وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ « أ ب ت ث » ليس لها باسْم, وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها . قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور, فذُكِرت في أوائلها مختلفةً , وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي « أ ب ت ث » ، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في « ط ظ » وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم, وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في « أ ب ت ث » - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد:
لَمَّــا رَأيْــتُ أمرَهَـا فـي حُـطِّي وفَنَكَـــتْ فــي كَــذِب ولَــطِّ
أَخــذْتُ منهــا بقُــرُونٍ شُــمْطٍ فلــم يَـزَلْ صَـوْبِي بهـا ومَعْطِـي
حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في « أبي جاد » , فأقام قوله: « لما رأيت أمرها في حُطِّي » مقامَ خبرِه عنها أنها في « أبي جاد » , إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في « أبي جاد » .
وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟
قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت, وأنه قد أخذ في أخرى, فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما, وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها
ويقول:
لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا
و « بل » ليست من البيت ولا تعد في وزنه, ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.
قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا: « الم » ، اسم من أسماء القرآن, فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن « الم » اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك, كان تأويل قوله الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه.
والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها, فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم المص و ن - ، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا, وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر « الم الر في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص, فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. »
قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو « الم » : قرأتُ « الم البقرة » , وفي آل عمران: قرأت « الم آل عمران » , و الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، و الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما « عمرو » , غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ, للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ, إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه, فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما, كما جعلت « بل » في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة, قالوا:
بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا
و « بل » ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه, ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل, وبعضُها من صفاته, ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قُلْنَـا لهـا: قِفِـي لنـا, قـالت: قافْ لا تَحْسَــبي أنَّــا نَسِـينا الإيجـاف
يعني بقوله: « قالت قاف » ، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من « وقفت » ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي « وقفت » . فصرفوا قوله: « الم » وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف « أنا » , واللام لام « الله » , والميم ميم « أعلم » , وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة، « أنا » الله « أعلم » . قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك, فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من « حارثٍ » الثاءَ، فيقولون: يا حارِ, ومن « مالك » الكافَ، فيقولون: يا مالِ, وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:
مَــا لِلظليــم عَـالَ? كَـيْفَ لا يَـا يَنْقَـــذُّ عنـــه جِــلْدُه إذا يَــا
كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا, فاكتفى بالياء من « يفعل » ، وكما قال آخر منهم:
بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا
يريد: فشرًّا.
ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا
يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما, وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.
وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُليَّة, عن أيوب، وابن عون, عن محمد, قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بِيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه .
قال أبو جعفر: يعني بـ « تا » تضطجع, فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت:
أقُــول إِذْ خَــرَّتْ عـلى الكَلكـالِ يَـا نـاقَتِي مـا جُـلْتِ مـن مَجَـالِ
يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر:
إنّ شَـــكْلِي وَإن شَــكْلَك شَــتَّى فَـالزْمي الخُـصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي
فزاد ضادًا، وليست في الكلمة .
قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف « الم » ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا: كل حرف من « الم » ونظائرها، دالُّ على معان شتى - نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل « أنا الله أعلم » ، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من « الم » من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ, وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني, ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به, وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من « الم » مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً, منها تمامُ اسم الربّ الذي هو « الله » , وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله, والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة, إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف, وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد, وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء , وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم, وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء, كما افتتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، [ سورة الأنعام: 1 ] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [ سورة الإسراء: 1 ] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه, ومفاتحَ بعضها تمجيدَها, ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنـزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم, وأحيانًا بالعدل والإنصاف, وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار, ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى « الم » . وكذلك ذَلِكَ في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض, وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني, فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل: « الم » . وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله « الم » لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا, فبطل أحدُ وَجهيه, وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي « الم » - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل: « الم » لا يجوز أن يليَه من الكلام ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي « الم » ذَلِكَ الْكِتَابُ .
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:-
حدثنا به محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق , قال: حدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن رئاب, قال: مرَّ أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنـزل الله عز وجل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنـزل عليك الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: المص . قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: الر . قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة, واللام ثلاثون, والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، المر , قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون, والميم أربعون, والراء مائتان, فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد, حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون, وإحدى وستون ومائة, ومائتان وإحدى وثلاثون, ومائتان وإحدى وسبعون, فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نـزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ .
قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد, كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف, ذَلِكَ الْكِتَابُ , مجموعة، لا رَيْبَ فِيهِ - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع ذَلِكَ الْكِتَابُ - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله لا رَيْبَ فِيهِ ومرة بقوله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وذلك تركٌ منه لقوله: إن « الم » رافعةٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة, وللحين من الزمان: أمَّة, وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة, وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين, وللسلطان والطاعة: دين, وللتذلل: دين, وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد, وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: « الم » و الر , و المص وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور, كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى, شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك. وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها, وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها, فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها, ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره, لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنـزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك, ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل, أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ « بل » في قول المنشد شعرًا:
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له, وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى
أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ « بل » - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ « الم » و الر و المص ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ « بل » . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن, فقال تعالى ذكره: نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة, ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة, وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن « بل » في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها, وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله, وما أشبه ذلك من الكلام, كما قال أعشى بني ثعلبة:
وَلأشْـــرَبَنَّ ثَمَانِيًـــا وثَمَانِيًـــا وثَــلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَـــانِ, وطَيِّـــبٌ أرْدَانُــهُ بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الإصْبَعَا
ثم قال:
بَـلْ عَـدِّ هـذا, فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ « بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف ، من غير أن يدلّ على معنى, فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها, سوى الذي ذكرتُ قوله, فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ذَلِكَ الْكِتَابُ .
قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « ذلك الكتاب » قال: هو هذا الكتاب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا خالد الحذّاء, عن عكرمة, قال: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير, عن السُّدِّي، في قوله « ذلك الكتاب » قال: هذا الكتاب .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب .
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون « ذلك » بمعنى « هذا » ؟ و « هذا » لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن, و « ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟
قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع: « إن ذلك والله لكما قلت » , و « هذا والله كما قلت » , و « هو والله كما ذكرت » ، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى, ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك « ذلك » في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ « ذلك الكتاب » الم ، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه و سلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع « ذلك » في مكان « هذا » , لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله الم من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ « الم » , فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه, فأخبر به بـ « ذلك » لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون : أنه بمعنى « هذا » ، لقرب الخبر عنه من انقضائه, فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ « هذا » ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم, وكما قال جل ذكره: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ [ سورة ص: 48، 49 ] فهذا ما في « ذلك » إذا عنى بها « هذا » .
وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نـزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة, فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنـزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى « ذلك » « هذا الكتاب » , إذْ كانت تلك السُّور التي نـزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنـزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في « ذلك » .
وقد وَجَّه معنى « ذلك » بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَـإن تَـكُ خَـيْلي قـد أُصِيبَ صَمِيمُها فَعَمْـدًا عـلى عَيْـنٍ تَيَمَّمْـتُ مَالِكَـا
أقـولُ لـه, والـرُّمحُ يـأطِرُ مَتْنَـهُ: تــأمَّل خُفاَفًــا, إننــي أنـا ذلِكَـا
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ « ذلك الكتاب » بمعنى « هذا » ، نظيرُه . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر « ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل, وإذا وُجّه تأويل « ذلك » إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن « ذلك » يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
=====
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ أعنْ
( القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة )
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: الم .
قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره « الم » فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكرُ من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « الم » ، قال: اسم من أسماء القرآن.
حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي, قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج , عن ابن جُريج، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح يفتح الله بها القرآن.
حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن يحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد, قال: « الم » ، و حم ، و المص ، و ص ، فواتحُ افتتح الله بها .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس.
وقال آخرون: هو اسم للسورة.
* ذكرُ من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا عبد الله بن وهب, قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن قول الله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ و الم * تَنْـزِيلُ ، و المر تِلْكَ ، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر.
وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا شعبة, قال: سألت السُّدِّي عن حم و طسم و « الم » ، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثني أبو النعمان, قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي, عن مُرّة الهمداني, قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عُبيد الله بن موسى, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَّية, قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: « الم » ، قسم .
وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ, كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضُّحَى, عن ابن عباس: « الم » قال: أنا الله أعلم .
حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: قوله: « الم » ، قال: أنا الله أعلم.
حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني, عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « الم » قال: أما « الم » فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
حدثنا محمد بن معْمَر, قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « الم » و حم و ن ، قال: اسم مُقطَّع .
وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب, عن خُصَيْف, عن مجاهد, قال: فواتح السور كلها ق و ص و حم و طسم و الر وغير ذلك، هجاء موضوع.
وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي, عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره: « الم » ، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا, دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه, وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه, وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم: « وعجيب ينطقون في أسمائه, ويعيشون في رزقه, فكيف يكفرون؟ » . قال: الألف: مفتاح اسمه: « الله » , واللام: مفتاح اسمه: « لطيف » , والميم: مفتاح اسمه: « مجيد » . والألف آلاء الله, واللام لطفه, والميم: مجده. الألف سنةٌ, واللام ثلاثون سنة, والميم أربعون سنة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بنحوه .
وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه, إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .
وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ, وسرُّ القرآن فواتحه.
وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر « أ ب ت ث » ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذَلِكَ الْكِتَابُ الذي أنـزلته إليك مجموعًا لا رَيْبَ فِيهِ .
فإن قال قائل: فإن « أ ب ت ث » ، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان « الحمدُ » اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في « ط ظ » , وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ « أ ب ت ث » ليس لها باسْم, وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها . قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور, فذُكِرت في أوائلها مختلفةً , وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي « أ ب ت ث » ، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في « ط ظ » وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم, وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في « أ ب ت ث » - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد:
لَمَّــا رَأيْــتُ أمرَهَـا فـي حُـطِّي وفَنَكَـــتْ فــي كَــذِب ولَــطِّ
أَخــذْتُ منهــا بقُــرُونٍ شُــمْطٍ فلــم يَـزَلْ صَـوْبِي بهـا ومَعْطِـي
حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في « أبي جاد » , فأقام قوله: « لما رأيت أمرها في حُطِّي » مقامَ خبرِه عنها أنها في « أبي جاد » , إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في « أبي جاد » .
وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.
فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟
قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت, وأنه قد أخذ في أخرى, فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما, وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها
ويقول:
لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا
و « بل » ليست من البيت ولا تعد في وزنه, ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.
قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا: « الم » ، اسم من أسماء القرآن, فلقولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن « الم » اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك, كان تأويل قوله الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه.
والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها, فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم المص و ن - ، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا, وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر « الم الر في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص, فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. »
قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو « الم » : قرأتُ « الم البقرة » , وفي آل عمران: قرأت « الم آل عمران » , و الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، و الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما « عمرو » , غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ, للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ, إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه, فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما, كما جعلت « بل » في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة, قالوا:
بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا
و « بل » ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه, ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل, وبعضُها من صفاته, ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:
قُلْنَـا لهـا: قِفِـي لنـا, قـالت: قافْ لا تَحْسَــبي أنَّــا نَسِـينا الإيجـاف
يعني بقوله: « قالت قاف » ، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من « وقفت » ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي « وقفت » . فصرفوا قوله: « الم » وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف « أنا » , واللام لام « الله » , والميم ميم « أعلم » , وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة، « أنا » الله « أعلم » . قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك, فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من « حارثٍ » الثاءَ، فيقولون: يا حارِ, ومن « مالك » الكافَ، فيقولون: يا مالِ, وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:
مَــا لِلظليــم عَـالَ? كَـيْفَ لا يَـا يَنْقَـــذُّ عنـــه جِــلْدُه إذا يَــا
كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا, فاكتفى بالياء من « يفعل » ، وكما قال آخر منهم:
بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا
يريد: فشرًّا.
ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا
يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما, وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.
وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُليَّة, عن أيوب، وابن عون, عن محمد, قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بِيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه .
قال أبو جعفر: يعني بـ « تا » تضطجع, فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت:
أقُــول إِذْ خَــرَّتْ عـلى الكَلكـالِ يَـا نـاقَتِي مـا جُـلْتِ مـن مَجَـالِ
يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر:
إنّ شَـــكْلِي وَإن شَــكْلَك شَــتَّى فَـالزْمي الخُـصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي
فزاد ضادًا، وليست في الكلمة .
قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف « الم » ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا: كل حرف من « الم » ونظائرها، دالُّ على معان شتى - نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل « أنا الله أعلم » ، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من « الم » من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ, وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني, ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به, وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من « الم » مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً, منها تمامُ اسم الربّ الذي هو « الله » , وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله, والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة, إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف, وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد, وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء , وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم, وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء, كما افتتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، [ سورة الأنعام: 1 ] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [ سورة الإسراء: 1 ] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه, ومفاتحَ بعضها تمجيدَها, ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنـزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم, وأحيانًا بالعدل والإنصاف, وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار, ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى « الم » . وكذلك ذَلِكَ في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض, وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني, فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل: « الم » . وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله « الم » لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا, فبطل أحدُ وَجهيه, وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي « الم » - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل: « الم » لا يجوز أن يليَه من الكلام ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي « الم » ذَلِكَ الْكِتَابُ .
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:-
حدثنا به محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق , قال: حدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن رئاب, قال: مرَّ أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنـزل الله عز وجل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنـزل عليك الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: المص . قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: الر . قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة, واللام ثلاثون, والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، المر , قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون, والميم أربعون, والراء مائتان, فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد, حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون, وإحدى وستون ومائة, ومائتان وإحدى وثلاثون, ومائتان وإحدى وسبعون, فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نـزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ .
قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد, كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف, ذَلِكَ الْكِتَابُ , مجموعة، لا رَيْبَ فِيهِ - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع ذَلِكَ الْكِتَابُ - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله لا رَيْبَ فِيهِ ومرة بقوله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وذلك تركٌ منه لقوله: إن « الم » رافعةٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة, وللحين من الزمان: أمَّة, وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة, وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين, وللسلطان والطاعة: دين, وللتذلل: دين, وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد, وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: « الم » و الر , و المص وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور, كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى, شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك. وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها, وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها, فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها, ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره, لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنـزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك, ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل, أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ « بل » في قول المنشد شعرًا:
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له, وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى
أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ « بل » - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ « الم » و الر و المص ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ « بل » . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن, فقال تعالى ذكره: نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة, ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة, وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن « بل » في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها, وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله, وما أشبه ذلك من الكلام, كما قال أعشى بني ثعلبة:
وَلأشْـــرَبَنَّ ثَمَانِيًـــا وثَمَانِيًـــا وثَــلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَـــانِ, وطَيِّـــبٌ أرْدَانُــهُ بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الإصْبَعَا
ثم قال:
بَـلْ عَـدِّ هـذا, فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ « بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف ، من غير أن يدلّ على معنى, فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها, سوى الذي ذكرتُ قوله, فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ذَلِكَ الْكِتَابُ .
قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « ذلك الكتاب » قال: هو هذا الكتاب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا خالد الحذّاء, عن عكرمة, قال: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير, عن السُّدِّي، في قوله « ذلك الكتاب » قال: هذا الكتاب .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب .
فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون « ذلك » بمعنى « هذا » ؟ و « هذا » لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن, و « ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟
قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع: « إن ذلك والله لكما قلت » , و « هذا والله كما قلت » , و « هو والله كما ذكرت » ، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى, ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك « ذلك » في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ « ذلك الكتاب » الم ، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه و سلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع « ذلك » في مكان « هذا » , لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله الم من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ « الم » , فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه, فأخبر به بـ « ذلك » لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون : أنه بمعنى « هذا » ، لقرب الخبر عنه من انقضائه, فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ « هذا » ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم, وكما قال جل ذكره: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ [ سورة ص: 48، 49 ] فهذا ما في « ذلك » إذا عنى بها « هذا » .
وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نـزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة, فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنـزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى « ذلك » « هذا الكتاب » , إذْ كانت تلك السُّور التي نـزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنـزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في « ذلك » .
وقد وَجَّه معنى « ذلك » بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَـإن تَـكُ خَـيْلي قـد أُصِيبَ صَمِيمُها فَعَمْـدًا عـلى عَيْـنٍ تَيَمَّمْـتُ مَالِكَـا
أقـولُ لـه, والـرُّمحُ يـأطِرُ مَتْنَـهُ: تــأمَّل خُفاَفًــا, إننــي أنـا ذلِكَـا
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ « ذلك الكتاب » بمعنى « هذا » ، نظيرُه . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر « ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل, وإذا وُجّه تأويل « ذلك » إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن « ذلك » يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ .
وتأويل قوله: « لا ريب فيه » « لا شك فيه » . كما:-
حدثني هارون بن إدريس الأصم, قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج, عن مجاهد: لا ريب فيه, قال: لا شك فيه.
حدثني سَلام بن سالم الخزاعي, قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي, عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء، « لا ريب فيه » : قال: لا شك فيه .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير, عن السُّدِّيّ, قال: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.
حدثني موسى بن هارون الهَمْداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: « لا ريبَ فيه » ، قال: لا شكّ فيه.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.
حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه .
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:
فقـالوا: تَرَكْنَـا الحَـيَّ قد حَصِرُوا به, فـلا رَيْـبَ أنْ قـد كـان ثَـمَّ لَحِـيمُ
ويروى: « حَصَرُوا » و « حَصِرُوا » والفتحُ أكثر, والكسر جائز. يعني بقوله « حصروا به » : أطافوا به. ويعني بقوله « لا ريب » . لا شك فيه. وبقوله « أن قد كان ثَمَّ لَحِيم » ، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.
والهاء التي في « فيه » عائدة على الكتاب, كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: هُدًى
حدثني أحمد بن حازم الغفاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن بَيَان, عن الشعبي، « هُدًى » قال: هُدًى من الضلالة .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدّي, في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، « هدى للمتقين » ، يقول: نور للمتقين .
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق - إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه, وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين, ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى, بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين, وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين, وَوَقْرٌ في آذان المكذبين, وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ, والكافر به محجوجٌ .
وقوله « هدى » يحتمل أوجهًا من المعاني:
أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و ذَلِكَ مرفوع بـ الم , و الم به, والكتابُ نعت لـ ذَلِكَ .
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في فِيهِ , فيكونُ معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين, أعني على وجه القطع من الهاء التي في فِيهِ , ومن الْكِتَابُ ، على أن الم كلام تام, كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرًا مستأنفًا, فيرفع حينئذ الْكِتَابُ بـ ذَلِكَ ، و ذَلِكَ بـ الْكِتَابُ , ويكون « هُدًى » قطعًا من الْكِتَابُ , وعلى أن يرفع ذَلِكَ بالهاء العائدة عليه التي في فِيهِ , و الْكِتَابُ نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في فِيهِ . وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ إلا خبرًا مستأنفًا، و الم كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ « هُدًى » بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [ سورة لقمان: 1- 3 ] في قراءة من قرأ « رحمةٌ » . بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في « هدى » حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ ذَلِكَ , و الْكِتَابُ نعتٌ « لذلك » . والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ مرفوعًا بالعائد في فِيهِ . فيكون كما قال تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [ سورة الأنعام: 92 ] .
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ الم مرافعُ ذَلِكَ الْكِتَابُ بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم, ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه, وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه, فزعم أن الرفع في « هُدًى » من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون الْكِتَابُ نعتًا لِـ ذَلِكَ و « الهدى » في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ ذَلِكَ . كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه . قال: وإن جعلتَ لا رَيْبَ فِيهِ خبرَه، رفعتَ أيضًا « هدى » ، بجعله تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ ، كما قال الله جل ثناؤه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ ذَلِكَ ، وتنصبَ « هدى » على القطع، لأن « هدى » نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت « هدى » على القطع من الهاء التي في فِيهِ كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا .
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في الم وأنها مرفوعة بـ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في « هدى » بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ, وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر « لذلك » , أو على وجه الإتباع لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن الم إذا رافعت ذَلِكَ الْكِتَابُ ، فلا شك أن « هدى » غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا « لذلك » ، بمعنى المرافع له, أو تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه - بمخالفته إيّاه- عنه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن الحسن، قوله: « للمتقين » قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
حدثنا محمد بن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « للمتقين » ، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى, ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « هدًى للمتقين » ، قال: هم المؤمنون.
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش, قال: سألني الأعمش عن « المتقين » , قال: فأجبتُه, فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش, فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله, قال حدثنا عمر أبو حفص, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة: « هدى للمتقين » ، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمَارة, عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « للمتقين » قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ( هدى للمتقين ) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه, فتجنبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه, وإما على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون - وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل « للمتقين » .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « الذين يؤمنون » ، قال: يصدِّقون.
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يؤمنون » : يصدِّقون .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « يؤمنون » : يخشَوْنَ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر, قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ .
حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص، عن عبد الله, قال: الإيمان: التَّصْديق .
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق, فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به, ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ سورة يوسف: 17 ] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه, وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى, بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: بِالْغَيْبِ
حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « بالغيب » ، قال: بما جاء منه, يعني: من الله جل ثناؤه.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني , عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « بالغيب » : أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار, وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك - يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عاصم, عن زرٍّ, قال: الغيبُ القرآن .
حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة في قوله « الذين يُؤمنون بالغيب » ، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة, وكلُّ هذا غيبٌ .
حُدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، « الذين يؤمنون بالغيب » : آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه, وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ .
وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنـزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم, وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب, وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة, دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين, وهو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنـزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد وما أنـزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر , وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم, والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله .
قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث, والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها, مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: أما ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فهم المؤمنون من العرب, وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار, وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. ( و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
وقال بعضهم: بل نـزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة, لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها, فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك منهم في تنـزيله، أنه من عند الله جل وعز, فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه, من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنـزلت على محمد صلى الله عليه و سلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس, والمؤمن بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم، وما أنـزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنـزل إلى محمد وبما أنـزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت, دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ غير موجود في قوله ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم, فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم- [ مؤمنين ] .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين .
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، بمثله .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا موسى بن مسعود, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله .
حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس, قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا, وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب, القولُ الأول, وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب, وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنـزِل على محمد والذي أنـزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف, وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار - جنْسَيْن فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر, ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب, وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُقِيمُونَ
وإقامتها: أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم, إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها, وكما قال الشاعر:
أَقَمْنَــا لأَهْـلِ الْعِـرَاقَيْنِ سُـوقَ الـ ـضِّــرَاب فَخَــامُوا وَوَلَّـوْا جَمِيعَـا
وكما حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » ، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » قال: إقامة الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الصَّلاةَ
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يقيمون الصلاة » : يعني الصلاة المفروضة .
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:
لَهَـا حَـارِسٌ لا يَـبْرَحُ الدَّهْـرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَـتْ صَـلَّى عَلَيْهَـا وَزَمْزَمَـا
يعني بذلك: دعا لها, وكقول الأعشى أيضًا .
وَقَابَلَهَـــا الــرِّيحَ فِــي دَنِّهَــا وصَــلَّى عَــلَى دَنِّهَــا وَارْتَسَـمْ
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت « صلاة » ، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )
اختلف المفسرون في تأويل ذلك, فقال بعضهم بما:-
حدثنا به ابن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: زكاةَ أموالهم .
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك، « ومما رزقناهم يُنفقون » ، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم, حتى نَـزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة, مما يذكر فيهنّ الصدقات, هنّ المُثْبَتات الناسخات .
وقال بعضهم بما:-
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « ومما رَزقناهم ينفقون » : هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنـزِل الزكاة .
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم, مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم, ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم, فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم, وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
====
القول في تأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ .
وتأويل قوله: « لا ريب فيه » « لا شك فيه » . كما:-
حدثني هارون بن إدريس الأصم, قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج, عن مجاهد: لا ريب فيه, قال: لا شك فيه.
حدثني سَلام بن سالم الخزاعي, قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي, عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء، « لا ريب فيه » : قال: لا شك فيه .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير, عن السُّدِّيّ, قال: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.
حدثني موسى بن هارون الهَمْداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: « لا ريبَ فيه » ، قال: لا شكّ فيه.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.
حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه .
وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:
فقـالوا: تَرَكْنَـا الحَـيَّ قد حَصِرُوا به, فـلا رَيْـبَ أنْ قـد كـان ثَـمَّ لَحِـيمُ
ويروى: « حَصَرُوا » و « حَصِرُوا » والفتحُ أكثر, والكسر جائز. يعني بقوله « حصروا به » : أطافوا به. ويعني بقوله « لا ريب » . لا شك فيه. وبقوله « أن قد كان ثَمَّ لَحِيم » ، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.
والهاء التي في « فيه » عائدة على الكتاب, كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: هُدًى
حدثني أحمد بن حازم الغفاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن بَيَان, عن الشعبي، « هُدًى » قال: هُدًى من الضلالة .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدّي, في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، « هدى للمتقين » ، يقول: نور للمتقين .
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق - إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه, وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين, ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى, بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين, وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين, وَوَقْرٌ في آذان المكذبين, وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ, والكافر به محجوجٌ .
وقوله « هدى » يحتمل أوجهًا من المعاني:
أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و ذَلِكَ مرفوع بـ الم , و الم به, والكتابُ نعت لـ ذَلِكَ .
وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في فِيهِ , فيكونُ معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين, أعني على وجه القطع من الهاء التي في فِيهِ , ومن الْكِتَابُ ، على أن الم كلام تام, كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرًا مستأنفًا, فيرفع حينئذ الْكِتَابُ بـ ذَلِكَ ، و ذَلِكَ بـ الْكِتَابُ , ويكون « هُدًى » قطعًا من الْكِتَابُ , وعلى أن يرفع ذَلِكَ بالهاء العائدة عليه التي في فِيهِ , و الْكِتَابُ نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في فِيهِ . وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ إلا خبرًا مستأنفًا، و الم كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ « هُدًى » بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [ سورة لقمان: 1- 3 ] في قراءة من قرأ « رحمةٌ » . بالرفع، على المدح للآيات.
والرفع في « هدى » حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ ذَلِكَ , و الْكِتَابُ نعتٌ « لذلك » . والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ مرفوعًا بالعائد في فِيهِ . فيكون كما قال تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [ سورة الأنعام: 92 ] .
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ الم مرافعُ ذَلِكَ الْكِتَابُ بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم, ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه, وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه, فزعم أن الرفع في « هُدًى » من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون الْكِتَابُ نعتًا لِـ ذَلِكَ و « الهدى » في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ ذَلِكَ . كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه . قال: وإن جعلتَ لا رَيْبَ فِيهِ خبرَه، رفعتَ أيضًا « هدى » ، بجعله تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ ، كما قال الله جل ثناؤه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ ذَلِكَ ، وتنصبَ « هدى » على القطع، لأن « هدى » نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت « هدى » على القطع من الهاء التي في فِيهِ كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا .
قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في الم وأنها مرفوعة بـ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في « هدى » بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ, وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر « لذلك » , أو على وجه الإتباع لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن الم إذا رافعت ذَلِكَ الْكِتَابُ ، فلا شك أن « هدى » غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا « لذلك » ، بمعنى المرافع له, أو تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه - بمخالفته إيّاه- عنه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن الحسن، قوله: « للمتقين » قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
حدثنا محمد بن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « للمتقين » ، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى, ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « هدًى للمتقين » ، قال: هم المؤمنون.
حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش, قال: سألني الأعمش عن « المتقين » , قال: فأجبتُه, فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش, فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله, قال حدثنا عمر أبو حفص, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة: « هدى للمتقين » ، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمَارة, عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « للمتقين » قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ( هدى للمتقين ) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه, فتجنبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه, وإما على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون - وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل « للمتقين » .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « الذين يؤمنون » ، قال: يصدِّقون.
حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يؤمنون » : يصدِّقون .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « يؤمنون » : يخشَوْنَ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر, قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ .
حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص، عن عبد الله, قال: الإيمان: التَّصْديق .
ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق, فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به, ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ سورة يوسف: 17 ] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه, وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى, بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: بِالْغَيْبِ
حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « بالغيب » ، قال: بما جاء منه, يعني: من الله جل ثناؤه.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني , عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « بالغيب » : أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار, وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك - يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عاصم, عن زرٍّ, قال: الغيبُ القرآن .
حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة في قوله « الذين يُؤمنون بالغيب » ، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة, وكلُّ هذا غيبٌ .
حُدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، « الذين يؤمنون بالغيب » : آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه, وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ .
وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنـزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم, وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب, وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة, دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين, وهو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنـزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد وما أنـزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر , وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم, والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله .
قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث, والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها, مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: أما ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فهم المؤمنون من العرب, وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار, وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. ( و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
وقال بعضهم: بل نـزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة, لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها, فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك منهم في تنـزيله، أنه من عند الله جل وعز, فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه, من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنـزلت على محمد صلى الله عليه و سلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس, والمؤمن بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم، وما أنـزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنـزل إلى محمد وبما أنـزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت, دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ غير موجود في قوله ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم, فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم- [ مؤمنين ] .
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين .
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، بمثله .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا موسى بن مسعود, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله .
حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس, قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا, وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب, القولُ الأول, وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب, وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنـزِل على محمد والذي أنـزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف, وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار - جنْسَيْن فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر, ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب, وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُقِيمُونَ
وإقامتها: أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم, إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها, وكما قال الشاعر:
أَقَمْنَــا لأَهْـلِ الْعِـرَاقَيْنِ سُـوقَ الـ ـضِّــرَاب فَخَــامُوا وَوَلَّـوْا جَمِيعَـا
وكما حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » ، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » قال: إقامة الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الصَّلاةَ
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يقيمون الصلاة » : يعني الصلاة المفروضة .
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:
لَهَـا حَـارِسٌ لا يَـبْرَحُ الدَّهْـرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَـتْ صَـلَّى عَلَيْهَـا وَزَمْزَمَـا
يعني بذلك: دعا لها, وكقول الأعشى أيضًا .
وَقَابَلَهَـــا الــرِّيحَ فِــي دَنِّهَــا وصَــلَّى عَــلَى دَنِّهَــا وَارْتَسَـمْ
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت « صلاة » ، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )
اختلف المفسرون في تأويل ذلك, فقال بعضهم بما:-
حدثنا به ابن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: زكاةَ أموالهم .
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك، « ومما رزقناهم يُنفقون » ، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم, حتى نَـزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة, مما يذكر فيهنّ الصدقات, هنّ المُثْبَتات الناسخات .
وقال بعضهم بما:-
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « ومما رَزقناهم ينفقون » : هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنـزِل الزكاة .
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم, مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم, ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم, فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم, وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت, وأي أجناس الناس هم . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:
فحدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « والذين يؤمنون بما أنـزِل إليك وما أنـزل من قبلك » : أي يصدِّقونك بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين, لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم .
حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، « والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون » : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار, كما قال جل ثناؤه وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ سورة العنكبوت: 64 ] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل: « أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة » ، وإنما صارت آخرة للأولى, لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها, فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق, كما سميت الدنيا « دنيا » لِدُنُوِّها من الخلق.
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنـزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة, فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان, وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان, أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون, ولما جاء به من التنـزيل جاحدون, ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنـزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة, دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنـزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم, وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: « أولئك على هدى من ربهم » : فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين, أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ , فهم المؤمنون من العرب, وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: « أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون » .
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد, وبما أنـزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وبما أنـزل إلى من قبله, وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض, ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من ذكر الَّذِينَ ، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ, أو يكون « أولئك على هدى من ربهم » ، مرافعها.
وأما الخفض فعلى العطف على « المتقين » ، وإذا كانت معطوفة على الَّذِينَ اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و الَّذِينَ الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد الم ، نـزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون « الَّذِينَ » الثانية معطوفة في الإعراب على « المتقين » بمعنى الخفض, وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نـزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله الم ، غير الذين نـزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون « الَّذِينَ » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه, والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس, وأن تكون « أولئك » إشارة إلى الفريقين, أعني: المتقين، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك, وتكون « أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله « على هدى من ربهم » ؛ وأن تكون « الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية, لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:-
حدثني ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « أولئك على هدى من ربهم » : أي على نور من ربهم, واستقامة على ما جاءهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
وتأويل قوله: « وأولئك هم المفلحون » أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله, من الفوز بالثواب, والخلود في الجنان, والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:-
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعْقِــلِي, إِنْ كُــنْتِ لَمَّــا تَعْقِـلِي, وَلَقَــدْ أَفْلَــحَ مَــنْ كَـانَ عَقَـلْ
يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز:
عَــدِمتُ أُمــًّا ولَــدتْ رِياحــَا جَــاءَتْ بِــهِ مُفَرْكَحــًا فِرْكَاحَـا
تَحْسِــبُ أَنْ قَــدْ وَلَـدَتْ نَجَاحَـا! أَشْـــهَدُ لا يَزِيدُهَـــا فَلاحَـــا
يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ, ومنه قول لبيد:
نَحُــلُّ بِــلادًا, كُلُّهَـا حُـلَّ قَبْلَنَـا وَنَرْجُـو الْفَـلاحَ بَعْـدَ عَـادٍ وَحِـمْيَرِ
يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد:
أَفْلِحَ بِمَـا شِـئْتَ, فَقَـدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ـعْـفِ, وَقَــدْ يُخْــدَعُ الأَرِيــبُ
يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:
وَكُــلُّ فَتًــى سَتَشْــعَبُهُ شَـعُوبٌ وَإِنْ أَثْــرَى, وَإِنْ لاقَــى فَلاحــًا
أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية, وفيمن نـزلَتْ. فكان ابن عباس يقول, كما:-
حدثنا به محمد بن حميد, قال حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « إن الذين كفروا » ، أي بما أنـزِل إليك من ربِّك, وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نـزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به, مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
وقد حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نـزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود, من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم .
وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر, وهو ما:-
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول, ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول .
وقال آخرون بما:-
حُدِّثت به عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ سورة إبراهيم: 28، 29 ] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس, فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون, وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم, ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نـزول هذه السورة - لم يَجُز أن تكون الآية نـزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك, فهي أنّ قول الله جل ثناؤه إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب, وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنـزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نـزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم, فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ, وأنّ ما جاء به فمن عند الله . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ, ولا يحسُب, فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم, ومَصُون علومهم, ومكتوم أخبارهم, وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ, وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [ سورة البقرة: 40 وما بعدها ] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم, فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ, إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه, فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله « إن الذين كفروا » فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره, وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء, ولذلك سمَّوا الليل « كافرًا » ، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه, كما قال الشاعر:
فَتَذَكَّــرَا ثَقَــلا رًثِيـدًا, بَعْـدَ مَـا أَلْقَــتْ ذُكــاءُ يَمِينَهَـا فـي كـافِرِ
وقال لبيدُ بن ربيعة:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [ سورة البقرة: 159 ] ، وهم الذين أنـزل الله عز وجل فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
وتأويل « سواءٌ » : معتدل. مأخوذ من التَّساوي, كقولك: « مُتَساوٍ هذان الأمران عندي » , و « هما عِندي سَواءٌ » ، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ سورة الأنفال: 58 ] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله « سَواءٌ عليهم » : معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
تُغِـذُّ بـيَ الشّـهبَاءُ نَحْـوَ ابـن جَعْفٍر سَــوَاءٌ عَلَيْهَــا لَيْلُهَــا ونَهَارُهَـا
يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ, لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر
وَلَيْــلٍ يَقُـولُ المَـرْءُ مِـنْ ظُلُمَاتِـه سَـوَاءٌ صَحِيحَـاتُ العُيُـونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله: ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع « أيّ » كما تقول: « لا نُبالي أقمتَ أم قعدت » , وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع « أي » . وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله: « سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم » ، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ: « أفعلتَ أم لم تفعل » .
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع « سواء » ، وليس باستفهام, لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال: « أزيد عندك أم عمرو؟ » مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله: « سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم » بمعنى التسوية, أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها, وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي, وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-
حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك, فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ, إذا طبَعْتَه.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ, وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف ؟
قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات, ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار, أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك, وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ .
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش, عن مجاهد, قال: القلبُ مثلُ الكفّ, فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج, قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه, فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ, والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع, والطَّبع أيسر من الأقْفَال, والأقفال أشدُّ ذلك كله .
وقال بعضهم: إنما معنى قوله « ختم الله على قُلوبهم » إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق, كما يقال: « إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام » , إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى, قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع, عن أبي صالح, عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه, فإن تاب وَنـزع واستغفر، صَقَلت قلبه, فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك « الرَّانُ » الذي قال الله جل ثناؤه: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سورة المطففين: 14 ] .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها, وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك, ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم, إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » ، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم, أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه , وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه, فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم, وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه .
وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم, ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت, وأي أجناس الناس هم . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:
فحدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « والذين يؤمنون بما أنـزِل إليك وما أنـزل من قبلك » : أي يصدِّقونك بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين, لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم .
حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، « والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون » : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار, كما قال جل ثناؤه وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ سورة العنكبوت: 64 ] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل: « أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة » ، وإنما صارت آخرة للأولى, لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها, فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق, كما سميت الدنيا « دنيا » لِدُنُوِّها من الخلق.
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنـزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة, فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان, وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان, أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون, ولما جاء به من التنـزيل جاحدون, ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنـزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة, دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنـزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم, وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: « أولئك على هدى من ربهم » : فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين, أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ , فهم المؤمنون من العرب, وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: « أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون » .
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد, وبما أنـزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وبما أنـزل إلى من قبله, وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض, ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من ذكر الَّذِينَ ، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ, أو يكون « أولئك على هدى من ربهم » ، مرافعها.
وأما الخفض فعلى العطف على « المتقين » ، وإذا كانت معطوفة على الَّذِينَ اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و الَّذِينَ الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد الم ، نـزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون « الَّذِينَ » الثانية معطوفة في الإعراب على « المتقين » بمعنى الخفض, وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نـزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله الم ، غير الذين نـزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون « الَّذِينَ » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه, والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس, وأن تكون « أولئك » إشارة إلى الفريقين, أعني: المتقين، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك, وتكون « أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله « على هدى من ربهم » ؛ وأن تكون « الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية, لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:-
حدثني ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « أولئك على هدى من ربهم » : أي على نور من ربهم, واستقامة على ما جاءهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
وتأويل قوله: « وأولئك هم المفلحون » أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله, من الفوز بالثواب, والخلود في الجنان, والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:-
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:
اعْقِــلِي, إِنْ كُــنْتِ لَمَّــا تَعْقِـلِي, وَلَقَــدْ أَفْلَــحَ مَــنْ كَـانَ عَقَـلْ
يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز:
عَــدِمتُ أُمــًّا ولَــدتْ رِياحــَا جَــاءَتْ بِــهِ مُفَرْكَحــًا فِرْكَاحَـا
تَحْسِــبُ أَنْ قَــدْ وَلَـدَتْ نَجَاحَـا! أَشْـــهَدُ لا يَزِيدُهَـــا فَلاحَـــا
يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ, ومنه قول لبيد:
نَحُــلُّ بِــلادًا, كُلُّهَـا حُـلَّ قَبْلَنَـا وَنَرْجُـو الْفَـلاحَ بَعْـدَ عَـادٍ وَحِـمْيَرِ
يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد:
أَفْلِحَ بِمَـا شِـئْتَ, فَقَـدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ـعْـفِ, وَقَــدْ يُخْــدَعُ الأَرِيــبُ
يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:
وَكُــلُّ فَتًــى سَتَشْــعَبُهُ شَـعُوبٌ وَإِنْ أَثْــرَى, وَإِنْ لاقَــى فَلاحــًا
أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية, وفيمن نـزلَتْ. فكان ابن عباس يقول, كما:-
حدثنا به محمد بن حميد, قال حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « إن الذين كفروا » ، أي بما أنـزِل إليك من ربِّك, وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نـزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به, مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
وقد حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نـزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود, من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم .
وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر, وهو ما:-
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول, ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول .
وقال آخرون بما:-
حُدِّثت به عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ سورة إبراهيم: 28، 29 ] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس, فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون, وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم, ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نـزول هذه السورة - لم يَجُز أن تكون الآية نـزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك, فهي أنّ قول الله جل ثناؤه إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب, وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنـزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نـزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم, فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ, وأنّ ما جاء به فمن عند الله . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ, ولا يحسُب, فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم, ومَصُون علومهم, ومكتوم أخبارهم, وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ, وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [ سورة البقرة: 40 وما بعدها ] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم, فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ, إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه, فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
وأما معنى الكفر في قوله « إن الذين كفروا » فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره, وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء, ولذلك سمَّوا الليل « كافرًا » ، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه, كما قال الشاعر:
فَتَذَكَّــرَا ثَقَــلا رًثِيـدًا, بَعْـدَ مَـا أَلْقَــتْ ذُكــاءُ يَمِينَهَـا فـي كـافِرِ
وقال لبيدُ بن ربيعة:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [ سورة البقرة: 159 ] ، وهم الذين أنـزل الله عز وجل فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
وتأويل « سواءٌ » : معتدل. مأخوذ من التَّساوي, كقولك: « مُتَساوٍ هذان الأمران عندي » , و « هما عِندي سَواءٌ » ، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ سورة الأنفال: 58 ] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله « سَواءٌ عليهم » : معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:
تُغِـذُّ بـيَ الشّـهبَاءُ نَحْـوَ ابـن جَعْفٍر سَــوَاءٌ عَلَيْهَــا لَيْلُهَــا ونَهَارُهَـا
يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ, لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر
وَلَيْــلٍ يَقُـولُ المَـرْءُ مِـنْ ظُلُمَاتِـه سَـوَاءٌ صَحِيحَـاتُ العُيُـونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله: ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع « أيّ » كما تقول: « لا نُبالي أقمتَ أم قعدت » , وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع « أي » . وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله: « سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم » ، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ: « أفعلتَ أم لم تفعل » .
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع « سواء » ، وليس باستفهام, لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال: « أزيد عندك أم عمرو؟ » مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله: « سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم » بمعنى التسوية, أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها, وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي, وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-
حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك, فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ, إذا طبَعْتَه.
فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ, وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف ؟
قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات, ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار, أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك, وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ .
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش, عن مجاهد, قال: القلبُ مثلُ الكفّ, فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج, قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه, فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ, والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع, والطَّبع أيسر من الأقْفَال, والأقفال أشدُّ ذلك كله .
وقال بعضهم: إنما معنى قوله « ختم الله على قُلوبهم » إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق, كما يقال: « إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام » , إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.
قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى, قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع, عن أبي صالح, عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه, فإن تاب وَنـزع واستغفر، صَقَلت قلبه, فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك « الرَّانُ » الذي قال الله جل ثناؤه: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سورة المطففين: 14 ] .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها, وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك, ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم, إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » ، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم, أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه , وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه, فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم, وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه .
وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم, ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
===
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
قال أبو جعفر: وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن « غِشاوةٌ » مرفوعة بقوله « وعلى أبصارهم » ، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ, وأن قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، قد تناهى عند قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ .
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:
أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها, وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله, ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، ثم قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت, وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ, رُوي الخبر عن ابن عباس:
حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، والغشاوة على أبصارهم .
فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار « جعل » ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط « جعل » ، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا, وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على « غشاوة » ، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا, كما قال تعالى ذكره: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، ثم قال: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ ، [ سورة الواقعة: 17- 22 ] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين, ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا ومَــاء بــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا
ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به, ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:
ورأَيْــتُ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحَـــا
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه, ويتأوّل فيه من كتاب الله فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [ سورة الشورى: 24 ] .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع, والغشاوة على البَصَر, قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ، وقال: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] .
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُــكَ إذْ عَيْنــي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطعْـتُ نَفْسِـي أَلُومُهَا
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
هَـلا سَـأَلْتِ بَنِـي ذُبيَـان مَا حَسَبي إذَا الدُّخـانُ تَغَشَّـى الأشـمَط البَرَمَـا
يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود, أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه, وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنـزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته, فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه, مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك, حتى يؤمنوا به, وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .
حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول: « وجَعل على أبصارهم غشاوة » يقول: على أعينهم فلا يُبصرون .
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: هاتان الآيتان إلى وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هم الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ سورة إبراهيم: 28 ] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب, والحَكَم بن أبي العاص .
وحدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن الحسن, قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.
وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:
حدثنا ابنُ حميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
قال أبو جعفر: أما قوله: « ومن الناس » ، فإن في « الناس » وجهين:
أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه, وإنما واحدهم « إنسانٌ » ، وواحدتهم « إنسانة » .
والوجه الآخر: أن يكون أصله « أُناس » أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها, ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان, فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون, كما قيل في لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف: 38 ] ، على ما قد بينا في « اسم الله » الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن « الناس » لغة غير « أناس » , وأنه سمع العرب تصغرهُ « نُوَيْس » من الناس, وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس, فرُدَّ إلى أصله.
وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نـزلت في قوم من أهلِ النِّفاق, وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.
وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب, غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
حدثنا الحسين بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر, عن قتادة في قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، حتى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه في المنافقين .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح, عن مجاهد, قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله.
316 حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، في قوله: ( ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج، في قوله: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه .
وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه, وفشا في دور أهلها الإسلام, وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان, وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا, كما قال جل ثناؤه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [ سورة البقرة: 109 ] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم قد سُمُّوا لنا بأسمائهم, كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حِذارًا على أنفسهم- : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث, وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله- : وصدّقنا بالله .
وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .
وقوله: ( وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة « اليومَ الآخر » ، لأنه آخر يوم, لا يومَ بعده سواه.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم, ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء, ولا زوال؟
قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله, فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة, فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه « اليوم الآخر » , ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله: « وما هم بمؤمنين » ، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان, وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث, وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم, وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم: « آمنا بالله وباليوم الآخر » ، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين, إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.
وقوله « وما هم بمؤمنين » ، يعني بمصدِّقين « فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون. »
القول في تأويل جل ثناؤه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف, فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها, وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها, ومجَرِّعها به كأس عَذابها, ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن, كما قال جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية, قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا, أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا, بعد علمه بوحدانيته, وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون, وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به, وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون, وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن « المُفاعلة » لا تكون إلا من فاعلَيْن, كقولك: ضاربتُ أخاك, وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك, فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني « يُخَادِع » بصورة « يُفَاعل » ، وهو بمعنى « يَفْعَل » ، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب, نظيرَ قولهم: قاتَلك الله, بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال, بل ذلك من « التفاعل » الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى « يفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه, كالذي أخبر في قوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ سورة الحديد: 13 ] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ « يُفاعِل ومُفاعل » . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين, ولكنه إنما قيل: « يُخادِعون الله » عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا, فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم: وَمَا يَخْدَعُونَ يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ
إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا, أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين, ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم, كما قال جل ثناؤه, دون غيرها, نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه, فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه, وتنفي عنه قتلَه صاحبَه, وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: « خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه » ، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين, وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم, لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم, وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم, ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة, والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه, والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ, بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه, ولا عارف باطِّلاعه على ضميره, وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه، بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه, إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به, وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ « المخادع » غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة, ولفظ « خادع » موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه, فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) .
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية, فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه, لأن ذلك تضادٌّ في المعنى, وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
يعني بقوله جل ثناؤه « وما يَشعرون » ، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر, وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
عَقَّـوْا بِسَـهمٍ وَلَـمْ يَشْـعُر بِـهِ أَحَـدٌ ثُـمَّ اسْـتَفَاءُوا وَقَـالُوا: حَـبَّذَا الوَضَحُ
يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة, ومنهم لأنفسهم خديعةٌ, ولها في الآجل مَضرة. كالذي- :
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ، قال: هم المنافقون حتى بلغ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [ سورة المجادلة: 18 ] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم, ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد - استغنى بالخبَر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عُمر بن لَجَأ:
وَسَـــبَّحَتِ الْمَدِينَــةُ, لا تَلُمْهَــا, رَأَتْ قَمَـــرًا بِسُـــوقِهِمُ نَهَــارَا
يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:
هَـلا سَـأَلتِ الْخَـيْلَ يَـا ابْنَـةَ مَالِكٍ? إنْ كُــنْتِ جَاهِلَـةً بِمَـا لَـمْ تَعْلَمِـي
يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم: « يا خَيْلَ الله اركبي » , يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه, فلا هم به موقنون إيقان إيمان, ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر, أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « في قلوبهم مرضٌ » ، أي شكٌّ.
وحدِّثت عن المِنْجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: المرض: النفاق.
حُدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في قلوبهم مرضٌ » يقول: في قلوبهم شكّ.
حُدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « في قلوبهم مَرَضٌ » ، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.
حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله « في قلوبهم مَرَض » قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « في قلوبهم مَرَضٌ » قال: هؤلاء أهلُ النفاق, والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ حتى بلغ ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة, فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنـزيله: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ سورة التوبة: 124، 125 ] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: شكًّا.
حدثني موسى بن هارون, قال: أخبرنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فزادَهُم الله مَرَضًا » ، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة: « فزادهم الله مرضًا » ، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله: « في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ قال: شرًّا إلى شرِّهم, وضلالةً إلى ضلالتهم.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم الله شكًّا .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ « مؤلم » إلى « أليم » ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع, والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِــنْ رَيْحَانَــةَ الــدَّاعي السَّـمِيعُ يُـــؤَرِّقنُي وأَصْحَــابِي هُجُــوعُ
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَتَــرْفَعُ مِــنْ صُـدُورِ شَـمَرْدَلاتٍ يَصُــدُّ وُجُوهَهَــا وَهَــجُ أَلِيــمُ
ويروى « يَصُكُّ » , وإنما الأليم صفةٌ للعذاب, كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم, والألم: الوَجَعُ. كما- :
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع, قال: الأليم، المُوجع.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هُشيم, قال: أخبرنا جُوَيْبر, عن الضحاك قال: الأليمُ, الموجع .
وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشْر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك في قوله « أليم » ، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
===
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
قال أبو جعفر: وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن « غِشاوةٌ » مرفوعة بقوله « وعلى أبصارهم » ، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ, وأن قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، قد تناهى عند قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ .
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:
أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها, وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.
والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله, ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، ثم قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت, وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.
وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ, رُوي الخبر عن ابن عباس:
حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، والغشاوة على أبصارهم .
فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار « جعل » ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط « جعل » ، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا, وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على « غشاوة » ، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا, كما قال تعالى ذكره: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، ثم قال: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ ، [ سورة الواقعة: 17- 22 ] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين, ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:
عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا ومَــاء بــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا
ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به, ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:
ورأَيْــتُ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحَـــا
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه, ويتأوّل فيه من كتاب الله فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [ سورة الشورى: 24 ] .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع, والغشاوة على البَصَر, قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ، وقال: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] .
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُــكَ إذْ عَيْنــي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطعْـتُ نَفْسِـي أَلُومُهَا
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
هَـلا سَـأَلْتِ بَنِـي ذُبيَـان مَا حَسَبي إذَا الدُّخـانُ تَغَشَّـى الأشـمَط البَرَمَـا
يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود, أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه, وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنـزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته, فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه, مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.
وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك, حتى يؤمنوا به, وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .
حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول: « وجَعل على أبصارهم غشاوة » يقول: على أعينهم فلا يُبصرون .
وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: هاتان الآيتان إلى وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هم الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ سورة إبراهيم: 28 ] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب, والحَكَم بن أبي العاص .
وحدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن الحسن, قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.
وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:
حدثنا ابنُ حميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
قال أبو جعفر: أما قوله: « ومن الناس » ، فإن في « الناس » وجهين:
أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه, وإنما واحدهم « إنسانٌ » ، وواحدتهم « إنسانة » .
والوجه الآخر: أن يكون أصله « أُناس » أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها, ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان, فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون, كما قيل في لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف: 38 ] ، على ما قد بينا في « اسم الله » الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن « الناس » لغة غير « أناس » , وأنه سمع العرب تصغرهُ « نُوَيْس » من الناس, وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس, فرُدَّ إلى أصله.
وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نـزلت في قوم من أهلِ النِّفاق, وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.
وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب, غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
حدثنا الحسين بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر, عن قتادة في قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، حتى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه في المنافقين .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح, عن مجاهد, قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله.
316 حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، في قوله: ( ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج، في قوله: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه .
وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه, وفشا في دور أهلها الإسلام, وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان, وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا, كما قال جل ثناؤه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [ سورة البقرة: 109 ] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم قد سُمُّوا لنا بأسمائهم, كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حِذارًا على أنفسهم- : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث, وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله- : وصدّقنا بالله .
وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .
وقوله: ( وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة « اليومَ الآخر » ، لأنه آخر يوم, لا يومَ بعده سواه.
فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم, ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء, ولا زوال؟
قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله, فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة, فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه « اليوم الآخر » , ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله: « وما هم بمؤمنين » ، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان, وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث, وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم, وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم: « آمنا بالله وباليوم الآخر » ، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين, إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.
وقوله « وما هم بمؤمنين » ، يعني بمصدِّقين « فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون. »
القول في تأويل جل ثناؤه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟
قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف, فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها, وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها, ومجَرِّعها به كأس عَذابها, ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن, كما قال جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية, قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا, أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا, بعد علمه بوحدانيته, وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون, وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به, وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون, وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل: قد علمت أن « المُفاعلة » لا تكون إلا من فاعلَيْن, كقولك: ضاربتُ أخاك, وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك, فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟
قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني « يُخَادِع » بصورة « يُفَاعل » ، وهو بمعنى « يَفْعَل » ، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب, نظيرَ قولهم: قاتَلك الله, بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال, بل ذلك من « التفاعل » الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى « يفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه, كالذي أخبر في قوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ سورة الحديد: 13 ] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ « يُفاعِل ومُفاعل » . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين, ولكنه إنما قيل: « يُخادِعون الله » عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا, فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم: وَمَا يَخْدَعُونَ يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ
إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا, أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين, ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم, كما قال جل ثناؤه, دون غيرها, نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه, فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه, وتنفي عنه قتلَه صاحبَه, وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: « خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه » ، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين, وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم, لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم, وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم, ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة, والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه, والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ, بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه, ولا عارف باطِّلاعه على ضميره, وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه، بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه, إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به, وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ « المخادع » غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة, ولفظ « خادع » موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه, فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) .
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية, فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه, لأن ذلك تضادٌّ في المعنى, وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )
يعني بقوله جل ثناؤه « وما يَشعرون » ، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر, وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:
عَقَّـوْا بِسَـهمٍ وَلَـمْ يَشْـعُر بِـهِ أَحَـدٌ ثُـمَّ اسْـتَفَاءُوا وَقَـالُوا: حَـبَّذَا الوَضَحُ
يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة, ومنهم لأنفسهم خديعةٌ, ولها في الآجل مَضرة. كالذي- :
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ، قال: هم المنافقون حتى بلغ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [ سورة المجادلة: 18 ] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم, ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد - استغنى بالخبَر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عُمر بن لَجَأ:
وَسَـــبَّحَتِ الْمَدِينَــةُ, لا تَلُمْهَــا, رَأَتْ قَمَـــرًا بِسُـــوقِهِمُ نَهَــارَا
يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:
هَـلا سَـأَلتِ الْخَـيْلَ يَـا ابْنَـةَ مَالِكٍ? إنْ كُــنْتِ جَاهِلَـةً بِمَـا لَـمْ تَعْلَمِـي
يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم: « يا خَيْلَ الله اركبي » , يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه, فلا هم به موقنون إيقان إيمان, ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر, أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « في قلوبهم مرضٌ » ، أي شكٌّ.
وحدِّثت عن المِنْجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: المرض: النفاق.
حُدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في قلوبهم مرضٌ » يقول: في قلوبهم شكّ.
حُدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « في قلوبهم مَرَضٌ » ، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.
حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله « في قلوبهم مَرَض » قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « في قلوبهم مَرَضٌ » قال: هؤلاء أهلُ النفاق, والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ حتى بلغ ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة, فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنـزيله: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ سورة التوبة: 124، 125 ] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: شكًّا.
حدثني موسى بن هارون, قال: أخبرنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فزادَهُم الله مَرَضًا » ، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة: « فزادهم الله مرضًا » ، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله: « في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ قال: شرًّا إلى شرِّهم, وضلالةً إلى ضلالتهم.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم الله شكًّا .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ « مؤلم » إلى « أليم » ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع, والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
أَمِــنْ رَيْحَانَــةَ الــدَّاعي السَّـمِيعُ يُـــؤَرِّقنُي وأَصْحَــابِي هُجُــوعُ
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:
وَتَــرْفَعُ مِــنْ صُـدُورِ شَـمَرْدَلاتٍ يَصُــدُّ وُجُوهَهَــا وَهَــجُ أَلِيــمُ
ويروى « يَصُكُّ » , وإنما الأليم صفةٌ للعذاب, كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم, والألم: الوَجَعُ. كما- :
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع, قال: الأليم، المُوجع.
حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هُشيم, قال: أخبرنا جُوَيْبر, عن الضحاك قال: الأليمُ, الموجع .
وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشْر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك في قوله « أليم » ، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم: ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء, وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: « يُكَذِّبُونَ » بضم الياء وتشديد الذال, وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة .
وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب, فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين, فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة, وَمَا يَخْدَعُونَ بصنيعهم ذلك إِلا أَنْفُسَهُمْ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وَمَا يَشْعُرُونَ بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، فِي قُلُوبِهِمْ شك النفاق وريبَتُه والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم, دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنـزيله بذلك نـزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم, ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا, وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب, وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سورة المنافقون: 1، 2 ] . والآية الأخرى في المجادلة: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [ سورة المجادلة: 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة: « ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون » لكانت القراءةُ في السورة الأخرى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لمكذِّبون, ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة: « بما كانوا يَكْذِبون » بمعنى الكذِب, وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن « ما » من قول الله تبارك اسمه « بما كانوا يكذبون » ، اسم للمصدر, كما أنّ « أنْ » و « الفعل » اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني, وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل « كان » ليخبر أنه كان فيما مضى, كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه, وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت « كان » في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها, فكأنه قال: « حَسَنًا كان زيد » و « حَسَن كان زَيْدٌ » يُبْطِلُ « كان » , ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل « كان » ، ووقعت « كان » بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ « فعل » و « يفعل » اللتين لا يظهرُ عمل « كان » فيهما. ألا ترى أنك تقول: « يقوم كان زيد » , ولا يظهر عمل « كان » في « يقوم » , وكذلك « قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع « فاعل » تمثيلا بـ « فعل » و « يفعل » , وأعملت مع « فاعل » أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت « كان » الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها, فخطأ عنده أن تكون « كان » مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه, وتأوّل قول الله عز وجل « بما كانوا يكذبون » أنه بمعنى: الذي يكذبونه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ
اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية:
فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي, قال: حدثنا الأعمش, قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله, عن سَلْمان, قال: ما جاء هؤلاء بعدُ, الَّذين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) .
حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك, قال: حدثني أبي, قال: حدثني الأعمش, عن زيد بن وَهب وغيره, عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ .
وقال آخرون بما- :
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسْباط , عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، هم المنافقون. أما « لا تفسدوا في الأرض » ، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الرَّبيع: ( وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض ) يقول: لا تعْصُوا في الأرض قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه, لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض, لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة .
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، نـزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية: « ما جاء هؤلاء بعدُ » ، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا, لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين, وأنّ هذه الآيات فيهم نَـزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه, وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد, كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [ سورة البقرة: 30 ] ، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم, وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه, وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله, وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه, ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم, فقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.
القول في تأويل قوله ثناؤه: قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 )
وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس, الذي- :
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وخالفه في ذلك غيره.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجّاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا, قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون .
قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم, وفيما ركبوا من معصية الله, وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين, وهم عند الله مُسيئون, ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين, وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم, وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد, وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود, فقال جل ثناؤه فيهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به, ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون, ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل, المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه, التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بـِ « الناس » : المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما- :
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) ، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد, قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول, وإنّ ما أنـزل عليه حقّ, وصدِّقوا بالآخرة, وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت .
وإنما أدخِلت الألف واللام في « الناس » ، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [ سورة آل عمران: 173 ] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه, كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي, القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء, فقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [ سورة النساء: 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم, وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.
وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله, والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي- :
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنّى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: « قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء » ، قال: هذا قول المنافقين, يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم, لخِلافهم لدينهم .
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم: ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء, وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: « يُكَذِّبُونَ » بضم الياء وتشديد الذال, وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة .
وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب, فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين, فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة, وَمَا يَخْدَعُونَ بصنيعهم ذلك إِلا أَنْفُسَهُمْ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وَمَا يَشْعُرُونَ بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، فِي قُلُوبِهِمْ شك النفاق وريبَتُه والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم, دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنـزيله بذلك نـزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم, ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا, وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب, وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سورة المنافقون: 1، 2 ] . والآية الأخرى في المجادلة: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [ سورة المجادلة: 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة: « ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون » لكانت القراءةُ في السورة الأخرى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لمكذِّبون, ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة: « بما كانوا يَكْذِبون » بمعنى الكذِب, وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن « ما » من قول الله تبارك اسمه « بما كانوا يكذبون » ، اسم للمصدر, كما أنّ « أنْ » و « الفعل » اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني, وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل « كان » ليخبر أنه كان فيما مضى, كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه, وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت « كان » في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها, فكأنه قال: « حَسَنًا كان زيد » و « حَسَن كان زَيْدٌ » يُبْطِلُ « كان » , ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل « كان » ، ووقعت « كان » بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ « فعل » و « يفعل » اللتين لا يظهرُ عمل « كان » فيهما. ألا ترى أنك تقول: « يقوم كان زيد » , ولا يظهر عمل « كان » في « يقوم » , وكذلك « قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع « فاعل » تمثيلا بـ « فعل » و « يفعل » , وأعملت مع « فاعل » أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت « كان » الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها, فخطأ عنده أن تكون « كان » مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه, وتأوّل قول الله عز وجل « بما كانوا يكذبون » أنه بمعنى: الذي يكذبونه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ
اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية:
فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي, قال: حدثنا الأعمش, قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله, عن سَلْمان, قال: ما جاء هؤلاء بعدُ, الَّذين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) .
حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك, قال: حدثني أبي, قال: حدثني الأعمش, عن زيد بن وَهب وغيره, عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ .
وقال آخرون بما- :
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسْباط , عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، هم المنافقون. أما « لا تفسدوا في الأرض » ، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية.
وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الرَّبيع: ( وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض ) يقول: لا تعْصُوا في الأرض قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه, لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض, لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة .
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، نـزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية: « ما جاء هؤلاء بعدُ » ، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا, لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين, وأنّ هذه الآيات فيهم نَـزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه, وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد, كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [ سورة البقرة: 30 ] ، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم, وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه, وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله, وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه, ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم, فقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.
القول في تأويل قوله ثناؤه: قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 )
وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس, الذي- :
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وخالفه في ذلك غيره.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجّاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا, قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون .
قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم, وفيما ركبوا من معصية الله, وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين, وهم عند الله مُسيئون, ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين, وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم, وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد, وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود, فقال جل ثناؤه فيهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به, ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون, ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل, المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه, التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بـِ « الناس » : المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما- :
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) ، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد, قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول, وإنّ ما أنـزل عليه حقّ, وصدِّقوا بالآخرة, وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت .
وإنما أدخِلت الألف واللام في « الناس » ، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [ سورة آل عمران: 173 ] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ
قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه, كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي, القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء, فقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [ سورة النساء: 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم, وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.
وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله, والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي- :
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنّى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: « قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء » ، قال: هذا قول المنافقين, يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم, لخِلافهم لدينهم .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم, الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته, وفيما جاء به من عند الله, وأمر البعث, لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه, لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه, ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به, ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها, كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، وقال: ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) ، يقول: الجهال, ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول: ولكن لا يعقلون .
وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في « السُّفهاء » ، فشبيه بوجه دخولهما في النَّاسُ في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك, والعلةُ في دخولهما في « السفهاء » نظيرتها في دخولهما في النَّاسُ هنالك، سواء.
والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، ونظائر ذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين, فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ . ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله, خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم, ودرءًا لهم عنها, وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم: « إنا معكم » ، أي إنا معكم على دينكم, وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه, وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي- :
حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) ، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم, قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم, فهم رءوسهم في الكُفر.
حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشرّ قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: المشركون.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل بن عبّاد, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إخوانهم من المشركين, « قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ » .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم, وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين .
فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل: ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم: « خلوتُ بفلان » أكثر وأفشَى من: « خلوتُ إلى فلان » ؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!
قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال « خلوتُ إلى فلان » إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل - إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل: « خلوت به » احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة, والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل « وإذا خلوا بشياطينهم » ، لما في قول القائل: « إذا خلوا بشياطينهم » من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله: « وإذا خلوا إلى شياطينهم » . فهذا أحد الأقوال.
والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، « وإذا خلوا مع شياطينهم » , إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] ، يريد: مع الله. وكما توضع « على » في موضع « من » ، و « في » و « عن » و « الباء » , كما قال الشاعر:
إِذَا رَضِيَــتْ عَــلَيَّ بَنُــو قُشَـيْرٍ لَعَمْــرُ اللــهِ أَعْجَــبَنِي رِضَاهَـا
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ « إلى » ، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم, لا قوله « خَلَوْا » . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع « إلى » غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب, لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ « إلى » في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( 14 )
أجمع أهل التأويل جميعًا - لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه, إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر كما- :
حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: قالوا: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.
حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى [ سورة الحديد: 13، 14 ] . الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به, كما يقال: « إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه » ، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له, أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم ، كما قال عَبِيد بن الأبرص:
سَـائِلْ بِنَـا حُجْـرَ ابْـنَ أُمِّ قَطَـامِ, إذْ ظَلَّـتْ بِـهِ السُّـمْرُ النَّـوَاهِلُ تَلْعَـبُ
فزعموا أن السُّمر - وهي القَنَا- لا لعب منها, ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً, أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] على الجواب, كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به: « أنا الذي خدعتُك » ، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ سورة آل عمران: 54 ] ، و « الله يستهزئ بهم » ، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، وقوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] ، وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [ سورة التوبة: 79 ] ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ سورة التوبة: 67 ] ، وما أشبه ذلك, إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء, ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ سورة الشورى: 40 ] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية, وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية، فهما - وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [ سورة البقرة: 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم, والثاني جزاءٌ لا ظلم, بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ, وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه « يستهزئ بهم » ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة, كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين - أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم, واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده, حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء, وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل, دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل, بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:
حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ » ، قال: يسخر بهم للنقمة منهم .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ « ، إنما هو على وجه الجواب, وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به, أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم, ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. »
ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم, وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم, وعن آخرين أنه أغرقهم, فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك, ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به, ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ, وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء, أفلست تقول: « الله يستهزئ بهم » ، و « سَخِر الله منهم » و « مكر الله بهم » , وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال: « لا » ، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال: « بلى » , قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت: « الله يستهزئ بهم » و « سخر الله منهم » - « يلعب الله بهم » و « يعبث » - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟
فإن قال: « نعم » ! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به, وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول: « يلعب الله بهم » ولا « يعبث » , وقد أقول « يستهزئ بهم » و « يسخر منهم » .
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث, والهزء والسخرية, والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيَمُدُّهُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما- :
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَمُدُّهُمْ » ، يملي لهم.
وقال آخرون بما- :
حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, عن ابن المبارك , عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد: « يمدّهم » ، قال: يزيدُهم .
وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم, ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون: « قد مَددت له وأمددتُ له » في غير هذا المعنى, وهو قول الله تعالى ذكره: وَأَمْدَدْنَاهُمْ [ سورة الطور: 22 ] ، وهذا من: « مددناهم » . قال: ويقال: قد « مَدَّ البحر فهو مادٌّ » و « أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ » . وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو « مدَدْت » , وما كان من الخير فهو « أمْدَدت » . ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو « مَدَدت له » ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: « أمْددت » .
وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو « مَدَدت » بغير ألف, كما تقول: « مدَّ النهر, ومدَّه نهرٌ آخر غيره » ، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف, كقولك: « أمدَّ الجرحُ » , لأن المدّة من غير الجرح, وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: « وَيَمُدُّهُمْ » : أن يكون بمعنى يزيدهم, على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم, كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سورة الأنعام: 110 ] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى « يَمُدُّ لهم » ، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: « مدَّ النهرَ نهرٌ آخر » , بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
القول في تأويل قوله : فِي طُغْيَانِهِمْ
قال أبو جعفر: و « الطُّغيان » « الفُعْلان » , من قولك: « طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا » . إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ سورة العلق: 6، 7 ] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت:
وَدَعَــا اللــهَ دَعْــوَةً لاتَ هَنَّــا بَعْــدَ طُغْيَانِــه, فَظَــلَّ مُشِــيرَا
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) ، أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما- :
حُدِّثت عن المِنْجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: في كفرهم يترددون.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في طُغيانهم » ، في كفرهم.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، أي في ضلالتهم يعمهون.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « في طغيانهم » ، في ضلالتهم.
وحدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله « في طغيانهم » ، قال: طغيانهم , كفرهم وضلالتهم .
القول في تأويل قوله: يَعْمَهُونَ ( 15 )
قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه:
وَمَخْـــفَقِ مِــن لُهْلُــهٍ وَلُهْلُــهِ مِــنْ مَهْمَــهٍ يَجْتَبْنَـهُ فِـي مَهْمَـهِ
أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ
و « العُمَّه » جمع عامِهٍ, وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه, يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها, فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها, فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.
وبنحو ما قلنا في « العَمَه » جاء تأويل المتأولين.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَعْمَهُون » ، يتمادَوْن في كفرهم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتمادَوْن.
حدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتردَّدون.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: قال ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » : المتلدِّد .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال حدثنا ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: يترددون.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.
حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « يَعْمَهُونَ » ، قال: يترددون .
====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم, الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته, وفيما جاء به من عند الله, وأمر البعث, لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه, لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه, ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به, ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها, كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، وقال: ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية.
حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) ، يقول: الجهال, ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول: ولكن لا يعقلون .
وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في « السُّفهاء » ، فشبيه بوجه دخولهما في النَّاسُ في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك, والعلةُ في دخولهما في « السفهاء » نظيرتها في دخولهما في النَّاسُ هنالك، سواء.
والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، ونظائر ذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين, فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ . ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله, خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم, ودرءًا لهم عنها, وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم: « إنا معكم » ، أي إنا معكم على دينكم, وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه, وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي- :
حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) ، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم, قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم, فهم رءوسهم في الكُفر.
حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشرّ قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: المشركون.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل بن عبّاد, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إخوانهم من المشركين, « قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ » .
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم, وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين .
فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل: ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم: « خلوتُ بفلان » أكثر وأفشَى من: « خلوتُ إلى فلان » ؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!
قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال « خلوتُ إلى فلان » إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل - إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل: « خلوت به » احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة, والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل « وإذا خلوا بشياطينهم » ، لما في قول القائل: « إذا خلوا بشياطينهم » من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله: « وإذا خلوا إلى شياطينهم » . فهذا أحد الأقوال.
والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، « وإذا خلوا مع شياطينهم » , إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] ، يريد: مع الله. وكما توضع « على » في موضع « من » ، و « في » و « عن » و « الباء » , كما قال الشاعر:
إِذَا رَضِيَــتْ عَــلَيَّ بَنُــو قُشَـيْرٍ لَعَمْــرُ اللــهِ أَعْجَــبَنِي رِضَاهَـا
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ « إلى » ، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم, لا قوله « خَلَوْا » . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع « إلى » غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب, لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ « إلى » في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( 14 )
أجمع أهل التأويل جميعًا - لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه, إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر كما- :
حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: قالوا: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.
حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى [ سورة الحديد: 13، 14 ] . الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به, كما يقال: « إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه » ، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له, أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم ، كما قال عَبِيد بن الأبرص:
سَـائِلْ بِنَـا حُجْـرَ ابْـنَ أُمِّ قَطَـامِ, إذْ ظَلَّـتْ بِـهِ السُّـمْرُ النَّـوَاهِلُ تَلْعَـبُ
فزعموا أن السُّمر - وهي القَنَا- لا لعب منها, ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً, أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] على الجواب, كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به: « أنا الذي خدعتُك » ، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ سورة آل عمران: 54 ] ، و « الله يستهزئ بهم » ، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، وقوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] ، وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [ سورة التوبة: 79 ] ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ سورة التوبة: 67 ] ، وما أشبه ذلك, إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء, ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ سورة الشورى: 40 ] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية, وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية، فهما - وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [ سورة البقرة: 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم, والثاني جزاءٌ لا ظلم, بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ, وما أشبه ذلك.
وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه « يستهزئ بهم » ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة, كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين - أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم, واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده, حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء, وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل, دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل, بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:
حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ » ، قال: يسخر بهم للنقمة منهم .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ « ، إنما هو على وجه الجواب, وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به, أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم, ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. »
ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم, وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم, وعن آخرين أنه أغرقهم, فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك, ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به, ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ, وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء, أفلست تقول: « الله يستهزئ بهم » ، و « سَخِر الله منهم » و « مكر الله بهم » , وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال: « لا » ، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال: « بلى » , قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت: « الله يستهزئ بهم » و « سخر الله منهم » - « يلعب الله بهم » و « يعبث » - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟
فإن قال: « نعم » ! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به, وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول: « يلعب الله بهم » ولا « يعبث » , وقد أقول « يستهزئ بهم » و « يسخر منهم » .
قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث, والهزء والسخرية, والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيَمُدُّهُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما- :
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَمُدُّهُمْ » ، يملي لهم.
وقال آخرون بما- :
حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, عن ابن المبارك , عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد: « يمدّهم » ، قال: يزيدُهم .
وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم, ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون: « قد مَددت له وأمددتُ له » في غير هذا المعنى, وهو قول الله تعالى ذكره: وَأَمْدَدْنَاهُمْ [ سورة الطور: 22 ] ، وهذا من: « مددناهم » . قال: ويقال: قد « مَدَّ البحر فهو مادٌّ » و « أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ » . وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو « مدَدْت » , وما كان من الخير فهو « أمْدَدت » . ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو « مَدَدت له » ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: « أمْددت » .
وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو « مَدَدت » بغير ألف, كما تقول: « مدَّ النهر, ومدَّه نهرٌ آخر غيره » ، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف, كقولك: « أمدَّ الجرحُ » , لأن المدّة من غير الجرح, وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: « وَيَمُدُّهُمْ » : أن يكون بمعنى يزيدهم, على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم, كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سورة الأنعام: 110 ] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى « يَمُدُّ لهم » ، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: « مدَّ النهرَ نهرٌ آخر » , بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
القول في تأويل قوله : فِي طُغْيَانِهِمْ
قال أبو جعفر: و « الطُّغيان » « الفُعْلان » , من قولك: « طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا » . إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ سورة العلق: 6، 7 ] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت:
وَدَعَــا اللــهَ دَعْــوَةً لاتَ هَنَّــا بَعْــدَ طُغْيَانِــه, فَظَــلَّ مُشِــيرَا
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) ، أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما- :
حُدِّثت عن المِنْجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: في كفرهم يترددون.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في طُغيانهم » ، في كفرهم.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، أي في ضلالتهم يعمهون.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « في طغيانهم » ، في ضلالتهم.
وحدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله « في طغيانهم » ، قال: طغيانهم , كفرهم وضلالتهم .
القول في تأويل قوله: يَعْمَهُونَ ( 15 )
قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه:
وَمَخْـــفَقِ مِــن لُهْلُــهٍ وَلُهْلُــهِ مِــنْ مَهْمَــهٍ يَجْتَبْنَـهُ فِـي مَهْمَـهِ
أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ
و « العُمَّه » جمع عامِهٍ, وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه, يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها, فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها, فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.
وبنحو ما قلنا في « العَمَه » جاء تأويل المتأولين.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَعْمَهُون » ، يتمادَوْن في كفرهم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتمادَوْن.
حدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتردَّدون.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: قال ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » : المتلدِّد .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال حدثنا ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: يترددون.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.
حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « يَعْمَهُونَ » ، قال: يترددون .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى, وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه, والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فنذكر ما قالوا فيه, ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، أي الكفرَ بالإيمان.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، آمنوا ثم كفروا.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذَيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك: « أخذوا الضلالة وتركوا الهدى » - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به, فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ, فكان ذلك منهما شراءً للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى, وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله « اشْتَرَوْا » : « استحبُّوا » , فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى, فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ سورة فصلت: 17 ] ، صرفوا قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل « الباء » مكان « على » , و « على » مكان « الباء » , كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد, وكقول الله جل ثناؤه: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ سورة آل عمران: 75 ] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه « اشْتَرَوا » إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا, واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة
فَقَــدْ أُخْــرِجُ الكَــاعِبَ الْمُسْـتَرَا ةَ مِــنْ خِدْرِهَــا وَأُشِــيعَ الْقِمَـارَ
يعني بالمستراة: المختارة.
وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:
يَـذُبُّ الْقَصَايَـا عَـنْ شَـرَاةٍ كَأَنَّهَـا جَمَـاهِيرُ تَحْـتَ الْمُدْجِنَـاتِ الْهَوَاضِبِ
يعني بالشَّراة: المختارة.
وقال آخر في مثل ذلك:
إِنَّ الشَّـــرَاةَ رُوقَـــةُ الأَمْــوَالِ وَحَــزْرَةُ الْقَلْــبِ خِيَــارُ الْمَـالِ
قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض.
وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا, فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان, واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع, ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام, أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين, وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله: « أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى » هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر, فلذلك قيل لهم « اشتروا » - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له, إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره, وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة البقرة: 108 ] ؟ وذلك هو معنى الشراء, لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق , فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.
القول في تأويل قوله : فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا, لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن, واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة, وبالهُدى الضلالةَ, وبالحفظ الخوفَ, وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب, فخابا وخَسِرا, ذلك هو الخسران المبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة, ومن الجماعة إلى الفُرقة, ومن الأمن إلى الخوف, ومن السُّنة إلى البدعة .
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت ؟
قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك, وخسِر بيعُك, ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم, وإنْ كان ذلك معناه, كما قال الشاعر:
وشَــرُّ الْمَنَايَـا مَيِّـتٌ وَسْـطَ أَهْلِـهِ كَـهُلْكِ الْفَتَـاةِ أَسْـلَمَ الْحَـيَّ حَـاضِرُهُ
يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:
حَـارِثُ! قَـدْ فَرَّجْـتَ عَنِّـي هَمِّـي فَنَـــامَ لَيْــلِي وَتَجَــلَّى غَمِّــي
فوَصف بالنوم الليل, ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:
وَأَعْــوَرَ مـن نَبْهَـانَ أَمَّـا نَهَـارُهُ فَــأَعْمَى, وَأَمَّــا لَيْلُــهُ فَبَصِــيرُ
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار, ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.
القول في تأويل قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
يعني بقوله جل ثناؤه ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى, واستبدالهم الكفرَ بالإيمان, واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.
القول في تأويل قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن « الهاء والميم » من قوله « مثلهم » كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و « الذي » دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء, أو كأنّ أجسامَ هؤلاء, نخلةٌ؟
قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ, وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ سورة الأحزاب: 19 ] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ سورة لقمان: 28 ] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل, فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد, فإنما جاز، لأن المرادَ من الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة, وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا, كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم, كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَــيْفَ تُــوَاصِل مـن أَصْبَحَـتْ خِلالَتُــــهُ كَـــأَبِي مَرْحَـــبِ
يريد: كخلالة أبي مَرْحب, فأسقط « خلالة » , إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد, إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد, لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد, ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب, ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب, وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة, وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله: ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَـا: يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ
يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به, وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله, يعني: ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ سورة الزمر: 33 ] ، وكما قال الشاعر:
فَــإِنَّ الَّـذِي حَـانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَـاؤُهُمْ هُـمُ الْقَـوْمُ كُـلُّ الْقَـوْمِ يَـا أُمَّ خَـالِدِ
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل ذلك فرقَ ما بين « الذي » في الآيتين وفي البيت. لأن « الذي » في قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع, وهو قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، وكذلك « الذي » في البيت, وهو قوله « دماؤهم » . وليست هذه الدلالة في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » . فذلك فَرْق ما بين « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » ، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى « الذي » في قوله: « كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا » بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
حدثنا به محمد بن حُميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به, حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب.
والثالث: ما-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي, فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام, والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر, فصار لا يعرف الحلال من الحرام, ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-
حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُـزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما-
حدثني به بِشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعْمَر, عن قتادة « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني أبو تُميلة, عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما:-
حدثني به محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا » ، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها, فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له, فإذا شك وقع في الظلمة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا » إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك, وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرْك . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ, وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها, وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين, وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه, إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك, فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر, حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء, وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ, حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة, خَمدت النارُ وانطفأت, فذهب نورُه, وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ, حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ سورة المجادلة: 18 ] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون, كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له, فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ سورة الحديد: 13- 15 ] .
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله » : خَمدتْ وانطفأتْ, وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ, كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عَصَيْـتُ إليهَـا الْقَلْـبَ, إِنِّـي لأمرِهَا سَـمِيعٌ, فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابهـا!
يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ, فحذف ذكر « أم غيٌّ » , إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ, أو حِـينَ, نصَّبتْ لَـهُ مِـن خَـذَا آذَانِهَـا وَهْـو جَـانح
يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله: « ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون » دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه, نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و « الهاء والميم » في قوله « ذهب الله بنورهم » ، عائدة على « الهاء والميم » في قوله « مَثَلهم » .
====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى
قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى, وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه, والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فنذكر ما قالوا فيه, ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، أي الكفرَ بالإيمان.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، آمنوا ثم كفروا.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذَيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك: « أخذوا الضلالة وتركوا الهدى » - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به, فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ, فكان ذلك منهما شراءً للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى, وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله « اشْتَرَوْا » : « استحبُّوا » , فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى, فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ سورة فصلت: 17 ] ، صرفوا قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل « الباء » مكان « على » , و « على » مكان « الباء » , كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد, وكقول الله جل ثناؤه: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ سورة آل عمران: 75 ] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه « اشْتَرَوا » إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا, واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة
فَقَــدْ أُخْــرِجُ الكَــاعِبَ الْمُسْـتَرَا ةَ مِــنْ خِدْرِهَــا وَأُشِــيعَ الْقِمَـارَ
يعني بالمستراة: المختارة.
وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:
يَـذُبُّ الْقَصَايَـا عَـنْ شَـرَاةٍ كَأَنَّهَـا جَمَـاهِيرُ تَحْـتَ الْمُدْجِنَـاتِ الْهَوَاضِبِ
يعني بالشَّراة: المختارة.
وقال آخر في مثل ذلك:
إِنَّ الشَّـــرَاةَ رُوقَـــةُ الأَمْــوَالِ وَحَــزْرَةُ الْقَلْــبِ خِيَــارُ الْمَـالِ
قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض.
وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا, فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان, واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع, ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام, أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين, وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله: « أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى » هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر, فلذلك قيل لهم « اشتروا » - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له, إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره, وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة البقرة: 108 ] ؟ وذلك هو معنى الشراء, لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق , فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.
القول في تأويل قوله : فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا, لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن, واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة, وبالهُدى الضلالةَ, وبالحفظ الخوفَ, وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب, فخابا وخَسِرا, ذلك هو الخسران المبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة, ومن الجماعة إلى الفُرقة, ومن الأمن إلى الخوف, ومن السُّنة إلى البدعة .
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت ؟
قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك, وخسِر بيعُك, ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم, وإنْ كان ذلك معناه, كما قال الشاعر:
وشَــرُّ الْمَنَايَـا مَيِّـتٌ وَسْـطَ أَهْلِـهِ كَـهُلْكِ الْفَتَـاةِ أَسْـلَمَ الْحَـيَّ حَـاضِرُهُ
يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:
حَـارِثُ! قَـدْ فَرَّجْـتَ عَنِّـي هَمِّـي فَنَـــامَ لَيْــلِي وَتَجَــلَّى غَمِّــي
فوَصف بالنوم الليل, ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:
وَأَعْــوَرَ مـن نَبْهَـانَ أَمَّـا نَهَـارُهُ فَــأَعْمَى, وَأَمَّــا لَيْلُــهُ فَبَصِــيرُ
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار, ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.
القول في تأويل قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )
يعني بقوله جل ثناؤه ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى, واستبدالهم الكفرَ بالإيمان, واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.
القول في تأويل قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن « الهاء والميم » من قوله « مثلهم » كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و « الذي » دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء, أو كأنّ أجسامَ هؤلاء, نخلةٌ؟
قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ, وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ سورة الأحزاب: 19 ] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ سورة لقمان: 28 ] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل, فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد, فإنما جاز، لأن المرادَ من الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة, وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا, كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم, كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَــيْفَ تُــوَاصِل مـن أَصْبَحَـتْ خِلالَتُــــهُ كَـــأَبِي مَرْحَـــبِ
يريد: كخلالة أبي مَرْحب, فأسقط « خلالة » , إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد, إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد, لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد, ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب, ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب, وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة, وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله: ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:
وَدَاعٍ دَعَـا: يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ
يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به, وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله, يعني: ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ سورة الزمر: 33 ] ، وكما قال الشاعر:
فَــإِنَّ الَّـذِي حَـانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَـاؤُهُمْ هُـمُ الْقَـوْمُ كُـلُّ الْقَـوْمِ يَـا أُمَّ خَـالِدِ
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل ذلك فرقَ ما بين « الذي » في الآيتين وفي البيت. لأن « الذي » في قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع, وهو قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، وكذلك « الذي » في البيت, وهو قوله « دماؤهم » . وليست هذه الدلالة في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » . فذلك فَرْق ما بين « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » ، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى « الذي » في قوله: « كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا » بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:
أحدها- ما:
حدثنا به محمد بن حُميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به, حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب.
والثالث: ما-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي, فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام, والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر, فصار لا يعرف الحلال من الحرام, ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-
حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُـزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما-
حدثني به بِشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعْمَر, عن قتادة « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني أبو تُميلة, عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما:-
حدثني به محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا » ، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها, فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له, فإذا شك وقع في الظلمة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا » إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك, وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرْك . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ, وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها, وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين, وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه, إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك, فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر, حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء, وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ, حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة, خَمدت النارُ وانطفأت, فذهب نورُه, وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ, حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ سورة المجادلة: 18 ] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون, كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له, فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ سورة الحديد: 13- 15 ] .
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله » : خَمدتْ وانطفأتْ, وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ, كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عَصَيْـتُ إليهَـا الْقَلْـبَ, إِنِّـي لأمرِهَا سَـمِيعٌ, فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابهـا!
يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ, فحذف ذكر « أم غيٌّ » , إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ, أو حِـينَ, نصَّبتْ لَـهُ مِـن خَـذَا آذَانِهَـا وَهْـو جَـانح
يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله: « ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون » دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه, نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و « الهاء والميم » في قوله « ذهب الله بنورهم » ، عائدة على « الهاء والميم » في قوله « مَثَلهم » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون, وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه: « صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون » من المؤخّر الذي معناه التقديم, وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين, صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون, أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله: « صُمٌّ بكمٌ عُميٌ » ، يأتيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين:
فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم, فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة, كما قال الشاعر:
لا يَبْعَــدَنْ قَــوْمِي الَّــذِينَ هُــمُ سَـــمُّ الْعُــدَاةِ وَآفَــةُ الْجُــزْرِ
النَّــــازِلِينَ بكـــلِّ مُعْـــتَرَكٍ وَالطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأُزْرِ
فيروي: « النازلون » و « النازلين » ، وكذلك « الطيِّبون » و « الطيِّبين » , على ما وصفتُ من المدح.
والوجهُ الآخر: على نية التكرير من أُولَئِكَ , فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في مُهْتَدِينَ من ذكر أُولَئِكَ ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة, والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعا من الَّذِينَ , لأن الَّذِينَ معرفة و « الصم » نكرة .
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه, فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم, والآخرُ: القطع من « الهاء والميم » اللتين في « تركهم » , أو من ذكرهم في لا يُبْصِرُونَ .
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين, بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم, بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ, وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « صمٌّ بكم عُميٌ » ، عن الخير.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عُمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « بكم » ، هم الخُرس.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله « صم بكْم عُمْي » : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه, عمي عن الحق فلا يبصرونه, بُكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
قال أبو جعفر: وقوله « فهم لا يرجعون » ، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى, وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق, وَبكمَهم عن القيل بهما, وعَماهم عن إبصارهما - أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا, أو يقولوا حقًّا, أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى, أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « فهم لا يَرجعون » ، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فهم لا يَرْجعون » : فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فهم لا يَرْجعون » ، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير, فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه .
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين, وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنـزَل, كما قال الشاعر:
فَلَسْــتُ لإِنْسِــيٍّ وَلَكِــنْ لَمَـلأَكٍ تَـنَزَّلَ مِـن جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ
وكما قال علقمة بن عَبَدَة:
كَــأَنَّهمُ صَــابَتْ عَلَيْهِــمْ سَـحَابَةٌ صَوَاعِقُهَـــا لِطَـــيْرِهِنَّ دَبِيــبُ
فَــلا تَعْـدِلِي بَيْنِـي وَبيـن مُغَمَّـرٍ, سُـقِيتِ رَوَايَـا الْمُـزْنِ حـين تَصُوبُ
يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل « صَيْوِب » ، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً, كما قيل: سيِّد، من ساد يسود, وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي, قال: حدثنا محمد بن عُبيد, قال: حدثنا هارون بن عَنترة, عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله « أو كصيِّب من السماء » ، قال: القطر.
حدثني عباس بن محمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.
حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.
حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي سعدٌ, قال: حدثني عمِّي الحسين, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس، مثله.
وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « أو كصيِّب » ، يقول: المطر.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعمر, عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, وعمرو بن علي, قالا حدّثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ .
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.
حُدِّثت عن المِنجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « أو كصيِّب من السماء » قال: أو كغَيْثٍ من السماء.
حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري, قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء، في قوله: « أو كصيِّب من السماء » ، قال: المطر .
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر, مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته, أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل: « أو كصيِّب » ، و « أو » تأتي بمعنى الشك في الكلام, ولم يقل « وكصيب » بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما, فما وجه ذكر الآخر بِـ « أو » ؟ وقد علمت أنّ « أو » إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه, كقول القائل: « لقيني أخوك أو أبوك » وإنما لقيه أحدُهما, ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما, مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و « أو » - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها, وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:
وَقَــدْ زَعَمَـتْ لَيْـلَى بِـأَنِّي فَـاجِرٌ لِنَفْسِــي تُقَاهَـا أَوْ عَلَيْهَـا فُجُورُهَـا
ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال, ولكن لمّا كانت « أو » في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها, وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:
نَـالَ الْخِلافَـةَ أَوْ كَـانَتْ لَـهُ قَـدَرًا, كَمَـا أَتَـى رَبَّـه مُوسَـى عَـلَى قَدَرِ
وكما قال الآخر:
فَلَــوْ كَــانَ الْبُكَــاءُ يَـرُدُّ شَـيْئًا بَكَــيْتُ عَــلَى بُجَــيْرٍ أَوْ عِفَـاقِ
عَــلَى الْمَــرْأَيْنِ إِذْ مَضَيـا جَمِيعًـا لِشَـــأْنِهما, بِحُـــزْنٍ وَاشْــتِيَاقِ
فقد دلّ بقوله « على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا » أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر, بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه « أو كصيِّب من السماء » . لمّا كان معلومًا أن « أو » دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب « أو » أو ب « الواو » . وكذلك وجه حذف « المثل » من قوله « أو كصيب » . لما كان قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا دالا على أن معناه: كمثل صيب, حَذفَ « المثَل » ، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ, واحدها ظُلمة.
أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم, عن مجاهد, قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عَديّ, عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض, عن ليث, عن مجاهد، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح, قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح .
حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي, قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى, عن أبي الخطاب البصري, عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل, يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها, فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم .
حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد, وهو الذي تسمعون صوته.
حَدَّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك, عن ابن عباس, قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير .
وحدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: الرعد اسم مَلَك, وصوتهُ هذا تسبيحه, فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.
حدثنا الحسن, قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة, عن موسى البزار, عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس, قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح, كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.
حدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة, عن الحكَم, عن مجاهد, قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا عتَّاب بن زياد, عن عكرمة, قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.
وحدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن عكرمة, قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه, فذلك الصوت تسبيحه.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد, قال: الرعد مَلك.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره, أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك .
حدثنا المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي, عن عكرمة, قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكَم بن أبان, عن عكرمة, قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد, قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه .
وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثير, قال: كنت عند أبي الجَلد, إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبتَ تَسألني عن الرّعد, فالرعد الريح . »
حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات, عن أبيه قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد, فقال: الرعد ريح .
قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد, فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب, فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع, فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا, فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه « الرعد » ، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنـزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس, وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله « فيه ظلماتٌ ورَعدٌ » متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البَرْق, فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-
حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي, قال: حدثنا أبو عاصم، - ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، - ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري, عن سَلمة بن كُهيل, عن سعيد بن أشْوَعَ, عن ربيعة بن الأبيض, عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة .
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين, عن أبي مالك, عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك, والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، بذلك.
وقال آخرون: هو ماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثِير, قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق, فالبرق الماء » .
حدثنا إبراهيم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات, عن أبيه, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق, فقال: البرق ماء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ » .
وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك .
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: البرق، مَصْع مَلك .
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن محمد بن مُسلم الطائفي, قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان, ووجه ثَور, ووجه نَسر, ووجه أسد, فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن وهب بن سليمان, عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش, لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد, فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أميةُ بن أبي الصلت:
رَجُـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ وَالنَّسْــرُ لِلأُخْـرَى, وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ
حدثنا الحسين بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس: البرق ملك.
وقد حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء .
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب, كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف, ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب, كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به .
إِذَا هُـــنَّ نَـــازَلْنَ أَقَـــرَانَهُنَّ وَكَـانَ الْمِصَـاعُ بِمَـا فِـي الْجُـوَنْ
يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال: « مَصْعُ ملك » , إذْ كان السحاب لا يماصع الملك, وإنما الرعد هو المماصع له, فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصْعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى « الصاعقة » - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية, فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:
فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » : أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب, فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به, فهم من قولهم به على استقامة, فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .
والآخر: ما-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق » إلى إنّ الله عَلى كل شيء قدير ، أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين, فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ, فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنـزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا, كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما, وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه, وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه, كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه, وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم, ووُلد لهم الجواري, وأصابهم البلاء ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .
والثالث: ما-
حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، كمطر، « فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ » إلى آخر الآية, هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل, مُراءَاةً للناس, فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ, وأما البرقُ فالإيمان, وهم أهل الكتاب.
وإذا أظلم عليهم, فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه .
والرابع: ما-
حدثني به المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، وهو المطر, ضرب مَثله في القرآن يقول: « فيه ظلمات » , يقول: ابتلاء، « ورعد » يقول فيه تخويف, « وبرق » ، « يكاد البرق يخطف أبصارهم » ، يقوول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين, « كلما أضاء لهم مَشوا فيه » . يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا, وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول: « وإذا أظلم عَليهم قاموا » ، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ سورة الحج: 11 ] .
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:
فحدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثلَه.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، في قول الله: « فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ » إلى قوله « وإذا أظلم عليهم قاموا » , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش, قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها, ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, عن قتادة: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، يقول: أجبنُ قوم لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت, والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال: « يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه » ، يقول: هذا المنافق, إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ. « وإذا أظلم عليهم قاموا » يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مَثَلُهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة, فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها, وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة, فكذلك قوله: « كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا » ، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .
قال أبو جعفر:
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان الباهلي, عن الضحاك بن مُزَاحم، « فيه ظلمات » ، قال: أما الظلمات فالضلالة, والبرق الإيمان .
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: « فيه ظلمات ورَعد وبرق » ، فقرأ حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين, كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له - والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق .
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء في قوله: « أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر .
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه, فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته, وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه .
فتأويل الآية إذًا - إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به, حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين, وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر, مكذِّبون, ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون, على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم, أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون, وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه ، كثير خَطرانه ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.
فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه, إما في العاجل وإما في الآجل, أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونـزول النَّقِمَات . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » ، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنـزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار, كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزل فيهم شيء, أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا, إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول . وإن يكن غيرَ صحيح, فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنـزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله « حَذَرَ الموت » ، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.
وإنما نصَب قوله « حَذَرَ الموت » على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: « زُرْتك تَكرمةً لك » , تريد بذلك: من أجل تكرمتك, وكما قال جلّ ثناؤه، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ سورة الأنبياء: 90 ] على التفسير للفعل .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: « حَذَرَ الموت » ، حذرًا من الموت.
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حَذَرًا من الموت, وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله: « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت » ، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت, ويتأولان في ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ سورة المنافقون: 4 ] .
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين, فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين, إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم, إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نـزوله بعَقْوَتهم ، وحُلوله بِساحتهم, إما عاجلا في الدنيا, وإما آجلا في الآخرة, للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها, فقال: « والله مُحيطٌ بالكافرين » ، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « والله مُحيط بالكافرين » ، قال: جامعهم في جهنم .
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-
حدثني به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « والله مُحيط بالكافرين » ، يقول: الله منـزلٌ ذلك بهم من النِّقمة .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد، في قوله: « والله محيط بالكافرين » ، قال: جامِعُهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: « يكاد البرق » ، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
« يَخطفُ أبصَارهم » ، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .
كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: « يكاد البرقُ يخطف أبصارهم » ، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل .
قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍ تَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ
فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.
ثم قال تعالى ذكره: « كلما أضاء لهم » ، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [ سورة الحج: 11 ] .
ويعني بقوله « مشوا فيه » ، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
« وإذا أظلم » ، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله « عليهم » ، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم ، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.
القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.
كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: « ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » ، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته .
وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال - يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: « ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » .
قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: « لذهب بسمعهم وأبصارهم » ، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [ سورة الكهف: 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا .
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « لذهب بسمعهم » فوحَّد, وقال: « وأبصارهم » فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ سورة إبراهيم: 43 ] ، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ سورة القمر: 45 ] ، يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:
كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوا فَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ
فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى « قدير » قادر, كما معنى « عليم » عالم, على ما وصفتُ فيما تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .
القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ .
وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى « اعبُدوا ربكم » : وحِّدوا ربكم. وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: « اعبدوا ربكم » وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: « يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم » ، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم » يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم .
قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.
=====
القول في تأويل قول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون, وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه: « صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون » من المؤخّر الذي معناه التقديم, وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين, صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون, أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله: « صُمٌّ بكمٌ عُميٌ » ، يأتيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين:
فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم, فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة, كما قال الشاعر:
لا يَبْعَــدَنْ قَــوْمِي الَّــذِينَ هُــمُ سَـــمُّ الْعُــدَاةِ وَآفَــةُ الْجُــزْرِ
النَّــــازِلِينَ بكـــلِّ مُعْـــتَرَكٍ وَالطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأُزْرِ
فيروي: « النازلون » و « النازلين » ، وكذلك « الطيِّبون » و « الطيِّبين » , على ما وصفتُ من المدح.
والوجهُ الآخر: على نية التكرير من أُولَئِكَ , فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في مُهْتَدِينَ من ذكر أُولَئِكَ ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة, والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعا من الَّذِينَ , لأن الَّذِينَ معرفة و « الصم » نكرة .
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه, فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم, والآخرُ: القطع من « الهاء والميم » اللتين في « تركهم » , أو من ذكرهم في لا يُبْصِرُونَ .
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين, بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم, بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ, وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « صمٌّ بكم عُميٌ » ، عن الخير.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عُمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « بكم » ، هم الخُرس.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله « صم بكْم عُمْي » : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه, عمي عن الحق فلا يبصرونه, بُكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )
قال أبو جعفر: وقوله « فهم لا يرجعون » ، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى, وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق, وَبكمَهم عن القيل بهما, وعَماهم عن إبصارهما - أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا, أو يقولوا حقًّا, أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى, أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « فهم لا يَرجعون » ، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فهم لا يَرْجعون » : فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فهم لا يَرْجعون » ، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير, فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه .
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين, وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنـزَل, كما قال الشاعر:
فَلَسْــتُ لإِنْسِــيٍّ وَلَكِــنْ لَمَـلأَكٍ تَـنَزَّلَ مِـن جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ
وكما قال علقمة بن عَبَدَة:
كَــأَنَّهمُ صَــابَتْ عَلَيْهِــمْ سَـحَابَةٌ صَوَاعِقُهَـــا لِطَـــيْرِهِنَّ دَبِيــبُ
فَــلا تَعْـدِلِي بَيْنِـي وَبيـن مُغَمَّـرٍ, سُـقِيتِ رَوَايَـا الْمُـزْنِ حـين تَصُوبُ
يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل « صَيْوِب » ، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً, كما قيل: سيِّد، من ساد يسود, وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي, قال: حدثنا محمد بن عُبيد, قال: حدثنا هارون بن عَنترة, عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله « أو كصيِّب من السماء » ، قال: القطر.
حدثني عباس بن محمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.
حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.
حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي سعدٌ, قال: حدثني عمِّي الحسين, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس، مثله.
وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « أو كصيِّب » ، يقول: المطر.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعمر, عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, وعمرو بن علي, قالا حدّثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ .
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.
حُدِّثت عن المِنجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « أو كصيِّب من السماء » قال: أو كغَيْثٍ من السماء.
حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري, قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء، في قوله: « أو كصيِّب من السماء » ، قال: المطر .
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر, مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته, أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل: « أو كصيِّب » ، و « أو » تأتي بمعنى الشك في الكلام, ولم يقل « وكصيب » بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما, فما وجه ذكر الآخر بِـ « أو » ؟ وقد علمت أنّ « أو » إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه, كقول القائل: « لقيني أخوك أو أبوك » وإنما لقيه أحدُهما, ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما, مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و « أو » - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها, وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:
وَقَــدْ زَعَمَـتْ لَيْـلَى بِـأَنِّي فَـاجِرٌ لِنَفْسِــي تُقَاهَـا أَوْ عَلَيْهَـا فُجُورُهَـا
ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال, ولكن لمّا كانت « أو » في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها, وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:
نَـالَ الْخِلافَـةَ أَوْ كَـانَتْ لَـهُ قَـدَرًا, كَمَـا أَتَـى رَبَّـه مُوسَـى عَـلَى قَدَرِ
وكما قال الآخر:
فَلَــوْ كَــانَ الْبُكَــاءُ يَـرُدُّ شَـيْئًا بَكَــيْتُ عَــلَى بُجَــيْرٍ أَوْ عِفَـاقِ
عَــلَى الْمَــرْأَيْنِ إِذْ مَضَيـا جَمِيعًـا لِشَـــأْنِهما, بِحُـــزْنٍ وَاشْــتِيَاقِ
فقد دلّ بقوله « على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا » أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر, بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه « أو كصيِّب من السماء » . لمّا كان معلومًا أن « أو » دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب « أو » أو ب « الواو » . وكذلك وجه حذف « المثل » من قوله « أو كصيب » . لما كان قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا دالا على أن معناه: كمثل صيب, حَذفَ « المثَل » ، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا
قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ, واحدها ظُلمة.
أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:
فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم, عن مجاهد, قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عَديّ, عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض, عن ليث, عن مجاهد، مثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح, قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح .
حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي, قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى, عن أبي الخطاب البصري, عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل, يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها, فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم .
حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد, وهو الذي تسمعون صوته.
حَدَّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك, عن ابن عباس, قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير .
وحدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: الرعد اسم مَلَك, وصوتهُ هذا تسبيحه, فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.
حدثنا الحسن, قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة, عن موسى البزار, عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس, قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح, كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.
حدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة, عن الحكَم, عن مجاهد, قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا عتَّاب بن زياد, عن عكرمة, قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.
وحدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن عكرمة, قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه, فذلك الصوت تسبيحه.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد, قال: الرعد مَلك.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره, أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك .
حدثنا المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي, عن عكرمة, قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكَم بن أبان, عن عكرمة, قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد, قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه .
وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثير, قال: كنت عند أبي الجَلد, إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبتَ تَسألني عن الرّعد, فالرعد الريح . »
حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات, عن أبيه قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد, فقال: الرعد ريح .
قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد, فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب, فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع, فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا, فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه « الرعد » ، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنـزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس, وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله « فيه ظلماتٌ ورَعدٌ » متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البَرْق, فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-
حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي, قال: حدثنا أبو عاصم، - ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، - ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري, عن سَلمة بن كُهيل, عن سعيد بن أشْوَعَ, عن ربيعة بن الأبيض, عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة .
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين, عن أبي مالك, عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك, والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.
وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، بذلك.
وقال آخرون: هو ماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثِير, قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق, فالبرق الماء » .
حدثنا إبراهيم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات, عن أبيه, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق, فقال: البرق ماء.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ » .
وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك .
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: البرق، مَصْع مَلك .
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن محمد بن مُسلم الطائفي, قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان, ووجه ثَور, ووجه نَسر, ووجه أسد, فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن وهب بن سليمان, عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش, لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد, فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أميةُ بن أبي الصلت:
رَجُـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ وَالنَّسْــرُ لِلأُخْـرَى, وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ
حدثنا الحسين بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس: البرق ملك.
وقد حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء .
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب, كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف, ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب, كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به .
إِذَا هُـــنَّ نَـــازَلْنَ أَقَـــرَانَهُنَّ وَكَـانَ الْمِصَـاعُ بِمَـا فِـي الْجُـوَنْ
يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال: « مَصْعُ ملك » , إذْ كان السحاب لا يماصع الملك, وإنما الرعد هو المماصع له, فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصْعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى « الصاعقة » - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية, فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:
فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » : أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب, فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به, فهم من قولهم به على استقامة, فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .
والآخر: ما-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق » إلى إنّ الله عَلى كل شيء قدير ، أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين, فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ, فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنـزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا, كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما, وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه, وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه, كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه, وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم, ووُلد لهم الجواري, وأصابهم البلاء ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .
والثالث: ما-
حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، كمطر، « فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ » إلى آخر الآية, هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل, مُراءَاةً للناس, فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ, وأما البرقُ فالإيمان, وهم أهل الكتاب.
وإذا أظلم عليهم, فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه .
والرابع: ما-
حدثني به المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، وهو المطر, ضرب مَثله في القرآن يقول: « فيه ظلمات » , يقول: ابتلاء، « ورعد » يقول فيه تخويف, « وبرق » ، « يكاد البرق يخطف أبصارهم » ، يقوول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين, « كلما أضاء لهم مَشوا فيه » . يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا, وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول: « وإذا أظلم عَليهم قاموا » ، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ سورة الحج: 11 ] .
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:
فحدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثلَه.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، في قول الله: « فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ » إلى قوله « وإذا أظلم عليهم قاموا » , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش, قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها, ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, عن قتادة: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، يقول: أجبنُ قوم لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت, والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال: « يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه » ، يقول: هذا المنافق, إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ. « وإذا أظلم عليهم قاموا » يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مَثَلُهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة, فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها, وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة, فكذلك قوله: « كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا » ، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .
قال أبو جعفر:
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان الباهلي, عن الضحاك بن مُزَاحم، « فيه ظلمات » ، قال: أما الظلمات فالضلالة, والبرق الإيمان .
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: « فيه ظلمات ورَعد وبرق » ، فقرأ حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين, كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له - والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق .
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء في قوله: « أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر .
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه, فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته, وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه .
فتأويل الآية إذًا - إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به, حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين, وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر, مكذِّبون, ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون, على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم, أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون, وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه ، كثير خَطرانه ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.
فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه, إما في العاجل وإما في الآجل, أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونـزول النَّقِمَات . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » ، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنـزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار, كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزل فيهم شيء, أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا, إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول . وإن يكن غيرَ صحيح, فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنـزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله « حَذَرَ الموت » ، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.
وإنما نصَب قوله « حَذَرَ الموت » على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: « زُرْتك تَكرمةً لك » , تريد بذلك: من أجل تكرمتك, وكما قال جلّ ثناؤه، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ سورة الأنبياء: 90 ] على التفسير للفعل .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: « حَذَرَ الموت » ، حذرًا من الموت.
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حَذَرًا من الموت, وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله: « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت » ، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت, ويتأولان في ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ سورة المنافقون: 4 ] .
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين, فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين, إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم, إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نـزوله بعَقْوَتهم ، وحُلوله بِساحتهم, إما عاجلا في الدنيا, وإما آجلا في الآخرة, للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها, فقال: « والله مُحيطٌ بالكافرين » ، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « والله مُحيط بالكافرين » ، قال: جامعهم في جهنم .
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-
حدثني به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « والله مُحيط بالكافرين » ، يقول: الله منـزلٌ ذلك بهم من النِّقمة .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد، في قوله: « والله محيط بالكافرين » ، قال: جامِعُهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: « يكاد البرق » ، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
« يَخطفُ أبصَارهم » ، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .
كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: « يكاد البرقُ يخطف أبصارهم » ، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل .
قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍ تَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ
فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.
ثم قال تعالى ذكره: « كلما أضاء لهم » ، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [ سورة الحج: 11 ] .
ويعني بقوله « مشوا فيه » ، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
« وإذا أظلم » ، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله « عليهم » ، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم ، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.
القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.
كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: « ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » ، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته .
وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال - يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: « ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » .
قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: « لذهب بسمعهم وأبصارهم » ، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [ سورة الكهف: 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا .
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « لذهب بسمعهم » فوحَّد, وقال: « وأبصارهم » فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ سورة إبراهيم: 43 ] ، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ سورة القمر: 45 ] ، يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:
كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوا فَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ
فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى « قدير » قادر, كما معنى « عليم » عالم, على ما وصفتُ فيما تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .
القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ .
وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى « اعبُدوا ربكم » : وحِّدوا ربكم. وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: « اعبدوا ربكم » وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: « يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم » ، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم » يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم .
قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: « لعلكم تتقون » : تُطيعون.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « لعلكم تتقون » ، قال: لعلكم تطيعون .
قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: « لعلكم تتقون » ؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر:
وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـا نَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ
فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْ كَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ
يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن « لعل » في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا
وقوله: « الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا » مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره - بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته - تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار .
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « الذي جَعل لكم الأرض فراشًا » ، قال: مهادًا لكم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » ، أي مهادًا.
القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:
سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:
سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ
يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « والسّماء بناء » , فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: « والسماءَ بناءً » ، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:
أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ? فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ
يعني بقوله: « ولستَ له بند » ، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند .
كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .
حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا » ، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أشباهًا .
حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك .
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي .
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:
فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل .
ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: « وأنتمْ تعلمون » أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا .
ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله .
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وأنتم تعلمون » ، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل .
قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ سورة الزخرف: 87 ] ، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ سورة يونس: 31 ] .
فالذي هو أولى بتأويل قوله: « وأنتم تعلمون » - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل ثناؤه عني بقوله: « وأنتم تعلمون » أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ - وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فأتوا بسورَة من مثله » .
فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فأتوا بسورة من مثله » ، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: « فأتوا بسورة من مثله » ، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: « فأتوا بسورة من مثله » ، مثلِ القرآن.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « فأتوا بسورة مِنْ مثله » ، قال: « مثله » مثلِ القرآن .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: « فأتُوا بسورة من مثله » ، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم .
قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ سورة يونس: 38 ] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله « ، فأتوا بسورة من مثله » ، من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا - وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )
فقال ابن عباس بما:
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « وادعوا شُهداءكم من دون الله » ، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وادعوا شُهداءكم » ، ناس يَشهدون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وادعوا شهداءكم » ، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: « شهداءكم » عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن .
وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله « فادعوا » ، يعني: استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر:
فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْ دَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ
يعني بقوله: « دعوْا يالكعب » ، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم .
وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان - يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.
فإذا كانت « الشهداء » محتملةً أن تكون جمعَ « الشهيد » الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن ؟
ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ سورة الإسراء: 88 ] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: « وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين » . يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن لم تفعلوا » ، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله: « ولن تفعلوا » ، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا » ، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا » ، فقد بَين لكم الحق .
القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « فاتقوا النار » ، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: « التي وَقودها الناس والحجارة » ، يعني بقوله: « وَقُودُها » حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.
فإذا ضَمت الواو من « الوقود » كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.
فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟
قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.
كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: « وقُودها الناس والحجارة » ، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: « وقودها الناسُ والحجارة » ، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة » ، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: « وقودها الناس والحجارة » ، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم .
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء .
=====
القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: « لعلكم تتقون » : تُطيعون.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « لعلكم تتقون » ، قال: لعلكم تطيعون .
قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: « لعلكم تتقون » ؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟
قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر:
وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـا نَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ
فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْ كَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ
يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن « لعل » في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا
وقوله: « الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا » مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره - بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته - تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار .
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « الذي جَعل لكم الأرض فراشًا » ، قال: مهادًا لكم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » ، أي مهادًا.
القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:
سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:
سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ
يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « والسّماء بناء » , فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض.
حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: « والسماءَ بناءً » ، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:
أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ? فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ
يعني بقوله: « ولستَ له بند » ، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند .
كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .
حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا » ، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أشباهًا .
حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك .
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي .
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:
فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل .
ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: « وأنتمْ تعلمون » أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا .
ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله .
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وأنتم تعلمون » ، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل .
قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ سورة الزخرف: 87 ] ، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ سورة يونس: 31 ] .
فالذي هو أولى بتأويل قوله: « وأنتم تعلمون » - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل ثناؤه عني بقوله: « وأنتم تعلمون » أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ - وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فأتوا بسورَة من مثله » .
فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فأتوا بسورة من مثله » ، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: « فأتوا بسورة من مثله » ، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: « فأتوا بسورة من مثله » ، مثلِ القرآن.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « فأتوا بسورة مِنْ مثله » ، قال: « مثله » مثلِ القرآن .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: « فأتُوا بسورة من مثله » ، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم .
قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ سورة يونس: 38 ] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله « ، فأتوا بسورة من مثله » ، من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟
قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا - وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )
فقال ابن عباس بما:
حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « وادعوا شُهداءكم من دون الله » ، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وادعوا شُهداءكم » ، ناس يَشهدون.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وادعوا شهداءكم » ، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: « شهداءكم » عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن .
وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله « فادعوا » ، يعني: استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر:
فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْ دَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ
يعني بقوله: « دعوْا يالكعب » ، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم .
وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان - يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.
فإذا كانت « الشهداء » محتملةً أن تكون جمعَ « الشهيد » الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن ؟
ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ سورة الإسراء: 88 ] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: « وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين » . يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن لم تفعلوا » ، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله: « ولن تفعلوا » ، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا » ، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا » ، فقد بَين لكم الحق .
القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « فاتقوا النار » ، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: « التي وَقودها الناس والحجارة » ، يعني بقوله: « وَقُودُها » حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.
فإذا ضَمت الواو من « الوقود » كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.
فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟
قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.
كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: « وقُودها الناس والحجارة » ، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: « وقودها الناسُ والحجارة » ، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء .
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة » ، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: « وقودها الناس والحجارة » ، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم .
حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن « الكافر » في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.
فمعنى قوله إذًا: « أعدت للكافرين » ، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق .
كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « أعدت للكافرين » ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
القول في تأويل قوله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: أما قوله تعالى: « وبشِّر » ، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ, إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.
وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه, وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة, فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي, وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً, دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك ، ودون من أظهر تصديقك ، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة, والجنة: البستان.
وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره « : تجري من تحتها الأنهار » . لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض, فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.
كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن مُرَّة, عن أبي عُبيدة, عن مسروق, قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها, وثمرها أمثالُ القِلال, كلما نُـزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى, وماؤها يَجري في غير أخدود .
حدثنا مجاهد [ بن موسى ] ، قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مِسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبي عُبيدة، بنحوه.
وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة - فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.
فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد, فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها, على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.
وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده, كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كلما رُزقوا منها » : من الجنات, والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.
ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: « هذا الذي رُزقنا من قَبل » .
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: « هذا الذي رُزقنا من قبل » ، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة, فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، أي في الدنيا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » ، يقولون: ما أشبهه به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل » ، في الدنيا, قال: « وأتوا به مُتشابهًا » ، يعرفونه .
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نـزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.
كما حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة, قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها, وثمرُها مثل القلال, كلما نُـزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى .
قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة, لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُـزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: « وأتوا به متشابهًا » ، لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وقال بعضهم: بل قالوا: « هذا الذي رزقنا من قبل » ، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم بن الحسين, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير, قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها, ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف .
وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها, الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله, كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها, فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.
فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا .
فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟
قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منـزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه, لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل, ومن جنسه في السِّمَات والألوان - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا .
القول في تأويل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: والهاء في قوله: « وأتُوا به مُتشابهًا » عائدة على الرزق, فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.
وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل « المتشابه » في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شُميل, قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله: « متشابهًا » قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة, فأتى على هذه الآية: « وأتُوا به مُتشابهًا » قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, قال: قال الحسن: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل .
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » ، أي خيارًا لا رَذلَ فيه, وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها, وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ, وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى, قال حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأتوا به متشابهًا » في اللَّوْن والمرْأى, وليس يُشبه الطعمَ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » مِثلَ الخيار.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه , مثلَ الخيار من القثّاء.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وأتوا به متشابهًا » ، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا الثوري , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « متشابهًا » ، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » ، مثل الخيار .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، قوله: « متشابهًا » قال: اللونُ والطعمُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزّاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ويحيى بن سعيد: « متشابهًا » قالا في اللون والطعم.
وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يشبه ثمر الدنيا, غير أن ثمر الجنة أطيبُ.
وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ - ح- وحدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا مؤمَّل, قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش, عن أبي ظَبْيَان, عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
حدثنا عباس بن محمد, قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش, عن أبي ظبيان، عن ابن عباس, قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا, التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان, قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا, « وأتوا به متشابهًا » يعرفونه, وليس هو مثله في الطعم .
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية, تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر, والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون, مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا, يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا, فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.
وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: « وأتوا به متشابهًا » .
ويُسأل من أنكر ذلك ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه, فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟
فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.
وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك.
قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر, فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك, فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:
حدثني به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب, ومحمد بن جعفر, عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري, قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة, وعلّمه صَنعةَ كل شيء, فثمارُكم هذه من ثمار الجنة, غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ .
وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.
قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.
القول في تأويل قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في « لهم » عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والهاء والألف اللتان في « فيها » عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.
والأزواج جمع زَوْج, وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.
وأما قوله: « مطهَّرة » فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ, مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.
كما حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: « أزْواج مطهرة » . يقول: مطهرة من القذَر والأذى.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان ، عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: « ولهم فيها أزواج مطهرة » قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابنُ المبارك, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، إي والله من الإثم والأذى.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر, ومن كل مأثم.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد, قال: المطهرة من الحيض والحبَل.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة » قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة, ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ, فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة .
حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: من الحيض.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال: من الولد والحيض والغائط والبول, وذكر أشياءَ من هذا النحو .
القول في تأويل قوله: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 25 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله « وهم » ، عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والهاء والألف في « فيها » على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: « إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً » إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
وقال آخرون بما:
حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها » . قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .
وقال آخرون بما:
حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما » - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا .
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.
كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « مثلا ما بعوضة » ، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.
حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله .
قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه .
- خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: « إن الله لا يستحيي » ، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى « إن الله لا يستحيي » : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ سورة الأحزاب: 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء .
وأما معنى قوله: « أن يضرب مثلا » ، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ سورة الروم: 28 ] ، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:
وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْ لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا
بمعنى: وصف أخماس.
والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:
كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلا وَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ
يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به .
وأما « ما » التي مع « مثل » ، فإنها بمعنى « الذي » , لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن « ما » لما كانت في محل نصْب بقوله « يضرب » ، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَا حُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا
فعُرِّبت « غيرُ » بإعراب « من » . والعرب تفعل ذلك خاصة في « من » و « ما » ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.
وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر « بين » و « إلى » , إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في « ما » الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: « مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة » و « له عشرون ما ناقة فجملا » ، و « هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا » ، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: « ما بين كذا إلى كذا » , ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله: « ما بعوضة فما فوقها » .
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ « ما » التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون « بعوضةً » منصوبةً بـ « يضرب » , وأن تكون « ما » الثانية التي في « فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على « ما » .
وأما تأويل قوله « فما فوقها » : فما هو أعظم منها - عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى - على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله « فما فوقها » ، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: « نعم, وفوقَ ذاك » , يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في « ما » ، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فأما الذين آمنوا » ، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: « فيعلمون أنه الحق من ربهم » . يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.
كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده .
وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله .
« وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا » .
قال أبو جعفر: وقوله « وأما الذين كفرُوا » ، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-
حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم » الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وتأويل قوله: « ماذا أراد الله بهذا مثلا » ، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. « فذا » ، الذي مع « ما » ، في معنى « الذي » ، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: « يضلّ به كثيرًا » ، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في « به » من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يضلّ به كثيرًا » يعني المنافقين, « ويهدي به كثيرًا » ، يعني المؤمنين .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و « يهدي به » ، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: « يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا » .
====
القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن « الكافر » في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.
فمعنى قوله إذًا: « أعدت للكافرين » ، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق .
كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « أعدت للكافرين » ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
القول في تأويل قوله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: أما قوله تعالى: « وبشِّر » ، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ, إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.
وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه, وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة, فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي, وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً, دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك ، ودون من أظهر تصديقك ، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة, والجنة: البستان.
وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره « : تجري من تحتها الأنهار » . لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض, فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.
كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن مُرَّة, عن أبي عُبيدة, عن مسروق, قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها, وثمرها أمثالُ القِلال, كلما نُـزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى, وماؤها يَجري في غير أخدود .
حدثنا مجاهد [ بن موسى ] ، قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مِسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبي عُبيدة، بنحوه.
وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة - فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.
فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد, فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها, على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.
وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده, كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كلما رُزقوا منها » : من الجنات, والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.
ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: « هذا الذي رُزقنا من قَبل » .
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: « هذا الذي رُزقنا من قبل » ، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة, فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، أي في الدنيا.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » ، يقولون: ما أشبهه به.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل » ، في الدنيا, قال: « وأتوا به مُتشابهًا » ، يعرفونه .
قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نـزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.
كما حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة, قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها, وثمرُها مثل القلال, كلما نُـزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى .
قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة, لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُـزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: « وأتوا به متشابهًا » ، لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وقال بعضهم: بل قالوا: « هذا الذي رزقنا من قبل » ، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم بن الحسين, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير, قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها, ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف .
وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها, الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله, كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها, فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.
فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا .
فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟
قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منـزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه, لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل, ومن جنسه في السِّمَات والألوان - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا .
القول في تأويل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا
قال أبو جعفر: والهاء في قوله: « وأتُوا به مُتشابهًا » عائدة على الرزق, فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.
وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل « المتشابه » في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شُميل, قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله: « متشابهًا » قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة, فأتى على هذه الآية: « وأتُوا به مُتشابهًا » قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, قال: قال الحسن: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل .
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » ، أي خيارًا لا رَذلَ فيه, وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها, وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ, وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى, قال حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأتوا به متشابهًا » في اللَّوْن والمرْأى, وليس يُشبه الطعمَ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » مِثلَ الخيار.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه , مثلَ الخيار من القثّاء.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وأتوا به متشابهًا » ، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا الثوري , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « متشابهًا » ، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » ، مثل الخيار .
وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، قوله: « متشابهًا » قال: اللونُ والطعمُ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزّاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ويحيى بن سعيد: « متشابهًا » قالا في اللون والطعم.
وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يشبه ثمر الدنيا, غير أن ثمر الجنة أطيبُ.
وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ - ح- وحدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا مؤمَّل, قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش, عن أبي ظَبْيَان, عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
حدثنا عباس بن محمد, قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش, عن أبي ظبيان، عن ابن عباس, قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا, التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان, قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا, « وأتوا به متشابهًا » يعرفونه, وليس هو مثله في الطعم .
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية, تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر, والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون, مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا, يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا, فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.
وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: « وأتوا به متشابهًا » .
ويُسأل من أنكر ذلك ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه, فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟
فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.
وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك.
قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر, فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك, فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:
حدثني به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب, ومحمد بن جعفر, عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري, قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة, وعلّمه صَنعةَ كل شيء, فثمارُكم هذه من ثمار الجنة, غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ .
وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.
قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.
القول في تأويل قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في « لهم » عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والهاء والألف اللتان في « فيها » عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.
والأزواج جمع زَوْج, وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.
وأما قوله: « مطهَّرة » فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ, مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.
كما حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: « أزْواج مطهرة » . يقول: مطهرة من القذَر والأذى.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان ، عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: « ولهم فيها أزواج مطهرة » قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابنُ المبارك, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، إي والله من الإثم والأذى.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر, ومن كل مأثم.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد, قال: المطهرة من الحيض والحبَل.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة » قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة, ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ, فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة .
حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.
حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: من الحيض.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال: من الولد والحيض والغائط والبول, وذكر أشياءَ من هذا النحو .
القول في تأويل قوله: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 25 )
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله « وهم » ، عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والهاء والألف في « فيها » على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم .
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما:
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: « إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً » إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
وقال آخرون بما:
حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها » . قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .
وقال آخرون بما:
حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما » - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا .
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.
كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « مثلا ما بعوضة » ، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.
حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله .
قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه .
- خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله: « إن الله لا يستحيي » ، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى « إن الله لا يستحيي » : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ سورة الأحزاب: 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء .
وأما معنى قوله: « أن يضرب مثلا » ، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ سورة الروم: 28 ] ، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:
وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْ لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا
بمعنى: وصف أخماس.
والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:
كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلا وَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ
يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به .
وأما « ما » التي مع « مثل » ، فإنها بمعنى « الذي » , لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟
قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن « ما » لما كانت في محل نصْب بقوله « يضرب » ، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:
وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَا حُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا
فعُرِّبت « غيرُ » بإعراب « من » . والعرب تفعل ذلك خاصة في « من » و « ما » ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.
وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر « بين » و « إلى » , إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في « ما » الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: « مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة » و « له عشرون ما ناقة فجملا » ، و « هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا » ، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: « ما بين كذا إلى كذا » , ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله: « ما بعوضة فما فوقها » .
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ « ما » التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون « بعوضةً » منصوبةً بـ « يضرب » , وأن تكون « ما » الثانية التي في « فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على « ما » .
وأما تأويل قوله « فما فوقها » : فما هو أعظم منها - عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى - على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله « فما فوقها » ، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: « نعم, وفوقَ ذاك » , يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في « ما » ، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فأما الذين آمنوا » ، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: « فيعلمون أنه الحق من ربهم » . يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.
كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده .
وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله .
« وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا » .
قال أبو جعفر: وقوله « وأما الذين كفرُوا » ، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-
حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم » الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وتأويل قوله: « ماذا أراد الله بهذا مثلا » ، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. « فذا » ، الذي مع « ما » ، في معنى « الذي » ، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: « يضلّ به كثيرًا » ، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في « به » من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-
كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يضلّ به كثيرًا » يعني المنافقين, « ويهدي به كثيرًا » ، يعني المؤمنين .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و « يهدي به » ، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: « يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 )
وتأويل ذلك ما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، هم المنافقون .
وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وما يُضِلّ به إلا الفاسقين » ، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وما يضل به إلا الفاسقين » ، هم أهل النفاق .
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سورة الكهف: 50 ] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [ سورة البقرة: 59 ] ، أي بما بعُدوا عن أمري . فمعنى قوله: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم, فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه, وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.
وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم ، وبقوله: ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر . فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها, واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث, والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته, وإنكارهم ذلك, وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب, مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم, الذي وصفه في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . ونقضُهم ذلك, تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نـزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل, ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الذين كفروا سواء عليهم ، وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، فيهم أنـزِلت, وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نـزلتْ, فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم, ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم, أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله, وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [ سورة آل عمران: 187 ] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه, وتركُهم العمل به.
وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها, لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نـزلتْ، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله . يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ سورة البقرة: 40 ] . وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر - ما يدل على أن قوله: « الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه » مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله, الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنـزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس, وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه, هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ . [ سورة الأعراف: 169 ] .
وأما قوله: « من بعد ميثاقه » ، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا, والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه » ، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق, فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع، في قوله: « الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون » ، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، أظهرُوا هذه الخلال الست جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وَعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل, وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا .
القول في تأويل قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ سورة محمد: 22 ] . وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها, والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
« وأن » التي مع « يوصل » في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في « به » : فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في « به » ، هي كناية عن ذكر « أن يوصل » . وبما قلنا في تأويل قوله: « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » ، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:
حدثنا بشر بن معاذ, قال حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل » ، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .
وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض .
قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك, غير أنها - وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 )
وتأويل ذلك ما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، هم المنافقون .
وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وما يُضِلّ به إلا الفاسقين » ، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وما يضل به إلا الفاسقين » ، هم أهل النفاق .
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سورة الكهف: 50 ] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [ سورة البقرة: 59 ] ، أي بما بعُدوا عن أمري . فمعنى قوله: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم, فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-
فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه, وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.
وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم ، وبقوله: ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر . فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها, واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث, والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته, وإنكارهم ذلك, وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب, مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم, الذي وصفه في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . ونقضُهم ذلك, تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نـزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل, ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الذين كفروا سواء عليهم ، وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، فيهم أنـزِلت, وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نـزلتْ, فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم, ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم, أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله, وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [ سورة آل عمران: 187 ] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه, وتركُهم العمل به.
وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها, لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نـزلتْ، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله . يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ سورة البقرة: 40 ] . وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر - ما يدل على أن قوله: « الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه » مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله, الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنـزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس, وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه, هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ . [ سورة الأعراف: 169 ] .
وأما قوله: « من بعد ميثاقه » ، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا, والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه » ، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق, فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع، في قوله: « الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون » ، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، أظهرُوا هذه الخلال الست جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وَعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل, وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا .
القول في تأويل قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ سورة محمد: 22 ] . وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها, والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
« وأن » التي مع « يوصل » في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في « به » : فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في « به » ، هي كناية عن ذكر « أن يوصل » . وبما قلنا في تأويل قوله: « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » ، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:
حدثنا بشر بن معاذ, قال حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل » ، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .
وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض .
قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك, غير أنها - وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )
قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله- من رحمته, كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا, كما قال جرير بن عطية:
إِنَّ سَــلِيطًا فِــي الْخَسَــارِ إِنَّـهُ أَوْلادُ قَــــوْمٍ خُـــلِقُوا أَقِنَّـــهْ
يعني بقوله: « في الخسار » ، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى « أولئك هم الخاسرون » : أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها, فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما:
حُدِّثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل « خاسر » , فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.
القول في تأويل قول الله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما:
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ سورة غافر: 11 ] ، قال: هي كالتي في البقرة: « كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » .
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس, قال: حدثنا عَبْثَر, قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا, ثم أمَتَّنَا, ثم أَحْيَيْتَنَا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم, عن حُصين, عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد في قوله: « كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم, ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ, ثم يحييكم. وقوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، مثلها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني, عن ابن عباس، قال: هو قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: حدثني أبو العالية، في قول الله: « كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، يقول: حين لم يكونوا شيئًا, ثم أحياهم حين خلقهم, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان, فهو قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » .
وقال آخرون بما:
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السُّدّيّ, عن أبي صالح: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » ، قال: يحييكم في القبر, ثم يميتكم.
وقال آخرون بما:
حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان .
وقال بعضهم بما:
حدثني به يونس, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ . قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، حتى بلغ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: وذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا [ سورة النساء: 1 ] ، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا ، وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [ سورة الزمر: 6 ] ، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ، وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ سورة الأحزاب: 7 ] . قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ سورة المائدة: 7 ] .
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.
فأما وجه تأويل من تأول قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، أي لم تكونوا شيئًا, فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ, وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ, وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:
فَـأَحْيَيْتَ لِـي ذكْري, وَمَا كُنْتُ خَامِلا وَلَكِـنَّ بَعْـضَ الذِّكْـرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ
يريد بقوله: « فأحييتَ لي ذكري » ، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: « وكنتم أمواتًا » لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم, وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون, ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم, وتعفِّي آثاركم, وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد, فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله « وكنتم أمواتًا » ، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد, لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ . وقوله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه, وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة, ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها, فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.
وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك, وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم, وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم, وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث, وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات, وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته, وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف - فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية, وقوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث, فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة, فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه, والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ, كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح, فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً, نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » الآية, القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: « وكنتم أمواتًا » أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم, ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون, ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة, ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك, كما قال: « ثم إليه تُرجعون » ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم, ثم يحشرهم لموقف الحساب, كما قال جل ذكره: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [ سورة المعارج: 43 ] وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ سورة يس: 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل, ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [ لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية, محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم, ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم, ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه, وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه, وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه, وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما, ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل, وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة, منبهًا لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة, وقضائه في المستكبرين عن الإنابة, إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم , ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك, أنه لله رسولٌ مبعوث, وأن ما جاءهم به فمن عنده, إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم, ومصون ما في كتبهم, وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا, ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا, فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم, فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به, وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته- : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ سورة البقرة: 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم, وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا » .
وقوله: « هو » مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله: « كيف تكفرون بالله » . ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و « ما » بمعنى « الذي » .
فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً, ثم يميتكم, ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب, وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و « كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام , كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله, كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [ سورة التكوير: 26 ] . وحل قوله: « وكنتم أمواتًا فأحياكم » محلّ الحال. وفيه ضميرُ « قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن « فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية « قد » , كما قال ثناؤه: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ سورة النساء: 90 ] ، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.
وبنحو الذي قلنا في قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، كان قتادة يقول:
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: « ثم استوى إلى السَّماء » .
فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أَقُــولُ وَقَـدْ قَطَعْـنَ بِنَـا شَـرَوْرَى سَــوَامِدَ, وَاسْـتَوَيْنَ مِـنَ الضَّجُـوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: « واستوين من الضجوع » ، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. [ وقال بعضهم: قوله: « ثم استوى إلى السماء » يعني به: استوت ] . كما قال الشاعر:
أَقُـولُ لَـهُ لَمَّـا اسْـتَوَى فِـي تُرَابِهِ عَـلَى أَيِّ دِيـنٍ قَتَّـلَ النَّـاسَ مُصْعَبُ
وقال بعضهم: « ثم استوى إلى السماء » ، عمدَ لها . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « ثم استوى إلى السماء » . يقول: ارتفع إلى السماء .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء .
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
طَــالَ عَــلَى رَسْـمِ مَهْـدَدٍ أبَـدُهْ وَعَفَـــا وَاسْــتَوَى بِــهِ بَلَــدُه
يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: « ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن » ، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: « ثم استوى إلى السماء » ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله « استوى » أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [ سورة فصلت: 11 ] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم: إنما قال: « استوى إلى السّماء » ، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: « اعمل هذا الثوب » ، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله « فسواهن » فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ .
كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فسوَّاهن سبع سموات » يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
وقال جل ذكره: « فسواهن » ، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع ، وقد قال قبلُ: « ثم استوى إلى السماء » فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [ سورة المزمل: 18 ] ، كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: « فسواهن » ، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر:
فَـــلا مُزْنَــةٌ وَدَقَــتْ وَدْقَهَــا وَلا أَرْضَ أَبْقَـــــل إِبْقَالَهَــــا
وكما قال أعشى بني ثعلبة:
فَإِمَّـــا تَـــرَيْ لِمَّتِــي بُــدِّلَتْ فَـــإِنَّ الْحَـــوَادِثَ أَزْرَى بِهَــا
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق .
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟
قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-
حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين .
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: « ثم استوى إلى السماء » بمعنى الجميع ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: « فسوَّاهن » ، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله « فسواهن » ، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك ؟
قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .
فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ سورة النحل: 15 ] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [ سورة فصلت: 9- 11 ] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ سورة الأعراف: 54 ] . ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [ سورة الأنبياء: 30 ] .
وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء » . قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: « ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض .
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فسواهنّ سبعَ سموات » قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء - « ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات » , ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [ سورة النازعات: 30 ] .
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه .
=====
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )
قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله- من رحمته, كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا, كما قال جرير بن عطية:
إِنَّ سَــلِيطًا فِــي الْخَسَــارِ إِنَّـهُ أَوْلادُ قَــــوْمٍ خُـــلِقُوا أَقِنَّـــهْ
يعني بقوله: « في الخسار » ، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى « أولئك هم الخاسرون » : أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها, فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما:
حُدِّثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل « خاسر » , فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.
القول في تأويل قول الله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما:
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ سورة غافر: 11 ] ، قال: هي كالتي في البقرة: « كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » .
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس, قال: حدثنا عَبْثَر, قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا, ثم أمَتَّنَا, ثم أَحْيَيْتَنَا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم, عن حُصين, عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم .
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد في قوله: « كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم, ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ, ثم يحييكم. وقوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، مثلها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني, عن ابن عباس، قال: هو قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .
حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: حدثني أبو العالية، في قول الله: « كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، يقول: حين لم يكونوا شيئًا, ثم أحياهم حين خلقهم, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان, فهو قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » .
وقال آخرون بما:
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السُّدّيّ, عن أبي صالح: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » ، قال: يحييكم في القبر, ثم يميتكم.
وقال آخرون بما:
حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان .
وقال بعضهم بما:
حدثني به يونس, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ . قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، حتى بلغ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: وذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا [ سورة النساء: 1 ] ، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا ، وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [ سورة الزمر: 6 ] ، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ، وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ سورة الأحزاب: 7 ] . قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ سورة المائدة: 7 ] .
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.
فأما وجه تأويل من تأول قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، أي لم تكونوا شيئًا, فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ, وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ, وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:
فَـأَحْيَيْتَ لِـي ذكْري, وَمَا كُنْتُ خَامِلا وَلَكِـنَّ بَعْـضَ الذِّكْـرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ
يريد بقوله: « فأحييتَ لي ذكري » ، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: « وكنتم أمواتًا » لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم, وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون, ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم, وتعفِّي آثاركم, وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد, فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله « وكنتم أمواتًا » ، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد, لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ . وقوله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه, وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة, ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها, فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.
وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك, وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم, وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم, وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث, وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات, وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته, وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف - فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية, وقوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث, فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة, فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه, والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ, كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح, فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً, نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » الآية, القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: « وكنتم أمواتًا » أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم, ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون, ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة, ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك, كما قال: « ثم إليه تُرجعون » ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم, ثم يحشرهم لموقف الحساب, كما قال جل ذكره: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [ سورة المعارج: 43 ] وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ سورة يس: 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل, ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [ لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية, محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم, ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم, ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه, وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه, وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه, وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما, ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل, وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة, منبهًا لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة, وقضائه في المستكبرين عن الإنابة, إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم , ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك, أنه لله رسولٌ مبعوث, وأن ما جاءهم به فمن عنده, إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم, ومصون ما في كتبهم, وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا, ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا, فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم, فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به, وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته- : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ سورة البقرة: 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم, وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا » .
وقوله: « هو » مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله: « كيف تكفرون بالله » . ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و « ما » بمعنى « الذي » .
فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً, ثم يميتكم, ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب, وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و « كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام , كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله, كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [ سورة التكوير: 26 ] . وحل قوله: « وكنتم أمواتًا فأحياكم » محلّ الحال. وفيه ضميرُ « قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن « فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية « قد » , كما قال ثناؤه: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ سورة النساء: 90 ] ، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.
وبنحو الذي قلنا في قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، كان قتادة يقول:
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: « ثم استوى إلى السَّماء » .
فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أَقُــولُ وَقَـدْ قَطَعْـنَ بِنَـا شَـرَوْرَى سَــوَامِدَ, وَاسْـتَوَيْنَ مِـنَ الضَّجُـوعِ
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: « واستوين من الضجوع » ، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. [ وقال بعضهم: قوله: « ثم استوى إلى السماء » يعني به: استوت ] . كما قال الشاعر:
أَقُـولُ لَـهُ لَمَّـا اسْـتَوَى فِـي تُرَابِهِ عَـلَى أَيِّ دِيـنٍ قَتَّـلَ النَّـاسَ مُصْعَبُ
وقال بعضهم: « ثم استوى إلى السماء » ، عمدَ لها . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « ثم استوى إلى السماء » . يقول: ارتفع إلى السماء .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء .
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
طَــالَ عَــلَى رَسْـمِ مَهْـدَدٍ أبَـدُهْ وَعَفَـــا وَاسْــتَوَى بِــهِ بَلَــدُه
يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: « ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن » ، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: « ثم استوى إلى السماء » ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله « استوى » أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟
قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [ سورة فصلت: 11 ] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم: إنما قال: « استوى إلى السّماء » ، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: « اعمل هذا الثوب » ، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله « فسواهن » فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ .
كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فسوَّاهن سبع سموات » يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
وقال جل ذكره: « فسواهن » ، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع ، وقد قال قبلُ: « ثم استوى إلى السماء » فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [ سورة المزمل: 18 ] ، كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: « فسواهن » ، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر:
فَـــلا مُزْنَــةٌ وَدَقَــتْ وَدْقَهَــا وَلا أَرْضَ أَبْقَـــــل إِبْقَالَهَــــا
وكما قال أعشى بني ثعلبة:
فَإِمَّـــا تَـــرَيْ لِمَّتِــي بُــدِّلَتْ فَـــإِنَّ الْحَـــوَادِثَ أَزْرَى بِهَــا
وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق .
فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟
قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-
حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين .
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: « ثم استوى إلى السماء » بمعنى الجميع ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: « فسوَّاهن » ، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله « فسواهن » ، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك ؟
قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .
فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ سورة النحل: 15 ] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [ سورة فصلت: 9- 11 ] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ سورة الأعراف: 54 ] . ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [ سورة الأنبياء: 30 ] .
وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء » . قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: « ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض .
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فسواهنّ سبعَ سموات » قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء - « ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات » , ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [ سورة النازعات: 30 ] .
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )
يعني بقوله جل جلاله: « وهو » نفسَه، وبقوله: « بكل شيء عليم » أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم.
وقوله: « عليم » بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه .
القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة : أن تأويل قوله: « وإذ قال ربك » ، وقال ربك؛ وأن « إذ » من الحروف الزوائد, وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر:
فَــإِذَا وَذَلِــكَ لامَهَــاهَ لِذِكْــرهِ وَالدَّهْــرُ يُعْقِــب صَالِحًــا بِفَسَـادِ
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ:
حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَـلا كَمَـا تَطْـرُدُ الْجَمَّالَـةُ الشُّـرُدَا
وقال: معناه، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن « إذ » حرف يأتي بمعنى الجزاء, ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل, وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل .
وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله - في بيت الأسود بن يعفر: أن « إذا » بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه, وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله « ذلك » إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه - « لامهاه لذكره » يعني لا طعمَ له ولا فضلَ, لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:
حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَــــــــلا .................
لو أسقط منه « إذا » بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله. « أسلكوهم شلا » على معنى المحذوف, فاستغنى عن ذكره بدلالة « إذا » عليه, فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب:
فَـــإِنَّ الْمَنِيَّــةَ مَــنْ يَخْشَــهَا فَسَــــوْفَ تُصَادِفُـــه أَيْنَمـــا
وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: « أتيتك من قبلُ ومن بعدُ » . تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في « إذا » كما يقول القائل: « إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا » . يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.
ومن ذلك قول الآخر:
فَــإِذَا وَذَلِــكَ لا يَضُـرُّكَ ضُـرُّهُ فِــي يَــوْم أسـألُ نَـائِلا أو أنْكَـدُ
نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: « وإذ قالَ ربك للملائكة » ، لو أبْطِلت « إذ » وحُذِفت من الكلام, لاستحال عن معناه الذي هو به ، وفيه « إذ » .
فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ « إذ » , إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه ؟
قيل له: قد ذكرنا فيما مضى : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, وسخّر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا, وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا, وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: « وإذ قال رَبُّك للملائكة » على المعنى المقتضَى بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ, واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً .
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم, أكثرُ من أن يحصى, من ذلك قول الشاعر:
أجِـــدَّك لَــنْ تَــرَى بِثُعَيْلِبَــاتٍ وَلا بَيْـــدَانَ نَاجِيـــةَ ذَمُـــولا
وَلا مُتَـــدَاركٍ وَالشَّــمْسُ طِفْــلٌ بِبَعْــضِ نَوَاشــغ الـوَادي حُـمُولا
فقال: « ولا متداركٍ » , ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه ، ولا حرف مُعرَب إعرابَه، فيردّ « متدارك » عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ « لن » يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف, وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا . لأن قوله:
أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات
بمعنى: « أجدّك لستَ بِرَاءٍ » , فردّ « متداركًا » على موضع « ترى » ، كأنْ « لست » و « الباء » موجودتان في الكلام. فكذلك قوله: « وإذ قالَ رَبُّك » ، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه, وكانَ قوله: « وإذ قال ربك للملائكة » مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ « إذْ » على موضع وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ . لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي, وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية « إذ » ، عطف بـ « إذ » على موضعها في الأولى ، كما وصفنا من قول الشاعر في « ولا متدارك » .
القول في تأويل قوله : لِلْمَلائِكَةِ
قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ ، غيرَ أن أحدَهم ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز, وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من الملائكة, فيحذفون الهمز منه, ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح, لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا, فقالوا: ملائكة.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها, فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال, وبهمزها في أخرى, كقولهم: « رأيت فلانا » فجرى كلامهم بهمز « رأيت » ثم قالوا: « نرى وترى ويرى » , فجرى كلامهم في « يفعل » ونظائرها بترك الهمز, حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في « ملك وملائكة » , جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم, وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر:
فلَسْــتَ لإِنْسِــيٍّ ولكــنْ لِمَـلأَكٍ تَحَـدَّرَ مِـنْ جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ
وقد يقال في واحدهم، مألك, فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب, وشأمَل وشمأل, وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم
« مألك » أن يجمع إذا جمع على ذلك « مآلك » , ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا, ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة, كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة, ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:
وَفِيهِمَــا مِــنْ عِبَــادِ اللَّـهِ قَـوْمٌ مَلائِــك ذُلِّلــوا وهُــمُ صِعَــابُ
وأصل الملأك: الرسالة, كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:
أَبْلِــغِ النُّعْمَــانَ عَنِّــي مَلأَكًــا إِنَّـهُ قَـدْ طَـالَ حَبْسِـي وَانْتِظَـارِي
وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
وَغُــــلامٍ أَرْسَــــلَتْه أُمُّـــه بـــأَلُوكٍ فَبَذَلْنَـــا مَــا سَــأَلْ
فهذا من « ألكت » ، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
أَلِكْــنِي يَــا عُيَيْــنَ إِلَيْـكَ قَـوْلا سَــأَهْدِيه, إِلَيْــكَ إِلَيْــكَ عَنِّــي
وقال عبدُ بني الحَسْحَاس:
أَلِكْـنِي إِلَيْهَـا عَمْـرَكَ اللَّـهُ يَـا فَتًـى بِآيَــةِ مــا جــاءتْ إِلَيْنَـا تَهَادِيَـا
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة, لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
اختلف أهل التأويل في قوله: « إني جاعل » , فقال بعضهم: إني فاعل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن, وأبي بكر - يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة, قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » قال لهم: إني فاعل .
وقال آخرون: إني خالق.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, قال: كل شيء في القرآن « جَعَل » ، فهو خلق .
قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » : أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي « مكة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ابن سابط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت, فهي أوّل من طاف به, وهي « الأرضُ » التي قال الله: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » , وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام .
القول في تأويل قوله : خَلِيفَةً
والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ سورة يونس: 14 ] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة, لأنه خلف الذي كان قبله, فقام بالأمر مقامه, فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى .
وكان ابن إسحاق يقول بما:
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم .
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.
فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلَفًا؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة, فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها, فلذلك قال: « إني جاعل في الأرض خليفة » .
فعلى هذا القول: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، الآية, قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء, وخلق الجن يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة, فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض .
وقال آخرون في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا, وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم, ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.
ونظيرٌ له ما:-
حدثني به محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن ابن سابط في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق .
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن, ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه, نظيرَ ما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة: « إني جاعل في الأرض خليفة » . قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه, ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله - لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.
وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه, فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا, وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم, وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.
والذي دعا المتأوِّلين قولَه: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا عنْ غيره . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك - وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم, وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك, وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا.
وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » ، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه, بل قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء, فقالت: يا ربنا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ . كما قال ابن مسعود وابن عباس, ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته, فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك, أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك, ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما:
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِنّ » ، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال: « قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد » ! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه, ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فقالت الملائكة مجيبين له: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء » ، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت, فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل - أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره, ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه, ثم يقول: لست شيئًا! - للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك, ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه, أتت النفخة من قبل رأسه, فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده, فأعجبه ما رأى من حسنه, فذهب لينهضَ فلم يقدرْ, فهو قول الله: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ سورة الإسراء: 11 ] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: « الحمد لله ربّ العالمين » بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا, خلقتني من نار وخلقته من طين - يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة - يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم, قالوا: سُبْحَانَكَ ، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب, إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ - أيها الملائكة خاصة - إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، ولا يعلمه غيري، وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ - يقول: ما تُظهرون - وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية, يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع , وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم, وأنّ كرامته لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم : « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك, ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون, وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه, وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا .
وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية, وهو ما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ, استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا, وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا, فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون, وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه, اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا، « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل, فعاذَت منه، فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا - واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير . وذلك حين يقول: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ سورة الحجر: 28 ] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ سورة ص: 71- 72 ] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا, فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس, فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة, فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا, فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح, قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس, فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله, فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ, فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة, فذلك حين يقول: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ سورة الأنبياء: 37 ] . فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ - أي استكبرَ - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك - يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل - . قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال الله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . قال قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فهذا الذي أبدَوْا, « وأعلم ما كنتم تكتمون » , يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .
قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل, وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.
وأما موافقته إياه في آخره, فهو قولهم في تأويل قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك, تبرِّيًا من علم الغيب - : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
وهذا إذا تدبّره ذو الفهم, علم أن أوّله يفسد آخرَه, وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء, فقالت الملائكة لربها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها, فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به, فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه, كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خَلفٌ من التأويل, ودعوَى على الله ما لا يجور أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة, وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » . فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: « إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء » , لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء, فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منـزلتَهم، وكرامتِهم عليه, فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، على ظنٍّ منها - على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم - إذ علّم آدم الأسماء كلها - : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم, وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية .
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم, ما:-
حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن سابط, قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، قال: يعنون الناس .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] .
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ, وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله.
وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل, وهو ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « أتجعل فيها من يُفسد فيها » قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء, فذلك قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها » .
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل, منهم الحسن البصري:
حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن - وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم, فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . فلما أخذ في خلق آدم, هَمست الملائكة فيما بينها, فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق, فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا, ففضّله عليهم, فعلموا أنهم ليسوا بخير منه, فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه, لأنا كنا قَبله, وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ « علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه, فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة - وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - لقولهم: « ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا » . قال: علمه اسم كل شيء, هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش, وجعل يسمي كل شيء باسمه, وعرضت عليه كل أمة، فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض: « نحن خير منه وأعلم » .
وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماءُ, وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » الآية .
[ حدثنا محمد بن جرير، قال ] : حدثت عن عمار بن الحسن, قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله- : ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: وذلك حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » . قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , فقال للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: « لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم » ، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .
وقال ابن زيد بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب, قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا, وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق, إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [ سورة الإنسان: 1 ] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! - لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ . فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم, وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له, قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قال: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .
وقال ابن إسحاق بما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به, لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض, ثم قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم, فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم, مما يكون في الأرض, مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص: 69- 72 ] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي - تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله, وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس, فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض, من طين لازب من حَمَإٍ مسنون, بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار, ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم, وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِلَى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة ص: 75- 85 ] .
قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية, أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم, وقد علمه الأسماء كلها, فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا, فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة . .
=====
القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )
يعني بقوله جل جلاله: « وهو » نفسَه، وبقوله: « بكل شيء عليم » أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم.
وقوله: « عليم » بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه .
القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة : أن تأويل قوله: « وإذ قال ربك » ، وقال ربك؛ وأن « إذ » من الحروف الزوائد, وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر:
فَــإِذَا وَذَلِــكَ لامَهَــاهَ لِذِكْــرهِ وَالدَّهْــرُ يُعْقِــب صَالِحًــا بِفَسَـادِ
ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ:
حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَـلا كَمَـا تَطْـرُدُ الْجَمَّالَـةُ الشُّـرُدَا
وقال: معناه، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن « إذ » حرف يأتي بمعنى الجزاء, ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل, وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل .
وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله - في بيت الأسود بن يعفر: أن « إذا » بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه
وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه, وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله « ذلك » إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه - « لامهاه لذكره » يعني لا طعمَ له ولا فضلَ, لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:
حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَــــــــلا .................
لو أسقط منه « إذا » بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله. « أسلكوهم شلا » على معنى المحذوف, فاستغنى عن ذكره بدلالة « إذا » عليه, فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب:
فَـــإِنَّ الْمَنِيَّــةَ مَــنْ يَخْشَــهَا فَسَــــوْفَ تُصَادِفُـــه أَيْنَمـــا
وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: « أتيتك من قبلُ ومن بعدُ » . تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في « إذا » كما يقول القائل: « إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا » . يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.
ومن ذلك قول الآخر:
فَــإِذَا وَذَلِــكَ لا يَضُـرُّكَ ضُـرُّهُ فِــي يَــوْم أسـألُ نَـائِلا أو أنْكَـدُ
نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: « وإذ قالَ ربك للملائكة » ، لو أبْطِلت « إذ » وحُذِفت من الكلام, لاستحال عن معناه الذي هو به ، وفيه « إذ » .
فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ « إذ » , إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه ؟
قيل له: قد ذكرنا فيما مضى : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, وسخّر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا, وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا, وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: « وإذ قال رَبُّك للملائكة » على المعنى المقتضَى بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ, واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً .
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم, أكثرُ من أن يحصى, من ذلك قول الشاعر:
أجِـــدَّك لَــنْ تَــرَى بِثُعَيْلِبَــاتٍ وَلا بَيْـــدَانَ نَاجِيـــةَ ذَمُـــولا
وَلا مُتَـــدَاركٍ وَالشَّــمْسُ طِفْــلٌ بِبَعْــضِ نَوَاشــغ الـوَادي حُـمُولا
فقال: « ولا متداركٍ » , ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه ، ولا حرف مُعرَب إعرابَه، فيردّ « متدارك » عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ « لن » يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف, وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا . لأن قوله:
أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات
بمعنى: « أجدّك لستَ بِرَاءٍ » , فردّ « متداركًا » على موضع « ترى » ، كأنْ « لست » و « الباء » موجودتان في الكلام. فكذلك قوله: « وإذ قالَ رَبُّك » ، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه, وكانَ قوله: « وإذ قال ربك للملائكة » مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ « إذْ » على موضع وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ . لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي, وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية « إذ » ، عطف بـ « إذ » على موضعها في الأولى ، كما وصفنا من قول الشاعر في « ولا متدارك » .
القول في تأويل قوله : لِلْمَلائِكَةِ
قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ ، غيرَ أن أحدَهم ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز, وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من الملائكة, فيحذفون الهمز منه, ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح, لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا, فقالوا: ملائكة.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها, فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال, وبهمزها في أخرى, كقولهم: « رأيت فلانا » فجرى كلامهم بهمز « رأيت » ثم قالوا: « نرى وترى ويرى » , فجرى كلامهم في « يفعل » ونظائرها بترك الهمز, حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في « ملك وملائكة » , جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم, وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر:
فلَسْــتَ لإِنْسِــيٍّ ولكــنْ لِمَـلأَكٍ تَحَـدَّرَ مِـنْ جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ
وقد يقال في واحدهم، مألك, فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب, وشأمَل وشمأل, وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم
« مألك » أن يجمع إذا جمع على ذلك « مآلك » , ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا, ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة, كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة, ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:
وَفِيهِمَــا مِــنْ عِبَــادِ اللَّـهِ قَـوْمٌ مَلائِــك ذُلِّلــوا وهُــمُ صِعَــابُ
وأصل الملأك: الرسالة, كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:
أَبْلِــغِ النُّعْمَــانَ عَنِّــي مَلأَكًــا إِنَّـهُ قَـدْ طَـالَ حَبْسِـي وَانْتِظَـارِي
وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
وَغُــــلامٍ أَرْسَــــلَتْه أُمُّـــه بـــأَلُوكٍ فَبَذَلْنَـــا مَــا سَــأَلْ
فهذا من « ألكت » ، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
أَلِكْــنِي يَــا عُيَيْــنَ إِلَيْـكَ قَـوْلا سَــأَهْدِيه, إِلَيْــكَ إِلَيْــكَ عَنِّــي
وقال عبدُ بني الحَسْحَاس:
أَلِكْـنِي إِلَيْهَـا عَمْـرَكَ اللَّـهُ يَـا فَتًـى بِآيَــةِ مــا جــاءتْ إِلَيْنَـا تَهَادِيَـا
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة, لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
اختلف أهل التأويل في قوله: « إني جاعل » , فقال بعضهم: إني فاعل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن, وأبي بكر - يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة, قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » قال لهم: إني فاعل .
وقال آخرون: إني خالق.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, قال: كل شيء في القرآن « جَعَل » ، فهو خلق .
قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » : أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي « مكة » .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ابن سابط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت, فهي أوّل من طاف به, وهي « الأرضُ » التي قال الله: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » , وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام .
القول في تأويل قوله : خَلِيفَةً
والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ سورة يونس: 14 ] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة, لأنه خلف الذي كان قبله, فقام بالأمر مقامه, فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى .
وكان ابن إسحاق يقول بما:
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم .
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.
فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلَفًا؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة, فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها, فلذلك قال: « إني جاعل في الأرض خليفة » .
فعلى هذا القول: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، الآية, قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء, وخلق الجن يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة, فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض .
وقال آخرون في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا, وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم, ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.
ونظيرٌ له ما:-
حدثني به محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن ابن سابط في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق .
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن, ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه, نظيرَ ما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة: « إني جاعل في الأرض خليفة » . قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه, ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله - لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.
وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه, فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا, وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم, وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.
والذي دعا المتأوِّلين قولَه: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا عنْ غيره . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك - وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم, وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك, وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا.
وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » ، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه, بل قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء, فقالت: يا ربنا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ . كما قال ابن مسعود وابن عباس, ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته, فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك, أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك, ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما:
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِنّ » ، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال: « قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد » ! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه, ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فقالت الملائكة مجيبين له: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء » ، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت, فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل - أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره, ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه, ثم يقول: لست شيئًا! - للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك, ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه, أتت النفخة من قبل رأسه, فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده, فأعجبه ما رأى من حسنه, فذهب لينهضَ فلم يقدرْ, فهو قول الله: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ سورة الإسراء: 11 ] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: « الحمد لله ربّ العالمين » بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا, خلقتني من نار وخلقته من طين - يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة - يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم, قالوا: سُبْحَانَكَ ، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب, إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ - أيها الملائكة خاصة - إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، ولا يعلمه غيري، وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ - يقول: ما تُظهرون - وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية, يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع , وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم, وأنّ كرامته لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم : « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك, ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون, وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه, وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا .
وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية, وهو ما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ, استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا, وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا, فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون, وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه, اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا، « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل, فعاذَت منه، فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا - واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير . وذلك حين يقول: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ سورة الحجر: 28 ] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ سورة ص: 71- 72 ] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا, فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس, فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة, فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا, فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح, قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس, فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله, فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ, فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة, فذلك حين يقول: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ سورة الأنبياء: 37 ] . فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ - أي استكبرَ - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك - يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل - . قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال الله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . قال قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فهذا الذي أبدَوْا, « وأعلم ما كنتم تكتمون » , يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .
قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل, وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.
وأما موافقته إياه في آخره, فهو قولهم في تأويل قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك, تبرِّيًا من علم الغيب - : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
وهذا إذا تدبّره ذو الفهم, علم أن أوّله يفسد آخرَه, وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء, فقالت الملائكة لربها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها, فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به, فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه, كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خَلفٌ من التأويل, ودعوَى على الله ما لا يجور أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة, وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » . فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: « إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء » , لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء, فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منـزلتَهم، وكرامتِهم عليه, فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، على ظنٍّ منها - على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم - إذ علّم آدم الأسماء كلها - : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم, وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية .
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم, ما:-
حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن سابط, قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، قال: يعنون الناس .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] .
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ, وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله.
وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل, وهو ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « أتجعل فيها من يُفسد فيها » قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء, فذلك قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها » .
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل, منهم الحسن البصري:
حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن - وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم, فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . فلما أخذ في خلق آدم, هَمست الملائكة فيما بينها, فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق, فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا, ففضّله عليهم, فعلموا أنهم ليسوا بخير منه, فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه, لأنا كنا قَبله, وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ « علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه, فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة - وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - لقولهم: « ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا » . قال: علمه اسم كل شيء, هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش, وجعل يسمي كل شيء باسمه, وعرضت عليه كل أمة، فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض: « نحن خير منه وأعلم » .
وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماءُ, وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » الآية .
[ حدثنا محمد بن جرير، قال ] : حدثت عن عمار بن الحسن, قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله- : ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: وذلك حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » . قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , فقال للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: « لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم » ، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .
وقال ابن زيد بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب, قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا, وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق, إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [ سورة الإنسان: 1 ] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! - لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ . فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم, وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له, قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قال: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .
وقال ابن إسحاق بما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به, لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض, ثم قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم, فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم, مما يكون في الأرض, مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص: 69- 72 ] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي - تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله, وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس, فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض, من طين لازب من حَمَإٍ مسنون, بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار, ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم, وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِلَى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة ص: 75- 85 ] .
قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية, أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم, وقد علمه الأسماء كلها, فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا, فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة . .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
وقال ابن جُريج بما:-
حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم, فقالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت - على التعجب منها- : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: أن ذلك كائن منهم - وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .
وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم, وإنما سألوه ليعلموا, وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله, لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ.
وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك, فكأنهم قالوا: « يا رب خبرنا » ، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » ، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على وجه التعجب, فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنـزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.
وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت - في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء, فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟
قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض - قبل آدم- من الجنّ, فقالت لربها: « أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون » ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم, لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك, فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف, لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ, ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع, ولا فيما قاله ابن زيد.
فأولى التأويلات - إذ كان الأمر كذلك- بالآية, ما كان عليه من ظاهر التنـزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء, فمن أجل ذلك قالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه, كما قال الشاعر:
فَــلا تَدْفِنُــونِي إِنَّ دَفْنِـي مُحَـرَّمٌ عَلَيْكُــمْ, وَلَكِـن خَـامِرِي أُمَّ عَـامِرِ
فحذف قوله « دعوني للتي يقال لها عند صَيدها » : خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها » ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف, فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قال أبو جعفر: أما قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر, كما قال جل ثناؤه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ سورة النصر: 3 ] ، وكما قال: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [ سورة الشورى: 5 ] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي, فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين, فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي, فقلت له: النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم, إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام, وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي الملك والملكوت » , وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي العزة والجبروت » , وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان الحي الذي لا يموت » .
قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم, وسهل بن موسى الرازي, قالا حدثنا ابن عُلَيَّة, قال: أخبرنا الجُرَيْرِي, عن أبي عبد الله الجَسْري, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَادَه - أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ, أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته: « سبحان رَبي وبحمده, سبحان ربي وبحمده » . - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها.
وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنـزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك, كما قال أعشى بني ثعلبة:
أَقُـــولُ - لمَّا جَــاءَنِي فَخْــرُه- : سُــبْحَانَ مِــنْ عَلْقَمَــةَ الْفَـاخِرِ
يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنـزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم: « نسبح بحمدك » : نصلي لك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك » ، قال: يقولون: نصلّي لك.
وقال آخرون: « نُسبّح بحمدك » التسبيح المعلوم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » ، قال: التسبيحَ التسبيحَ .
القول في تأويل قوله تعالى: وَنُقَدِّسُ لَكَ
قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم: « سُبُّوح قُدُّوس » , يعني بقولهم: « سُبوح » ، تنـزيهٌ لله، وبقولهم: « قُدوسٌ » ، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض: « أرض مُقدسة » ، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك, ونصلي لك. « ونقدس لك » ، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديسُ: الصلاة .
وقال بعضهم: « نقدس لك » : نعظمك ونمجدك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب, قال: حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح، في قوله: « ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك » ، قال: نعظمك ونمجِّدك .
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « ونقدس لك » ، قال نعظّمك ونكبِّرك .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق: « ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك » ، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه .
وحدثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديس: التطهير .
وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم, فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ: « ونقدِّس لك » و « نقدِّسك » , كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه, ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن, قال الله جل ثناؤه: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [ سورة طه: 33- 34 ] ، وقال في موضع آخر: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 1 ]
=====
وقال ابن جُريج بما:-
حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم, فقالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت - على التعجب منها- : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: أن ذلك كائن منهم - وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .
وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم, وإنما سألوه ليعلموا, وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله, لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ.
وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك, فكأنهم قالوا: « يا رب خبرنا » ، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » ، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على وجه التعجب, فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنـزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.
وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت - في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء, فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟
قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض - قبل آدم- من الجنّ, فقالت لربها: « أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون » ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم, لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك, فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف, لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ, ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع, ولا فيما قاله ابن زيد.
فأولى التأويلات - إذ كان الأمر كذلك- بالآية, ما كان عليه من ظاهر التنـزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء, فمن أجل ذلك قالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه, كما قال الشاعر:
فَــلا تَدْفِنُــونِي إِنَّ دَفْنِـي مُحَـرَّمٌ عَلَيْكُــمْ, وَلَكِـن خَـامِرِي أُمَّ عَـامِرِ
فحذف قوله « دعوني للتي يقال لها عند صَيدها » : خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها » ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف, فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قال أبو جعفر: أما قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر, كما قال جل ثناؤه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ سورة النصر: 3 ] ، وكما قال: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [ سورة الشورى: 5 ] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي, فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين, فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي, فقلت له: النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم, إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام, وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي الملك والملكوت » , وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي العزة والجبروت » , وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان الحي الذي لا يموت » .
قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم, وسهل بن موسى الرازي, قالا حدثنا ابن عُلَيَّة, قال: أخبرنا الجُرَيْرِي, عن أبي عبد الله الجَسْري, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَادَه - أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ, أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته: « سبحان رَبي وبحمده, سبحان ربي وبحمده » . - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها.
وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنـزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك, كما قال أعشى بني ثعلبة:
أَقُـــولُ - لمَّا جَــاءَنِي فَخْــرُه- : سُــبْحَانَ مِــنْ عَلْقَمَــةَ الْفَـاخِرِ
يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنـزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم: « نسبح بحمدك » : نصلي لك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك » ، قال: يقولون: نصلّي لك.
وقال آخرون: « نُسبّح بحمدك » التسبيح المعلوم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » ، قال: التسبيحَ التسبيحَ .
القول في تأويل قوله تعالى: وَنُقَدِّسُ لَكَ
قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم: « سُبُّوح قُدُّوس » , يعني بقولهم: « سُبوح » ، تنـزيهٌ لله، وبقولهم: « قُدوسٌ » ، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض: « أرض مُقدسة » ، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك, ونصلي لك. « ونقدس لك » ، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديسُ: الصلاة .
وقال بعضهم: « نقدس لك » : نعظمك ونمجدك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب, قال: حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح، في قوله: « ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك » ، قال: نعظمك ونمجِّدك .
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « ونقدس لك » ، قال نعظّمك ونكبِّرك .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق: « ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك » ، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه .
وحدثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديس: التطهير .
وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم, فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ: « ونقدِّس لك » و « نقدِّسك » , كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه, ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن, قال الله جل ثناؤه: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [ سورة طه: 33- 34 ] ، وقال في موضع آخر: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 1 ]
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
=====
القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله: « أعلم ما لا تعلمون » ، مما اطلع عليه من إبليس, وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر, مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
وحدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يعني من شأن إبليس.
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد - وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا محمد بن بشر, قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد، بمثله .
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عَن مجاهد مثله .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري, قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, مثله.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا سُويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, قال: قال مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وقال مرَّة آدم.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا حجاج بن المنهال, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان , قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها, وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني أعلم ما لا تعلمون » . أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة .
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه, وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم: « إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم, وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ - ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَعَلَّمَ آدَمَ
حدثنا محمد بن جرير, قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها, فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن جده, عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء, فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مِسعر, عن أبي حَصين, عن سعيد بن جُبير, قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.
وحدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض .
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم, أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم, لأنه أخذ من أديم الأرض .
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما- :
حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد - قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف - وحدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا إسماعيل بن أبان, قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي, عن قَسامَة بن زُهير, عن أبي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض , فجاء بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب .
فعلى التأويل الذي تأول « آدم » من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض, يجب أن يكون أصْل « آدم » فعلا سُمي به أبو البشر, كما سمي « أحمد » بالفعل من الإحماد , و « أسعد » من الإسعاد, فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ, يعني به بلغ أدمتها - وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين, كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا, لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.
القول في تأويل قوله تعالى: الأَسْمَاءَ كُلَّهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما- :
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: علم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة, وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. .
وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء.
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن خُصيف, عن مجاهد: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء .
وحدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرمي, عن محمد بن مصعب, عن قيس بن الربيع, عن خُصيف, عن مجاهد, قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء .
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شَريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: علمه اسمَ كل شيء, حتى البعير والبقرة والشاة .
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن شَريك, عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس, قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عاصم بن كليب, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.
حدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم, قال: حدثنا محمد بن مُصعب, عن قيس، عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد, عن ابن عباس في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا علي بن مسهر, عن عاصم بن كليب, قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة, والفسوة من الفسية .
وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » حتى بلغ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل, وهذا بحر, وهذا كذا وهذا كذا, لكل شيء, ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم - ومبارك, عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة، قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه.
وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء.
وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وعلم آدمَ الأسماء كلها » ، قال: أسماء الملائكة.
وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: أسماء ذريته أجمعين.
وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: « عرضهن » أو « عرضها » ، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [ سورة النور: 45 ] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: « ثم عَرضهن » ، وأنها في حرف أبَيّ: « ثم عَرضَها » .
ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله: « ثم عَرَضهم » ، بالدلالة على بني آدم والملائكة، أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.
ويعني جل ثناؤه بقوله: « ثم عَرضَهم » ، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله: « ثم عَرضَهم على الملائكة » نحو اختلافهم في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا . وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « ثم عَرضهم على الملائكة » ، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق.
وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ثم عرضهم » ، ثم عرض الخلقَ على الملائكة .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة .
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « ثم عرضهم » ، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « ثم عرضهم » ، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة
وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد: « ثم عرضهم على الملائكة » ، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة .
القول في تأويل قوله: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « أنبئوني » : أخبروني، كما:-
حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « أنبئوني » ، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء .
ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
وَأَنْبَــــأَهُ الْمُنَبِّـــئُ أَنَّ حَيًّـــا حُــلُولٌ مِــنْ حَــرَامٍ أَوْ جُــذَامِ
يعني بقوله: « أنبأه » : أخبره وأعلمه.
القول في تأويل قوله جل ذكره: بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ
قال أبو جعفر:
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « بأسماء هؤلاء » ، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « إن كنتم صادقين » ، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة.
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إن كنتم صادقين » أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [ سورة هود: 45 ] - : لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم - : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة هود: 47 ] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.
وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » ، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال: « أنبئوني إن كنتم صادقين » - كما يقول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.
وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء - : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.
وزعم أن قوله: « إن كنتم صادقين » نظير قول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.
ولا شك أن معنى قوله: « إن كنتم صادقين » إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية- : « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير.
وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله: « إن كنتم صادقين » بمعنى: إذْ كنتم صادقين.
ولو كانت « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن « إذ » إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل: « أقوم إذ قمت » . فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت « إن » بمعنى « إذ » - : أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت « إن » مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من « إنْ » ، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.
وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.
وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم: « سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا » . فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة . وذكَّر بها الذين وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار
قال: وأما تأويل قوله: « سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا » ، فهو كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قالوا سبحانك » تنـزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك « لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا » ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، « إلا ما علَّمتنا » كما علمت آدم .
وسُبحان مصدر لا تصرُّف له . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننـزهك تنـزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.
القول في تأويل قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: « إنك أنتَ العليم » ، يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:-
حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « العليم » الذي قد كمل في علمه، و « الحكيم » الذي قد كمل في حُكمه .
وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.
القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم.
فأما تأويل قوله: « قال يا آدم أنبئهم » ، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله: « أنبئهم » عائدتان على الملائكة. وقوله: « بأسمائهم » يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في « أسمائهم » كناية عن ذكر هَؤُلاءِ التي في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ . ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ) يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم: « ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السماوات والأرض » . والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:-
حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم » ، يقول: أخبرهم بأسمائهم - « فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم » أيها الملائكة خَاصة « إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض » ولا يعلمه غيري .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ سورة هود: 119، وسورة السجدة: 13 ] ، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل .
=====
القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله: « أعلم ما لا تعلمون » ، مما اطلع عليه من إبليس, وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر, مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
وحدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يعني من شأن إبليس.
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد - وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا محمد بن بشر, قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد، بمثله .
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عَن مجاهد مثله .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري, قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, مثله.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا سُويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, قال: قال مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وقال مرَّة آدم.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا حجاج بن المنهال, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان , قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها, وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني أعلم ما لا تعلمون » . أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة .
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه, وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم: « إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم, وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ - ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَعَلَّمَ آدَمَ
حدثنا محمد بن جرير, قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها, فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن جده, عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء, فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مِسعر, عن أبي حَصين, عن سعيد بن جُبير, قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.
وحدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض .
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم, أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم, لأنه أخذ من أديم الأرض .
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما- :
حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد - قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف - وحدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا إسماعيل بن أبان, قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي, عن قَسامَة بن زُهير, عن أبي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض , فجاء بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب .
فعلى التأويل الذي تأول « آدم » من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض, يجب أن يكون أصْل « آدم » فعلا سُمي به أبو البشر, كما سمي « أحمد » بالفعل من الإحماد , و « أسعد » من الإسعاد, فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ, يعني به بلغ أدمتها - وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين, كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا, لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.
القول في تأويل قوله تعالى: الأَسْمَاءَ كُلَّهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما- :
حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: علم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة, وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. .
وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء.
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن خُصيف, عن مجاهد: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء .
وحدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرمي, عن محمد بن مصعب, عن قيس بن الربيع, عن خُصيف, عن مجاهد, قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء .
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شَريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: علمه اسمَ كل شيء, حتى البعير والبقرة والشاة .
وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن شَريك, عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس, قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة .
وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عاصم بن كليب, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.
حدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم, قال: حدثنا محمد بن مُصعب, عن قيس، عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد, عن ابن عباس في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا علي بن مسهر, عن عاصم بن كليب, قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة, والفسوة من الفسية .
وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » حتى بلغ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه .
وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل, وهذا بحر, وهذا كذا وهذا كذا, لكل شيء, ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم - ومبارك, عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة، قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه.
وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء.
وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وعلم آدمَ الأسماء كلها » ، قال: أسماء الملائكة.
وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: أسماء ذريته أجمعين.
وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: « عرضهن » أو « عرضها » ، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [ سورة النور: 45 ] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: « ثم عَرضهن » ، وأنها في حرف أبَيّ: « ثم عَرضَها » .
ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله: « ثم عَرَضهم » ، بالدلالة على بني آدم والملائكة، أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.
ويعني جل ثناؤه بقوله: « ثم عَرضَهم » ، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله: « ثم عَرضَهم على الملائكة » نحو اختلافهم في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا . وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « ثم عَرضهم على الملائكة » ، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق.
وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ثم عرضهم » ، ثم عرض الخلقَ على الملائكة .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة .
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « ثم عرضهم » ، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « ثم عرضهم » ، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة
وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد: « ثم عرضهم على الملائكة » ، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة .
القول في تأويل قوله: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « أنبئوني » : أخبروني، كما:-
حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « أنبئوني » ، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء .
ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
وَأَنْبَــــأَهُ الْمُنَبِّـــئُ أَنَّ حَيًّـــا حُــلُولٌ مِــنْ حَــرَامٍ أَوْ جُــذَامِ
يعني بقوله: « أنبأه » : أخبره وأعلمه.
القول في تأويل قوله جل ذكره: بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ
قال أبو جعفر:
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « بأسماء هؤلاء » ، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « إن كنتم صادقين » ، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة.
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إن كنتم صادقين » أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [ سورة هود: 45 ] - : لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم - : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة هود: 47 ] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.
وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » ، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال: « أنبئوني إن كنتم صادقين » - كما يقول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.
وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء - : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.
وزعم أن قوله: « إن كنتم صادقين » نظير قول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.
ولا شك أن معنى قوله: « إن كنتم صادقين » إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية- : « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير.
وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله: « إن كنتم صادقين » بمعنى: إذْ كنتم صادقين.
ولو كانت « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن « إذ » إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل: « أقوم إذ قمت » . فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت « إن » بمعنى « إذ » - : أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت « إن » مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من « إنْ » ، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.
وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.
وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم: « سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا » . فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة . وذكَّر بها الذين وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار
قال: وأما تأويل قوله: « سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا » ، فهو كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قالوا سبحانك » تنـزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك « لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا » ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، « إلا ما علَّمتنا » كما علمت آدم .
وسُبحان مصدر لا تصرُّف له . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننـزهك تنـزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.
القول في تأويل قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: « إنك أنتَ العليم » ، يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:-
حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « العليم » الذي قد كمل في علمه، و « الحكيم » الذي قد كمل في حُكمه .
وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.
القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم.
فأما تأويل قوله: « قال يا آدم أنبئهم » ، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله: « أنبئهم » عائدتان على الملائكة. وقوله: « بأسمائهم » يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في « أسمائهم » كناية عن ذكر هَؤُلاءِ التي في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ . ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ) يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم: « ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السماوات والأرض » . والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:-
حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم » ، يقول: أخبرهم بأسمائهم - « فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم » أيها الملائكة خَاصة « إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض » ولا يعلمه غيري .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ سورة هود: 119، وسورة السجدة: 13 ] ، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وأعلم ما تبدون » يقول: ما تظهرون، « وما كنتم تكتمون » يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، فهذا الذي أبدوْا، « وما كنتم تكتمون » ، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه .
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون ، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منـزله- : يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه .
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله: « وأعلم ما تُبدون » ، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم، « وما كنتم تكتمون » ، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر.
فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك.
فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: « قُتل الجيش وهُزموا » ، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة الحجرات: 4 ] ، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فنـزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )
قال أبو جعفر: أمّا قوله: « وإذ قلنا » فمعطوف على قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل- : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم. فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ سورة الأعراف: 11- 12 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.
ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِن » ، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا .
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون « الجنَّ » من بين الملائكة .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم « الجنّ » ، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا .
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. .
قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء .
وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم « الجن » ، وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه .
وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [ سورة الصافات: 158 ] ، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله:
وَلَـوْ كَـانَ شَـيْءٌ خَـالِدًا أَوْ مُعَمَّـرا لَكَـانَ سُـلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِـنَ الدَّهْـرِ
بَــرَاهُ إِلَهِــي وَاصْطَفَــاهُ عِبَـادَهُ وَمَلَّكَـهُ مَـا بَيْـنَ ثُرْيَـا إِلَـى مِصْرَ
وَسَـخَّرَ مِـنْ جِـنِّ الْمَلائِـكِ تِسْـعَةً قِيَامًــا لَدَيْــهِ يَعْمَلُـونَ بِـلا أَجْـرِ
قال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ « الجن » كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ .
وقال آخرون بما:-
حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ألجأه إلى نسبه فقال الله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ سورة الكهف: 50 ] ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله: مِنَ الْجِنِّ ، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .
وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما.
قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس .
وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم .
قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُـزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه مِنَ الْجِنِّ ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.
القول في معنى إِبْلِيسَ
قال أبو جعفر: وإبليس « إفعِيل » ، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته .
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس « الحارث » ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا .
قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] ، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج:
يَـا صَـاحِ, هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? قَــالَ: نَعَــمْ, أَعْرِفُــهُ! وَأَبْلَسَــا
وقال رؤبة:
وَحَـضَرَتْ يَـوْمَ الْخَـمِيسِ الأَخْمَـاسْ وَفِــي الْوُجُــوهِ صُفْــرَةٌ وَإِبْلاسْ
يعني به اكتئابًا وكسوفًا.
فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت، « إفعيل » من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من « أسحقه الله إسحاقًا » ، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك « أيوب » ، إنما هو « فيعول » من « آب يؤبُ » .
وتأويل قوله: أَبَى ، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. وَاسْتَكْبَرَ ، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.
ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: وَكَانَ - يعني إبليس - مِنَ الْكَافِرِينَ - من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى لْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ ، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 67 ] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.
وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، في هذا الموضع، وكان من العاصين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، يعني العاصين .
وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.
وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:-
حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. .
====
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وأعلم ما تبدون » يقول: ما تظهرون، « وما كنتم تكتمون » يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، فهذا الذي أبدوْا، « وما كنتم تكتمون » ، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه .
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون ، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منـزله- : يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه .
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله: « وأعلم ما تُبدون » ، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم، « وما كنتم تكتمون » ، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم.
والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر.
فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك.
فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: « قُتل الجيش وهُزموا » ، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة الحجرات: 4 ] ، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فنـزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )
قال أبو جعفر: أمّا قوله: « وإذ قلنا » فمعطوف على قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل- : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم. فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ سورة الأعراف: 11- 12 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.
ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِن » ، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا .
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون « الجنَّ » من بين الملائكة .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم « الجنّ » ، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا .
وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. .
قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء .
وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم « الجن » ، وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه .
وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [ سورة الصافات: 158 ] ، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله:
وَلَـوْ كَـانَ شَـيْءٌ خَـالِدًا أَوْ مُعَمَّـرا لَكَـانَ سُـلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِـنَ الدَّهْـرِ
بَــرَاهُ إِلَهِــي وَاصْطَفَــاهُ عِبَـادَهُ وَمَلَّكَـهُ مَـا بَيْـنَ ثُرْيَـا إِلَـى مِصْرَ
وَسَـخَّرَ مِـنْ جِـنِّ الْمَلائِـكِ تِسْـعَةً قِيَامًــا لَدَيْــهِ يَعْمَلُـونَ بِـلا أَجْـرِ
قال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ « الجن » كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ .
وقال آخرون بما:-
حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ألجأه إلى نسبه فقال الله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ سورة الكهف: 50 ] ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله: مِنَ الْجِنِّ ، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .
وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما.
قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس .
وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم .
قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُـزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه مِنَ الْجِنِّ ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.
القول في معنى إِبْلِيسَ
قال أبو جعفر: وإبليس « إفعِيل » ، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته .
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس « الحارث » ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا .
قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] ، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج:
يَـا صَـاحِ, هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? قَــالَ: نَعَــمْ, أَعْرِفُــهُ! وَأَبْلَسَــا
وقال رؤبة:
وَحَـضَرَتْ يَـوْمَ الْخَـمِيسِ الأَخْمَـاسْ وَفِــي الْوُجُــوهِ صُفْــرَةٌ وَإِبْلاسْ
يعني به اكتئابًا وكسوفًا.
فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت، « إفعيل » من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من « أسحقه الله إسحاقًا » ، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك « أيوب » ، إنما هو « فيعول » من « آب يؤبُ » .
وتأويل قوله: أَبَى ، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. وَاسْتَكْبَرَ ، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.
ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: وَكَانَ - يعني إبليس - مِنَ الْكَافِرِينَ - من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى لْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ ، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 67 ] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.
وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، في هذا الموضع، وكان من العاصين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، يعني العاصين .
وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.
وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:-
حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ . فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه- : ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: « يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » .
فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا.
وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم- : لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا « يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين »
قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة .
القول في تأويل قوله: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا
قال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر:
بَيْنَمَـــا الْمَــرْءُ تَــرَاهُ نَاعِمَــا يَــأْمَنُ الأَحْـدَاثَ فِـي عَيْشٍ رَغَـدْ
وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « وكلا منها رَغدا » ، قال: الرغد، الهنيء.
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « رغدًا » ، قال: لا حسابَ عليهم.
وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد: « وكلا منها رغدًا » ، أي لا حسابَ عليهم.
وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وكلا منها رغدًا حيث شئتما » ، قال: الرغد: سَعة المعيشة.
فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما.
كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » ، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [ سورة الرحمن: 6 ] ، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق.
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي السنبلة.
وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.
وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: السنبلة.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد: « سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة » .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا
قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » .
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: الكرمُ.
وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.
وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة ، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب .
وقال آخرون: هي التِّينة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تينة.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » .
فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله « فتكونا » ، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت بمنـزلة « كي » في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال.
وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ « أن » غير جائز إظهارها مع « لا » ، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي « أن » - على الاسم. كما غير جائز في قولهم: « عسى أن يفعل » ، عسى الفعل. ولا في قولك: « ما كان ليفعل » : ما كان لأن يَفعل.
وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل: « سرني تقوم يا هذا » ، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل: « لا تقم » إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم - على صحة قول القائل: « لا تقم » ، وفساد قول القائل: « سرني تقوم » بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع « لا » التي في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ضمير « أن » - وصحةِ القول الآخر.
وفي قوله « فتكونا من الظالمين » ، وجهان من التأويل:
أحدهما أن يكون « فتكونا » في نية العطف على قوله « ولا تقربا » ، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون « فتكونا » حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به « ولا تقربا » ، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس:
فُقُلْــتُ لَــهُ: صَـوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّـهُ فَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى القَطَـاةِ فَتَزْلَقِ
فجزم « فيذرِك » بما جزم به « لا تجهدنه » ، كأنه كرّر النهي.
والثاني أن يكون « فتكونا من الظالمين » ، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون « فتكونا » حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في « ولا تقربا » حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في « فتكونا » ، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة.
وأما تأويل قوله: « فتكونا من الظالمين » ، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين.
وأصل « الظلم » في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
إِلا أُوَارِيَّ لأيـــًا مَـــا أُبَيِّنُهَــا وَالنُّـؤْيُ كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الْجَلَدِ
فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:
ظَلَـمَ الْبِطَـاحَ بِهَـا انْهِـلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفَــا النِّطَـافُ لَـهُ بُعَيْـدَ الْمُقْلَـعِ
وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه.
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا
قال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم، « فأزلَّهما » بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال: فَأَخْرَجَهُمَا يعني إبليس مِمَّا كَانَا فِيهِ ، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.
وقرأه آخرون: « فأزَالهما » ، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله: « فأزلهما » ، ما:-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: « فأزلهما الشيطان » قال: أغواهما.
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: « فأزلَّهما » ، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله « فأزالهما » ، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال: « فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه » فيكون كقوله: « فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه » . ولكن المفهوم أن يقال: فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه: « فأزلهما الشيطان » ، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟
قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها
فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه « وذريته » - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا ، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء .
وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة .
حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة.
وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة ، وقيل لهما: « لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » . قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [ سورة الأعراف: 20 ] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال: « فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه » ، قال: فأخرج آدم من الجنة .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه ، فأتاه من قِبَل الخلد. .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى وقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه: فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة ، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته ، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها .
وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . قال: فقطعت حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [ سورة الأعراف: 22 ] . لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ .
قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة.
وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وأنه « قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين » مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.
فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه ، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ : « فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه » ، وقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة الأعراف: 27 ] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم . ثم قال ابن إسحاق : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ سورة الأعراف: 13 ] . ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] ، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما.
قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله « فأخرجهما » ، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته، « مما كانا » ، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان ، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: « ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت » ، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
قال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر:
مَـا زِلْـتُ أَرْمُقُهُـمْ, حَـتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْـدِي الرِّكَـابِ بِهِـمْ مِـنْ رَاكِسٍ فَلَقَا
وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « اهبطوا » ، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به.
فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح: « اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ » ، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية .
حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية .
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « اهبِطوا بعضكم لبعض عدو » ، قال: آدم وإبليس والحية .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد: « اهبطوا بعضكم لبعض عدو » ، آدم وإبليس والحية ، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « بعضكم لبعض عدوٌّ » قال: يعني إبليس وآدم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: لهما ولذريتهما.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟ قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ سورة ص: 76 ] . وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله.
وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا
قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة.
وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها .
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « ولكم في الأرض مُستقَرٌّ » قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [ سورة البقرة: 22 ] .
وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: هو قوله: جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا [ سورة غافر: 64 ] .
وقال آخرون : معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « ولكم في الأرض مستقر » ، يعني القبور .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: القبور .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « ولكم في الأرض مستقر » ، قال: مقامهم فيها .
قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره.
إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنـزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله: وَمَتَاعٌ يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ . فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه- : ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: « يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » .
فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا.
وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم- : لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا « يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين »
قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة .
القول في تأويل قوله: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا
قال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر:
بَيْنَمَـــا الْمَــرْءُ تَــرَاهُ نَاعِمَــا يَــأْمَنُ الأَحْـدَاثَ فِـي عَيْشٍ رَغَـدْ
وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « وكلا منها رَغدا » ، قال: الرغد، الهنيء.
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « رغدًا » ، قال: لا حسابَ عليهم.
وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد: « وكلا منها رغدًا » ، أي لا حسابَ عليهم.
وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وكلا منها رغدًا حيث شئتما » ، قال: الرغد: سَعة المعيشة.
فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما.
كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » ، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [ سورة الرحمن: 6 ] ، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق.
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي السنبلة.
وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.
وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: السنبلة.
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد: « سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة » .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا
قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » .
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: الكرمُ.
وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.
وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة ، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب .
وقال آخرون: هي التِّينة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تينة.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » .
فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله « فتكونا » ، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت بمنـزلة « كي » في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال.
وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ « أن » غير جائز إظهارها مع « لا » ، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي « أن » - على الاسم. كما غير جائز في قولهم: « عسى أن يفعل » ، عسى الفعل. ولا في قولك: « ما كان ليفعل » : ما كان لأن يَفعل.
وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل: « سرني تقوم يا هذا » ، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل: « لا تقم » إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم - على صحة قول القائل: « لا تقم » ، وفساد قول القائل: « سرني تقوم » بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع « لا » التي في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ضمير « أن » - وصحةِ القول الآخر.
وفي قوله « فتكونا من الظالمين » ، وجهان من التأويل:
أحدهما أن يكون « فتكونا » في نية العطف على قوله « ولا تقربا » ، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون « فتكونا » حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به « ولا تقربا » ، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس:
فُقُلْــتُ لَــهُ: صَـوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّـهُ فَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى القَطَـاةِ فَتَزْلَقِ
فجزم « فيذرِك » بما جزم به « لا تجهدنه » ، كأنه كرّر النهي.
والثاني أن يكون « فتكونا من الظالمين » ، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون « فتكونا » حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في « ولا تقربا » حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في « فتكونا » ، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة.
وأما تأويل قوله: « فتكونا من الظالمين » ، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين.
وأصل « الظلم » في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
إِلا أُوَارِيَّ لأيـــًا مَـــا أُبَيِّنُهَــا وَالنُّـؤْيُ كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الْجَلَدِ
فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:
ظَلَـمَ الْبِطَـاحَ بِهَـا انْهِـلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفَــا النِّطَـافُ لَـهُ بُعَيْـدَ الْمُقْلَـعِ
وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه.
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا
قال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم، « فأزلَّهما » بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال: فَأَخْرَجَهُمَا يعني إبليس مِمَّا كَانَا فِيهِ ، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.
وقرأه آخرون: « فأزَالهما » ، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله: « فأزلهما » ، ما:-
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: « فأزلهما الشيطان » قال: أغواهما.
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: « فأزلَّهما » ، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله « فأزالهما » ، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال: « فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه » فيكون كقوله: « فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه » . ولكن المفهوم أن يقال: فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه: « فأزلهما الشيطان » ، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.
فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟
قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها
فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه « وذريته » - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا ، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء .
وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة .
حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة.
وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة ، وقيل لهما: « لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » . قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [ سورة الأعراف: 20 ] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال: « فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه » ، قال: فأخرج آدم من الجنة .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه ، فأتاه من قِبَل الخلد. .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى وقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه: فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة ، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته ، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها .
وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . قال: فقطعت حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [ سورة الأعراف: 22 ] . لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ .
قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة.
وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وأنه « قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين » مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.
فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه ، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ : « فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه » ، وقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة الأعراف: 27 ] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم . ثم قال ابن إسحاق : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ سورة الأعراف: 13 ] . ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] ، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما.
قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله « فأخرجهما » ، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته، « مما كانا » ، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان ، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: « ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت » ، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
قال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر:
مَـا زِلْـتُ أَرْمُقُهُـمْ, حَـتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْـدِي الرِّكَـابِ بِهِـمْ مِـنْ رَاكِسٍ فَلَقَا
وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « اهبطوا » ، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به.
فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح: « اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ » ، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية .
حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية .
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « اهبِطوا بعضكم لبعض عدو » ، قال: آدم وإبليس والحية .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد: « اهبطوا بعضكم لبعض عدو » ، آدم وإبليس والحية ، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « بعضكم لبعض عدوٌّ » قال: يعني إبليس وآدم.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: لهما ولذريتهما.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟ قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ سورة ص: 76 ] . وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله.
وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا
قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة.
وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها .
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « ولكم في الأرض مُستقَرٌّ » قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [ سورة البقرة: 22 ] .
وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: هو قوله: جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا [ سورة غافر: 64 ] .
وقال آخرون : معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « ولكم في الأرض مستقر » ، يعني القبور .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: القبور .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « ولكم في الأرض مستقر » ، قال: مقامهم فيها .
قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره.
إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنـزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله: وَمَتَاعٌ يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في قوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال يقول: بلاغ إلى الموت .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال: الحياة .
وقال آخرون: يعني بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، إلى قيام الساعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.
وقال آخرون: « إلى حين » ، قال: إلى أجل.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى أجل .
والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا ، ولجسمه منـزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات بالآية - إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات ، وفي الجنان في منازلكم منها ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها ، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
قال أبو جعفر: أما تأويل قوله: « فتلقى آدم » ، فقيل: إنه أخذ وقَبِل . وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله: « فتلقى » ، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة الأعراف: 23 ] .
وقد قرأ بعضهم: « فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ » ، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع « آدم » على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف ، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ.
واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه » ، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: نعم.
قال: فهو قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » .
وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » ، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [ سورة طه: 122 ] .
وقال آخرون بما:-
حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله: « فتلقَّى آدم من ربه كلمات » .
وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله.
وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري ، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله.
وقال آخرون بما:-
حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ، حتى فرغ منها.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا الآية.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه.
والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وليس ما قاله من خالف قولنا هذا - من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم - من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب ، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [ سورة البقرة: 28 ] ، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَابَ عَلَيْهِ
قال أبو جعفر: وقوله: « فتاب عليه » ، يعني: على آدم. والهاء التي في « عليه » عائدة على آدَمُ . وقوله: « فتاب عليه » ، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « إنه هو التواب الرحيم » ، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.
وأما قوله: « الرحيم » ، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: « قلنا اهبطوا منها جميعًا » فيما مضى، فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.
وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله : « اهبطوا منها جميعًا » ، قال: آدم وحواء والحية وإبليس.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « فإما يأتينكم » ، فإنْ يَأتكم. و « ما » التي مع « إن » توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع « إن » أدخلت النون المشددة في « يأتينَّكم » ، تفرقةً بدخولها بين « ما » التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين « ما » التي تأتي بمعنى « الذي » ، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ « ما » التي مع « إن » التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست « ما » التي بمعنى « الذي » .
وقد قال بعض نحويي أهل البصرة : إنّ « إمَّا » ، « إن » زيدت معها « ما » ، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته « ما » ، لأن « ما » نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: « بعينٍ مَّا أرَينَّك » ، حين أدخلت فيها « ما » حسنت النون فيما هاهنا.
وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة : أن « ما » التي مع « بعينٍ ما أرَينَّك » بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.
وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: « بعَين أراك » ، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-
حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « فإما يأتينكم مني هدًى » قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. .
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهْبِطُوا ، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] ، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة ابن مسعود: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [ سورة البقرة: 128 ] ، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . وكما يقول القائل لآخر: « كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم » ، ونحو ذلك من الكلام.
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا - وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله: « فإما يأتينّكم منّي هُدًى » ، خطابًا له ولزوجته، « فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل » إلا على ما وصفتُ من التأويل.
وقول أبي العالية في ذلك - وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس - كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة البقرة: 6 ] ، وفي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [ سورة البقرة: 8 ] ، وأنّ حكمه فيهم - إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.
وقوله: « فمن تَبعَ هُدَايَ » ، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي . كما:-
حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « فمن تَبع هُدَاي » ، يعني بياني. .
وقوله: « فلا خوفٌ عليهم » ، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: « لا خوفٌ عليهم » ، يقول: لا خوف عليكم أمامكم .
وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال: « ولا هم يحزنون » .
وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )
يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء .
« أولئك أصحاب النار » ، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-
حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « يا بني إسرائيل » ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى « إسرائيل » ، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و « إيل » هو الله، و « إسرا » هو العبد، كما قيل: « جبريل » بمعنى عبد الله. وكما:-
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: « إيل » ، الله بالعبرانية.
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: « يا بني إسرائيل » أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ سورة الأعراف: 31 ] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه - وإن كان قد تقدّم ما أنـزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنـزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: « يا بني إسرائيل » خطابهم كما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: « يا بني إسرائيل » ، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود .
القول في تأويل قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنـزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم » ، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « اذكروا نعمتي » ، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » ، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « نعمتي التي أنعمت عليكم » قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ سورة الحجرات: 17 ]
وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ سورة المائدة: 20 ] .
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( 40 )
قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى - عن معنى العهد- من كتابنا هذا ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.
« أوف بعهدكم » : وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 12 ] ، وكما قال: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ سورة الأعراف: 156- 157 ] .
وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وأوفوا بعهدي » الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، « أوف بعهدكم » ، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم » ، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه، « أوف بعهدكم » ، يعني الجنة .
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أوفوا بعهدي أوف بعهدكم » : أما « أوفوا بعهدي » ، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما « أوف بعهدكم » فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة .
وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: « وأفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا إلى آخر الآية [ سورة المائدة: 12 ] . فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده .
وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، « أوف بعهدكم » ، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حتى بلغ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [ سورة التوبة: 111 ] ، قال: هذا عهده الذي عهده لهم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « وإياي فارهبون » ، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنـزلتُ من الكتُب على أنبيائي - أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنـزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-
حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإيايَ فارهبون » ، أن أنـزل بكم ما أنـزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره.
وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « وإياي فارهَبُون » ، يقول: فاخشَوْن.
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وإياي فارهبون » ، يقول: وإياي فاخشون.
القول في تأويل قوله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « آمنوا » ، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. ويعني بقوله: « بما أنـزلت » ما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله: « مصدِّقًا لما معكم » ، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما أنـزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.
وقوله: « مصدقًا » ، قطع من الهاء المتروكة في « أنـزلته » من ذكر « ما » . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنـزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-
حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم » ، يقول: إنما أنـزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وآمنوا بما أنـزلت مصدِّقًا لما معكم » ، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنـزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. .
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل: « ولا تكونوا أول كافر به » ، والخطاب فيه لجميع ، وقوله: « كافر » واحد؟ وهل نجيز - إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل: « ولا تكونوا أول رجُل قام » ؟
قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له « أفعل » ، وهو خبر لجميع إذا كان اسمًا مشتقًّا من « فعل ويفعل » ، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو « مَنْ » ، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه « مَنْ » من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به. « فمن » بمعنى جميع ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من « فعل ويفعل » مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه « مَنْ » من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: « الجيش مُنهزم » ، « والجند مقبلٌ » ، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال: « الجيش رجل، والجند غلام » ، حتى تقول: « الجند غلمان والجيش رجال » . لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من « فعل ويفعل » ، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:
وَإِذَا هُــمُ طَعِمُــوا فَـأَلأَمُ طَـاعِمٍ وَإِذَا هُـمُ جَـاعُوا فَشَـرُّ جِيَـاعِ
فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية « مَنْ » ، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من « فعل ويفعل » مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا .
وأما تأويل ذلك فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنـزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله . والهاء التي في « به » من ذكر « ما » التي مع قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ . كما:-
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله: « ولا تكونوا أوّل كافر به » ، بالقرآن.
قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-
حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. .
وقال بعضهم: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ . ومعقول أن الذي أنـزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنـزيلٌ مُنْـزَل، والمنْـزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله: « ولا تكونوا أول كافر به » - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام .
وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في « به » على « ما » التي في قوله: لِمَا مَعَكُمْ . لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنـزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به » ، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا .
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع .
فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.
وإنما قلنا بمعنى ذلك: « لا تبيعوا » ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ
قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنـزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « ولا تلبسُوا » ، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط. يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه . كما:-
حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [ سورة الأنعام: 9 ] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون .
ومنه قول العجاج:
لَمَّــا لَبَسْــنَ الْحَــقَّ بِــالتَّجَنِّي غَنِيــنَ وَاسْــتَبْدَلْنَ زَيْــدًا مِنِّـي
يعني بقوله: « لبسن » ، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها . ومن اللُّبس قول الأخطل:
لَقَـدْ لَبِسْـتُ لِهَـذَا الدَّهْـرِ أَعْصُـرَهُ حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ . [ سورة الأنعام: 9 ]
فإن قال لنا قائل وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟
قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « ولا تلبِسُوا الحق بالباطل » ، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: « ولا تلبسوا الحق بالباطل » ، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنـزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 42 )
قال أبو جعفر: وفي قوله: « وتكتموا الحق » ، وجهان من التأويل:
أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله: « وتكتموا » عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به تَلْبِسُوا ، عطفًا عليه.
والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: « وتكتموا الحق » خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: « وتكتموا » حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، إذ كان قوله: وَلا تَلْبِسُوا نهيًا، وقوله « وتكتموا الحق » خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله: تَلْبِسُوا من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا . ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:
لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ عَـارٌ عَلَيْـكَ إَِذَا فَعَلْـتَ عَظِيمُ
فنصب « تأتي » على التأويل الذي قلنا في قوله: « وتكتموا » ، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله.
فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « وتكتموا الحق » ، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، أي ولا تكتموا الحق. .
وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك.
وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون » ، قال: الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل .
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في قوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال يقول: بلاغ إلى الموت .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال: الحياة .
وقال آخرون: يعني بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، إلى قيام الساعة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.
وقال آخرون: « إلى حين » ، قال: إلى أجل.
ذكر من قال ذلك:
حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى أجل .
والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا ، ولجسمه منـزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات بالآية - إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات ، وفي الجنان في منازلكم منها ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها ، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
قال أبو جعفر: أما تأويل قوله: « فتلقى آدم » ، فقيل: إنه أخذ وقَبِل . وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله: « فتلقى » ، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة الأعراف: 23 ] .
وقد قرأ بعضهم: « فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ » ، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع « آدم » على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف ، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ.
واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه » ، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: نعم.
قال: فهو قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » .
وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.
وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة .
وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » ، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [ سورة طه: 122 ] .
وقال آخرون بما:-
حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله: « فتلقَّى آدم من ربه كلمات » .
وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله.
وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه.
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري ، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله.
وقال آخرون بما:-
حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ، حتى فرغ منها.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا الآية.
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه.
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه.
والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وليس ما قاله من خالف قولنا هذا - من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم - من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب ، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [ سورة البقرة: 28 ] ، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَابَ عَلَيْهِ
قال أبو جعفر: وقوله: « فتاب عليه » ، يعني: على آدم. والهاء التي في « عليه » عائدة على آدَمُ . وقوله: « فتاب عليه » ، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « إنه هو التواب الرحيم » ، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.
وأما قوله: « الرحيم » ، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه.
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: « قلنا اهبطوا منها جميعًا » فيما مضى، فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.
وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله : « اهبطوا منها جميعًا » ، قال: آدم وحواء والحية وإبليس.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « فإما يأتينكم » ، فإنْ يَأتكم. و « ما » التي مع « إن » توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع « إن » أدخلت النون المشددة في « يأتينَّكم » ، تفرقةً بدخولها بين « ما » التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين « ما » التي تأتي بمعنى « الذي » ، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ « ما » التي مع « إن » التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست « ما » التي بمعنى « الذي » .
وقد قال بعض نحويي أهل البصرة : إنّ « إمَّا » ، « إن » زيدت معها « ما » ، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته « ما » ، لأن « ما » نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: « بعينٍ مَّا أرَينَّك » ، حين أدخلت فيها « ما » حسنت النون فيما هاهنا.
وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة : أن « ما » التي مع « بعينٍ ما أرَينَّك » بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.
وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: « بعَين أراك » ، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-
حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « فإما يأتينكم مني هدًى » قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. .
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهْبِطُوا ، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] ، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة ابن مسعود: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [ سورة البقرة: 128 ] ، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . وكما يقول القائل لآخر: « كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم » ، ونحو ذلك من الكلام.
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا - وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله: « فإما يأتينّكم منّي هُدًى » ، خطابًا له ولزوجته، « فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل » إلا على ما وصفتُ من التأويل.
وقول أبي العالية في ذلك - وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس - كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة البقرة: 6 ] ، وفي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [ سورة البقرة: 8 ] ، وأنّ حكمه فيهم - إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.
وقوله: « فمن تَبعَ هُدَايَ » ، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي . كما:-
حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « فمن تَبع هُدَاي » ، يعني بياني. .
وقوله: « فلا خوفٌ عليهم » ، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: « لا خوفٌ عليهم » ، يقول: لا خوف عليكم أمامكم .
وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال: « ولا هم يحزنون » .
وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )
يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء .
« أولئك أصحاب النار » ، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-
حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « يا بني إسرائيل » ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى « إسرائيل » ، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و « إيل » هو الله، و « إسرا » هو العبد، كما قيل: « جبريل » بمعنى عبد الله. وكما:-
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: « إيل » ، الله بالعبرانية.
وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: « يا بني إسرائيل » أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ سورة الأعراف: 31 ] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه - وإن كان قد تقدّم ما أنـزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنـزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: « يا بني إسرائيل » خطابهم كما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: « يا بني إسرائيل » ، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود .
القول في تأويل قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنـزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم » ، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « اذكروا نعمتي » ، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » ، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « نعمتي التي أنعمت عليكم » قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ سورة الحجرات: 17 ]
وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ سورة المائدة: 20 ] .
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( 40 )
قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى - عن معنى العهد- من كتابنا هذا ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.
« أوف بعهدكم » : وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 12 ] ، وكما قال: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ سورة الأعراف: 156- 157 ] .
وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وأوفوا بعهدي » الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، « أوف بعهدكم » ، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم » ، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه، « أوف بعهدكم » ، يعني الجنة .
وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أوفوا بعهدي أوف بعهدكم » : أما « أوفوا بعهدي » ، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما « أوف بعهدكم » فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة .
وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: « وأفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا إلى آخر الآية [ سورة المائدة: 12 ] . فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده .
وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، « أوف بعهدكم » ، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة .
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حتى بلغ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [ سورة التوبة: 111 ] ، قال: هذا عهده الذي عهده لهم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « وإياي فارهبون » ، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنـزلتُ من الكتُب على أنبيائي - أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنـزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-
حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإيايَ فارهبون » ، أن أنـزل بكم ما أنـزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره.
وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « وإياي فارهَبُون » ، يقول: فاخشَوْن.
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وإياي فارهبون » ، يقول: وإياي فاخشون.
القول في تأويل قوله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « آمنوا » ، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. ويعني بقوله: « بما أنـزلت » ما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله: « مصدِّقًا لما معكم » ، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما أنـزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.
وقوله: « مصدقًا » ، قطع من الهاء المتروكة في « أنـزلته » من ذكر « ما » . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنـزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-
حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم » ، يقول: إنما أنـزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وآمنوا بما أنـزلت مصدِّقًا لما معكم » ، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنـزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. .
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل: « ولا تكونوا أول كافر به » ، والخطاب فيه لجميع ، وقوله: « كافر » واحد؟ وهل نجيز - إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل: « ولا تكونوا أول رجُل قام » ؟
قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له « أفعل » ، وهو خبر لجميع إذا كان اسمًا مشتقًّا من « فعل ويفعل » ، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو « مَنْ » ، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه « مَنْ » من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به. « فمن » بمعنى جميع ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من « فعل ويفعل » مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه « مَنْ » من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: « الجيش مُنهزم » ، « والجند مقبلٌ » ، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال: « الجيش رجل، والجند غلام » ، حتى تقول: « الجند غلمان والجيش رجال » . لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من « فعل ويفعل » ، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:
وَإِذَا هُــمُ طَعِمُــوا فَـأَلأَمُ طَـاعِمٍ وَإِذَا هُـمُ جَـاعُوا فَشَـرُّ جِيَـاعِ
فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية « مَنْ » ، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من « فعل ويفعل » مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا .
وأما تأويل ذلك فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنـزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.
وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله . والهاء التي في « به » من ذكر « ما » التي مع قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ . كما:-
حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله: « ولا تكونوا أوّل كافر به » ، بالقرآن.
قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-
حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. .
وقال بعضهم: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ . ومعقول أن الذي أنـزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنـزيلٌ مُنْـزَل، والمنْـزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله: « ولا تكونوا أول كافر به » - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام .
وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في « به » على « ما » التي في قوله: لِمَا مَعَكُمْ . لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنـزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به » ، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا .
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع .
فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.
وإنما قلنا بمعنى ذلك: « لا تبيعوا » ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ
قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنـزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: « ولا تلبسُوا » ، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط. يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه . كما:-
حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [ سورة الأنعام: 9 ] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون .
ومنه قول العجاج:
لَمَّــا لَبَسْــنَ الْحَــقَّ بِــالتَّجَنِّي غَنِيــنَ وَاسْــتَبْدَلْنَ زَيْــدًا مِنِّـي
يعني بقوله: « لبسن » ، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها . ومن اللُّبس قول الأخطل:
لَقَـدْ لَبِسْـتُ لِهَـذَا الدَّهْـرِ أَعْصُـرَهُ حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ . [ سورة الأنعام: 9 ]
فإن قال لنا قائل وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟
قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « ولا تلبِسُوا الحق بالباطل » ، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: « ولا تلبسوا الحق بالباطل » ، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنـزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 42 )
قال أبو جعفر: وفي قوله: « وتكتموا الحق » ، وجهان من التأويل:
أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله: « وتكتموا » عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به تَلْبِسُوا ، عطفًا عليه.
والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: « وتكتموا الحق » خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: « وتكتموا » حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، إذ كان قوله: وَلا تَلْبِسُوا نهيًا، وقوله « وتكتموا الحق » خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله: تَلْبِسُوا من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا . ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:
لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ عَـارٌ عَلَيْـكَ إَِذَا فَعَلْـتَ عَظِيمُ
فنصب « تأتي » على التأويل الذي قلنا في قوله: « وتكتموا » ، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله.
فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:-
حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « وتكتموا الحق » ، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، أي ولا تكتموا الحق. .
وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:-
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك.
وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .
وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون » ، قال: الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم .
وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل .
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.
كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة » ، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله .
وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته .
أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر:
كَـانُوا خَسـًا أو زَكـًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ لَـمْ يُخْـلَقُوا, وَجُـدُودُ النَّـاسِ تَعْتَلـجُ
وقال آخر:
فَــلا خَســًا عَدِيــدُهُ وَلا زَكــا كَمَـا شِـرَارُ الْبَقْـلِ أَطْـرَافُ السَّـفَا
قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء .
يعني بقوله: « ولا زكا » ، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم .
وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [ سورة الكهف: 74 ] ، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى . وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها.
وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها.
وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:
بِيعَـتْ بِكَسْـرٍ لَئِـيمٍ وَاسْـتَغَاثَ بِهَـا مِـنَ الْهُـزَالِ أَبُوهَـا بَعْـدَ مَـا رَكَعَا
يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة.
قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة .
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم, بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى « برا » . فروي عن ابن عباس ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة, وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي, وتنقضون ميثاقي, وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر ) يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم .
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثني عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون, فعيرهم الله.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا الحجاج, قال: قال ابن جريج: ( أتأمرون الناس بالبر ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة, ويدعون العمل بما يأمرون به الناس, فعيرهم الله بذلك, فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال آخرون بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء, أمروه بالحق. فقال الله لهم: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وحدثني علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرْمي, قال: حدثنا مخلد بن الحسين, عن أيوب السختياني, عن أبي قلابة، في قول الله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.
قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى; لأنهم وإن اختلفوا في صفة « البر » الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به, فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل, ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.
فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به.
ومعنى « نسيانهم أنفسهم » في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة: 67 ] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تتلون ) : تدرسون وتقرءون. كما:-
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: ( وأنتم تتلون الكتاب ) ، يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 44 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( أفلا تعقلون ) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها, وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما:
حدثنا به محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس: ( أفلا تعقلون ) يقول: أفلا تفهمون؟ فنهاهم عن هذا الخلق القبيح.
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا! كما ذكرنا قبل.
القول في تأويل قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( واستعينوا بالصبر ) : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم - من طاعتي واتباع أمري, وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري, واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم - بالصبر عليه والصلاة.
وقد قيل: إن معنى « الصبر » في هذا الموضع: الصوم, و « الصوم » بعض معاني « الصبر » . وتأويل من تأول ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله, وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواها; ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر, لكفه نفسه عن الجزع; وقيل لشهر رمضان « شهر الصبر » , لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارا, وصبره إياهم عن ذلك: حبسه لهم, وكفه إياهم عنه, كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا, يعني به: حبسه عليه حتى قتله, فالمقتول « مصبور » , والقاتل « صابر » .
وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى.
فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة, فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله, وترك معاصيه, والتعري عن الرياسة, وترك الدنيا؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله, الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر نعيمها, المسلية النفوس عن زينتها وغرورها, المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها, كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري, قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني, عن ابن جرير, عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة, عن عبد العزيز بن اليمان, عن حذيفة قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » .
وحدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا خلف بن الوليد الأزدي, قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبد الله الدؤلي, قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة, قال حذيفة: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى » . .
وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له: « اشكَنْب دَرْد » ؟ قال: نعم, قال: قم فصل؛ فإن في الصلاة شفاء .
فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال له: فَاصْبِرْ يا محمد عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [ طه: 130 ] فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:-
حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن علية, قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر, فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق, فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .
وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله, واعلموا أنهما من طاعة الله.
وقال ابن جريج بما:-
حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) الآية, قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير! قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( 45 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإنها ) ، وإن الصلاة, ف « الهاء والألف » في « وإنها » عائدتان على « الصلاة » . وقد قال بعضهم: إن قوله: ( وإنها ) بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر فتجعل « الهاء والألف » كناية عنه, وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته.
ويعني بقوله: ( لكبيرة ) : لشديدة ثقيلة. كما:-
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: أخبرنا ابن يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) قال: إنها لثقيلة.
ويعني بقوله: ( إلا على الخاشعين ) : إلا على الخاضعين لطاعته, الخائفين سطواته, المصدقين بوعده ووعيده. كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( إلا على الخاشعين ) يعني المصدقين بما أنـزل الله.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا آدم العسقلاني, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( إلا على الخاشعين ) قال: يعني الخائفين.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد: ( إلا على الخاشعين ) قال: المؤمنين حقا.
وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [ الشورى: 45 ] قال: قد أذلهم الخوف الذي نـزل بهم, وخشعوا له.
وأصل « الخشوع » : التواضع والتذلل والاستكانة, ومنه قول الشاعر:
لمـا أتـى خـبر الزبـير تـواضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع
يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.
فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله, وكفها عن معاصي الله, وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر, المقربة من مراضي الله, العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
القول في تأويل قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه « يظن » أنه ملاقيه, والظن: شك, والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟
قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين « ظنا » , والشك « ظنا » , نظير تسميتهم الظلمة « سدفة » ، والضياء « سدفة » , والمغيث « صارخا » , والمستغيث « صارخا » , وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة:
فقلــت لهـم ظنـوا بـألفي مدجـج سـراتهم فـي الفارسـي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:
بــأن تغـتزوا قـومي وأقعـد فيكـم وأجـعل منـي الظن غيبا مرجما
يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن « الظن » في معنى اليقين أكثر من أن تحصى, وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية.
ومنه قول الله جل ثناؤه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [ الكهف: 53 ] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: إن الظن ههنا يقين.
وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن يقين, إِنِّي ظَنَنْتُ ، وَظَنُّوا .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو داود الحفري, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن فهو علم.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) أما « يظنون » فيستيقنون.
وحدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) علموا أنهم ملاقو ربهم, هي كقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [ الحاقة: 20 ] يقول: علمت.
وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: لأنهم لم يعاينوا, فكان ظنهم يقينا, وليس ظنا في شك. وقرأ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ .
القول في تأويل قوله تعالى أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف « الملاقون » إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك, فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون, وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى « فعل » , فأما إذا كانت بمعنى « يفعل وفاعل » , فشأنها إثبات النون, وترك الإضافة.
قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من « فعل ويفعل » , وإسقاط النون وهو بمعنى « يفعل وفاعل » , أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض, فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون.
فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: ( ملاقو ربهم ) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى « يفعل » وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها, وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [ سورة آل عمران: 185 الأنبياء:35 العنكبوت: 57 ] ، وكما قال: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [ القمر: 27 ] ولما يرسلها بعد; وكما قال الشاعر:
هـل أنـت بـاعث دينـار لحاجتنـا أو عبـد رب أخـا عـون بن مخراق?
فأضاف « باعثا » إلى « الدينار » , ولما يبعث, ونصب « عبد رب » عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر:
الحـــافظو عــورة العشــيرة, لا يــأتيهم مـن ورائـهم نطـف
بنصب « العورة » وخفضها، فالخفض على الإضافة, والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة.
وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ( ملاقو ) الإضافة, وهي في معنى يلقون, وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء, فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة, فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ, وترك الإضافة للمعنى.
فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة, وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي, المتواضعين لأمري, الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم.
وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب, فالصلاة عنده عناء وضلال, لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر, وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة, وإقامتها عليه ثقيلة, وله فادحة.
وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله, الراجين عليها جزيل ثوابه, الخائفين بتضييعها أليم عقابه, لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها, ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 46 )
قال أبو جعفر: و « الهاء والميم » اللتان في قوله: ( وأنهم ) من ذكر الخاشعين, و « الهاء » في « إليه » من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: مُلاقُو رَبِّهِمْ فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون.
ثم اختلف في تأويل « الرجوع » الذي في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) فقال بعضهم، بما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) ، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم.
وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية; لأن الله تعالى ذكره, قال في الآية التي قبلها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم, وذلك لا شك يوم القيامة, فكذلك تأويل قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) .
القول في تأويل قوله تعالى يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ) . وقد ذكرته هنالك .
====
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.
كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة » ، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله .
وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته .
أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر:
كَـانُوا خَسـًا أو زَكـًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ لَـمْ يُخْـلَقُوا, وَجُـدُودُ النَّـاسِ تَعْتَلـجُ
وقال آخر:
فَــلا خَســًا عَدِيــدُهُ وَلا زَكــا كَمَـا شِـرَارُ الْبَقْـلِ أَطْـرَافُ السَّـفَا
قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء .
يعني بقوله: « ولا زكا » ، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم .
وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [ سورة الكهف: 74 ] ، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى . وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها.
وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها.
وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:
بِيعَـتْ بِكَسْـرٍ لَئِـيمٍ وَاسْـتَغَاثَ بِهَـا مِـنَ الْهُـزَالِ أَبُوهَـا بَعْـدَ مَـا رَكَعَا
يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة.
قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة .
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم, بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى « برا » . فروي عن ابن عباس ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة, وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي, وتنقضون ميثاقي, وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر ) يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم .
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثني عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون, فعيرهم الله.
وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا الحجاج, قال: قال ابن جريج: ( أتأمرون الناس بالبر ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة, ويدعون العمل بما يأمرون به الناس, فعيرهم الله بذلك, فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وقال آخرون بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء, أمروه بالحق. فقال الله لهم: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وحدثني علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرْمي, قال: حدثنا مخلد بن الحسين, عن أيوب السختياني, عن أبي قلابة، في قول الله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.
قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى; لأنهم وإن اختلفوا في صفة « البر » الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به, فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل, ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.
فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به.
ومعنى « نسيانهم أنفسهم » في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة: 67 ] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تتلون ) : تدرسون وتقرءون. كما:-
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: ( وأنتم تتلون الكتاب ) ، يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 44 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( أفلا تعقلون ) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها, وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما:
حدثنا به محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس: ( أفلا تعقلون ) يقول: أفلا تفهمون؟ فنهاهم عن هذا الخلق القبيح.
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا! كما ذكرنا قبل.
القول في تأويل قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( واستعينوا بالصبر ) : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم - من طاعتي واتباع أمري, وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري, واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم - بالصبر عليه والصلاة.
وقد قيل: إن معنى « الصبر » في هذا الموضع: الصوم, و « الصوم » بعض معاني « الصبر » . وتأويل من تأول ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله, وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواها; ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر, لكفه نفسه عن الجزع; وقيل لشهر رمضان « شهر الصبر » , لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارا, وصبره إياهم عن ذلك: حبسه لهم, وكفه إياهم عنه, كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا, يعني به: حبسه عليه حتى قتله, فالمقتول « مصبور » , والقاتل « صابر » .
وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى.
فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة, فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله, وترك معاصيه, والتعري عن الرياسة, وترك الدنيا؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله, الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر نعيمها, المسلية النفوس عن زينتها وغرورها, المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها, كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري, قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني, عن ابن جرير, عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة, عن عبد العزيز بن اليمان, عن حذيفة قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » .
وحدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا خلف بن الوليد الأزدي, قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبد الله الدؤلي, قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة, قال حذيفة: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى » . .
وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له: « اشكَنْب دَرْد » ؟ قال: نعم, قال: قم فصل؛ فإن في الصلاة شفاء .
فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال له: فَاصْبِرْ يا محمد عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [ طه: 130 ] فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:-
حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن علية, قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر, فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق, فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .
وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله, واعلموا أنهما من طاعة الله.
وقال ابن جريج بما:-
حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.
وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) الآية, قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير! قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( 45 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإنها ) ، وإن الصلاة, ف « الهاء والألف » في « وإنها » عائدتان على « الصلاة » . وقد قال بعضهم: إن قوله: ( وإنها ) بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر فتجعل « الهاء والألف » كناية عنه, وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته.
ويعني بقوله: ( لكبيرة ) : لشديدة ثقيلة. كما:-
حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: أخبرنا ابن يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) قال: إنها لثقيلة.
ويعني بقوله: ( إلا على الخاشعين ) : إلا على الخاضعين لطاعته, الخائفين سطواته, المصدقين بوعده ووعيده. كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( إلا على الخاشعين ) يعني المصدقين بما أنـزل الله.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا آدم العسقلاني, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( إلا على الخاشعين ) قال: يعني الخائفين.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد: ( إلا على الخاشعين ) قال: المؤمنين حقا.
وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [ الشورى: 45 ] قال: قد أذلهم الخوف الذي نـزل بهم, وخشعوا له.
وأصل « الخشوع » : التواضع والتذلل والاستكانة, ومنه قول الشاعر:
لمـا أتـى خـبر الزبـير تـواضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع
يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.
فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله, وكفها عن معاصي الله, وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر, المقربة من مراضي الله, العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.
القول في تأويل قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه « يظن » أنه ملاقيه, والظن: شك, والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟
قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين « ظنا » , والشك « ظنا » , نظير تسميتهم الظلمة « سدفة » ، والضياء « سدفة » , والمغيث « صارخا » , والمستغيث « صارخا » , وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة:
فقلــت لهـم ظنـوا بـألفي مدجـج سـراتهم فـي الفارسـي المسرد
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:
بــأن تغـتزوا قـومي وأقعـد فيكـم وأجـعل منـي الظن غيبا مرجما
يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن « الظن » في معنى اليقين أكثر من أن تحصى, وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية.
ومنه قول الله جل ثناؤه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [ الكهف: 53 ] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين.
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: إن الظن ههنا يقين.
وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن يقين, إِنِّي ظَنَنْتُ ، وَظَنُّوا .
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو داود الحفري, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن فهو علم.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) أما « يظنون » فيستيقنون.
وحدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) علموا أنهم ملاقو ربهم, هي كقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [ الحاقة: 20 ] يقول: علمت.
وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: لأنهم لم يعاينوا, فكان ظنهم يقينا, وليس ظنا في شك. وقرأ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ .
القول في تأويل قوله تعالى أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف « الملاقون » إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك, فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون, وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى « فعل » , فأما إذا كانت بمعنى « يفعل وفاعل » , فشأنها إثبات النون, وترك الإضافة.
قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من « فعل ويفعل » , وإسقاط النون وهو بمعنى « يفعل وفاعل » , أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض, فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون.
فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: ( ملاقو ربهم ) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى « يفعل » وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها, وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [ سورة آل عمران: 185 الأنبياء:35 العنكبوت: 57 ] ، وكما قال: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [ القمر: 27 ] ولما يرسلها بعد; وكما قال الشاعر:
هـل أنـت بـاعث دينـار لحاجتنـا أو عبـد رب أخـا عـون بن مخراق?
فأضاف « باعثا » إلى « الدينار » , ولما يبعث, ونصب « عبد رب » عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر:
الحـــافظو عــورة العشــيرة, لا يــأتيهم مـن ورائـهم نطـف
بنصب « العورة » وخفضها، فالخفض على الإضافة, والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة.
وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ( ملاقو ) الإضافة, وهي في معنى يلقون, وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء, فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة, فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ, وترك الإضافة للمعنى.
فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة, وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي, المتواضعين لأمري, الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم.
وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب, فالصلاة عنده عناء وضلال, لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر, وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة, وإقامتها عليه ثقيلة, وله فادحة.
وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله, الراجين عليها جزيل ثوابه, الخائفين بتضييعها أليم عقابه, لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها, ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 46 )
قال أبو جعفر: و « الهاء والميم » اللتان في قوله: ( وأنهم ) من ذكر الخاشعين, و « الهاء » في « إليه » من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: مُلاقُو رَبِّهِمْ فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون.
ثم اختلف في تأويل « الرجوع » الذي في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) فقال بعضهم، بما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) ، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .
وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم.
وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية; لأن الله تعالى ذكره, قال في الآية التي قبلها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم, وذلك لا شك يوم القيامة, فكذلك تأويل قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) .
القول في تأويل قوله تعالى يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ) . وقد ذكرته هنالك .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 47 )
قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) : أني فضلت أسلافكم, فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم, إذ كانت مآثر الآباء مآثر للأبناء, والنعم عند الآباء نعما عند الأبناء, لكون الأبناء من الآباء, وأخرج جل ذكره قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) مخرج العموم, وهو يريد به خصوصا; لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه . كالذي:-
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر - وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر- عن قتادة، ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان.
حدثني المثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالما.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد في قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: على من هم بين ظهرانيه.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: على من هم بين ظهرانيه.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) ، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الدخان: 32 ] قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره, وقد كان فيهم القردة، وهم أبغض خلقه إليه, وقال لهذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران: 110 ] قال: هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه.
قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:-
حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر جميعا, عن بهز بن حكيم, عن أبيه, عن جده, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ألا إنكم وفيتم سبعين أمة » - قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها- . وقال الحسن: « أنتم خيرها وأكرمها على الله » .
فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام, وأن معنى قوله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الجاثية: 16 ] وقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) على ما بينا من تأويله. وقد أتينا على بيان تأويل قوله: ( العالمين ) بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع, فأغنى ذلك عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا, كما قال الراجز:
قــد صبحــت, صبحهـا السـلام بكبــــد خالطهــــا ســـنام
في ساعة يحبها الطعام
وهو يعني: يحب فيها الطعام. فحذفت « الهاء » الراجعة على « اليوم » , إذ فيه اجتزاء - بما ظهر من قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس ) الدال على المحذوف منه- عما حذف, إذ كان معلوما معناه.
وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا « الهاء » . وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا « فيه » . وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه.
وأما المعنى في قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية - عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة, وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا, ولا يجزي فيه والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
وأما تأويل قوله: « لا تجزي نفس » فإنه يعني: لا تغني: كما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « واتقوا يوما لا تجزي نفس » أما « تجزي » : فتغني.
أصل « الجزاء » - في كلام العرب- : القضاء والتعويض. يقال: « جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء » ، بمعنى: قضيته دينه. ومن ذلك قيل: « جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا » ، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: « يقال أجزيت عنه كذا » : إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته
وقال آخرون منهم: بل « جَزَيْتُ عنك » قضيت عنك. و « أجزَيتُ » كفيت. وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: « جزت عنك شاة وأجزَت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي » بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن « جزت عنك، ولا تُجزي عنك » من لغة أهل الحجاز، وأن « أجزأ وتجزئ » من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول: « أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ »
عنك « .وزعم آخرون أن » جزى « بلا همز: قضى، و » أجزأ « بالهمز: كافأ فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. »
فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟
قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه. وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها- يسر الرجل أن يَبْرُدَ له على ولده أو والده حق . وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما:
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي، قالا: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مَظلمة في عِـرض - قال أبو كريب في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم »
حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا خلاد بن أسلم, قال: حدثنا أبو همام الأهوازي, قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد, عن سعيد عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثنا موسى بن سهل الرملي, قال: حدثنا نعيم بن حماد, قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي, عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يموتن أحدكم وعليه دين, فإنه ليس هناك دينار ولا درهم, إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات » وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا.
حدثني محمد بن إسحاق, قال: قال: حدثنا سالم بن قادم, قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى, قال: أخبرني الحارث بن مسلم, عن الزهري, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة.
قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) يعني: أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق, فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟ .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : لا تجزي منها أن تكون مكانها.
وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل: « ما أغنيت عني شيئا » , بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني, بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء, قالوا: « لا يجزي هذا من هذا » , ولا يستجيزون أن يقولوا: « لا يجزي هذا من هذا شيئا » .
فلو كان تأويل قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) ما قاله من حكينا قوله لقال: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ) كما يقال: لا تجزي نفس من نفس, ولم يقل: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » . وفي صحة التنـزيل بقوله: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
قال أبو جعفر: و « الشفاعة » مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع « شفيع وشافع » لأنه ثنى المستشفع به, فصار به شفعا فكان ذو الحاجة - قبل استشفاعه به في حاجته- فردا, فصار صاحبه له فيها شافعا, وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض « شفيعا » لمصير البائع به شفعا.
فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره, ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل, وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه, وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة, ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما:-
حدثني عباس بن أبي طالب, قال: حدثنا حجاج بن نصير, عن شعبة, عن العوام بن مراجم - رجل من قيس بن ثعلبة- , عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة, كما قال الله عز وجل وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ... [ الأنبياء: 47 ] الآية
فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله - مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم, وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله .
وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة, فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » وأنه قال: « ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة, وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي, وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا » .
فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين - بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه وأن قوله: ( ولا يقبل منها شفاعة ) إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من مواضع الإطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد, فنستقصي الحجاج في ذلك, وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
قال أبو جعفر: و « العدل » - في كلام العرب بفتح العين- : الفدية، كما:-
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: يعني فداء.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: ( ولا يؤخذ منها عدل ) أما عدل: فيعدلها من العدل, يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا حسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: بدل, والبدل: الفدية.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
وحدثني نجيح بن إبراهيم, قال: حدثنا علي بن حكيم, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن عمرو بن قيس الملائي, عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء- , قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل: الفدية .
وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه « عدل » , لمعادلته إياه وهو من غير جنسه; ومصيره له مثلا من وجه الجزاء, لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة, كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [ الأنعام: 70 ] بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها. يقال منه: « هذا عدله وعديله » . وأما « العدل » بكسر العين, فهو مثل الحمل المحمول على الظهر, يقال من ذلك: « عندي غلام عدل غلامك, وشاة عدل شاتك » - بكسر العين- , إذا كان غلام يعدل غلاما, وشاة تعدل شاة. وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل: « عندي عدل شاتك من الدراهم » . وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من « العدل » الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء, وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم, فأما واحد « الأعدال » فلم يسمع فيه إلا « عدل » بكسر العين.
القول في تأويل قوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )
وتأويل قوله: ( ولا هم ينصرون ) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر, كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع بين القوم التعاون والتناصر وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [ الصافات: 24- 26 ] وكان ابن عباس يقول في معنى: لا تَنَاصَرُونَ ، ما:-
حدثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ما لكم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم!
وقد قال بعضهم في معنى قوله: ( ولا هم ينصرون ) : وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية - لمن استحق من خلقه عقوبته- , ولا شفاعة فيه, ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا, فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
أما تأويل قوله: ( وإذ نجيناكم ) فإنه عطف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ . فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إنعامنا عليكم - إذ نجيناكم من آل فرعون- بإنجائناكم منهم.
وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه.
وأصل « آل » أهل, أبدلت الهاء همزة, كما قالوا « ماء » فأبدلوا الهاء همزة, فإذا صغروه قالوا: « مويه » , فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل, قالوا: « أهيل » . وقد حكي سماعا من العرب في تصغير « آل » : « أويل » . وقد يقال: « فلان من آل النساء » يراد به أنه منهن خلق, ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن, كما قال الشاعر:
فــإنك مــن آل النســاء وإنمـا يَكُــنَّ لأدْنَــى; لا وصـال لغـائب
وأحسن أماكن « آل » أن ينطق به مع الأسماء المشهورة, مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي, وآل عباس, وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول, وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك; غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل, ورآني آل المرأة - ولا- : رأيت آل البصرة, وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: « رأيت آل مكة وآل المدينة » . وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل .
وأما « فرعون » فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به, كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم « قيصر » وبعضهم « هرقل » , وكما كانت ملوك فارس تسمى « الأكاسرة » واحدهم « كسرى » , وملوك اليمن تسمى « التبابعة » ، واحدهم « تبع » .
وأما « فرعون موسى » الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه « الوليد بن مُصعب بن الريان » , وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه.
حدثنا بذلك محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مُصعب بن الريان.
وإنما جاز أن يقال: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) ، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجَّين منه, لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه, فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم, وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة, كما يقول القائل لآخر: « فعلنا بكم كذا, وفعلنا بكم كذا, وقتلناكم وسبيناكم » , والمخبِر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه - كان المقولُ له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه, كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:
ولقــد ســما لكـم الهـذيل فنـالكم بــإرَابَ, حــيث يقسِّــم الأنفـالا
فـي فيلـق يدعـو الأراقـم, لـم تكن فرســـانه عُـــزلا ولا أكفــالا
ولم يلحق جرير هذيلا ولا أدركه, ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير, أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم, أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم. .
القول في تأويل قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
وفي قوله: ( يسومونكم ) وجهان من التأويل, أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل, فيكون معناه حينئذ: و اذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع « يسومونكم » رفعا.
والوجه الثاني: أن يكون « يسومونكم » حالا فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب, فيكون حالا من آل فرعون.
وأما تأويل قوله: ( يسومونكم ) فإنه: يوردونكم, ويذيقونكم, ويولونكم, يقال منه: « سامه خطة ضيم » ، إذا أولاه ذلك وأذاقه, كما قال الشاعر:
إن سيم خسفا, وجهه تربدا
فأما تأويل قوله: ( سوء العذاب ) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب; ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب.
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوؤهم؟
قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ، وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: أخبرنا ابن إسحاق, قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله, فصنف يبنون, [ وصنف يحرثون ] ، وصنف يزرعون له, فهم في أعماله, ومن لم يكن منهم في صنعة [ له ] من عمله: فعليه الجزية - فسامهم- كما قال الله عز وجل: سوء العذاب.
وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة, وجعل يقتل أبناءهم, ويستحيي نساءهم:
حدثني بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط عن السدي.
القول في تأويل قوله تعالى يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ
قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم إليهم، دون فرعون - وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره- لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره, ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه, وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك - سلطانا كان الآمر، أو لصا خاربا، أو متغلبا فاجرا. كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون, وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو المقتول عندنا به قصاصا, وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.
وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل, واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي:-
حدثنا به العباس بن الوليد الآملي وتميم بن المنتصر الواسطي, قالا حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, قال: حدثنا القاسم بن أيوب, قال: حدثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا, وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفارُ يطوفون في بني إسرائيل, فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه, ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, وأن الصغار يذبحون, قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم؛ ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, حتى إذا كان القابل حملت بموسى.
وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل, وعلى كل مائة عشرة, وعلى كل عشرة رجلا فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة, فإذا وضعت حملها فانظروا إليه, فإن كان ذكرا فاذبحوه, وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل فإذا ولدت امرأة غلاما أُتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية, قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, وإنه أتاه آت, فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر عن السدي, قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر, فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة, فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه, ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم, واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم, وأدخلوا غلمانهم; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ - يقول: تجبر في الأرض- وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا - , يعني بني إسرائيل, حين جعلهم في الأعمال القذرة- , يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ [ القصص: 4 ] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت, فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون, فكلموه, فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت, فيوشك أن يقع العمل على غلماننا! بذبح أبنائهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! فلو أنك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون, فترك; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. .
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك, ويخرجك من أرضك, ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك, أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان, وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء [ أهل ] مملكته, فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك, وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان, ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد قال، لقد ذكر [ لي ] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار, ثم يصف بعضه إلى بعض, ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل! وإنهم خولك وعمالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان, وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون.
قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم فتأويل قوله إذًا - على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم- : ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: ( ويستحيون نساءكم ) ، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها: « امرأة » والصبايا الصغار وهن أطفال: « نساء » . لأنهم تأولوا قول الله عز وجل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج, فقال بما:-
حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ويستحيون نساءكم ) قال: يسترقون نساءكم.
فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: ( ويستحيون نساءكم ) : إنه استحياء الصبايا الأطفال, إذ لم يجدهن يلزمهن اسم « نساء » ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله « ويستحيون » ، يسترقون, وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية . وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة نظير « الاستبقاء » من « البقاء » ، و « الاستسقاء » من « السقي » . وهو من معنى الاسترقاق بمعزل.
وقد تأول آخرون: قوله ( يذبحون أبناءكم ) ، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال, وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان, لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال .
قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى, فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم, أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت.
ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن, فقيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال: « قد أقبل الرجال » وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: ( ويستحيون نساءكم ) . وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل: « يذبحون أبناءكم » , ولم يقل: يذبحون رجالكم.
القول في تأويل قوله تعالى وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )
أما قوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم - مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت - بلاء لكم من ربكم عظيم.
ويعني بقوله « بلاء » : نعمة، كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، أما البلاء فالنعمة.
وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة من ربكم عظيمة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثل حديث سفيان.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة عظيمة .
وأصل « البلاء » في كلام العرب - الاختبار والامتحان, ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر, كما قال ربنا جل ثناؤه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف: 168 ] ، يقول: اختبرناهم, وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [ الأنبياء: 35 ] . ثم تسمي العرب الخير « بلاء » والشر « بلاء » . غير أن الأكثر في الشر أن يقال: « بلوته أبلوه بلاء » ، وفي الخير: « أبليته أبليه إبلاء وبلاء » ، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
جـزى اللـه بالإحسـان مـا فعلا بكم وأبلاهمـا خـير البـلاء الـذي يبلـو
فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
أما تأويل قوله: ( وإذ فرقنا بكم ) ، فإنه عطف على: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ، بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون, وإذ فرقنا بكم البحر.
ومعنى قوله: ( فرقنا بكم ) : فصلنا بكم البحر. لأنهم كانوا اثني عشر سبطا؛ ففرق البحر اثني عشر طريقا, فسلك كل سبط منهم طريقا منها، فذلك فرق الله بهم عز وجل البحر, وفصله بهم، بتفريقهم في طرقه الاثني عشر، كما:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أتى موسى البحر كنّاه « أبا خالد » , وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم, فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط.
وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: ( وإذ فرقنا بكم البحر ) ، فرقنا بينكم وبين الماء. يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه، وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم, ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر, فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة, وفرقه البحر بالقوم, إنما هو تفريقه البحر بهم، على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم، على ما جاءت به الآثار.
====
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 47 )
قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) : أني فضلت أسلافكم, فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم, إذ كانت مآثر الآباء مآثر للأبناء, والنعم عند الآباء نعما عند الأبناء, لكون الأبناء من الآباء, وأخرج جل ذكره قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) مخرج العموم, وهو يريد به خصوصا; لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه . كالذي:-
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر - وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر- عن قتادة، ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان.
حدثني المثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالما.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد في قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: على من هم بين ظهرانيه.
وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: على من هم بين ظهرانيه.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) ، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الدخان: 32 ] قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره, وقد كان فيهم القردة، وهم أبغض خلقه إليه, وقال لهذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران: 110 ] قال: هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه.
قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:-
حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر جميعا, عن بهز بن حكيم, عن أبيه, عن جده, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ألا إنكم وفيتم سبعين أمة » - قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها- . وقال الحسن: « أنتم خيرها وأكرمها على الله » .
فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام, وأن معنى قوله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الجاثية: 16 ] وقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) على ما بينا من تأويله. وقد أتينا على بيان تأويل قوله: ( العالمين ) بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع, فأغنى ذلك عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا, كما قال الراجز:
قــد صبحــت, صبحهـا السـلام بكبــــد خالطهــــا ســـنام
في ساعة يحبها الطعام
وهو يعني: يحب فيها الطعام. فحذفت « الهاء » الراجعة على « اليوم » , إذ فيه اجتزاء - بما ظهر من قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس ) الدال على المحذوف منه- عما حذف, إذ كان معلوما معناه.
وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا « الهاء » . وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا « فيه » . وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه.
وأما المعنى في قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية - عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة, وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا, ولا يجزي فيه والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
وأما تأويل قوله: « لا تجزي نفس » فإنه يعني: لا تغني: كما:-
حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « واتقوا يوما لا تجزي نفس » أما « تجزي » : فتغني.
أصل « الجزاء » - في كلام العرب- : القضاء والتعويض. يقال: « جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء » ، بمعنى: قضيته دينه. ومن ذلك قيل: « جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا » ، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: « يقال أجزيت عنه كذا » : إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته
وقال آخرون منهم: بل « جَزَيْتُ عنك » قضيت عنك. و « أجزَيتُ » كفيت. وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: « جزت عنك شاة وأجزَت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي » بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن « جزت عنك، ولا تُجزي عنك » من لغة أهل الحجاز، وأن « أجزأ وتجزئ » من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول: « أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ »
عنك « .وزعم آخرون أن » جزى « بلا همز: قضى، و » أجزأ « بالهمز: كافأ فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. »
فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟
قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه. وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها- يسر الرجل أن يَبْرُدَ له على ولده أو والده حق . وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما:
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي، قالا: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مَظلمة في عِـرض - قال أبو كريب في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم »
حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا خلاد بن أسلم, قال: حدثنا أبو همام الأهوازي, قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد, عن سعيد عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثنا موسى بن سهل الرملي, قال: حدثنا نعيم بن حماد, قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي, عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يموتن أحدكم وعليه دين, فإنه ليس هناك دينار ولا درهم, إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات » وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا.
حدثني محمد بن إسحاق, قال: قال: حدثنا سالم بن قادم, قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى, قال: أخبرني الحارث بن مسلم, عن الزهري, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة.
قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) يعني: أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق, فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟ .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : لا تجزي منها أن تكون مكانها.
وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل: « ما أغنيت عني شيئا » , بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني, بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء, قالوا: « لا يجزي هذا من هذا » , ولا يستجيزون أن يقولوا: « لا يجزي هذا من هذا شيئا » .
فلو كان تأويل قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) ما قاله من حكينا قوله لقال: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ) كما يقال: لا تجزي نفس من نفس, ولم يقل: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » . وفي صحة التنـزيل بقوله: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
قال أبو جعفر: و « الشفاعة » مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع « شفيع وشافع » لأنه ثنى المستشفع به, فصار به شفعا فكان ذو الحاجة - قبل استشفاعه به في حاجته- فردا, فصار صاحبه له فيها شافعا, وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض « شفيعا » لمصير البائع به شفعا.
فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره, ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل, وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه, وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة, ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما:-
حدثني عباس بن أبي طالب, قال: حدثنا حجاج بن نصير, عن شعبة, عن العوام بن مراجم - رجل من قيس بن ثعلبة- , عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة, كما قال الله عز وجل وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ... [ الأنبياء: 47 ] الآية
فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله - مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم, وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله .
وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة, فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » وأنه قال: « ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة, وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي, وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا » .
فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين - بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه وأن قوله: ( ولا يقبل منها شفاعة ) إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من مواضع الإطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد, فنستقصي الحجاج في ذلك, وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
قال أبو جعفر: و « العدل » - في كلام العرب بفتح العين- : الفدية، كما:-
حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: يعني فداء.
حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: ( ولا يؤخذ منها عدل ) أما عدل: فيعدلها من العدل, يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا حسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: بدل, والبدل: الفدية.
حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.
وحدثني نجيح بن إبراهيم, قال: حدثنا علي بن حكيم, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن عمرو بن قيس الملائي, عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء- , قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل: الفدية .
وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه « عدل » , لمعادلته إياه وهو من غير جنسه; ومصيره له مثلا من وجه الجزاء, لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة, كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [ الأنعام: 70 ] بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها. يقال منه: « هذا عدله وعديله » . وأما « العدل » بكسر العين, فهو مثل الحمل المحمول على الظهر, يقال من ذلك: « عندي غلام عدل غلامك, وشاة عدل شاتك » - بكسر العين- , إذا كان غلام يعدل غلاما, وشاة تعدل شاة. وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل: « عندي عدل شاتك من الدراهم » . وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من « العدل » الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء, وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم, فأما واحد « الأعدال » فلم يسمع فيه إلا « عدل » بكسر العين.
القول في تأويل قوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )
وتأويل قوله: ( ولا هم ينصرون ) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر, كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع بين القوم التعاون والتناصر وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [ الصافات: 24- 26 ] وكان ابن عباس يقول في معنى: لا تَنَاصَرُونَ ، ما:-
حدثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ما لكم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم!
وقد قال بعضهم في معنى قوله: ( ولا هم ينصرون ) : وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.
قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية - لمن استحق من خلقه عقوبته- , ولا شفاعة فيه, ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا, فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
أما تأويل قوله: ( وإذ نجيناكم ) فإنه عطف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ . فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إنعامنا عليكم - إذ نجيناكم من آل فرعون- بإنجائناكم منهم.
وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه.
وأصل « آل » أهل, أبدلت الهاء همزة, كما قالوا « ماء » فأبدلوا الهاء همزة, فإذا صغروه قالوا: « مويه » , فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل, قالوا: « أهيل » . وقد حكي سماعا من العرب في تصغير « آل » : « أويل » . وقد يقال: « فلان من آل النساء » يراد به أنه منهن خلق, ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن, كما قال الشاعر:
فــإنك مــن آل النســاء وإنمـا يَكُــنَّ لأدْنَــى; لا وصـال لغـائب
وأحسن أماكن « آل » أن ينطق به مع الأسماء المشهورة, مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي, وآل عباس, وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول, وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك; غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل, ورآني آل المرأة - ولا- : رأيت آل البصرة, وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: « رأيت آل مكة وآل المدينة » . وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل .
وأما « فرعون » فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به, كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم « قيصر » وبعضهم « هرقل » , وكما كانت ملوك فارس تسمى « الأكاسرة » واحدهم « كسرى » , وملوك اليمن تسمى « التبابعة » ، واحدهم « تبع » .
وأما « فرعون موسى » الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه « الوليد بن مُصعب بن الريان » , وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه.
حدثنا بذلك محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مُصعب بن الريان.
وإنما جاز أن يقال: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) ، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجَّين منه, لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه, فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم, وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة, كما يقول القائل لآخر: « فعلنا بكم كذا, وفعلنا بكم كذا, وقتلناكم وسبيناكم » , والمخبِر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه - كان المقولُ له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه, كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:
ولقــد ســما لكـم الهـذيل فنـالكم بــإرَابَ, حــيث يقسِّــم الأنفـالا
فـي فيلـق يدعـو الأراقـم, لـم تكن فرســـانه عُـــزلا ولا أكفــالا
ولم يلحق جرير هذيلا ولا أدركه, ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير, أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم, أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم. .
القول في تأويل قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
وفي قوله: ( يسومونكم ) وجهان من التأويل, أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل, فيكون معناه حينئذ: و اذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع « يسومونكم » رفعا.
والوجه الثاني: أن يكون « يسومونكم » حالا فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب, فيكون حالا من آل فرعون.
وأما تأويل قوله: ( يسومونكم ) فإنه: يوردونكم, ويذيقونكم, ويولونكم, يقال منه: « سامه خطة ضيم » ، إذا أولاه ذلك وأذاقه, كما قال الشاعر:
إن سيم خسفا, وجهه تربدا
فأما تأويل قوله: ( سوء العذاب ) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب; ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب.
فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوؤهم؟
قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ، وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما:-
حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: أخبرنا ابن إسحاق, قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله, فصنف يبنون, [ وصنف يحرثون ] ، وصنف يزرعون له, فهم في أعماله, ومن لم يكن منهم في صنعة [ له ] من عمله: فعليه الجزية - فسامهم- كما قال الله عز وجل: سوء العذاب.
وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة, وجعل يقتل أبناءهم, ويستحيي نساءهم:
حدثني بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط عن السدي.
القول في تأويل قوله تعالى يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ
قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم إليهم، دون فرعون - وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره- لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره, ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه, وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك - سلطانا كان الآمر، أو لصا خاربا، أو متغلبا فاجرا. كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون, وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو المقتول عندنا به قصاصا, وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.
وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل, واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي:-
حدثنا به العباس بن الوليد الآملي وتميم بن المنتصر الواسطي, قالا حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, قال: حدثنا القاسم بن أيوب, قال: حدثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا, وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفارُ يطوفون في بني إسرائيل, فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه, ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, وأن الصغار يذبحون, قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم؛ ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, حتى إذا كان القابل حملت بموسى.
وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل, وعلى كل مائة عشرة, وعلى كل عشرة رجلا فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة, فإذا وضعت حملها فانظروا إليه, فإن كان ذكرا فاذبحوه, وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .
حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل فإذا ولدت امرأة غلاما أُتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.
وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية, قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, وإنه أتاه آت, فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم.
وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر عن السدي, قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر, فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة, فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه, ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم, واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم, وأدخلوا غلمانهم; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ - يقول: تجبر في الأرض- وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا - , يعني بني إسرائيل, حين جعلهم في الأعمال القذرة- , يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ [ القصص: 4 ] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت, فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون, فكلموه, فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت, فيوشك أن يقع العمل على غلماننا! بذبح أبنائهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! فلو أنك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون, فترك; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. .
حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك, ويخرجك من أرضك, ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك, أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان, وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء [ أهل ] مملكته, فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك, وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان, ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد قال، لقد ذكر [ لي ] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار, ثم يصف بعضه إلى بعض, ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل! وإنهم خولك وعمالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان, وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون.
قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم فتأويل قوله إذًا - على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم- : ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقونهن فلا يقتلونهن.
وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: ( ويستحيون نساءكم ) ، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها: « امرأة » والصبايا الصغار وهن أطفال: « نساء » . لأنهم تأولوا قول الله عز وجل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.
وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج, فقال بما:-
حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ويستحيون نساءكم ) قال: يسترقون نساءكم.
فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: ( ويستحيون نساءكم ) : إنه استحياء الصبايا الأطفال, إذ لم يجدهن يلزمهن اسم « نساء » ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله « ويستحيون » ، يسترقون, وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية . وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة نظير « الاستبقاء » من « البقاء » ، و « الاستسقاء » من « السقي » . وهو من معنى الاسترقاق بمعزل.
وقد تأول آخرون: قوله ( يذبحون أبناءكم ) ، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال, وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان, لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال .
قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى, فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم, أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت.
ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن, فقيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال: « قد أقبل الرجال » وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: ( ويستحيون نساءكم ) . وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل: « يذبحون أبناءكم » , ولم يقل: يذبحون رجالكم.
القول في تأويل قوله تعالى وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )
أما قوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم - مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت - بلاء لكم من ربكم عظيم.
ويعني بقوله « بلاء » : نعمة، كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، أما البلاء فالنعمة.
وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة من ربكم عظيمة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثل حديث سفيان.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة عظيمة .
وأصل « البلاء » في كلام العرب - الاختبار والامتحان, ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر, كما قال ربنا جل ثناؤه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف: 168 ] ، يقول: اختبرناهم, وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [ الأنبياء: 35 ] . ثم تسمي العرب الخير « بلاء » والشر « بلاء » . غير أن الأكثر في الشر أن يقال: « بلوته أبلوه بلاء » ، وفي الخير: « أبليته أبليه إبلاء وبلاء » ، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
جـزى اللـه بالإحسـان مـا فعلا بكم وأبلاهمـا خـير البـلاء الـذي يبلـو
فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
أما تأويل قوله: ( وإذ فرقنا بكم ) ، فإنه عطف على: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ، بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون, وإذ فرقنا بكم البحر.
ومعنى قوله: ( فرقنا بكم ) : فصلنا بكم البحر. لأنهم كانوا اثني عشر سبطا؛ ففرق البحر اثني عشر طريقا, فسلك كل سبط منهم طريقا منها، فذلك فرق الله بهم عز وجل البحر, وفصله بهم، بتفريقهم في طرقه الاثني عشر، كما:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أتى موسى البحر كنّاه « أبا خالد » , وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم, فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط.
وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: ( وإذ فرقنا بكم البحر ) ، فرقنا بينكم وبين الماء. يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه، وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم, ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر, فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة, وفرقه البحر بالقوم, إنما هو تفريقه البحر بهم، على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم، على ما جاءت به الآثار.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 50 )
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون ونجى بني إسرائيل؟
قيل له، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شهب الخيل.
وخرج موسى, حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف, طلع فرعون في جنده من خلفهم, فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ مُوسَى كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [ سورة الشعراء: 61- 62 ] أي للنجاة, وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: أوحى الله إلى البحر - فيما ذكر لي: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب. بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره. فأوحى الله جل وعز إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سلطان الله الذي أعطاه, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل على نشز من الأرض . يقول الله لموسى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ طه: 77 ] . فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل, وأتبعه فرعون بجنوده.
وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد, أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر, وهو قائم على حاله, فهاب الحصان أن ينفذ. فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق, فقربها منه فشمها الفحل, فلما شمها قدمها, فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه, وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم, يقول: « الحقوا بصاحبكم » . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد, ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد, طبق عليهم البحر, ونادى فرعون - حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه - : لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يونس: 90 ] .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق الهمداني, عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا: فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار, فلما أتى موسى البحر, قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك. يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغَمْر, فذهب به، ثم رجع. فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كَذبتَ ولا كُذبتَ: ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء: 63 ] - يقول: مثل جبل - قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم, حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فلذلك قال: ( وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . قال معمر، قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف, وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان.
وحدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمائة ألف. فلما عاينهم فرعون قال: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [ الشعراء: 54- 56 ] فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر, فالتفتوا فإذا هم برَهَج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا, وهذا فرعون قد رَهِقنا بمن معه! قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل - يعني: له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه. قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه, فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا, كل طريق كالطود العظيم؛ فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم .
قال سفيان, قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا, فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض.
قال سفيان: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذَنوب حصان . فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. وقيل لموسى: اترك البحر رهوا - قال: طُرقا على حاله - قال: ودخل فرعون وقومه في البحر, فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا.
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل, فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. فخرج موسى وهارون في قومهما, وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم, فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [ الشعراء: 60 ] فكان موسى على ساقة بني إسرائيل, وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله, أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم, فمنعه موسى، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل, لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره, وإنما عدوا ما بين ذلك، سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذِيانة - يعني الأنثى- وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [ الشعراء: 53- 54 ] يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون فضرب البحر, فأبى البحر أن ينفتح, وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى فكناه « أبا خالد » وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول: كالجبل العظيم- ، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا, في كل طريق سبط - وكانت الطرق انفلقت بجدران - فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا! فلما رأى ذلك موسى, دعا الله, فجعلها لهم قناطر كهيئة الطِّيقان فنظر آخرهم إلى أولهم, حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه, فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قال: ألا ترون البحر فَرِق مني؟ قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ [ الشعراء: 64 ] يقول: قربنا ثم الآخرين، يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم, فنـزل جبريل على ماذيانة, فشامت الحصن ريح الماذيانة, فاقتحم في أثرها, حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم, أمر البحر أن يأخذهم, فالتطم عليهم. .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر، قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين! فلما رآهم أصحاب موسى قالوا: إنا لمدركون! قال كلا إن معي ربي سيهدين. فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله؟ قال: بلى. قال! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال: بلى. قال: أتعلم أن هذا عدو الله؟ قال: بلى. قال: فافرق لي طريقا ولمن معي. قال: يا موسى, إنما أنا عبد مملوك، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق. وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر, وقرأ قول الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ سورة طه: 77 ] وقرأ قوله: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [ الدخان: 24 ] - سهلا ليس فيه نُقر - فانفرق اثنتي عشرة فرقة, فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم. قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء, حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء.
ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر، وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه, وإلى عظيم سلطانه - في الذي أراكم من طاعة البحر إياه، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة، غير زائل عن حده, انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته, وهو سائل ذائب قبل ذلك.
يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم, ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم, ويحذرهم - في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم- أن يحل بهم ما حل بفرعون وآله، في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، كمعنى قول القائل: « ضربت وأهلك ينظرون, فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع, وكقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان: 45 ] ، وليس هناك رؤية, إنما هو علم.
قال أبو جعفر: والذي دعاه إلى هذا التأويل، أنه وجه قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون، فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا - مما اكتنفهم من البحر- إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام, إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم - على ما قد وصفنا آنفا- والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا. وذلك كان، لا شك نظر عيان لا نظر علم، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ وَاعَدْنَا
اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك, فقرأ بعضهم: ( واعدنا ) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته, فكانت المواعدة من الله لموسى, ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة ( واعدنا ) على « وعدنا » أن قالوا: كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء و الاجتماع, فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك. فلذلك - زعموا- وجب أن يُقضى لقراءة من قرأ ( واعدنا ) بالاختيار على قراءة من قرأ « وعدنا » .
وقرأ بعضهم: « وعدنا » بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر, فأما الله جل ثناؤه، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنـزيل في القرآن كله, فقال جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [ إبراهيم: 22 ] وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [ الأنفال: 7 ] . قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: « وإذ وعدنا موسى » .
والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأَة, وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى, وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان. وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع, فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان, مثل الذي وعده من ذلك صاحبه، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك, إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا, وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك، إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور, ووعده موسى اللقاء. فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا له المناجاة على الطور, وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من « وعد » و « واعد » قرأ القارئ, فهو للحق في ذلك - من جهة التأويل واللغة- مصيب، لما وصفنا من العلل قبل.
ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر, وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر. وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب، والخير والشر، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه - لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه، ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا: من أن كل اتعاد كان بين اثنين، فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه، ومواعدة بينهما, وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد, وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود، إنما هو ما كان بمعنى « الوعد » الذي هو خلاف « الوعيد » .
القول في تأويل قوله تعالى مُوسَى
وموسى - فيما بلغنا- بالقبطية كلمتان, يعني بهما: ماء وشجر. « فمو » ، هو الماء, و « شا » هو الشجر. وإنما سمي بذلك - فيما بلغنا- لأن أمه لما جعلته في التابوت - حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون, فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن, فوجدن التابوت فأخذنه, فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، كان ذلك بمكان فيه ماء وشجر, فقيل: موسى، ماء وشجر. كذلك:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط بن نصر, عن السدي.
وقال أبو جعفر: وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله, فيما زعم ابن إسحاق.
حدثني بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عنه. .
القول في تأويل قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
ومعنى ذلك: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين, ومثل ذلك بقوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يوسف: 82 ] وبقولهم: « اليوم أربعون منذ خرج فلان » , « واليوم يومان » . أي اليوم تمام يومين، وتمام أربعين.
قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة. فأما ظاهر التلاوة, فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة, فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن، بغير برهان دال على صحته.
وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره, وهو ما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قوله: ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) ، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون, فمكث على الطور أربعين ليلة, وأنـزل عليه التوراة في الألواح - وكانت الألواح من برد - فقربه الرب إليه نجيا, وكلمه, وسمع صريف القلم. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور.
وحدثت عن عمار بن الحسن, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق قال: وعد الله موسى- حين أهلك فرعون وقومه, ونجاه وقومه ثلاثين ليلة, ثم أتمها بعشر, فتم ميقات ربه أربعين ليلة, يلقاه ربه فيها ما شاء. واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل, وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للُقِيِّه شوقا إليه, وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر.
القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )
وتأويل قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) ، ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها، من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. و « الهاء » في قوله « من بعده » عائدة على ذكر موسى.
فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، المكذبين به المخاطبين بهذه الآية - عن فعل آبائهم وأسلافهم، وتكذيبهم رسلهم، وخلافهم أنبياءهم, مع تتابع نعمه عليهم، وشيوع آلائه لديهم, مُعَرِّفَهم بذلك أنهم - من خلاف محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وجحودهم لرسالته, مع علمهم بصدقه - على مثل منهاج آبائهم وأسلافهم, ومحذِّرَهم من نـزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نـزل بأوائلهم المكذبين بالرسل: من المسخ واللعن وأنواع النقمات.
وكان سبب اتخاذهم العجل، ما:-
حدثني به عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان، فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق, فلما رآها الحصان تقحم خلفها. قال: وعرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه, فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه, فيجد في بعض أصابعه لبنا, وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ. فلما عاينه في البحر عرفه, فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. - قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: « فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول » [ طه: 96 ] .
قال أبو سعيد قال عكرمة, عن ابن عباس: وألقي في رُوع السامري إنك لا تلقيها على شيء فتقول: « كن كذا وكذا » إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر, وأغرق الله آل فرعون, قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح. ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي آل فرعون قد تعوَّروه, فكأنهم تأثموا منه, فأخرجوه لتنـزل النار فتأكله. فلما جمعوه, قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا, فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت, فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه, فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري! قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر, وغرق آل فرعون, أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله. فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره وقال: إنه فرس الحياة! فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر - حافر الفرس- فانطلق موسى, واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة, وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم, وإن حَلْي القبط إنما هو غنيمة, فاجمعوها جميعا, واحفروا لها حفرة فادفنوها, فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها, وإلا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحَلْي في تلك الحفرة , وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها , فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار . وعدت بنو إسرائيل موعد موسى , فعدوا الليلة يوما واليوم يوما , فلما كان تمام العشرين، خرج لهم العجل. فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي - يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به - يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل- وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه, فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فأخبره خبرهم. قال موسى؛ يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل, أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا . قال: رب أنت إذا أضللتهم .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان - فيما ذكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فرعون - الأمتعة والحلي والثياب , فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم . فلما أذن فرعون في الناس , كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين ساروا لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم، حتى ذهبوا بأموالكم معهم!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق , عن حكيم بن جبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجَرْما , وكان من قوم يعبدون البقر , وكان حب عبادة البقر في نفسه , وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل . فلما فضل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى إلى ربه , قال لهم هارون: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا , فتطهروا منها , فإنها نجس . وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم .
فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي , فيقذفون به فيها. حتى إذا تكسر الحلي فيها، ورأى السامري، أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره , ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: يا نبي الله، ألقي ما في يدي؟ قال: نعم. ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها وقال: « كن عجلا جسدا له خوار » ، فكان، للبلاء والفتنة. فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه , وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: فَنَسِيَ [ طه: 88 ] أي ترك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [ طه: 89 ] وكان اسم السامري موسى بن ظفر , وقع في أرض مصر , فدخل في بني إسرائيل. فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 90- 91 ] فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن , وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. وكان له هائبا مطيعا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون , وأغرق فرعون ومن معه , قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. قال: لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله، قد عرف موسى أن المرء إذا أنجح في حاجة سيده، كان يسره أن يتعجل إليه . قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون , فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم , فاجمعوا نارا , فألقوه فيها فأحرقوه. قال: فجمعوا نارا . قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل , وكان على فرس أنثى - وكان السامري في قوم موسى - قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة , فيبست عليها يده. فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار, وألقى السامري معهم القبضة , صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا , فدخلته الريح , فكان له خوار , فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الخبيث: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، الآية , إلى قوله: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 88- 91 ] قال: حتى إذا أتى موسى الموعد , قال الله: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي فقرأ حتى بلغ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [ طه: 86 ] .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) قال: العجل: حسيل البقرة . قال: حلي استعاروه من آل فرعون , فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه. وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فطرحه فيه، فانسبك , فكان له كالجوف تهوي فيه الرياح .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , قال: إنما سمي العجل , لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحو حديث القاسم عن الحسن .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )
يعني « وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا - في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه , فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . »
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 52 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة، « من بعد ذلك » , أي من بعد اتخاذكم العجل إلها . كما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يعني من بعد ما اتخذتم العجل.
وأما تأويل قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، فإنه يعني به: لتشكروا . ومعنى « لعل » في هذا الموضع معنى « كي » . وقد بينت فيما مضى قبلُ أن أحد معاني « لعل » « كي » ، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع .
فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها، لتشكروني على عفوي عنكم , إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل .
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 53 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب ) : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب « الكتاب » : التوراة , وب « الفرقان » : الفصل بين الحق والباطل، كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر , عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية , في قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: فرق به بين الحق والباطل .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب: هو الفرقان , فرقان بين الحق والباطل .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد، قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب هو الفرقان , فرق بين الحق والباطل .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج قال، وقال ابن عباس: « الفرقان » : جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .
وقال ابن زيد في ذلك بما: -
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب. قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قول الله عز وجل: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) فقال: أما « الفرقان » الذي قال الله جل وعز: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ الأنفال: 41 ] ، فذلك يوم بدر , يوم فرق الله بين الحق والباطل , والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل . قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان , فرق الله بينهم , وسلمه وأنجاه، فرق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد صلى الله عليه وسلم والمشركين , فكذلك جعله بين موسى وفرعون .
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل , وهو نعت للتوراة وصفة لها . فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل .
فيكون « الكتاب » نعتا للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة , ثم عطف عليه ب « الفرقان » , إذ كان من نعتها.
وقد بينا معنى « الكتاب » فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه بمعنى المكتوب.
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية، وإن كان محتملا غيره من التأويل، لأن الذي قبله من ذكر « الكتاب » , وأن معنى « الفرقان » الفصل - وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا - , فإلحاقه إذ كان كذلك، بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه.
وأما تأويل قوله: ( لعلكم تهتدون ) ، فنظير تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، ومعناه لتهتدوا .
وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها، لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
وتأويل ذلك: اذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم . وظلمهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى . وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم , هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم.
ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه , والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم .
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « التوبة » : الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته.
فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:-
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج , عن أبي إسحاق , عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: ( فاقتلوا أنفسكم ) قال: عمدوا إلى الخناجر , فجعل يطعن بعضهم بعضا.
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج , أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد , حتى ألوى موسى بثوبه , فطرحوا ما بأيديهم , فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي فقد اكتفيت ! فذلك حين ألوى بثوبه .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ( توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم , قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا , وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة , فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل , كل من قتل منهم كانت له توبة , وكل من بقي كانت له توبة.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [ طه: 86- 87 ] . فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ طه: 94 ] . فترك هارون ومال إلى السامري , ف قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ إلى قوله: ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [ طه: 95- 97 ] ثم أخذه فذبحه , ثم حرقه بالمبرد , ثم ذراه في اليم , فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى: اشربوا منه . فشربوا , فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [ البقرة: 93 ] . فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى , ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل , فقال لهم موسى: ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) . قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف . فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف , فكان من قتل من الفريقين شهيدا , حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا , وحتى دعا موسى وهارون ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! ! فأمرهم أن يضعوا السلاح , وتاب عليهم . فكان من قتل شهيدا , ومن بقي كان مكفرا عنه . فذلك قوله: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله تعالى: ( باتخاذكم العجل ) ، قال: كان موسى أمر قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر, فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده , فتاب الله عليهم.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « باتخاذكم العجل » ، قال : كان أمر موسى قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفا.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ) الآية ، قال: فصاروا صفين, فجعل يقتل بعضهم بعضا, فبلغ القتلى ما شاء الله , ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل , عن ابن شهاب قال، لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى , فاضطربوا بالسيوف, وتطاعنوا بالخناجر , وموسى رافع يديه . حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض, فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟, أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري وقتادة في قوله: ( فاقتلوا أنفسكم ) ، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل لهم كُفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضا, ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نـزلت التوبة.
قال ابن جريج, وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا, ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل, وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم, فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة , وكانت توبة لمن بقي . وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال , فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , وأحرق العجل وذراه في اليم، وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه , فأخذتهم الصاعقة , ثم بعثوا - سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأَصْلَتَ عليهم القوم السيوف , فجعلوا يقتلونهم. وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم , فتاب عليهم وعفا عنهم , وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه , وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! ( اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) الآية . فاخترطوا السيوف والجِرَزَة والخناجر والسكاكين . قال: وبعث عليهم ضبابة , قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي , ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري , ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه . وقرأ قول الله جل ثناؤه: وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ [ الدخان: 33 ] . قال: فقتلاهم شهداء , وتيب على أحيائهم، وقرأ: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . .
فالذي ذكرنا - عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها- كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك.
وأما معنى قوله: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما: -
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، أي: إلى خالقكم.
وهو من « برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ » . و « البرية » : الخلق. وهي « فعيلة » بمعنى « مفعولة » , غير أنها لا تهمز. كما لا يهمز « ملك » وهو من « لأك » , لكنه جرى بترك الهمزة كذلك قال نابغة بني ذبيان:
إلا ســليمان إذ قــال المليـك لـه قـم فـي البريـة فاحدُدْهـا عن الفَنَد
وقد قيل: إن « البرية » إنما لم تهمز لأنها « فعيلة » من « البَرَى » , والبَرَى: التراب . فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.
وقال بعضهم: إنما أخذت « البرية » من قولك « بريت العود » . فلذلك لم يهمز .
قال أبو جعفر: وترك الهمز من « بارئكم » جائز , والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزا في « باريكم » فغير مستنكر أن تكون « البرية » من: « برى الله الخلق » بترك الهمزة.
وأما قوله: ( ذلكم خير لكم عند بارئكم ) ، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم, وتستوجبون به الثواب منه.
وقوله: ( فتاب عليكم ) ، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك . لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم , ذلكم خير لكم عند بارئكم , فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله: « فتبتم » ، إذ كان في قوله: ( فتاب عليكم ) دلالة بينة على اقتضاء الكلام « فتبتم » .
ويعني بقوله: ( فتاب عيكم ) رَجَعَ لكم ربكم إلى ما أحببتم: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم , والصفح عن جرمكم، ( إنه هو التواب الرحيم ) يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني ب « الرحيم » ، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه, وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا , كما تجهر الرَّكيَّة , وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين , فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: « قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة » . ولذلك قيل: « قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا » ، « إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: »
مــن اللائــي يظـل الألـف منـه منيخًــا مــن مخافتــه جهــارا
وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( حتى نرى الله جهرة ) ، قال: علانية.
وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: ( حتى نرى الله جهرة ) يقول: عيانا.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( حتى نرى الله جهرة ) ، حتى يطلع إلينا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( حتى نرى الله جهرة ) ، أي عيانا.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم , مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور , وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم , وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة . وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم , مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.
فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا - في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم, وجحودهم نبوته , وتركهم الإقرار به وبما جاء به , مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى, وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى , مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم.
====
القول في تأويل قوله تعالى فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 50 )
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون ونجى بني إسرائيل؟
قيل له، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شهب الخيل.
وخرج موسى, حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف, طلع فرعون في جنده من خلفهم, فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ مُوسَى كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [ سورة الشعراء: 61- 62 ] أي للنجاة, وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: أوحى الله إلى البحر - فيما ذكر لي: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب. بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره. فأوحى الله جل وعز إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سلطان الله الذي أعطاه, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل على نشز من الأرض . يقول الله لموسى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ طه: 77 ] . فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل, وأتبعه فرعون بجنوده.
وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد, أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر, وهو قائم على حاله, فهاب الحصان أن ينفذ. فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق, فقربها منه فشمها الفحل, فلما شمها قدمها, فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه, وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم, يقول: « الحقوا بصاحبكم » . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد, ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد, طبق عليهم البحر, ونادى فرعون - حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه - : لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يونس: 90 ] .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق الهمداني, عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا: فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار, فلما أتى موسى البحر, قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك. يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغَمْر, فذهب به، ثم رجع. فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كَذبتَ ولا كُذبتَ: ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء: 63 ] - يقول: مثل جبل - قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم, حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فلذلك قال: ( وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . قال معمر، قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف, وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان.
وحدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمائة ألف. فلما عاينهم فرعون قال: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [ الشعراء: 54- 56 ] فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر, فالتفتوا فإذا هم برَهَج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا, وهذا فرعون قد رَهِقنا بمن معه! قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل - يعني: له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه. قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه, فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا, كل طريق كالطود العظيم؛ فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم .
قال سفيان, قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا, فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض.
قال سفيان: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذَنوب حصان . فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. وقيل لموسى: اترك البحر رهوا - قال: طُرقا على حاله - قال: ودخل فرعون وقومه في البحر, فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا.
حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل, فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. فخرج موسى وهارون في قومهما, وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم, فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [ الشعراء: 60 ] فكان موسى على ساقة بني إسرائيل, وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله, أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم, فمنعه موسى، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل, لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره, وإنما عدوا ما بين ذلك، سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذِيانة - يعني الأنثى- وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [ الشعراء: 53- 54 ] يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون فضرب البحر, فأبى البحر أن ينفتح, وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى فكناه « أبا خالد » وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول: كالجبل العظيم- ، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا, في كل طريق سبط - وكانت الطرق انفلقت بجدران - فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا! فلما رأى ذلك موسى, دعا الله, فجعلها لهم قناطر كهيئة الطِّيقان فنظر آخرهم إلى أولهم, حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه, فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قال: ألا ترون البحر فَرِق مني؟ قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ [ الشعراء: 64 ] يقول: قربنا ثم الآخرين، يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم, فنـزل جبريل على ماذيانة, فشامت الحصن ريح الماذيانة, فاقتحم في أثرها, حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم, أمر البحر أن يأخذهم, فالتطم عليهم. .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر، قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين! فلما رآهم أصحاب موسى قالوا: إنا لمدركون! قال كلا إن معي ربي سيهدين. فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله؟ قال: بلى. قال! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال: بلى. قال: أتعلم أن هذا عدو الله؟ قال: بلى. قال: فافرق لي طريقا ولمن معي. قال: يا موسى, إنما أنا عبد مملوك، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق. وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر, وقرأ قول الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ سورة طه: 77 ] وقرأ قوله: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [ الدخان: 24 ] - سهلا ليس فيه نُقر - فانفرق اثنتي عشرة فرقة, فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم. قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء, حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء.
ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر، وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه, وإلى عظيم سلطانه - في الذي أراكم من طاعة البحر إياه، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة، غير زائل عن حده, انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته, وهو سائل ذائب قبل ذلك.
يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم, ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم, ويحذرهم - في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم- أن يحل بهم ما حل بفرعون وآله، في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، كمعنى قول القائل: « ضربت وأهلك ينظرون, فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع, وكقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان: 45 ] ، وليس هناك رؤية, إنما هو علم.
قال أبو جعفر: والذي دعاه إلى هذا التأويل، أنه وجه قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون، فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا - مما اكتنفهم من البحر- إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام, إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم - على ما قد وصفنا آنفا- والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا. وذلك كان، لا شك نظر عيان لا نظر علم، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ وَاعَدْنَا
اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك, فقرأ بعضهم: ( واعدنا ) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته, فكانت المواعدة من الله لموسى, ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة ( واعدنا ) على « وعدنا » أن قالوا: كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء و الاجتماع, فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك. فلذلك - زعموا- وجب أن يُقضى لقراءة من قرأ ( واعدنا ) بالاختيار على قراءة من قرأ « وعدنا » .
وقرأ بعضهم: « وعدنا » بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر, فأما الله جل ثناؤه، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنـزيل في القرآن كله, فقال جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [ إبراهيم: 22 ] وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [ الأنفال: 7 ] . قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: « وإذ وعدنا موسى » .
والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأَة, وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى, وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان. وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع, فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان, مثل الذي وعده من ذلك صاحبه، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك, إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا, وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك، إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور, ووعده موسى اللقاء. فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا له المناجاة على الطور, وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من « وعد » و « واعد » قرأ القارئ, فهو للحق في ذلك - من جهة التأويل واللغة- مصيب، لما وصفنا من العلل قبل.
ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر, وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر. وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب، والخير والشر، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه - لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه، ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا: من أن كل اتعاد كان بين اثنين، فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه، ومواعدة بينهما, وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد, وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود، إنما هو ما كان بمعنى « الوعد » الذي هو خلاف « الوعيد » .
القول في تأويل قوله تعالى مُوسَى
وموسى - فيما بلغنا- بالقبطية كلمتان, يعني بهما: ماء وشجر. « فمو » ، هو الماء, و « شا » هو الشجر. وإنما سمي بذلك - فيما بلغنا- لأن أمه لما جعلته في التابوت - حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون, فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن, فوجدن التابوت فأخذنه, فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، كان ذلك بمكان فيه ماء وشجر, فقيل: موسى، ماء وشجر. كذلك:-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط بن نصر, عن السدي.
وقال أبو جعفر: وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله, فيما زعم ابن إسحاق.
حدثني بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عنه. .
القول في تأويل قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
ومعنى ذلك: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين, ومثل ذلك بقوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يوسف: 82 ] وبقولهم: « اليوم أربعون منذ خرج فلان » , « واليوم يومان » . أي اليوم تمام يومين، وتمام أربعين.
قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة. فأما ظاهر التلاوة, فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة, فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن، بغير برهان دال على صحته.
وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره, وهو ما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قوله: ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) ، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون, فمكث على الطور أربعين ليلة, وأنـزل عليه التوراة في الألواح - وكانت الألواح من برد - فقربه الرب إليه نجيا, وكلمه, وسمع صريف القلم. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور.
وحدثت عن عمار بن الحسن, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, بنحوه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق قال: وعد الله موسى- حين أهلك فرعون وقومه, ونجاه وقومه ثلاثين ليلة, ثم أتمها بعشر, فتم ميقات ربه أربعين ليلة, يلقاه ربه فيها ما شاء. واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل, وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للُقِيِّه شوقا إليه, وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر.
القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )
وتأويل قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) ، ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها، من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. و « الهاء » في قوله « من بعده » عائدة على ذكر موسى.
فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، المكذبين به المخاطبين بهذه الآية - عن فعل آبائهم وأسلافهم، وتكذيبهم رسلهم، وخلافهم أنبياءهم, مع تتابع نعمه عليهم، وشيوع آلائه لديهم, مُعَرِّفَهم بذلك أنهم - من خلاف محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وجحودهم لرسالته, مع علمهم بصدقه - على مثل منهاج آبائهم وأسلافهم, ومحذِّرَهم من نـزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نـزل بأوائلهم المكذبين بالرسل: من المسخ واللعن وأنواع النقمات.
وكان سبب اتخاذهم العجل، ما:-
حدثني به عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان، فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق, فلما رآها الحصان تقحم خلفها. قال: وعرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه, فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه, فيجد في بعض أصابعه لبنا, وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ. فلما عاينه في البحر عرفه, فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. - قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: « فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول » [ طه: 96 ] .
قال أبو سعيد قال عكرمة, عن ابن عباس: وألقي في رُوع السامري إنك لا تلقيها على شيء فتقول: « كن كذا وكذا » إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر, وأغرق الله آل فرعون, قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح. ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي آل فرعون قد تعوَّروه, فكأنهم تأثموا منه, فأخرجوه لتنـزل النار فتأكله. فلما جمعوه, قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا, فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت, فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه, فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري! قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر, وغرق آل فرعون, أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله. فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره وقال: إنه فرس الحياة! فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر - حافر الفرس- فانطلق موسى, واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة, وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم, وإن حَلْي القبط إنما هو غنيمة, فاجمعوها جميعا, واحفروا لها حفرة فادفنوها, فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها, وإلا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحَلْي في تلك الحفرة , وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها , فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار . وعدت بنو إسرائيل موعد موسى , فعدوا الليلة يوما واليوم يوما , فلما كان تمام العشرين، خرج لهم العجل. فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي - يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به - يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل- وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه, فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فأخبره خبرهم. قال موسى؛ يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل, أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا . قال: رب أنت إذا أضللتهم .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان - فيما ذكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فرعون - الأمتعة والحلي والثياب , فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم . فلما أذن فرعون في الناس , كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين ساروا لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم، حتى ذهبوا بأموالكم معهم!
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق , عن حكيم بن جبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجَرْما , وكان من قوم يعبدون البقر , وكان حب عبادة البقر في نفسه , وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل . فلما فضل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى إلى ربه , قال لهم هارون: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا , فتطهروا منها , فإنها نجس . وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم .
فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي , فيقذفون به فيها. حتى إذا تكسر الحلي فيها، ورأى السامري، أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره , ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: يا نبي الله، ألقي ما في يدي؟ قال: نعم. ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها وقال: « كن عجلا جسدا له خوار » ، فكان، للبلاء والفتنة. فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه , وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: فَنَسِيَ [ طه: 88 ] أي ترك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [ طه: 89 ] وكان اسم السامري موسى بن ظفر , وقع في أرض مصر , فدخل في بني إسرائيل. فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 90- 91 ] فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن , وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. وكان له هائبا مطيعا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون , وأغرق فرعون ومن معه , قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. قال: لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله، قد عرف موسى أن المرء إذا أنجح في حاجة سيده، كان يسره أن يتعجل إليه . قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون , فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم , فاجمعوا نارا , فألقوه فيها فأحرقوه. قال: فجمعوا نارا . قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل , وكان على فرس أنثى - وكان السامري في قوم موسى - قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة , فيبست عليها يده. فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار, وألقى السامري معهم القبضة , صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا , فدخلته الريح , فكان له خوار , فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الخبيث: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، الآية , إلى قوله: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 88- 91 ] قال: حتى إذا أتى موسى الموعد , قال الله: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي فقرأ حتى بلغ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [ طه: 86 ] .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) قال: العجل: حسيل البقرة . قال: حلي استعاروه من آل فرعون , فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه. وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فطرحه فيه، فانسبك , فكان له كالجوف تهوي فيه الرياح .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , قال: إنما سمي العجل , لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحو حديث القاسم عن الحسن .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه
القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )
يعني « وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا - في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه , فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . »
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 52 )
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة، « من بعد ذلك » , أي من بعد اتخاذكم العجل إلها . كما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يعني من بعد ما اتخذتم العجل.
وأما تأويل قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، فإنه يعني به: لتشكروا . ومعنى « لعل » في هذا الموضع معنى « كي » . وقد بينت فيما مضى قبلُ أن أحد معاني « لعل » « كي » ، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع .
فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها، لتشكروني على عفوي عنكم , إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل .
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 53 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب ) : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب « الكتاب » : التوراة , وب « الفرقان » : الفصل بين الحق والباطل، كما:-
حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر , عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية , في قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: فرق به بين الحق والباطل .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب: هو الفرقان , فرقان بين الحق والباطل .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد، قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب هو الفرقان , فرق بين الحق والباطل .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج قال، وقال ابن عباس: « الفرقان » : جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .
وقال ابن زيد في ذلك بما: -
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب. قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قول الله عز وجل: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) فقال: أما « الفرقان » الذي قال الله جل وعز: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ الأنفال: 41 ] ، فذلك يوم بدر , يوم فرق الله بين الحق والباطل , والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل . قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان , فرق الله بينهم , وسلمه وأنجاه، فرق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد صلى الله عليه وسلم والمشركين , فكذلك جعله بين موسى وفرعون .
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل , وهو نعت للتوراة وصفة لها . فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل .
فيكون « الكتاب » نعتا للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة , ثم عطف عليه ب « الفرقان » , إذ كان من نعتها.
وقد بينا معنى « الكتاب » فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه بمعنى المكتوب.
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية، وإن كان محتملا غيره من التأويل، لأن الذي قبله من ذكر « الكتاب » , وأن معنى « الفرقان » الفصل - وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا - , فإلحاقه إذ كان كذلك، بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه.
وأما تأويل قوله: ( لعلكم تهتدون ) ، فنظير تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، ومعناه لتهتدوا .
وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها، لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )
وتأويل ذلك: اذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم . وظلمهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى . وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم , هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم.
ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه , والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم .
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « التوبة » : الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته.
فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:-
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج , عن أبي إسحاق , عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: ( فاقتلوا أنفسكم ) قال: عمدوا إلى الخناجر , فجعل يطعن بعضهم بعضا.
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج , أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد , حتى ألوى موسى بثوبه , فطرحوا ما بأيديهم , فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي فقد اكتفيت ! فذلك حين ألوى بثوبه .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ( توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم , قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا , وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة , فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل , كل من قتل منهم كانت له توبة , وكل من بقي كانت له توبة.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [ طه: 86- 87 ] . فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ طه: 94 ] . فترك هارون ومال إلى السامري , ف قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ إلى قوله: ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [ طه: 95- 97 ] ثم أخذه فذبحه , ثم حرقه بالمبرد , ثم ذراه في اليم , فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى: اشربوا منه . فشربوا , فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [ البقرة: 93 ] . فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى , ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل , فقال لهم موسى: ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) . قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف . فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف , فكان من قتل من الفريقين شهيدا , حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا , وحتى دعا موسى وهارون ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! ! فأمرهم أن يضعوا السلاح , وتاب عليهم . فكان من قتل شهيدا , ومن بقي كان مكفرا عنه . فذلك قوله: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله تعالى: ( باتخاذكم العجل ) ، قال: كان موسى أمر قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر, فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده , فتاب الله عليهم.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « باتخاذكم العجل » ، قال : كان أمر موسى قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفا.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ) الآية ، قال: فصاروا صفين, فجعل يقتل بعضهم بعضا, فبلغ القتلى ما شاء الله , ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل , عن ابن شهاب قال، لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى , فاضطربوا بالسيوف, وتطاعنوا بالخناجر , وموسى رافع يديه . حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض, فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟, أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري وقتادة في قوله: ( فاقتلوا أنفسكم ) ، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل لهم كُفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضا, ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نـزلت التوبة.
قال ابن جريج, وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا, ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل, وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم, فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة , وكانت توبة لمن بقي . وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال , فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , وأحرق العجل وذراه في اليم، وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه , فأخذتهم الصاعقة , ثم بعثوا - سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأَصْلَتَ عليهم القوم السيوف , فجعلوا يقتلونهم. وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم , فتاب عليهم وعفا عنهم , وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه , وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! ( اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) الآية . فاخترطوا السيوف والجِرَزَة والخناجر والسكاكين . قال: وبعث عليهم ضبابة , قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي , ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري , ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه . وقرأ قول الله جل ثناؤه: وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ [ الدخان: 33 ] . قال: فقتلاهم شهداء , وتيب على أحيائهم، وقرأ: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . .
فالذي ذكرنا - عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها- كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك.
وأما معنى قوله: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما: -
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، أي: إلى خالقكم.
وهو من « برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ » . و « البرية » : الخلق. وهي « فعيلة » بمعنى « مفعولة » , غير أنها لا تهمز. كما لا يهمز « ملك » وهو من « لأك » , لكنه جرى بترك الهمزة كذلك قال نابغة بني ذبيان:
إلا ســليمان إذ قــال المليـك لـه قـم فـي البريـة فاحدُدْهـا عن الفَنَد
وقد قيل: إن « البرية » إنما لم تهمز لأنها « فعيلة » من « البَرَى » , والبَرَى: التراب . فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.
وقال بعضهم: إنما أخذت « البرية » من قولك « بريت العود » . فلذلك لم يهمز .
قال أبو جعفر: وترك الهمز من « بارئكم » جائز , والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزا في « باريكم » فغير مستنكر أن تكون « البرية » من: « برى الله الخلق » بترك الهمزة.
وأما قوله: ( ذلكم خير لكم عند بارئكم ) ، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم, وتستوجبون به الثواب منه.
وقوله: ( فتاب عليكم ) ، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك . لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم , ذلكم خير لكم عند بارئكم , فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله: « فتبتم » ، إذ كان في قوله: ( فتاب عليكم ) دلالة بينة على اقتضاء الكلام « فتبتم » .
ويعني بقوله: ( فتاب عيكم ) رَجَعَ لكم ربكم إلى ما أحببتم: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم , والصفح عن جرمكم، ( إنه هو التواب الرحيم ) يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني ب « الرحيم » ، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه, وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا , كما تجهر الرَّكيَّة , وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين , فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: « قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة » . ولذلك قيل: « قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا » ، « إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: »
مــن اللائــي يظـل الألـف منـه منيخًــا مــن مخافتــه جهــارا
وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( حتى نرى الله جهرة ) ، قال: علانية.
وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: ( حتى نرى الله جهرة ) يقول: عيانا.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( حتى نرى الله جهرة ) ، حتى يطلع إلينا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( حتى نرى الله جهرة ) ، أي عيانا.
فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم , مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور , وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم , وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة . وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم , مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.
فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا - في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم, وجحودهم نبوته , وتركهم الإقرار به وبما جاء به , مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى, وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى , مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 55 )
اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم . فقال بعضهم بما: -
حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، قال: ماتوا.
وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( فأخذتكم الصاعقة ) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا ، يقول: فماتوا.
وقال آخرون بما: -
حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، والصاعقة: نار.
وقال آخرون بما: -
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.
وأصل « الصاعقة » كل أمر هائل رآه [ المرء ] أو عاينه أو أصابه - حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب, وإلى ذهاب عقل وغمور فهم , أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا , أو زلزلة , أو رجفا . ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت , قول الله عز وجل: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [ الأعراف: 143 ] ، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:
وهــل كـان الفـرزدق غـير قـرد أصابتــه الصــواعق فاســتدارا
فقد علم أن موسى لم يكن - حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تُبْتُ إِلَيْكَ [ الأعراف: 143 ] - ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا . ولكن معنى ذلك ما وصفنا .
ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم , يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.
القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 56 )
يعني بقوله: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم .
وأصل « البعث » إثارة الشيء من محله . ومنه قيل: « بعث فلان راحلته » إذا أثارها من مبركها للسير , كما قال الشاعر:
فأبعثهــا وهــيَّ صنيــعُ حـول كــركن الــرَّعنِ, ذِعْلِبَـةً وَقاحـا
و « الرعن » : منقطع أنف الجبل , و « الذعلبة » : الخفيفة , و « الوقاح » : الشديدة الحافر أو الخف . ومن ذلك قيل: « بعثت فلانا لحاجتي » ، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها . ومن ذلك قيل ليوم القيامة: « يوم البعث » , لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.
يعني بقوله: ( من بعد موتكم ) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.
وقوله: ( لعلكم تشكرون ) ، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم ، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم, فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.
وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم.
وقال آخرون: معنى قوله: ( ثم بعثناكم ) ، أي بعثناكم أنبياء .
حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي .
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم , وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم , ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون.
وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير , والمؤخر الذي معناه التقديم.
حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي.
وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته . والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.
وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً , ما:-
حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل , عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , ورأى ما هم فيه من عبادة العجل , وقال لأخيه وللسامري ما قال , وحرق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر , وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل , فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه , وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم . فقال له السبعون - فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، قال: أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله , ودنا موسى فدخل فيه , وقال للقوم: ادنوا . وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضرب دونه الحجاب . ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا , فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة- [ فافتلتت أرواحهم ] فماتوا جميعا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا , أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ - أي: إن هذا لهم هلاك , اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه , حتى رد إليهم أرواحهم , فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل , وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به , أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل , ووعدهم موعدا , فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه , ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل , فذلك حين يقول موسى: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [ إلى قوله ] إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [ الأعراف: 155- 156 ] . [ يقول تبنا إليك ] . وذلك قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون , فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك , فادعه يجعلنا أنبياء ! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء, فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح , قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل , فأمرهم بقتل أنفسهم , ففعلوا , فتاب الله عليهم - , : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به , ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة , حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، قال: فجاءت غضبة من الله, فجاءتهم صاعقة بعد التوبة , فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم , وقرأ قول الله تعالى: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله . فقالوا : لا . فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا . فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل فوقهم .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، قال: أخذتهم الصاعقة , ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس في قوله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . قال: فسمعوا كلاما , فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم , فبعثوا لبقية آجالهم .
فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له . وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه , فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة , فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه . وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم , وقد قامت حجته على من احتج به عليه , ولا حاجة لمن انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك . وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها , وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
القول في تأويل قوله تعالى وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ
( وظللنا عليكم الغمام ) عطف على قوله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم , وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون .
و « الغمام » جمع « غمامة » ، كما السحاب جمع سحابة , « والغمام » هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين . وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما.
وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب.
وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم.
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو بمنـزلة السحاب.
وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب , وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [ البقرة: 210 ] , وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه .
وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها, فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.
وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
اختلف أهل التأويل في صفة « المن » . فقال بعضهم بما: -
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن صمغة .
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) ، يقول: كان المن ينـزل عليهم مثل الثلج .
وقال آخرون: هو شراب .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل , فيمزجونه بالماء , ثم يشربونه .
وقال آخرون: « المن » ، عسل .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينـزل لهم من السماء .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل , عن جابر , عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن .
وقال آخرون: « المن » الخبز الرقاق .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن ؟ قال: خبز الرقاق، , مثل الذرة , ومثل النقي.
وقال آخرون: « المن » ، الزنجبيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل
وقال آخرون: « المن » ، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينـزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. .
وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد ، عن عامر في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن: الذي يقع على الشجر.
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( المن ) ، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.
وقد قيل . إن « المن » ، هو الترنجبين.
وقال بعضهم: « المن » ، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر , وهو حلو كالعسل , وإياه عنى الأعشى - ميمون بن قيس- بقوله:
لـو أُطعِمـوا المـن والسـلوى مكانَهمُ مـا أبصـر النـاس طُعمـا فيهمُ نجعا
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم قال:
« الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين » .
وقال بعضهم: « المن » ، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه .
وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:
فـــرأى اللــه أنهــم بمَضِيــعٍ لا بـــذي مَــزْرعٍ ولا معمــورا
فَنَســـاها عليهـــم غاديـــات, ومــرى مــزنهم خلايـا وخـورا
عســلا ناطِفــا ومــاء فراتــا وحليبـــا ذا بهجـــة مثمــورا
المثمور: الصافي من اللبن . فجعل المن الذي كان ينـزل عليهم عسلا ناطفا , والناطف: هو القاطر . .
القول في تأويل قوله تعالى وَالسَّلْوَى
قال أبو جعفر: و « السلوى » اسم طائر يشبه السُّمانَى , واحده وجِماعه بلفظ واحد , كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء . وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة .
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: السلوى: طائر .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: السلوى طير.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى .
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر , قال: السلوى السمانى .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: السلوى السمانى .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة , عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى .
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنـزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك . ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: -
فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم , أمرهم الله بالسير إلى أريحا , وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا . فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه . فقال قوم موسى لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: ( إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى , وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا ؟ أين الطعام؟ فأنـزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين - والسلوى وهو طير يشبه السمانى فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله , فإذا سمن أتاه . فقالوا: هذا الطعام , فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , فشرب كل سبط من عين . فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان , ولا يتخرق لهم ثوب , فذلك قوله: ( وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) وقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ . [ البقرة: 60 ]
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل , أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة , وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنـزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نـزل التيه - بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر , فظلل عليهم بالغمام ؛ ودعا لهم بالرزق , فأنـزل الله لهم المن والسلوى .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس -
وحدثت عن عمار بن الحسن , حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة , كلما أصبحوا ساروا غادين , فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه . فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة . قال: وهم في ذلك ينـزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل - لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينـزل عليكم خبزا مخبوزا . فكان ينـزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقيّ - قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به . فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة . قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه . قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله . قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر ! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله , قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام . .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد , فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد , عن أسباط , عن السدي .
حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن . قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد , إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.
القول في تأويل قوله تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه . وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام , وأنـزلنا عليكم المن والسلوى , وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم . فترك ذكر قوله: « وقلنا لكم » ، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه . وقد قيل عنى بقوله: ( من طيبات ما رزقناكم ) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.
والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم , فوصف ذلك ب « الطيب » ، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح .
و « ما » التي مع « رزقناكم » ، بمعنى « الذي » . كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
القول في تأويل قوله تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم , و « ما ظلمونا » ، فاكتفى بما ظهر عما ترك.
وقوله: ( وما ظلمونا ) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويعني بقوله: ( وما ظلمونا ) ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا , ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها . كما: -
حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) قال: يضرون.
وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل « الظلم » : وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية , فأغنى ذلك عن إعادته.
وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص , ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم , ولا تنفعه طاعة مطيع , ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم , وحظها يبخس العاصي , وإياها ينفع المطيع , وحظها يصيب العادل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
و « القرية » - التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها , فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس .
*ذكر الرواية بذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة في قوله: ( ادخلوا هذه القرية ) ، قال: بيت المقدس.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) أما القرية، فقرية بيت المقدس.
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) ، يعني بيت المقدس.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قوله: ( ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم ) قال: هي أريحا , وهي قريبة من بيت المقدس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى « الرغد » فيما مضى من كتابنا , وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
أما « الباب » الذي أمروا أن يدخلوه, فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ادخلوا الباب سجدا ) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وادخلوا الباب سجدا ) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( وادخلوا الباب سجدا ) أنه أحد أبواب بيت المقدس , وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: ( سجدا ) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: ركعا من باب صغير.
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا .
قال أبو جعفر: وأصل « السجود » الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو « ساجد » . ومنه قول الشاعر:
بجَـمْع تضـل البُلْـقُ فـي حَجَراتـه تــرى الأكْـم منـه سـجدا للحـوافر
يعني بقوله: « سجدا » خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يــراوح مــن صلــوات المليـك طـــورا ســـجودا وطــورا جــؤارا
فذلك تأويل ابن عباس قوله: ( سجدا ) ركعا , لأن الراكع منحن , وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطَّةٌ
وتأويل قوله: ( حطة ) ، فعلة , من قول القائل: « حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة » , بمنـزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.
واختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: ( وقولوا حطة ) ، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وقولوا حطة ) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( قولوا حطة ) قال: يحط عنكم خطاياكم .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله: ( حطة ) ، مغفرة .
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: ( حطة ) ، قال: يحط عنكم خطاياكم .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا « لا إله إلا الله » ، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم , وهو قول لا إله إلا الله .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر , قال حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا، « لا إله إلا الله » .
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة , إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: ( وقولوا حطة ) قال: أمروا أن يستغفروا.
وقال آخرون نظير قول عكرمة , إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم .
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت « الحطة » .
فقال بعض نحويي البصرة: رفعت « الحطة » بمعنى « قولوا » ليكن منك حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل: سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة , وفرض عليهم قيلها كذلك .
وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت « الحطة » بضمير « هذه » , كأنه قال: وقولوا: « هذه » حطة.
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر , كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون « حطة » حينئذ خبرا لـ « ما » .
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع « حطة » بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة , وهو دخولنا الباب سجدا حطة , فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنـزيل , وهو قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ، كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [ الأعراف: 164 ] ، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله: ( وقولوا حطة ) ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا .
قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة , فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في « حطة » , لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: « لا إله إلا الله » , أو أن يقولوا: « نستغفر الله » , فقد قيل لهم: قولوا هذا القول , ف « قولوا » واقع حينئذ على « الحطة » , لأن « الحطة » على قول عكرمة - هي قول « لا إله إلا الله » , وإذا كانت هي قول « لا إله إلا الله » , فالقول عليها واقع , كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: « قل خيرا » نصبا , ولم يكن صوابا أن يقول له: « قل خير » ، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع « الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: ( وقولوا حطة ) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: ( وقولوا حطة ) ، أن تكون القراءة في « حطة » نصبا. لأن من شأن العرب - إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:
أبيــدوا بـأيدي عصبـة وسـيوفهم عـلى أمهـات الهـام ضربـا شـآميا
وكقول القائل للرجل: « سمعا وطاعة » بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة , وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذَ اللَّهِ [ يوسف: 23 ] بمعنى: نعوذ بالله.
القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ
يعني بقوله: ( نغفر لكم ) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
وأصل « الغفر » التغطية والستر , فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس « مغفر » , لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله « غمد السيف » , وهو ما تغمده فواراه. ولذلك قيل لزئبر الثوب: « غفرة » , لتغطيته الثوب، وحوله بين الناظر والنظر إليه . ومنه قول أوس بن حجر:
فـلا أعتـب ابـن العم إن كان جاهلا وأغفـر عنـه الجـهل إن كان أجهلا
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : خَطَايَاكُمْ
و « الخطايا » جمع « خطية » بغير همز، كما « المطايا » جمع « مطية » , والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع « الخطايا » بالهمز , لأن ترك الهمز في « خطيئة » أكثر من الهمز , فجمع على « خطايا » , على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت « الخطايا » مجموعة على « خطيئة » بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل , وصحيفة وصحائف . وقد تجمع « خطيئة » بالتاء، فيهمز فيقال « خطيئات » . و « الخطيئة » فعيلة، من « خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ » ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:
وإن مُهَـــــاجِرَيْن تَكَنَّفـــــاه لعمــر اللــه قــد خطئـا وخابـا
يعني: أضلا الحق وأثما.
====
القول في تأويل قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 55 )
اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم . فقال بعضهم بما: -
حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، قال: ماتوا.
وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( فأخذتكم الصاعقة ) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا ، يقول: فماتوا.
وقال آخرون بما: -
حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، والصاعقة: نار.
وقال آخرون بما: -
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.
وأصل « الصاعقة » كل أمر هائل رآه [ المرء ] أو عاينه أو أصابه - حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب, وإلى ذهاب عقل وغمور فهم , أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا , أو زلزلة , أو رجفا . ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت , قول الله عز وجل: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [ الأعراف: 143 ] ، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:
وهــل كـان الفـرزدق غـير قـرد أصابتــه الصــواعق فاســتدارا
فقد علم أن موسى لم يكن - حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تُبْتُ إِلَيْكَ [ الأعراف: 143 ] - ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا . ولكن معنى ذلك ما وصفنا .
ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم , يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.
القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 56 )
يعني بقوله: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم .
وأصل « البعث » إثارة الشيء من محله . ومنه قيل: « بعث فلان راحلته » إذا أثارها من مبركها للسير , كما قال الشاعر:
فأبعثهــا وهــيَّ صنيــعُ حـول كــركن الــرَّعنِ, ذِعْلِبَـةً وَقاحـا
و « الرعن » : منقطع أنف الجبل , و « الذعلبة » : الخفيفة , و « الوقاح » : الشديدة الحافر أو الخف . ومن ذلك قيل: « بعثت فلانا لحاجتي » ، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها . ومن ذلك قيل ليوم القيامة: « يوم البعث » , لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.
يعني بقوله: ( من بعد موتكم ) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.
وقوله: ( لعلكم تشكرون ) ، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم ، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم, فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.
وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم.
وقال آخرون: معنى قوله: ( ثم بعثناكم ) ، أي بعثناكم أنبياء .
حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي .
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم , وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم , ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون.
وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير , والمؤخر الذي معناه التقديم.
حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي.
وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته . والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.
وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً , ما:-
حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل , عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , ورأى ما هم فيه من عبادة العجل , وقال لأخيه وللسامري ما قال , وحرق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر , وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل , فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه , وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم . فقال له السبعون - فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، قال: أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله , ودنا موسى فدخل فيه , وقال للقوم: ادنوا . وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضرب دونه الحجاب . ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا , فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة- [ فافتلتت أرواحهم ] فماتوا جميعا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا , أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ - أي: إن هذا لهم هلاك , اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه , حتى رد إليهم أرواحهم , فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل , وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به , أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل , ووعدهم موعدا , فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه , ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل , فذلك حين يقول موسى: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [ إلى قوله ] إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [ الأعراف: 155- 156 ] . [ يقول تبنا إليك ] . وذلك قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون , فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك , فادعه يجعلنا أنبياء ! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء, فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح , قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل , فأمرهم بقتل أنفسهم , ففعلوا , فتاب الله عليهم - , : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به , ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة , حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، قال: فجاءت غضبة من الله, فجاءتهم صاعقة بعد التوبة , فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم , وقرأ قول الله تعالى: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله . فقالوا : لا . فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا . فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل فوقهم .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، قال: أخذتهم الصاعقة , ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس في قوله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . قال: فسمعوا كلاما , فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم , فبعثوا لبقية آجالهم .
فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له . وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه , فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة , فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه . وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم , وقد قامت حجته على من احتج به عليه , ولا حاجة لمن انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك . وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها , وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
القول في تأويل قوله تعالى وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ
( وظللنا عليكم الغمام ) عطف على قوله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم , وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون .
و « الغمام » جمع « غمامة » ، كما السحاب جمع سحابة , « والغمام » هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين . وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما.
وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب.
وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم.
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو بمنـزلة السحاب.
وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب , وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [ البقرة: 210 ] , وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه .
وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها, فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.
وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.
القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
اختلف أهل التأويل في صفة « المن » . فقال بعضهم بما: -
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن صمغة .
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) ، يقول: كان المن ينـزل عليهم مثل الثلج .
وقال آخرون: هو شراب .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل , فيمزجونه بالماء , ثم يشربونه .
وقال آخرون: « المن » ، عسل .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينـزل لهم من السماء .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل , عن جابر , عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن .
وقال آخرون: « المن » الخبز الرقاق .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن ؟ قال: خبز الرقاق، , مثل الذرة , ومثل النقي.
وقال آخرون: « المن » ، الزنجبيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل
وقال آخرون: « المن » ، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينـزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. .
وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد ، عن عامر في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن: الذي يقع على الشجر.
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( المن ) ، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.
وقد قيل . إن « المن » ، هو الترنجبين.
وقال بعضهم: « المن » ، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر , وهو حلو كالعسل , وإياه عنى الأعشى - ميمون بن قيس- بقوله:
لـو أُطعِمـوا المـن والسـلوى مكانَهمُ مـا أبصـر النـاس طُعمـا فيهمُ نجعا
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم قال:
« الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين » .
وقال بعضهم: « المن » ، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه .
وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:
فـــرأى اللــه أنهــم بمَضِيــعٍ لا بـــذي مَــزْرعٍ ولا معمــورا
فَنَســـاها عليهـــم غاديـــات, ومــرى مــزنهم خلايـا وخـورا
عســلا ناطِفــا ومــاء فراتــا وحليبـــا ذا بهجـــة مثمــورا
المثمور: الصافي من اللبن . فجعل المن الذي كان ينـزل عليهم عسلا ناطفا , والناطف: هو القاطر . .
القول في تأويل قوله تعالى وَالسَّلْوَى
قال أبو جعفر: و « السلوى » اسم طائر يشبه السُّمانَى , واحده وجِماعه بلفظ واحد , كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء . وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة .
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: السلوى: طائر .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: السلوى طير.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى .
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر , قال: السلوى السمانى .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: السلوى السمانى .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة , عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى .
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنـزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك . ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: -
فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم , أمرهم الله بالسير إلى أريحا , وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا . فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه . فقال قوم موسى لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: ( إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى , وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا ؟ أين الطعام؟ فأنـزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين - والسلوى وهو طير يشبه السمانى فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله , فإذا سمن أتاه . فقالوا: هذا الطعام , فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , فشرب كل سبط من عين . فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان , ولا يتخرق لهم ثوب , فذلك قوله: ( وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) وقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ . [ البقرة: 60 ]
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل , أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة , وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنـزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نـزل التيه - بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر , فظلل عليهم بالغمام ؛ ودعا لهم بالرزق , فأنـزل الله لهم المن والسلوى .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس -
وحدثت عن عمار بن الحسن , حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة , كلما أصبحوا ساروا غادين , فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه . فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة . قال: وهم في ذلك ينـزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل - لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينـزل عليكم خبزا مخبوزا . فكان ينـزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقيّ - قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به . فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة . قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه . قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله . قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر ! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله , قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام . .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد , فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد , عن أسباط , عن السدي .
حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن . قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد , إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.
القول في تأويل قوله تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه . وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام , وأنـزلنا عليكم المن والسلوى , وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم . فترك ذكر قوله: « وقلنا لكم » ، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه . وقد قيل عنى بقوله: ( من طيبات ما رزقناكم ) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.
والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم , فوصف ذلك ب « الطيب » ، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح .
و « ما » التي مع « رزقناكم » ، بمعنى « الذي » . كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
القول في تأويل قوله تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم , و « ما ظلمونا » ، فاكتفى بما ظهر عما ترك.
وقوله: ( وما ظلمونا ) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويعني بقوله: ( وما ظلمونا ) ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا , ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها . كما: -
حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) قال: يضرون.
وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل « الظلم » : وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية , فأغنى ذلك عن إعادته.
وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص , ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم , ولا تنفعه طاعة مطيع , ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم , وحظها يبخس العاصي , وإياها ينفع المطيع , وحظها يصيب العادل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
و « القرية » - التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها , فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس .
*ذكر الرواية بذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة في قوله: ( ادخلوا هذه القرية ) ، قال: بيت المقدس.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) أما القرية، فقرية بيت المقدس.
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) ، يعني بيت المقدس.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قوله: ( ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم ) قال: هي أريحا , وهي قريبة من بيت المقدس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى « الرغد » فيما مضى من كتابنا , وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
أما « الباب » الذي أمروا أن يدخلوه, فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ادخلوا الباب سجدا ) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وادخلوا الباب سجدا ) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( وادخلوا الباب سجدا ) أنه أحد أبواب بيت المقدس , وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: ( سجدا ) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: ركعا من باب صغير.
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا .
قال أبو جعفر: وأصل « السجود » الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو « ساجد » . ومنه قول الشاعر:
بجَـمْع تضـل البُلْـقُ فـي حَجَراتـه تــرى الأكْـم منـه سـجدا للحـوافر
يعني بقوله: « سجدا » خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يــراوح مــن صلــوات المليـك طـــورا ســـجودا وطــورا جــؤارا
فذلك تأويل ابن عباس قوله: ( سجدا ) ركعا , لأن الراكع منحن , وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطَّةٌ
وتأويل قوله: ( حطة ) ، فعلة , من قول القائل: « حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة » , بمنـزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.
واختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: ( وقولوا حطة ) ، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وقولوا حطة ) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( قولوا حطة ) قال: يحط عنكم خطاياكم .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله: ( حطة ) ، مغفرة .
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: ( حطة ) ، قال: يحط عنكم خطاياكم .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا « لا إله إلا الله » ، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم , وهو قول لا إله إلا الله .
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر , قال حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا، « لا إله إلا الله » .
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة , إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: ( وقولوا حطة ) قال: أمروا أن يستغفروا.
وقال آخرون نظير قول عكرمة , إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم .
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت « الحطة » .
فقال بعض نحويي البصرة: رفعت « الحطة » بمعنى « قولوا » ليكن منك حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل: سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة , وفرض عليهم قيلها كذلك .
وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت « الحطة » بضمير « هذه » , كأنه قال: وقولوا: « هذه » حطة.
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر , كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون « حطة » حينئذ خبرا لـ « ما » .
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع « حطة » بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة , وهو دخولنا الباب سجدا حطة , فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنـزيل , وهو قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ، كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [ الأعراف: 164 ] ، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله: ( وقولوا حطة ) ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا .
قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة , فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في « حطة » , لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: « لا إله إلا الله » , أو أن يقولوا: « نستغفر الله » , فقد قيل لهم: قولوا هذا القول , ف « قولوا » واقع حينئذ على « الحطة » , لأن « الحطة » على قول عكرمة - هي قول « لا إله إلا الله » , وإذا كانت هي قول « لا إله إلا الله » , فالقول عليها واقع , كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: « قل خيرا » نصبا , ولم يكن صوابا أن يقول له: « قل خير » ، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع « الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: ( وقولوا حطة ) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: ( وقولوا حطة ) ، أن تكون القراءة في « حطة » نصبا. لأن من شأن العرب - إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:
أبيــدوا بـأيدي عصبـة وسـيوفهم عـلى أمهـات الهـام ضربـا شـآميا
وكقول القائل للرجل: « سمعا وطاعة » بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة , وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذَ اللَّهِ [ يوسف: 23 ] بمعنى: نعوذ بالله.
القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ
يعني بقوله: ( نغفر لكم ) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
وأصل « الغفر » التغطية والستر , فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس « مغفر » , لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله « غمد السيف » , وهو ما تغمده فواراه. ولذلك قيل لزئبر الثوب: « غفرة » , لتغطيته الثوب، وحوله بين الناظر والنظر إليه . ومنه قول أوس بن حجر:
فـلا أعتـب ابـن العم إن كان جاهلا وأغفـر عنـه الجـهل إن كان أجهلا
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : خَطَايَاكُمْ
و « الخطايا » جمع « خطية » بغير همز، كما « المطايا » جمع « مطية » , والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع « الخطايا » بالهمز , لأن ترك الهمز في « خطيئة » أكثر من الهمز , فجمع على « خطايا » , على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت « الخطايا » مجموعة على « خطيئة » بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل , وصحيفة وصحائف . وقد تجمع « خطيئة » بالتاء، فيهمز فيقال « خطيئات » . و « الخطيئة » فعيلة، من « خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ » ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:
وإن مُهَـــــاجِرَيْن تَكَنَّفـــــاه لعمــر اللــه قــد خطئـا وخابـا
يعني: أضلا الحق وأثما.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس , وهو ما:-
حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج , قال ابن عباس: ( وسنـزيد المحسنين ) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه , ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات , موسعا عليكم بغير حساب ؛ وادخلوا الباب سجدا , وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا , نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه , ونحط أوزاره عنه , وسنـزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم , وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله , مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم , وعجائب ما أراهم من آياته وعبره , موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات , ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم , وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم ، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات , فقال جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْـزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
وتأويل قوله: ( فبدل ) ، فغير . ويعني بقوله: ( الذين ظلموا ) ، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله . ويعني بقوله: ( قولا غير الذي قيل لهم ) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم . وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره , ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل: « ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم » , فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعيرة .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق , عن صالح بن كيسان , عن صالح مولى التوأمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-
وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن سعيد بن جبير , أو عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة.
وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك , عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: حِطَّةٌ ، قال: بدلوا فقالوا: حبة .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان , عن السدي , عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود , عن عبد الله: ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فأنـزل الله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قال: ركوعا - من باب صغير ، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس قال: أمروا أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة . قال أمروا أن يستغفروا ، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة والحسن: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها , فدخلوها متزحفين على أوراكهم , وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم , فقالوا حبة في شعيرة.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي . قال، حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة , وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة . وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم , فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل - وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة . فذلك التبديل الذي قال الله عز وجل: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثني موسى بن هارون الهمداني [ قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني ] ،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: « هطى سمقا يا ازبة هزبا » , وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم .
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي , عن عكرمة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فدخلوا مقنعي رءوسهم - وَقُولُوا حِطَّةٌ فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال: فكان سجود أحدهم على خده . و ( قولوا حطة ) نحط عنكم خطاياكم , فقالوا: حنطة . وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم .
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة !! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة , « فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم » .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ
يعني بقوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا ) ، على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره , ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، ( رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) .
و « الرِّجز » في لغة العرب، العذاب , وهو غير « الرُّجز » . وذلك أن الرِّجز: البثر، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: « إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم » .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس , عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص , عن أسامة بن زيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الوجع - أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم » .
وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة , عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنـزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( رجزا ) ، قال: عذابا .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) ، قال: الرجز، الغضب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون , فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) ، قال: وبقي الأبناء ففيهم الفضل والعبادة - التي توصف في بني إسرائيل- والخير وهلك الأباء كلهم , أهلكهم الطاعون .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب . وكل شيء في القرآن « رِجز » ، فهو عذاب .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( رجزا ) ، قال: كل شيء في كتاب الله من « الرِّجز » يعني به العذاب .
وقد دللنا على أن تأويل « الرِّجز » العذاب . وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة . وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنـزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء . وجائز أن يكون ذلك طاعونا , وجائز أن يكون غيره . ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، أي أصناف ذلك كان .
فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنـزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.
غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز , وأنه عذب به قوم قبلنا . وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك . وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .
القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 )
وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى « الفسق » ، الخروج من الشيء .
فتأويل قوله: ( بما كانوا يفسقون ) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل, فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ
يعني بقوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسئول ذلك , والمعنى الذي سأل موسى, إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) ، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر , فضربه، فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر , إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه .
وكذلك قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم . فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه .
وقد دللنا فيما مضى على أن « أناس » جمع لا واحد له من لفظه، وأن « الإنسان » لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية.
وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات . وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه , كما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ , فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه . فكانوا يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .
حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد , عن القاسم بن أبي أيوب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ , وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع , وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون , لكل سبط عين ؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنـزل الأول . .
حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان , عن أبي سعيد , عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه . ضرب لهم موسى الحجر , فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء , لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) لكل سبط منهم عين . كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا , فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ، ضربه موسى . قال ابن جريج: قال ابن عباس: « الأسباط » بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه , فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا , ويقرعه موسى بالعصا إذا نـزل , فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط منهم عين ، فكان بنو إسرائيل يشربون منه , حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون , وقيل به فألقى في جانب الجوالق . فإذا نـزل رمى به ، فقرعه بالعصا , فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط , عن السدي قال: كان ذلك في التيه .
وأما قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم - في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل . وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس . إذ كان غيرهم - في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ
وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , قد علم كل أناس مشربهم , فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى , وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، الذي لا قرار له في الأرض , ولا سبيل إليه [ إلا ] لمالكيه، يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام .
ثم تقدم جل ذكره إليهم - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا , والعَثَا فيها استكبارا , فقال جل ثناؤه لهم: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )
يعني بقوله: ( لا تعثوا ) لا تطغوا , ولا تسعوا في الأرض مفسدين . كما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) لا تعث: لا تطغ .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، لا تسعوا في الأرض .
وأصل « العَثَا » شدة الإفساد , بل هو أشد الإفساد. يقال منه: « عَثِيَ فلان في الأرض » - إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته- « يعثى عثا » مقصور , وللجماعة: هم يعثون . وفيه لغتان أخريان، إحداهما: « عثا يعثو عُثُوّا » . ومن قرأها بهذه اللغة , فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من « يعثو » , ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به. ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال: « عثوت أعثو » , ومن نطق باللغة الأولى قال: « عَثِيت أَعْثَى » .
والأخرى منهما: « عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا » , كل ذلك بمعنى واحد . ومن « العيث » قول رؤبة بن العجاج:
وعــاث فينــا مســتحل عـائث: مُصَـــدِّق أو تـــاجر مقــاعث
يعني بقوله: « عاث فينا » ، أفسد فينا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قد دللنا - فيما مضى قبل- على معنى « الصبر » وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. فإذ كان ذلك كذلك , فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم - يا معشر بني إسرائيل- : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك « الطعام الواحد » ، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو « السلوى » في قول بعض أهل التأويل , وفي قول وهب بن منبه هو « الخبز النقي مع اللحم » - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء ، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى .
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا , ما: -
حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كان لهم بمصر , فسألوه موسى . فقال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: ملوا طعامهم , وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك , قالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ) الآية .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: كان طعامهم السلوى , وشرابهم المن , فسألوا ما ذكر , فقيل لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها , فقالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، المن والسلوى , فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله سواء .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد بمثله .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا , فملوا ذلك وقالوا: ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا , وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينـزل لهم من السماء يقال له المن , وطعامهم طير يقال له السلوى , يأكلون الطير ويشربون العسل , لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا: « يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا » ، فقرأ حتى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
وإنما قال جل ذكره: ( يخرج لنا مما تنبت الأرض ) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض , فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن « من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها , فاكتفي بها عن ذكر التبعيض , إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام « يريد شيئا منه. »
وقد قال بعضهم: « من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط . كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب: « ما رأيت من أحد » بمعنى: ما رأيت أحدا , وبقول الله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ البقرة: 271 ] ، وبقولهم: « قد كان من حديث , فخل عني حتى أذهب , يريدون: قد كان حديث . »
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون « من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام , وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه , وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .
فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر « من » - : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها .
و « البقل » و « القثاء » و « العدس » و « البصل » , هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها .
وأما « الفوم » , فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عطاء قال: الفوم:، الخبز .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان , عن ابن جريج , عن عطاء ومجاهد قوله: ( وفومها ) قالا خبزها .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وفومها ) ، قال: الخبز .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة والحسن بمثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) قال: الحنطة .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: ( وفومها ) ، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم , عن يونس , عن الحسن وحصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) ، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي , عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه .
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: ( وفومها ) ، قال: خبزها، قالها مجاهد .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) يقول: الحنطة والخبز .
حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) قال: هو البر بعينه، الحنطة.
حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس , عن رشدين بن كريب , عن أبيه , عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وفومها ) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور , عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: ( وفومها ) ، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاح وهو يقول:
قـد كـنت أغنـى الناس شخصا واحدا وَرَد المدينــة عــن زراعـة فـوم
وقال آخرون: هو الثوم .
ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن ليث , عن مجاهد قال: هو هذا الثوم .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قال: الفوم، الثوم .
وهو في بعض القراءات « وثومها » .
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا « فوما » من اللغة القديمة . حكي سماعا من أهل هذه اللغة: « فوموا لنا » , بمعنى اختبزوا لنا .
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: « وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: « وقعوا في عاثور شر: وعافور شر » وكقولهم « » للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و « المغافير » شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينـزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
يعني بقوله: ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش , بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم .
وأصل « الاستبدال » : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك .
ومعنى قوله: ( أدنى ) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا . وأصله من قولهم: « هذا رجل دني بين الدناءة » و « إنه ليدنِّي في الأمور » بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم . يقولون: ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ ، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى
باســــلةُ الـــوقعِ ســـرابيلها بيــض إلــى دانِئِهــا الظــاهر
بهمز الدانئ , وأنه سمعهم يقولون: « إنه لدانئ خبيث » بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا , فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى .
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم , فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .
وقد تأول بعضهم قوله: ( الذي هو أدنى ) بمعنى: الذي هو أقرب , ووجه قوله: ( أدنى ) ، إلى أنه أفعل من « الدنو » الذي هو بمعنى القرب .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( الذي هو أدنى ) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( الذي هو أدنى ) قال: أردأ.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له , فقلنا لهم: « اهبطوا مصرا » ، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه .
وقد دللنا - فيما مضى- على أن معنى « الهبوط » إلى المكان، إنما هو النـزول إليه والحلول به .
فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه , فاستجاب الله له دعاءه , فأعطاهم ما طلبوا , وقال الله لهم: ( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) .
ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله ( مصرا ) فقرأه عامة القَرَأَة: « مصرا » بتنوين « المصر » وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نونوه وأجروه , فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه . فتأويله - على قراءتهم- : اهبطوا مصرا من الأمصار , لأنكم في البدو , والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي , وإنما يكون في القرى والأمصار , فإن لكم - إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين , كان تأويل الكلام عنده: « اهبطوا مصرا » البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي « مصر » التي خرجوا عنها . غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف , لأن في المصحف ألفا ثابتة في « مصر » , فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [ الإنسان: 15- 16 ] منونة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى « مصر » التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة: ( اهبطوا مصرا ) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار , فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول .
وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن قتادة في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني مصرا من الأمصار .
وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: ( اهبطوا مصرا ) قال: مصرا من الأمصار . زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( اهبطوا مصرا ) ، قال: مصرا من الأمصار . و « مصر » لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ المائدة: 21 ] .
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، حدثنا آدم , حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني به مصر فرعون .
حدثنا عن عمار بن الحسن , عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع مثله .
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: ( اهبطوا مصرا ) ، مصرا من الأمصار دون « مصر » فرعون بعينها - : أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر . وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 21- 24 ] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك - فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة , ثم أهبط ذريتهم الشأم , فأسكنهم الأرض المقدسة , وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها , فيجوز لنا أن نقرأ: « اهبطوا مصر » , ونتأوله أنه ردهم إليها .
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها , وجعل مساكنهم الشأم .
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: ( اهبطوا مصرَ ) مصرَ ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان: 25- 28 ] ، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم , فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها , وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها . قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: « اهبطوا مصر » بغير ألف . قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها « مصر » بعينها .
قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين , ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون , فاستجاب الله لموسى دعاءه , وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك , إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار « مصر » ، وجائز أن يكون « الشأم » .
فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: ( اهبطوا مصرا ) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين , واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: ( وضربت ) أي فرضت . ووضعت عليهم الذلة وألزموها . من قول القائل: « ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة » و « ضرب الرجل على عبده الخراج » يعني بذلك وضعه فألزمه إياه , ومن قولهم: « ضرب الأمير على الجيش البعث » , يراد به: ألزمهموه .
وأما « الذلة » فهي « الفعلة » من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة ، كـ « الصغرة » من « صغُر الأمر » , و « القِعدة » من « قعد » .
و « الذلة » هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم , فقال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التوبة: 29 ] كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن الحسن وقتادة في قوله: ( وضربت عليهم الذلة ) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأما « المسكنة » فإنها مصدر « المسكين » . يقال: « ما فيهم أسكن من فلان » و « ما كان مسكينا » و « لقد تمسكن مسكنة » . ومن العرب من يقول: « تمسكن تمسكنا » . و « المسكنة » في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة , وهي خشوعها وذلها ، كما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( والمسكنة ) قال: الفاقة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: الفقر.
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم , ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا , وبالرضا عنهم غضبا , جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق , وعصيانهم له , وخلافا عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وباءوا بغضب من الله ) ، انصرفوا ورجعوا . ولا يقال « باؤوا » إلا موصولا إما بخير، وإما بشر . يقال منه: « باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء » . ومنه قول الله عز وجل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [ المائدة : 29 ] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني .
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله , قد صار عليهم من الله غضب , ووجب عليهم منه سخط . كما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) فحدث عليهم غضب من الله .
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) قال: استحقوا الغضب من الله .
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم , وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله: « ذلك » - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل: « ذلك » يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
ويعني بقوله: ( بأنهم كانوا يكفرون ) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول: فعلنا بهم - من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق , كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكيـــةٌ جَـــاوَرَتْ بالحجـــا ز قومـــا عـــداة وأرضــا شــطيرا
بمــا قــد تَــرَبَّع روض القطـا وروض التنــاضِب حــتى تصــــيرا
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا , وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى « الكفر » : تغطية الشيء وستره، وأن « آيات الله » حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها , ويكذبون بها.
ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم - لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.
وهم جماع، وأحدهم « نبي » , غير مهموز , وأصله الهمز , لأنه من « أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء » ، وإنما الاسم منه، « منبئ » ولكنه صرف وهو « مفعل » إلى « فعيل » , كما صرف « سميع » إلى « فعيل » من « مسمع » , و « بصير » من « مبصر » , وأشباه ذلك , وأبدل مكان الهمزة من « النبيء » الياء , فقيل: « نبي » . هذا ويجمع « النبي » أيضا على « أنبياء » , وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم « النبيء » ، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو، جمعوه على « أفعلاء » كقولهم: « ولي وأولياء » ، و « وصي وأوصياء » ، و « دعى وأدعياء » . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد « نبيء » مهموز، لجمعوه على « فعلاء » , فقيل لهم « النبآء » , على مثال « النبهاء » , لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء , والعليم علماء ، والحكيم حكماء , وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع « النبي » « النبآء » , وذلك من لغة الذين يهمزون « النبيء » , ثم يجمعونه على « النبآء » - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .
يــا خــاتم النبـآء إنـك مرسـل بـــالخير كـــلُّ هــدى الســبيل هداكــا
فقال : « يا خاتم النبآء » , على أن واحدهم « نبيء » مهموز . وقد قال بعضهم: « النبي » و « النبوة » غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من « النَّبْوَة » , وهي مثل « النَّجْوَة » , وهو المكان المرتفع ، وكان يقول: إن أصل « النبي » الطريق , ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لمــا وردن نَبِيَّــا واســتَتَبّ بهـا مُسْــحَنْفِر كخـطوط السَّـيْح مُنْسَـحِل
يقول: إنما سمى الطريق « نبيا » , لأنه ظاهر مستبين، من « النَّبوة » . ويقول: لم أسمع أحدا يهمز « النبي » . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس , وهو ما:-
حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج , قال ابن عباس: ( وسنـزيد المحسنين ) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه , ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات , موسعا عليكم بغير حساب ؛ وادخلوا الباب سجدا , وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا , نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه , ونحط أوزاره عنه , وسنـزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم , وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله , مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم , وعجائب ما أراهم من آياته وعبره , موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات , ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم , وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم ، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات , فقال جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْـزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
وتأويل قوله: ( فبدل ) ، فغير . ويعني بقوله: ( الذين ظلموا ) ، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله . ويعني بقوله: ( قولا غير الذي قيل لهم ) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم . وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره , ما:-
حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل: « ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم » , فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعيرة .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق , عن صالح بن كيسان , عن صالح مولى التوأمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-
وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن سعيد بن جبير , أو عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة.
وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك , عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: حِطَّةٌ ، قال: بدلوا فقالوا: حبة .
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان , عن السدي , عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود , عن عبد الله: ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فأنـزل الله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قال: ركوعا - من باب صغير ، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس قال: أمروا أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة . قال أمروا أن يستغفروا ، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة والحسن: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها , فدخلوها متزحفين على أوراكهم , وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم , فقالوا حبة في شعيرة.
حدثني محمد بن عمرو الباهلي . قال، حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة , وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة . وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم , فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل - وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة . فذلك التبديل الذي قال الله عز وجل: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثني موسى بن هارون الهمداني [ قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني ] ،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: « هطى سمقا يا ازبة هزبا » , وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم .
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي , عن عكرمة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فدخلوا مقنعي رءوسهم - وَقُولُوا حِطَّةٌ فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال: فكان سجود أحدهم على خده . و ( قولوا حطة ) نحط عنكم خطاياكم , فقالوا: حنطة . وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم .
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة !! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة .
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة , « فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم » .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ
يعني بقوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا ) ، على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره , ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، ( رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) .
و « الرِّجز » في لغة العرب، العذاب , وهو غير « الرُّجز » . وذلك أن الرِّجز: البثر، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: « إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم » .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس , عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص , عن أسامة بن زيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الوجع - أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم » .
وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة , عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنـزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( رجزا ) ، قال: عذابا .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) ، قال: الرجز، الغضب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون , فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) ، قال: وبقي الأبناء ففيهم الفضل والعبادة - التي توصف في بني إسرائيل- والخير وهلك الأباء كلهم , أهلكهم الطاعون .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب . وكل شيء في القرآن « رِجز » ، فهو عذاب .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( رجزا ) ، قال: كل شيء في كتاب الله من « الرِّجز » يعني به العذاب .
وقد دللنا على أن تأويل « الرِّجز » العذاب . وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة . وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنـزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء . وجائز أن يكون ذلك طاعونا , وجائز أن يكون غيره . ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، أي أصناف ذلك كان .
فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنـزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.
غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز , وأنه عذب به قوم قبلنا . وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك . وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .
القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 )
وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى « الفسق » ، الخروج من الشيء .
فتأويل قوله: ( بما كانوا يفسقون ) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل, فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ
يعني بقوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسئول ذلك , والمعنى الذي سأل موسى, إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) ، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر , فضربه، فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر , إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه .
وكذلك قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم . فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه .
وقد دللنا فيما مضى على أن « أناس » جمع لا واحد له من لفظه، وأن « الإنسان » لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية.
وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات . وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه , كما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ , فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه . فكانوا يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .
حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد , عن القاسم بن أبي أيوب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ , وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع , وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون , لكل سبط عين ؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنـزل الأول . .
حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان , عن أبي سعيد , عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه . ضرب لهم موسى الحجر , فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء , لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) لكل سبط منهم عين . كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا , فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ، ضربه موسى . قال ابن جريج: قال ابن عباس: « الأسباط » بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه , فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا , ويقرعه موسى بالعصا إذا نـزل , فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط منهم عين ، فكان بنو إسرائيل يشربون منه , حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون , وقيل به فألقى في جانب الجوالق . فإذا نـزل رمى به ، فقرعه بالعصا , فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط , عن السدي قال: كان ذلك في التيه .
وأما قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم - في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل . وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس . إذ كان غيرهم - في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ
وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , قد علم كل أناس مشربهم , فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى , وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، الذي لا قرار له في الأرض , ولا سبيل إليه [ إلا ] لمالكيه، يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام .
ثم تقدم جل ذكره إليهم - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا , والعَثَا فيها استكبارا , فقال جل ثناؤه لهم: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )
يعني بقوله: ( لا تعثوا ) لا تطغوا , ولا تسعوا في الأرض مفسدين . كما:-
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) لا تعث: لا تطغ .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، لا تسعوا في الأرض .
وأصل « العَثَا » شدة الإفساد , بل هو أشد الإفساد. يقال منه: « عَثِيَ فلان في الأرض » - إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته- « يعثى عثا » مقصور , وللجماعة: هم يعثون . وفيه لغتان أخريان، إحداهما: « عثا يعثو عُثُوّا » . ومن قرأها بهذه اللغة , فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من « يعثو » , ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به. ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال: « عثوت أعثو » , ومن نطق باللغة الأولى قال: « عَثِيت أَعْثَى » .
والأخرى منهما: « عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا » , كل ذلك بمعنى واحد . ومن « العيث » قول رؤبة بن العجاج:
وعــاث فينــا مســتحل عـائث: مُصَـــدِّق أو تـــاجر مقــاعث
يعني بقوله: « عاث فينا » ، أفسد فينا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قد دللنا - فيما مضى قبل- على معنى « الصبر » وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. فإذ كان ذلك كذلك , فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم - يا معشر بني إسرائيل- : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك « الطعام الواحد » ، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو « السلوى » في قول بعض أهل التأويل , وفي قول وهب بن منبه هو « الخبز النقي مع اللحم » - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء ، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى .
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا , ما: -
حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كان لهم بمصر , فسألوه موسى . فقال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: ملوا طعامهم , وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك , قالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ) الآية .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: كان طعامهم السلوى , وشرابهم المن , فسألوا ما ذكر , فقيل لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها , فقالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، المن والسلوى , فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله سواء .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد بمثله .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا , فملوا ذلك وقالوا: ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا , وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينـزل لهم من السماء يقال له المن , وطعامهم طير يقال له السلوى , يأكلون الطير ويشربون العسل , لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا: « يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا » ، فقرأ حتى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
وإنما قال جل ذكره: ( يخرج لنا مما تنبت الأرض ) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض , فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن « من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها , فاكتفي بها عن ذكر التبعيض , إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام « يريد شيئا منه. »
وقد قال بعضهم: « من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط . كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب: « ما رأيت من أحد » بمعنى: ما رأيت أحدا , وبقول الله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ البقرة: 271 ] ، وبقولهم: « قد كان من حديث , فخل عني حتى أذهب , يريدون: قد كان حديث . »
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون « من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام , وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه , وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .
فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر « من » - : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها .
و « البقل » و « القثاء » و « العدس » و « البصل » , هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها .
وأما « الفوم » , فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عطاء قال: الفوم:، الخبز .
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان , عن ابن جريج , عن عطاء ومجاهد قوله: ( وفومها ) قالا خبزها .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وفومها ) ، قال: الخبز .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة والحسن بمثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) قال: الحنطة .
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: ( وفومها ) ، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم , عن يونس , عن الحسن وحصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) ، الحنطة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي , عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه .
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: ( وفومها ) ، قال: خبزها، قالها مجاهد .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) يقول: الحنطة والخبز .
حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) قال: هو البر بعينه، الحنطة.
حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس , عن رشدين بن كريب , عن أبيه , عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وفومها ) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور , عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: ( وفومها ) ، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاح وهو يقول:
قـد كـنت أغنـى الناس شخصا واحدا وَرَد المدينــة عــن زراعـة فـوم
وقال آخرون: هو الثوم .
ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن ليث , عن مجاهد قال: هو هذا الثوم .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قال: الفوم، الثوم .
وهو في بعض القراءات « وثومها » .
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا « فوما » من اللغة القديمة . حكي سماعا من أهل هذه اللغة: « فوموا لنا » , بمعنى اختبزوا لنا .
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: « وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: « وقعوا في عاثور شر: وعافور شر » وكقولهم « » للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و « المغافير » شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينـزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
يعني بقوله: ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش , بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم .
وأصل « الاستبدال » : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك .
ومعنى قوله: ( أدنى ) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا . وأصله من قولهم: « هذا رجل دني بين الدناءة » و « إنه ليدنِّي في الأمور » بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم . يقولون: ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ ، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى
باســــلةُ الـــوقعِ ســـرابيلها بيــض إلــى دانِئِهــا الظــاهر
بهمز الدانئ , وأنه سمعهم يقولون: « إنه لدانئ خبيث » بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا , فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى .
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم , فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .
وقد تأول بعضهم قوله: ( الذي هو أدنى ) بمعنى: الذي هو أقرب , ووجه قوله: ( أدنى ) ، إلى أنه أفعل من « الدنو » الذي هو بمعنى القرب .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( الذي هو أدنى ) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله .
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( الذي هو أدنى ) قال: أردأ.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له , فقلنا لهم: « اهبطوا مصرا » ، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه .
وقد دللنا - فيما مضى- على أن معنى « الهبوط » إلى المكان، إنما هو النـزول إليه والحلول به .
فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه , فاستجاب الله له دعاءه , فأعطاهم ما طلبوا , وقال الله لهم: ( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) .
ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله ( مصرا ) فقرأه عامة القَرَأَة: « مصرا » بتنوين « المصر » وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نونوه وأجروه , فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه . فتأويله - على قراءتهم- : اهبطوا مصرا من الأمصار , لأنكم في البدو , والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي , وإنما يكون في القرى والأمصار , فإن لكم - إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين , كان تأويل الكلام عنده: « اهبطوا مصرا » البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي « مصر » التي خرجوا عنها . غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف , لأن في المصحف ألفا ثابتة في « مصر » , فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [ الإنسان: 15- 16 ] منونة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى « مصر » التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة: ( اهبطوا مصرا ) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار , فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول .
وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن قتادة في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني مصرا من الأمصار .
وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: ( اهبطوا مصرا ) قال: مصرا من الأمصار . زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( اهبطوا مصرا ) ، قال: مصرا من الأمصار . و « مصر » لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ المائدة: 21 ] .
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، حدثنا آدم , حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني به مصر فرعون .
حدثنا عن عمار بن الحسن , عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع مثله .
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: ( اهبطوا مصرا ) ، مصرا من الأمصار دون « مصر » فرعون بعينها - : أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر . وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 21- 24 ] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك - فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة , ثم أهبط ذريتهم الشأم , فأسكنهم الأرض المقدسة , وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها , فيجوز لنا أن نقرأ: « اهبطوا مصر » , ونتأوله أنه ردهم إليها .
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها , وجعل مساكنهم الشأم .
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: ( اهبطوا مصرَ ) مصرَ ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان: 25- 28 ] ، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم , فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها , وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها . قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: « اهبطوا مصر » بغير ألف . قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها « مصر » بعينها .
قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين , ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون , فاستجاب الله لموسى دعاءه , وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك , إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار « مصر » ، وجائز أن يكون « الشأم » .
فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: ( اهبطوا مصرا ) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين , واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: ( وضربت ) أي فرضت . ووضعت عليهم الذلة وألزموها . من قول القائل: « ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة » و « ضرب الرجل على عبده الخراج » يعني بذلك وضعه فألزمه إياه , ومن قولهم: « ضرب الأمير على الجيش البعث » , يراد به: ألزمهموه .
وأما « الذلة » فهي « الفعلة » من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة ، كـ « الصغرة » من « صغُر الأمر » , و « القِعدة » من « قعد » .
و « الذلة » هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم , فقال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التوبة: 29 ] كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن الحسن وقتادة في قوله: ( وضربت عليهم الذلة ) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأما « المسكنة » فإنها مصدر « المسكين » . يقال: « ما فيهم أسكن من فلان » و « ما كان مسكينا » و « لقد تمسكن مسكنة » . ومن العرب من يقول: « تمسكن تمسكنا » . و « المسكنة » في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة , وهي خشوعها وذلها ، كما:-
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( والمسكنة ) قال: الفاقة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: الفقر.
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم , ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا , وبالرضا عنهم غضبا , جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق , وعصيانهم له , وخلافا عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وباءوا بغضب من الله ) ، انصرفوا ورجعوا . ولا يقال « باؤوا » إلا موصولا إما بخير، وإما بشر . يقال منه: « باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء » . ومنه قول الله عز وجل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [ المائدة : 29 ] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني .
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله , قد صار عليهم من الله غضب , ووجب عليهم منه سخط . كما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) فحدث عليهم غضب من الله .
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) قال: استحقوا الغضب من الله .
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم , وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله: « ذلك » - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل: « ذلك » يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
ويعني بقوله: ( بأنهم كانوا يكفرون ) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول: فعلنا بهم - من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق , كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكيـــةٌ جَـــاوَرَتْ بالحجـــا ز قومـــا عـــداة وأرضــا شــطيرا
بمــا قــد تَــرَبَّع روض القطـا وروض التنــاضِب حــتى تصــــيرا
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا , وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى « الكفر » : تغطية الشيء وستره، وأن « آيات الله » حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها , ويكذبون بها.
ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم - لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.
وهم جماع، وأحدهم « نبي » , غير مهموز , وأصله الهمز , لأنه من « أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء » ، وإنما الاسم منه، « منبئ » ولكنه صرف وهو « مفعل » إلى « فعيل » , كما صرف « سميع » إلى « فعيل » من « مسمع » , و « بصير » من « مبصر » , وأشباه ذلك , وأبدل مكان الهمزة من « النبيء » الياء , فقيل: « نبي » . هذا ويجمع « النبي » أيضا على « أنبياء » , وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم « النبيء » ، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو، جمعوه على « أفعلاء » كقولهم: « ولي وأولياء » ، و « وصي وأوصياء » ، و « دعى وأدعياء » . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد « نبيء » مهموز، لجمعوه على « فعلاء » , فقيل لهم « النبآء » , على مثال « النبهاء » , لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء , والعليم علماء ، والحكيم حكماء , وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع « النبي » « النبآء » , وذلك من لغة الذين يهمزون « النبيء » , ثم يجمعونه على « النبآء » - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .
يــا خــاتم النبـآء إنـك مرسـل بـــالخير كـــلُّ هــدى الســبيل هداكــا
فقال : « يا خاتم النبآء » , على أن واحدهم « نبيء » مهموز . وقد قال بعضهم: « النبي » و « النبوة » غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من « النَّبْوَة » , وهي مثل « النَّجْوَة » , وهو المكان المرتفع ، وكان يقول: إن أصل « النبي » الطريق , ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لمــا وردن نَبِيَّــا واســتَتَبّ بهـا مُسْــحَنْفِر كخـطوط السَّـيْح مُنْسَـحِل
يقول: إنما سمى الطريق « نبيا » , لأنه ظاهر مستبين، من « النَّبوة » . ويقول: لم أسمع أحدا يهمز « النبي » . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
وقوله: ( ذلك ) ، رد على ذَلِكَ الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبيين بغير الحق, من أجل عصيانهم ربهم , واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. ( ذلك بما عصوا ) ، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
و « الاعتداء » ، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري, وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
قال أبو جعفر: أما « الذين آمنوا » ، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله, وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا.
وأما « الذين هادوا » , فهم اليهود. ومعنى: « هادوا » ، تابوا. يقال منه: « هاد القوم يهودون هودا وهادة » . وقيل: إنما سميت اليهود « يهود » ، من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . [ سورة الأعراف: 156 ] .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ .
القول في تأويل قوله عز وجل : وَالنَّصَارَى
قال أبو جعفر: و « النصارى » جمع, واحدهم نصران, كما واحد السكارى سكران, وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على « فعلان » فإن جمعه على « فعالى » . إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد « النصارى » « نصراني » . وقد حكى عنهم سماعا « نصران » بطرح الياء, ومنه قول الشاعر:
تـــراه إذا زار العشــي مُحَنِّفًــا ويضحـي لديـه وهـو نصران شامس
وسمع منهم في الأنثى : « نصرانة » , قال الشاعر :
فَكِلْتَـاهُمَا خَـرَّتْ وَأَسْجَــدَ رَأْسُهَـا كَمَـا سَجَـدَتْ نَصْــرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
يقال: أسجد، إذا مال. وقد سمع في جمعهم « أنصار » ، بمعنى النصارى. قال الشاعر:
لَمَّـــا رَأَيْــتُ نَبَطًــا أَنْصَــارَا شَـــمَّرْتُ عَــنْ رُكْــبَتِيَ الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا
وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا « نصارى » لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا « نصارى » ، من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « النصارى » إنما سموا نصارى من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .
ويقول آخرون: لقوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] .
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى, لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى « ناصرة » , وكان أصحابه يسمون الناصريين, وكان يقال لعيسى: « الناصري » .
حدثت بذلك عن هشام بن محمد, عن أبيه, عن أبي صالح, عن ابن عباس.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينـزلها عيسى ابن مريم, فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ المائدة: 14 ] قال: تسموا بقرية يقال لها « ناصرة » , كان عيسى ابن مريم ينـزلها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِئِينَ
قال أبو جعفر: و « الصابئون » جمع « صابئ » , وهو المستحدث سوى دينه دينا, كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: « صابئا » . يقال منه: « صبأ فلان يصبأ صبْأ » . ويقال: « صبأت النجوم » : إذا طلعت. « وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا » , يعني به: طلع.
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحجاج بن أرطاة, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج, عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن حجاج, عن قتادة, عن الحسن مثل ذلك.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح: « الصابئين » بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد: « الصابئين » بين المجوس واليهود, لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: « الصابئين » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك, وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والصابئين » قال: الصابئون، [ أهل ] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله, وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله, فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « هؤلاء الصابئون » ، يشبهونهم بهم.
وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحسن قال: حدثني زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والصابئين ) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة, يصلون إلى القبلة, ويقرءون الزبور.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة, ويقرءون الزبور, ويصلون إلى القبلة.
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله, فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: ( فلهم أجرهم عند ربهم ) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ؟
قيل: تمامه جملة قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) . لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟
قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟
قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به, حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه, فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين, فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, فمن يؤمن منهم بمحمد, وبما جاء به واليوم الآخر, ويعمل صالحا, فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك, فله ثواب عمله وأجره عند ربه, كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال: « فلهم أجرهم عند ربهم » ، وإنما لفظه « من » لفظ واحد, والفعل معه موحد؟
قيل: « من » ، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا, فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث, لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه, كما قال جل ثناؤه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ [ يونس: 42- 43 ] . فجمع مرة مع « من » الفعل لمعناه, ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد, كما قال الشاعر:
ألمـا بسـلمى عنكمـا إن عرضتمـا, وقـولا لهـا: عوجـي على من تخلفوا
فقال: « تخلفوا » , وجعل « من » بمنـزلة « الذين » ، وقال الفرزدق:
تعــال فـإن عـاهدتني لا تخـونني نكـن مثـل مـن يـا ذئب يصطحبان
فثنى « يصطحبان » لمعنى « من » . فكذلك قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) ، وحد « آمن وعمل صالحا » للفظ « من » , وجمع ذكرهم في قوله: ( فلهم أجرهم ) ، لمعناه, لأنه في معنى جمع.
وأما قوله : وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة, ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
* ذكر من قال عُني بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية, قال: نـزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور, وكان من أشرافهم, وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا, لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه, وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء, فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما, فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانـزلا حتى أعلمكما. فنـزلا إليه, فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله, أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته, فيه: أن لا تزني, ولا تسرق, ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه, وهو الإنجيل الذي أنـزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.
فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه, حتى كان عيد للملك, فجعل طعاما, ثم جمع الناس والأشراف, وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول, فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل, أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم, إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك, ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه, فقال لهما: إن كنتما صادقين, فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها, فأتونا فيها.
فخرج الراهب, وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان, خرج سلمان حتى أتاهم, فنـزل على صاحبه، وهو رب البيعة. وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان, فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه, فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق, وأنا خائف أن تفتر وتعجز, فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.
ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي, وأنا أحق الناس بها, ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء, وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء, فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم, وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان, فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس, فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق, وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى, فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس, فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم, فرجع يوما حزينا, فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن, فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه, ولا أراني أدركه, وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه, وهو يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم, هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة, وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد, فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره, فأخذ بيده فرفعه, فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد, فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.
ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته, قال: نعم راعي الصرمة هذا! فحمله فانطلق به إلى المدينة.
قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما, فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى, إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه, فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك .
فهبط سلمان إلى المدينة, فنطر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد, فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه, فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا, ثم أتاه به. فقال: « ما هذا » ؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: « لا حاجة لي بها، فأخرجها فليأكلها المسلمون » . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما, فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [ فكل ] فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان, وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك, فأنـزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه, حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية. قال سأل سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم, قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم, فنـزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا . فدعا سلمان فقال: « نـزلت هذه الآية في أصحابك » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم « من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك » .
وقال ابن عباس بما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ إلى قوله: ( ولا هم يحزنون ) . فأنـزل الله تعالى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ آل عمران: 85 ]
وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة, ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .
فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة, والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنـزيل, لأن الله جل ثناؤه لم يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم, والخبر بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
قال أبو جعفر: « الميثاق » ، « المفعال » ، من « الوثيقة » ، إما بيمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.
ويعني بقوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83- 85 ] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله, فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم, فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم, فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم, فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم, هذا الطور, قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا حتى بلغ: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ البقرة: 83- 85 ] ، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق.
القول في تأويل قوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
قال أبو جعفر: وأما « الطور » فإنه الجبل في كلام العرب, ومنه قول العجاج:
دانَــى جناحيـه مـن الطـور فمـر تَقَضِّــيَ البـازي إذا البـازي كسـر
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت.
* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حِطَّةٌ وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا, فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم, وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة و « الطور » ، بالسريانية، الجبل تخويفا، أو خوفا, شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة, فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية: « الطور » .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم, فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( ورفعنا فوقكم الطور ) ، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم, فقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فأقروا بذلك.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع, عن أبي العالية: ( ورفعنا فوقكم الطور ) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن النضر, عن عكرمة قال: الطور الجبل.
وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم, فنظروا إليه وقد غشيهم, فسقطوا سجدا على شق, ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [ الأعراف: 171 ] ، وقوله: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
وقال آخرون: « الطور » اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنـزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( الطور ) قال: الطور من الجبال ما أنبت, وما لم ينبت فليس بطور.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة, وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه, فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام - الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه « أن » كما قال الله جل ثناؤه إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [ نوح: 1 ] قال: ويجوز أن تحذف « أن » .
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به - مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: ( خذوا ما آتيناكم ) ، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل « الإيتاء » ، الإعطاء.
ويعني بقوله: ( بقوة ) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
حدثت عن إبراهيم بن بشار قال، : حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: تعملوا بما فيه.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، قال: بطاعة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: « القوة » الجد, وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بقوة ) ، يعني: بجد واجتهاد.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجد.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 )
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب, فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنـزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة عن ابن عباس: ( لعلكم تتقون ) ، قال: تنـزعون عما أنتم عليه.
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واذكروا ما فيه ) يقول: اذكروا ما في التوراة.
كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( واذكروا ما فيه ) يقول: أمروا بما في التوراة.
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: ( واذكروا ما فيه ) ، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ثم توليتم ) : ثم أعرضتم. وإنما هو « تفعلتم » من قولهم: « ولاني فلان دبره » إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. يقال: « قد تولى فلان عن طاعة فلان, وتولى عن مواصلته » ، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ التوبة: 76 ] ، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [ التوبة: 75 ] ، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم
ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها, كما قال أبو خراش الهذلي:
فليس كعهــد الــدار يـا أم مـالك ولكـن أحـاطت بالرقـاب السلاسـل
وعــاد الفتـى كـالكهل ليس بقـائل سـوى الحق شيئا واسـتراح العواذل
يعني بقوله: « أحاطت بالرقاب السلاسل » ، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنـزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.
ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: ( ثم توليتم من بعد ذلك ) ، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.
وكنى بقوله جل ذكره: « ذلك » ، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة, أعني قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( فلولا فضل الله عليكم ) ، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته, وأداء فرائضه, والقيام بما أمركم به, والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم, فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم لكنتم من الخاسرين.
وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنما هو خبر عن أسلافهم, فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب, فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها, فتقول: فعلنا بكم, وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى.
وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل, فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك, لأن سامعيه كانوا عالمين - وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر:
إذ مــا انتسـبنا لـم تلـدني لئيمـة ولـم تجـدي مـن أن تقـري بـه بدا
فقال: « إذا ما انتسبنا » , و « إذا » تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال: « لم تلدني لئيمة » , فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.
والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.
وكان أبو العالية يقول في قوله: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) ، قال: « فضل الله » ، الإسلام, « ورحمته » ، القرآن.
وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [ عن أبيه ] , عن الربيع بمثله.
القول في تأويل قوله تعالى : لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 64 )
قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما, الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.
وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى « الخسار » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ولقد علمتم ) ، ولقد عرفتم. كقولك: « قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه » , يعني عرفته، ولم أكن أعرفه, كما قال جل ثناؤه: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [ الأنفال: 60 ] ، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
وقوله: ( الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت - فيما مضى- على أن « الاعتداء » ، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها, مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود, وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق, وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني, اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة ، وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة, وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يفعل ذلك، كان بمنـزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها - : يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها, والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت, وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها, والأول أفضل, والله واحد, والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد, ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا, فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت - : أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره, ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [ الأعراف: 163 ] ، يقول: ظاهرة على الماء, ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة, فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه, وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء, فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [ قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ] ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة, وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء, ويحوله كما يشاء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة- . فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه, فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها « مدين » . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم, حتى إذا ذهب السبت ذهبن, فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا, حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك, حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان, عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط, ثم أرسله في الماء, وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل, وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لسخطنا أعمالهم - وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] ، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم, وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم, فوجدوها مغلقة عليهم, قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم, فأصبحوا فيها قردة, وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, والمرأة بعينها وإنها لقردة, والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية [ الأعراف: 163 ] .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية, وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه, قال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذناب, تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت, فكانت تشرع إليهم يوم السبت, وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها, فجعلهم الله قردة خاسئين.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » قال: فهم أهل « أيلة » , وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] ، فاشتهى بعضهم السمك, فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر, فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر, فيمكث [ فيها ] . فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك, فيجد جاره ريحه, فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه, فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [ الأعراف: 164 ] ، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] . فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار, ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا, ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط, فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض, ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ الأعراف: 166 ] ، فذلك حين يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [ المائدة: 78 ] ، فهم القردة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: مسخت قلوبهم, ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت, كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [ النساء: 153 ] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل, فجعل توبتهم قتل أنفسهم, وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 24 ] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة, وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه, سئل البرهان على قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك- بما أقر به, ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
====
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
وقوله: ( ذلك ) ، رد على ذَلِكَ الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبيين بغير الحق, من أجل عصيانهم ربهم , واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. ( ذلك بما عصوا ) ، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
و « الاعتداء » ، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري, وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
قال أبو جعفر: أما « الذين آمنوا » ، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله, وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا.
وأما « الذين هادوا » , فهم اليهود. ومعنى: « هادوا » ، تابوا. يقال منه: « هاد القوم يهودون هودا وهادة » . وقيل: إنما سميت اليهود « يهود » ، من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . [ سورة الأعراف: 156 ] .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ .
القول في تأويل قوله عز وجل : وَالنَّصَارَى
قال أبو جعفر: و « النصارى » جمع, واحدهم نصران, كما واحد السكارى سكران, وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على « فعلان » فإن جمعه على « فعالى » . إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد « النصارى » « نصراني » . وقد حكى عنهم سماعا « نصران » بطرح الياء, ومنه قول الشاعر:
تـــراه إذا زار العشــي مُحَنِّفًــا ويضحـي لديـه وهـو نصران شامس
وسمع منهم في الأنثى : « نصرانة » , قال الشاعر :
فَكِلْتَـاهُمَا خَـرَّتْ وَأَسْجَــدَ رَأْسُهَـا كَمَـا سَجَـدَتْ نَصْــرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
يقال: أسجد، إذا مال. وقد سمع في جمعهم « أنصار » ، بمعنى النصارى. قال الشاعر:
لَمَّـــا رَأَيْــتُ نَبَطًــا أَنْصَــارَا شَـــمَّرْتُ عَــنْ رُكْــبَتِيَ الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا
وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا « نصارى » لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا « نصارى » ، من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « النصارى » إنما سموا نصارى من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .
ويقول آخرون: لقوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] .
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى, لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى « ناصرة » , وكان أصحابه يسمون الناصريين, وكان يقال لعيسى: « الناصري » .
حدثت بذلك عن هشام بن محمد, عن أبيه, عن أبي صالح, عن ابن عباس.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينـزلها عيسى ابن مريم, فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ المائدة: 14 ] قال: تسموا بقرية يقال لها « ناصرة » , كان عيسى ابن مريم ينـزلها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِئِينَ
قال أبو جعفر: و « الصابئون » جمع « صابئ » , وهو المستحدث سوى دينه دينا, كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: « صابئا » . يقال منه: « صبأ فلان يصبأ صبْأ » . ويقال: « صبأت النجوم » : إذا طلعت. « وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا » , يعني به: طلع.
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحجاج بن أرطاة, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج, عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن حجاج, عن قتادة, عن الحسن مثل ذلك.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح: « الصابئين » بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد: « الصابئين » بين المجوس واليهود, لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: « الصابئين » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك, وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والصابئين » قال: الصابئون، [ أهل ] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله, وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله, فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « هؤلاء الصابئون » ، يشبهونهم بهم.
وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحسن قال: حدثني زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والصابئين ) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة, يصلون إلى القبلة, ويقرءون الزبور.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة, ويقرءون الزبور, ويصلون إلى القبلة.
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب
ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله, فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: ( فلهم أجرهم عند ربهم ) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ؟
قيل: تمامه جملة قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) . لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟
قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟
قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به, حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه, فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين, فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, فمن يؤمن منهم بمحمد, وبما جاء به واليوم الآخر, ويعمل صالحا, فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك, فله ثواب عمله وأجره عند ربه, كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال: « فلهم أجرهم عند ربهم » ، وإنما لفظه « من » لفظ واحد, والفعل معه موحد؟
قيل: « من » ، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا, فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث, لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه, كما قال جل ثناؤه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ [ يونس: 42- 43 ] . فجمع مرة مع « من » الفعل لمعناه, ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد, كما قال الشاعر:
ألمـا بسـلمى عنكمـا إن عرضتمـا, وقـولا لهـا: عوجـي على من تخلفوا
فقال: « تخلفوا » , وجعل « من » بمنـزلة « الذين » ، وقال الفرزدق:
تعــال فـإن عـاهدتني لا تخـونني نكـن مثـل مـن يـا ذئب يصطحبان
فثنى « يصطحبان » لمعنى « من » . فكذلك قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) ، وحد « آمن وعمل صالحا » للفظ « من » , وجمع ذكرهم في قوله: ( فلهم أجرهم ) ، لمعناه, لأنه في معنى جمع.
وأما قوله : وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة, ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
* ذكر من قال عُني بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية, قال: نـزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور, وكان من أشرافهم, وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا, لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه, وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء, فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما, فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانـزلا حتى أعلمكما. فنـزلا إليه, فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله, أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته, فيه: أن لا تزني, ولا تسرق, ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه, وهو الإنجيل الذي أنـزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.
فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه, حتى كان عيد للملك, فجعل طعاما, ثم جمع الناس والأشراف, وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول, فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل, أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم, إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك, ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه, فقال لهما: إن كنتما صادقين, فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها, فأتونا فيها.
فخرج الراهب, وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان, خرج سلمان حتى أتاهم, فنـزل على صاحبه، وهو رب البيعة. وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان, فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه, فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق, وأنا خائف أن تفتر وتعجز, فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.
ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي, وأنا أحق الناس بها, ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء, وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء, فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم, وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان, فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس, فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق, وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى, فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس, فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم, فرجع يوما حزينا, فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن, فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه, ولا أراني أدركه, وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه, وهو يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم, هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة, وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد, فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره, فأخذ بيده فرفعه, فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد, فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.
ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته, قال: نعم راعي الصرمة هذا! فحمله فانطلق به إلى المدينة.
قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما, فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى, إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه, فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك .
فهبط سلمان إلى المدينة, فنطر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد, فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه, فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا, ثم أتاه به. فقال: « ما هذا » ؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: « لا حاجة لي بها، فأخرجها فليأكلها المسلمون » . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما, فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [ فكل ] فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان, وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك, فأنـزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه, حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية. قال سأل سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم, قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم, فنـزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا . فدعا سلمان فقال: « نـزلت هذه الآية في أصحابك » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم « من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك » .
وقال ابن عباس بما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ إلى قوله: ( ولا هم يحزنون ) . فأنـزل الله تعالى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ آل عمران: 85 ]
وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة, ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .
فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة, والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنـزيل, لأن الله جل ثناؤه لم يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم, والخبر بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
قال أبو جعفر: « الميثاق » ، « المفعال » ، من « الوثيقة » ، إما بيمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.
ويعني بقوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83- 85 ] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله, فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم, فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم, فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم, فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم, هذا الطور, قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا حتى بلغ: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ البقرة: 83- 85 ] ، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق.
القول في تأويل قوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
قال أبو جعفر: وأما « الطور » فإنه الجبل في كلام العرب, ومنه قول العجاج:
دانَــى جناحيـه مـن الطـور فمـر تَقَضِّــيَ البـازي إذا البـازي كسـر
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت.
* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حِطَّةٌ وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا, فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم, وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة و « الطور » ، بالسريانية، الجبل تخويفا، أو خوفا, شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة, فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية: « الطور » .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم, فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( ورفعنا فوقكم الطور ) ، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم, فقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فأقروا بذلك.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع, عن أبي العالية: ( ورفعنا فوقكم الطور ) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن النضر, عن عكرمة قال: الطور الجبل.
وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم, فنظروا إليه وقد غشيهم, فسقطوا سجدا على شق, ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [ الأعراف: 171 ] ، وقوله: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
وقال آخرون: « الطور » اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنـزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( الطور ) قال: الطور من الجبال ما أنبت, وما لم ينبت فليس بطور.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة, وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه, فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام - الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه « أن » كما قال الله جل ثناؤه إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [ نوح: 1 ] قال: ويجوز أن تحذف « أن » .
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به - مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: ( خذوا ما آتيناكم ) ، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل « الإيتاء » ، الإعطاء.
ويعني بقوله: ( بقوة ) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
حدثت عن إبراهيم بن بشار قال، : حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: تعملوا بما فيه.
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، قال: بطاعة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: « القوة » الجد, وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بقوة ) ، يعني: بجد واجتهاد.
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجد.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 )
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب, فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنـزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة عن ابن عباس: ( لعلكم تتقون ) ، قال: تنـزعون عما أنتم عليه.
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واذكروا ما فيه ) يقول: اذكروا ما في التوراة.
كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( واذكروا ما فيه ) يقول: أمروا بما في التوراة.
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: ( واذكروا ما فيه ) ، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ثم توليتم ) : ثم أعرضتم. وإنما هو « تفعلتم » من قولهم: « ولاني فلان دبره » إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. يقال: « قد تولى فلان عن طاعة فلان, وتولى عن مواصلته » ، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ التوبة: 76 ] ، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [ التوبة: 75 ] ، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم
ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها, كما قال أبو خراش الهذلي:
فليس كعهــد الــدار يـا أم مـالك ولكـن أحـاطت بالرقـاب السلاسـل
وعــاد الفتـى كـالكهل ليس بقـائل سـوى الحق شيئا واسـتراح العواذل
يعني بقوله: « أحاطت بالرقاب السلاسل » ، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنـزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.
ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: ( ثم توليتم من بعد ذلك ) ، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.
وكنى بقوله جل ذكره: « ذلك » ، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة, أعني قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( فلولا فضل الله عليكم ) ، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته, وأداء فرائضه, والقيام بما أمركم به, والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم, فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم لكنتم من الخاسرين.
وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنما هو خبر عن أسلافهم, فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب, فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها, فتقول: فعلنا بكم, وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى.
وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل, فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك, لأن سامعيه كانوا عالمين - وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر:
إذ مــا انتسـبنا لـم تلـدني لئيمـة ولـم تجـدي مـن أن تقـري بـه بدا
فقال: « إذا ما انتسبنا » , و « إذا » تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال: « لم تلدني لئيمة » , فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.
والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.
وكان أبو العالية يقول في قوله: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) ، قال: « فضل الله » ، الإسلام, « ورحمته » ، القرآن.
وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [ عن أبيه ] , عن الربيع بمثله.
القول في تأويل قوله تعالى : لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 64 )
قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما, الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.
وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى « الخسار » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ولقد علمتم ) ، ولقد عرفتم. كقولك: « قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه » , يعني عرفته، ولم أكن أعرفه, كما قال جل ثناؤه: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [ الأنفال: 60 ] ، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
وقوله: ( الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت - فيما مضى- على أن « الاعتداء » ، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها, مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود, وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق, وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني, اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة ، وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة, وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يفعل ذلك، كان بمنـزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها - : يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها, والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت, وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها, والأول أفضل, والله واحد, والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد, ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا, فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت - : أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره, ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [ الأعراف: 163 ] ، يقول: ظاهرة على الماء, ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة, فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه, وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء, فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [ قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ] ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة, وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء, ويحوله كما يشاء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة- . فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه, فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها « مدين » . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم, حتى إذا ذهب السبت ذهبن, فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا, حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك, حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان, عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط, ثم أرسله في الماء, وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل, وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لسخطنا أعمالهم - وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] ، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم, وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم, فوجدوها مغلقة عليهم, قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم, فأصبحوا فيها قردة, وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, والمرأة بعينها وإنها لقردة, والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية [ الأعراف: 163 ] .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية, وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه, قال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذناب, تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت, فكانت تشرع إليهم يوم السبت, وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها, فجعلهم الله قردة خاسئين.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » قال: فهم أهل « أيلة » , وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] ، فاشتهى بعضهم السمك, فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر, فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر, فيمكث [ فيها ] . فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك, فيجد جاره ريحه, فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه, فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [ الأعراف: 164 ] ، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] . فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار, ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا, ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط, فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض, ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ الأعراف: 166 ] ، فذلك حين يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [ المائدة: 78 ] ، فهم القردة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: مسخت قلوبهم, ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت, كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [ النساء: 153 ] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل, فجعل توبتهم قتل أنفسهم, وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 24 ] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة, وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه, سئل البرهان على قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك- بما أقر به, ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فقلنا لهم ) أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت - يعني في يوم السبت.
وأصل « السبت » الهدوّ والسكون في راحة ودعة, ولذلك قيل للنائم « مسبوت » لهدوّه وسكون جسده واستراحته, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [ النبأ: 9 ] أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل: « سبت فلان يسبت سبتا » .
وقد قيل: إنه سمي « سبتا » ، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه.
وقوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي: صيروا كذلك.
و « الخاسئ » المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه: « خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا, وهو يخسأ خسوءا » . قال: ويقال: « خسأته فخسأ وانخسأ » . ومنه قول الراجز:
كالكلـب إن قلـت له اخســأ انخســأ
يعني: إن طردته انطرد ذليلا صاغرا.
فكذلك معنى قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، كما:-
حدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) قال: صاغرين.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن رجل, عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خاسئين ) ، قال: صاغرين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي أذلة صاغرين.
وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا.
القول في تأويل قوله تعالى : فَجَعَلْنَاهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل « الهاء والألف » في قوله: ( فجعلناها ) ، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) فجعلنا تلك العقوبة - وهي المسخة- « نكالا » .
فالهاء والألف من قوله: ( فجعلناها ) - على قول ابن عباس هذا- كناية عن « المسخة » , وهي « فعلة » مسخهم الله مسخة.
فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، ( فجعلناها ) ، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:-
حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) ، يعني الحيتان.
و « الهاء والألف » - على هذا القول- من ذكر الحيتان, ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ .
وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ « الهاء » و « الألف » - في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا « نكالا لما بين يديها وما خلفها » , فجعلوا « الهاء والألف » كناية عن القردة.
وقال آخرون: ( فجعلناها ) ، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت « نكالا » .
القول في تأويل قوله تعالى : نَكَالا
و « النكال » مصدر من قول القائل: « نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا » . وأصل « النكال » ، العقوبة, كما قال عدي بن زيد العباد :
لا يسـخط الضليـل مـا يسـع العبـ د ولا فـــي نكالـــه تنكـــير
وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( نكالا ) يقول: عقوبة.
حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( فجعلناها نكالا ) ، أي عقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لما بين يديها ) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. ( وما خلفها ) ، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لما بين يدلها وما خلفها ) ، لما خلا لهم من الذنوب, ( وما خلفها ) ، أي عبرة لمن بقي من الناس.
وقال آخرون بما:
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، أي من القرى.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال الله ( فجعلناها نكالا لما بين يديها ) - من ذنوب القوم- ( وما خلفها ) ، أي للحيتان التي أصابوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لما بين يديها ) ، من ذنوبها، ( وما خلفها ) ، من الحيتان.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: ( لما بين يديها ) ، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، يقول: « بين يديها » ، ما مضى من خطاياهم, ( وما خلفها ) خطاياهم التي هلكوا بها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله - إلا أنه قال: ( وما خلفها ) ، خطيئتهم التي هلكوا بها.
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) قال: أما « ما بين يديها » فما سلف من عملهم, ( وما خلفها ) ، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.
وقال آخرون بما:-
حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله, « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، يعني الحيتان، جعلها نكالا « لما بين يديها وما خلفها » ، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان, وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: ( ما بين يديها وما خلفها ) .
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن « الهاء والألف » - في قوله: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم . وفي إبانته عز ذكره - بقوله: نَكَالا أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت « الهاء والألف » - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: ( لما بين يديها وما خلفها ) من « الهاء والألف » : أن يكون من ذكر « الهاء والألف » اللتين في قوله: فَجَعَلْنَاهَا ، أولى من أن يكون من [ ذكر ] غيره.
فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا - : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين, فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل, فيمسخوا مثل ما مسخوا, وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال في تأويل ذلك: فَجَعَلْنَاهَا ، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: فَجَعَلْنَاهَا . فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر, فإن ذلك وإن كان كذلك, فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنـزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنـزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول، ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.
وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها, فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَوْعِظَةً
و « الموعظة » ، مصدر من قول القائل: « وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة » ، إذا ذكرته.
فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين, ليتعظوا بها, ويعتبروا, ويتذكروا بها, كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة ) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.
القول في تأويل قوله تعالى لِلْمُتَّقِينَ ( 66 )
وأما « المتقون » ، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة للمتقين ) ، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة - ، كالذي:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن عبد الله بن عباس في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، إلى يوم القيامة.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وموعظة للمتقين ) ، أي: بعدهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « موعظة للمتقين » , فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وموعظة للمتقين ) ، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، أي لمن بعدهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه, فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي, « إذ قال موسى لقومه » - وقومه بنو إسرائيل, إذ ادارءوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا ) .
و « الهزؤ » : اللعب والسخرية, كما قال الراجز:
قــد هــزئت منــي أم طيســله قــالت أراه معدمــا لا شـيء لـه
يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.
ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله - فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم - عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله, وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.
وحذفت « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، وهو جواب, لاستغناء ما قبله من الكلام عنه, وحَسُن السكوت على قوله: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فجاز لذلك إسقاط « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا [ الحجر: 57 ، 58 الذاريات: 31 ، 32 ] ، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل « فقالوا » كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه « الفاء » . وذلك أنك إذا قلت: « قمت ففعلت كذا وكذا » ، لم تقل: « قمت فعلت كذا وكذا » لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.
فأخبرهم موسى - إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.
وكان سبب قيل موسى لهم: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، ما:-
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم - أو عاقر- قال: فقتله وليه, ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله ؟ قال: فأتوا نبي الله, فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ ، إلى قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال : ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قول الله ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل, وكان غنيا ولم يكن له ولد, وكان له قريب وارثه, فقتله ليرثه, ثم ألقاه على مجمع الطريق, وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم, وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله, فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . فعجبوا وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ - يعني: لا هرمة - وَلا بِكْرٌ - يعني: ولا صغيرة - عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - أي: نصف، بين البكر والهرمة - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا - أي: صاف لونها - تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - أي تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي: لم يذللها العمل - تُثِيرُ الأَرْضَ - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ - يقول: ولا تعمل في الحرث - مُسَلَّمَةٌ ، يعني مسلمة من العيوب، لا شِيَةَ فِيهَا - يقول: لا بياض فيها - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ، لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم, فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى, وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة, وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم, فشددتم على أنفسكم, فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله, ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه, - فقتله الله على أسوء عمله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال, وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها, فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل, فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها, فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه, كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه, فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى, فقضى عليهم بالدية, فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة, فوالله إن ديته علينا لهينة, ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - والفارض: الهرمة التي لا تلد, والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا, والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها - فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - قال: تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا - من بياض ولا سواد ولا حمرة - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه, فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح, فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا, وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا, وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة, فأبصروا البقرة عنده, فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي, فأعطوه ثنتين فأبي, فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي, فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها, وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي, فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات, فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة -
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, عن مجاهد -
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد -
وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر -
وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -
وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس -
- فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل, فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: ( أتتخذنا هزوا ) . قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي, ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه, أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » ، وتقولون: « أتتخذنا هزوا » .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ
قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) ، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم: « اذبحوا بقرة » . لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم, وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته, تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قالوا له يتعنتونه: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) .
فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع، فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! - قال: ( إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) .
يعني بقوله جل ثناؤه: ( لا فارض ) لا مسنة هرمة. يقال منه: « فرضت البقرة تفرض فروضا » , يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر:
يــا رب ذي ضغـن عـليَّ فـارضِ لــه قــروء كقــروء الحـائضِ
يعني بقوله: « فارض » ، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر:
لهــا زِجــاج ولهــاة فــارض حــدلاء كـالوطب نحـاه المـاخض
وبمثل الذي قلنا في تأويل « فارض » قال المتأولون:
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( لا فارض ) ، قال: لا كبيرة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أو عن عكرمة, شك شريك- : ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.
حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( لا فارض ) ، الفارض: الهرمة.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، يقول: ليست بكبيرة هرمة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، الهرمة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الفارض » الكبيرة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد قوله: ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا فارض ) ، يعني: لا هرمة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « الفارض » ، الهرمة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة: « الفارض » الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الفارض » ، الهرمة التي لا تلد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الفارض » ، الكبيرة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا بِكْرٌ
قال أبو جعفر: و « البكر » من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل, وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه « فَعَل » ولا « يفعل » . وأما « البكر » بفتح الباء فهو الفتي من الإبل.
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله ( ولا بكر ) ولا صغيرة لم تلد، كما:-
حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا بكر ) ، صغيرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « البكر » ، الصغيرة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد, عن ابن عباس - أو عكرمة، شك- : ( ولا بكر ) ، قال: الصغيرة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، الصغيرة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ( ولا بكر ) ولا صغيرة.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، ولا صغيرة ضعيفة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( ولا بكر ) ، يعني: ولا صغيرة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: في « البكر » ، لم تلد إلا ولدا واحدا.
القول في تأويل قوله تعالى : عَوَانٌ
قال أبو جعفر: « العوان » النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن, وليست بنعت للبكر. يقال منه: « قد عونت » إذا صارت كذلك.
وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك. ولا يجوز أن يكون « عوان » إلا مبتدأ. لأن قوله بَيْنَ ذَلِكَ ، كناية عن الفارض والبكر, فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل:
ومــا بمكــة مـن شُـمط مُحَفِّلـة ومــا بيـثرب مـن عُـونٍ وأبكـار
وجمعها « عون » يقال: « امرأة عوان من نسوة عون » . ومنه قول تميم بن مقبل:
ومــأتم كــالدمي حـورٍ مدامعهـا لـم تبـأس العيش أبكـارا ولا عونـا
وبقرة « عوان، وبقر عون » . قال: وربما قالت العرب: « بقر عُوُن » مثل « رسل » يطلبون بذلك الفرق بين جمع « عوان » من البقر, وجمع « عانة » من الحمر. ويقال: « هذه حرب عوان » ، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: « حاجة عوان » ، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده:
قعـود لـدى الأبـواب طـلاب حاجة عـوانٍ مـن الحاجـات أو حاجةً بكرا
قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان بين ذلك ) ، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( عوان ) ، قال: « العوان » : العانس النصف.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « العوان » ، النصف.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس - أو عكرمة, شك شريك- ( عوان ) ، قال: بين ذلك.
حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: بين الصغيرة والكبيرة, وهى أقوى ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: النصف.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( عوان ) نَصَف.
وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: « العوان » ، نَصَف بين ذلك.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان ) ، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « العوان » ، النصَف التي بين ذلك, التي قد ولدت وولد ولدُها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « العوان » ، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة.
القول في تأويل قوله تعالى : بَيْنَ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( بين ذلك ) بين البكر والهرمة، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( بين ذلك ) ، أي بين البكر والهرمة.
فإن قال قائل: قد علمت أن « بين » لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا, فكيف قيل « بين ذلك » و « ذلك » واحد في اللفظ؟
قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة, لأن « ذلك » بمعنى اثنين, والعرب تجمع في « ذلك » و « ذاك » شيئين ومعنيين من الأفعال, كما يقول القائل: « أظن أخاك قائما, وكان عمرو أباك » , ثم يقول: « قد كان ذاك, وأظن ذلك » . فيجمع ب « ذلك » و « ذاك » الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ « ظن » و « كان » منهما .
فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد, ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع « ذلك » معنى الهرم والشباب لما وصفنا, ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع « بين » ذلك. وذلك أن « ذلك » لا يؤدي عن اسم شخصين, وغير جائز لمن قال: « كنت بين زيد وعمرو » , أن يقول: « كنت بين ذلك » , وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص.
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فقلنا لهم ) أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت - يعني في يوم السبت.
وأصل « السبت » الهدوّ والسكون في راحة ودعة, ولذلك قيل للنائم « مسبوت » لهدوّه وسكون جسده واستراحته, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [ النبأ: 9 ] أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل: « سبت فلان يسبت سبتا » .
وقد قيل: إنه سمي « سبتا » ، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه.
وقوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي: صيروا كذلك.
و « الخاسئ » المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه: « خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا, وهو يخسأ خسوءا » . قال: ويقال: « خسأته فخسأ وانخسأ » . ومنه قول الراجز:
كالكلـب إن قلـت له اخســأ انخســأ
يعني: إن طردته انطرد ذليلا صاغرا.
فكذلك معنى قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، كما:-
حدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) قال: صاغرين.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن رجل, عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خاسئين ) ، قال: صاغرين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي أذلة صاغرين.
وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا.
القول في تأويل قوله تعالى : فَجَعَلْنَاهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل « الهاء والألف » في قوله: ( فجعلناها ) ، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) فجعلنا تلك العقوبة - وهي المسخة- « نكالا » .
فالهاء والألف من قوله: ( فجعلناها ) - على قول ابن عباس هذا- كناية عن « المسخة » , وهي « فعلة » مسخهم الله مسخة.
فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، ( فجعلناها ) ، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:-
حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) ، يعني الحيتان.
و « الهاء والألف » - على هذا القول- من ذكر الحيتان, ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ .
وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ « الهاء » و « الألف » - في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا « نكالا لما بين يديها وما خلفها » , فجعلوا « الهاء والألف » كناية عن القردة.
وقال آخرون: ( فجعلناها ) ، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت « نكالا » .
القول في تأويل قوله تعالى : نَكَالا
و « النكال » مصدر من قول القائل: « نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا » . وأصل « النكال » ، العقوبة, كما قال عدي بن زيد العباد :
لا يسـخط الضليـل مـا يسـع العبـ د ولا فـــي نكالـــه تنكـــير
وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( نكالا ) يقول: عقوبة.
حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( فجعلناها نكالا ) ، أي عقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لما بين يديها ) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. ( وما خلفها ) ، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لما بين يدلها وما خلفها ) ، لما خلا لهم من الذنوب, ( وما خلفها ) ، أي عبرة لمن بقي من الناس.
وقال آخرون بما:
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، أي من القرى.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال الله ( فجعلناها نكالا لما بين يديها ) - من ذنوب القوم- ( وما خلفها ) ، أي للحيتان التي أصابوا.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لما بين يديها ) ، من ذنوبها، ( وما خلفها ) ، من الحيتان.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: ( لما بين يديها ) ، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، يقول: « بين يديها » ، ما مضى من خطاياهم, ( وما خلفها ) خطاياهم التي هلكوا بها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله - إلا أنه قال: ( وما خلفها ) ، خطيئتهم التي هلكوا بها.
وقال آخرون بما:-
حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) قال: أما « ما بين يديها » فما سلف من عملهم, ( وما خلفها ) ، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.
وقال آخرون بما:-
حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله, « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، يعني الحيتان، جعلها نكالا « لما بين يديها وما خلفها » ، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان, وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: ( ما بين يديها وما خلفها ) .
قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن « الهاء والألف » - في قوله: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم . وفي إبانته عز ذكره - بقوله: نَكَالا أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت « الهاء والألف » - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: ( لما بين يديها وما خلفها ) من « الهاء والألف » : أن يكون من ذكر « الهاء والألف » اللتين في قوله: فَجَعَلْنَاهَا ، أولى من أن يكون من [ ذكر ] غيره.
فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا - : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين, فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل, فيمسخوا مثل ما مسخوا, وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.
وأما الذي قال في تأويل ذلك: فَجَعَلْنَاهَا ، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: فَجَعَلْنَاهَا . فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر, فإن ذلك وإن كان كذلك, فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنـزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنـزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول، ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.
وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها, فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَوْعِظَةً
و « الموعظة » ، مصدر من قول القائل: « وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة » ، إذا ذكرته.
فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين, ليتعظوا بها, ويعتبروا, ويتذكروا بها, كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة ) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.
القول في تأويل قوله تعالى لِلْمُتَّقِينَ ( 66 )
وأما « المتقون » ، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة للمتقين ) ، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.
فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة - ، كالذي:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن عبد الله بن عباس في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، إلى يوم القيامة.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وموعظة للمتقين ) ، أي: بعدهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « موعظة للمتقين » , فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وموعظة للمتقين ) ، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، أي لمن بعدهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )
قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه, فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي, « إذ قال موسى لقومه » - وقومه بنو إسرائيل, إذ ادارءوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا ) .
و « الهزؤ » : اللعب والسخرية, كما قال الراجز:
قــد هــزئت منــي أم طيســله قــالت أراه معدمــا لا شـيء لـه
يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.
ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله - فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم - عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله, وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.
وحذفت « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، وهو جواب, لاستغناء ما قبله من الكلام عنه, وحَسُن السكوت على قوله: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فجاز لذلك إسقاط « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا [ الحجر: 57 ، 58 الذاريات: 31 ، 32 ] ، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل « فقالوا » كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه « الفاء » . وذلك أنك إذا قلت: « قمت ففعلت كذا وكذا » ، لم تقل: « قمت فعلت كذا وكذا » لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.
فأخبرهم موسى - إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.
وكان سبب قيل موسى لهم: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، ما:-
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم - أو عاقر- قال: فقتله وليه, ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله ؟ قال: فأتوا نبي الله, فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ ، إلى قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال : ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك.
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قول الله ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل, وكان غنيا ولم يكن له ولد, وكان له قريب وارثه, فقتله ليرثه, ثم ألقاه على مجمع الطريق, وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم, وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله, فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . فعجبوا وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ - يعني: لا هرمة - وَلا بِكْرٌ - يعني: ولا صغيرة - عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - أي: نصف، بين البكر والهرمة - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا - أي: صاف لونها - تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - أي تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي: لم يذللها العمل - تُثِيرُ الأَرْضَ - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ - يقول: ولا تعمل في الحرث - مُسَلَّمَةٌ ، يعني مسلمة من العيوب، لا شِيَةَ فِيهَا - يقول: لا بياض فيها - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ، لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم, فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى, وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة, وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم, فشددتم على أنفسكم, فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله, ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه, - فقتله الله على أسوء عمله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال, وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها, فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل, فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها, فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه, كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه, فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى, فقضى عليهم بالدية, فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة, فوالله إن ديته علينا لهينة, ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - والفارض: الهرمة التي لا تلد, والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا, والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها - فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - قال: تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا - من بياض ولا سواد ولا حمرة - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . فطلبوها فلم يقدروا عليها.
وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه, فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح, فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا, وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا, وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة, فأبصروا البقرة عنده, فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي, فأعطوه ثنتين فأبي, فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي, فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها, وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي, فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات, فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة -
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, عن مجاهد -
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد -
وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر -
وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -
وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس -
- فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل, فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: ( أتتخذنا هزوا ) . قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي, ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه, أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » ، وتقولون: « أتتخذنا هزوا » .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ
قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) ، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم: « اذبحوا بقرة » . لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم, وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته, تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قالوا له يتعنتونه: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) .
فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع، فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! - قال: ( إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) .
يعني بقوله جل ثناؤه: ( لا فارض ) لا مسنة هرمة. يقال منه: « فرضت البقرة تفرض فروضا » , يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر:
يــا رب ذي ضغـن عـليَّ فـارضِ لــه قــروء كقــروء الحـائضِ
يعني بقوله: « فارض » ، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر:
لهــا زِجــاج ولهــاة فــارض حــدلاء كـالوطب نحـاه المـاخض
وبمثل الذي قلنا في تأويل « فارض » قال المتأولون:
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( لا فارض ) ، قال: لا كبيرة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أو عن عكرمة, شك شريك- : ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.
حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( لا فارض ) ، الفارض: الهرمة.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، يقول: ليست بكبيرة هرمة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، الهرمة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الفارض » الكبيرة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد قوله: ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا فارض ) ، يعني: لا هرمة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « الفارض » ، الهرمة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة: « الفارض » الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الفارض » ، الهرمة التي لا تلد.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الفارض » ، الكبيرة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا بِكْرٌ
قال أبو جعفر: و « البكر » من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل, وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه « فَعَل » ولا « يفعل » . وأما « البكر » بفتح الباء فهو الفتي من الإبل.
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله ( ولا بكر ) ولا صغيرة لم تلد، كما:-
حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا بكر ) ، صغيرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « البكر » ، الصغيرة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد, عن ابن عباس - أو عكرمة، شك- : ( ولا بكر ) ، قال: الصغيرة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، الصغيرة.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ( ولا بكر ) ولا صغيرة.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، ولا صغيرة ضعيفة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( ولا بكر ) ، يعني: ولا صغيرة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: في « البكر » ، لم تلد إلا ولدا واحدا.
القول في تأويل قوله تعالى : عَوَانٌ
قال أبو جعفر: « العوان » النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن, وليست بنعت للبكر. يقال منه: « قد عونت » إذا صارت كذلك.
وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك. ولا يجوز أن يكون « عوان » إلا مبتدأ. لأن قوله بَيْنَ ذَلِكَ ، كناية عن الفارض والبكر, فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل:
ومــا بمكــة مـن شُـمط مُحَفِّلـة ومــا بيـثرب مـن عُـونٍ وأبكـار
وجمعها « عون » يقال: « امرأة عوان من نسوة عون » . ومنه قول تميم بن مقبل:
ومــأتم كــالدمي حـورٍ مدامعهـا لـم تبـأس العيش أبكـارا ولا عونـا
وبقرة « عوان، وبقر عون » . قال: وربما قالت العرب: « بقر عُوُن » مثل « رسل » يطلبون بذلك الفرق بين جمع « عوان » من البقر, وجمع « عانة » من الحمر. ويقال: « هذه حرب عوان » ، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: « حاجة عوان » ، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده:
قعـود لـدى الأبـواب طـلاب حاجة عـوانٍ مـن الحاجـات أو حاجةً بكرا
قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان بين ذلك ) ، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( عوان ) ، قال: « العوان » : العانس النصف.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « العوان » ، النصف.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس - أو عكرمة, شك شريك- ( عوان ) ، قال: بين ذلك.
حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: بين الصغيرة والكبيرة, وهى أقوى ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: النصف.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( عوان ) نَصَف.
وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: « العوان » ، نَصَف بين ذلك.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان ) ، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « العوان » ، النصَف التي بين ذلك, التي قد ولدت وولد ولدُها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « العوان » ، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة.
القول في تأويل قوله تعالى : بَيْنَ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( بين ذلك ) بين البكر والهرمة، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( بين ذلك ) ، أي بين البكر والهرمة.
فإن قال قائل: قد علمت أن « بين » لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا, فكيف قيل « بين ذلك » و « ذلك » واحد في اللفظ؟
قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة, لأن « ذلك » بمعنى اثنين, والعرب تجمع في « ذلك » و « ذاك » شيئين ومعنيين من الأفعال, كما يقول القائل: « أظن أخاك قائما, وكان عمرو أباك » , ثم يقول: « قد كان ذاك, وأظن ذلك » . فيجمع ب « ذلك » و « ذاك » الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ « ظن » و « كان » منهما .
فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد, ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع « ذلك » معنى الهرم والشباب لما وصفنا, ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع « بين » ذلك. وذلك أن « ذلك » لا يؤدي عن اسم شخصين, وغير جائز لمن قال: « كنت بين زيد وعمرو » , أن يقول: « كنت بين ذلك » , وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( 68 )
قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها, تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول, وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون, فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء, فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس- : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) فقيل لهم عقوبة لهم: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) . فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( يبين لنا ما لونها ) ، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا, لأنه مرافع « ما » . وإنما لم ينصب « ما » بقوله « يبين لنا » , لأن أصل « أي » و « ما » ، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله: « بين لنا » أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على « أي » ، لأنه جمع ذلك المتفرق. وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في « ما » و « أي » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( صفراء ) . فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد.
ذكر من قال ذلك منهم:
حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن الحسن: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: سوداء شديدة السواد.
حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن أبي رجاء, عن الحسن مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: كانت وحشية.
حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن إبراهيم, عن أبي حفص, عن مغراء - أو عن رجل - ، عن سعيد بن جبير: ( بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: ( صفراء ) ، يعني به سوداء, ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود: « هذه إبل صفر, وهذه ناقة صفراء » يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة, ومنه قول الشاعر:
تلــك خـيلي منـه وتلـك ركـابي هــن صفــر أولادهــا كـالزبيب
يعني بقوله: « هن صفر » هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع, وإنما تصف السواد - إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها, فتقول: « هو أسود حالك وحانك وحُلكوك, وأسود غِربيب ودَجوجي » - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول: « هو أصفر فاقع » . فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله: ( إنها بقرة صفراء فاقع ) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد.
القول في تأويل قوله تعالى : فَاقِعٌ لَوْنُهَا
قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و « الفقوع » في الصفر، نظير النصوع في البياض, وهو شدته وصفاؤه، كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: ( فاقع لونها ) ، هي الصافي لونها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فاقع لونها ) ، أي صاف لونها.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فاقع ) ، قال: نقي لونها.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس: ( فاقع لونها ) ، شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض!
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فاقع لونها ) ، قال: شديدة صفرتها .
يقال منه: « فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع » , كما قال الشاعر:
حـملت عليـه الـوَرد حـتى تركتـه ذليـلا يسُـف الـترب واللـون فـاقع
القول في تأويل قوله تعالى : تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تسر الناظرين ) ، تعجب هذه البقرة - في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( تسر الناظرين ) ، أي تعجب الناظرين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: ( تسر الناظرين ) ، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( تسر الناظرين ) ، قال: تعجب الناطرين.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( قالوا ) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: « ادع ربك » . فلم يذكر « له » لما وصفنا.
وقوله: ( يبين لنا ما هي ) ، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة, ولم يكن عليهم غيرها, لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي, بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان, فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة, لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم, ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته:-
« ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم » .
قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب-
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال, أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما وجدوها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) , قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الآية.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: « لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وَايْمُ الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما هدوا إليها أبدا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم.
حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة - يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدد عليهم, فاشتروها بملء جلدها دنانير.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك, ولكن البلاء في هذه المسائل, فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ، فشدد عليهم, فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ , فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فأبوا أيضا فقالوا: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ) فشدد عليهم، فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا ، قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها, وهي صفراء, ليس فيها سواد ولا بياض.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن, إلا أن يخص, بعض ما عمه ظاهر التنـزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله, وأن التنـزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنـزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر, فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة, وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا ( كتاب الرسالة ) من ( لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام ) - في قولنا في العموم والخصوص, وموافقة قولهم في ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام, وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض, فحكم الآية حينئذ على الخصوص .
وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك مؤدين، وللحق مطيعين, إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع, وسن دون سن.
ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن, ونوع دون نوع, وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى.
وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية, وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة.
وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص, وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر, وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك, وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.
وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته, أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى في معناها, فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها.
ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا, لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم, ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة, ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه, ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة, ونسأله التوفيق والهداية.
وأما قوله: ( إن البقر تشابه علينا ) ، فإن « البقر » جماع بقرة.
وقد قرأ بعضهم: ( إن الباقر ) ، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها, كما قال ميمون بن قيس:
ومـا ذنبـه أن عـافت المـاء بـاقر ومـا إن تعـاف المـاء إلا ليضربـا
وكما قال أمية:
ويســوقون بــاقر الســهل للـط ود مهــازيل خشــية أن تبــورا
- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب .
وأما تأويل: ( تشابه علينا ) ، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. فبعضهم كانوا يتلونه: « تشابه علينا » , بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال « تفاعل » , ويُذَكِّر الفعل، وإن كان « البقر » جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ القمر: 20 ] ، فذكر « المنقعر » وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ « النخل » - وقال في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [ الحاقة: 7 ] ، فأنث « الخاوية » وهي من صفة « النخل » - بمعنى النخل. لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر - على ما وصفنا قبل- فهي جماع « نخلة » .
وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر تشَّابهُ علينا ) ، بتشديد الشين وضم الهاء, فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث « البقر » , كما قال: أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ، ويدخل في أول « تشابه » تاء تدل على تأنيثها, ثم تدغم التاء الثانية في « شين » « تشابه » لتقارب مخرجها ومخرج « الشين » فتصير « شينا » مشددة، وترفع « الهاء » بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر يشَّابهُ علينا ) ، فيخرج « يشابه » مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: ( تشابه ) بالتخفيف ونصب « الهاء » , غير أنه كان يرفعه ب « الياء » التي يحدثها في أول « تشابه » التي تأتي بمعنى الاستقبال, وتدغم « التاء » في « الشين » كما فعله القارئ في « تشابه » ب « التاء » والتشديد.
قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: ( إن البقر تَشَابَهَ علينا ) ، بتخفيف « شين » « تشابه » ونصب « هائه » , بمعنى « تفاعل » ، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ.
وأما قوله: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى « اهتدائهم » في هذا الموضع معنى: « تبينهم » أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول.
ويعني بقوله: ( لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: « دابة ذلول بينة الذِّل » بكسر الذال. ويقال في مثله من بني آدم: « رجل ذليل بين الذِّل والذلة » .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، يقول: صعبة لم يذلها عمل, ( تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) .
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ) ، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها, وليست تسقي الحرث.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. ( تثير الأرض ) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض. ( ولا تسقي الحرث ) يقول: ولا تعمل في الحرث.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( إنها بقرة لا ذلول ) يقول: لم يذلها العمل, ( تثير الأرض ) يقول: تثير الأرض بأظلافها, ( ولا تسقي الحرث ) ، يقول: لا تعمل في الحرث.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: ( لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) ، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( تثير الأرض ) ، تقلب الأرض للحرث. يقال منه: « أثرت الأرض أثيرها إثارة » ، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت - فيما قيل- وَحشِيّة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن قال: كانت وحشية.
القول في تأويل قوله تعالى : مُسَلَّمَةٌ
قال أبو جعفر: ومعنى « مسلمة » « مفعلة » من « السلامة » . يقال منه: « سُلِّمت تسلم فهي مسلمة. »
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه, فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:-
حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « مسلمة » ، يقول: مسلمة من الشية, و لا شِيَةَ فِيهَا ، لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال, قال مجاهد: ( مسلمة ) ، قال: مسلمة من الشية، لا شِيَةَ فِيهَا لا بياض فيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلمة من العيوب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( مسلمة لا شية فيها ) ، أي مسلمة من العيوب.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( مسلمة ) ، يقول: لا عيب فيها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( مسلمة ) ، يعني مسلمة من العيوب.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: ( مسلمة ) ، لا عَوَارَ فيها.
قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان في قوله: ( مسلمة ) مُكْتَفًى عن قوله: لا شِيَةَ فِيهَا . وفي قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، ما يوضح عن أن معنى قوله: ( مُسَلَّمة ) ، غير معنى قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: إنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع, وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
القول في تأويل قوله تعالى : لا شِيَةَ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا شية فيها ) ، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من « وشي الثوب » , وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته, يقال منه: « وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا » ، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: « واش » , لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه: « وشيت به إلى السلطان وشاية » . ومنه قول كعب بن زهير:
تســعى الوشــاة جَنَابَيْهـا وقـولهُمُ إنـك يـا ابـن أبـي سُـلمى لمقتول
و « الوشاة جمع واش » ، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربية أن « الوشي » ، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل: « وشيت بفلان إلى فلان » غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنما قيل: ( لا شية فيها ) وهي من « وشيت » ، لأن « الواو » لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها « الهاء » في آخرها. كما قيل: « وزنته زنة » و « وسن سِنة » و « وعدته عِدة » و « وديته دِية » .
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: ( لا شية فيها ) ، قال أهل التأويل:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لا شية فيها ) ، أي لا بياض فيها.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا شية فيها ) أي لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( لا شية فيها ) ، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا شية فيها ) ، من بياض ولا سواد ولا حمرة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا شية فيها ) ، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) . فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه, وعرفنا أية بقرة عنيت. وممن قال ذلك قتادة :
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، أي الآن بينت لنا.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد :
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها, وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض, فقالوا: هذه بقرة فلان: ( الآن جئت بالحق ) ، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر, فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها, فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه, ورد رادوه في أمر البقر - الحق. وإنما يقال: « الآن بينت لنا الحق » لمن لم يكن مبينا قبل ذلك, فأما من كان كل قيله - فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا, فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: ( الآن جئت بالحق ) ، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: ( الآن جئت بالحق ) ، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.
وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها, وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فذبحوها ) ، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.
ويعني بقوله: ( وما كادوا يفعلون ) ، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي في قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) قال: لغلاء ثمنها.
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، قال: من كثرة قيمتها.
حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، لكثرة الثمن, أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول, فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن « كاد » أو « كادوا » أو « لو » ، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: أَكَادُ أُخْفِيهَا [ طه: 15 ]
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا, أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله.
فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات.
فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا, فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فباعها بملء جلدها ذهبا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير, ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير, ثم دفعوها إليه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا, فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير, فرضي به فأعطاهم إياها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فباعها بوزنها ذهبا, أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا, فاشتروها بملء جلدها ذهبا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا.
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها, فإن الحسن بن يحيى:-
حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة, عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.
حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.
وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله, أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق.
حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه, عن ابن عباس.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإذ قتلتم نفسا ) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و « النفس » التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
وقوله: ( فادارأتم فيها ) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو « فتدارأتم فيها » على مثال « تفاعلتم » ، من الدرء. و « الدرء » : العوج, ومنه قول أبي النجم العجلي:
خشــية ضَغّــام إذا هــم جَسَـر يـأكل ذا الـدرء ويقصـي مـن حقر
يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدركتهـــا قــدام كــل مِــدْرَهِ بــالدفع عنــي درء كــل عُنْجُـهِ
ومنه الخبر الذي:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام, عن إسرائيل, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد, عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية, فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا أعلم به منكما, ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري » .
يعني بقوله:لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه.
وإنما أصل ( فادارأتم ) ، فتدارأتم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر:
تـولي الضجـيع إذا ما استافها خَصِرا عـذب المـذاق إذا مـا اتّـابعَ القُبَـل
يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت, فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [ الأعراف: 38 ] ، إنما هو « تداركوا » , ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة, وجعلت فيها ألف - إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدئ به, قيل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال: « اداركوا، وادارءوا » .
وقد قيل إن معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) ، فتدافعتم فيها. من قول القائل: « درأت هذا الأمر عني » , ومن قول الله: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [ النور: 8 ] ، بمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل, فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) قال أهل التأويل.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم فيها.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم, وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا.
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين, فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا - أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا - ولم يشك- منه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [ سبطا به ] ، حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم.
حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله, وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما, فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين, قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين, فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم, عمدوا إليه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم, فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى, فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى, فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير, ولم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال عليه حياته, فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب, فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح, ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة - كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير, فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين. ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال، ذوو النهى منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى, فقصوا عليه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها, فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط, فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم, وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو « الدرء » الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( 68 )
قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها, تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول, وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون, فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء, فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس- : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) فقيل لهم عقوبة لهم: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) . فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( يبين لنا ما لونها ) ، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا, لأنه مرافع « ما » . وإنما لم ينصب « ما » بقوله « يبين لنا » , لأن أصل « أي » و « ما » ، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله: « بين لنا » أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على « أي » ، لأنه جمع ذلك المتفرق. وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في « ما » و « أي » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( صفراء ) . فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد.
ذكر من قال ذلك منهم:
حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن الحسن: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: سوداء شديدة السواد.
حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن أبي رجاء, عن الحسن مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف.
ذكر من قال ذلك:
حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: كانت وحشية.
حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن إبراهيم, عن أبي حفص, عن مغراء - أو عن رجل - ، عن سعيد بن جبير: ( بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: ( صفراء ) ، يعني به سوداء, ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود: « هذه إبل صفر, وهذه ناقة صفراء » يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة, ومنه قول الشاعر:
تلــك خـيلي منـه وتلـك ركـابي هــن صفــر أولادهــا كـالزبيب
يعني بقوله: « هن صفر » هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع, وإنما تصف السواد - إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها, فتقول: « هو أسود حالك وحانك وحُلكوك, وأسود غِربيب ودَجوجي » - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول: « هو أصفر فاقع » . فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله: ( إنها بقرة صفراء فاقع ) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد.
القول في تأويل قوله تعالى : فَاقِعٌ لَوْنُهَا
قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و « الفقوع » في الصفر، نظير النصوع في البياض, وهو شدته وصفاؤه، كما:-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: ( فاقع لونها ) ، هي الصافي لونها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فاقع لونها ) ، أي صاف لونها.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فاقع ) ، قال: نقي لونها.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس: ( فاقع لونها ) ، شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض!
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فاقع لونها ) ، قال: شديدة صفرتها .
يقال منه: « فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع » , كما قال الشاعر:
حـملت عليـه الـوَرد حـتى تركتـه ذليـلا يسُـف الـترب واللـون فـاقع
القول في تأويل قوله تعالى : تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تسر الناظرين ) ، تعجب هذه البقرة - في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( تسر الناظرين ) ، أي تعجب الناظرين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: ( تسر الناظرين ) ، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( تسر الناظرين ) ، قال: تعجب الناطرين.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( قالوا ) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: « ادع ربك » . فلم يذكر « له » لما وصفنا.
وقوله: ( يبين لنا ما هي ) ، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة, ولم يكن عليهم غيرها, لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي, بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان, فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة, لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم, ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته:-
« ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم » .
قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب-
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال, أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما وجدوها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) , قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الآية.
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: « لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وَايْمُ الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما هدوا إليها أبدا.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم.
حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة - يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدد عليهم, فاشتروها بملء جلدها دنانير.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك, ولكن البلاء في هذه المسائل, فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ، فشدد عليهم, فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ , فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فأبوا أيضا فقالوا: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ) فشدد عليهم، فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا ، قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها, وهي صفراء, ليس فيها سواد ولا بياض.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن, إلا أن يخص, بعض ما عمه ظاهر التنـزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله, وأن التنـزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنـزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر, فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة, وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا ( كتاب الرسالة ) من ( لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام ) - في قولنا في العموم والخصوص, وموافقة قولهم في ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام, وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض, فحكم الآية حينئذ على الخصوص .
وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك مؤدين، وللحق مطيعين, إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع, وسن دون سن.
ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن, ونوع دون نوع, وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى.
وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية, وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة.
وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص, وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر, وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك, وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.
وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته, أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى في معناها, فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها.
ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا, لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم, ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة, ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه, ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة, ونسأله التوفيق والهداية.
وأما قوله: ( إن البقر تشابه علينا ) ، فإن « البقر » جماع بقرة.
وقد قرأ بعضهم: ( إن الباقر ) ، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها, كما قال ميمون بن قيس:
ومـا ذنبـه أن عـافت المـاء بـاقر ومـا إن تعـاف المـاء إلا ليضربـا
وكما قال أمية:
ويســوقون بــاقر الســهل للـط ود مهــازيل خشــية أن تبــورا
- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب .
وأما تأويل: ( تشابه علينا ) ، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. فبعضهم كانوا يتلونه: « تشابه علينا » , بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال « تفاعل » , ويُذَكِّر الفعل، وإن كان « البقر » جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ القمر: 20 ] ، فذكر « المنقعر » وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ « النخل » - وقال في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [ الحاقة: 7 ] ، فأنث « الخاوية » وهي من صفة « النخل » - بمعنى النخل. لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر - على ما وصفنا قبل- فهي جماع « نخلة » .
وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر تشَّابهُ علينا ) ، بتشديد الشين وضم الهاء, فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث « البقر » , كما قال: أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ، ويدخل في أول « تشابه » تاء تدل على تأنيثها, ثم تدغم التاء الثانية في « شين » « تشابه » لتقارب مخرجها ومخرج « الشين » فتصير « شينا » مشددة، وترفع « الهاء » بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر يشَّابهُ علينا ) ، فيخرج « يشابه » مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: ( تشابه ) بالتخفيف ونصب « الهاء » , غير أنه كان يرفعه ب « الياء » التي يحدثها في أول « تشابه » التي تأتي بمعنى الاستقبال, وتدغم « التاء » في « الشين » كما فعله القارئ في « تشابه » ب « التاء » والتشديد.
قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: ( إن البقر تَشَابَهَ علينا ) ، بتخفيف « شين » « تشابه » ونصب « هائه » , بمعنى « تفاعل » ، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ.
وأما قوله: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى « اهتدائهم » في هذا الموضع معنى: « تبينهم » أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول.
ويعني بقوله: ( لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: « دابة ذلول بينة الذِّل » بكسر الذال. ويقال في مثله من بني آدم: « رجل ذليل بين الذِّل والذلة » .
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، يقول: صعبة لم يذلها عمل, ( تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) .
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ) ، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها, وليست تسقي الحرث.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. ( تثير الأرض ) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض. ( ولا تسقي الحرث ) يقول: ولا تعمل في الحرث.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( إنها بقرة لا ذلول ) يقول: لم يذلها العمل, ( تثير الأرض ) يقول: تثير الأرض بأظلافها, ( ولا تسقي الحرث ) ، يقول: لا تعمل في الحرث.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: ( لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) ، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( تثير الأرض ) ، تقلب الأرض للحرث. يقال منه: « أثرت الأرض أثيرها إثارة » ، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت - فيما قيل- وَحشِيّة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن قال: كانت وحشية.
القول في تأويل قوله تعالى : مُسَلَّمَةٌ
قال أبو جعفر: ومعنى « مسلمة » « مفعلة » من « السلامة » . يقال منه: « سُلِّمت تسلم فهي مسلمة. »
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه, فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:-
حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « مسلمة » ، يقول: مسلمة من الشية, و لا شِيَةَ فِيهَا ، لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال, قال مجاهد: ( مسلمة ) ، قال: مسلمة من الشية، لا شِيَةَ فِيهَا لا بياض فيها ولا سواد.
وقال آخرون: مسلمة من العيوب.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( مسلمة لا شية فيها ) ، أي مسلمة من العيوب.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( مسلمة ) ، يقول: لا عيب فيها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( مسلمة ) ، يعني مسلمة من العيوب.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: ( مسلمة ) ، لا عَوَارَ فيها.
قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان في قوله: ( مسلمة ) مُكْتَفًى عن قوله: لا شِيَةَ فِيهَا . وفي قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، ما يوضح عن أن معنى قوله: ( مُسَلَّمة ) ، غير معنى قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: إنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع, وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.
القول في تأويل قوله تعالى : لا شِيَةَ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا شية فيها ) ، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من « وشي الثوب » , وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته, يقال منه: « وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا » ، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: « واش » , لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه: « وشيت به إلى السلطان وشاية » . ومنه قول كعب بن زهير:
تســعى الوشــاة جَنَابَيْهـا وقـولهُمُ إنـك يـا ابـن أبـي سُـلمى لمقتول
و « الوشاة جمع واش » ، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله.
وقد زعم بعض أهل العربية أن « الوشي » ، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل: « وشيت بفلان إلى فلان » غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنما قيل: ( لا شية فيها ) وهي من « وشيت » ، لأن « الواو » لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها « الهاء » في آخرها. كما قيل: « وزنته زنة » و « وسن سِنة » و « وعدته عِدة » و « وديته دِية » .
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: ( لا شية فيها ) ، قال أهل التأويل:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لا شية فيها ) ، أي لا بياض فيها.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا شية فيها ) أي لا بياض فيها ولا سواد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( لا شية فيها ) ، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا شية فيها ) ، من بياض ولا سواد ولا حمرة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا شية فيها ) ، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) . فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه, وعرفنا أية بقرة عنيت. وممن قال ذلك قتادة :
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، أي الآن بينت لنا.
وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد :
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها, وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض, فقالوا: هذه بقرة فلان: ( الآن جئت بالحق ) ، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر, فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها, فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه, ورد رادوه في أمر البقر - الحق. وإنما يقال: « الآن بينت لنا الحق » لمن لم يكن مبينا قبل ذلك, فأما من كان كل قيله - فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا, فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: ( الآن جئت بالحق ) ، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: ( الآن جئت بالحق ) ، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.
وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها, وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فذبحوها ) ، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.
ويعني بقوله: ( وما كادوا يفعلون ) ، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي في قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) قال: لغلاء ثمنها.
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، قال: من كثرة قيمتها.
حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، لكثرة الثمن, أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول, فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها.
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن « كاد » أو « كادوا » أو « لو » ، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: أَكَادُ أُخْفِيهَا [ طه: 15 ]
وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا, أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله.
فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات.
فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا, فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فباعها بملء جلدها ذهبا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير, ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير, ثم دفعوها إليه.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا, فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير, فرضي به فأعطاهم إياها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فباعها بوزنها ذهبا, أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا, فاشتروها بملء جلدها ذهبا.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا.
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها, فإن الحسن بن يحيى:-
حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة, عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.
حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.
وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله, أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق.
حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه, عن ابن عباس.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإذ قتلتم نفسا ) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و « النفس » التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
وقوله: ( فادارأتم فيها ) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو « فتدارأتم فيها » على مثال « تفاعلتم » ، من الدرء. و « الدرء » : العوج, ومنه قول أبي النجم العجلي:
خشــية ضَغّــام إذا هــم جَسَـر يـأكل ذا الـدرء ويقصـي مـن حقر
يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
أدركتهـــا قــدام كــل مِــدْرَهِ بــالدفع عنــي درء كــل عُنْجُـهِ
ومنه الخبر الذي:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام, عن إسرائيل, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد, عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية, فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا أعلم به منكما, ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري » .
يعني بقوله:لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه.
وإنما أصل ( فادارأتم ) ، فتدارأتم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر:
تـولي الضجـيع إذا ما استافها خَصِرا عـذب المـذاق إذا مـا اتّـابعَ القُبَـل
يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت, فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [ الأعراف: 38 ] ، إنما هو « تداركوا » , ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة, وجعلت فيها ألف - إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدئ به, قيل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال: « اداركوا، وادارءوا » .
وقد قيل إن معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) ، فتدافعتم فيها. من قول القائل: « درأت هذا الأمر عني » , ومن قول الله: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [ النور: 8 ] ، بمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل, فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) قال أهل التأويل.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم فيها.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم, وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا.
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين, فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا - أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا - ولم يشك- منه.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [ سبطا به ] ، حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم.
حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله, وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما, فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين, قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين, فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم, عمدوا إليه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم, فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى, فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى, فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير, ولم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال عليه حياته, فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب, فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح, ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة - كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير, فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين. ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال، ذوو النهى منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى, فقصوا عليه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها, فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط, فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم, وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو « الدرء » الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه.
ومعنى « الإخراج » - في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه, كما قال الله تعالى ذكره: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ النمل: 25 ] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه.
والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، حتى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره.
وعَنَى جل ذكره بقوله: ( تكتمون ) ، تسرون وتغيبون، كما:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، قال: تغيبون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما كنتم تكتمون ) ، ما كنتم تغيبون.
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل - الذي قد تقدم وصفنا أمره - : اضربوا القتيل. و « الهاء » التي في قوله: ( اضربوه ) من ذكر القتيل؛ ( ببعضها ) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا, فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربي, عن عكرمة: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب ، عن ابن سيرين, عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها - وقال معمر، عن قتادة - : ضربوه بلحم الفخذ فعاش, فقال: قتلني فلان.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
وقال آخرون بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [ في ] خبر تقوم به حجة، على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل, ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارءوا فيه - من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا, فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [ الشعراء: 63 ] ، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى
قال أبو جعفر: وقوله: ( كذلك يحيي الله الموتى ) ، مخاطبة من الله عباده المؤمنين, واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث, وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات, اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته, فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم, فأبعثهم يوم البعث.
وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نـزلت هذه الآيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل, وهم - فيما ذكر- بنو أخي المقتول, فقال لهم: « ثم قست قلوبكم » : أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:
وقد قسوت وقسا لداتي
يقال: « قسا » و « عسا » و « عتا » بمعنى واحد, وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء.
ويعني بقوله: ( من بعد ذلك ) ، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا في قتله، فأخبرهم بقاتله، وبالسبب الذي من أجله قتله، كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم - فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله, فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانية، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا, فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه, فقال الله: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) - يعني بني أخي الشيخ- فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى, وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم, فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فهي ) : « قلوبكم » . يقول: ثم صلبت قلوبكم - بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم, فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة, أو « أشد قسوة » ، يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم, والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، و « أو » عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك, والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب « أو » , كقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، وكقول الله جل ذكره: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سبأ: 24 ] [ الإبهام على من خاطبه ] فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحـــب محــمدا حبــا شــديدا وعباســـا وحـــمزة والوصيــا
فــإن يــك حـبهم رشـدا أصبـه ولســـت بمخــطئ إن كـان غيـا
قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد, ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فقال: أَوَ كان شاكا - من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال.
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: « ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا » , وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما, ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة, وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة, وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم: « أو » في قوله: ( أو أشد قسوة ) ، بمعنى، وأشد قسوة, كما قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [ الإنسان: 24 ] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:
نـال الخلافـة أو كـانت لـه قـدرا كمـا أتـى ربـه موسـى عـلى قدر
يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة:
قـالت: ألا ليتمـا هـذا الحمـام لنـا إلــى حمامتنــا أو نصفــه فقـد
يريد. ونصفه
وقال آخرون: « أو » في هذا الموضع بمعنى « بل » , فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة, كما قال جل ثناؤه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، بمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد, على تأويل أن منها كالحجارة, ومنها أشد قسوة. لأن « أو » ، وإن استعملت في أماكن من أماكن « الواو » حتى يلتبس معناها ومعنى « الواو » ، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: ( أو أشد قسوة ) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى « الكاف » في قوله: ( كالحجارة ) ، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى « مثل » ، [ فيكون تأويله ] فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير « هي » عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار, فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وإنما ذكر فقال « منه » ، للفظ « ما » .
و « التفجر » : « التفعل » من « تفجر الماء » , وذلك إذا تنـزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد « انفجر » ، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لجأ:
ولمــا أن قــرنت إلــى جـرير أبـــى ذو بطنـــه إلا انفجــارا
يعني: إلا خروجا وسيلانا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإن منها لما يشقق » ، وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. وإنما هي: لما يتشقق, ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.
وقوله: ( فيخرج منه الماء ) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى « الهبوط » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه « اللامات » اللواتي في « ما » ، توكيدا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار, وأن منها المتشقق بالماء, وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء, أو يتردى من رأس جبل, فهو من خشية الله عز وجل, نـزل بذلك القرآن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج أنه قال فيها: كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل, فمن خشية الله. نـزل به القرآن.
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله.
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه.
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه.
كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن.
وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن » .
وقال آخرون: بل قوله: ( يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) كقوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله, كما قال زيد الخيل:
بجـمع تضـل البلـق فـي حَجَراتـه تـرى الأكْـمَ منـه سـجدا للحـوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له:
ســـاجد المنخـــر لا يرفعـــه خاشــع الطــرف أصـم المسـتمع
يريد أنه ذليل.
وكما قال جرير بن عطية:
لمـا أتـى خـبر الرسول تضعضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع
وقال آخرون: معنى قوله: ( يهبط من خشية الله ) ، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل: « ناقة تاجرة » ، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها, كما قال جرير بن عطية:
وأعــور مـن نبهـان, أمـا نهـاره فــأعمى, وأمــا ليلــه فبصــير
فجعل الصفة لليل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه, من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل, فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها.
وقد دللنا فيما مضى على معنى « الخشية » , وأنها الرهبة والمخافة, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وما الله بغافل عما تعملون ) ، وما الله بغافل - يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم, فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا.
وأصل « الغفلة » عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها, بل هو لها محص, ولها حافظ.
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أفتطمعون ) يا أصحاب محمد, أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟
ويعني بقوله: ( أن يؤمنوا لكم ) ، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) ، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، « أن يؤمنوا لكم » يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) الآية, قال: هم اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
قال أبو جعفر: أما « الفريق » فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو « فعيل » من « التفرق » سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب « الحزب » ، من « التحزب » ، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أجَــدّوا فلمــا خـفت أن يتفرقـوا فـريقين, منهـم مُصعِـد ومُصـوِّب
يعني بقوله: ( منهم ) ، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم, فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته, فيقول: « كان منا فلان » ، يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: ( وقد كان فريق منهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) . فقال بعضهم بما:-
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، قال: هي التوراة، حرفوها.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، قال: التوراة التي أنـزلها عليهم، يحرفونها, يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا, إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ البقرة: 44 ] .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة, ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ) الآية, قال: ليس قوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم, فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور, فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [ أن يسجدوا ] فوقعوا سجودا, وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم, حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة, ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان, وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى, فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه, ثم يبدله ويحرفه ويجحده, فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله, وإنما يسمعونه منكم - وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة, لم يكن لذكر قوله: ( يسمعون كلام الله ) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.
فإن ظن ظان [ أنه ] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: ( يحرفونه ) ، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل, ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
ويعني بقوله: ( ثم يحرفونه ) ، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من « انحراف الشيء عن جهته » , وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: ( يحرفونه ) أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا, وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: ( يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، ( وهم يعلمون ) ، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
قال أبو جعفر: أما قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إليكم خاصة.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) الآية, قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 76 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود - الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم - « قالوا » يعني: قال بعضهم لبعض - : « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( بما فتح الله عليكم ) . فقال بعضهم بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك.
وقال آخرون بما:-
حدثنا ابن حميد قال, حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ، أي: بصاحبكم رسول الله, ولكنه إليكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم, فكان منهم. فأنـزل الله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) ، أي: تقرون بأنه نبي, وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه, وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي بما أنـزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، ( أفلا تعقلون ) .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، ليحتجوا به عليكم.
حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أنـزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال: قول يهود بني قريظة، حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا, فقال: يا إخوة القردة والخنازير.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير » .
حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال: « يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت » . فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ! بما حكم الله، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج, عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) - من العذاب - « ليحاجوكم به عند ربكم » هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم, وأكرم على الله منكم؟
وقال آخرون بما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنـزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر وقرأ قول الله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ آل عمران: 72 ] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] - قالوا: « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » ، الآية.
وأصل « الفتح » في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه: « اللهم افتح بيني وبين فلان » ، أي احكم بيني وبينه, ومنه قول الشاعر:
ألا أبلــغ بنــي عُصْــمٍ رسـولا بـــأني عــن فُتــاحَتكم غنــي
قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي: « الفتاح » ومنه قول الله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ الأعراف: 89 ] أي احكم بيننا وبينهم.
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا, تبين أن معنى قوله: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [ من أحكامه وقضائه ] .
فإذ كان كذلك. فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم - فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به, وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته.
قال أبو جعفر: وقوله: ( أفلا تعقلون ) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم, ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
====
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه.
ومعنى « الإخراج » - في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه, كما قال الله تعالى ذكره: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ النمل: 25 ] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه.
والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، حتى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره.
وعَنَى جل ذكره بقوله: ( تكتمون ) ، تسرون وتغيبون، كما:
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، قال: تغيبون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما كنتم تكتمون ) ، ما كنتم تغيبون.
القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل - الذي قد تقدم وصفنا أمره - : اضربوا القتيل. و « الهاء » التي في قوله: ( اضربوه ) من ذكر القتيل؛ ( ببعضها ) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.
ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا, فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربي, عن عكرمة: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب ، عن ابن سيرين, عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها - وقال معمر، عن قتادة - : ضربوه بلحم الفخذ فعاش, فقال: قتلني فلان.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.
وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.
وقال آخرون بما:-
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [ في ] خبر تقوم به حجة، على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل, ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارءوا فيه - من قاتله.
فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا, فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [ الشعراء: 63 ] ، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى
قال أبو جعفر: وقوله: ( كذلك يحيي الله الموتى ) ، مخاطبة من الله عباده المؤمنين, واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث, وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات, اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته, فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم, فأبعثهم يوم البعث.
وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نـزلت هذه الآيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم.
القول في تأويل قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل, وهم - فيما ذكر- بنو أخي المقتول, فقال لهم: « ثم قست قلوبكم » : أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:
وقد قسوت وقسا لداتي
يقال: « قسا » و « عسا » و « عتا » بمعنى واحد, وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء.
ويعني بقوله: ( من بعد ذلك ) ، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا في قتله، فأخبرهم بقاتله، وبالسبب الذي من أجله قتله، كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم - فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله, فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانية، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا, فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه, فقال الله: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) - يعني بني أخي الشيخ- فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى, وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم, فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فهي ) : « قلوبكم » . يقول: ثم صلبت قلوبكم - بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم, فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة, أو « أشد قسوة » ، يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم, والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، و « أو » عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك, والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب « أو » , كقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، وكقول الله جل ذكره: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سبأ: 24 ] [ الإبهام على من خاطبه ] فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحـــب محــمدا حبــا شــديدا وعباســـا وحـــمزة والوصيــا
فــإن يــك حـبهم رشـدا أصبـه ولســـت بمخــطئ إن كـان غيـا
قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد, ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فقال: أَوَ كان شاكا - من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال.
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: « ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا » , وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما, ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة, وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة, وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم: « أو » في قوله: ( أو أشد قسوة ) ، بمعنى، وأشد قسوة, كما قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [ الإنسان: 24 ] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:
نـال الخلافـة أو كـانت لـه قـدرا كمـا أتـى ربـه موسـى عـلى قدر
يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة:
قـالت: ألا ليتمـا هـذا الحمـام لنـا إلــى حمامتنــا أو نصفــه فقـد
يريد. ونصفه
وقال آخرون: « أو » في هذا الموضع بمعنى « بل » , فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة, كما قال جل ثناؤه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، بمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد, على تأويل أن منها كالحجارة, ومنها أشد قسوة. لأن « أو » ، وإن استعملت في أماكن من أماكن « الواو » حتى يلتبس معناها ومعنى « الواو » ، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: ( أو أشد قسوة ) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى « الكاف » في قوله: ( كالحجارة ) ، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى « مثل » ، [ فيكون تأويله ] فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير « هي » عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار, فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وإنما ذكر فقال « منه » ، للفظ « ما » .
و « التفجر » : « التفعل » من « تفجر الماء » , وذلك إذا تنـزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد « انفجر » ، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لجأ:
ولمــا أن قــرنت إلــى جـرير أبـــى ذو بطنـــه إلا انفجــارا
يعني: إلا خروجا وسيلانا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإن منها لما يشقق » ، وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. وإنما هي: لما يتشقق, ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.
وقوله: ( فيخرج منه الماء ) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى « الهبوط » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه « اللامات » اللواتي في « ما » ، توكيدا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار, وأن منها المتشقق بالماء, وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء, أو يتردى من رأس جبل, فهو من خشية الله عز وجل, نـزل بذلك القرآن.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج أنه قال فيها: كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل, فمن خشية الله. نـزل به القرآن.
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله.
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه.
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه.
كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن.
وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن » .
وقال آخرون: بل قوله: ( يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) كقوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله, كما قال زيد الخيل:
بجـمع تضـل البلـق فـي حَجَراتـه تـرى الأكْـمَ منـه سـجدا للحـوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له:
ســـاجد المنخـــر لا يرفعـــه خاشــع الطــرف أصـم المسـتمع
يريد أنه ذليل.
وكما قال جرير بن عطية:
لمـا أتـى خـبر الرسول تضعضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع
وقال آخرون: معنى قوله: ( يهبط من خشية الله ) ، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل: « ناقة تاجرة » ، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها, كما قال جرير بن عطية:
وأعــور مـن نبهـان, أمـا نهـاره فــأعمى, وأمــا ليلــه فبصــير
فجعل الصفة لليل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه, من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل, فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها.
وقد دللنا فيما مضى على معنى « الخشية » , وأنها الرهبة والمخافة, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وما الله بغافل عما تعملون ) ، وما الله بغافل - يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم, فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا.
وأصل « الغفلة » عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.
فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها, بل هو لها محص, ولها حافظ.
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أفتطمعون ) يا أصحاب محمد, أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟
ويعني بقوله: ( أن يؤمنوا لكم ) ، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) ، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، « أن يؤمنوا لكم » يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) الآية, قال: هم اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
قال أبو جعفر: أما « الفريق » فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو « فعيل » من « التفرق » سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب « الحزب » ، من « التحزب » ، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أجَــدّوا فلمــا خـفت أن يتفرقـوا فـريقين, منهـم مُصعِـد ومُصـوِّب
يعني بقوله: ( منهم ) ، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم, فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته, فيقول: « كان منا فلان » ، يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: ( وقد كان فريق منهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) . فقال بعضهم بما:-
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، قال: هي التوراة، حرفوها.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، قال: التوراة التي أنـزلها عليهم، يحرفونها, يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا, إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ البقرة: 44 ] .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة, ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ) الآية, قال: ليس قوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم, فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور, فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [ أن يسجدوا ] فوقعوا سجودا, وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم, حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة, ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان, وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى, فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه, ثم يبدله ويحرفه ويجحده, فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله, وإنما يسمعونه منكم - وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.
ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة, لم يكن لذكر قوله: ( يسمعون كلام الله ) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.
فإن ظن ظان [ أنه ] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: ( يحرفونه ) ، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل, ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.
ويعني بقوله: ( ثم يحرفونه ) ، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من « انحراف الشيء عن جهته » , وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: ( يحرفونه ) أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا, وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: ( يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، ( وهم يعلمون ) ، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
قال أبو جعفر: أما قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما:-
حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إليكم خاصة.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) الآية, قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 76 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود - الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم - « قالوا » يعني: قال بعضهم لبعض - : « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( بما فتح الله عليكم ) . فقال بعضهم بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك.
وقال آخرون بما:-
حدثنا ابن حميد قال, حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ، أي: بصاحبكم رسول الله, ولكنه إليكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم, فكان منهم. فأنـزل الله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) ، أي: تقرون بأنه نبي, وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه, وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي بما أنـزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، ( أفلا تعقلون ) .
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، ليحتجوا به عليكم.
حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أنـزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال: قول يهود بني قريظة، حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا, فقال: يا إخوة القردة والخنازير.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير » .
حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال: « يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت » . فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ! بما حكم الله، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج, عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) - من العذاب - « ليحاجوكم به عند ربكم » هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم, وأكرم على الله منكم؟
وقال آخرون بما:-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنـزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر وقرأ قول الله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ آل عمران: 72 ] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] - قالوا: « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » ، الآية.
وأصل « الفتح » في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه: « اللهم افتح بيني وبين فلان » ، أي احكم بيني وبينه, ومنه قول الشاعر:
ألا أبلــغ بنــي عُصْــمٍ رسـولا بـــأني عــن فُتــاحَتكم غنــي
قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي: « الفتاح » ومنه قول الله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ الأعراف: 89 ] أي احكم بيننا وبينهم.
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا, تبين أن معنى قوله: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [ من أحكامه وقضائه ] .
فإذ كان كذلك. فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم - فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به, وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته.
قال أبو جعفر: وقوله: ( أفلا تعقلون ) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم, ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 77 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، أولا يعلم - هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم, على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه, القائلون لهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ - أن الله عالم بما يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم من كفرهم، وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعلى قيلهم لهم: آمنا, ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم, وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون ) ، من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلى بعض, ( وما يعلنون ) إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليرضوهم بذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوبا عندهم، ( وما يعلنون ) ، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين: آمنا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ومنهم أميون ) ، ومن هؤلاء - اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات, وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فقال لهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ومنهم أميون ) ، يعني: من اليهود.
وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون ) ، قال: أناس من يهود.
قال أبو جعفر: يعني بـ « الأميين » ، الذين لا يكتبون ولا يقرءون.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » يقال منه: « رجل أمي بين الأمية » . كما:-
حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن منصور، عن إبراهيم: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب ) ، قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ومنهم أميون ) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود.
وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول, وهو ما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ومنهم أميون ) ، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم, ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم, وذلك أن « الأمي » عند العرب: هو الذي لا يكتب.
قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي « أمي » ؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى « أمه » , لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء, فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال - إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » ، وكما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ الجمعة: 2 ] . فإذا كان معنى « الأمي » في كلام العرب ما وصفنا, فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: ( ومنهم أميون ) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
القول في تأويل قوله تعالى : لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنـزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم, كالذي:-
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله, ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا يعلمون الكتاب ) لا يدرون ما فيه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب ) قال: لا يدرون بما فيه.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون شيئا, لا يقرءون التوراة. ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن يقرأ.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله, ( لا يعلمون الكتاب ) ، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنـزله الله.
قال أبو جعفر: وإنما عني بـ « الكتاب » : التوراة, ولذلك أدخلت فيه « الألف واللام » لأنه قصد به كتاب معروف بعينه.
ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ] ( إلا أماني ) فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( إلا أماني ) ، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إلا كذبا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون بما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح, [ عن معاوية بن صالح ] ، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، يقول: إلا أحاديث.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا, وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله, ويقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إلا أماني ) ، يتمنون على الله ما ليس لهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إلا أماني ) ، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: ( إلا أماني ) ، بالحق، وأشبهه بالصواب, الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن « الأميين » الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنـزله الله على موسى شيئا, ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا.
و « التمني » في هذا الموضع, هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه: « تمنيت كذا » ، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: « ما تغنيت ولا تمنيت » ، يعني بقوله: « ما تمنيت » ، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: ( إلا أماني ) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم « يتلونه » ، لم يكونوا ظانين, وكذلك لو كان معناه: « يشتهونه » . لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود - فيما بلغنا- شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك « المتمني » الذي هو في معنى « المشتهي » غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه.
وإنما قيل: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، والأماني من غير نوع « الكتاب » , كما قال ربنا جل ثناؤه: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ النساء: 157 ] و « الظن » من « العلم » بمعزل. وكما قال: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [ الليل: 19- 20 ] ، وكما قال الشاعر:
ليس بينــي وبيــن قيس عتــاب غــير طعــن الكُــلَى وضـرب الرقـاب
وكما قال نابغة بني ذبيان:
حــلفت يمينــا غـير ذي مَثْنَويـة, ولا علـم إلا حسـنَ ظـن بصـاحب
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب.
ويخرجُ بـ « إلا » ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته, وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض أهل العربية « استثناء منقطعا » ، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد « إلا » عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان « إلا » « لكن » ؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول, ألا ترى أنك إذا قلت: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ثم أردت وضع « لكن » مكان « إلا » وحذف « إلا » , وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه « إلا » ؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم يتمنون. وكذلك قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، لكن اتباع الظن, بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا.
وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: ( إلا أماني ) مخففة. ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم « المفتاح » « مفاتح » , و « القرقور » ، « قراقر » , وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من « الأماني » - كما جمعوا « الأثفية » « أثافي » مخففة, كما قال زهير بن أبي سلمى:
أثـافيَ سُـفْعا فـي مُعَـرَّسِ مِرْجَـل ونُؤْيـا كجِذم الحـوض لـم يَتَثَلَّـم
وأما من ثقل: ( أماني ) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم « المفتاح مفاتيح, والقرقور قراقير, والزنبور زنابير » ، فاجتمعت ياء « فعاليل » ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة.
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد ياء « الأماني » , لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، إجماعها على تخطئته.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 78 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإن هم إلا يظنون ) ، وما هم، كما قال جل ثناؤه: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [ إبراهيم: 11 ] ، يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم.
ومعنى قوله: ( إلا يظنون ) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. و « الظن » - في هذا الموضع- الشك.
فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل.
وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون, لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله, ولم تكن من كتاب الله, فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, ويتبعون ما هم فيه شاكون, وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله, ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال فيه المتأولون من السلف:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن هم إلا يظنون ) إلا يكذبون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ) ، أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه, وهم يجحدون نبوتك بالظن.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال: يظنون الظنون بغير الحق.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: يظنون الظنون بغير الحق.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فويل ) . فقال بعضهم بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس ( فويل ) ، يقول: فالعذاب عليهم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن زياد بن فياض, عن أبي عياض في قوله: ( فويل ) ، قال: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم.
حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض, عن أبي عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: ( ويل ) ، ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الويل جبل في النار » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث, عن دراج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره » .
قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل ( ويل ) - : فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله.
القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا
قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل, وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنـزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم, ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله - لطلب عرض من الدنيا خسيس, فقال الله لهم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب, ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله « ليشتروا به ثمنا قليلا » . قال: عرضا من عرض الدنيا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، يحرفونه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله, إلا أنه قال: ثم يحرفونه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن قتادة: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) الآية, وهم اليهود.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس, فقالوا: هذا من عند الله, وما هو من عند الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: عمدوا إلى ما أنـزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا, فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنـزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة, وزادوا فيها ما يحبون, ومحوا منها ما يكرهون, ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب, عن محمد بن عجلان, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء - القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟
قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد, فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: « كتب فلان إلى فلان بكذا » ، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب, إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: ( يكتبون الكتاب بأيديهم ) ، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: « باعني فلان عينُه كذا وكذا, فاشترى فلان نفسه كذا » ، يراد بإدخال « النفس والعين » في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره,
ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه، فكذلك قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ( 79 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم ) ، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم - لهم, يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره، من يهود بني إسرائيل محرفا, ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.
وقوله: ( مما كتبت أيديهم ) ، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك، وويل لهم أيضا ( مما يكسبون ) ، يعني: مما يعملون من الخطايا, ويجترحون من الآثام, ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم, بخلاف ما أنـزل الله, ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يعني: من الخطيئة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فويل لهم ) ، يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم.
قال أبو جعفر: وأصل « الكسب » : العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف, فهو كاسب لما عمل, كما قال لبيد بن ربيعة:
لمعفـــر قهــد تنــازع شــلوه غبس كواســب لا يُمَــنُّ طعامُهـا
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وقالوا ) ، اليهود, يقول: وقالت اليهود: ( لن تمسنا النار ) ، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها، « إلا أياما معدودة » . وإنما قيل « معدودة » وإن لم يكن مبينا عددها في التنـزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها « معدودة » لما وصفنا.
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك .
* فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال ذلك أعداء الله اليهود, قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة, حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا, نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا, فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم, عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر, وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله، أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة, قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، إلا أربعين ليلة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم « بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد » . فأنـزل الله جل ثناؤه: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، - وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كذبتم, بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا » .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد, عن أبي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: « أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنـزلها الله على موسى يوم طور سيناء, مَن أهل النار الذين أنـزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة, فنمكث في النار أربعين ليلة, ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا » . فنـزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبا لهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا ) إلى قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة, وإنها سبعة أيام. فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة, فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: ( لن تمسنا النار ) الآية.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا, وسائر الحديث مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله.
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 80 )
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: ( أتخذتم عند الله عهدا ) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: ( أتخذتم عند الله عهدا ) ، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لمحمد، قل : ( أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) ، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها, وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا, ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي, ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله عز وجل: ( قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ) - وقال في مكان آخر: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . [ آل عمران: 24 ] ، ثم أخبر الخبر فقال: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً .
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) . لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه, فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً
قال أبو جعفر: وقوله: ( بلى من كسب سيئة ) تكذيب من الله القائلين من اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله, وأهل الطاعة له, والقائمون بحدوده كما:-
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
قال أبو جعفر: وأما ( بلى ) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد, كما « نعم » إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها « بل » التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: « ما قام عمرو بل زيد » . فزيد فيها « الياء » ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت « بل » لا يصلح عليها الوقوف, إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون - أعني « بلى » - رجوعا عن الجحد فقط, وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت « الياء » منها على معنى الإقرار والإنعام. ودل لفظ « بل » عن الرجوع عن الجحد.
قال أبو جعفر: وأما « السيئة » التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك باللهكما:-
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان قال، حدثني عاصم, عن أبي وائل: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك بالله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بلى من كسب سيئة ) شركا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: أما السيئة فالشرك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بلى من كسب سيئة ) ، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك - قال ابن جريج قال، قال مجاهد: ( سيئة ) شركا.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، يعني: الشرك.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن « السيئة » - التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع, إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض, وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما, لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها, وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) - قوله - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات, غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات, فإن في إخبار الله أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا, ومدخلُنا المُدخلَ الكريم ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه, فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ؟
قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه, وأن المعنيَّ بالآية خاص دون عام, ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به, بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن, وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها, وهي خاص في ذلك الصنف باطنها.
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا منكر رجم الزاني المحصن, وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء.
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وأحاطت به خطيئته ) ، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.
وأصل « الإحاطة بالشيء » ، الإحداق به، بمنـزلة « الحائط » الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الكهف: 29 ] .
فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة, فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي روق, عن الضحاك: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بذنبه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا الأعمش, عن أبي رزين, عن الربيع بن خُثَيم: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات عليها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: يحيط كفره بما له من حسنة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: ما أوجب الله فيه النار.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [ قال، أخبرنا معمر ] , عن قتاده: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الخطيئة: الكبائر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم, عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن, فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي رزين: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بخطيئته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين, عن الربيع بن خثيم في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، مات بذنوبه.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وأحاطت به خطيئته ) ، الكبيرة الموجبة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أحاطت به خطيئته ) ، فمات ولم يتب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الشرك, ثم تلا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [ النمل: 90 ] .
====
القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 77 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، أولا يعلم - هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم, على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه, القائلون لهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ - أن الله عالم بما يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم من كفرهم، وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعلى قيلهم لهم: آمنا, ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم, وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون ) ، من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلى بعض, ( وما يعلنون ) إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليرضوهم بذلك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوبا عندهم، ( وما يعلنون ) ، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين: آمنا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ومنهم أميون ) ، ومن هؤلاء - اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات, وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فقال لهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ومنهم أميون ) ، يعني: من اليهود.
وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون ) ، قال: أناس من يهود.
قال أبو جعفر: يعني بـ « الأميين » ، الذين لا يكتبون ولا يقرءون.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » يقال منه: « رجل أمي بين الأمية » . كما:-
حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن منصور، عن إبراهيم: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب ) ، قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ومنهم أميون ) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود.
وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول, وهو ما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ومنهم أميون ) ، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم, ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم, وذلك أن « الأمي » عند العرب: هو الذي لا يكتب.
قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي « أمي » ؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى « أمه » , لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء, فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال - إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » ، وكما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ الجمعة: 2 ] . فإذا كان معنى « الأمي » في كلام العرب ما وصفنا, فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: ( ومنهم أميون ) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
القول في تأويل قوله تعالى : لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنـزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم, كالذي:-
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله, ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئا.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا يعلمون الكتاب ) لا يدرون ما فيه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب ) قال: لا يدرون بما فيه.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون شيئا, لا يقرءون التوراة. ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن يقرأ.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله, ( لا يعلمون الكتاب ) ، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنـزله الله.
قال أبو جعفر: وإنما عني بـ « الكتاب » : التوراة, ولذلك أدخلت فيه « الألف واللام » لأنه قصد به كتاب معروف بعينه.
ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ] ( إلا أماني ) فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( إلا أماني ) ، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إلا كذبا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون بما:-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح, [ عن معاوية بن صالح ] ، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، يقول: إلا أحاديث.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا, وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله, ويقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها.
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إلا أماني ) ، يتمنون على الله ما ليس لهم.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إلا أماني ) ، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.
قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: ( إلا أماني ) ، بالحق، وأشبهه بالصواب, الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن « الأميين » الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنـزله الله على موسى شيئا, ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا.
و « التمني » في هذا الموضع, هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه: « تمنيت كذا » ، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: « ما تغنيت ولا تمنيت » ، يعني بقوله: « ما تمنيت » ، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: ( إلا أماني ) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم « يتلونه » ، لم يكونوا ظانين, وكذلك لو كان معناه: « يشتهونه » . لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود - فيما بلغنا- شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك « المتمني » الذي هو في معنى « المشتهي » غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه.
وإنما قيل: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، والأماني من غير نوع « الكتاب » , كما قال ربنا جل ثناؤه: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ النساء: 157 ] و « الظن » من « العلم » بمعزل. وكما قال: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [ الليل: 19- 20 ] ، وكما قال الشاعر:
ليس بينــي وبيــن قيس عتــاب غــير طعــن الكُــلَى وضـرب الرقـاب
وكما قال نابغة بني ذبيان:
حــلفت يمينــا غـير ذي مَثْنَويـة, ولا علـم إلا حسـنَ ظـن بصـاحب
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب.
ويخرجُ بـ « إلا » ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته, وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض أهل العربية « استثناء منقطعا » ، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد « إلا » عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان « إلا » « لكن » ؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول, ألا ترى أنك إذا قلت: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ثم أردت وضع « لكن » مكان « إلا » وحذف « إلا » , وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه « إلا » ؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم يتمنون. وكذلك قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، لكن اتباع الظن, بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا.
وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: ( إلا أماني ) مخففة. ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم « المفتاح » « مفاتح » , و « القرقور » ، « قراقر » , وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من « الأماني » - كما جمعوا « الأثفية » « أثافي » مخففة, كما قال زهير بن أبي سلمى:
أثـافيَ سُـفْعا فـي مُعَـرَّسِ مِرْجَـل ونُؤْيـا كجِذم الحـوض لـم يَتَثَلَّـم
وأما من ثقل: ( أماني ) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم « المفتاح مفاتيح, والقرقور قراقير, والزنبور زنابير » ، فاجتمعت ياء « فعاليل » ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة.
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد ياء « الأماني » , لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، إجماعها على تخطئته.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 78 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإن هم إلا يظنون ) ، وما هم، كما قال جل ثناؤه: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [ إبراهيم: 11 ] ، يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم.
ومعنى قوله: ( إلا يظنون ) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. و « الظن » - في هذا الموضع- الشك.
فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل.
وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون, لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله, ولم تكن من كتاب الله, فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, ويتبعون ما هم فيه شاكون, وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله, ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال فيه المتأولون من السلف:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن هم إلا يظنون ) إلا يكذبون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ) ، أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه, وهم يجحدون نبوتك بالظن.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال: يظنون الظنون بغير الحق.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: يظنون الظنون بغير الحق.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فويل ) . فقال بعضهم بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس ( فويل ) ، يقول: فالعذاب عليهم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن زياد بن فياض, عن أبي عياض في قوله: ( فويل ) ، قال: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم.
حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض, عن أبي عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: ( ويل ) ، ما يسيل من صديد في أصل جهنم.
وقال آخرون بما:-
حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الويل جبل في النار » .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث, عن دراج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره » .
قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل ( ويل ) - : فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله.
القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا
قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل, وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنـزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم, ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله - لطلب عرض من الدنيا خسيس, فقال الله لهم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، كما:-
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب, ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله « ليشتروا به ثمنا قليلا » . قال: عرضا من عرض الدنيا.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، يحرفونه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله, إلا أنه قال: ثم يحرفونه.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن قتادة: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) الآية, وهم اليهود.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس, فقالوا: هذا من عند الله, وما هو من عند الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: عمدوا إلى ما أنـزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا, فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنـزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة, وزادوا فيها ما يحبون, ومحوا منها ما يكرهون, ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب, عن محمد بن عجلان, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره.
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء - القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟
قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد, فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: « كتب فلان إلى فلان بكذا » ، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب, إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: ( يكتبون الكتاب بأيديهم ) ، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: « باعني فلان عينُه كذا وكذا, فاشترى فلان نفسه كذا » ، يراد بإدخال « النفس والعين » في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره,
ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه، فكذلك قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ( 79 )
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم ) ، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم - لهم, يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره، من يهود بني إسرائيل محرفا, ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.
وقوله: ( مما كتبت أيديهم ) ، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك، وويل لهم أيضا ( مما يكسبون ) ، يعني: مما يعملون من الخطايا, ويجترحون من الآثام, ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم, بخلاف ما أنـزل الله, ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يعني: من الخطيئة.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فويل لهم ) ، يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم.
قال أبو جعفر: وأصل « الكسب » : العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف, فهو كاسب لما عمل, كما قال لبيد بن ربيعة:
لمعفـــر قهــد تنــازع شــلوه غبس كواســب لا يُمَــنُّ طعامُهـا
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وقالوا ) ، اليهود, يقول: وقالت اليهود: ( لن تمسنا النار ) ، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها، « إلا أياما معدودة » . وإنما قيل « معدودة » وإن لم يكن مبينا عددها في التنـزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها « معدودة » لما وصفنا.
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك .
* فقال بعضهم بما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال ذلك أعداء الله اليهود, قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة, حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا, نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا, فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم, عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر, وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله، أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة, قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، إلا أربعين ليلة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم « بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد » . فأنـزل الله جل ثناؤه: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، - وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كذبتم, بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا » .
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد, عن أبي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: « أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنـزلها الله على موسى يوم طور سيناء, مَن أهل النار الذين أنـزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة, فنمكث في النار أربعين ليلة, ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا » . فنـزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبا لهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا ) إلى قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
وقال آخرون في ذلك بما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة, وإنها سبعة أيام. فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة, فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: ( لن تمسنا النار ) الآية.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا, وسائر الحديث مثله.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله.
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 80 )
قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: ( أتخذتم عند الله عهدا ) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: ( أتخذتم عند الله عهدا ) ، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لمحمد، قل : ( أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) ، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها, وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا, ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي, ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله عز وجل: ( قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ) - وقال في مكان آخر: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . [ آل عمران: 24 ] ، ثم أخبر الخبر فقال: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً .
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) . لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه, فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً
قال أبو جعفر: وقوله: ( بلى من كسب سيئة ) تكذيب من الله القائلين من اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله, وأهل الطاعة له, والقائمون بحدوده كما:-
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
قال أبو جعفر: وأما ( بلى ) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد, كما « نعم » إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها « بل » التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: « ما قام عمرو بل زيد » . فزيد فيها « الياء » ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت « بل » لا يصلح عليها الوقوف, إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون - أعني « بلى » - رجوعا عن الجحد فقط, وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت « الياء » منها على معنى الإقرار والإنعام. ودل لفظ « بل » عن الرجوع عن الجحد.
قال أبو جعفر: وأما « السيئة » التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك باللهكما:-
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان قال، حدثني عاصم, عن أبي وائل: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك بالله.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بلى من كسب سيئة ) شركا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: أما السيئة فالشرك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بلى من كسب سيئة ) ، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك - قال ابن جريج قال، قال مجاهد: ( سيئة ) شركا.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، يعني: الشرك.
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن « السيئة » - التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع, إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض, وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما, لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها, وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) - قوله - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات, غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات, فإن في إخبار الله أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا, ومدخلُنا المُدخلَ الكريم ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.
فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه, فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ؟
قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه, وأن المعنيَّ بالآية خاص دون عام, ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به, بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن, وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها, وهي خاص في ذلك الصنف باطنها.
ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا منكر رجم الزاني المحصن, وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء.
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وأحاطت به خطيئته ) ، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.
وأصل « الإحاطة بالشيء » ، الإحداق به، بمنـزلة « الحائط » الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الكهف: 29 ] .
فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة, فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي روق, عن الضحاك: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بذنبه.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا الأعمش, عن أبي رزين, عن الربيع بن خُثَيم: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات عليها.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: يحيط كفره بما له من حسنة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: ما أوجب الله فيه النار.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.
حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [ قال، أخبرنا معمر ] , عن قتاده: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الخطيئة: الكبائر.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم, عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن, فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي رزين: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بخطيئته.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين, عن الربيع بن خثيم في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، مات بذنوبه.
حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وأحاطت به خطيئته ) ، الكبيرة الموجبة.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أحاطت به خطيئته ) ، فمات ولم يتب.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الشرك, ثم تلا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [ النمل: 90 ] .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
تابع تفسير سورة البقرة .. للطبرى
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 81 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون.
ويعني بقوله جل ثناؤه: ( أصحاب النار ) ، أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا, كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.
( هم فيها ) ، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: ( خالدون ) مقيمون كما:
حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( هم فيها خالدون ) ، أي خالدون أبدا.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( هم فيها خالدون ) لا يخرجون منها أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 82 )
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والذين آمنوا ) ، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: ( وعملوا الصالحات ) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده, وأدوا فرائضه, واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: ( فأولئك ) ، فالذين هم كذلك ( أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها ( خالدون ) ، مقيمون أبدا.
وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها, [ وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها ] ، ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها, تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة, وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة كما:-
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه, فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - « أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ
قال أبو جعفر: قد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن « الميثاق » « مفعال » من « التوثق باليمين » ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-
حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) - أي ميثاقكم- ( لا تعبدون إلا الله ) .
قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله ( لا تعبدون ) . فبعضهم يقرؤها بالتاء, وبعضهم يقرؤها بالياء, والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال ( لا تعبدون ) و ( لا يعبدون ) وهم غَيَب، لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول: « استحلفت أخاك ليقومن » فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول: « استحلفته لتقومن » , فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا. فكذلك قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) و ( لا يعبدون ) . من قرأ ذلك « بالتاء » فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ « بالياء » فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
وأما رفع « لا تعبدون » ، فبالتاء التي في « تعبدون » , ولا ينصب بـ « أن » التي كانت تصلح أن تدخل مع ( لا تعبدون إلا الله ) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [ الزمر: 64 ] ، فرفع « أعبد » إذ لم تدخل فيها « أن » - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر:
ألا أيهـذا الزاجـري أحـضرُ الـوغى وأن أشـهد اللـذات هـل أنـت مخـلدي
فرفع « أحضر » وإن كان يصلح دخول « أن » فيها - إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف « أن » من قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون ) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها, فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، حكاية, كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون, أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: ( وبالوالدين إحسانا ) عطف على موضع « أن » المحذوفة في لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ . فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع لا تَعْبُدُونَ لما حذف « أن » , ثم عطف بالوالدين على موضعها, كما قال الشاعر:
معــاوي إننــا بشــر فأســجح فلســــنا بالجبــــال ولا الحــــديدا
فنصب « الحديد » على العطف به على موضع « الجبال » ، لأنها لو لم تكن فيها « باء » خافضة كانت نصبا, فعطف بـ « الحديد » على معنى « الجبال » ، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: ( وبالوالدين إحسانا ) .
وأما « الإحسان » فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: ( وبالوالدين ) ، إذ كان مفهوما معناه, فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف - : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله, وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: ( وبالوالدين ) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا, إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل « الباء » التي في « الوالدين » من صلة الإحسان، مقدمة عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله, وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن « الباء » التي في « الوالدين » من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال: « أحسن فلان إلى والديه » ولا يقال: أحسن بوالديه, إلا على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا, وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره.
فإن قال قاتل: وما ذلك « الإحسان » الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل, وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما, والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما, وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى : وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وذي القربي ) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
و « القربي » مصدر على تقدير « فعلى » ، من قولك، « قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا » ، بمعنى واحد.
وأما « اليتامى » . فهم جمع « يتيم » , مثل « أسير وأسارى » . ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.
ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه, وتعرفوا حقه, وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة, وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.
و « المسكين » ، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة, وهو « مفعيل » من « المسكنة » . و « المسكنة » هي ذل الحاجة والفاقة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: ( وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر, بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك- : وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله, كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ البقرة: 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، عطف بقوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع لا تَعْبُدُونَ ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه, لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع لا تَعْبُدُونَ . فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله, وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه, ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، كما قال الشاعر:
أســيئي بنـا أو أحسـني لا ملومـة لدينـــا ولا مَقْلِيَّـــةً إن تَقَلَّــت
يعني: تقليت.
وأما « الحسن » فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: ( وقولوا للناس حَسَنا ) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: ( حُسْنا ) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: « وقولوا للناس حُسْنَى » على مثال « فُعلى » .
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: « حُسْنا » و « حَسَنا » . فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ « الحَسَن » « الحُسن » وكلاهما لغة، كما يقال: « البُخل و البَخَل » ، وإما أن يكون جعل « الحُسن » هو « الحَسن » في التشبيه. وذلك أن الحُسن « مصدر » و « الحَسن » هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك: « إنما أنت أكل وشرب » ، وكما قال الشاعر:
وخــيل قــد دلفــت لهـا بخـيل تحيـــة بينهـــم ضـــرب وجــيع
فجعل « التحية » ضربا.
وقال آخر: بل « الحُسن » هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و « الحسن » هو البعض من معاني « الحُسن » . قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ العنكبوت: 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن, وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: ( وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحُسن.
قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى « الحسن » بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب, وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما « الحسن » فإنه صفة وقعت لما وصف به, وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك, فالصواب من القراءة في قوله: ( وقولوا للناس حَسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم: « وقولوا للناس » باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين, على قراءته بضم الحاء وسكون السين.
وأما الذي قرأ ذلك: ( وقولوا للناس حسنى ) ، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ « فعلى » « وأفعل » إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال: « جاءني أحسن » ، حتى يقولوا: « الأحسن » . ولا يقال: « أجمل » ، حتى يقولوا، « الأجمل » . وذلك أن « الأفعل والفعلى » ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف, كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى . وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى, ورجل أحسن.
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية، أن يقولوه للناس, فهو ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ « لا إله إلا الله » من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها, فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم, وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال، قولوا للناس معروفا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: مروهم بالمعروف, وانهوهم عن المنكر.
حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح, عن قول الله جل ثناؤه: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر, فقال مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك, عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: للناس كلهم.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وأقيموا الصلاة ) ، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن مسعود قال: ( وأقيموا الصلاة ) ، هذه و « إقامة الصلاة » تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَآتُوا الزَّكَاةَ
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى « الزكاة » وما أصلها.
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية, فهي ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة, وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها, فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم, أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، يعني « بالزكاة » : طاعة الله والإخلاص.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ( 83 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه, بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره, وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات, ويصلوا الأرحام, ويتعطفوا على الأيتام, ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم, ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته, ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها, ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله, وتولوا عنه معرضين, إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به, أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية, وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم, وهم الذين استثنى الله فقال: ( ثم توليتم ) ، يقول: أعرضتم عن طاعتي، ( إلا قليلا منكم ) ، قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي, وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، أي تركتم ذلك كله.
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: ( وأنتم معرضون ) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم ) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم, ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم - على ما ذكرناه فيما مضى قبل- ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
وقال آخرون: بل قوله: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل, وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
قال أبو جعفر: قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) في المعنى والإعراب نظير قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ .
وأما « سفك الدم » , فإنه صبه وإراقته.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها, فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت, ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه, إذ كانت ملتهما [ واحدة، فهما ] بمنـزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام:
« إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنـزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » .
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم, فيقاد به قصاصا, فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة: « أنت جنيت هذا على نفسك » .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل بعضكم بعضا, ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة في قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ثم أقررتم ) ، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ثم أقررتم ) ، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
====
القول في تأويل قوله تعالى : فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 81 )
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون.
ويعني بقوله جل ثناؤه: ( أصحاب النار ) ، أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا, كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.
( هم فيها ) ، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: ( خالدون ) مقيمون كما:
حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( هم فيها خالدون ) ، أي خالدون أبدا.
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( هم فيها خالدون ) لا يخرجون منها أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 82 )
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والذين آمنوا ) ، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: ( وعملوا الصالحات ) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده, وأدوا فرائضه, واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: ( فأولئك ) ، فالذين هم كذلك ( أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها ( خالدون ) ، مقيمون أبدا.
وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها, [ وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها ] ، ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها, تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة, وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة كما:-
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه, فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - « أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ
قال أبو جعفر: قد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن « الميثاق » « مفعال » من « التوثق باليمين » ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-
حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) - أي ميثاقكم- ( لا تعبدون إلا الله ) .
قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله ( لا تعبدون ) . فبعضهم يقرؤها بالتاء, وبعضهم يقرؤها بالياء, والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال ( لا تعبدون ) و ( لا يعبدون ) وهم غَيَب، لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول: « استحلفت أخاك ليقومن » فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول: « استحلفته لتقومن » , فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا. فكذلك قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) و ( لا يعبدون ) . من قرأ ذلك « بالتاء » فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ « بالياء » فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
وأما رفع « لا تعبدون » ، فبالتاء التي في « تعبدون » , ولا ينصب بـ « أن » التي كانت تصلح أن تدخل مع ( لا تعبدون إلا الله ) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [ الزمر: 64 ] ، فرفع « أعبد » إذ لم تدخل فيها « أن » - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر:
ألا أيهـذا الزاجـري أحـضرُ الـوغى وأن أشـهد اللـذات هـل أنـت مخـلدي
فرفع « أحضر » وإن كان يصلح دخول « أن » فيها - إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف « أن » من قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون ) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها, فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، حكاية, كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون, أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: ( وبالوالدين إحسانا ) عطف على موضع « أن » المحذوفة في لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ . فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع لا تَعْبُدُونَ لما حذف « أن » , ثم عطف بالوالدين على موضعها, كما قال الشاعر:
معــاوي إننــا بشــر فأســجح فلســــنا بالجبــــال ولا الحــــديدا
فنصب « الحديد » على العطف به على موضع « الجبال » ، لأنها لو لم تكن فيها « باء » خافضة كانت نصبا, فعطف بـ « الحديد » على معنى « الجبال » ، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: ( وبالوالدين إحسانا ) .
وأما « الإحسان » فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: ( وبالوالدين ) ، إذ كان مفهوما معناه, فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف - : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله, وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: ( وبالوالدين ) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا, إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل « الباء » التي في « الوالدين » من صلة الإحسان، مقدمة عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله, وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن « الباء » التي في « الوالدين » من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال: « أحسن فلان إلى والديه » ولا يقال: أحسن بوالديه, إلا على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا, وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره.
فإن قال قاتل: وما ذلك « الإحسان » الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل, وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما, والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما, وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى : وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وذي القربي ) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
و « القربي » مصدر على تقدير « فعلى » ، من قولك، « قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا » ، بمعنى واحد.
وأما « اليتامى » . فهم جمع « يتيم » , مثل « أسير وأسارى » . ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.
ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه, وتعرفوا حقه, وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة, وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.
و « المسكين » ، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة, وهو « مفعيل » من « المسكنة » . و « المسكنة » هي ذل الحاجة والفاقة.
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: ( وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر, بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك- : وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله, كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ البقرة: 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، عطف بقوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع لا تَعْبُدُونَ ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه, لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع لا تَعْبُدُونَ . فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله, وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه, ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، كما قال الشاعر:
أســيئي بنـا أو أحسـني لا ملومـة لدينـــا ولا مَقْلِيَّـــةً إن تَقَلَّــت
يعني: تقليت.
وأما « الحسن » فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: ( وقولوا للناس حَسَنا ) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: ( حُسْنا ) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: « وقولوا للناس حُسْنَى » على مثال « فُعلى » .
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: « حُسْنا » و « حَسَنا » . فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ « الحَسَن » « الحُسن » وكلاهما لغة، كما يقال: « البُخل و البَخَل » ، وإما أن يكون جعل « الحُسن » هو « الحَسن » في التشبيه. وذلك أن الحُسن « مصدر » و « الحَسن » هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك: « إنما أنت أكل وشرب » ، وكما قال الشاعر:
وخــيل قــد دلفــت لهـا بخـيل تحيـــة بينهـــم ضـــرب وجــيع
فجعل « التحية » ضربا.
وقال آخر: بل « الحُسن » هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و « الحسن » هو البعض من معاني « الحُسن » . قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ العنكبوت: 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن, وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: ( وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحُسن.
قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى « الحسن » بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب, وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما « الحسن » فإنه صفة وقعت لما وصف به, وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك, فالصواب من القراءة في قوله: ( وقولوا للناس حَسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم: « وقولوا للناس » باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين, على قراءته بضم الحاء وسكون السين.
وأما الذي قرأ ذلك: ( وقولوا للناس حسنى ) ، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ « فعلى » « وأفعل » إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال: « جاءني أحسن » ، حتى يقولوا: « الأحسن » . ولا يقال: « أجمل » ، حتى يقولوا، « الأجمل » . وذلك أن « الأفعل والفعلى » ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف, كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى . وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى, ورجل أحسن.
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية، أن يقولوه للناس, فهو ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ « لا إله إلا الله » من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها, فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم, وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال، قولوا للناس معروفا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.
وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: مروهم بالمعروف, وانهوهم عن المنكر.
حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح, عن قول الله جل ثناؤه: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر, فقال مثل ذلك.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك, عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: للناس كلهم.
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وأقيموا الصلاة ) ، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن مسعود قال: ( وأقيموا الصلاة ) ، هذه و « إقامة الصلاة » تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : وَآتُوا الزَّكَاةَ
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى « الزكاة » وما أصلها.
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية, فهي ما:-
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة, وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها, فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم, أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، يعني « بالزكاة » : طاعة الله والإخلاص.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ( 83 )
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه, بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره, وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات, ويصلوا الأرحام, ويتعطفوا على الأيتام, ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم, ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته, ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها, ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله, وتولوا عنه معرضين, إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به, أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية, وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم, وهم الذين استثنى الله فقال: ( ثم توليتم ) ، يقول: أعرضتم عن طاعتي، ( إلا قليلا منكم ) ، قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي, وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، أي تركتم ذلك كله.
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: ( وأنتم معرضون ) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم ) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم, ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم - على ما ذكرناه فيما مضى قبل- ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
وقال آخرون: بل قوله: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل, وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
قال أبو جعفر: قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) في المعنى والإعراب نظير قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ .
وأما « سفك الدم » , فإنه صبه وإراقته.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها, فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت, ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه, إذ كانت ملتهما [ واحدة، فهما ] بمنـزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام:
« إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنـزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » .
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم, فيقاد به قصاصا, فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة: « أنت جنيت هذا على نفسك » .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل بعضكم بعضا, ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة في قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ثم أقررتم ) ، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ثم أقررتم ) ، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola
» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله
» قصة سيدنا عزير
الإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة
» ** قصة أبيار على **
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة
» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله
» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة
» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله
» إعجاز بناء الكعبة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز
» صفات اليهود فى القرآن الكريم
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله