بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
هدى من الله | ||||
لولو حسن | ||||
روز | ||||
هنا سيد | ||||
توتى بدر | ||||
fola | ||||
روضة البدر | ||||
ام دهب و مصطفى | ||||
امة الرحمن | ||||
لولا |
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
صفحة 17 من اصل 20
صفحة 17 من اصل 20 • 1 ... 10 ... 16, 17, 18, 19, 20
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة ق
=========
الآيات: 12 - 15 ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد، أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد )
قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. « كل كذب الرسل » من هذه الأمم المكذبة. « فحق وعيد » أي فحق عليهم وعيدي وعقابي.
قوله تعالى: « أفعيينا بالخلق الأول » أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: « ذلك رجع بعيد » [ ق: 3 ] . يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. « بل هم في لبس من خلق جديد » أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب؛ يقال: لبس عليه الأمر يلبسه لبسا.
الآيات: 16 - 19 ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )
قوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان » يعني الناس، وقيل آدم. « ونعلم ما توسوس به نفسه » أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
وقد مضى في « الأعراف » . « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء.
قوله تعالى: « إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد » أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: « المتلقيان » ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: « عن اليمين وعن الشمال قعيد » . وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما ) . وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: « قعيد » ولم يقل قعيدان وهما أثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه؛ ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و « قعيد » بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: « قعيد » بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم.
وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: « إنا رسول رب العالمين » [ الشعراء: 16 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] . وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم.
قوله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قال السدي. الثالث أنه الشاهد، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: « وأعتدت لهن متكأ » [ يوسف: 31 ] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري.
قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) . وقال علي رضي الله عنه: ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » غريب، من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن، إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ) .
قوله تعالى: « وجاءت سكرة الموت بالحق » أي غمرته شدته؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: « وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد » وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات ) ثم نصب يده فجعل يقول: ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة ) . وقال عيسى ابن مريم: « يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة » يعني سكرات الموت. وروي: ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) . « ذلك ما كنت منه تحيد » أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه؛ قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
الآيات: 20 - 22 ( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )
قوله تعالى: « ونفخ في الصور » هي النفخة الآخرة للبعث « ذلك يوم الوعيد » الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.
قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أودخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن طبقا عن طبق قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك.
قوله تعالى: « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك » قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. « فكشفنا عنك غطاءك » أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. « فبصرك اليوم حديد » قيل: يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: « فبصرك اليوم حديد » يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ « لقد كنت » « عنك » « فبصرك » بالكسر على خطاب النفس.
الآيات: 23 - 26 ( وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد )
قوله تعالى: « وقال قرينه » يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. « هذا ما لدي عتيد » أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. « ألقيا في جهنم » قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه: « ألقيا في جهنم » قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال آخر:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله « ألقيا » يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب « ألقيا » مناب التكرار. ويجوز أن يكون « ألقيا » تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن « ألقين » بالنون الخفيفة نحو قوله: « وليكونا من الصاغرين » [ يوسف: 32 ] وقوله: « لنسفعا » [ العلق: 15 ] . « كل كفار عنيد » أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. « مناع للخير » يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. « معتد » في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم. « مريب » شاك في التوحيد؛ قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: « الذي جعل مع الله إلها آخر » وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: « مناع للخير » أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. « فألقياه في العذاب الشديد » تأكيد للأمر الأول.
الآيات: 27 - 29 ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )
قوله تعالى: « قال قرينه ربنا ما أطغيته » يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. « ولكن كان في ضلال بعيد » عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى: « قال لا تختصموا لدي » يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. « وقد قدمت إليكم بالوعيد » أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. « ما يبدل القول لدي » قيل هو قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » [ الأنعام: 160 ] وقيل هو قوله: « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » [ السجدة: 13 ] . وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. « وما أنا بظلام للعبيد » أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في « الحج » وغيرها.
=========
الآيات: 12 - 15 ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد، أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد )
قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. « كل كذب الرسل » من هذه الأمم المكذبة. « فحق وعيد » أي فحق عليهم وعيدي وعقابي.
قوله تعالى: « أفعيينا بالخلق الأول » أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: « ذلك رجع بعيد » [ ق: 3 ] . يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. « بل هم في لبس من خلق جديد » أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب؛ يقال: لبس عليه الأمر يلبسه لبسا.
الآيات: 16 - 19 ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )
قوله تعالى: « ولقد خلقنا الإنسان » يعني الناس، وقيل آدم. « ونعلم ما توسوس به نفسه » أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالإنسان آدم؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل
وقد مضى في « الأعراف » . « ونحن أقرب إليه من حبل الوريد » هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء.
قوله تعالى: « إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد » أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: « المتلقيان » ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: « عن اليمين وعن الشمال قعيد » . وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر ) . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما ) . وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: « قعيد » ولم يقل قعيدان وهما أثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه؛ ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور
ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و « قعيد » بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: « قعيد » بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم.
وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع؛ كقوله تعالى: « إنا رسول رب العالمين » [ الشعراء: 16 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] . وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي:
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم.
قوله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للأمور. الثاني أنه الحافظ، قال السدي. الثالث أنه الشاهد، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: « وأعتدت لهن متكأ » [ يوسف: 31 ] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري.
قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر:
لئن كنت مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد
قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) . وقال علي رضي الله عنه: ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال: سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » غريب، من حديث الأعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن، إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ) .
قوله تعالى: « وجاءت سكرة الموت بالحق » أي غمرته شدته؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: « وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد » وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات ) ثم نصب يده فجعل يقول: ( في الرفيق الأعلى ) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة ) . وقال عيسى ابن مريم: « يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة » يعني سكرات الموت. وروي: ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) . « ذلك ما كنت منه تحيد » أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن نفسك: حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه؛ قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
الآيات: 20 - 22 ( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )
قوله تعالى: « ونفخ في الصور » هي النفخة الآخرة للبعث « ذلك يوم الوعيد » الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.
قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أودخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن طبقا عن طبق قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك.
قوله تعالى: « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك » قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. « فكشفنا عنك غطاءك » أي عماك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. « فبصرك اليوم حديد » قيل: يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: « فبصرك اليوم حديد » يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ « لقد كنت » « عنك » « فبصرك » بالكسر على خطاب النفس.
الآيات: 23 - 26 ( وقال قرينه هذا ما لدي عتيد، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد، مناع للخير معتد مريب، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد )
قوله تعالى: « وقال قرينه » يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. « هذا ما لدي عتيد » أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. « ألقيا في جهنم » قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه قرينه من الإنس، فيقول الله تعالى لقرينه: « ألقيا في جهنم » قال الخليل والأخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال أيضا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال آخر:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقيل: جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله « ألقيا » يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب « ألقيا » مناب التكرار. ويجوز أن يكون « ألقيا » تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن « ألقين » بالنون الخفيفة نحو قوله: « وليكونا من الصاغرين » [ يوسف: 32 ] وقوله: « لنسفعا » [ العلق: 15 ] . « كل كفار عنيد » أي معاند؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. « مناع للخير » يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. « معتد » في منطقه وسيرته وأمره؛ ظالم. « مريب » شاك في التوحيد؛ قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: « الذي جعل مع الله إلها آخر » وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: « مناع للخير » أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. « فألقياه في العذاب الشديد » تأكيد للأمر الأول.
الآيات: 27 - 29 ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد )
قوله تعالى: « قال قرينه ربنا ما أطغيته » يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. « ولكن كان في ضلال بعيد » عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة؛ فحينئذ يقول الله تعالى: « قال لا تختصموا لدي » يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. « وقد قدمت إليكم بالوعيد » أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. « ما يبدل القول لدي » قيل هو قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها » [ الأنعام: 160 ] وقيل هو قوله: « لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين » [ السجدة: 13 ] . وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. « وما أنا بظلام للعبيد » أي ما أنا بمعذب من لم يجرم؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في « الحج » وغيرها.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة ق
=======
الآيات: 30 - 35 ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد )
قوله تعالى: « يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » قرأ نافع وأبو بكر « يوم يقول » بالياء أعتبارا بقوله: « لا تختصموا لدي » . الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن « يوم أقول » . وعن ابن مسعود وغيره « يوم يقال » . وأنتصب « يوم » علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم « يوم نقول لجهنم هل أمتلات » لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. « وتقول » جهنم « هل من مزيد » أي ما بقي في موضع للزيادة؛ كقوله عليه السلام: ( هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل ) أي ما ترك؛ بمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني
وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة « الفرقان » وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: ( وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ) . علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال:رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، فال الشاعر:
فمر بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل
قبائل من لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل
وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: ( ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: ( حتى يضع الجبار فيها قدمه ) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.
قوله تعالى: « وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد » أي قربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. « غير بعيد » أي منهم وهذا تأكيد. « هذا ما توعدون » أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة « توعدون » بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. « لكل أواب حفيظ » أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: ( من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس ) . وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.
قلت: هذا استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. « حفيظ » قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا ) ذكره الماوردي.
قوله تعالى: « من خشي الرحمن بالغيب » « من » في محل خفض على البدل من قوله: « لكل أواب حفيظ » أو في موضع الصفة لـ « أواب » . ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر « ادخلوها » على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: « ادخلوها » . والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. « وجاء بقلب منيب » مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: « إلا من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء: 89 ] على ما تقدم؛ والله أعلم. « ادخلوها » أي يقال لأهل هذه الصفات: « ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود » أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: « أدخلوها » وفي أول الكلام « من خشي » ؛ لأن « من » تكون بمعنى الجمع.
قوله تعالى: « لهم ما يشاؤون فيها » يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. « ولدينا مزيد » من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد ( فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك ) . فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: « ولدينا مزيد » .
قلت: قوله ( في كثيب ) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور ) الحديث وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » . وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.
الآيات: 36 - 38 ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب )
قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. « فنقبوا في البلاد » أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل: أثروا في البلاد؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرخ تباعدوا؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا؟. وقيل: طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ الحسن وأبو العالية « فنقبوا » بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة؛ عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السلمي يحيى بن يعمر « فنقبوا » بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا « هل من » الموت « محيص » ومهرب؛ ذكره الثعلبي. وحكى القشيري « فنقبوا » بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم. الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل، إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا؛ أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله؛ يقال للأولياء: حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. « إن في ذلك لذكرى » أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة « لمن كان له قلب » أي عقل يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما قال امرؤ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وفي التنزيل: « لينذر من كان حيا » [ يس: 70 ] . وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. « أو ألقى السمع » أي استمع القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي استمع. وقد مضى في « طه » كيفية الاستماع وثمرته. « وهو شهيد » أي شاهد القلب؛ قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لأهل الكتاب؛ قال مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.
قوله تعالى: « ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » تقدم في « الأعراف » وغيرها. واللغوب التعب والإعياء، تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.
=======
الآيات: 30 - 35 ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد، وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد )
قوله تعالى: « يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » قرأ نافع وأبو بكر « يوم يقول » بالياء أعتبارا بقوله: « لا تختصموا لدي » . الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن « يوم أقول » . وعن ابن مسعود وغيره « يوم يقال » . وأنتصب « يوم » علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم « يوم نقول لجهنم هل أمتلات » لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لأعدائه، والتنبيه لجميع عباده. « وتقول » جهنم « هل من مزيد » أي ما بقي في موضع للزيادة؛ كقوله عليه السلام: ( هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل ) أي ما ترك؛ بمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة؛ أي هل من مزيد فأزداد؟. وإنما صلح هذا للوجهين؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق، المثل؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك؛ كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قَطني مهلا رويدا قد ملأتَ بطني
وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة « الفرقان » وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: ( وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ) . علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؛ يقال:رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، فال الشاعر:
فمر بنا رجل من الناس وانزوى إليهم من الحي اليماني أرجل
قبائل من لخم وعكل وحمير على ابني نزار بالعداوة أحفل
وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: ( ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: ( حتى يضع الجبار فيها قدمه ) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.
قوله تعالى: « وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد » أي قربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. « غير بعيد » أي منهم وهذا تأكيد. « هذا ما توعدون » أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة « توعدون » بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. « لكل أواب حفيظ » أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب المسبح من قوله: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: ( من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس ) . وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته.
قلت: هذا استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. « حفيظ » قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لأمر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا ) ذكره الماوردي.
قوله تعالى: « من خشي الرحمن بالغيب » « من » في محل خفض على البدل من قوله: « لكل أواب حفيظ » أو في موضع الصفة لـ « أواب » . ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر « ادخلوها » على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: « ادخلوها » . والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. « وجاء بقلب منيب » مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم؛ كما قال تعالى: « إلا من أتى الله بقلب سليم » [ الشعراء: 89 ] على ما تقدم؛ والله أعلم. « ادخلوها » أي يقال لأهل هذه الصفات: « ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود » أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: « أدخلوها » وفي أول الكلام « من خشي » ؛ لأن « من » تكون بمعنى الجمع.
قوله تعالى: « لهم ما يشاؤون فيها » يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. « ولدينا مزيد » من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد ( فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك ) . فال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: « ولدينا مزيد » .
قلت: قوله ( في كثيب ) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب؛ كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور ) الحديث وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » . وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.
الآيات: 36 - 38 ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب )
قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. « فنقبوا في البلاد » أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل: أثروا في البلاد؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرخ تباعدوا؛ ومنه قول امرئ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا؟. وقيل: طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ الحسن وأبو العالية « فنقبوا » بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة؛ عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السلمي يحيى بن يعمر « فنقبوا » بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا « هل من » الموت « محيص » ومهرب؛ ذكره الثعلبي. وحكى القشيري « فنقبوا » بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم. الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل، إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا؛ أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله؛ يقال للأولياء: حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. « إن في ذلك لذكرى » أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة « لمن كان له قلب » أي عقل يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما قال امرؤ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وفي التنزيل: « لينذر من كان حيا » [ يس: 70 ] . وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. « أو ألقى السمع » أي استمع القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي استمع. وقد مضى في « طه » كيفية الاستماع وثمرته. « وهو شهيد » أي شاهد القلب؛ قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لأهل الكتاب؛ قال مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.
قوله تعالى: « ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب » تقدم في « الأعراف » وغيرها. واللغوب التعب والإعياء، تقول منه: لغب يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة ق
=========
الآيات: 39 - 40 ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود )
قوله تعالى: « فاصبر على ما يقولون » خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم السبت. « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » قيل: إنه أراد به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا؛ قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس: « قبل الغروب » الظهر والعصر. « ومن الليل فسبحه » يعني صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؛ قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله: « قبل طلوع الشمس » قال ركعتي الفجر « وقبل الغروب » الركعتين قبل المغرب؛ وقال ثمامة ابن عبدالله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي.
قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وأدبار السجود » فيه أربعة أقوال: الأول: هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. « وأدبار السجود » قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: ( يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) . وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين « . قال أنس فقرأ في الركعة الأولى » قل يا أيها الكافرون « [ الكافرون: 1 ] وفي الثانية » قل هو الله أحد « [ الإخلاص: 1 ] قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) وقيل: إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة.»
قرأ نافع وابن كثير وحمزة « وإدبار السجود » بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر « والطور » . « وإدبار النجوم » [ الطور: 49 ] أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل.
الآيات: 41 - 45 ( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير، يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير، نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )
قوله تعالى: « واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب » مفعول الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل: واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور. « يوم يسمعون الصيحة بالحق » يعني صيحة البعث. ومعنى « الخروج » الاجتماع إلى الحساب. « ذلك يوم الخروج » أي يوم الخروج من القبور. « إنا نحن نحيي ونميت » نميت الأحياء ونحيي الموتى؛ أثبت هنا الحقيقة « يوم تتشقق الأرض عنهم سراعا » إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. « ذلك حشر علينا يسير » أي هين سهل. وقرأ الكوفيون « تشقق » بتخفيف الشين على حذف التاء الأولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء « المنادي » في الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين.
قلت: وقد زادت السنة هذه الآية بيانا؛ فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال: ( من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية أخرى ( فخذه وكفه ) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل: ( أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية ) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في « التذكرة » مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: « نحن أعلم بما يقولون » أي من تكذيبك وشتمك. « وما أنت عليهم بجبار » أي بمسلط تجبرهم على الإسلام؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج؛ حكاه القشيري. النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى، الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ « وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ « أما السفينة فكانت لمساكين » [ الكهف: 79 ] يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجي: تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: « بجبار » بمسيطر كما في الغاشية « لست عليهم بمصيطر » [ الغاشية: 21 ] . وقال الفراء: سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل: الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري: وأجبرته على الأمر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر. « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب؛ فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في « وعيدي » يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة « ق » والحمد لله.
=========
الآيات: 39 - 40 ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود )
قوله تعالى: « فاصبر على ما يقولون » خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون؛ أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم السبت. « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » قيل: إنه أراد به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا؛ قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ طه: 130 ] متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس: « قبل الغروب » الظهر والعصر. « ومن الليل فسبحه » يعني صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب؛ قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله: « قبل طلوع الشمس » قال ركعتي الفجر « وقبل الغروب » الركعتين قبل المغرب؛ وقال ثمامة ابن عبدالله بن أنس: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي.
قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وأدبار السجود » فيه أربعة أقوال: الأول: هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح ( من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) . وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. « وأدبار السجود » قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: ( يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود ) . وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين « . قال أنس فقرأ في الركعة الأولى » قل يا أيها الكافرون « [ الكافرون: 1 ] وفي الثانية » قل هو الله أحد « [ الإخلاص: 1 ] قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) وقيل: إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة.»
قرأ نافع وابن كثير وحمزة « وإدبار السجود » بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر « والطور » . « وإدبار النجوم » [ الطور: 49 ] أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل.
الآيات: 41 - 45 ( واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير، يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير، نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )
قوله تعالى: « واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب » مفعول الاستماع محذوف؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل: واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الأول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور. « يوم يسمعون الصيحة بالحق » يعني صيحة البعث. ومعنى « الخروج » الاجتماع إلى الحساب. « ذلك يوم الخروج » أي يوم الخروج من القبور. « إنا نحن نحيي ونميت » نميت الأحياء ونحيي الموتى؛ أثبت هنا الحقيقة « يوم تتشقق الأرض عنهم سراعا » إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. « ذلك حشر علينا يسير » أي هين سهل. وقرأ الكوفيون « تشقق » بتخفيف الشين على حذف التاء الأولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء « المنادي » في الحالين على الأصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين.
قلت: وقد زادت السنة هذه الآية بيانا؛ فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال: ( من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية أخرى ( فخذه وكفه ) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره: ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل: ( أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية ) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في « التذكرة » مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: « نحن أعلم بما يقولون » أي من تكذيبك وشتمك. « وما أنت عليهم بجبار » أي بمسلط تجبرهم على الإسلام؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج؛ حكاه القشيري. النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى، الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ « وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ « أما السفينة فكانت لمساكين » [ الكهف: 79 ] يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجي: تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: « بجبار » بمسيطر كما في الغاشية « لست عليهم بمصيطر » [ الغاشية: 21 ] . وقال الفراء: سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل: الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري: وأجبرته على الأمر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر. « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: « فذكر بالقرآن من يخاف وعيد » أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب؛ فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في « وعيدي » يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة « ق » والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الذاريات للقرطبى
=========
الآيات: 1 - 6 ( والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، إنما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع )
قوله تعالى: « والذاريات ذروا » قال أبوبكر الأنباري: حدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبدالرحمن، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه؛ فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » قال: يلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا « والذاريات ذروا » الرياح « فالحاملات وقرا » السحاب « فالجاريات يسرا » السفن « فالمقسمات أمرا » الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه « والذاريات ذروا » قال: الرياح « فالحاملات وقرا » قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر « فالجاريات يسرا » قال: السفن موقرة « فالمقسمات أمرا » قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف؛ جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: « والذاريات » وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا. وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب « إنما توعدون » أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب « لصادق » لا كذب فيه؛ ومعنى « لصادق » لصدق؛ وقع الاسم موقع المصدر. « وإن الدين لواقع » يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدأ قسما آخر فقال: « والسماء ذات الحبك. إنكم لفي قول مختلف » [ الذاريات: 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات لأن في ذرايتهن ذرو الخلق؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات؛ وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخصى النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. « فالحاملات وقرا » السحاب. وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها؛ يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لأن الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء؛ فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:
عصب كوارع في خليج محلم حملت فمنها موقر مكموم
والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن، وقد وقررت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في « الأنعام » القول فيه. « فالجاريات يسرا » السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل: السحاب؛ وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني: هو سهولة تسييرها؛ وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مشي السحابة لا ريث ولا عجل
الآيات: 7 - 14 ( والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون، يسألون أيان يوم الدين، يوم هم على النار يفتنون، ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون )
قوله تعالى: « والسماء ذات الحبك » قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض. وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة؛ ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي « الحبك » أقوال سبعة: الأول: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقال عكرمة؛ قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه؛ يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد أحتبكته. والثاني: ذات الزينة؛ قال الحسن وسعيد بن جبير، وعن، الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع: قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء؛ قال: الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسِجه ريح خريق لضاحي مائه حبك
ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس - ذات الشدة، قال ابن زيد، وقرأ « وبنينا فوقكم سبعا شدادا » [ النبأ:12 ] . والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه لا حق الإطلين محبوك ممر
وقال آخر:
مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكَتَد
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة؛ أي تشد الإزار وتحكمه. السادس: ذات الصفاقة؛ قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء؛ سميت بذلك لأنها كأثر المجر. و « الحبك » جمع حباك، قال الراجز:
كأنما جللها الحُوَّاك طنفسة في وشيها حِباك
والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: « ذات الحبك » « الحبك » و « الحبك » و « الحبك » والحبك والحبك وقرأ أيضا « الحبك » كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز « الحبك » . و « الحبك » واحدتها حبيكة؛ « والحبك » مخفف منه. و « الحبك » واحدتها حبكة. ومن قرأ « الحبك » فالواحدة حبكة كبرقة وبرق أوحبكة كظلمة وظلم. ومن قرأ « الحبك » فهو كإبل وإطل و « الحبك » مخففة منه. ومن قرأ « الحبك » فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور « الحبك » فضم الباء. وقال جميعه المهدوي.
قوله تعالى: « إنكم لفي قول مختلف » هذا جواب القسم الذي هو « والسماء » أي إنكم يا أهل مكة « في قول مختلف » في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: أختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل أفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين. وقيل: أختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. « يؤفك عنه من أفك » أي يصرف عن الإيمان بمحمد والقرآن من صرف؛ عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يصرف عن الإيمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين. وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه أفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء؛ ومنه قوله تعالى: « أجئتنا لتأفكنا » [ الأحقاف: 22 ] . وقال مجاهد: معنى « يؤفك عنه من أفك » يؤفك عنه من أفك، والأفك فساد العقل. الزمخشري: وقرئ « يؤفك عنه من أفك » أي يحرمه من حرم؛ من أفك الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب: يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف.
قوله تعالى: « قتل الخراصون » في التفسير: لعن الكذابون. وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون؛ يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى « قتل » أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء: معنى « قتل » لعن؛ قال: و « الخراصون » الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون؛ فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب. ساحر شاعر؛ وهذا دعاء عليهم؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم؛ أي قولوا: « قتل الخراصون » وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب؛ يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب؛ حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر؛ يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في « الأنعام » ومنه الخريص للخليج؛ لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة؛ لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود؛ لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرفوا الناس عن الإيمان به. « الذين هم في غمرة ساهون » الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. « ساهون » أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. « يسألون أيان يوم الدين » أي متى يوم الحساب؛ يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة.
قوله تعالى: « يوم هم على النار يفتنون » نصب « يوم » على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء « يوم هم على النار يفتنون » أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره؛ وأصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبني بني لإضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من « يوم الدين » . وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس: « يفتنون » يعذبون. ومنه قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد ببطن مكة مقهور ومفتون
« ذوقوا فتنتكم » أي يقال لهم ذوقوا عذابكم؛ قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم « هذا الذي كنتم به تستعجلون » في الدنيا. وقال: « هذا » ولم يقل هذه؛ لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب.
=========
الآيات: 1 - 6 ( والذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، إنما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع )
قوله تعالى: « والذاريات ذروا » قال أبوبكر الأنباري: حدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبدالرحمن، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه؛ فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما « الذاريات ذروا » قال: يلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا « والذاريات ذروا » الرياح « فالحاملات وقرا » السحاب « فالجاريات يسرا » السفن « فالمقسمات أمرا » الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه « والذاريات ذروا » قال: الرياح « فالحاملات وقرا » قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر « فالجاريات يسرا » قال: السفن موقرة « فالمقسمات أمرا » قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف؛ جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: « والذاريات » وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا. وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب « إنما توعدون » أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب « لصادق » لا كذب فيه؛ ومعنى « لصادق » لصدق؛ وقع الاسم موقع المصدر. « وإن الدين لواقع » يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدأ قسما آخر فقال: « والسماء ذات الحبك. إنكم لفي قول مختلف » [ الذاريات: 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات لأن في ذرايتهن ذرو الخلق؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات؛ وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخصى النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. « فالحاملات وقرا » السحاب. وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها؛ يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لأن الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء؛ فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:
عصب كوارع في خليج محلم حملت فمنها موقر مكموم
والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن، وقد وقررت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في « الأنعام » القول فيه. « فالجاريات يسرا » السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل: السحاب؛ وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني: هو سهولة تسييرها؛ وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مشي السحابة لا ريث ولا عجل
الآيات: 7 - 14 ( والسماء ذات الحبك، إنكم لفي قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون، يسألون أيان يوم الدين، يوم هم على النار يفتنون، ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون )
قوله تعالى: « والسماء ذات الحبك » قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض. وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة؛ ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي « الحبك » أقوال سبعة: الأول: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقال عكرمة؛ قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه؛ يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد أحتبكته. والثاني: ذات الزينة؛ قال الحسن وسعيد بن جبير، وعن، الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع: قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء؛ قال: الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسِجه ريح خريق لضاحي مائه حبك
ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس - ذات الشدة، قال ابن زيد، وقرأ « وبنينا فوقكم سبعا شدادا » [ النبأ:12 ] . والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه لا حق الإطلين محبوك ممر
وقال آخر:
مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكَتَد
وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة؛ أي تشد الإزار وتحكمه. السادس: ذات الصفاقة؛ قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء؛ سميت بذلك لأنها كأثر المجر. و « الحبك » جمع حباك، قال الراجز:
كأنما جللها الحُوَّاك طنفسة في وشيها حِباك
والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: « ذات الحبك » « الحبك » و « الحبك » و « الحبك » والحبك والحبك وقرأ أيضا « الحبك » كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز « الحبك » . و « الحبك » واحدتها حبيكة؛ « والحبك » مخفف منه. و « الحبك » واحدتها حبكة. ومن قرأ « الحبك » فالواحدة حبكة كبرقة وبرق أوحبكة كظلمة وظلم. ومن قرأ « الحبك » فهو كإبل وإطل و « الحبك » مخففة منه. ومن قرأ « الحبك » فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور « الحبك » فضم الباء. وقال جميعه المهدوي.
قوله تعالى: « إنكم لفي قول مختلف » هذا جواب القسم الذي هو « والسماء » أي إنكم يا أهل مكة « في قول مختلف » في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: أختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل أفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين. وقيل: أختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. « يؤفك عنه من أفك » أي يصرف عن الإيمان بمحمد والقرآن من صرف؛ عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يصرف عن الإيمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين. وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه أفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء؛ ومنه قوله تعالى: « أجئتنا لتأفكنا » [ الأحقاف: 22 ] . وقال مجاهد: معنى « يؤفك عنه من أفك » يؤفك عنه من أفك، والأفك فساد العقل. الزمخشري: وقرئ « يؤفك عنه من أفك » أي يحرمه من حرم؛ من أفك الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب: يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف.
قوله تعالى: « قتل الخراصون » في التفسير: لعن الكذابون. وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون؛ يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى « قتل » أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء: معنى « قتل » لعن؛ قال: و « الخراصون » الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون؛ فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب. ساحر شاعر؛ وهذا دعاء عليهم؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم؛ أي قولوا: « قتل الخراصون » وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب؛ يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب؛ حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر؛ يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في « الأنعام » ومنه الخريص للخليج؛ لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة؛ لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود؛ لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرفوا الناس عن الإيمان به. « الذين هم في غمرة ساهون » الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. « ساهون » أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. « يسألون أيان يوم الدين » أي متى يوم الحساب؛ يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة.
قوله تعالى: « يوم هم على النار يفتنون » نصب « يوم » على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء « يوم هم على النار يفتنون » أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره؛ وأصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبني بني لإضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من « يوم الدين » . وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس: « يفتنون » يعذبون. ومنه قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد ببطن مكة مقهور ومفتون
« ذوقوا فتنتكم » أي يقال لهم ذوقوا عذابكم؛ قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم « هذا الذي كنتم به تستعجلون » في الدنيا. وقال: « هذا » ولم يقل هذه؛ لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الذاريات
=========
الآيات: 15 - 16 ( إن المتقين في جنات وعيون، آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين )
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات وعيون » لما ذكر مال الكفار ذكر مال المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. « آخذين ما آتاهم ربهم » أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات؛ قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: « آخذين ما آتاهم ربهم » أي عاملين بالفرائض. « إنهم كانوا قبل ذلك » أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا « محسنين » بالفرائض. وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.
الآيات: 17 - 19 ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم )
قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » معنى « يهجعون » ينامون؛ والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة؛ قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع
وقال عمرو بن معد يكرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام؛ قاله الجوهري. واختلف في « ما » فقيل: صلة زائدة - قاله إبراهيم النخعي - والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون؛ أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة « قم الليل إلا قليلا » [ المزمل: 2 ] الآية. وقيل: ليس « ما » صلة بل الوقف عند قوله: « قليلا » ثم يبتدئ « من الليل ما يهجعون » فـ « ما » للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: « كانوا قليلا » معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون؛ قال ابن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون « ما » جحدا.
قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس - وهو قول الضحاك - من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: « إنهم كانوا قبل ذلك محسنين » أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: « من الليل ما يهجعون » وعلى التأويل الأول والثاني يكون « كانوا قليلا من الليل » خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على « ما يهجعون » ، وكذلك إن جعلت « قليلا » خبر كان وترفع « ما » بقليل؛ كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. فـ « ما » يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: « قليلا » إن قدرت « ما » زائدة مؤكدة بـ « يهجعون » على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر « ما » زائدة كان قوله: « قليلا » خبر كان ولم يجز نصبه بـ « يهجعون » ؛ لأنه إذا قدر نصبه بـ « يهجعون » مع تقدير « ما » مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد: نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها.
روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه أت في منامه فأنشده:
وكيف تنام الليل عين قريرة ولم تدر في أي المجالس تنزل
وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: أكسواني من حللكما هذه؛ فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة ! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا بالله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب؛ قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.
قوله تعالى: « وبالأسحار هم يستغفرون » مدح ثان؛ أي يستغفرون من، ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في « آل عمران » القول فيه. وقال ابن عمر ومجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار؛ يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
قوله تعالى: « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » مدح ثالث. قال محمد بن سيربن وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة؛ لقوله تعالى في سورة « المعارج » : « والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم » [ المعارج:25 ] والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. « للسائل والمحروم » السائل الذي يسأل الناس لفاقته؛ قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. « والمحروم » الذي حرم المال. واختلف في تعيينه؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه؛ يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية « وفي أموالهم » . وقال عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أونسل ماشيته. وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ « إن لمغرمون. بل نحن محرومون » نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: « بل نحن محرومون » [ الواقعة: 66 ] وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فاقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبدالرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب؛ روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب؛ لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن؛ لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع؛ من الحرمان وهو المنع. علقمة:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » ذكره الثعلبي.
الآيات: 20 - 23 ( وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )
قوله تعالى: « وفي الأرض آيات للموقنين » لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها أثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم؛ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين؛ ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط؛ فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة « ثم إذا أنتم بشر تنتشرون » [ الروم: 20 ] . السدي: « وفي أنفسكم » أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد. وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل « فتبارك الله أحسن الخالقين » [ المؤمنون:14 ] . « أفلا تبصرون » يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم.
قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة « البقرة » أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.
قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة إنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني: « وفي السماء رزقكم » معناه وفي المطر رزقكم؛ سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم؛ نظيره: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] . وقال سفيان الثوري: « وفي السماء رزقكم » أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب « وفي السماء رزقكم » فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد « وفي السماء رازقكم » بالألف وكذلك في أخرها « إن الله هو الرازق. » وما توعدون « قال مجاهد: يعني من خير وشر. وقال غيره: من خير خاصة. وقيل: الشر خاصة. وقيل: الجنة؛ عن سفيان بن عيينة. الضحاك: » وما توعدون « من الجنة والنار. وقال ابن سيرين: » وما توعدون « من أمر الساعة. وقاله الربيع.»
قوله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: « مثل ما أنكم تنطقون » وخص النطق من بين سائر الحواس؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » . وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن؛ قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛ قال: فاتل علي منه شيئا؛ فقرأت « والذاريات ذروا » إلى قوله: « وفي السماء رزقكم » فقال: يا أصمعي حسبك! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها؛ ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: « وفي السماء زرقكم وما توعدون » فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت « والذاريات » حتى وصلت إلى قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون » قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به؛ فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت ) أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: ( لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله ) . وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب؛ وقد ذكرناه في سورة « هود » . وقال لقمان: « يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة » [ لقمان: 16 ] الآية. وقد مضى في « لقمان » وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، وهو فراغ القلب مع الرب؛ رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه.
قوله تعالى: « مثل ما أنكم تنطقون » قراءة العامة « مثل » بالنصب أي كمثل « ما أنكم » فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و « ما » زائدة؛ قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد؛ أي لحق حقا مثل نطقك؛ فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبوبه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و « ما » زائدة للتوكيد. المازني: « مثل » مع « ما » بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ قال: ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا؛ فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش « مثل » بالرفع على أنه صفة لحق؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختصى بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و « مثل » مضاف إلى « أنكم » و « ما » زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة. المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا. ومجوز أن تكون بدلا من « لحق »
=========
الآيات: 15 - 16 ( إن المتقين في جنات وعيون، آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين )
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات وعيون » لما ذكر مال الكفار ذكر مال المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. « آخذين ما آتاهم ربهم » أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات؛ قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: « آخذين ما آتاهم ربهم » أي عاملين بالفرائض. « إنهم كانوا قبل ذلك » أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا « محسنين » بالفرائض. وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.
الآيات: 17 - 19 ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم )
قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » معنى « يهجعون » ينامون؛ والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة؛ قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع
وقال عمرو بن معد يكرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام؛ قاله الجوهري. واختلف في « ما » فقيل: صلة زائدة - قاله إبراهيم النخعي - والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون؛ أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة « قم الليل إلا قليلا » [ المزمل: 2 ] الآية. وقيل: ليس « ما » صلة بل الوقف عند قوله: « قليلا » ثم يبتدئ « من الليل ما يهجعون » فـ « ما » للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: « كانوا قليلا » معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون؛ قال ابن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا « من الليل ما يهجعون » على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون « ما » جحدا.
قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس - وهو قول الضحاك - من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: « إنهم كانوا قبل ذلك محسنين » أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: « من الليل ما يهجعون » وعلى التأويل الأول والثاني يكون « كانوا قليلا من الليل » خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على « ما يهجعون » ، وكذلك إن جعلت « قليلا » خبر كان وترفع « ما » بقليل؛ كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. فـ « ما » يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: « قليلا » إن قدرت « ما » زائدة مؤكدة بـ « يهجعون » على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر « ما » زائدة كان قوله: « قليلا » خبر كان ولم يجز نصبه بـ « يهجعون » ؛ لأنه إذا قدر نصبه بـ « يهجعون » مع تقدير « ما » مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد: نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها.
روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه أت في منامه فأنشده:
وكيف تنام الليل عين قريرة ولم تدر في أي المجالس تنزل
وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: أكسواني من حللكما هذه؛ فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة ! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب، فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا بالله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب؛ قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.
قوله تعالى: « وبالأسحار هم يستغفرون » مدح ثان؛ أي يستغفرون من، ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في « آل عمران » القول فيه. وقال ابن عمر ومجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى: « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار؛ يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم « كانوا قليلا من الليل ما يهجعون » وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
قوله تعالى: « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » مدح ثالث. قال محمد بن سيربن وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة؛ لقوله تعالى في سورة « المعارج » : « والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم » [ المعارج:25 ] والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. « للسائل والمحروم » السائل الذي يسأل الناس لفاقته؛ قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. « والمحروم » الذي حرم المال. واختلف في تعيينه؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه؛ يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية « وفي أموالهم » . وقال عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أونسل ماشيته. وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ « إن لمغرمون. بل نحن محرومون » نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: « بل نحن محرومون » [ الواقعة: 66 ] وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فاقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبدالرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب؛ روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب؛ لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن؛ لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع؛ من الحرمان وهو المنع. علقمة:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « وفي أموالهم حق للسائل والمحروم » ذكره الثعلبي.
الآيات: 20 - 23 ( وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون، وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )
قوله تعالى: « وفي الأرض آيات للموقنين » لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها أثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم؛ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. « وفي أنفسكم أفلا تبصرون » قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين؛ ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط؛ فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة « ثم إذا أنتم بشر تنتشرون » [ الروم: 20 ] . السدي: « وفي أنفسكم » أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد. وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل « فتبارك الله أحسن الخالقين » [ المؤمنون:14 ] . « أفلا تبصرون » يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم.
قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة « البقرة » أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.
قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة إنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني: « وفي السماء رزقكم » معناه وفي المطر رزقكم؛ سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم؛ نظيره: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] . وقال سفيان الثوري: « وفي السماء رزقكم » أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب « وفي السماء رزقكم » فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد « وفي السماء رازقكم » بالألف وكذلك في أخرها « إن الله هو الرازق. » وما توعدون « قال مجاهد: يعني من خير وشر. وقال غيره: من خير خاصة. وقيل: الشر خاصة. وقيل: الجنة؛ عن سفيان بن عيينة. الضحاك: » وما توعدون « من الجنة والنار. وقال ابن سيرين: » وما توعدون « من أمر الساعة. وقاله الربيع.»
قوله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: « مثل ما أنكم تنطقون » وخص النطق من بين سائر الحواس؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق » . وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن؛ قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛ قال: فاتل علي منه شيئا؛ فقرأت « والذاريات ذروا » إلى قوله: « وفي السماء رزقكم » فقال: يا أصمعي حسبك! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها؛ ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: « وفي السماء زرقكم وما توعدون » فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت « والذاريات » حتى وصلت إلى قوله تعالى: « وفي السماء رزقكم وما توعدون » فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: « فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون » قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به؛ فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت ) أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: ( لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله ) . وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية صما ململمة ملسا نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح خط لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيها
قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: « وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها » [ هود: 6 ] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب؛ وقد ذكرناه في سورة « هود » . وقال لقمان: « يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة » [ لقمان: 16 ] الآية. وقد مضى في « لقمان » وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، وهو فراغ القلب مع الرب؛ رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه.
قوله تعالى: « مثل ما أنكم تنطقون » قراءة العامة « مثل » بالنصب أي كمثل « ما أنكم » فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و « ما » زائدة؛ قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد؛ أي لحق حقا مثل نطقك؛ فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبوبه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و « ما » زائدة للتوكيد. المازني: « مثل » مع « ما » بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ قال: ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا؛ فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش « مثل » بالرفع على أنه صفة لحق؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختصى بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و « مثل » مضاف إلى « أنكم » و « ما » زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة. المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا. ومجوز أن تكون بدلا من « لحق »
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الذاريات
===========
الآيات: 24 - 28 ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم )
قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. « هل أتاك » أي ألم يأتك. وقيل: « هل » بمعنى قد؛ كقوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] . وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في « هود » « والحجر » . « المكرمين » أي عند الله؛ دليله قوله تعالى: « بل عباد مكرمون » [ الأنبياء: 26 ] قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل - زاد عثمان بن حصين - ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر. قال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين. وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبدالوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها؛ قال: امض بنا؛ فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإن إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الأمر هكذا؛ قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس؛ انظر إلى قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » .
قوله تعالى: « إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما » تقدم في « الحجر » . « قال سلام » أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما « سِلم » بكسر السين. « قوم منكرون » أي أنتم قوم منكرون؛ أي غرباء لا نعرفكم. وقيل: لأنه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: « قوم منكرون » . وقيل: أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. وقيل: خافهم؛ يقال أنكرته إذا خفته، قال الشاعر:
فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
قوله تعالى: « فراغ إلى أهله » قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في « والصافات » . ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. « فجاء بعجل سمين » أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في « هود » : « فما لبث أن جاء بعجل حنيذ » [ هود: 69 ] . ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. « فقربه إليهم » يعني العجل. « قال ألا تأكلون » قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، واختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة.
قوله تعالى: « فأوجس منهم خيفة » أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو بن دينار: قالت الملائكة لا نأكل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في « هود » ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف « قالوا لا تخف » وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. « وبشروه بغلام عليم » أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار. ومعنى « عليم » أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول: « وبشرناه بإسحاق » [ الصافات: 112 ] . وهذا نص.
الآيات: 29 - 30 ( فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم )
قوله تعالى: « فأقبلت امرأته في صرة » أي في صيحة وضجة؛ عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء تسمع كلام الملائكة. قال الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس:
فألحقه بالهاديات ودونه جواحرها في صرة لم تزيل
يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها؛ أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب؛ قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. وأصل الصك الضرب؛ صكه أي ضربه؛ قال الراجز:
يا كروانا صك فاكبأنـَّا
قال الأموي: كَبَن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. « وقالت عجوز عقيم » أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد كما قالت: « يا ويلتا أألد وأنا عجوز » [ هود:72 ] « قالوا كذلك » أي كما قلنا لك وأخبرناك « قال ربك » فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة وقد مضى هذا. « إنه هو الحكيم العليم » حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه.
الآيات: 31 - 37 ( قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم )
قوله تعالى: « قال فما خطبكم أيها المرسلون » لما تيقن إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: « فما خطبكم » أي ما شأنكم وقصتكم « أيها المرسلون » « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » يريد قوم لوط. « لنرسل عليهم حجارة من طين » أي لنرجمهم بها. « مسومة » أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: « مسومة » أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في « هود » . فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. « عند ربك » أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قال ابن زيد؛ وهو معنى قوله تعالى: « حجارة من سجيل » [ الحجر: 74 ] على ما تقدم بيانه في « هود » . وقيل: هي الحجارة التي نراها وأصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: « من طين » ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري.
قوله تعالى: « فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين » أي لما أردنا إهلال قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين؛ لئلا يهلك المومنون، وذلك قوله تعالى: « فأسر بأهلك » [ هود: 81 ] . « فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين » يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار؛ أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: « فيها » كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » يدل على القرية؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: « إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله » [ يوسف: 86 ] . وقيل: الإيمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في « البقرة » وغيرها. وقوله: « قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا » [ الحجرات: 14 ] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. « وتركنا فيها آية » أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم؛ نظيره: « ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون » [ العنكبوت: 35 ] . ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. « للذين يخافون » لأنهم المنتفعون.
===========
الآيات: 24 - 28 ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم )
قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. « هل أتاك » أي ألم يأتك. وقيل: « هل » بمعنى قد؛ كقوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] . وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في « هود » « والحجر » . « المكرمين » أي عند الله؛ دليله قوله تعالى: « بل عباد مكرمون » [ الأنبياء: 26 ] قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل - زاد عثمان بن حصين - ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر. قال ابن عباس: سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين. وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبدالوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها؛ قال: امض بنا؛ فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإن إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الأمر هكذا؛ قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس؛ انظر إلى قوله تعالى: « هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين » .
قوله تعالى: « إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما » تقدم في « الحجر » . « قال سلام » أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما « سِلم » بكسر السين. « قوم منكرون » أي أنتم قوم منكرون؛ أي غرباء لا نعرفكم. وقيل: لأنه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: « قوم منكرون » . وقيل: أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. وقيل: خافهم؛ يقال أنكرته إذا خفته، قال الشاعر:
فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
قوله تعالى: « فراغ إلى أهله » قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في « والصافات » . ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. « فجاء بعجل سمين » أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في « هود » : « فما لبث أن جاء بعجل حنيذ » [ هود: 69 ] . ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. « فقربه إليهم » يعني العجل. « قال ألا تأكلون » قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، واختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة.
قوله تعالى: « فأوجس منهم خيفة » أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو بن دينار: قالت الملائكة لا نأكل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في « هود » ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف « قالوا لا تخف » وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. « وبشروه بغلام عليم » أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار. ومعنى « عليم » أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول: « وبشرناه بإسحاق » [ الصافات: 112 ] . وهذا نص.
الآيات: 29 - 30 ( فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم )
قوله تعالى: « فأقبلت امرأته في صرة » أي في صيحة وضجة؛ عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء تسمع كلام الملائكة. قال الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس:
فألحقه بالهاديات ودونه جواحرها في صرة لم تزيل
يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها؛ أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب؛ قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. وأصل الصك الضرب؛ صكه أي ضربه؛ قال الراجز:
يا كروانا صك فاكبأنـَّا
قال الأموي: كَبَن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. « وقالت عجوز عقيم » أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد كما قالت: « يا ويلتا أألد وأنا عجوز » [ هود:72 ] « قالوا كذلك » أي كما قلنا لك وأخبرناك « قال ربك » فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة وقد مضى هذا. « إنه هو الحكيم العليم » حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه.
الآيات: 31 - 37 ( قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم )
قوله تعالى: « قال فما خطبكم أيها المرسلون » لما تيقن إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: « فما خطبكم » أي ما شأنكم وقصتكم « أيها المرسلون » « قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » يريد قوم لوط. « لنرسل عليهم حجارة من طين » أي لنرجمهم بها. « مسومة » أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: « مسومة » أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في « هود » . فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. « عند ربك » أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قال ابن زيد؛ وهو معنى قوله تعالى: « حجارة من سجيل » [ الحجر: 74 ] على ما تقدم بيانه في « هود » . وقيل: هي الحجارة التي نراها وأصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: « من طين » ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري.
قوله تعالى: « فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين » أي لما أردنا إهلال قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين؛ لئلا يهلك المومنون، وذلك قوله تعالى: « فأسر بأهلك » [ هود: 81 ] . « فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين » يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار؛ أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: « فيها » كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: « إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين » يدل على القرية؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: « إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله » [ يوسف: 86 ] . وقيل: الإيمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في « البقرة » وغيرها. وقوله: « قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا » [ الحجرات: 14 ] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. « وتركنا فيها آية » أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم؛ نظيره: « ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون » [ العنكبوت: 35 ] . ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. « للذين يخافون » لأنهم المنتفعون.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الذاريات
=========
الآيات: 38 - 40 ( وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم )
قوله تعالى: « وفي موسى » أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: « وفي الأرض آيات » « وفي موسى » . « إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين » أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. « فتولى بركنه » أي فرعون أعرض عن الإيمان « بركنه » أي بمجموعة وأجناده؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: « أو آوي إلى ركن شديد » [ هود: 80 ] يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قوله عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني
وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه؛ كقوله تعالى: « أعرض ونأى بجانبه » [ فصلت: 51 ] وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء « وقال ساحر أو مجنون » « أو » بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
وقد توضع « أو » بمعنى الواو؛ كقوله تعالى: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » [ الإنسان: 24 ] والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع » [ النساء: 3 ] وقد تقدم جميع هذا. « فأخذناه وجنوده » لكفرهم وتوليهم عن الإيمان. « فنبذناهم » أي طرحناهم « في اليم وهو مليم » يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.
الآيات: 41 - 42 ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم )
قوله تعالى: « وفي عاد » أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. « إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم » وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الريح العقيم الجنوب ) وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( نصرت بالصبا ) وأهلكت عاد بالدبور ) . وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: « ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم » أي كالشيء الهشيم؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي؛ وقاله مجاهد: ومنه قول الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي؛ تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال الشاعر:
ورأى عواقب خلف ذاك مذمة تبقى عليه والعظام رميم
والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] حسب ما تقدم.
الآيات: 43 - 45 ( وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين )
قوله تعالى: « وفي ثمود » أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا « حتى حين » أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: « تمتعوا في داركم ثلاثة أيام » [ هود: 65 ] . وقيل: معنى « تمتعوا » أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. « فعتوا عن أمر ربهم » أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة « فأخذتهم الصاعقة » أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي « الصعقة » يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في « البقرة » وغيرها. « وهم ينظرون » إليها نهارا. « فما استطاعوا من قيام » قيل: معناه من نهوض. وقيل: ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم؛ تقول: لا أقوم لهذا الأمر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. « وما كانوا منتصرين » أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر.
الآية: 46 ( وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين )
قوله تعالى: « وقوم نوح من قبل » قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو « وقوم نوح » بالخفض؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في « أخذتهم » أو الهاء في « أخذناه » أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج، أو « فنبذناهم في اليم » [ الذاريات: 40 ] ونبذنا قوم نوج، أو يكون بمعنى اذكر.
الآيات: 47 - 49 ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )
قوله تعالى: « والسماء بنيناها بأيد » لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى « بأيد » أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. « وإنا لموسعون » قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم؛ دليله: « على الموسع قدره » [ البقرة: 236 ] . وقال القتبي: ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: « والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون » أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. « والأرض فرشناها » أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. « فنعم الماهدون » أي فنعم الماهدون نحن لهم. والمعنى في الجمع التعظيم؛ مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. « ومن كل شيء خلقنا زوجين » أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد. يعني الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل: « ومن كل شيء خلقنا زوجين » لتعلموا أن خالق الأزواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء؛ إذ عز وجل وتر « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] . « لعلكم تذكرون » .
الآيات: 50 - 55 ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين، كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )
قوله تعالى: « ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين » لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: « ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين » أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان: « ففروا إلى الله » اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. « إني لكم منه نذير مبين » أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.
قوله تعالى: « ولا تجعلوا مع الله إلها آخر » أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. « إني لكم منه » أي من محمد وسيوفه « نذير مبين » أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي؛ قاله ابن عباس.
قوله تعالى: « كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول » هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من « كذلك » يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: « كذلك » عن يعقوب وغيره. « أتواصوا به » أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. « بل هم قوم طاغون » أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. « فتول عنهم » أي أعرض عنهم وأصفح عنهم « فما أنت بملوم » عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى « وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين » وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: « فتول عنهم » فأعرض عنهم « فما أنت بملوم » أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك « وذكر » أي بالعظة فإن العظة « تنفع المؤمنين » . قتادة: « وذكر » بالقرآن « فإن الذكرى » به « تنفع المؤمنين » . وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
الآيات: 56 - 60 ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون )
قوله تعالى: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون » قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: « ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس » [ الأعراف: 179 ] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى: « قالت الأعراب آمنا » [ الحجرات: 14 ] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله: « وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون » وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا » [ التوبة: 31 ] . فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: « إلا ليعدون » أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها؛ رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » [ الزخرف: 87 ] « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم » [ الزخرف: 9 ] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى: « وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين » [ لقمان: 32 ] الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. قال:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى « ليعبدون » ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. « ما أريد منهم من رزق » « من » صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم « إن الله هو الرزاق » وقرأ ابن محيصن وغيره « الرازق » . « ذو القوة المتين » أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي « المتين » بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ « الرزاق » أو « ذو » من قوله: « ذو القوة » أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين. وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
من ريطة واليمنة المعصبا
فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى: « فمن جاءه موعظة » [ البقرة: 275 ] أي وعظ « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » [ هود: 67 ] أي الصياح والصوت.
قوله تعالى: « فإن للذين ظلموا » أي كفروا من أهل مكة « ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم » أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقال علقمة:
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقال آخر:
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. « فلا يستعجلون » أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد « فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين » [ الأعراف: 70 ] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة « الذاريات » والحمد لله.
=========
الآيات: 38 - 40 ( وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم )
قوله تعالى: « وفي موسى » أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: « وفي الأرض آيات » « وفي موسى » . « إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين » أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. « فتولى بركنه » أي فرعون أعرض عن الإيمان « بركنه » أي بمجموعة وأجناده؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: « أو آوي إلى ركن شديد » [ هود: 80 ] يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قوله عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني
وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه؛ كقوله تعالى: « أعرض ونأى بجانبه » [ فصلت: 51 ] وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء « وقال ساحر أو مجنون » « أو » بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
وقد توضع « أو » بمعنى الواو؛ كقوله تعالى: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » [ الإنسان: 24 ] والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: « فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع » [ النساء: 3 ] وقد تقدم جميع هذا. « فأخذناه وجنوده » لكفرهم وتوليهم عن الإيمان. « فنبذناهم » أي طرحناهم « في اليم وهو مليم » يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.
الآيات: 41 - 42 ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم )
قوله تعالى: « وفي عاد » أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. « إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم » وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الريح العقيم الجنوب ) وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( نصرت بالصبا ) وأهلكت عاد بالدبور ) . وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: « ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم » أي كالشيء الهشيم؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي؛ وقاله مجاهد: ومنه قول الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي؛ تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال الشاعر:
ورأى عواقب خلف ذاك مذمة تبقى عليه والعظام رميم
والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] حسب ما تقدم.
الآيات: 43 - 45 ( وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين )
قوله تعالى: « وفي ثمود » أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا « حتى حين » أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: « تمتعوا في داركم ثلاثة أيام » [ هود: 65 ] . وقيل: معنى « تمتعوا » أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. « فعتوا عن أمر ربهم » أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة « فأخذتهم الصاعقة » أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي « الصعقة » يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في « البقرة » وغيرها. « وهم ينظرون » إليها نهارا. « فما استطاعوا من قيام » قيل: معناه من نهوض. وقيل: ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم؛ تقول: لا أقوم لهذا الأمر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. « وما كانوا منتصرين » أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر.
الآية: 46 ( وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين )
قوله تعالى: « وقوم نوح من قبل » قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو « وقوم نوح » بالخفض؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في « أخذتهم » أو الهاء في « أخذناه » أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج، أو « فنبذناهم في اليم » [ الذاريات: 40 ] ونبذنا قوم نوج، أو يكون بمعنى اذكر.
الآيات: 47 - 49 ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )
قوله تعالى: « والسماء بنيناها بأيد » لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى « بأيد » أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. « وإنا لموسعون » قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم؛ دليله: « على الموسع قدره » [ البقرة: 236 ] . وقال القتبي: ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: « والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون » أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. « والأرض فرشناها » أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. « فنعم الماهدون » أي فنعم الماهدون نحن لهم. والمعنى في الجمع التعظيم؛ مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. « ومن كل شيء خلقنا زوجين » أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد. يعني الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل: « ومن كل شيء خلقنا زوجين » لتعلموا أن خالق الأزواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء؛ إذ عز وجل وتر « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] . « لعلكم تذكرون » .
الآيات: 50 - 55 ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين، كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )
قوله تعالى: « ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين » لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: « ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين » أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان: « ففروا إلى الله » اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. « إني لكم منه نذير مبين » أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.
قوله تعالى: « ولا تجعلوا مع الله إلها آخر » أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. « إني لكم منه » أي من محمد وسيوفه « نذير مبين » أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي؛ قاله ابن عباس.
قوله تعالى: « كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول » هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من « كذلك » يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: « كذلك » عن يعقوب وغيره. « أتواصوا به » أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. « بل هم قوم طاغون » أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. « فتول عنهم » أي أعرض عنهم وأصفح عنهم « فما أنت بملوم » عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى « وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين » وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: « فتول عنهم » فأعرض عنهم « فما أنت بملوم » أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك « وذكر » أي بالعظة فإن العظة « تنفع المؤمنين » . قتادة: « وذكر » بالقرآن « فإن الذكرى » به « تنفع المؤمنين » . وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
الآيات: 56 - 60 ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون )
قوله تعالى: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون » قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: « ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس » [ الأعراف: 179 ] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى: « قالت الأعراب آمنا » [ الحجرات: 14 ] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله: « وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون » وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا » [ التوبة: 31 ] . فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: « إلا ليعدون » أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها؛ رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » [ الزخرف: 87 ] « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم » [ الزخرف: 9 ] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى: « وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين » [ لقمان: 32 ] الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. قال:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى « ليعبدون » ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. « ما أريد منهم من رزق » « من » صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم « إن الله هو الرزاق » وقرأ ابن محيصن وغيره « الرازق » . « ذو القوة المتين » أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي « المتين » بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ « الرزاق » أو « ذو » من قوله: « ذو القوة » أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين. وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
من ريطة واليمنة المعصبا
فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى: « فمن جاءه موعظة » [ البقرة: 275 ] أي وعظ « وأخذ الذين ظلموا الصيحة » [ هود: 67 ] أي الصياح والصوت.
قوله تعالى: « فإن للذين ظلموا » أي كفروا من أهل مكة « ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم » أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقال علقمة:
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقال آخر:
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. « فلا يستعجلون » أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد « فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين » [ الأعراف: 70 ] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة « الذاريات » والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الطور للقرطبى
========
روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.
الآيات: 1 - 8 ( والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع )
قوله تعالى: « والطور » الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ) قيل: فما الأجبل؟ قال: ( جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة ) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب « التذكرة » قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في « البقرة » مستوفى.
قوله تعالى: « وكتاب مسطور » أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون » [ الواقعة:78 ] . وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن أخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: « ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا » [ الإسراء: 13 ] وقوله: « وإذا الصحف نشرت » [ التكوير: 10 ] . وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: « أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » [ المجادلة: 22 ] .
قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: « في رق منشور » والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: « والبيت المعمور » قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه ) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في « الصحاح » : والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: ( ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتيت بالبراق ) الحديث؛ وفيه: ( ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ) . وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود » [ الحح: 26 ] .
قوله تعالى: « والسقف المرفوع » يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] . وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. « والبحر المسجور » قال مجاهد: الموقد؛ وقد جاء في الخبر: ( إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا ) . وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع سجورة ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] أي أوقدت؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: « والبجر المسجور » . « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارع، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: « وإذا البحار فجرت » [ الانفطار: 3 ] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.
قلت: إليه يرجع معنى « فجرت » في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس.
قوله تعالى: « إن عذاب ربك لواقع » هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب « والطور » إلى قوله: « إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع » فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ « والطور » حتى بلغ « إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع » فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول « والطور » إلى أن قال له قل « إن عذاب ربك لواقع » إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.
الآيات: 9 - 16 ( يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « يوم تمور السماء مورا » العامل في يوم قوله: « واقع » أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
... فوق مور معبد
والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان
الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. « وتسير الجبال سيرا » قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه « وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب » [ النمل: 88 ] . وقد مضى هذا المعنى في « الكهف » . « فويل يومئذ للمكذبين » « ويل » كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. « الذين هم في خوض يلعبون » أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في « التوبة » .
قوله تعالى: « يوم يدَعُّون » « يوم » بدل من يومئذ. و « يدعون » معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: « فذلك الذي يدع اليتيم » [ الماعون: 2 ] . وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع « يوم يدعون إلى نار جهنم دعا » بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: « هذه النار التي كنتم بها تكذبون » في الدنيا.
قوله تعالى: « أفسحر هذا » استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: « أفسحر هذا » الذي ترون الآن بأعينكم « أم أنتم لا تبصرون » وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. « اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا » أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. « سواء عليكم » أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ « سواء » خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا » [ إبراهيم: 21 ] . « إنما تجزون ما كنتم تعملون »
========
روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.
الآيات: 1 - 8 ( والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع )
قوله تعالى: « والطور » الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ) قيل: فما الأجبل؟ قال: ( جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة ) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب « التذكرة » قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في « البقرة » مستوفى.
قوله تعالى: « وكتاب مسطور » أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون » [ الواقعة:78 ] . وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن أخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: « ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا » [ الإسراء: 13 ] وقوله: « وإذا الصحف نشرت » [ التكوير: 10 ] . وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: « أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » [ المجادلة: 22 ] .
قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: « في رق منشور » والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: « والبيت المعمور » قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه ) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في « الصحاح » : والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: ( ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتيت بالبراق ) الحديث؛ وفيه: ( ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ) . وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود » [ الحح: 26 ] .
قوله تعالى: « والسقف المرفوع » يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] . وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. « والبحر المسجور » قال مجاهد: الموقد؛ وقد جاء في الخبر: ( إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا ) . وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع سجورة ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] أي أوقدت؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: « والبجر المسجور » . « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارع، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: « وإذا البحار فجرت » [ الانفطار: 3 ] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.
قلت: إليه يرجع معنى « فجرت » في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس.
قوله تعالى: « إن عذاب ربك لواقع » هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب « والطور » إلى قوله: « إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع » فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ « والطور » حتى بلغ « إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع » فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول « والطور » إلى أن قال له قل « إن عذاب ربك لواقع » إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.
الآيات: 9 - 16 ( يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون )
قوله تعالى: « يوم تمور السماء مورا » العامل في يوم قوله: « واقع » أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
... فوق مور معبد
والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان
الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. « وتسير الجبال سيرا » قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه « وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب » [ النمل: 88 ] . وقد مضى هذا المعنى في « الكهف » . « فويل يومئذ للمكذبين » « ويل » كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. « الذين هم في خوض يلعبون » أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في « التوبة » .
قوله تعالى: « يوم يدَعُّون » « يوم » بدل من يومئذ. و « يدعون » معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: « فذلك الذي يدع اليتيم » [ الماعون: 2 ] . وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع « يوم يدعون إلى نار جهنم دعا » بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: « هذه النار التي كنتم بها تكذبون » في الدنيا.
قوله تعالى: « أفسحر هذا » استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: « أفسحر هذا » الذي ترون الآن بأعينكم « أم أنتم لا تبصرون » وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. « اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا » أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. « سواء عليكم » أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ « سواء » خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا » [ إبراهيم: 21 ] . « إنما تجزون ما كنتم تعملون »
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الطور
=========
الآيات: 17 - 20 ( إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين )
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات ونعيم » لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا « فاكهين » أي ذوي فاكهة كثيرة؛ يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر؛ أي ذو لبن وتمر؛ قال:
وغررتني وزعمت أنـ ـك لابنٌ بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: « فكهين » بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره؛ يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في « الدخان » القول في هذا. « بما آتاهم » أي أعطاهم « ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم » « كلوا واشربوا » أي يقال لهم ذلك. « هنيئا بما كنتم تعملون » الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه « هنيئا » . وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم « هنيئا » فهو صفة في موضع المصدر. « هنيئا » : أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: « هنيئا » أي لا تموتون؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء.
قوله تعالى: « متكئين على سرر » سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. « مصفوفة » قال ابن الأعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن؛ من قول الله تعالى: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.
الآيات: 21 - 24 ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين، وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون )
قوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم » قرأ العامة « وأتبعتهم » بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو « وأتبعناهم » بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون؛ أعتبارا بقوله: « ألحقنا بهم » ليكون الكلام على نسق واحد. « ذريتهم » الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون « ذريتهم » على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون « ذريتهم » على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في « الناسخ والمنسوخ » له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان » الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: « بإيمان » في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير « بإيمان » من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: « بإيمان » حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية؛ كقوله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: ( هما في النار ) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: ( لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ) قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: ( في الجنة ) ثم قال: ( إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » الآية.
قوله تعالى: « وما ألتناهم من عملهم من شيء » أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: « والذين أمنوا » . وقال ابن زيد: المعنى « وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل؛ فالهاء والميم على، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير « وما ألتناهم » بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة « آلتناهم » بالمد؛ قال ابن الأعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يولته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ « الحجرات » .
قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: « كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين » [ المدثر: 38 ] . وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم.
قوله تعالى: « وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون » أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. « يتنازعون فيها كأسا » أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وقد مضى هذا في « والصافات » . « لا لغو فيها » أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو « ولا تأثيم » ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل: « لا لغو فيها » أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! « ولا تأثيم » أي ولا كذب؛ قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: « لا لغو فيها ولا تأثيم » بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في « البقرة » عند قوله تعالى: « ولا خلة ولا شفاعة » [ البقرة: 254 ] والحمد لله.
قوله تعالى: « ويطوف عليهم غلمان لهم » أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب؛ ودليله: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب » [ الزخرف: 71 ] ، « يطاف عليهم بكأس من معين » [ الصافات: 45 ] . ثم قيل: هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا « كأنهم » في الحسن والبياض « لؤلؤ مكنون » في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: « يطوف عليهم ولدان مخلدون » [ الواقعة: 17 ] . قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك ) . وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه ) . وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم؟ فقال: ( ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب ) . قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا؛ تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة.
الآيات: 25 - 28 ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم )
قوله تعالى: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة « يتساءلون » أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ « قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين » أي قال كل مسؤول منهم لسائله: « إنا كنا قبل » أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. « فمن الله علينا » بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. « ووقانا عذاب السموم » قال الحسن: « السموم » اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر؛ قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه
قوله تعالى: « إنا كنا من قبل ندعوه » أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: « ندعوه » أي نعبده. « إنه هو البر الرحيم » وقرأ نافع والكسائي « أنه » بفتح الهمزة؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و « البر » اللطيف؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.
=========
الآيات: 17 - 20 ( إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين )
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات ونعيم » لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا « فاكهين » أي ذوي فاكهة كثيرة؛ يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر؛ أي ذو لبن وتمر؛ قال:
وغررتني وزعمت أنـ ـك لابنٌ بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: « فكهين » بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره؛ يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في « الدخان » القول في هذا. « بما آتاهم » أي أعطاهم « ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم » « كلوا واشربوا » أي يقال لهم ذلك. « هنيئا بما كنتم تعملون » الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه « هنيئا » . وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم « هنيئا » فهو صفة في موضع المصدر. « هنيئا » : أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: « هنيئا » أي لا تموتون؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء.
قوله تعالى: « متكئين على سرر » سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. « مصفوفة » قال ابن الأعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن؛ من قول الله تعالى: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.
الآيات: 21 - 24 ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين، وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون )
قوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم » قرأ العامة « وأتبعتهم » بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو « وأتبعناهم » بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون؛ أعتبارا بقوله: « ألحقنا بهم » ليكون الكلام على نسق واحد. « ذريتهم » الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون « ذريتهم » على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون « ذريتهم » على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في « الناسخ والمنسوخ » له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان » الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: « بإيمان » في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير « بإيمان » من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: « بإيمان » حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية؛ كقوله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: ( هما في النار ) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: ( لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ) قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: ( في الجنة ) ثم قال: ( إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » الآية.
قوله تعالى: « وما ألتناهم من عملهم من شيء » أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: « والذين أمنوا » . وقال ابن زيد: المعنى « وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل؛ فالهاء والميم على، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير « وما ألتناهم » بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة « آلتناهم » بالمد؛ قال ابن الأعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يولته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ « الحجرات » .
قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: « كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين » [ المدثر: 38 ] . وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم.
قوله تعالى: « وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون » أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. « يتنازعون فيها كأسا » أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وقد مضى هذا في « والصافات » . « لا لغو فيها » أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو « ولا تأثيم » ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل: « لا لغو فيها » أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! « ولا تأثيم » أي ولا كذب؛ قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: « لا لغو فيها ولا تأثيم » بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في « البقرة » عند قوله تعالى: « ولا خلة ولا شفاعة » [ البقرة: 254 ] والحمد لله.
قوله تعالى: « ويطوف عليهم غلمان لهم » أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب؛ ودليله: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب » [ الزخرف: 71 ] ، « يطاف عليهم بكأس من معين » [ الصافات: 45 ] . ثم قيل: هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا « كأنهم » في الحسن والبياض « لؤلؤ مكنون » في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: « يطوف عليهم ولدان مخلدون » [ الواقعة: 17 ] . قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك ) . وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه ) . وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم؟ فقال: ( ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب ) . قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا؛ تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة.
الآيات: 25 - 28 ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم )
قوله تعالى: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة « يتساءلون » أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ « قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين » أي قال كل مسؤول منهم لسائله: « إنا كنا قبل » أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. « فمن الله علينا » بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. « ووقانا عذاب السموم » قال الحسن: « السموم » اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر؛ قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه
قوله تعالى: « إنا كنا من قبل ندعوه » أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: « ندعوه » أي نعبده. « إنه هو البر الرحيم » وقرأ نافع والكسائي « أنه » بفتح الهمزة؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و « البر » اللطيف؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الطور
=========
الآيات: 29 - 34 ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين )
قوله تعالى: « فذكر » أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. « فما أنت بنعمة ربك » يعني برسالة ربك « بكاهن » تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. « ولا مجنون » وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى « فما أنت بنعمة ربك » القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي برأك الله من ذلك.
قوله تعالى: « أم يقولون شاعر » أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن « أم » في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال:
أتهجر غانية أم تلم
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:
أم الحبل واه بها منجذم
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. « نتربص به ريب المنون » قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبي بضرب يؤلف بين أشتات المنون
أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: « ريب » في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور « ريب المنون » يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد: « ريب المنون » حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ريب المنون ودهر متبل خبل
قال الأصمعي: المنون والليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.
قوله تعالى: « قل تربصوا » أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. « فإني معكم من المتربصين » أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى: « أم تأمرهم أحلامهم » أي عقولهم « بهذا » أي بالكذب عليك. « أم هم قوم طاغون » أي أم طغوا بغير عقول. وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: « أحلامهم » أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال: ( مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » [ الملك: 10 ] ) . وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ( مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله ) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.
قوله تعالى: « أم يقولون تقوله » أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال:
ومنزلة في دار صدق وعبطة وما آقتال من حكم علي طبيب
فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. « بل لا يؤمنون » جحودا واستكبارا. « فليأتوا بحديث مثله » أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم « إن كانوا صادقين » في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري « فليأتوا بحديث مثله » بالإضافة. والهاء في « مثله » للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.
الآيات: 35 - 43 ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين، أم له البنات ولكم البنون، أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون، أم عندهم الغيب فهم يكتبون، أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون )
قوله تعالى: « أم خلقوا من غير شيء » « أم » صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس: من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى « من غير شيء » أي لغير شيء فـ « من » بمعنى اللام. « أم هم الخالقون » أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. « أم خلقوا السماوات والأرض » أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا « بل لا يوقنون » بالحق « أم عندهم خزائن ربك » أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن؛ لأن الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. « أم هم المسيطرون » قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر: « أم هم المسيطرون » أي هم الحفظة؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في « الصراط » [ الفاتحة: 6 ] .
قوله تعالى: « أم لهم سلم » أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا « يستمعون فيه » أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. « فليأت مستمعهم بسلطان مبين » أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته:
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها بسلم غرز في مناخ يعاجله
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر:
تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما
وقال ابن مقبل في الجمع:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا يبنى له في السموات السلاليم
الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. « يستمعون فيه » أي عليه؛ كقوله تعالى: « في جذوع النخل » [ طه: 71 ] أي عليها؛ قال الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.
قوله تعالى: « أم له البنات ولكم البنون » سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. « أم تسألهم أجرا » أي على تبليغ الرسالة. « فهم من مغرم مثقلون » أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به « مثقلون » مجهدون لما كلفتهم به.
قوله تعالى: « أم عندهم الغيب فهم يكتبون » أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أم القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى: « أم عندهم الغيب » حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم؛ ومنه قوله تعالى: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 54 ] أي حكم، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله ) أي بحكم الله.
قوله تعالى: « أم يريدون كيدا » أي مكرا بك في دار الندوة. « فالذين كفروا هم المكيدون » أي الممكور بهم « ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله » [ فاطر: 43 ] وذلك أنهم قتلوا ببدر. « أم لهم إله غير الله » يخلق ويرزق ويمنع. « سبحان الله عما يشركون » نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل: كل ما في سورة « والطور » من ذكر « أم » فكلمة استفهام وليس بعطف.
=========
الآيات: 29 - 34 ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين )
قوله تعالى: « فذكر » أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. « فما أنت بنعمة ربك » يعني برسالة ربك « بكاهن » تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. « ولا مجنون » وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى « فما أنت بنعمة ربك » القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي برأك الله من ذلك.
قوله تعالى: « أم يقولون شاعر » أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن « أم » في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال:
أتهجر غانية أم تلم
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:
أم الحبل واه بها منجذم
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. « نتربص به ريب المنون » قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبي بضرب يؤلف بين أشتات المنون
أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: « ريب » في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور « ريب المنون » يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد: « ريب المنون » حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ريب المنون ودهر متبل خبل
قال الأصمعي: المنون والليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.
قوله تعالى: « قل تربصوا » أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. « فإني معكم من المتربصين » أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى: « أم تأمرهم أحلامهم » أي عقولهم « بهذا » أي بالكذب عليك. « أم هم قوم طاغون » أي أم طغوا بغير عقول. وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: « أحلامهم » أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال: ( مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » [ الملك: 10 ] ) . وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ( مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله ) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.
قوله تعالى: « أم يقولون تقوله » أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال:
ومنزلة في دار صدق وعبطة وما آقتال من حكم علي طبيب
فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. « بل لا يؤمنون » جحودا واستكبارا. « فليأتوا بحديث مثله » أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم « إن كانوا صادقين » في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري « فليأتوا بحديث مثله » بالإضافة. والهاء في « مثله » للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.
الآيات: 35 - 43 ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين، أم له البنات ولكم البنون، أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون، أم عندهم الغيب فهم يكتبون، أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون )
قوله تعالى: « أم خلقوا من غير شيء » « أم » صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس: من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى « من غير شيء » أي لغير شيء فـ « من » بمعنى اللام. « أم هم الخالقون » أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. « أم خلقوا السماوات والأرض » أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا « بل لا يوقنون » بالحق « أم عندهم خزائن ربك » أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن؛ لأن الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. « أم هم المسيطرون » قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر: « أم هم المسيطرون » أي هم الحفظة؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في « الصراط » [ الفاتحة: 6 ] .
قوله تعالى: « أم لهم سلم » أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا « يستمعون فيه » أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. « فليأت مستمعهم بسلطان مبين » أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته:
مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها بسلم غرز في مناخ يعاجله
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر:
تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما
وقال ابن مقبل في الجمع:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا يبنى له في السموات السلاليم
الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. « يستمعون فيه » أي عليه؛ كقوله تعالى: « في جذوع النخل » [ طه: 71 ] أي عليها؛ قال الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.
قوله تعالى: « أم له البنات ولكم البنون » سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. « أم تسألهم أجرا » أي على تبليغ الرسالة. « فهم من مغرم مثقلون » أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به « مثقلون » مجهدون لما كلفتهم به.
قوله تعالى: « أم عندهم الغيب فهم يكتبون » أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أم القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى: « أم عندهم الغيب » حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم؛ ومنه قوله تعالى: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 54 ] أي حكم، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله ) أي بحكم الله.
قوله تعالى: « أم يريدون كيدا » أي مكرا بك في دار الندوة. « فالذين كفروا هم المكيدون » أي الممكور بهم « ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله » [ فاطر: 43 ] وذلك أنهم قتلوا ببدر. « أم لهم إله غير الله » يخلق ويرزق ويمنع. « سبحان الله عما يشركون » نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل: كل ما في سورة « والطور » من ذكر « أم » فكلمة استفهام وليس بعطف.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الطور
=========
الآيات: 44 - 46 ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون
قوله تعالى: « وإن يروا كسفا من السماء ساقطا » قال ذلك جوابا لقولهم: « فأسقط علينا كسفا من السماء » [ الشعراء: 187 ] ، وقولهم: « أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا » [ الإسراء: 92 ] فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا « سحاب مركوم »
أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ كسفا جعله واحدا، ومن قرأ « كسفا » جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في « الإسراء » وغيرها والحمد لله.
قوله تعالى: « فذرهم » منسوخ بآية السيف. « حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون » بفتح الياء قراءة العامة، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة الأولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل: « يصعقون » بضم الياء من أصعقه الله. « يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا » أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. « ولا هم ينصرون » من الله. و « يوم » منصوب على البدل من « يومهم الذي فيه يصعقون » .
الآيات: 47 - 49 ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم )
قوله تعالى: « وإن للذين ظلموا » أي كفروا « عذابا دون ذلك » قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ « دون » بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أن العذاب نازل بهم وقيل: « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ما يصيرون إليه.
قوله تعالى: « واصبر لحكم ربك » قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك؛ ثم نسخ بآية السيف. « فإنك بأعيننا » أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: « ولتصنع على عيني » أي بحفظي وحراستي وقد تقدم.
قوله تعالى: « وسبح بحمد ربك حين تقوم » اختلف في تأويل قوله: « حين تقوم » فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه؛ فيقول: سبحان الله وبحمده، أوسبحانك اللهم وبحمدك؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له؛ ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) قال: حديث حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور ) قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد؛ فإن قوله: « حين تقوم » لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح؛ منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعار في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أودعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ) خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت؛ ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته؛ وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا،كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: ( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك ) متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم من وجهه؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة « آل عمران » . وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال ( وجهت وجهي ) الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة « الأنعام » . وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ فقال: ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم » تقدم في « ق » مستوفى عند قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار السجود » [ ق: 49 ] . وأما « إدبار النجوم » فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: « وإدبار النجوم » يريد به صلاة الصبح وهو آختيار الطبري. وعن ابن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في « إدبار النجوم » قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في « ق » . وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع « وإدبار » بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب؛ وهو جمع دبر ودبر ودبر الأمر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب ) قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبدالله بن عبدالرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) . تم تفسير سورة « والطور » والحمد لله.
=========
الآيات: 44 - 46 ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون
قوله تعالى: « وإن يروا كسفا من السماء ساقطا » قال ذلك جوابا لقولهم: « فأسقط علينا كسفا من السماء » [ الشعراء: 187 ] ، وقولهم: « أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا » [ الإسراء: 92 ] فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا « سحاب مركوم »
أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ كسفا جعله واحدا، ومن قرأ « كسفا » جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في « الإسراء » وغيرها والحمد لله.
قوله تعالى: « فذرهم » منسوخ بآية السيف. « حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون » بفتح الياء قراءة العامة، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة الأولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل: « يصعقون » بضم الياء من أصعقه الله. « يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا » أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. « ولا هم ينصرون » من الله. و « يوم » منصوب على البدل من « يومهم الذي فيه يصعقون » .
الآيات: 47 - 49 ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم )
قوله تعالى: « وإن للذين ظلموا » أي كفروا « عذابا دون ذلك » قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ « دون » بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أن العذاب نازل بهم وقيل: « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ما يصيرون إليه.
قوله تعالى: « واصبر لحكم ربك » قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك؛ ثم نسخ بآية السيف. « فإنك بأعيننا » أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: « ولتصنع على عيني » أي بحفظي وحراستي وقد تقدم.
قوله تعالى: « وسبح بحمد ربك حين تقوم » اختلف في تأويل قوله: « حين تقوم » فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه؛ فيقول: سبحان الله وبحمده، أوسبحانك اللهم وبحمدك؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له؛ ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) قال: حديث حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور ) قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد؛ فإن قوله: « حين تقوم » لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح؛ منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعار في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أودعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ) خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت؛ ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته؛ وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا،كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: ( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك ) متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم من وجهه؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة « آل عمران » . وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال ( وجهت وجهي ) الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة « الأنعام » . وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ فقال: ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم » تقدم في « ق » مستوفى عند قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار السجود » [ ق: 49 ] . وأما « إدبار النجوم » فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: « وإدبار النجوم » يريد به صلاة الصبح وهو آختيار الطبري. وعن ابن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في « إدبار النجوم » قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في « ق » . وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع « وإدبار » بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب؛ وهو جمع دبر ودبر ودبر الأمر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب ) قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبدالله بن عبدالرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) . تم تفسير سورة « والطور » والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة النجم للقرطبى
======
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » [ النجم: 32 ] الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي « البخاري » عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد؛ فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبدالله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة « والنجم إذا هوى » [ النجم : 1 ] فلم يسجد. وقد مضى في آخر « الأعراف » القول في هذا والحمد لله.
الآيات: 1 - 10 ( والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى )
قوله تعالى: « والنجم إذا هوى » قال ابن عباس ومجاهد: معنى « والنجم إذا هوى » والثريا إذا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما؛ يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي « الشفا » للقاضي عياض: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل؛ لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع؛ كقول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين النساء
وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي: إن النجم ههنا الزهرة لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: « والنجم إذا هوى » أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: « والنجم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم « إذا هوى » إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابنته وطلقها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
وأصل النجم الطلوع؛ يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط؛ يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا؛ قال زهير:
فشج بها الأماعز وهي تهوي هوي الدلو أسلمها الرشاء
وقال آخر:
بينما نحن بالبلاكث فالقا ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكـ ـراك وهنا فما استطعت مضيا
الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك آنهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى بأجرمه من قلة النيق منهوي
وقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى؛ أي أحب.
قوله تعالى: « ما ضل صاحبكم » هذا جواب القسم؛ أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. « وما غوى » الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة؛ قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم؛ أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في « الشورى » عند قوله: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » [ الشورى: 52 ] .
قوله تعالى: « وما ينطق عن الهوى » قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه « إن هو إلا وحي يوحى » إليه. وقيل: « عن الهوى » أي بالهوى؛ قال أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: « فاسأل به خبيرا » [ الفرقان: 59 ] أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون « عن » على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: « إن هو إلا وحي يوحى » .
وقد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معد يكرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت « إن هو إلا وحي يوحى » من « ما ضل صاحبكم » قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن « إن » الخفيفة لا تكون مبدلة من « ما » الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد.
قوله تعالى: « علمه شديد القوى » يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين؛ سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: « ذو مرة » على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى؛ وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. « فاستوى » يعني الله عز وجل؛ أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: « فاستوى. وهو بالأفق الأعلى » أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ « هو » . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: استوى هو وفلان؛ وقلما يقولون استوى وفلان؛ وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ولا يستوي والخروع المتقصف
أي لا يستوي هو والخروع؛ ونظير هذا: « أإذا كنا ترابا وأباؤنا » [ النمل: 67 ] والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وأباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى. وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى « ذ ومرة » في وصفه ذو منطق حسن؛ قال ابن عباس. وقال قتادة: خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) . وقال امرؤ القيس :
كنت فيهم أبدا ذا حيلة محكم المرة مأمون العقد
وقد قيل: « ذو مرة » ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال :
ترى الرجل النحيف فتزدريه وحشو ثيابه أسد مرير
وقال لقيط :
حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا
وقال مجاهد وقتادة: « ذو مرة » ذو قوة؛ ومنه قول خفاف بن ندبة:
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني فيما ينوب من الخطوب صليب
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. « فاستوى » يعني جبريل على ما بينا؛ أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير. وقيل: « فاستوى » أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ) . فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: ( إن هذا لعظيم ) فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى: « ولقد رآه بالأفق المبين » [ التكوير: 23 ] وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى « فاستوى » أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى « فاستوى » فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.
قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام « ذو مرة » ، وعلى الثاني « شديد القوى » . وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا أنفا. الثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج. وقول سادس « فاستوى » يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في « الأعراف » .
قوله تعالى: « وهو بالأفق الأعلى » جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وأفق مثل عسر وعسر. وقد مضى في « حم السجدة » . وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى؛ قال الشاعر:
أرجل لمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت
وقيل: « وهو » أي النبي صلى الله عليه وسلم « بالأفق الأعلى » يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف؛ لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. « ثم دنا فتدلى » أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض « فتدلى » فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده » يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل « قاب قوسين أو أدنى » قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: « ثم دنا فتدلى » أن معناه أن الله تبارك وتعالى « دنا » من محمد صلى الله عليه وسلم « فتدلى » . وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب؛ قال لبيد :
فتدليت عليه قافلا وعلى الأرض غيابات الطفل
وذهب الفراء إلى أن الفاء في « فتدلى » بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو. وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل؛ كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد؛ لأن الدلال غير مرضي في صفة العبودية.
قوله تعالى: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أي « كان » محمد من ربه أو من جبريل « قاب قوسين » أي قدر قوسين عربيتين. قال ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: « فكان قاب قوسين » قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبوعلي في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
أي ذا مقدار مسافة إصبع « أو أدنى » أي على تقديركم؛ كقوله تعالى: « أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] . وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس؛ أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي « قاد » وقرئ « قيد » و « قدر » . ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: « قاب قوسين » أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ) . وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: آعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ) على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله؛ ويتأول في قوله عليه السلام: ( من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: « ثم دنا » جبريل من ربه « فكان قاب قوسين أو أدنى » قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: ( إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام ) . وقيل: ( أو ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: ( فكان قاب قوسين ) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي: قوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أراد قوسا واحدا؛ كقول الشاعر:
ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتين
أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس؛ وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي قسي وأقواس وقياس؛ وأنشد أبو عبيدة:
ووتر الأساور القياسا
والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب؛ قال الشاعر وذكر امرأة:
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس
قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى « فأوحى إلى عبده » جبريل عليه السلام « ما أوحى » . وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال : أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فأويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! « ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك » [ الانشراح: 4 ] . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
======
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » [ النجم: 32 ] الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي « البخاري » عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد؛ فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبدالله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة « والنجم إذا هوى » [ النجم : 1 ] فلم يسجد. وقد مضى في آخر « الأعراف » القول في هذا والحمد لله.
الآيات: 1 - 10 ( والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى )
قوله تعالى: « والنجم إذا هوى » قال ابن عباس ومجاهد: معنى « والنجم إذا هوى » والثريا إذا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما؛ يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي « الشفا » للقاضي عياض: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل؛ لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع؛ كقول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين النساء
وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي: إن النجم ههنا الزهرة لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: « والنجم إذا هوى » أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: « والنجم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم « إذا هوى » إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابنته وطلقها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
وأصل النجم الطلوع؛ يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط؛ يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا؛ قال زهير:
فشج بها الأماعز وهي تهوي هوي الدلو أسلمها الرشاء
وقال آخر:
بينما نحن بالبلاكث فالقا ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكـ ـراك وهنا فما استطعت مضيا
الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك آنهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى بأجرمه من قلة النيق منهوي
وقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى؛ أي أحب.
قوله تعالى: « ما ضل صاحبكم » هذا جواب القسم؛ أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. « وما غوى » الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة؛ قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم؛ أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في « الشورى » عند قوله: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » [ الشورى: 52 ] .
قوله تعالى: « وما ينطق عن الهوى » قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه « إن هو إلا وحي يوحى » إليه. وقيل: « عن الهوى » أي بالهوى؛ قال أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: « فاسأل به خبيرا » [ الفرقان: 59 ] أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون « عن » على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: « إن هو إلا وحي يوحى » .
وقد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معد يكرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت « إن هو إلا وحي يوحى » من « ما ضل صاحبكم » قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن « إن » الخفيفة لا تكون مبدلة من « ما » الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد.
قوله تعالى: « علمه شديد القوى » يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين؛ سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: « ذو مرة » على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى؛ وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. « فاستوى » يعني الله عز وجل؛ أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: « فاستوى. وهو بالأفق الأعلى » أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ « هو » . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: استوى هو وفلان؛ وقلما يقولون استوى وفلان؛ وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ولا يستوي والخروع المتقصف
أي لا يستوي هو والخروع؛ ونظير هذا: « أإذا كنا ترابا وأباؤنا » [ النمل: 67 ] والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وأباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى. وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى « ذ ومرة » في وصفه ذو منطق حسن؛ قال ابن عباس. وقال قتادة: خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) . وقال امرؤ القيس :
كنت فيهم أبدا ذا حيلة محكم المرة مأمون العقد
وقد قيل: « ذو مرة » ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال :
ترى الرجل النحيف فتزدريه وحشو ثيابه أسد مرير
وقال لقيط :
حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا
وقال مجاهد وقتادة: « ذو مرة » ذو قوة؛ ومنه قول خفاف بن ندبة:
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني فيما ينوب من الخطوب صليب
فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. « فاستوى » يعني جبريل على ما بينا؛ أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير. وقيل: « فاستوى » أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ) . فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: ( إن هذا لعظيم ) فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى: « ولقد رآه بالأفق المبين » [ التكوير: 23 ] وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى « فاستوى » أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى « فاستوى » فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.
قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام « ذو مرة » ، وعلى الثاني « شديد القوى » . وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا أنفا. الثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج. وقول سادس « فاستوى » يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في « الأعراف » .
قوله تعالى: « وهو بالأفق الأعلى » جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وأفق مثل عسر وعسر. وقد مضى في « حم السجدة » . وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى؛ قال الشاعر:
أرجل لمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت
وقيل: « وهو » أي النبي صلى الله عليه وسلم « بالأفق الأعلى » يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف؛ لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. « ثم دنا فتدلى » أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض « فتدلى » فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده » يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل « قاب قوسين أو أدنى » قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: « ثم دنا فتدلى » أن معناه أن الله تبارك وتعالى « دنا » من محمد صلى الله عليه وسلم « فتدلى » . وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب؛ قال لبيد :
فتدليت عليه قافلا وعلى الأرض غيابات الطفل
وذهب الفراء إلى أن الفاء في « فتدلى » بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو. وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل؛ كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد؛ لأن الدلال غير مرضي في صفة العبودية.
قوله تعالى: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أي « كان » محمد من ربه أو من جبريل « قاب قوسين » أي قدر قوسين عربيتين. قال ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: « فكان قاب قوسين » قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبوعلي في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
أي ذا مقدار مسافة إصبع « أو أدنى » أي على تقديركم؛ كقوله تعالى: « أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] . وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس؛ أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي « قاد » وقرئ « قيد » و « قدر » . ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: « قاب قوسين » أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ) . وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: آعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ) على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله؛ ويتأول في قوله عليه السلام: ( من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: « ثم دنا » جبريل من ربه « فكان قاب قوسين أو أدنى » قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: ( إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام ) . وقيل: ( أو ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: ( فكان قاب قوسين ) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي: قوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أراد قوسا واحدا؛ كقول الشاعر:
ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتين
أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس؛ وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي قسي وأقواس وقياس؛ وأنشد أبو عبيدة:
ووتر الأساور القياسا
والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب؛ قال الشاعر وذكر امرأة:
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس
قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى « فأوحى إلى عبده » جبريل عليه السلام « ما أوحى » . وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال : أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فأويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! « ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك » [ الانشراح: 4 ] . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة النجم
=========
الآيات: 11 - 18 ( ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى )
قوله تعالى: « ما كذب الفؤاد ما رأى » أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؛ وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في « الأنعام » عند قوله: « لا تدركه » الأبصار وهو يدرك الأبصار « [ الأنعام: 103 ] . وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: ( رأيته بفؤادي مرتين ) ثم قرأ: « ما كذب الفؤاد ما رأى » . وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته؛ قال الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك ) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( نور أني أراه ) المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى ( رأيت نورا ) . وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام » ما كذب « بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. فـ » ما « مفعول بغير حرف مقدر؛ لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون » ما « بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا؛ أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى؛ فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:»
لوكنت صادقة الذي حدثتني لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى.
قوله تعالى: « أفتمارونه على ما يرى » قرأ حمزة والكسائي « أفتمرونه » بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد؛ لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا؛ قال الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أي جحدته. وقال المبرد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك؛ أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد « أفتمرونه » بضم التاء من غير ألف من أمريت؛ أي تريبونه وتشككونه. الباقون « أفتمارونه » بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله؛ والمعنيان متداخلان؛ لأن مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد؛ قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم.
قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » « نزلة » مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه ( قال: « ما كذب الفؤاد ما رأى » « ولقد رآه نزلة أخرى » قال: رآه بفؤاده مرتين؛ فقوله: « نزلة أخرى » يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة ) وعلى هذا قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت ) ذكره المهدوي.
قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » « عند » من صلة « رآه » على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم؛ الأول ما رواه مرة عن عبدالله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ) لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء؛ ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال: ( يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ) . واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول: ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني: أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها؛ قاله ابن عباس. الثالث: أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها؛ قاله الضحاك. الرابع: لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها؛ قاله كعب. الخامس: سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء؛ قاله الربيع بن أنس. السادس: لأنه تنتهي إليها أرواح المؤمنين؛ قاله قتادة. السابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه؛ قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن: هي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق؛ قاله كعب أيضا.
قلت: يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رؤوس حملة العرش؛ ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش. والله أعلم.
التاسع: سميت بذلك لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك؛ فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ! وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها؛ ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: « عندها جنة المأوى » تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبدالله بن الزبير ومجاهد « عندها جنة المأوى » يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة « جنة المأوى » قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء؛ قال ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة. وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم.
قوله تعالى: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها؟ قال: ( فراش من ذهب ) . وفي خبر آخر ( غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ) . وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » ) ذكره المهدوي والثعلبي. وقال أنس بن مالك: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: ( يغشاها رفرف من طير خضر ) . وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة؛ أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: ( فلما غشيها من أمر الله ما غشي ) . وقيل: هو تعظيم الأمر؛ كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » « والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى » [ النجم: 53 ] ومثله: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] . وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم آختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختصى بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية؛ فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية؛ فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار.
قوله تعالى: « ما زاغ البصر وما طغى » قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به. وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبدالله قال: ( « رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال البيهقي: قوله في الحديث ( رأى رفرفا ) يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له؛ فقد روي أنه رآه في حلة رفرف.
قلت: خرجه الترمذي عن عبدالله قال: ( « ما كذب الفؤاد ما رأى » قال: رأى وسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: « دنا فتدلى » أنه على التقديم والتأخير؛ أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: ( فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات وسمعت كلام ربي ) فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبدالرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات؛ وكذا في صحيح مسلم عن عبدالله قال: « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب؛ حكاه الماوردي. وقيل: رأى المعراج. وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ وهو أحسن؛ دليله: « لنريه من آياتنا » [ الإسراء: 1 ] و « من » يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون « الكبرى » مفعولة لـ « رأى » وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرؤوس الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى؛ كقوله تعالى: « ولي فيها مآرب أخرى » [ طه: 18 ] وقيل: « الكبرى » نعت لمحذوف؛ أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون « من » زائدة؛ أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي رأى الكبرى من آيات ربه.
الآيات: 19 - 22 ( أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى )
قوله تعالى: « أفرأيتم اللات والعزى » لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال هشام: فكانت مناة لهذيل وخزاعة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما أفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: ( ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى ) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فأعضد الثانية ) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فاعضد الثالثة ) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال:
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ( تلك العزى ولن تعبد أبدا ) وقال ابن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت كان ببطن نخلة. ومناة: صنم لخزاعة. وقيل: إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ الله، والعزى من العزيز، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح « اللات » بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج ذكر البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على ألهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل ل غنيمه يسلي منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال الشاعر:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها وكيف ينصركم من ليس ينتصر
والقراءة الصحيحة « اللات » بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاه لذات ولاه للات وقرأ « أفرأيتم اللاه » وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير « اللاه » بالهاء في الوقف، ومن قال: إن « اللات » من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل: أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهة وهي من لاهت أي آختفت؛ قال الشاعر:
لاهت فما عرفت يوما بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء؛ قال الأخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع؛ فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه؛ لأن الألف واللام اللتين في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين؛ وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الأمر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها؛ إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات؛ لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، وإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد.
قوله تعالى: « ومناة الثالثة الأخرى » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي والأعشى عن أبي بكر « ومناءة » بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل. الباقون بالتاء اتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مريمد ويقصر؛ قال هوبر الحارثي :
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة على الشنء فيما بيننا ابن تميم
« الأخرى » العرب لا تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي؛ كقوله: « مآرب أخرى » [ طه: 18 ] ولم يقل آخر. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: إنما قال « ومناة الثالثة الأخرى » لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن ابن هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم؛ والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام؛ أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: « ألكم الذكر وله الأنثى » ردًّا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. « تلك إذا » يعني هذه القسمة « قسمة ضيزى » أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا - عن الأخفش - أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد :
فإن تنا عنا ننتقصك وإن تقم فقسمك مضؤوز وأنفك راغم
وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص؛ قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب
قوله تعالى: « قسمة ضيزى » أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى؛ وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء؛ لأنه ليس في الكلام فعل صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضئزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه. سمع العرب تهمز « ضيزى » . قال غيره: وبها قرأ ابن كثير؛ جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة؛ إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى؛ إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو؛ فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض، والأصل بوض؛ مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
=========
الآيات: 11 - 18 ( ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى )
قوله تعالى: « ما كذب الفؤاد ما رأى » أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؛ وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في « الأنعام » عند قوله: « لا تدركه » الأبصار وهو يدرك الأبصار « [ الأنعام: 103 ] . وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: ( رأيته بفؤادي مرتين ) ثم قرأ: « ما كذب الفؤاد ما رأى » . وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته؛ قال الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك ) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( نور أني أراه ) المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى ( رأيت نورا ) . وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام » ما كذب « بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. فـ » ما « مفعول بغير حرف مقدر؛ لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون » ما « بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا؛ أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى؛ فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:»
لوكنت صادقة الذي حدثتني لنجوت منجى الحارث بن هشام
أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى.
قوله تعالى: « أفتمارونه على ما يرى » قرأ حمزة والكسائي « أفتمرونه » بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد؛ لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا؛ قال الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا
أي جحدته. وقال المبرد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك؛ أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد « أفتمرونه » بضم التاء من غير ألف من أمريت؛ أي تريبونه وتشككونه. الباقون « أفتمارونه » بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله؛ والمعنيان متداخلان؛ لأن مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد؛ قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم.
قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » « نزلة » مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه ( قال: « ما كذب الفؤاد ما رأى » « ولقد رآه نزلة أخرى » قال: رآه بفؤاده مرتين؛ فقوله: « نزلة أخرى » يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة ) وعلى هذا قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت ) ذكره المهدوي.
قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » « عند » من صلة « رآه » على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم؛ الأول ما رواه مرة عن عبدالله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ) لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء؛ ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال: ( يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ) . واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول: ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني: أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها؛ قاله ابن عباس. الثالث: أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها؛ قاله الضحاك. الرابع: لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها؛ قاله كعب. الخامس: سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء؛ قاله الربيع بن أنس. السادس: لأنه تنتهي إليها أرواح المؤمنين؛ قاله قتادة. السابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه؛ قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن: هي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق؛ قاله كعب أيضا.
قلت: يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رؤوس حملة العرش؛ ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش. والله أعلم.
التاسع: سميت بذلك لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك؛ فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ! وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها؛ ذكره الثعلبي.
قوله تعالى: « عندها جنة المأوى » تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبدالله بن الزبير ومجاهد « عندها جنة المأوى » يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة « جنة المأوى » قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء؛ قال ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة. وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم.
قوله تعالى: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها؟ قال: ( فراش من ذهب ) . وفي خبر آخر ( غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ) . وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » ) ذكره المهدوي والثعلبي. وقال أنس بن مالك: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: ( يغشاها رفرف من طير خضر ) . وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة؛ أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: ( فلما غشيها من أمر الله ما غشي ) . وقيل: هو تعظيم الأمر؛ كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » « والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى » [ النجم: 53 ] ومثله: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] . وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم آختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختصى بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية؛ فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية؛ فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار.
قوله تعالى: « ما زاغ البصر وما طغى » قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به. وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبدالله قال: ( « رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال البيهقي: قوله في الحديث ( رأى رفرفا ) يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له؛ فقد روي أنه رآه في حلة رفرف.
قلت: خرجه الترمذي عن عبدالله قال: ( « ما كذب الفؤاد ما رأى » قال: رأى وسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: « دنا فتدلى » أنه على التقديم والتأخير؛ أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: ( فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات وسمعت كلام ربي ) فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبدالرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات؛ وكذا في صحيح مسلم عن عبدالله قال: « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب؛ حكاه الماوردي. وقيل: رأى المعراج. وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ وهو أحسن؛ دليله: « لنريه من آياتنا » [ الإسراء: 1 ] و « من » يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون « الكبرى » مفعولة لـ « رأى » وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرؤوس الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى؛ كقوله تعالى: « ولي فيها مآرب أخرى » [ طه: 18 ] وقيل: « الكبرى » نعت لمحذوف؛ أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون « من » زائدة؛ أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي رأى الكبرى من آيات ربه.
الآيات: 19 - 22 ( أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى )
قوله تعالى: « أفرأيتم اللات والعزى » لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال هشام: فكانت مناة لهذيل وخزاعة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما أفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: ( ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى ) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فأعضد الثانية ) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فاعضد الثالثة ) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال:
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ( تلك العزى ولن تعبد أبدا ) وقال ابن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت كان ببطن نخلة. ومناة: صنم لخزاعة. وقيل: إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ الله، والعزى من العزيز، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح « اللات » بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج ذكر البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على ألهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل ل غنيمه يسلي منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال الشاعر:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها وكيف ينصركم من ليس ينتصر
والقراءة الصحيحة « اللات » بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاه لذات ولاه للات وقرأ « أفرأيتم اللاه » وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير « اللاه » بالهاء في الوقف، ومن قال: إن « اللات » من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل: أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهة وهي من لاهت أي آختفت؛ قال الشاعر:
لاهت فما عرفت يوما بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء؛ قال الأخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع؛ فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه؛ لأن الألف واللام اللتين في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين؛ وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الأمر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها؛ إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات؛ لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، وإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد.
قوله تعالى: « ومناة الثالثة الأخرى » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي والأعشى عن أبي بكر « ومناءة » بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل. الباقون بالتاء اتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مريمد ويقصر؛ قال هوبر الحارثي :
ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة على الشنء فيما بيننا ابن تميم
« الأخرى » العرب لا تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي؛ كقوله: « مآرب أخرى » [ طه: 18 ] ولم يقل آخر. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: إنما قال « ومناة الثالثة الأخرى » لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن ابن هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم؛ والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام؛ أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: « ألكم الذكر وله الأنثى » ردًّا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. « تلك إذا » يعني هذه القسمة « قسمة ضيزى » أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا - عن الأخفش - أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد :
فإن تنا عنا ننتقصك وإن تقم فقسمك مضؤوز وأنفك راغم
وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص؛ قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب
قوله تعالى: « قسمة ضيزى » أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى؛ وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء؛ لأنه ليس في الكلام فعل صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضئزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه. سمع العرب تهمز « ضيزى » . قال غيره: وبها قرأ ابن كثير؛ جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة؛ إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى؛ إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو؛ فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض، والأصل بوض؛ مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة النجم
=======
الآيات: 23 - 26 ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أم للإنسان ما تمنى، فلله الآخرة والأولى، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )
قوله تعالى: « إن هي إلا أسماء سميتموها » أي ما هي يعني هذه الأوثان « إلا أسماء سميتموها » يعني نحتموها وسميتموها آلهة. « أنتم وآباؤكم » أي قلدتموهم في ذلك. « ما أنزل الله بها من سلطان » أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. « إن يتبعون إلا الظن » عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. « وما تهوى الأنفس » أي تميل إليه. وقراءة العامة « يتبعون » بالياء. وقرأ عيسى بن عمو وأيوب وابن السميقع « تتبعون » بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. « ولقد جاءهم من ربهم الهدى » أي البيان من جهة الرسول أنها ليست، بآلهة. « أم للإنسان ما تمنى » أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل: « للإنسان ما تمنى » من البنين؛ أي يكون له دون البنات. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من غير جزاء ليس الأمر كذلك. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من شفاعة الأصنام؛ نزلت في النضر بن الحرث. وقيل: في الوليد بن المغيرة. وقيل: في سائر الكفار. « فلله الآخرة والأولى » يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد.
قوله تعالى: « وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش: الملك واحد ومعناه جمع؛ وهو كقوله تعالى: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] . وقيل: إنما ذكر ملكا واحدا، لأن كم تدل على الجمع.
الآيات: 27 - 30 ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى )
قوله تعالى: « إن الذين لا يؤمنون بالآخرة » هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والأصنام بنات الله. « ليسمون الملائكة تسمية الأنثى » أي كتسمية الأنثى، أي يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. « وما لهم به من علم » أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب. « إن يتبعون » أي ما يتبعون « إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا » في أن الملائكة إناث. « فأعرض عمن تولى عن ذكرنا » يعني القرآن والإيمان. وهذا منسوخ بآية السيف. « ولم يرد إلا الحياة الدنيا » نزلت في النضر. وقيل: في الوليد. « ذلك مبلغهم من العلم » أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم؛ أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله. « إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله » أي حاد عن دينه « وهو أعلم بمن اهتدى » فيجازي كلا بأعمالهم.
الآيات: 31 - 32 ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )
قوله تعالى: « ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى » اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه « ولله ما في السموات وما في الأرض » كأنه قال: هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقيل: « لله ما في السموات وما في الأرض » معترض في الكلام؛ والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن آهتدى ليجزي. وقيل: هي لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الأرض؛ أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيء ومحسن؛ فللمسيء السوءى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة.
قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » هذا نعت للمحسنين؛ أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك؛ لأنه أكبر الآثام. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي « كبير » على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك. « والفواحش » الزنى: وقال مقاتل: « كبائر الإثم » كل ذنب ختم بالنار. « والفواحش » كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في « النساء » القول في هذا. ثم استثنى استئناء منقطعا فقال: « إلا اللمم » وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: « اللمم » كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار؛ كان له حانوت يبيع فيه تمرا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع؛ فقال: ( لعل زوجها غاز ) فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر « هود » وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج؛ فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ) . خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان: ( وزنى الشفتين القبلة ) . فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
إن يغفر الله يغفر جما وأي عبد لك لا ألما
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل « إلا اللمم » قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده؛ قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » [ آل عمران : 135 ] الآية. ثم قال: « أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم » [ آل عمران: 136 ] فضمن لهم المغفرة؛ كما قال عقيب اللمم: « إن ربك واسع المغفرة » فعلى هذا التأويل يكون « إلا اللمم » استثناء متصل. قال عبدالله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي : اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة؛ فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه؛ وهو كقوله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة؛ قال نفطويه. قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما؛ أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري :
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب
أي آقرب. وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم على القلب؛ أي خطر. وقال محمد ابن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن للشيطان لمة وللملك لمة ) الحديث. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « الشيطان يعدكم الفقر » . وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه؛ يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما؛ أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال؛ قال الأعشى :
ألم خيال من قتيلة بعدما وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل: إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة.
قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في « النور » بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشيء القليل؛ قال الشاعر:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيال
قوله تعالى: « إن ربك واسع المغفرة » لمن تاب من ذنبه واستغفر؛ قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. « هو أعلم بكم » من أنفسكم « إذ أنشأكم من الأرض » يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبدالله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على آختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على آختلاف الهيئات؛ منهم كالدر يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادا من بعض؛ فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة ) فقال قائل: يا رسول الله! ومن مضى من الخلق؟ قال: ( نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق أحد ) قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات؟ قال: ( نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها ) .
قلت: وقد تقدم في أول « الأنعام » أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها. « وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم » جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنابه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقى، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقى ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر؟!. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صديق؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: « هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض » إلى آخرها. ونحوه عن عائشة: ( كان اليهود ) . بمثله. « فلا تزكوا أنفسكم » أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع. « هو أعلم بمن اتقى » أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله؛ عن الحسن وغيره. قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في « النساء » الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم » [ النساء: 49 ] فتأمله هناك. وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الآيات: 33 - 35 ( أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى )
قوله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » الآيات لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: « وأعطى قليلا » أي من الخير بلسانه « وأكدى » أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت: « أفرأيت الذي تولى » الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبدالله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة فأنزل الله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق؛ فذلك قوله تعالى : - « وأعطى قليلا وأكدى » . وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل « أكدى » من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وغيره: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر. وكديت يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه، وكدت الأرض تكدو كدوا وكدوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها؛ عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله: « وأعطى قليلا وأكدى » أي قطع القليل.
قوله تعالى: « أعنده علم الغيب فهو يرى » أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟. « فهو يرى » أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان؛ كأنه قال: فهو يرى الغيب مثل الشهادة.
=======
الآيات: 23 - 26 ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أم للإنسان ما تمنى، فلله الآخرة والأولى، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )
قوله تعالى: « إن هي إلا أسماء سميتموها » أي ما هي يعني هذه الأوثان « إلا أسماء سميتموها » يعني نحتموها وسميتموها آلهة. « أنتم وآباؤكم » أي قلدتموهم في ذلك. « ما أنزل الله بها من سلطان » أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. « إن يتبعون إلا الظن » عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. « وما تهوى الأنفس » أي تميل إليه. وقراءة العامة « يتبعون » بالياء. وقرأ عيسى بن عمو وأيوب وابن السميقع « تتبعون » بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. « ولقد جاءهم من ربهم الهدى » أي البيان من جهة الرسول أنها ليست، بآلهة. « أم للإنسان ما تمنى » أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل: « للإنسان ما تمنى » من البنين؛ أي يكون له دون البنات. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من غير جزاء ليس الأمر كذلك. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من شفاعة الأصنام؛ نزلت في النضر بن الحرث. وقيل: في الوليد بن المغيرة. وقيل: في سائر الكفار. « فلله الآخرة والأولى » يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد.
قوله تعالى: « وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش: الملك واحد ومعناه جمع؛ وهو كقوله تعالى: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] . وقيل: إنما ذكر ملكا واحدا، لأن كم تدل على الجمع.
الآيات: 27 - 30 ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى )
قوله تعالى: « إن الذين لا يؤمنون بالآخرة » هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والأصنام بنات الله. « ليسمون الملائكة تسمية الأنثى » أي كتسمية الأنثى، أي يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. « وما لهم به من علم » أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب. « إن يتبعون » أي ما يتبعون « إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا » في أن الملائكة إناث. « فأعرض عمن تولى عن ذكرنا » يعني القرآن والإيمان. وهذا منسوخ بآية السيف. « ولم يرد إلا الحياة الدنيا » نزلت في النضر. وقيل: في الوليد. « ذلك مبلغهم من العلم » أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم؛ أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله. « إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله » أي حاد عن دينه « وهو أعلم بمن اهتدى » فيجازي كلا بأعمالهم.
الآيات: 31 - 32 ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )
قوله تعالى: « ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى » اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه « ولله ما في السموات وما في الأرض » كأنه قال: هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقيل: « لله ما في السموات وما في الأرض » معترض في الكلام؛ والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن آهتدى ليجزي. وقيل: هي لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الأرض؛ أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيء ومحسن؛ فللمسيء السوءى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة.
قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » هذا نعت للمحسنين؛ أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك؛ لأنه أكبر الآثام. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي « كبير » على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك. « والفواحش » الزنى: وقال مقاتل: « كبائر الإثم » كل ذنب ختم بالنار. « والفواحش » كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في « النساء » القول في هذا. ثم استثنى استئناء منقطعا فقال: « إلا اللمم » وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: « اللمم » كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار؛ كان له حانوت يبيع فيه تمرا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع؛ فقال: ( لعل زوجها غاز ) فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر « هود » وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج؛ فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ) . خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان: ( وزنى الشفتين القبلة ) . فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
إن يغفر الله يغفر جما وأي عبد لك لا ألما
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل « إلا اللمم » قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده؛ قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » [ آل عمران : 135 ] الآية. ثم قال: « أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم » [ آل عمران: 136 ] فضمن لهم المغفرة؛ كما قال عقيب اللمم: « إن ربك واسع المغفرة » فعلى هذا التأويل يكون « إلا اللمم » استثناء متصل. قال عبدالله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي : اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة؛ فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه؛ وهو كقوله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة؛ قال نفطويه. قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما؛ أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري :
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب
أي آقرب. وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم على القلب؛ أي خطر. وقال محمد ابن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن للشيطان لمة وللملك لمة ) الحديث. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « الشيطان يعدكم الفقر » . وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه؛ يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما؛ أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال؛ قال الأعشى :
ألم خيال من قتيلة بعدما وهى حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل: إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة.
قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في « النور » بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشيء القليل؛ قال الشاعر:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيال
قوله تعالى: « إن ربك واسع المغفرة » لمن تاب من ذنبه واستغفر؛ قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. « هو أعلم بكم » من أنفسكم « إذ أنشأكم من الأرض » يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبدالله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على آختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على آختلاف الهيئات؛ منهم كالدر يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادا من بعض؛ فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة ) فقال قائل: يا رسول الله! ومن مضى من الخلق؟ قال: ( نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق أحد ) قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات؟ قال: ( نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها ) .
قلت: وقد تقدم في أول « الأنعام » أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها. « وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم » جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنابه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم:
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقى، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقى ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر؟!. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صديق؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: « هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض » إلى آخرها. ونحوه عن عائشة: ( كان اليهود ) . بمثله. « فلا تزكوا أنفسكم » أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع. « هو أعلم بمن اتقى » أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله؛ عن الحسن وغيره. قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في « النساء » الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم » [ النساء: 49 ] فتأمله هناك. وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الآيات: 33 - 35 ( أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى )
قوله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » الآيات لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: « وأعطى قليلا » أي من الخير بلسانه « وأكدى » أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت: « أفرأيت الذي تولى » الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبدالله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة فأنزل الله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق؛ فذلك قوله تعالى : - « وأعطى قليلا وأكدى » . وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل « أكدى » من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي وغيره: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر. وكديت يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه، وكدت الأرض تكدو كدوا وكدوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها؛ عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله: « وأعطى قليلا وأكدى » أي قطع القليل.
قوله تعالى: « أعنده علم الغيب فهو يرى » أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟. « فهو يرى » أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان؛ كأنه قال: فهو يرى الغيب مثل الشهادة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة النجم
======
الآيات: 36 - 42 ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى )
قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » أي صحف « وإبراهيم الذي وفى » كما في سورة « الأعلى » « صحف إبراهيم وموسى » [ الأعلى: 19 ] أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى؛ كما قال « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه؛ قاله الهذيل بن شرحبيل. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة « وفى » خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة « وفي » بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » [ البقرة: 124 ] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما آدعى؛ وذلك أن الله تعالى قال له: « أسلم قال أسلمت لرب العالمين » [ البقرة: 131 ] فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك؛ فذلك قوله: « وإبراهيم الذي وفى » أي آدعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ( ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم « الذي وفى » لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ) الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وفى » أي وفى ما أرسل به، وهو قوله: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة؛ فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى « وفى » : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد: « وفى » بما فرض عليه. وقال أبو مالك الغفاري قوله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » إلى قوله: « فبأي آلاء ربك تتمارى » [ النجم: 55 ] في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر « الأنعام » القول في « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] مستوفى.
قوله تعالى: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » [ الطور: 21 ] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا » [ النساء: 11 ] . وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبدالرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: ( نعم ) قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ( سقي الماء ) . وقد مضى جميع هذا مستوفى في « البقرة » و « آل عمران » و « الأعراف » . وقد قيل: إن الله عز وجل إنما قال: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
قلت: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة اختلاف، كما في صدر كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك. وفي الصحيح: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ) وفيه ( أو ولد صالح يدعو له ) وهذا كله تفضل من الله عز وجل، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة؛ كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) فقال سمعته يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) فهذا تفضل. وطريق العدل « أن ليس للإنسان إلا ما سعى » .
قلت: ويحتمل أن يكون قوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » خاص في السيئة؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ) . وقال أبو بكر الوراق: « إلا ما سعى » إلا ما نوى؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: ( يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم ) .
قوله تعالى: « وأن سعيه سوف يرى » أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة « ثم يجزاه » أي يجزى به « الجزاء الأوفى » قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين.
قوله تعالى: « وأن إلى ربك المنتهى » أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وأن إلى ربك المنتهى » قال: ( لا فكرة في الرب ) . وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذ ذكر الله تعالى فانته ) . قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ) وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) . ولقد أحسن من قال:
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها وقل مثل ما قال الخليل المبجل
الآيات: 43 - 46 ( وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى )
قوله تعالى: « وأنه هو أضحك وأبكى » ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قط إن المت يعذب ببكاء أحد، ، ولكنه قال: ( إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى ) . وعنها قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: « وأنه هو أضحك وأبكى » . فرجع إليهم فقال: ( ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: « هو أضحك وأبكى » أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في، « النمل » و « التوبة » . قال الحسن: أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أضحك الأشجار بالنوار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبدالله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبدالله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد :
السن تضحك والأحشاء تحترق وإنما ضحكها زور ومختلق
يارب باك بعين لا دموع لها ورب ضاحك سن ما به رمق
وقيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. « وأنه هو أمات وأحيا » أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] قاله ابن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان؛ قال الله تعالى: « أومن كان ميتا فأحييناه » [ الأنعام : 122 ] الآية. وقال: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » على ما تقدم، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة. والنطفة الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. « تمنى » تصب في الرحم وتراق؛ قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال: منى الرجل وأمنى من المني، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل: « تمنى » تقدر؛ قاله أبو عبيدة. يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ومني له أي قدر له؛ قال الشاعر:
حتى تلاقي ما يَمني لك الماني
أي ما يقدر لك القادر.
الآيات: 47 - 55 ( وأن عليه النشأة الأخرى، وأنه هو أغنى وأقنى، وأنه هو رب الشعرى، وأنه أهلك عادا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى )
قوله تعالى: « وأن عليه النشأة الأخرى » أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « النشأة » بفتح الشين والمد؛ أي وعد ذلك ووعده صدق. « وأنه هو أغنى وأقنى » قال ابن زيد: أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ « يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » [ سبأ : 39 ] وقرأ « يقبض ويبسط » [ البقرة: 245 ] واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن: « أغنى » مول « وأقنى » أخدم. وقيل: « أقنى » جعل لكم قنية تقتنونها، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل: معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه؛ قاله ابن عباس. وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قنى؛ مثل غني يغنى غنى، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه الله أيضا أي رضاه. والقنى الرضا، عن أبي زيد؛ قال وتقول العرب: من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال: أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل: « أغنى وأقنى » أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه؛ قال سليمان التيمي. وقال سفيان: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش: أقنى أفقر. قال ابن كيسان: أولد. وهذا راجع لما تقدم. « وأنه هو رب الشعرى » « الشعرى » الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع؛ وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره؛ لأن العرب كانت تعبده؛ فأعلمهم الله جل وعز أن الشعرى مربوب ليس برب. واختلف فيمن كان يعبده؛ فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم؛ وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، قال الشاعر:
مضى أيلول وارتفع الحرور وأخبت نارها الشعرى العبور
وقيل: إن العرب تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى.
قوله تعالى: « وأنه أهلك عادا الأولى » سماها الأولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل: إن ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق: هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الأولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، وعاد الثانية من ولد عاد الأولى؛ والمعنى متقارب. وقيل: إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة « عادا الأولى » ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو « عادا الأولى » بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها؛ والعرب تقلب هذا القلب فتقول: قم الان عنا وضمَّ لِثنين أي قم الآن وضم الاثنين. « وثمود فما أبقى » ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ « ثمودا » [ التوبة: 70 ] وقد تقدم. وانتصب على العطف على عاد. « وقوم نوح من قبل » أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود « إنهم كانوا هم أظلم وأطغى » وذلك لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك؛ فيموت الكبير على الكفر، ومنشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: إن الكناية ترجع لى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح؛ أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكأنه يقول له: فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. « والمؤتفكة أهوى » يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. « أهوى » أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء؛ رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد: جعلها تهوي. ويقال: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط و « أهوى » أي أسقط. « فغشاها ما غشى » أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة؛ قال الله تعالى: « فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » [ الحجر: 74 ] وقيل: إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم؛ أي غشاها من العذاب ما غشاهم، وأبهم لأن كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل: هذا تعظيم الأمر. « فبأي آلاء ربك تتمارى » أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب « تمارى » بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد
الآيات: 56 - 62 ( هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا )
قوله تعالى: « هذا نذير من النذر الأولى » قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » [ النجم: 37 ] إلى قوله: « هذا نذير من النذر الأولى » كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: « أزفت الآزفة » أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده؛ كما قال: « يرونه بعيدا ونراه قريبا » [ المعارج: 6 - 7 ] . وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال:
ازف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد؛ ومنه قوله تعالى: « أزفت الآزفة » يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد : قلت لأعرابي ما المحبنطئ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. « ليس لها من دون الله كاشفة » أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل: كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله؛ فالكاشفة آسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية؛ كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يرد ذلك؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف؛ أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إن « كاشفة » بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.
قوله تعالى: « أفمن هذا الحديث » يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ « تعجبون » تكذيبا به « وتضحكون » استهزاء « ولا تبكون » انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة: لما نزلت « أفمن هذا الحديث تعجبون » قال أهل الصفة: « إنا لله وإنا إليه راجعون » ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم ) . وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان؛ فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. « وأنتم سامدون » أي لاهون معرضون. عن ابن عباس؛ رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير؛ يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد؛ قال :
سوامد الليل خفاف الأزواد
يقول: ليس في بطونها علف. وقال ابن الأعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي؛ يقال للقينه: أسمدينا؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى « سامدون » أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظر بن الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام؛ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: ( مالي أراكم سامدين ) حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال: ( مالكم سامدون ) قال المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا
وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون » لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم ذكره النحاس.
قوله تعالى: « فاسجدوا لله واعبدوا » قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. و. هو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 ] وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضى، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في « الحج » . فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا؛ فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر « الأعراف » مبينا والحمد لله رب العالمين.
======
الآيات: 36 - 42 ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى )
قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » أي صحف « وإبراهيم الذي وفى » كما في سورة « الأعلى » « صحف إبراهيم وموسى » [ الأعلى: 19 ] أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى؛ كما قال « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه؛ قاله الهذيل بن شرحبيل. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة « وفى » خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة « وفي » بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » [ البقرة: 124 ] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما آدعى؛ وذلك أن الله تعالى قال له: « أسلم قال أسلمت لرب العالمين » [ البقرة: 131 ] فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك؛ فذلك قوله: « وإبراهيم الذي وفى » أي آدعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ( ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم « الذي وفى » لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ) الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وفى » أي وفى ما أرسل به، وهو قوله: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة؛ فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى « وفى » : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد: « وفى » بما فرض عليه. وقال أبو مالك الغفاري قوله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » إلى قوله: « فبأي آلاء ربك تتمارى » [ النجم: 55 ] في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر « الأنعام » القول في « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] مستوفى.
قوله تعالى: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » [ الطور: 21 ] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا » [ النساء: 11 ] . وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبدالرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: ( نعم ) قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ( سقي الماء ) . وقد مضى جميع هذا مستوفى في « البقرة » و « آل عمران » و « الأعراف » . وقد قيل: إن الله عز وجل إنما قال: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.
قلت: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة اختلاف، كما في صدر كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك. وفي الصحيح: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ) وفيه ( أو ولد صالح يدعو له ) وهذا كله تفضل من الله عز وجل، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة؛ كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) فقال سمعته يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) فهذا تفضل. وطريق العدل « أن ليس للإنسان إلا ما سعى » .
قلت: ويحتمل أن يكون قوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » خاص في السيئة؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ) . وقال أبو بكر الوراق: « إلا ما سعى » إلا ما نوى؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: ( يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم ) .
قوله تعالى: « وأن سعيه سوف يرى » أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة « ثم يجزاه » أي يجزى به « الجزاء الأوفى » قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد
فجمع بين اللغتين.
قوله تعالى: « وأن إلى ربك المنتهى » أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وأن إلى ربك المنتهى » قال: ( لا فكرة في الرب ) . وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذ ذكر الله تعالى فانته ) . قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ) وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) . ولقد أحسن من قال:
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها وقل مثل ما قال الخليل المبجل
الآيات: 43 - 46 ( وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى )
قوله تعالى: « وأنه هو أضحك وأبكى » ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قط إن المت يعذب ببكاء أحد، ، ولكنه قال: ( إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى ) . وعنها قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: « وأنه هو أضحك وأبكى » . فرجع إليهم فقال: ( ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: « هو أضحك وأبكى » أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في، « النمل » و « التوبة » . قال الحسن: أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أضحك الأشجار بالنوار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبدالله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبدالله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد :
السن تضحك والأحشاء تحترق وإنما ضحكها زور ومختلق
يارب باك بعين لا دموع لها ورب ضاحك سن ما به رمق
وقيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. « وأنه هو أمات وأحيا » أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] قاله ابن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان؛ قال الله تعالى: « أومن كان ميتا فأحييناه » [ الأنعام : 122 ] الآية. وقال: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » على ما تقدم، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة. والنطفة الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. « تمنى » تصب في الرحم وتراق؛ قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال: منى الرجل وأمنى من المني، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل: « تمنى » تقدر؛ قاله أبو عبيدة. يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ومني له أي قدر له؛ قال الشاعر:
حتى تلاقي ما يَمني لك الماني
أي ما يقدر لك القادر.
الآيات: 47 - 55 ( وأن عليه النشأة الأخرى، وأنه هو أغنى وأقنى، وأنه هو رب الشعرى، وأنه أهلك عادا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى )
قوله تعالى: « وأن عليه النشأة الأخرى » أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « النشأة » بفتح الشين والمد؛ أي وعد ذلك ووعده صدق. « وأنه هو أغنى وأقنى » قال ابن زيد: أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ « يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » [ سبأ : 39 ] وقرأ « يقبض ويبسط » [ البقرة: 245 ] واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن: « أغنى » مول « وأقنى » أخدم. وقيل: « أقنى » جعل لكم قنية تقتنونها، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل: معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه؛ قاله ابن عباس. وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قنى؛ مثل غني يغنى غنى، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه الله أيضا أي رضاه. والقنى الرضا، عن أبي زيد؛ قال وتقول العرب: من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال: أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل: « أغنى وأقنى » أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه؛ قال سليمان التيمي. وقال سفيان: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش: أقنى أفقر. قال ابن كيسان: أولد. وهذا راجع لما تقدم. « وأنه هو رب الشعرى » « الشعرى » الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع؛ وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره؛ لأن العرب كانت تعبده؛ فأعلمهم الله جل وعز أن الشعرى مربوب ليس برب. واختلف فيمن كان يعبده؛ فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم؛ وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، قال الشاعر:
مضى أيلول وارتفع الحرور وأخبت نارها الشعرى العبور
وقيل: إن العرب تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى.
قوله تعالى: « وأنه أهلك عادا الأولى » سماها الأولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل: إن ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق: هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الأولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، وعاد الثانية من ولد عاد الأولى؛ والمعنى متقارب. وقيل: إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة « عادا الأولى » ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو « عادا الأولى » بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها؛ والعرب تقلب هذا القلب فتقول: قم الان عنا وضمَّ لِثنين أي قم الآن وضم الاثنين. « وثمود فما أبقى » ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ « ثمودا » [ التوبة: 70 ] وقد تقدم. وانتصب على العطف على عاد. « وقوم نوح من قبل » أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود « إنهم كانوا هم أظلم وأطغى » وذلك لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك؛ فيموت الكبير على الكفر، ومنشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: إن الكناية ترجع لى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح؛ أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكأنه يقول له: فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. « والمؤتفكة أهوى » يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. « أهوى » أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء؛ رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد: جعلها تهوي. ويقال: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط و « أهوى » أي أسقط. « فغشاها ما غشى » أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة؛ قال الله تعالى: « فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » [ الحجر: 74 ] وقيل: إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم؛ أي غشاها من العذاب ما غشاهم، وأبهم لأن كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل: هذا تعظيم الأمر. « فبأي آلاء ربك تتمارى » أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب « تمارى » بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد
الآيات: 56 - 62 ( هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا )
قوله تعالى: « هذا نذير من النذر الأولى » قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » [ النجم: 37 ] إلى قوله: « هذا نذير من النذر الأولى » كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: « أزفت الآزفة » أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده؛ كما قال: « يرونه بعيدا ونراه قريبا » [ المعارج: 6 - 7 ] . وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال:
ازف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد؛ ومنه قوله تعالى: « أزفت الآزفة » يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد : قلت لأعرابي ما المحبنطئ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. « ليس لها من دون الله كاشفة » أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل: كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله؛ فالكاشفة آسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية؛ كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يرد ذلك؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف؛ أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إن « كاشفة » بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.
قوله تعالى: « أفمن هذا الحديث » يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ « تعجبون » تكذيبا به « وتضحكون » استهزاء « ولا تبكون » انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة: لما نزلت « أفمن هذا الحديث تعجبون » قال أهل الصفة: « إنا لله وإنا إليه راجعون » ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم ) . وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان؛ فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. « وأنتم سامدون » أي لاهون معرضون. عن ابن عباس؛ رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير؛ يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد؛ قال :
سوامد الليل خفاف الأزواد
يقول: ليس في بطونها علف. وقال ابن الأعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي؛ يقال للقينه: أسمدينا؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى « سامدون » أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظر بن الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام؛ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: ( مالي أراكم سامدين ) حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال: ( مالكم سامدون ) قال المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا
وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون » لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم ذكره النحاس.
قوله تعالى: « فاسجدوا لله واعبدوا » قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. و. هو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 ] وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضى، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في « الحج » . فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا؛ فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر « الأعراف » مبينا والحمد لله رب العالمين.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة القمر للقرطبى
========
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات: « أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر » ولا يصح على ما يأتي. وهي خمس وخمسون آية.
الآيات: 1 - 8 ( اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر، حكمة بالغة فما تغن النذر، فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر، خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر )
قوله تعالى: « اقتربت الساعة وانشق القمر » « اقتربت » أي قربت مثل « أزفت الآزفة » [ النجم: 57 ] على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: ( ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى ) وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب: الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس.
قوله تعالى: « وانشق القمر » أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة « اقتربت الساعة وقد انشق القمر » بزيادة « قد » وعلى هذا الجمهور من العلماء؛ ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر » إلى قوله: « سحر مستمر » يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال: انشق القمر فرقتين. وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر؛ أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر؛ وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي: أن هذا قول الجمهور، وقال: لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل: « وانشق القمر » أي وضح الأمر وظهر؛ والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح؛ قال:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى حي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقا؛ لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داع
قلت: وقد ثبت بنقل الأحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها؛ لأنها كانت آية ليلية؛ وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبدالمطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: هو على التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة؛ قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى: « ثم دنا فتدلى » [ النجم: 8 ] .
قوله تعالى: « وإن يروا آية يعرضوا » هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فعلت تؤمنون ) قالوا: نعم؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا؛ فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: ( يا فلان يا فلان اشهدوا ) . وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا من سحر بن أبي كبشة؛ سحركم فاسألوا السفار؛ فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا » أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان « ويقولوا سحر مستمر » أي ذاهب؛ من قولهم: مر الشيء واستمر إذا ذهب؛ قال أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك: محكم قوي شديد، وهو من المرة وهي القوة؛ كما قال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا قحما ولا ضرعا
وقال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل: معناه مر من المرارة. يقال: أمر الشيء صار مرا، وكذلك مر الشيء يمر بالفتح مرارة فهو مر، وأمره غيره ومره. وقال الربيع: مستمر نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل. وقيل: دائم. قال:
وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم. وقيل: يشبه بعضه بعضا؛ أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا. يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل: معناه قد مر من الأرض إلى السماء. « وكذبوا » نبينا « واتبعوا أهواءهم » أي ضلالاتهم واختياراتهم. « وكل أمر مستقر » أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة « مستقر » بفتح القاف؛ أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع « وكل أمر مستقر » بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و « كل » على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة؛ المعنى: اقتربت الساعة وكل أمر مستقر؛ أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن « كل » .
قوله تعالى: « ولقد جاءهم من الأنباء » أي من بعض الأنباء؛ فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك؛ وذلك قوله تعالى: « ولقد جاءهم من الأنباء » أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية « ما فيه مزدجر » أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا؛ لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و « مزدجر » من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال:
فأصبح ما يطلب الغانيا ت مزدجرا عن هواه ازدجارا
وقرئ « مزجر » بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى: « حكمة بالغة » يعني القران وهو بدل من « ما » من قوله: « ما فيه مزدجر » ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف؛ أي هو حكمة. « فما تغن النذر » إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: « وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون » [ يونس: 101 ] فـ « ما » نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ؛ أي فأي شيء تغني، النذر عنهم وهم معرضون عنها و « النذر » يجوز أن تكون بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون جمع نذير. « فتول عنهم »
أي أعرض عنهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو تمام الكلام. « يوم يدع الداعي إلى شيء نكر » العامل في « يوم » « يخرجون من الأجداث » أو « خشعا » أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر، تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل: تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون « إلى شيء نكر » وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير « نكر » بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل، ومعناه الأمر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرأ « إلى شيء نكر » بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. « خشعا أبصارهم » الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان؛ قال الله تعالى: « أبصارها خاشعة » [ النازعات: 9 ] وقال تعالى: « خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي » [ الشورى: 45 ] . ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو « خاشعا » بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: « خاشعا أبصارهم » والتأنيث نحو: « خاشعة أبصارهم » [ القلم: 43 ] ويجوز الجمع نحو: « خشعا أبصارهم » قال:
وشباب حسن أوجههم من إياد بن نزار بن معد
و « خشعا » جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في « عنهم » فيقبح الوقف على هذا التقدير على « عنهم » . ويجوز أن يكون حالا من المضمر في « يخرجون » فيوقف على « عنهم » . وقرئ « خشع أبصارهم » على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله:
وجدته حاضراه الجود والكرم
قوله تعالى: « يخرجون من الأجداث » أي القبور واحدها جدث. « كأنهم جراد منتشر » وقال في موضع آخر: « يوم يكون الناس كالفراش المبثوث » [ القارعة: 4 ] فهما صفتان في وقتين مختلفين؛ أحدهما: عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها الثاني: فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد له جهة يقصدها. و « مهطعين إلى الداعي » معناه مسرعين؛ قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
الضحاك: مقبلين. قتادة: عامدين. ابن عباس: ناظرين. عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال: هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه؛ وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. « يقول الكافرون هذا يوم عسر » يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.
========
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات: « أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر » ولا يصح على ما يأتي. وهي خمس وخمسون آية.
الآيات: 1 - 8 ( اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر، حكمة بالغة فما تغن النذر، فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر، خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر )
قوله تعالى: « اقتربت الساعة وانشق القمر » « اقتربت » أي قربت مثل « أزفت الآزفة » [ النجم: 57 ] على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: ( ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى ) وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب: الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس.
قوله تعالى: « وانشق القمر » أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة « اقتربت الساعة وقد انشق القمر » بزيادة « قد » وعلى هذا الجمهور من العلماء؛ ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر » إلى قوله: « سحر مستمر » يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال: انشق القمر فرقتين. وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر؛ أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر؛ وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي: أن هذا قول الجمهور، وقال: لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل: « وانشق القمر » أي وضح الأمر وظهر؛ والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح؛ قال:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى حي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقا؛ لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داع
قلت: وقد ثبت بنقل الأحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها؛ لأنها كانت آية ليلية؛ وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبدالمطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: هو على التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة؛ قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى: « ثم دنا فتدلى » [ النجم: 8 ] .
قوله تعالى: « وإن يروا آية يعرضوا » هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن فعلت تؤمنون ) قالوا: نعم؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا؛ فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: ( يا فلان يا فلان اشهدوا ) . وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا من سحر بن أبي كبشة؛ سحركم فاسألوا السفار؛ فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا » أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان « ويقولوا سحر مستمر » أي ذاهب؛ من قولهم: مر الشيء واستمر إذا ذهب؛ قال أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك: محكم قوي شديد، وهو من المرة وهي القوة؛ كما قال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا قحما ولا ضرعا
وقال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل: معناه مر من المرارة. يقال: أمر الشيء صار مرا، وكذلك مر الشيء يمر بالفتح مرارة فهو مر، وأمره غيره ومره. وقال الربيع: مستمر نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل. وقيل: دائم. قال:
وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم. وقيل: يشبه بعضه بعضا؛ أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا. يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل: معناه قد مر من الأرض إلى السماء. « وكذبوا » نبينا « واتبعوا أهواءهم » أي ضلالاتهم واختياراتهم. « وكل أمر مستقر » أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة « مستقر » بفتح القاف؛ أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع « وكل أمر مستقر » بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و « كل » على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة؛ المعنى: اقتربت الساعة وكل أمر مستقر؛ أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن « كل » .
قوله تعالى: « ولقد جاءهم من الأنباء » أي من بعض الأنباء؛ فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك؛ وذلك قوله تعالى: « ولقد جاءهم من الأنباء » أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية « ما فيه مزدجر » أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا؛ لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و « مزدجر » من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال:
فأصبح ما يطلب الغانيا ت مزدجرا عن هواه ازدجارا
وقرئ « مزجر » بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها؛ حكاه الزمخشري.
قوله تعالى: « حكمة بالغة » يعني القران وهو بدل من « ما » من قوله: « ما فيه مزدجر » ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف؛ أي هو حكمة. « فما تغن النذر » إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: « وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون » [ يونس: 101 ] فـ « ما » نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ؛ أي فأي شيء تغني، النذر عنهم وهم معرضون عنها و « النذر » يجوز أن تكون بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون جمع نذير. « فتول عنهم »
أي أعرض عنهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو تمام الكلام. « يوم يدع الداعي إلى شيء نكر » العامل في « يوم » « يخرجون من الأجداث » أو « خشعا » أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر، تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل: تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون « إلى شيء نكر » وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير « نكر » بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل، ومعناه الأمر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرأ « إلى شيء نكر » بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. « خشعا أبصارهم » الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان؛ قال الله تعالى: « أبصارها خاشعة » [ النازعات: 9 ] وقال تعالى: « خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي » [ الشورى: 45 ] . ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو « خاشعا » بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: « خاشعا أبصارهم » والتأنيث نحو: « خاشعة أبصارهم » [ القلم: 43 ] ويجوز الجمع نحو: « خشعا أبصارهم » قال:
وشباب حسن أوجههم من إياد بن نزار بن معد
و « خشعا » جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في « عنهم » فيقبح الوقف على هذا التقدير على « عنهم » . ويجوز أن يكون حالا من المضمر في « يخرجون » فيوقف على « عنهم » . وقرئ « خشع أبصارهم » على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله:
وجدته حاضراه الجود والكرم
قوله تعالى: « يخرجون من الأجداث » أي القبور واحدها جدث. « كأنهم جراد منتشر » وقال في موضع آخر: « يوم يكون الناس كالفراش المبثوث » [ القارعة: 4 ] فهما صفتان في وقتين مختلفين؛ أحدهما: عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض؛ فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها الثاني: فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر؛ لأن الجراد له جهة يقصدها. و « مهطعين إلى الداعي » معناه مسرعين؛ قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
الضحاك: مقبلين. قتادة: عامدين. ابن عباس: ناظرين. عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال: هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه؛ وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. « يقول الكافرون هذا يوم عسر » يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة القمر
=======
الآيات: 9 - 17 ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر، ولقد تركناها آية فهل من مدكر، فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. « قبلهم » أي قبل قومك. « فكذبوا عبدنا » يعني نوحا. الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: « فكذبوا » بعد قوله: « كذبت » ؟ قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. « وقالوا مجنون » أي هو مجنون « وازدجر » أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال: « وازدجر » بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية. « فدعا ربه » أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب « أني مغلوب » أي غلبوني بتمردهم « فانتصر » أي فانتصر لي. وقيل: إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. « ففتحنا أبواب السماء » أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء « بماء منهمر » أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر:
أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معد وحاضر
وقيل: إنه المنصب المتدفق؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا:
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
الهمر الصب؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب: « ففتحنا » مشددة على التكثير. الباقون « ففتحنا » مخففا. ثم قيل، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل: إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر؛ قاله علي رضي الله عنه. « وفجرنا الأرض عيونا » قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. « فالتقى الماء » أي ماء السماء وماء الأرض « على أمر قد قدر » أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل: « قدر » بمعنى قضي عليهم. قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء؛ وتلا هذه الآية. وقال: « التقى الماء » والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل: لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري: « فالتقى الماءان » . وقرأ الحسن: « فالتقى الماوان » وهما خلاف المرسوم. القشيري: وفي بعض المصاحف « فالتقى الماوان » وهي لغة طيء. وقيل: كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. « وحملناه على ذات ألواح » أي على سفينة ذات ألواح. « ودسر » قال قتادة: يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر الدفع والمخر؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال: الدسر كلكل السفينة. وقال الليث: الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح: الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير، وقال تعالى: « على ذات ألواح ودسر » . ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع؛ قال ابن عباس في العنبر: إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر.
قوله تعالى: « تجري بأعيننا » أي بمرأى منا. وقيل: بأمرنا. وقيل: بحفظ منا وكلاءة: وقد مضى في « هود » . ومنه قول الناس للمودع: عين الله عليك؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل: بوحينا. وقيل: أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل: أي تجري بأوليائنا، كما في الخبر: مرض عين من عيوننا فلم تعده. « جزاء لمن كان كفر » أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به؛ فاللام في « لمن » لام المفعول له؛ وقيل: « كفر » أي جحد؛ ف « من » كناية عن نوح. وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد « جزاء لمن كان كفر » بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق.
قوله تعالى: « ولقد تركناها آية » يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. « فهل من مدكر » متعظ خائف، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. « فكيف كان عذابي ونذر » أي إنذاري؛ قال الفراء: إنذاري؛ قال مصدران. وقيل: « نذر » جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار. « ولقد يسرنا القرآن للذكر » أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه؛ قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران؛ وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت؛ على ما تقدم بيانه في سورة « التوبة » فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه؛ أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. « فهل من مدكر » قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: « فهل من مذكر » لأن « هل » كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم؛ فاللام من « هل » للاستعراض والهاء للاستخراج.
الآيات: 18 - 22 ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت عاد » هم قوم هود. « فكيف كان عذابي ونذر » وقعت « نذر » في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين، وورش في الوصل لا غير، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله: « فما تغن النذر » [ القمر: 5 ] والواو من قوله: « يدع » فأما الياء من « الداع » الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل، وحذف الباقون. وأما « الداع » الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل، وحذفها الباقون « إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا » أي شديدة البرد؛ قاله قتادة والضحاك. وقيل: شديدة الصوت. وقد مضى في « حم السجدة » . « في يوم نحس مستمر » أي في يوم كان مشؤوما عليهم. وقال ابن عباس: أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج: قيل في يوم أربعاء. ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هارون الأعور « نحس » بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في فصلت « في أيام نحسات » [ فصلت: 16 ] . و « في يوم نحس مستمر » أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك: كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة؛ يقال: مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال: فذوقوا « والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل: هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل: فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في » البقرة « حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين؛ كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القران؛ نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم؛ ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار، وقول جابر في حديثه » لم ينزل بي أمر غليظ « إشارة إلى هذا. والله أعلم.»
قوله تعالى: « تنزع الناس » في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل: تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( انتزعت الريح الناس من قبورهم ) . وقيل: حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد:
ذهب الدهر بعمرو بـ ـن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلـ ـقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر يح أيام البليات
الطبري: في الكلام حذف، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر؛ فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى تنزع الناس والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء، وكانت عاد موصوفين بطول القامة، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال: « أعجاز نخل منقعر » للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر: المنقلع من أصله؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي: قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري: سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، فقيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: « ولسليمان الريح عاصفة » [ الأنبياء: 81 ] و « جاءتها ريح عاصف » [ يونس: 22 ] ، وقوله: « كأنهم أعجاز نخل خاوية » [ الحاقة: 7 ] و « أعجاز نخل منقعر » ؟ فقال: كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل: إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث، كما ذكرنا. « فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » تقدم.
=======
الآيات: 9 - 17 ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر، ولقد تركناها آية فهل من مدكر، فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت قبلهم قوم نوح » ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. « قبلهم » أي قبل قومك. « فكذبوا عبدنا » يعني نوحا. الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: « فكذبوا » بعد قوله: « كذبت » ؟ قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا؛ أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا؛ أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل. « وقالوا مجنون » أي هو مجنون « وازدجر » أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال: « وازدجر » بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية. « فدعا ربه » أي دعا عليهم حينئذ نوح فقال رب « أني مغلوب » أي غلبوني بتمردهم « فانتصر » أي فانتصر لي. وقيل: إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه. « ففتحنا أبواب السماء » أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء « بماء منهمر » أي كثير. ؛ قاله السدي. قال الشاعر:
أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معد وحاضر
وقيل: إنه المنصب المتدفق؛ ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا:
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
الهمر الصب؛ وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر. الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب: « ففتحنا » مشددة على التكثير. الباقون « ففتحنا » مخففا. ثم قيل، : إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل: إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر؛ قاله علي رضي الله عنه. « وفجرنا الأرض عيونا » قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. « فالتقى الماء » أي ماء السماء وماء الأرض « على أمر قد قدر » أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر؛ حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والأرض سواء. وقيل: « قدر » بمعنى قضي عليهم. قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء؛ وتلا هذه الآية. وقال: « التقى الماء » والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل: لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري: « فالتقى الماءان » . وقرأ الحسن: « فالتقى الماوان » وهما خلاف المرسوم. القشيري: وفي بعض المصاحف « فالتقى الماوان » وهي لغة طيء. وقيل: كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم. « وحملناه على ذات ألواح » أي على سفينة ذات ألواح. « ودسر » قال قتادة: يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت؛ وقال القرظي وابن زيد وابن جبير ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر الدفع والمخر؛ ورواه العوفي عن ابن عباس قال: الدسر كلكل السفينة. وقال الليث: الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح: الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير، وقال تعالى: « على ذات ألواح ودسر » . ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع؛ قال ابن عباس في العنبر: إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر.
قوله تعالى: « تجري بأعيننا » أي بمرأى منا. وقيل: بأمرنا. وقيل: بحفظ منا وكلاءة: وقد مضى في « هود » . ومنه قول الناس للمودع: عين الله عليك؛ أي حفظه وكلاءته. وقيل: بوحينا. وقيل: أي بالأعين النابعة من الأرض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل: أي تجري بأوليائنا، كما في الخبر: مرض عين من عيوننا فلم تعده. « جزاء لمن كان كفر » أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به؛ فاللام في « لمن » لام المفعول له؛ وقيل: « كفر » أي جحد؛ ف « من » كناية عن نوح. وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب؛ أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد « جزاء لمن كان كفر » بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق؛ كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق.
قوله تعالى: « ولقد تركناها آية » يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. « فهل من مدكر » متعظ خائف، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. « فكيف كان عذابي ونذر » أي إنذاري؛ قال الفراء: إنذاري؛ قال مصدران. وقيل: « نذر » جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار. « ولقد يسرنا القرآن للذكر » أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر مأخوذ من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه؛ قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران؛ وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت؛ على ما تقدم بيانه في سورة « التوبة » فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه؛ أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. « فهل من مدكر » قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين؛ فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: « فهل من مذكر » لأن « هل » كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم؛ فاللام من « هل » للاستعراض والهاء للاستخراج.
الآيات: 18 - 22 ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت عاد » هم قوم هود. « فكيف كان عذابي ونذر » وقعت « نذر » في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين، وورش في الوصل لا غير، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله: « فما تغن النذر » [ القمر: 5 ] والواو من قوله: « يدع » فأما الياء من « الداع » الأول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل، وحذف الباقون. وأما « الداع » الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل، وحذفها الباقون « إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا » أي شديدة البرد؛ قاله قتادة والضحاك. وقيل: شديدة الصوت. وقد مضى في « حم السجدة » . « في يوم نحس مستمر » أي في يوم كان مشؤوما عليهم. وقال ابن عباس: أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج: قيل في يوم أربعاء. ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هارون الأعور « نحس » بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في فصلت « في أيام نحسات » [ فصلت: 16 ] . و « في يوم نحس مستمر » أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك: كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة؛ يقال: مر الشيء وأمر أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس. وقد قال: فذوقوا « والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل: هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل: فإذا كان يوم الأربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في » البقرة « حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الأربعاء يوم نحس مستمر ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين؛ كما كانت الأيام النحسات المذكورة في القران؛ نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الأربعاء إلى أن تزول الشمس، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم؛ ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار، وقول جابر في حديثه » لم ينزل بي أمر غليظ « إشارة إلى هذا. والله أعلم.»
قوله تعالى: « تنزع الناس » في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل: تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( انتزعت الريح الناس من قبورهم ) . وقيل: حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد:
ذهب الدهر بعمرو بـ ـن حلي والهنيات
ثم بالحرث والهلـ ـقام طلاع الثنيات
والذي سد مهب الر يح أيام البليات
الطبري: في الكلام حذف، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر؛ فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى تنزع الناس والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التي كانوا فيها. والأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء، وكانت عاد موصوفين بطول القامة، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال: « أعجاز نخل منقعر » للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر: المنقلع من أصله؛ قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي: قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها، وكذلك الإناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الأنباري: سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، فقيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: « ولسليمان الريح عاصفة » [ الأنبياء: 81 ] و « جاءتها ريح عاصف » [ يونس: 22 ] ، وقوله: « كأنهم أعجاز نخل خاوية » [ الحاقة: 7 ] و « أعجاز نخل منقعر » ؟ فقال: كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل: إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث، كما ذكرنا. « فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » تقدم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة القمر
=======
الآيات: 23 - 26 ( كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر، أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر، سيعلمون غدا من الكذاب الأشر )
قوله تعالى: « كذبت ثمود بالنذر » هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر « فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه » وندع جماعة. وقرأ أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي « أبشر » بالرفع « واحد » كذلك رفع بالابتداء والخبر « نتبعه » . الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال: « أبشر » بالرفع « منا واحدا » بالنصب، رفع « أبشر » بإضمار فعل يدل عليه « أألقي » كأنه قال: أينبأ بشر منا، وقوله: « واحدا » يجوز أن يكون حالا من المضمر في « منا » والناصب له الظرف، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا؛ ويجوز أن يكون حالا من الضمير في « نتبعه » منفردا لا ناصر له. « إنا إذا لفي ضلال » أي ذهاب عن الصواب « وسعر » أي جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته:
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ذميل وإيقاع من السير متعب
الذميل ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد: إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل، ثم الرسيم؛ يقال: ذمل ويذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي: ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج. وقال ابن عباس أيضا: السعر العذاب، وقاله الفراء. مجاهد: بعد الحق. السدي: في احتراق. قال:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة: هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية: إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.
قوله تعالى: « أألقي الذكر عليه من بيننا » أي خصص بالرسالة من بين ال ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟! وهو استفهام معناه الإنكار. « بل هو كذاب أشر » أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال: فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا:
فيدركنا فغم داجن سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حني الضلوع تبوع أريب نشيط أشر
وقيل: « أشر » بطر. والأشر البطر؛ قال الشاعر:
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى؛ قال الشاعر:
وخلت وعولا أشارى بها وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل: إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها؛ والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد: الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة « أشر » بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. « سيعلمون غدا » أي سيرون العذاب يوم القيامة، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله: « غدا » على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا؛ قال:
للموت فيها سهام غير مخطئة من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. « من الكذاب الأشر » وقرأ أبو قلابة « الأشر » بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر؛ كقول رؤية:
بلال خير الناس وابن الأخير
وإنما يقولون هو خير قومه، وهو شر الناس؛ قال الله تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] وقال: « فسيعلمون من هو شر مكانا » [ مريم: 75 ] . وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف، قال النحاس: وهو معنى « الأشر » ومثله رجل حذر وحذر.
الآيات: 27 - 32 ( إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر، ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر، فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « إنا مرسلو الناقة » أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء وبراء. « فتنة لهم » أي اختبارا وهو مفعول له. « فارتقبهم » أي انتظر ما يصنعون. « واصطبر » أي اصبر على أذاهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق. « ونبئهم » أي أخبرهم « أن الماء قسمة بينهم » أي بين ال ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما قال تعالى: « لها شرب ولكم شرب يوم معلوم » [ الشعراء: 155 ] . قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال: « بينهم » لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: ( أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها ) وهو معنى قوله تعالى: « ونبئهم أن الماء قسمة بينهم. كل شرب محتضر » الشرب - بالكسر - الحظ من الماء؛ وفي المثل: ( آخرها أقلها شربا ) وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى « محتضر » أي يحضره من هو له؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم؛ قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.
قوله تعالى: « فنادوا صاحبهم » يعني بالحض على عقرها « فتعاطى فعقر » ومعنى تعاطى تناول الفعل؛ من قولهم: عطوت أي تناولت؛ ومنه قول حسان:
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
قال محمد بن إسحاق: فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاءة واحدة: تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح عليه السلام؛ فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا المعنى. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. ويقال في اسمه قدار ابن سالف. وقال الأفوه الأودي:
أو قبله كقدار حين تابعه على الغواية أقوام فقد بادوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم ال ثمود؛ قال مهلهل:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ضرب القدار نقيعة القدام
وذكره زهير فقال:
فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد الحرب؛ فكنى عن ثمود بعاد.
قوله تعالى: « إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة » يريد صيحة جبريل عليه السلام، وقد مضى في « هود » . « فكانوا كهشيم المحتظر » وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية « المحتظر » بفتح الظاء أرادو الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح: والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرئ « كهشيم المحتظر » فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير: إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد: أواه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي: من فتح الظاء من « المحتظر » فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون « المحتظر » هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس: « المحتظر » هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك؛ فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال:
أثرن عجاجة كدخان نار تشب بغرقد بال هشيم
وعنه: كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا: كالعظام النخرة المحترقة، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا، وهو فعيل بمعنى مفعول وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع، والمحتظر المفتعل يقال منه: احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله؛ قال الشاعر:
ترى جيف المطي بجانبيه كأن عظامها خشب الهشيم
وعن ابن عباس: أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم؛ فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبلة والتبن. « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر »
الآيات: 33 - 40 ( كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر، ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر، فذوقوا عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت قوم لوط بالنذر » خبر عن قوم لوط أيضا لما كذبوا لوطا. « إنا أرسلنا عليهم حاصبا » أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى؛ قال النضر: الحاصب الحصباء في الريح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحجارة. وفي الصحاح: والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحصبة؛ قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
« إلا آل لوط » يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه « نجيناهم بسحر » قال الأخفش: إنما أجراه لأنه نكرة، ولو أراد سحر يوم بعينه لما أجراه، ونظيره: « اهبطوا مصرا » [ البقرة: 61 ] لما نكره، فلما عرفه في قوله: « ادخلوا مصر إن شاء الله » [ يوسف: 99 ] لم يجره، وكذا قال الزجاج: « سحر » إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، تقول أتيته سحرا، فإذا أردت سحر بومك لم تصرفه، تقول: أتيته سحر يا هذا، وأتيته بسحر. والسحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار؛ لأن في هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. « نعمة من عندنا » إنعاما منا على لوط وابنتيه؛ فهو نصب لأنه مفعول به. « كذلك نجزي من شكر » أي من امن بالله وأطاعه. « ولقد أنذرهم » يعني لوطا خوفهم « بطشتنا » عقوبتنا وأخذنا إياهم بالعذاب « فتماروا بالنذر » أي شكوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تفاعل من المرية. « ولقد راودوه عن ضيفه » أي أرادوا منه تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف طلبا للفاحشة على ما تقدم. يقال: راودته على، كذا مراودة وروادا أي أردته. وراد الكلأ يروده رودا وريادا، وارتاده أرتيادا بمعنى أي طلبه؛ وفي الحديث: ( إذا بال أحدكم فليرتد لبوله ) أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا. « فطمسنا أعينهم » يروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: لا، بل أعماهم الله مع صحة أبصارهم فلم يروهم. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل؛ فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم. « فذوقوا عذابي ونذر » أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الأمر الخبر؛ أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط. « ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر » أي دائم عام استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها. و « بكرة » هنا نكرة فلذلك صرفت. « فذوقوا عذابي ونذر » العذاب الذي نزل، بهم من طمس الأعين غير العذاب الذي أهلكوا به فلذلك حسن التكرير. « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » تقدم.
=======
الآيات: 23 - 26 ( كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر، أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر، سيعلمون غدا من الكذاب الأشر )
قوله تعالى: « كذبت ثمود بالنذر » هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر « فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه » وندع جماعة. وقرأ أبو الأشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي « أبشر » بالرفع « واحد » كذلك رفع بالابتداء والخبر « نتبعه » . الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال: « أبشر » بالرفع « منا واحدا » بالنصب، رفع « أبشر » بإضمار فعل يدل عليه « أألقي » كأنه قال: أينبأ بشر منا، وقوله: « واحدا » يجوز أن يكون حالا من المضمر في « منا » والناصب له الظرف، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا؛ ويجوز أن يكون حالا من الضمير في « نتبعه » منفردا لا ناصر له. « إنا إذا لفي ضلال » أي ذهاب عن الصواب « وسعر » أي جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته:
تخال بها سعرا إذا السفر هزها ذميل وإيقاع من السير متعب
الذميل ضرب من سير الإبل. قال أبو عبيد: إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل، ثم الرسيم؛ يقال: ذمل ويذمل ويذمل ذميلا. قال الأصمعي: ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج. وقال ابن عباس أيضا: السعر العذاب، وقاله الفراء. مجاهد: بعد الحق. السدي: في احتراق. قال:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ومن الحب جنون مستعر
أي متقد ومحترق. أبو عبيدة: هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية: إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.
قوله تعالى: « أألقي الذكر عليه من بيننا » أي خصص بالرسالة من بين ال ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا؟! وهو استفهام معناه الإنكار. « بل هو كذاب أشر » أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والأشر المرح والتجبر والنشاط. يقال: فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا:
فيدركنا فغم داجن سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حني الضلوع تبوع أريب نشيط أشر
وقيل: « أشر » بطر. والأشر البطر؛ قال الشاعر:
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ومن قبل ما تدرون من فتح القرى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى؛ قال الشاعر:
وخلت وعولا أشارى بها وقد أزهف الطعن أبطالها
وقيل: إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها؛ والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد: الأشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة « أشر » بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. « سيعلمون غدا » أي سيرون العذاب يوم القيامة، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله: « غدا » على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا؛ قال:
للموت فيها سهام غير مخطئة من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
وقال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح
وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. « من الكذاب الأشر » وقرأ أبو قلابة « الأشر » بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل. قال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأشر والأخير إلا في ضرورة الشعر؛ كقول رؤية:
بلال خير الناس وابن الأخير
وإنما يقولون هو خير قومه، وهو شر الناس؛ قال الله تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس » [ آل عمران: 110 ] وقال: « فسيعلمون من هو شر مكانا » [ مريم: 75 ] . وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف، قال النحاس: وهو معنى « الأشر » ومثله رجل حذر وحذر.
الآيات: 27 - 32 ( إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر، ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر، فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « إنا مرسلو الناقة » أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء وبراء. « فتنة لهم » أي اختبارا وهو مفعول له. « فارتقبهم » أي انتظر ما يصنعون. « واصطبر » أي اصبر على أذاهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق. « ونبئهم » أي أخبرهم « أن الماء قسمة بينهم » أي بين ال ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما قال تعالى: « لها شرب ولكم شرب يوم معلوم » [ الشعراء: 155 ] . قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال: « بينهم » لأن العرب إذا أخبروا عن بني ادم مع البهائم غلبوا بني ادم. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: ( أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها ) وهو معنى قوله تعالى: « ونبئهم أن الماء قسمة بينهم. كل شرب محتضر » الشرب - بالكسر - الحظ من الماء؛ وفي المثل: ( آخرها أقلها شربا ) وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى « محتضر » أي يحضره من هو له؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم؛ قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.
قوله تعالى: « فنادوا صاحبهم » يعني بالحض على عقرها « فتعاطى فعقر » ومعنى تعاطى تناول الفعل؛ من قولهم: عطوت أي تناولت؛ ومنه قول حسان:
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
قال محمد بن إسحاق: فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاءة واحدة: تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح عليه السلام؛ فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا المعنى. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. ويقال في اسمه قدار ابن سالف. وقال الأفوه الأودي:
أو قبله كقدار حين تابعه على الغواية أقوام فقد بادوا
والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم ال ثمود؛ قال مهلهل:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ضرب القدار نقيعة القدام
وذكره زهير فقال:
فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد الحرب؛ فكنى عن ثمود بعاد.
قوله تعالى: « إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة » يريد صيحة جبريل عليه السلام، وقد مضى في « هود » . « فكانوا كهشيم المحتظر » وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية « المحتظر » بفتح الظاء أرادو الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح: والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرئ « كهشيم المحتظر » فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير: إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد: أواه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي: من فتح الظاء من « المحتظر » فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون « المحتظر » هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس: « المحتظر » هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك؛ فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال:
أثرن عجاجة كدخان نار تشب بغرقد بال هشيم
وعنه: كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا: كالعظام النخرة المحترقة، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا، وهو فعيل بمعنى مفعول وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع، والمحتظر المفتعل يقال منه: احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله؛ قال الشاعر:
ترى جيف المطي بجانبيه كأن عظامها خشب الهشيم
وعن ابن عباس: أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم؛ فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبلة والتبن. « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر »
الآيات: 33 - 40 ( كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر، ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر، فذوقوا عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )
قوله تعالى: « كذبت قوم لوط بالنذر » خبر عن قوم لوط أيضا لما كذبوا لوطا. « إنا أرسلنا عليهم حاصبا » أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى؛ قال النضر: الحاصب الحصباء في الريح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحجارة. وفي الصحاح: والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحصبة؛ قال لبيد:
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
« إلا آل لوط » يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه « نجيناهم بسحر » قال الأخفش: إنما أجراه لأنه نكرة، ولو أراد سحر يوم بعينه لما أجراه، ونظيره: « اهبطوا مصرا » [ البقرة: 61 ] لما نكره، فلما عرفه في قوله: « ادخلوا مصر إن شاء الله » [ يوسف: 99 ] لم يجره، وكذا قال الزجاج: « سحر » إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، تقول أتيته سحرا، فإذا أردت سحر بومك لم تصرفه، تقول: أتيته سحر يا هذا، وأتيته بسحر. والسحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار؛ لأن في هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. « نعمة من عندنا » إنعاما منا على لوط وابنتيه؛ فهو نصب لأنه مفعول به. « كذلك نجزي من شكر » أي من امن بالله وأطاعه. « ولقد أنذرهم » يعني لوطا خوفهم « بطشتنا » عقوبتنا وأخذنا إياهم بالعذاب « فتماروا بالنذر » أي شكوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تفاعل من المرية. « ولقد راودوه عن ضيفه » أي أرادوا منه تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الأضياف طلبا للفاحشة على ما تقدم. يقال: راودته على، كذا مراودة وروادا أي أردته. وراد الكلأ يروده رودا وريادا، وارتاده أرتيادا بمعنى أي طلبه؛ وفي الحديث: ( إذا بال أحدكم فليرتد لبوله ) أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا. « فطمسنا أعينهم » يروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: لا، بل أعماهم الله مع صحة أبصارهم فلم يروهم. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل؛ فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟ فرجعوا ولم يروهم. « فذوقوا عذابي ونذر » أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الأمر الخبر؛ أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط. « ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر » أي دائم عام استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها. و « بكرة » هنا نكرة فلذلك صرفت. « فذوقوا عذابي ونذر » العذاب الذي نزل، بهم من طمس الأعين غير العذاب الذي أهلكوا به فلذلك حسن التكرير. « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » تقدم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة القمر
======
الآيات: 41 - 42 ( ولقد جاء آل فرعون النذر، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر )
قوله تعالى: « ولقد جاء آل فرعون النذر » يعني القبط و « النذر » موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. « كذبوا بآياتنا كلها » معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا؛ وهى العصا، واليد، والسنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقيل: « النذر » الرسل؛ فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: « النذر » الإنذار. « فأخذناهم أخذ عزيز » أي غالب في انتقامه « مقتدر » أي قادر على ما أراد.
الآيات: 43 - 46 ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر، أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )
قوله تعالى: « أكفاركم خير من أولئكم » خاطب العرب. وقيل: أراد كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي؛ أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. « أم لكم براءة في الزبر » أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. « أم لكم براءة في الزبر » أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرؤوس الآي؛ فرد الله عليهم فقال: « سيهزم الجمع » أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة « سيهزم » بالياء على ما لم يسم فاعله « الجمع » بالرفع. وقرأ رويس عن يعقوب « سنهزم » بالنون وكسر الزاي « الجمع » نصبا. « ويولون الدبر » قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرأ عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب « وتولون » بالتاء على الخطاب. و « الدبر » اسم جنس كالدرهم والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه؛ فأنزل الله تعالى: « نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر » . وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل قوله تعالى: « سيهزم الجمع ويولون الدبر » كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: اللهم ه إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم الغداة - ثم قال - « سيهزم الجمع ويولون الدبر » فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة:
أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وأخنيت عليه: أفسدت. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين؛ فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب: « بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر » . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: ( أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدرع فخرج وهو يقول: « سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم » يريد القيامة. « والساعة أدهى وأمر » أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و « أدهى » من الداهية وهي الأمر العظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.
الآيات: 47 - 49 ( إن المجرمين في ضلال وسعر، يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر )
قوله تعالى: « إن المجرمين في ضلال وسعر » أي في حيدة عن الحق و « سعر » أي احتراق. وقيل: جنون على ما تقدم في هذه السورة. « يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر » في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: « يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. إنا كل شيء خلقناه بقدر » خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبدالله بن عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل شيء بقدر حتى العجز والكَيس - أو الكيس والعجز ) وهذا إبطال لمذهب القدرية. « ذوقوا » أي يقال لهم ذوقوا، ومسها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و « سقر » اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لظى وجهنم. وقال عطاء: « سقر » الطبق السادس من جهنم. وقال قطرب: « سقر » من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر: شديد الحر.
قوله تعالى: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » قراءة العامة « كل » بالنصب. وقرأ أبو السمال « كل » بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين؛ لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى؛ لأنك لو حذفت « خلقناه » المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.
الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء؛ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره؛ كما نص عليه القران والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا؛ فنزلت هذه الآيات إلى قوله: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: ( أنتم خصماء الله يوم القيامة ) .
روى أبو الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) . خرجه ابن ماجة في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر ) . وأسند النحاس: وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد ابن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله » [ التوبة: 54 ] وهذا واضح. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ) .
الآيات: 50 - 55 ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر، وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر، إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
قوله تعالى: « وما أمرنا إلا واحدة » أي إلا مرة واحدة. « كلمح بالبصر » أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة؛ يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. « ولقد أهلكنا أشياعكم » أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. « فهل من مدكر » أي من يتذكر.
قوله تعالى: « وكل شيء فعلوه في الزبر » أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم؛ وهذا بيان قوله: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » . « في الزبر » أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. « وكل صغير وكبير مستطر » أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سطر يسطر سطرا كتب؛ واستطر مثله.
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات ونهر » لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. « ونهر » يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن؛ قاله ابن جريج. ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل: في « نهر » في ضياء وسعة؛ ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح؛ قال الشاعر:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة « ونهر » بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم؛ كسحاب وسحب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك ليليا فإني نهر متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار. وقال آخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
« في مقعد صدق » أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة « عند مليك مقتدر » أي يقدر على ما يشاء. و « عند » ها هنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البتي « في مقاعد صدق » بالجمع؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. قال عبدالله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرؤون القران على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم، فلا تقر أعينهم بشيء قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا؛ فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى؛ ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا؛ فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر « في مقعد صدق عند مليك مقتدر » والله أعلم. تم تفسير « سورة القمر » والحمد لله.
======
الآيات: 41 - 42 ( ولقد جاء آل فرعون النذر، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر )
قوله تعالى: « ولقد جاء آل فرعون النذر » يعني القبط و « النذر » موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. « كذبوا بآياتنا كلها » معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا؛ وهى العصا، واليد، والسنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقيل: « النذر » الرسل؛ فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: « النذر » الإنذار. « فأخذناهم أخذ عزيز » أي غالب في انتقامه « مقتدر » أي قادر على ما أراد.
الآيات: 43 - 46 ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر، أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )
قوله تعالى: « أكفاركم خير من أولئكم » خاطب العرب. وقيل: أراد كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي؛ أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. « أم لكم براءة في الزبر » أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. « أم لكم براءة في الزبر » أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرؤوس الآي؛ فرد الله عليهم فقال: « سيهزم الجمع » أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة « سيهزم » بالياء على ما لم يسم فاعله « الجمع » بالرفع. وقرأ رويس عن يعقوب « سنهزم » بالنون وكسر الزاي « الجمع » نصبا. « ويولون الدبر » قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرأ عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب « وتولون » بالتاء على الخطاب. و « الدبر » اسم جنس كالدرهم والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه؛ فأنزل الله تعالى: « نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر » . وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل قوله تعالى: « سيهزم الجمع ويولون الدبر » كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: اللهم ه إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم الغداة - ثم قال - « سيهزم الجمع ويولون الدبر » فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة:
أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وأخنيت عليه: أفسدت. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين؛ فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب: « بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر » . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: ( أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدرع فخرج وهو يقول: « سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم » يريد القيامة. « والساعة أدهى وأمر » أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و « أدهى » من الداهية وهي الأمر العظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.
الآيات: 47 - 49 ( إن المجرمين في ضلال وسعر، يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر )
قوله تعالى: « إن المجرمين في ضلال وسعر » أي في حيدة عن الحق و « سعر » أي احتراق. وقيل: جنون على ما تقدم في هذه السورة. « يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر » في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: « يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. إنا كل شيء خلقناه بقدر » خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبدالله بن عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل شيء بقدر حتى العجز والكَيس - أو الكيس والعجز ) وهذا إبطال لمذهب القدرية. « ذوقوا » أي يقال لهم ذوقوا، ومسها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و « سقر » اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لظى وجهنم. وقال عطاء: « سقر » الطبق السادس من جهنم. وقال قطرب: « سقر » من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر: شديد الحر.
قوله تعالى: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » قراءة العامة « كل » بالنصب. وقرأ أبو السمال « كل » بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين؛ لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى؛ لأنك لو حذفت « خلقناه » المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.
الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء؛ أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره؛ كما نص عليه القران والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا؛ فنزلت هذه الآيات إلى قوله: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: ( أنتم خصماء الله يوم القيامة ) .
روى أبو الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) . خرجه ابن ماجة في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر ) . وأسند النحاس: وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد ابن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله » [ التوبة: 54 ] وهذا واضح. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ) .
الآيات: 50 - 55 ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر، وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر، إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
قوله تعالى: « وما أمرنا إلا واحدة » أي إلا مرة واحدة. « كلمح بالبصر » أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة؛ يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. « ولقد أهلكنا أشياعكم » أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. « فهل من مدكر » أي من يتذكر.
قوله تعالى: « وكل شيء فعلوه في الزبر » أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم؛ وهذا بيان قوله: « إنا كل شيء خلقناه بقدر » . « في الزبر » أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. « وكل صغير وكبير مستطر » أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سطر يسطر سطرا كتب؛ واستطر مثله.
قوله تعالى: « إن المتقين في جنات ونهر » لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. « ونهر » يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن؛ قاله ابن جريج. ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل: في « نهر » في ضياء وسعة؛ ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح؛ قال الشاعر:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة « ونهر » بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم؛ كسحاب وسحب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك ليليا فإني نهر متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار. وقال آخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
« في مقعد صدق » أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة « عند مليك مقتدر » أي يقدر على ما يشاء. و « عند » ها هنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البتي « في مقاعد صدق » بالجمع؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. قال عبدالله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرؤون القران على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم، فلا تقر أعينهم بشيء قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا؛ فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى؛ ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا؛ فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر « في مقعد صدق عند مليك مقتدر » والله أعلم. تم تفسير « سورة القمر » والحمد لله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الرحمن للقرطبى
====
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: « يسأله من في السماوات والأرض » [ الرحمن: 29 ] الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود؛ وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: « بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن. علم القرآن » [ الرحمن:2 ] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة « الرحمن » ومر النفر من الجن فأمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة « الرحمن » من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: ( لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » [ الرحمن: 13 ] قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة « الرحمن » فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن ) .
الآيات: 1 - 13 ( الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « الرحمن، علم القرآن » قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: « الرحمن » فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى « الر » و « حم » و « ن » فيكون مجموع هذه « الرحمن » . « علم القرآن » أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن؟ وقيل: نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: « الرحمن. علم القرآن » . وقال الزجاج: معنى « علم القرآن » أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال: « ولقد يسرنا القرآن للذكر » [ القمر: 17 ] . وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. « خلق الإنسان » قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. « علمه البيان » أسماء كل شيء. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان: الإنسان ها هنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك: « البيان » الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره، وقاله قتادة. وقيل: « الإنسان » يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و « البيان » على هذا الكلام والفهم، وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: « علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم » [ العلق: 4 ] . « الشمس والقمر بحسبان » أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن، كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهاره. وقال السدي: « بحسبان » تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: « كل يجري لأجل مسمى » [ الزمر: 5 ] . وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: « بحسبان » كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا، مثل الغفران والكفران والرجحان، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في « الكهف » الواحدة حسبانة، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال:
... لثويت غير مُحَسِّب
أي غير موسَّد يعني غير مكرم ولا مكفن « والنجم والشجر يسجدان » قال ابن عباس وغيره: النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي:
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى:
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلالهما، قاله الضحاك. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: « يتفيأ ظلاله » [ النحل: 48 ] . وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال:
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
قوله تعالى: « والسماء رفعها » وقرأ أبو السمال « والسماء » بالرفع على الابتداء واختيار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: « والنجم والشجر يسجدان » فجعل المعطوف مركبا من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. « ووضع الميزان » أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال.: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: « وأقيموا الوزن بالقسط » والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في « الأعراف » القول فيه. « ألا تطغوا في الميزان » موضع « أن » يجوز أن يكون نصبا على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال: لئلا تطغوا، كقوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] . ويجوز ألا يكون لـ « أن » موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و « تطغوا » على هذا التقدير مجزوما، كقوله تعالى: « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] أي امشوا. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. « وأقيموا الوزن بالقسط » أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. « ولا تخسروا الميزان » ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: « ولا تنقصوا المكيال والميزان » [ هود: 84 ] . وقال قتادة في هذه الآية: آعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة « تخسروا » بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان « تخسروا » بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: « تخسروا » بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. « والأرض وضعها للأنام » الأنام الناس، عن ابن عباس. الحسن: الجن والإنس. الضحاك: كل ما دب على وجه الأرض، وهذا عام.
قوله تعالى: « فيها فاكهة » أي كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. « والنخل ذات الأكمام » الأكمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري: والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى، قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكموا بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه: بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة، لأنها تغطي الرأس. قال:
فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم دراهمكم إني كذلك أكيل
ققال الحسن: « ذات الأكمام » أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال. « والحب ذو العصف والريحان » الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير: بقل الزرع أي أول ما ينبت منه، وقاله الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف، الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح: وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا: العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس، نظيره: « فجعلهم كعصف مأكول » [ الفيل:5 ] . الجوهري: وقد أعصف الزرع، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
إذا جمادى منعت قطرها زان جنابي عطن معصف
والعصف أيضا الكسب، ومنه قول الراجز:
بغير ما عصف ولا اصطراف
وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي: والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم
وفي الصحاح: والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح. قال ابن الأعرابي: يقال شيء روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين، ثم ألزم التخفيف لطول ولحاق الزائدتين الألف والنون، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماء درر
وفي الحديث: « الولد من ريحان الله » . وقولهم: سبحان الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله: « والحب ذو العصف والريحان » فالعصف ساق الزرع، والريحان ورقه، عن الفراء. وقراءة العامة « والحب ذو العصف والريحان » بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على « ذات الأكمام » . وجر حمزة والكسائي « الريحان » عطفا على العصف، أي فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا، لأن العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.
قوله تعالى: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » خطاب للإنس والجن، لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفيه « للجن أحسن منكم ردا » . وقيل: لما قال: « خلق الإنسان » [ الرحمن: 3 ] « وخلق الجان » [ الرحمن: 15 ] دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: « سنفرغ لكم أيها الثقلان » [ الرحمن: 31 ] خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة: « يا معشر الجن والإنس » [ الرحمن: 33 ] . الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] . وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران، والقران كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في « ألقيا في جهنم » [ ق: 24 ] . وكذلك قوله:
قفا نبك...
وخليلي مرا بي...
فأما ما بعد « خلق الإنسان » [ الرحمن: 3 ] « وخلق الجان » [ الرحمن: 15 ] فإنه خطاب للإنس والجن، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: « والأرض وضعها للأنام » والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد « أناء الليل » ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام، وقد مضى في « الأعراف » و « النجم » . وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: « الرحمن. علم القرآن » فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: « الرحمن. علم القرآن » ثم ذكر الإنسان فقال: « خلق الإنسان » ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم، فقال سائلا لهم: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل، خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره: ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا!؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا؟! والتكرير حسن في مثل هذا. قال:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر:
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة..
====
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: « يسأله من في السماوات والأرض » [ الرحمن: 29 ] الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود؛ وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: « بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن. علم القرآن » [ الرحمن:2 ] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة « الرحمن » ومر النفر من الجن فأمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة « الرحمن » من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: ( لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » [ الرحمن: 13 ] قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة « الرحمن » فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن ) .
الآيات: 1 - 13 ( الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « الرحمن، علم القرآن » قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: « الرحمن » فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى « الر » و « حم » و « ن » فيكون مجموع هذه « الرحمن » . « علم القرآن » أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن؟ وقيل: نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: « الرحمن. علم القرآن » . وقال الزجاج: معنى « علم القرآن » أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال: « ولقد يسرنا القرآن للذكر » [ القمر: 17 ] . وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. « خلق الإنسان » قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. « علمه البيان » أسماء كل شيء. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان: الإنسان ها هنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك: « البيان » الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره، وقاله قتادة. وقيل: « الإنسان » يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و « البيان » على هذا الكلام والفهم، وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: « علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم » [ العلق: 4 ] . « الشمس والقمر بحسبان » أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن، كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهاره. وقال السدي: « بحسبان » تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: « كل يجري لأجل مسمى » [ الزمر: 5 ] . وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: « بحسبان » كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا، مثل الغفران والكفران والرجحان، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في « الكهف » الواحدة حسبانة، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال:
... لثويت غير مُحَسِّب
أي غير موسَّد يعني غير مكرم ولا مكفن « والنجم والشجر يسجدان » قال ابن عباس وغيره: النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي:
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى:
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلالهما، قاله الضحاك. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: « يتفيأ ظلاله » [ النحل: 48 ] . وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال:
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
قوله تعالى: « والسماء رفعها » وقرأ أبو السمال « والسماء » بالرفع على الابتداء واختيار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: « والنجم والشجر يسجدان » فجعل المعطوف مركبا من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. « ووضع الميزان » أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال.: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: « وأقيموا الوزن بالقسط » والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في « الأعراف » القول فيه. « ألا تطغوا في الميزان » موضع « أن » يجوز أن يكون نصبا على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال: لئلا تطغوا، كقوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] . ويجوز ألا يكون لـ « أن » موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و « تطغوا » على هذا التقدير مجزوما، كقوله تعالى: « وانطلق الملأ منهم أن امشوا » [ ص: 6 ] أي امشوا. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. « وأقيموا الوزن بالقسط » أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. « ولا تخسروا الميزان » ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: « ولا تنقصوا المكيال والميزان » [ هود: 84 ] . وقال قتادة في هذه الآية: آعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة « تخسروا » بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان « تخسروا » بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: « تخسروا » بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. « والأرض وضعها للأنام » الأنام الناس، عن ابن عباس. الحسن: الجن والإنس. الضحاك: كل ما دب على وجه الأرض، وهذا عام.
قوله تعالى: « فيها فاكهة » أي كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. « والنخل ذات الأكمام » الأكمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري: والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى، قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكموا بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه: بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة، لأنها تغطي الرأس. قال:
فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم دراهمكم إني كذلك أكيل
ققال الحسن: « ذات الأكمام » أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال. « والحب ذو العصف والريحان » الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير: بقل الزرع أي أول ما ينبت منه، وقاله الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف، الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح: وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا: العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس، نظيره: « فجعلهم كعصف مأكول » [ الفيل:5 ] . الجوهري: وقد أعصف الزرع، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
إذا جمادى منعت قطرها زان جنابي عطن معصف
والعصف أيضا الكسب، ومنه قول الراجز:
بغير ما عصف ولا اصطراف
وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي: والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم
وفي الصحاح: والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح. قال ابن الأعرابي: يقال شيء روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين، ثم ألزم التخفيف لطول ولحاق الزائدتين الألف والنون، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماء درر
وفي الحديث: « الولد من ريحان الله » . وقولهم: سبحان الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله: « والحب ذو العصف والريحان » فالعصف ساق الزرع، والريحان ورقه، عن الفراء. وقراءة العامة « والحب ذو العصف والريحان » بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على « ذات الأكمام » . وجر حمزة والكسائي « الريحان » عطفا على العصف، أي فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا، لأن العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.
قوله تعالى: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » خطاب للإنس والجن، لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفيه « للجن أحسن منكم ردا » . وقيل: لما قال: « خلق الإنسان » [ الرحمن: 3 ] « وخلق الجان » [ الرحمن: 15 ] دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: « سنفرغ لكم أيها الثقلان » [ الرحمن: 31 ] خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة: « يا معشر الجن والإنس » [ الرحمن: 33 ] . الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] . وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران، والقران كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في « ألقيا في جهنم » [ ق: 24 ] . وكذلك قوله:
قفا نبك...
وخليلي مرا بي...
فأما ما بعد « خلق الإنسان » [ الرحمن: 3 ] « وخلق الجان » [ الرحمن: 15 ] فإنه خطاب للإنس والجن، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: « والأرض وضعها للأنام » والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد « أناء الليل » ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام، وقد مضى في « الأعراف » و « النجم » . وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: « الرحمن. علم القرآن » فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: « الرحمن. علم القرآن » ثم ذكر الإنسان فقال: « خلق الإنسان » ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم، فقال سائلا لهم: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال: « فبأي آلاء ربكما تكذبان » أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل، خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره: ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا!؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا؟! والتكرير حسن في مثل هذا. قال:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر:
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة..
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الرحمن
========
الآيات: 14 - 18 ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان، رب المشرقين ورب المغربين، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « خلق الإنسان » لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: « خلق الإنسان » باتفاق من أهل التأويل يعني آدم. « من صلصال كالفخار » الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن، وقد مضى في « الحجر » . وقال هنا: « من صلصال كالفخار » وقال هناك: « من صلصال من حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] . وقال: « إنا خلقناهم من طين لازب » [ الصافات: 11 ] . وقال: « كمثل آدم خلقه من تراب » [ آل عمران: 59 ] وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. « وخلق الجان من مارج من نار » قال الحسن: الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل: الجان واحد الجن، والمارج الهب، عن ابن عباس، وقال: خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر، ونحوه عن مجاهد، وكله متقارب المعنى. وقيل: المارج كل أمر مرسل غير ممنوع، ونحوه قول المبرد، قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج خلط النار، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول، كقوله: « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] و « عيشة راضية » [ الحاقة: 21 ] والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح: و « مارج من نار » نار لا دخان لها خلق منها الجان. « فبأي آلاء ربكما تكذبان » . « رب المشرقين ورب المغربين » أي هو رب المشرقين. وفي الصافات « ورب المشارق » [ الصافات: 5 ] وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.
الآيات: 19 - 23 ( مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان » « مرج » أي خلى وأرسل وأهمل، يقال: مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال: مرج خلط. وقال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى. « البحرين » قال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض، وقال مجاهد وسعيد بن جبير. « يلتقيان » في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن، وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. « بينهما برزخ » أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في « الفرقان » . وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال: إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ فقالت: أغرقهم يا رب. قال: إني أحملهم على يدي، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال: إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ قالت: أسبحك معهم إذا سبحوك، وأكبرك معهم إذا كبروك، وأهللك معهم إذا هللوك، وأمجدك معهم إذا مجدوك، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا، وتحول أحدهما ملحا أجاجا، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا » ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبدالله قال: حدثنا صالح بن محمد، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة: « لا يبغيان » قال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بينهما وبين الناس يبسأ. وعنه أيضا ومجاهد: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد: المعنى « لا يبغيان » أن يلتقيا، وتقدير الكلام: مرج البحرين يلتقيان، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران شيا واحدا، وهو كقوله وتعالى: « وإذا البحار فجرت » [ الانفطار: 3 ] . وقال سهل بن عبدالله: البحران طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
قوله تعالى: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر « يخرج » بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون « يخرج » بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال: « منهما » وإنما يخرج من الملح لا العذب لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم » [ الأنعام: 130 ] وإنما الرسل من الإنس دون الجن، قال الكلبي وغيره. قال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: « ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا » [ نوح: 15 ] والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحداهما، كقوله: « على رجل من القريتين عظيم » [ الزخرف 31 ] أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس: هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما، وقاله الطبري. قال الثعلبي: ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل: إن العذب والملح قد يلتقيان، فيكون العذب كاللقاح للملح، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى، لذلك قيل: إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من وضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل: المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس: إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك: المرجان الخرز الأحمر
الآيات: 24 - 25 ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « وله الجوار » يعني السفن. « المنشآت في البحر » قراءة العامة « المنشآت » بفتح الشين، قال قتادة: أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد: هي السفن التي رفع قلعها، قال: وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. وقال الأخفش: إنها المجريات. وفي الحديث: أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة، فقال: ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه « المنشئات » بكسر الشين أي المنشئات السير، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل: الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال: المرفوعات الشرع. « كالأعلام » أي كالجبال، والعلم الجبل الطويل، قال:
إذا قطن علما بدا علم
فالسفن في البحر كالجبال في البر، وقد مضى في « الشورى » بيانه. وقرأ يعقوب « الجواري » بياء في الوقف، وحذف الباقون.
الآيات: 26 - 28 ( كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « كل من عليها فان » الضمير في « عليها » للأرض، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى: « والأرض وضعها للأنام » [ الرحمن: 10 ] وقد يقال: هو أكرم من عليها يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت: « كل شيء هالك إلا وجهه » [ القصص: 88 ] فأيقنت الملائكة بالهلاك، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل: وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. « ويبقى وجه ربك » أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، قال الشاعر:
قضى على خلقه المنايا فكل شيء سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا: ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه كما قال: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » وقال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: « ويبقى وجه ربك » والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في « البقرة » القول في هذا عند قوله تعالى: « فأينما تولوا فثم وجه الله » [ البقرة: 115 ] وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري: قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الأم ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. « ذو الجلال » الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال: جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته، والجلال اسم من جل. « والإكرام » أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألظوا ب ( يا ذا الجلال والإكرام ) . وروي أنه من قول ابن مسعود، ومعناه: الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد: الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال: الإلظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول: اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟
الآيات: 29 - 30 ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « يسأله من في السماوات والأرض » قيل: المعنى يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث: « إن الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير » . وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوة على العبادة. « كل يوم هو في شأن » هذا « كل يوم هو في شأن » كلام مبتدأ. وأنتصب « كل يوم » ظرفا، لقوله: « في شأن » أو ظرفا للسؤال، ثم يبتدئ « هو في شأن » . وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل يوم هو في شأن » قال: من شأنه أن يغفر ذنبا ومفرج كربا ويرفع قوما ويضع أخرين « . وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: « كل يوم هو في شأن » قال: » يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا « . وقيل: من شأنه أن يحي ويميت، ويعز ويزل، ويرزق ويمنع. وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب. وقيل: المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى: » ثم يخرجك طفلا « [ غافر:67 ] . وقال الكلبي: شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: « كل يوم هو في شأن » من شأنه أن يميت حيا، ويقر في الأرحام ما شاء، ومعز ذليلا، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: « كل يوم هو في شأن » فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره. فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، وحافي مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا، فقال له: فرجة - عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام، فقال: يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبدالله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: » فأصبح من النادمين « [ المائدة: 31 ] وقد صح أن الندم توبة. وقول: « كل يوم هو في شأن » وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول: » وأن ليس للإنسان إلا ما سعى « [ النجم: 39 ] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: « كل يوم هو في شأن » فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله: » وأن ليس للإنسان إلا ما سعى « [ النجم: 39 ] فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبدا. وقبل رأسه وسوغ خراجه.»
========
الآيات: 14 - 18 ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان، رب المشرقين ورب المغربين، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « خلق الإنسان » لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: « خلق الإنسان » باتفاق من أهل التأويل يعني آدم. « من صلصال كالفخار » الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن، وقد مضى في « الحجر » . وقال هنا: « من صلصال كالفخار » وقال هناك: « من صلصال من حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] . وقال: « إنا خلقناهم من طين لازب » [ الصافات: 11 ] . وقال: « كمثل آدم خلقه من تراب » [ آل عمران: 59 ] وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. « وخلق الجان من مارج من نار » قال الحسن: الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل: الجان واحد الجن، والمارج الهب، عن ابن عباس، وقال: خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر، ونحوه عن مجاهد، وكله متقارب المعنى. وقيل: المارج كل أمر مرسل غير ممنوع، ونحوه قول المبرد، قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج خلط النار، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول، كقوله: « ماء دافق » [ الطارق: 6 ] و « عيشة راضية » [ الحاقة: 21 ] والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح: و « مارج من نار » نار لا دخان لها خلق منها الجان. « فبأي آلاء ربكما تكذبان » . « رب المشرقين ورب المغربين » أي هو رب المشرقين. وفي الصافات « ورب المشارق » [ الصافات: 5 ] وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.
الآيات: 19 - 23 ( مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان » « مرج » أي خلى وأرسل وأهمل، يقال: مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال: مرج خلط. وقال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى. « البحرين » قال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض، وقال مجاهد وسعيد بن جبير. « يلتقيان » في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن، وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: إنه البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. « بينهما برزخ » أي حاجز فعلى القول الأول ما بين السماء والأرض، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الأرض التي بينهما وهي الحجاز، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الأقوال القدرة الإلهية على ما تقدم في « الفرقان » . وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال: إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ فقالت: أغرقهم يا رب. قال: إني أحملهم على يدي، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال: إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم؟ قالت: أسبحك معهم إذا سبحوك، وأكبرك معهم إذا كبروك، وأهللك معهم إذا هللوك، وأمجدك معهم إذا مجدوك، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا، وتحول أحدهما ملحا أجاجا، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا » ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبدالله قال: حدثنا صالح بن محمد، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة: « لا يبغيان » قال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بينهما وبين الناس يبسأ. وعنه أيضا ومجاهد: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد: المعنى « لا يبغيان » أن يلتقيا، وتقدير الكلام: مرج البحرين يلتقيان، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران شيا واحدا، وهو كقوله وتعالى: « وإذا البحار فجرت » [ الانفطار: 3 ] . وقال سهل بن عبدالله: البحران طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
قوله تعالى: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر « يخرج » بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون « يخرج » بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال: « منهما » وإنما يخرج من الملح لا العذب لأن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم » [ الأنعام: 130 ] وإنما الرسل من الإنس دون الجن، قال الكلبي وغيره. قال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: « ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا » [ نوح: 15 ] والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحداهما، كقوله: « على رجل من القريتين عظيم » [ الزخرف 31 ] أي من إحدى القريتين. وقال الأخفش سعيد: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس: هما بحرا السماء والأرض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما، وقاله الطبري. قال الثعلبي: ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل: إن العذب والملح قد يلتقيان، فيكون العذب كاللقاح للملح، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى، لذلك قيل: إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من وضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل: المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس: إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك: المرجان الخرز الأحمر
الآيات: 24 - 25 ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « وله الجوار » يعني السفن. « المنشآت في البحر » قراءة العامة « المنشآت » بفتح الشين، قال قتادة: أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء. وقال مجاهد: هي السفن التي رفع قلعها، قال: وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. وقال الأخفش: إنها المجريات. وفي الحديث: أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة، فقال: ورب هذه الجواري المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه « المنشئات » بكسر الشين أي المنشئات السير، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل: الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال: المرفوعات الشرع. « كالأعلام » أي كالجبال، والعلم الجبل الطويل، قال:
إذا قطن علما بدا علم
فالسفن في البحر كالجبال في البر، وقد مضى في « الشورى » بيانه. وقرأ يعقوب « الجواري » بياء في الوقف، وحذف الباقون.
الآيات: 26 - 28 ( كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « كل من عليها فان » الضمير في « عليها » للأرض، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى: « والأرض وضعها للأنام » [ الرحمن: 10 ] وقد يقال: هو أكرم من عليها يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت: « كل شيء هالك إلا وجهه » [ القصص: 88 ] فأيقنت الملائكة بالهلاك، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام. وقيل: وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. « ويبقى وجه ربك » أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، قال الشاعر:
قضى على خلقه المنايا فكل شيء سواه فاني
وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا: ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه كما قال: « ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام » وقال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: « ويبقى وجه ربك » والموصوف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في « البقرة » القول في هذا عند قوله تعالى: « فأينما تولوا فثم وجه الله » [ البقرة: 115 ] وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى. قال القشيري: قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف، يحصل بها الإقبال على من أراد الرب تخصيصه بالإكرام. والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الأم ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه. وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. « ذو الجلال » الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال: جل الشيء أي عظم وأجللته أي عظمته، والجلال اسم من جل. « والإكرام » أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء. وقد أتينا على هذين الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الأسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألظوا ب ( يا ذا الجلال والإكرام ) . وروي أنه من قول ابن مسعود، ومعناه: الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد: الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه. ويقال: الإلظاظ الإلحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول: اللهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟
الآيات: 29 - 30 ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « يسأله من في السماوات والأرض » قيل: المعنى يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض. وفي الحديث: « إن الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير » . وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوة على العبادة. « كل يوم هو في شأن » هذا « كل يوم هو في شأن » كلام مبتدأ. وأنتصب « كل يوم » ظرفا، لقوله: « في شأن » أو ظرفا للسؤال، ثم يبتدئ « هو في شأن » . وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل يوم هو في شأن » قال: من شأنه أن يغفر ذنبا ومفرج كربا ويرفع قوما ويضع أخرين « . وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: « كل يوم هو في شأن » قال: » يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا « . وقيل: من شأنه أن يحي ويميت، ويعز ويزل، ويرزق ويمنع. وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب. وقيل: المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى: » ثم يخرجك طفلا « [ غافر:67 ] . وقال الكلبي: شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: « كل يوم هو في شأن » من شأنه أن يميت حيا، ويقر في الأرحام ما شاء، ومعز ذليلا، ويذل عزيزا. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: « كل يوم هو في شأن » فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره. فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، وحافي مبتلى، ويعز ذليلا ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا، فقال له: فرجة - عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام، فقال: يا مولاي! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبدالله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: » فأصبح من النادمين « [ المائدة: 31 ] وقد صح أن الندم توبة. وقول: « كل يوم هو في شأن » وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول: » وأن ليس للإنسان إلا ما سعى « [ النجم: 39 ] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: « كل يوم هو في شأن » فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وأما قوله: » وأن ليس للإنسان إلا ما سعى « [ النجم: 39 ] فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبدا. وقبل رأسه وسوغ خراجه.»
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الرحمن
=======
الآيات: 31 - 36 ( سنفرغ لكم أيها الثقلان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « سنفرغ لكم أيها الثقلان » يقال: فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يربد تهديده: إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لها عذابا
يريد وقد قصدت. وقال أيضا وأنشده النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يا أهل الجباجب! هذا مذم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هذا إزب العقبة أما والله يا عدو لأتفرغن لك » أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: « سنفرغ لكم » مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قال الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرأ عبدالله وأبي « سنفرغ إليكم » وقرأ الأعمش وإبراهيم « سيفرغ لكم » بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن شهاب والأعرج « سنفرغ لكم » بفتح النون والراء، قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو « سيفرغ » بفتح الياء والراء، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي « سنفرغ لكم » بكسر النون وفتح الراء، وقرأ حمزة والكسائي « سيفرغ لكم » بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والإنس، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل: سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى: « وأخرجت الأرض أثقالها » [ الزلزلة: 2 ] ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين، لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: « سنفرغ لكم » فجمع، ثم قال: « أيه الثقلان » لأنهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس إن استطعتم » ولم يقل إن استطعتما، لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: « فإذا هم فريقان يختصمون » [ النمل: 45 ] و « هذان خصمان اختصموا في ربهم » [ الحج: 19 ] ولو قال: سنفرغ لكما، وقال: إن استطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام « أية الثقلان » بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم.
مسألة: هذه السورة و « الأحقاف » و « قل أوحي » دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
قوله تعالى: « معشر الجن والإنس » ذكر ابن المبارك: وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فذلك قوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانقذوا لا تنقذون إلا بسلطان » والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء، ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والإنس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله تعالى: « لا تنقذون إلا بسلطان » ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فأعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى: « لا تنقذون إلا بسلطان » لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل: لا تنفذون إلا إلى سلطان، الباء بمعنى إلى، كقوله تعالى: « وقد أحسن بي » [ يوسف: 100 ] أي إلى. قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله: « فانفذوا » أمر تعجيز.
قوله تعالى: « يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس » أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل: ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل: أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون « يا معشر الجن والإنس » ، فتلك النار قوله: « يرسل عليكما شواظ من نار » والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له. والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه، كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي ابن أبي الصلت، وفي « الصحاح » و « الوقف والابتداء » لابن الباري: أمية بن خلف قال:
ألا من مبلغ حسان عني مغلغة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان فينا لدي القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا وينفح دائبا لهب الشواظ
فأجابه حسان رضي الله عنه فقال:
هجوتك فاختضعت لها بذل بقافية تأجج كالشواظ
وقال رؤبة:
إن لهم من وقعنا أقياظا ونار حرب تسعر الشواظا
وقال مجاهد: الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار. الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقال سعيد بن جبير. وقد قيل: إن الشواظ النار والدخان جميعا، قاله عمرو وحكاه الأخفش عن بعض العرب. وقرأ ابن كثير « شواظ » بكسر الشين. الباقون بالضم وهما لغتان، مثل صوار وصوار لقطيع البقر. « ونحاس » قراءة العامة « ونحاس » بالرفع عطف على « شواظ » . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو « ونحاس » بالخفض عطفا على النار. قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في « النحاس » على هذا بين. فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: « يرسل عليكما شواظ من نار » وشيء من نحاس، فشيء معطوف على شواظ، ومن نحاس جملة هي صفة لشيء، وحذف شيء، وحذفت من لتقدم ذكرها في « من نار » كما حذفت على من قولهم: على من تنزل أنزل أي عليه. فيكون « نحاس » على هذا مجرورا بمن المحذوفة. وعن مجاهد وحميد وعكرمة وأبي العالية « ونحاس » بكسر النون لغتان كالشواظ والشواظ. والنحاس بالكسر أيضا الطبيعة والأصل، يقال: فلان كريم النحاس والنحاس أيضا بالضم أي كريم النجار. وعن مسلم بن جندب « ونحس » بالرفع. وعن حنظلة بن مرة بن النعمان الأنصاري « ونحس » بالجر عطف على نار. ويجوز أن يكون « ونحاس » بالكسر جمع نحس كصعب وصعاب « ونحس » بالرفع عطف على « شواظ » وعن الحسن « ونحس » بالضم فيهما جمع نحس. ويجوز أن يكون أصله ونحوس فقصر بحذف واوه حسب ما تقدم عند قوله: « وبالنجم هم يهتدون » [ النحل: 16 ] . وعن عبدالرحمن بن أبي بكرة « ونحس » بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين من حس يحس حسا إذا استأصل، ومنه قوله تعالى: « إذ تحسونهم بإذنه » [ آل عمران: 152 ] والمعنى ونقتل بالعذاب. وعلى القراءة الأولى « ونحاس » فهو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير أن النحاس الدخان الذي لا لهب فيه، وهو معنى قول الخليل، وهو معروف في كلام العرب بهذا المعنى، قال نابغة بني جعدة:
يضيء كضوء سراج السليـ ـط لم يجعل الله فيه نحاسا
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول السليط دهن السمسم بالشام ولا دخان فيه. وقال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر مذاب، تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار. وقال ابن مسعود: النحاس المهل. وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي. وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة. « فلا تنتصران » أي لا ينصر بعضكم بعضا يعني الجن والإنس.
الآيات: 37 - 40 ( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فإذا انشقت السماء » أي انصدعت يوم القيامة « فكانت وردة كالدهان » الدهان الدهن، عن مجاهد والضحاك وغيرهما. والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء. وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: الدهان الجلد الأحمر الصرف، ذكره أبو عبيد والفراء. أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حر النار. ابن عباس: المعنى فكانت كالفرس الورد، يقال للكميت: ورد إذا كان يتلون بألوان مختلفة. قال ابن عباس: الفرس الورد، في الربيع كميت أصفر، وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتا أغبر. وقال الفراء: أراد الفرس الوردية، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا أشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل. وقال الحسن: « كالدهان » أي كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد بن أسلم: المعنى أنها تصير كعكر الزيت، وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء. قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان. وهذا قريب مما قدمناه من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها. وقال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي. وقال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحا فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء، لأنه أصل لونها. والله أعلم.
قوله تعالى: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » هذا مثل قوله تعالى: « ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون » [ القصص: 78 ] وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض، وهذا قول عكرمة. وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله حفظها عليهم، وكتبتها عليهم الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس. وعن الحسن ومجاهد أيضا: المعنى لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده. وقال مجاهد عن ابن عباس. وعنه أيضا في قوله تعالى: « فوربك لنسألنهم أجمعين » [ الحجر: 92 ] وقوله: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » وقال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ. وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقال قتادة: كانت المسألة قبل، ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت الجوارح شاهدة عليهم. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: « فيلقي العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والأبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول له مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك فيفتكر في نقسه من هذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه » وقد مضى هذا الحديث في « حم السجدة » وغيرها.
الآيات: 41 - 45 ( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، يطوفون بينها وبين حميم آن، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « يعرف المجرمون بسيماهم » قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين، قال الله تعالى: « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا » [ طه:102 ] وقال تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » [ آل عمران:106 ] . « فيؤخذ بالنواصي والأقدام » أي تأخذ الملائكة بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار. والنواصي جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه
قوله تعالى: « هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون » أي يقال لهم هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم. « يطوفون بينها وبين حميم آن » قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: « آن » ثلاثة أوجه، أحدها أنه الذي انتهى حره وحميمه. قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن
قال قتادة: « آن » طبخ منذ خلق الله السماوات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك. وقال كعب: « آن » واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: « يطوفون بينها وبين حميم آن » . وعن كعب أيضا: أنه الحاضر. وقال مجاهد: إنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته. والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ « فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان » [ الرحمن: 37 ] فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ويحك يا فتى مثلها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك » .
=======
الآيات: 31 - 36 ( سنفرغ لكم أيها الثقلان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « سنفرغ لكم أيها الثقلان » يقال: فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يربد تهديده: إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لها عذابا
يريد وقد قصدت. وقال أيضا وأنشده النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يا أهل الجباجب! هذا مذم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هذا إزب العقبة أما والله يا عدو لأتفرغن لك » أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: « سنفرغ لكم » مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قال الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرأ عبدالله وأبي « سنفرغ إليكم » وقرأ الأعمش وإبراهيم « سيفرغ لكم » بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن شهاب والأعرج « سنفرغ لكم » بفتح النون والراء، قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو « سيفرغ » بفتح الياء والراء، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي « سنفرغ لكم » بكسر النون وفتح الراء، وقرأ حمزة والكسائي « سيفرغ لكم » بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والإنس، سميا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف - وقيل: سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى: « وأخرجت الأرض أثقالها » [ الزلزلة: 2 ] ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين، لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: « سنفرغ لكم » فجمع، ثم قال: « أيه الثقلان » لأنهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس إن استطعتم » ولم يقل إن استطعتما، لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: « فإذا هم فريقان يختصمون » [ النمل: 45 ] و « هذان خصمان اختصموا في ربهم » [ الحج: 19 ] ولو قال: سنفرغ لكما، وقال: إن استطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام « أية الثقلان » بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم.
مسألة: هذه السورة و « الأحقاف » و « قل أوحي » دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك.
قوله تعالى: « معشر الجن والإنس » ذكر ابن المبارك: وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فذلك قوله تعالى: « يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانقذوا لا تنقذون إلا بسلطان » والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء، ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والإنس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله تعالى: « لا تنقذون إلا بسلطان » ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فأعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى: « لا تنقذون إلا بسلطان » لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل: لا تنفذون إلا إلى سلطان، الباء بمعنى إلى، كقوله تعالى: « وقد أحسن بي » [ يوسف: 100 ] أي إلى. قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله: « فانفذوا » أمر تعجيز.
قوله تعالى: « يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس » أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل: ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل: أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون « يا معشر الجن والإنس » ، فتلك النار قوله: « يرسل عليكما شواظ من نار » والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له. والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه، كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي ابن أبي الصلت، وفي « الصحاح » و « الوقف والابتداء » لابن الباري: أمية بن خلف قال:
ألا من مبلغ حسان عني مغلغة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان فينا لدي القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا وينفح دائبا لهب الشواظ
فأجابه حسان رضي الله عنه فقال:
هجوتك فاختضعت لها بذل بقافية تأجج كالشواظ
وقال رؤبة:
إن لهم من وقعنا أقياظا ونار حرب تسعر الشواظا
وقال مجاهد: الشواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار. الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقال سعيد بن جبير. وقد قيل: إن الشواظ النار والدخان جميعا، قاله عمرو وحكاه الأخفش عن بعض العرب. وقرأ ابن كثير « شواظ » بكسر الشين. الباقون بالضم وهما لغتان، مثل صوار وصوار لقطيع البقر. « ونحاس » قراءة العامة « ونحاس » بالرفع عطف على « شواظ » . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو « ونحاس » بالخفض عطفا على النار. قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في « النحاس » على هذا بين. فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: « يرسل عليكما شواظ من نار » وشيء من نحاس، فشيء معطوف على شواظ، ومن نحاس جملة هي صفة لشيء، وحذف شيء، وحذفت من لتقدم ذكرها في « من نار » كما حذفت على من قولهم: على من تنزل أنزل أي عليه. فيكون « نحاس » على هذا مجرورا بمن المحذوفة. وعن مجاهد وحميد وعكرمة وأبي العالية « ونحاس » بكسر النون لغتان كالشواظ والشواظ. والنحاس بالكسر أيضا الطبيعة والأصل، يقال: فلان كريم النحاس والنحاس أيضا بالضم أي كريم النجار. وعن مسلم بن جندب « ونحس » بالرفع. وعن حنظلة بن مرة بن النعمان الأنصاري « ونحس » بالجر عطف على نار. ويجوز أن يكون « ونحاس » بالكسر جمع نحس كصعب وصعاب « ونحس » بالرفع عطف على « شواظ » وعن الحسن « ونحس » بالضم فيهما جمع نحس. ويجوز أن يكون أصله ونحوس فقصر بحذف واوه حسب ما تقدم عند قوله: « وبالنجم هم يهتدون » [ النحل: 16 ] . وعن عبدالرحمن بن أبي بكرة « ونحس » بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين من حس يحس حسا إذا استأصل، ومنه قوله تعالى: « إذ تحسونهم بإذنه » [ آل عمران: 152 ] والمعنى ونقتل بالعذاب. وعلى القراءة الأولى « ونحاس » فهو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير أن النحاس الدخان الذي لا لهب فيه، وهو معنى قول الخليل، وهو معروف في كلام العرب بهذا المعنى، قال نابغة بني جعدة:
يضيء كضوء سراج السليـ ـط لم يجعل الله فيه نحاسا
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول السليط دهن السمسم بالشام ولا دخان فيه. وقال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر مذاب، تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار. وقال ابن مسعود: النحاس المهل. وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي. وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة. « فلا تنتصران » أي لا ينصر بعضكم بعضا يعني الجن والإنس.
الآيات: 37 - 40 ( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فإذا انشقت السماء » أي انصدعت يوم القيامة « فكانت وردة كالدهان » الدهان الدهن، عن مجاهد والضحاك وغيرهما. والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء. وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: الدهان الجلد الأحمر الصرف، ذكره أبو عبيد والفراء. أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حر النار. ابن عباس: المعنى فكانت كالفرس الورد، يقال للكميت: ورد إذا كان يتلون بألوان مختلفة. قال ابن عباس: الفرس الورد، في الربيع كميت أصفر، وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتا أغبر. وقال الفراء: أراد الفرس الوردية، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا أشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل. وقال الحسن: « كالدهان » أي كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد بن أسلم: المعنى أنها تصير كعكر الزيت، وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء. قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان. وهذا قريب مما قدمناه من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها. وقال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي. وقال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحا فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء، لأنه أصل لونها. والله أعلم.
قوله تعالى: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » هذا مثل قوله تعالى: « ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون » [ القصص: 78 ] وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض، وهذا قول عكرمة. وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله حفظها عليهم، وكتبتها عليهم الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس. وعن الحسن ومجاهد أيضا: المعنى لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده. وقال مجاهد عن ابن عباس. وعنه أيضا في قوله تعالى: « فوربك لنسألنهم أجمعين » [ الحجر: 92 ] وقوله: « فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان » وقال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ. وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقال قتادة: كانت المسألة قبل، ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت الجوارح شاهدة عليهم. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: « فيلقي العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والأبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول له مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك فيفتكر في نقسه من هذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه » وقد مضى هذا الحديث في « حم السجدة » وغيرها.
الآيات: 41 - 45 ( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، يطوفون بينها وبين حميم آن، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « يعرف المجرمون بسيماهم » قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين، قال الله تعالى: « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا » [ طه:102 ] وقال تعالى: « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » [ آل عمران:106 ] . « فيؤخذ بالنواصي والأقدام » أي تأخذ الملائكة بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار. والنواصي جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه
قوله تعالى: « هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون » أي يقال لهم هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم. « يطوفون بينها وبين حميم آن » قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: « آن » ثلاثة أوجه، أحدها أنه الذي انتهى حره وحميمه. قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:
وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمر من نجيع الجوف آن
قال قتادة: « آن » طبخ منذ خلق الله السماوات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك. وقال كعب: « آن » واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: « يطوفون بينها وبين حميم آن » . وعن كعب أيضا: أنه الحاضر. وقال مجاهد: إنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته. والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ « فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان » [ الرحمن: 37 ] فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ويحك يا فتى مثلها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك » .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الرحمن
=======
الآيات: 46 - 47 ( ولمن خاف مقام ربه جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ولمن خاف مقام ربه » لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للأبرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. فـ « مقام » مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » [ الرعد: 33 ] . وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.
هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقال به سفيان الثوري وأفتى به. وقال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته. وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله: « فإذا جاء أجلهم » [ الأعراف: 34 ] وقوله في موضع آخر: « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » [ نوح: 4 ] .
قوله تعالى: « جنتان » أي لمن خاف جنتان على حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والأول أظهر. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت » ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزل والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، فثنى لرؤوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رؤوس الآي. وأيضا قال: « ذواتا أفنان » . وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: « جنتان » ويصفهما بقوله: « فيهما » فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنا على ظمأ فأعجبه، فسأله عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: « رحمك الله لقد أنزلت فيك آية » وتلا عليه هذه الآية
الآيات: 48 - 51 ( ذواتا أفنان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما عينان تجريان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ذواتا أفنان » قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فن. وقال مجاهد: الأفنان الأغصان واحدها فنن، قال النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعه على فنن تغني
وقال آخر يصف طائرين:
باتا على غصن بان في ذرى فنن يرددان لحونا ذات ألوان
أراد باللحون الغات. وقال آخر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أب فرخين صادف ضاريا ذا مخلبين من الصقور قطاما
والفنن جمعه أفنان ثم الأفانين، وقال يصف رحى:
لها زمام من أفانين الشجر
وشجرة فناء أي ذات أفنان وفنواء أيضا على غير قياس. وفي الحديث: « أن أهل الجنة مرد مكحلون أولو أفانين » يريد أولو فنن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فنن وهو الخصلة من الشعر شبه بالغصن. ذكره الهروي. وقل: « ذواتا أفنان » أي ذواتا سعة وفضل على ما سواهما، قاله قتاده. وعن مجاهد أيضا وعكرمة: إن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
قوله تعالى: « فيهما عينان تجريان » أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال ابن عباس: تجريان ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة. وعن ابن عباس أيضا والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل. وعنه أيضا: عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عنيان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
الآيات: 52 - 55 ( فيهما من كل فاكهة زوجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهما من كل فاكهة زوجان » أي صنفان وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرها هنا عينين جاريتين، وذكر ثم عينين تنضحان بالماء والنضح دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان. « متكئين على فرش » هو نصب على الحال. والفرش جمع فراش. وقرأ أبو حيوة « فرش » بإسكان الراء « بطائنها من إستبرق » جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة والإستبرق ما غلظ من الديباج وخشن، أي إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة، قاله ابن مسعود وأبو هريرة. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ظواهرها نور يتلألأ » . وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد. وعن الحسن أيضا: البطائن هي الظواهر، وهو قول الفراء، وروي عن قتادة. والعرب تقول للظهر بطنا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها الذي نراه. وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما، كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء. « وجنى الجنتين دان » الجنى ما يجتنى من الشجر، يقال: أتانا بجناة طيبة لكل ما يجتنى. وثمر جني على فعيل حين جني، وقال:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وقرئ « جنى » بكسر الجيم. « دان » قريب. قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، لا يرد يده بعد ولا شوك.
الآيات: 56 - 57 ( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهن قاصرات الطرف » قيل: في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال: « فيهن » ولم يقل فيهما، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل: « فيهن » يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش « قاصرات الطرف » أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في « والصافات » ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع لأنه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم.
قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرأ الكسائي « لم يطمثهن » بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق:
وقعن إلي لم يطمثن قبلي وهن اصح من بيض النعام
وقيل: « لم يطمثن » لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شيء يمس ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال. وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرأ الحسن « جأن » بالهمزة.
في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنايات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الإنس في الجنة من الإنس في الجنة من الحور العين من الإنسيات إنس، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.
قلت: قد مضى في « النمل » القول في هذا وفي « الإسراء » أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم.
=======
الآيات: 46 - 47 ( ولمن خاف مقام ربه جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ولمن خاف مقام ربه » لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للأبرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. فـ « مقام » مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: « أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت » [ الرعد: 33 ] . وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.
هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقال به سفيان الثوري وأفتى به. وقال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته. وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله: « فإذا جاء أجلهم » [ الأعراف: 34 ] وقوله في موضع آخر: « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » [ نوح: 4 ] .
قوله تعالى: « جنتان » أي لمن خاف جنتان على حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والأول أظهر. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور وليس منها شيء إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت » ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزل والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، فثنى لرؤوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رؤوس الآي. وأيضا قال: « ذواتا أفنان » . وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل: « جنتان » ويصفهما بقوله: « فيهما » فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنا على ظمأ فأعجبه، فسأله عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: « رحمك الله لقد أنزلت فيك آية » وتلا عليه هذه الآية
الآيات: 48 - 51 ( ذواتا أفنان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما عينان تجريان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ذواتا أفنان » قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فن. وقال مجاهد: الأفنان الأغصان واحدها فنن، قال النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا مفجعه على فنن تغني
وقال آخر يصف طائرين:
باتا على غصن بان في ذرى فنن يرددان لحونا ذات ألوان
أراد باللحون الغات. وقال آخر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما
تدعو أب فرخين صادف ضاريا ذا مخلبين من الصقور قطاما
والفنن جمعه أفنان ثم الأفانين، وقال يصف رحى:
لها زمام من أفانين الشجر
وشجرة فناء أي ذات أفنان وفنواء أيضا على غير قياس. وفي الحديث: « أن أهل الجنة مرد مكحلون أولو أفانين » يريد أولو فنن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فنن وهو الخصلة من الشعر شبه بالغصن. ذكره الهروي. وقل: « ذواتا أفنان » أي ذواتا سعة وفضل على ما سواهما، قاله قتاده. وعن مجاهد أيضا وعكرمة: إن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان.
قوله تعالى: « فيهما عينان تجريان » أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال ابن عباس: تجريان ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة. وعن ابن عباس أيضا والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل. وعنه أيضا: عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الأذفر، وحافتاهما الزعفران. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عنيان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
الآيات: 52 - 55 ( فيهما من كل فاكهة زوجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهما من كل فاكهة زوجان » أي صنفان وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرها هنا عينين جاريتين، وذكر ثم عينين تنضحان بالماء والنضح دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان. « متكئين على فرش » هو نصب على الحال. والفرش جمع فراش. وقرأ أبو حيوة « فرش » بإسكان الراء « بطائنها من إستبرق » جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة والإستبرق ما غلظ من الديباج وخشن، أي إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة، قاله ابن مسعود وأبو هريرة. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ظواهرها نور يتلألأ » . وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد. وعن الحسن أيضا: البطائن هي الظواهر، وهو قول الفراء، وروي عن قتادة. والعرب تقول للظهر بطنا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها الذي نراه. وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما، كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء. « وجنى الجنتين دان » الجنى ما يجتنى من الشجر، يقال: أتانا بجناة طيبة لكل ما يجتنى. وثمر جني على فعيل حين جني، وقال:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وقرئ « جنى » بكسر الجيم. « دان » قريب. قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، لا يرد يده بعد ولا شوك.
الآيات: 56 - 57 ( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهن قاصرات الطرف » قيل: في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وإنما قال: « فيهن » ولم يقل فيهما، لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل: « فيهن » يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش « قاصرات الطرف » أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في « والصافات » ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع لأنه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم.
قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرأ الكسائي « لم يطمثهن » بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق:
وقعن إلي لم يطمثن قبلي وهن اصح من بيض النعام
وقيل: « لم يطمثن » لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شيء يمس ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال. وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرأ الحسن « جأن » بالهمزة.
في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس، والجنيات للجن. وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنايات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الإنس في الجنة من الإنس في الجنة من الحور العين من الإنسيات إنس، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.
قلت: قد مضى في « النمل » القول في هذا وفي « الإسراء » أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الرحمن
========
الآيات: 58 - 61 ( كأنهن الياقوت والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « كأنهن الياقوت والمرجان » روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها » وذلك بأن الله تعالى يقول: « كأنهن الياقوت والمرجان » فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه ويروى موقوفا. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان.
قوله تعالى: « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » « هل » في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: « هل أتى على الإحسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] ، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: « فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا » [ الأعراف: 44 ] ، وبمعنى الأمر كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] ، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: « فهل على الرسل إلا البلاغ » [ النحل: 35 ] ، و « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » . قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة. وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن زيد. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » ثم قال: « هل تدرون ماذا قال ربكم » قالوا الله ورسول أعلم، قال: « يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: « يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي » وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. وقال محمد ابن الحنيفة والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة.
الآيات: 62 - 65 ( ومن دونهما جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، مدهامتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ومن دونهما جنتان » أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون « ومن دونهما جنتان » لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث. وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين « فيهما من كل فاكهة زوجان » [ الرحمن: 52 ] و « عينان تجريان » [ الرحمن: 50 ] ، وجنتان لأصحاب اليمين « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] و « فيهما عينان نضاختان » [ الرحمن: 66 ] . وقال ابن زيد: إن الأولين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبدالله الحسن بن الحسين في كتاب « منهاج الدين له » ، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس « ولمن خاف مقام ربه جنتان » [ الرحمن: 46 ] إلى قوله: « مدهامتان » قال: تلك للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين: « فيهما عينان تجريان » [ الرحمن: 50 ] وفي الأخريين: « فيهما عينان نضاختان » [ الرحمن: 66 ] أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريين لأن النضخ دون الجري. وقال في الأوليين: « فيهما من كل فاكهة زوجان » [ الرحمن: 52 ] فعم ولم يخص. وفي الأخريين: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] ولم يقل كل فاكهة، وقال في الأوليين: « متكئين على فرش بطائنها من إستبرق » [ الرحمن: 54 ] وهو الديباج، وفي الأخريين « متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان » [ الرحمن: 76 ] والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وقال في الأوليين في صفة الحور: « كأنهن الياقوت والمرجان » [ الرحمن: 58 ] ، وفي الأخريين « فيهن خيرات حسان » [ الرحمن: 70 ] وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: « ذواتا أفنان » [ الرحمن: 48 ] وفي الأخريين « مدهامتان » أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله « ومن دونهما جنتان » ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصرت حال في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين، وقوله: « ومن دونهما جنتان » أي من أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبدالله الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » فقال: ومعنى « ومن دونهما جنتان » أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، وأخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى.
قوله تعالى: « مدهامتان » أي خضراوان من الري، قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي أشتدت زرقته حتى البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشيء ادهيماما أي اسواد، قال الله تعالى: « مدهامتان » أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود. وقال لبيد يرثي قتلى هوازن:
وجاؤوا به في هودج ووراءه كتائب خضر في نسيج السنور
السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم.
الآيات: 66 - 69 ( فيهما عينان نضاختان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما فاكهة ونخل ورمان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهما عينان نضاختان » أي فوارتان بالماء، عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء. وعنه أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، وقاله الحسن ومجاهد. ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. الترمذي: قالوا بأنواع الفواكه والنعم والجواري المزينات والدواب المسرجات والثياب الملونات. قال الترمذي: وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. وقيل: تنبعان ثم تجريان.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » [ البقرة: 238 ] وقول: « من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال » [ البقرة: 98 ] وقد تقدم. وقيل: إنما كررها لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم. قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.
الآيات: 70 - 71 ( فيهن خيرات حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهن خيرات حسان » يعني النساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير. وقيل: « خيرات » بمعنى خيرات فخفف، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن عامر قال: لو أن خيرة من « خيرات حسان » اطلعت من السماء لأضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. « حسان » أي حسان الخلق، وإذا قال الله تعالى: « حسان » فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن! وقال الزهري وقتادة: « خيرات » الأخلاق « حسان » الوجوه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة. وقال أبو صالح: لأنهن عذارى أبكار.
وقرأ قتادة وابن السميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي « خيرات » بالتشديد على الأصل. وقد قيل: أن خيرات جمع خي والمعنى ذوات خير. وقيل: مختارات. قال الترمذي: فالخيرات ما أختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين. ثم قال: « حسان » فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الحسن شيئا بالحسن فانظر ما هناك. وفي الأوليين ذكر بأنهن « قاصرات الطرف » [ الرحمن: 56 ] و « كأنهن الياقوت والمرجان » [ الرحمن: 58 ] فانظر كم بين الخيرة وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف. وفي الحديث: « إن الحور العين يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن النعمات فلا نبؤس أبدا ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام » . خرجه الترمذي بمعناه من حديث. علي رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فقالت عائشة رضي الله، عنها: فغلبنهن والله.
واختلف أيهما أكثر حسنا وأبهر جمالا الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام في دعائه على الميت في الجنازة: « وأبدله زوجا خيرا من زوجه » . وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وروي مرفوعا. وذكر ابن المبارك: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حيان بن أبي جبلة، قال: إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وقد قيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري. والمشهور أن الحور العين لسن، من نساء أهل الدنيا وإنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أقل ساكني الجنة النساء » فلا يصيب كل واحد منهم امرأة، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا.
الآيات: 72 - 75 ( حور مقصورات في الخيام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « حور مقصورات في الخيام » « حور » جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وقد تقدم. « مقصورات » محبوسات مستورات « في الخيام » في الحجال لسن بالطوافات في الطرق، قال ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درة مجوفة. وقاله ابن عباس. وقال: هي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في قوله تعالى « حور مقصورات في الخيام » : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا دخل ولي الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. والله أعلم. وقال في الأوليين: « فيهن قاصرات الطرف » [ الرحمن: 56 ] قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقال مجاهد: « مقصورات » قد قصرن على أزواجهن فلا يردن بدلا منهم. وفي الصحاح: وقصرت الشيء أقصره قصرا حبسته، ومنه مقصورة الجامع، وقصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوز إلى غيره، وامرأة قصيرة وقصورة أي مقصورة في البيت لا تترك أن تخرج، قال كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
وأنشده الفراء قصورة، ذكره ابن السكيت. وروى أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام » ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « حور مقصورات في الخيام » أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم إذا أحسنتن تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم ) .
قوله تعالى: « لم يطمثهن » أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة « يطمثهن » بكسر الميم. وقرأ أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الأولى كسر الثانية إذا كسر الأولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبدالله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الأثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلأنها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: « لم يطمثهن » ، ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا قصرن كانت لهن الخيام في تلك الحال.
الآيات: 76 - 78 ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام )
قوله تعالى: « متكئين على رفرف خضر » الرفرف المحابس. وقال ابن عباس: الرفرف فضول الفرش والبسط. وعنه أيضا: الرفرف المحابس يتكئون على فضولها، وقاله قتادة. وقال الحسن والقرظي: هي البسط. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرفق، وقال الحسن أيضا. وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب. وقال ابن كيسان: هي المرافق، تبسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو مرفرف. قال ابن مقبل:
وإنا لنزالون تغشى نعالنا سواقط من أصناف ريط ورفرف
وهذه أقوال متقاربة. وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لأنه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحد رفرفة. وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة تخشخش أي رفع طرف الفسطاط. وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضبا نضيرا، حكاه الثعلبي. وقال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنسيته، قاله الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » وقد ذكرناه في « التذكرة » . قال الترمذي: فالرفرف اعظم خطرا من الفرش فذكره في الأوليين « متكئين على فرش بطائنها من إستبرق » [ الرحمن: 54 ] وقال هنا: « متكئين على رفرف خضر » فالرفرف هو شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عز وجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله منم جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: « طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي » ثم لما حان الانصراف تناول فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكاهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: « وعبقري حسان » فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقرأ عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم « متكئين على رفارف » بالجمع غير مصروف كذلك « وعباقري حسان » جمع رفرف وعبقري. و « رفرف » اسم للجمع و « عبقري » واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قال الفراء. وقيل: الزراعي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشيء عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها من وشي عبقر تجليل وتنجيد
ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه « وقال أبو عمر بن العلاء وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم » فلم أر عبقريا يفري فريه « فقال: رئيس قوم وجليلهم. وقال زهير: »
بخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر
ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع. وفي الحديث: « إنه كان يسجد على عبقري » وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي. وفي الحديث: « فلم أر عبقريا يفري فريه » ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: « وعبقري حسان » وقرأه بعضهم « عباقري » وهو خطأ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي. وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ « متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان » ذكره الثعلبي. وضم الضاد من « خضر » قليل.
قوله تعالى: « تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام » « تبارك » تفاعل من البركة وقد تقدم. « ذي الجلال » أي العظمة. وقد تقدم « والإكرام » وقرأ عامر « ذو الجلال » بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون « ذي الجلال » جعلوا « ذي » صفة لـ « ربك » . وكأنه يربد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: « الرحمن » [ الرحمن: 1 ] فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه « كل يوم هو في شأن » [ الرحمن: 29 ] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفة النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: « تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام » أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: « ذي الجلال والإكرام » جليل في ذاته، كريم في أفعال. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عندما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم.
========
الآيات: 58 - 61 ( كأنهن الياقوت والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « كأنهن الياقوت والمرجان » روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها » وذلك بأن الله تعالى يقول: « كأنهن الياقوت والمرجان » فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه ويروى موقوفا. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان.
قوله تعالى: « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » « هل » في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: « هل أتى على الإحسان حين من الدهر » [ الإنسان: 1 ] ، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: « فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا » [ الأعراف: 44 ] ، وبمعنى الأمر كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] ، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: « فهل على الرسل إلا البلاغ » [ النحل: 35 ] ، و « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » . قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة. وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن زيد. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ « هل جزاء الإحسان إلا الإحسان » ثم قال: « هل تدرون ماذا قال ربكم » قالوا الله ورسول أعلم، قال: « يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: « يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي » وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد. وقال محمد ابن الحنيفة والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة.
الآيات: 62 - 65 ( ومن دونهما جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، مدهامتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « ومن دونهما جنتان » أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون « ومن دونهما جنتان » لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث. وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين « فيهما من كل فاكهة زوجان » [ الرحمن: 52 ] و « عينان تجريان » [ الرحمن: 50 ] ، وجنتان لأصحاب اليمين « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] و « فيهما عينان نضاختان » [ الرحمن: 66 ] . وقال ابن زيد: إن الأولين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين.
قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبدالله الحسن بن الحسين في كتاب « منهاج الدين له » ، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس « ولمن خاف مقام ربه جنتان » [ الرحمن: 46 ] إلى قوله: « مدهامتان » قال: تلك للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين: « فيهما عينان تجريان » [ الرحمن: 50 ] وفي الأخريين: « فيهما عينان نضاختان » [ الرحمن: 66 ] أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريين لأن النضخ دون الجري. وقال في الأوليين: « فيهما من كل فاكهة زوجان » [ الرحمن: 52 ] فعم ولم يخص. وفي الأخريين: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] ولم يقل كل فاكهة، وقال في الأوليين: « متكئين على فرش بطائنها من إستبرق » [ الرحمن: 54 ] وهو الديباج، وفي الأخريين « متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان » [ الرحمن: 76 ] والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وقال في الأوليين في صفة الحور: « كأنهن الياقوت والمرجان » [ الرحمن: 58 ] ، وفي الأخريين « فيهن خيرات حسان » [ الرحمن: 70 ] وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: « ذواتا أفنان » [ الرحمن: 48 ] وفي الأخريين « مدهامتان » أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله « ومن دونهما جنتان » ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصرت حال في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين، وقوله: « ومن دونهما جنتان » أي من أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبدالله الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » فقال: ومعنى « ومن دونهما جنتان » أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، وأخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى.
قوله تعالى: « مدهامتان » أي خضراوان من الري، قال ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي أشتدت زرقته حتى البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشيء ادهيماما أي اسواد، قال الله تعالى: « مدهامتان » أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود. وقال لبيد يرثي قتلى هوازن:
وجاؤوا به في هودج ووراءه كتائب خضر في نسيج السنور
السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم.
الآيات: 66 - 69 ( فيهما عينان نضاختان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فيهما فاكهة ونخل ورمان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهما عينان نضاختان » أي فوارتان بالماء، عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء. وعنه أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، وقاله الحسن ومجاهد. ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. الترمذي: قالوا بأنواع الفواكه والنعم والجواري المزينات والدواب المسرجات والثياب الملونات. قال الترمذي: وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. وقيل: تنبعان ثم تجريان.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » [ البقرة: 238 ] وقول: « من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال » [ البقرة: 98 ] وقد تقدم. وقيل: إنما كررها لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم. قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.
الآيات: 70 - 71 ( فيهن خيرات حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « فيهن خيرات حسان » يعني النساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير. وقيل: « خيرات » بمعنى خيرات فخفف، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن عامر قال: لو أن خيرة من « خيرات حسان » اطلعت من السماء لأضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. « حسان » أي حسان الخلق، وإذا قال الله تعالى: « حسان » فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن! وقال الزهري وقتادة: « خيرات » الأخلاق « حسان » الوجوه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة. وقال أبو صالح: لأنهن عذارى أبكار.
وقرأ قتادة وابن السميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي « خيرات » بالتشديد على الأصل. وقد قيل: أن خيرات جمع خي والمعنى ذوات خير. وقيل: مختارات. قال الترمذي: فالخيرات ما أختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين. ثم قال: « حسان » فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الحسن شيئا بالحسن فانظر ما هناك. وفي الأوليين ذكر بأنهن « قاصرات الطرف » [ الرحمن: 56 ] و « كأنهن الياقوت والمرجان » [ الرحمن: 58 ] فانظر كم بين الخيرة وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف. وفي الحديث: « إن الحور العين يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن النعمات فلا نبؤس أبدا ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام » . خرجه الترمذي بمعناه من حديث. علي رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فقالت عائشة رضي الله، عنها: فغلبنهن والله.
واختلف أيهما أكثر حسنا وأبهر جمالا الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام في دعائه على الميت في الجنازة: « وأبدله زوجا خيرا من زوجه » . وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وروي مرفوعا. وذكر ابن المبارك: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حيان بن أبي جبلة، قال: إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وقد قيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري. والمشهور أن الحور العين لسن، من نساء أهل الدنيا وإنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أقل ساكني الجنة النساء » فلا يصيب كل واحد منهم امرأة، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا.
الآيات: 72 - 75 ( حور مقصورات في الخيام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان )
قوله تعالى: « حور مقصورات في الخيام » « حور » جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وقد تقدم. « مقصورات » محبوسات مستورات « في الخيام » في الحجال لسن بالطوافات في الطرق، قال ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درة مجوفة. وقاله ابن عباس. وقال: هي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في قوله تعالى « حور مقصورات في الخيام » : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا دخل ولي الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. والله أعلم. وقال في الأوليين: « فيهن قاصرات الطرف » [ الرحمن: 56 ] قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقال مجاهد: « مقصورات » قد قصرن على أزواجهن فلا يردن بدلا منهم. وفي الصحاح: وقصرت الشيء أقصره قصرا حبسته، ومنه مقصورة الجامع، وقصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوز إلى غيره، وامرأة قصيرة وقصورة أي مقصورة في البيت لا تترك أن تخرج، قال كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
وأنشده الفراء قصورة، ذكره ابن السكيت. وروى أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام » ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « حور مقصورات في الخيام » أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم إذا أحسنتن تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم ) .
قوله تعالى: « لم يطمثهن » أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة « يطمثهن » بكسر الميم. وقرأ أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الأولى كسر الثانية إذا كسر الأولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبدالله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الأثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلأنها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: « لم يطمثهن » ، ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا قصرن كانت لهن الخيام في تلك الحال.
الآيات: 76 - 78 ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام )
قوله تعالى: « متكئين على رفرف خضر » الرفرف المحابس. وقال ابن عباس: الرفرف فضول الفرش والبسط. وعنه أيضا: الرفرف المحابس يتكئون على فضولها، وقاله قتادة. وقال الحسن والقرظي: هي البسط. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرفق، وقال الحسن أيضا. وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب. وقال ابن كيسان: هي المرافق، تبسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو مرفرف. قال ابن مقبل:
وإنا لنزالون تغشى نعالنا سواقط من أصناف ريط ورفرف
وهذه أقوال متقاربة. وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لأنه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحد رفرفة. وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة تخشخش أي رفع طرف الفسطاط. وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضبا نضيرا، حكاه الثعلبي. وقال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنسيته، قاله الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » وقد ذكرناه في « التذكرة » . قال الترمذي: فالرفرف اعظم خطرا من الفرش فذكره في الأوليين « متكئين على فرش بطائنها من إستبرق » [ الرحمن: 54 ] وقال هنا: « متكئين على رفرف خضر » فالرفرف هو شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عز وجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله منم جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: « طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي » ثم لما حان الانصراف تناول فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكاهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: « وعبقري حسان » فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقرأ عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم « متكئين على رفارف » بالجمع غير مصروف كذلك « وعباقري حسان » جمع رفرف وعبقري. و « رفرف » اسم للجمع و « عبقري » واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قال الفراء. وقيل: الزراعي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشيء عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها من وشي عبقر تجليل وتنجيد
ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه « وقال أبو عمر بن العلاء وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم » فلم أر عبقريا يفري فريه « فقال: رئيس قوم وجليلهم. وقال زهير: »
بخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر
ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع. وفي الحديث: « إنه كان يسجد على عبقري » وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي. وفي الحديث: « فلم أر عبقريا يفري فريه » ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: « وعبقري حسان » وقرأه بعضهم « عباقري » وهو خطأ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي. وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ « متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان » ذكره الثعلبي. وضم الضاد من « خضر » قليل.
قوله تعالى: « تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام » « تبارك » تفاعل من البركة وقد تقدم. « ذي الجلال » أي العظمة. وقد تقدم « والإكرام » وقرأ عامر « ذو الجلال » بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون « ذي الجلال » جعلوا « ذي » صفة لـ « ربك » . وكأنه يربد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: « الرحمن » [ الرحمن: 1 ] فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه « كل يوم هو في شأن » [ الرحمن: 29 ] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفة النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: « تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام » أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: « ذي الجلال والإكرام » جليل في ذاته، كريم في أفعال. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عندما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الواقعة للقرطبى
=====
مقدمة السورة
مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن قتاد: إلا آية منها نزلت بالمدية وهي قوله تعالى: « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » [ الواقعة: 82 ] . وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان « أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » [ الواقعة: 82 ] نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الأخرين » [ الواقعة: 40 ] في سفره إلى المدينة. وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وذكر أبو عمر بن عبدالبر في « التمهيد » و « التعليق » والثعلبي أيضا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر لك بعطاء لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي؟ إنى أمرتهن أن يقرأن سورة « الواقعة » كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ) .
الآيات: 1 - 6 ( إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا )
قوله تعالى: « إذا وقعت الواقعة » أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة. وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفيه إضمار، أي اذكروا إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: « إذا » صلة، أي وقعت الواقعة، كقوله: « اقتربت الساعة » [ القمر: 1 ] و « أتى أمر الله » [ النحل: 1 ] وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب. وعلى الأول « إذا » للوقت، والجواب قوله: « فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة » [ الواقعة: 8 ] . « ليس لوقعتها كاذبة » الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله تعالى: « لا تسمع فيها لاغية » [ الغاشية: 11 ] أي لغو، والمعنى لا يسمع لها كذب، قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذا بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قم قياما. ولبعض نساء العرب ترقص أبنها:
قم قائما قم قائما أصبت عبدا نائما
وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: « ليس لوقعتها كاذبة » أي لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد. وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه.
قوله تعالى: « خافضة رافعة » قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفع من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت، أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت، أقوات كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم. وفي التنزيل: « بل مكر الليل والنهار » [ سبأ: 33 ] والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي « خافضة رافعة » بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدأ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه.
قوله تعالى: « إذا رجت الأرض رجا » أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجه يرجه رجا أي حركه وزلزله. وناقة رجاء في عظيمة السنام. وفي الحديث: ( من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له ) يعني إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها أضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع « إذا » نصب على البدل من « إذا وقعت » . ويجوز أن ينتصب بـ « خافضة رافعة » أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأن عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الأرض، قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي اذكر « إذا رجت الأرض رجا » مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة.
قوله تعالى: « وبست الجبال بسا » أي فتتت، عن ابن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز:
لا تخبزا خبزا وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي نصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: « ينسفها ربي نسفا » [ طه: 105 ] . وقال عطيه: بسطت كالرمل والتراب. وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الإبل أبسها بالضم بسا. وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس. وفي الحديث. ( يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) ومنه الحديث الآخر: ( جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم ) والعرب تقول: جيء به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الأغلب العجلي: وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب.
قوله تعالى: « فكانت هباء منبثا » قال علي رضي الله عنه: الهباء الرهج الذي يسطع من حوافز الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا. وقال عطية. وقد مضى في « الفرقان » عند قوله تعالى: « وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا » [ الفرقان: 23 ] وقراءة العامة « منبثا » بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: « وبث فيها من كل دابة » [ لقمان: 10 ] أي فرق ونشر. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة « منبتا » بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات.
=====
مقدمة السورة
مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن قتاد: إلا آية منها نزلت بالمدية وهي قوله تعالى: « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » [ الواقعة: 82 ] . وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان « أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » [ الواقعة: 82 ] نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الأخرين » [ الواقعة: 40 ] في سفره إلى المدينة. وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وذكر أبو عمر بن عبدالبر في « التمهيد » و « التعليق » والثعلبي أيضا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر لك بعطاء لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي؟ إنى أمرتهن أن يقرأن سورة « الواقعة » كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ) .
الآيات: 1 - 6 ( إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا )
قوله تعالى: « إذا وقعت الواقعة » أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة. وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفيه إضمار، أي اذكروا إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: « إذا » صلة، أي وقعت الواقعة، كقوله: « اقتربت الساعة » [ القمر: 1 ] و « أتى أمر الله » [ النحل: 1 ] وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب. وعلى الأول « إذا » للوقت، والجواب قوله: « فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة » [ الواقعة: 8 ] . « ليس لوقعتها كاذبة » الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله تعالى: « لا تسمع فيها لاغية » [ الغاشية: 11 ] أي لغو، والمعنى لا يسمع لها كذب، قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذا بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قم قياما. ولبعض نساء العرب ترقص أبنها:
قم قائما قم قائما أصبت عبدا نائما
وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: « ليس لوقعتها كاذبة » أي لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد. وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه.
قوله تعالى: « خافضة رافعة » قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفع من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت، أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت، أقوات كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم. وفي التنزيل: « بل مكر الليل والنهار » [ سبأ: 33 ] والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي « خافضة رافعة » بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدأ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه.
قوله تعالى: « إذا رجت الأرض رجا » أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجه يرجه رجا أي حركه وزلزله. وناقة رجاء في عظيمة السنام. وفي الحديث: ( من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له ) يعني إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها أضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع « إذا » نصب على البدل من « إذا وقعت » . ويجوز أن ينتصب بـ « خافضة رافعة » أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأن عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الأرض، قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي اذكر « إذا رجت الأرض رجا » مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة.
قوله تعالى: « وبست الجبال بسا » أي فتتت، عن ابن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز:
لا تخبزا خبزا وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي نصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: « ينسفها ربي نسفا » [ طه: 105 ] . وقال عطيه: بسطت كالرمل والتراب. وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الإبل أبسها بالضم بسا. وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس. وفي الحديث. ( يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) ومنه الحديث الآخر: ( جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم ) والعرب تقول: جيء به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الأغلب العجلي: وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب.
قوله تعالى: « فكانت هباء منبثا » قال علي رضي الله عنه: الهباء الرهج الذي يسطع من حوافز الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا. وقال عطية. وقد مضى في « الفرقان » عند قوله تعالى: « وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا » [ الفرقان: 23 ] وقراءة العامة « منبثا » بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: « وبث فيها من كل دابة » [ لقمان: 10 ] أي فرق ونشر. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة « منبتا » بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الواقعة
========
الآيات: 7 - 12 ( وكنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم )
قوله تعالى: « وكنتم أزواجا ثلاثة » أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: « فأصحاب الميمنة » « وأصحاب المشأمة » و « السابقون » ، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم. وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر. وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله. وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة - قال - فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمال بكى - قال - فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح - قال - قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار ) وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب الشأمة أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي أجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في « ما أصحاب الميمنة » . و « ما أصحاب المشأمة » للتفخيم والتعجيب، كقوله: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] و « القارعة ما القارعة » [ القارعة: 1 ] كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب. وقيل: « أصحاب » رفع بالابتداء والخبر « ما أصحاب الميمنة » كأنه قال: « فأصحاب الميمنة » ما هم، المعنى: أي شيء هم. وقيل: يجوز أن تكون « ما » تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة.
قوله تعالى: « والسابقون السابقون » روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ) ذكره المهدوي. وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: « والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار » [ التوبة: 100 ] . وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » [ آل عمران: 133 ] ثم أثنى عليهم فقال: « أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون » [ المؤمنون: 61 ] . وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال ابن عباس، حكاه الماوردي. وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وقيل: هم كل من سبق إلى شيء من أشياء الصلاح. ثم قيل: « السابقون » رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبرة « أولئك المقربون » وقال الزجاج: « السابقون » رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله « أولئك المقربون » من صفتهم. وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.
الآيات: 13 - 16 ( ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، على سرر موضونة، متكئين عليها متقابلين )
قوله تعالى: « ثلة من الأولين » أي جماعة من الأمم الماضية. « وقليل من الآخرين » أي ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الأمة، وقليل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم لأن الأنبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخري » [ الواقعة: 40 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني ) رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، ولذلك قال: « وقليل من الآخرين » وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » [ الواقعة:40 ] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ) ثم تلا قوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » . قال مجاهد: كل من هذه الأمة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلتان جميعا من أمتي ) يعني « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » [ الواقعة: 40 ] . وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله » [ فاطر: 32 ] . وقيل: « ثلة من الأولين » أي من أول هذه الأمة. « وقليل من الآخرين » يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( خيركم قرني ) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: « على سرر » أي السابقون في الجنة « على سرر » ، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. « موضونة » قال ابن عباس: منسوخة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: « موضونة » مصفوفة، كما قال في موضع آخر: « على سرر مصفوفة » [ الطور: 20 ] . وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة بالذهب. وفي التفاسير: « موضونة » أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد - والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها
« متكئين عليها » أي على السرر « متقابلين » أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي يتكئون متقابلين. قال مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.
========
الآيات: 7 - 12 ( وكنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم )
قوله تعالى: « وكنتم أزواجا ثلاثة » أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: « فأصحاب الميمنة » « وأصحاب المشأمة » و « السابقون » ، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم. وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر. وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله. وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة - قال - فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمال بكى - قال - فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح - قال - قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار ) وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب الشأمة أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي أجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في « ما أصحاب الميمنة » . و « ما أصحاب المشأمة » للتفخيم والتعجيب، كقوله: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] و « القارعة ما القارعة » [ القارعة: 1 ] كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب. وقيل: « أصحاب » رفع بالابتداء والخبر « ما أصحاب الميمنة » كأنه قال: « فأصحاب الميمنة » ما هم، المعنى: أي شيء هم. وقيل: يجوز أن تكون « ما » تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة.
قوله تعالى: « والسابقون السابقون » روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم ) ذكره المهدوي. وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: « والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار » [ التوبة: 100 ] . وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » [ آل عمران: 133 ] ثم أثنى عليهم فقال: « أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون » [ المؤمنون: 61 ] . وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال ابن عباس، حكاه الماوردي. وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وقيل: هم كل من سبق إلى شيء من أشياء الصلاح. ثم قيل: « السابقون » رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبرة « أولئك المقربون » وقال الزجاج: « السابقون » رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله « أولئك المقربون » من صفتهم. وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.
الآيات: 13 - 16 ( ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، على سرر موضونة، متكئين عليها متقابلين )
قوله تعالى: « ثلة من الأولين » أي جماعة من الأمم الماضية. « وقليل من الآخرين » أي ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الأمة، وقليل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم لأن الأنبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخري » [ الواقعة: 40 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني ) رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، ولذلك قال: « وقليل من الآخرين » وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » [ الواقعة:40 ] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ) ثم تلا قوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » . قال مجاهد: كل من هذه الأمة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلتان جميعا من أمتي ) يعني « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » [ الواقعة: 40 ] . وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله » [ فاطر: 32 ] . وقيل: « ثلة من الأولين » أي من أول هذه الأمة. « وقليل من الآخرين » يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( خيركم قرني ) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: « على سرر » أي السابقون في الجنة « على سرر » ، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. « موضونة » قال ابن عباس: منسوخة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: « موضونة » مصفوفة، كما قال في موضع آخر: « على سرر مصفوفة » [ الطور: 20 ] . وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة بالذهب. وفي التفاسير: « موضونة » أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد - والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها
« متكئين عليها » أي على السرر « متقابلين » أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي يتكئون متقابلين. قال مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الواقعة
========
الآيات: 17 - 26 ( يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما )
قوله تعالى: « يطوف عليهم ولدان مخلدون » أي غلمان لا يموتون، قال مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان
وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: « مخلدون » منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. « بأكواب وأباريق » أكواب جمع كوب وقد مضى في « الزخرف » وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. « وكأس من معين » مضى في « والصافات » القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة لعيون فيكون « معين » مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة.
قوله تعالى: « لا يصدعون عنها » أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. « ولا ينزفون » تقدم في « والصافات » أي لا يسكرون فتذهب. عقولهم. وقرأ مجاهد: « لا يصدعون » بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] . وقرأ أهل الكوفة « ينزفون » بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أوصحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
قوله تعالى: « وفاكهة مما يتخيرون » أي يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. « ولحم طير مما يشتهون » روى الترمذي عن أنس بن مالك قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: ( ذاك نهر أعطانيه الله تعالى - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر ) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكتلها أحسن منها ) قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء ) فقال عمر: يا نبي الله إنها لناعمة. فقال: ( أكلها أنعم منها ) . وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير ) .
قوله تعالى: « وحور عين » قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على « بأكواب » وهو محمول على المعنى، لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قال الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على « جنات » أي هم في « جنات النعيم » وفي حور على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة حور. الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لأن معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور - وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم - فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: « وحور عين » بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على « ثلة » و « ثلة » ابتداء وخبره « على سرر موضونة » وكذلك « وحور عين » وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. « كأمثال » أي مثل أمثال « اللؤلؤ المكنون » أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة فكل أكنافها وجه لمرصاد
« جزاء بما كانوا يعملون » أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لأن معنى « يطوف عليهم ولدان مخلدون » يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في « والطور » وغيرها. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خلق الله الحور العين من الزعفران ) وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة ) فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء « جزاء بما كانوا يعملون » [ السجدة: 17 ] .
قوله تعالى: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما » قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: « ولا تأثيما » أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما » شتما ولا مأثما. « إلا قيلا سلاما سلاما » « قيلا » منصوب بـ « يسمعون » أو استئناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أويسمعون. و « سلاما سلاما » منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصف لـ « قيلا » ، والسلام الثابي بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.
========
الآيات: 17 - 26 ( يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما )
قوله تعالى: « يطوف عليهم ولدان مخلدون » أي غلمان لا يموتون، قال مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان
وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: « مخلدون » منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. « بأكواب وأباريق » أكواب جمع كوب وقد مضى في « الزخرف » وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. « وكأس من معين » مضى في « والصافات » القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة لعيون فيكون « معين » مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة.
قوله تعالى: « لا يصدعون عنها » أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. « ولا ينزفون » تقدم في « والصافات » أي لا يسكرون فتذهب. عقولهم. وقرأ مجاهد: « لا يصدعون » بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] . وقرأ أهل الكوفة « ينزفون » بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أوصحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
قوله تعالى: « وفاكهة مما يتخيرون » أي يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. « ولحم طير مما يشتهون » روى الترمذي عن أنس بن مالك قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: ( ذاك نهر أعطانيه الله تعالى - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر ) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكتلها أحسن منها ) قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء ) فقال عمر: يا نبي الله إنها لناعمة. فقال: ( أكلها أنعم منها ) . وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير ) .
قوله تعالى: « وحور عين » قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على « بأكواب » وهو محمول على المعنى، لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قال الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على « جنات » أي هم في « جنات النعيم » وفي حور على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة حور. الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لأن معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور - وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم - فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: « وحور عين » بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على « ثلة » و « ثلة » ابتداء وخبره « على سرر موضونة » وكذلك « وحور عين » وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. « كأمثال » أي مثل أمثال « اللؤلؤ المكنون » أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة فكل أكنافها وجه لمرصاد
« جزاء بما كانوا يعملون » أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لأن معنى « يطوف عليهم ولدان مخلدون » يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في « والطور » وغيرها. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خلق الله الحور العين من الزعفران ) وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة ) فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء « جزاء بما كانوا يعملون » [ السجدة: 17 ] .
قوله تعالى: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما » قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: « ولا تأثيما » أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما » شتما ولا مأثما. « إلا قيلا سلاما سلاما » « قيلا » منصوب بـ « يسمعون » أو استئناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أويسمعون. و « سلاما سلاما » منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصف لـ « قيلا » ، والسلام الثابي بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الواقعة
=======
الآيات: 27 - 40 ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين، ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين )
قوله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين » رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. « في سدر مخضود » أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قال ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة توذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما هي ) قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى الله عليه وسلم ( أو ليس يقول « في سدر مخضود » خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر ) . وقال أبو العالية والضحال: نظر المسلمون إلى وج ( وهو واد بالطائف مخصب ) فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: « في سدر مخضود » وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة « النجم » عند قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » [ النجم: 14 ] وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « وطلح منضود » الطلح شجر الموز واحده طلحة. قال أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والأحبالا
فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: « طلع منضود » بالعين وتلا هذه الآية « ونخل طلعها هضيم » [ الشعراء: 148 ] وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه « وطلح منضود » فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو « وطلع منضود » ثم قال: « لها طلع نضيد » [ ق: 10 ] فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قال القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد - « وطلح منضود » فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ « وطلع » ثم قال: « لها طلع نضيد » [ ق: 10 ] فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قول. والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحسبه ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
قوله تعالى: « وظل ممدود » أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: « ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا » [ الفرقان: 45 ] وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمر بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب دهر طويل دائم ممدود
وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم « وظل ممدود » . « وماء مسكوب » أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه. يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها.
قوله تعالى: « وفاكهة كثيرة » أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم « لا مقطوعة » أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء « ولا ممنوعة » أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: « ولا ممنوعة » أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: « وذللت قطوفها تذليلا » [ الإنسان: 14 ] . وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم.
قوله تعالى: « وفرش مرفوعة » روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « وفرش مرفوعة » قال: ( ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ) قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل: « وفرش مرفوعة » دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء » أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: « هن لباس لكم » . ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني ادم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء » قال: ( منهن البكر والثيب ) . وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا » فقال ( يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء « أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيد عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رفعه « إنا أنشأناهن إنشاء » قال ( هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا ) . وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله « إنا أنشأناهن إنشاء » الآية قال: ( هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا ) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس هناك وجع ) . » عربا « جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد: »
وفي الخباء عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وهي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عربا » قال: ( كلامهن عربي ) . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « عربا » بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. « أترابا » على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: « أترابا » أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. « لأصحاب اليمين » قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين.
قوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » رجع الكلام إلى قوله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين » أي هم « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: « ثلة من الأولين » يعني من سابقي هذه الأمة « وثلة من الآخرين » من هذه الأمة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هم جميعا من أمتي ) . وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان من الأمم الماضية ونصف من هذه الأمة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و « ثلة » رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الأمة على القول الثاني.
الآيات: 41 - 56 ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين، وكانوا يصرون على الحنث العظيم، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون، قل إن الأولين والآخرين، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون، لآكلون من شجر من زقوم، فمالئون منها البطون، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الهيم، هذا نزلهم يوم الدين )
قوله تعالى: « وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال » ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: « ما أصحاب الشمال. » في سموم « والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. » وحميم « أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في » محمد « » وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم « [ محمد: 15 ] . » وظل من يحموم « أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو المأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. » لا بارد « بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. » ولا كريم « عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم. وقيل: » وظل من يحموم « أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: » لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل « [ الزمر: 16 ] . » إنهم كانوا قبل ذلك مترفين « أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: » مترفين « أي مشركين. » وكانوا يصرون على الحنث العظيم « أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: » وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت « [ النحل: 38 ] وفي الخبر: كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. » وكانوا يقولون أئذا متنا « هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. فقال الله تعالى: » قل « لهم يا محمد » إن الأولين « من أبائكم » والآخرين « منكم » لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم « يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قوله تعالى: » لمجوعون « هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل » ثم إنكم أيها الضالون « عن الهدى » المكذبون « بالبعث » لآكلون من شجر من زقوم « وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة » والصافات « . » فمالئون منها البطون « أي من الشجرة، لأن المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون » من « الأولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: » لآكلون من شجر من زقوم « طعاما. وقوله: » من زقوم « صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.»
قوله تعالى: « فشاربون عليه » أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. « من الحميم » وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. « فشاربون شرب الهيم » قراءة نافع وعاصم وحمزة « شرب » بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين ولتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائها
وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث وأطلاح من العيدي هيم
وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.
قوله تعالى: « هذا نزلهم يوم الدين » أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو « هذا نزلهم » بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر « آل عمران » القول فيه. « يوم الدين » يوم الجزاء، يعني في جهنم
=======
الآيات: 27 - 40 ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين، ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين )
قوله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين » رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. « في سدر مخضود » أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قال ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة توذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما هي ) قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى الله عليه وسلم ( أو ليس يقول « في سدر مخضود » خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر ) . وقال أبو العالية والضحال: نظر المسلمون إلى وج ( وهو واد بالطائف مخصب ) فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة فيها الكواعب سدرها مخضود
وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: « في سدر مخضود » وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة « النجم » عند قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » [ النجم: 14 ] وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « وطلح منضود » الطلح شجر الموز واحده طلحة. قال أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا غدا ترين الطلح والأحبالا
فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: « طلع منضود » بالعين وتلا هذه الآية « ونخل طلعها هضيم » [ الشعراء: 148 ] وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه « وطلح منضود » فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو « وطلع منضود » ثم قال: « لها طلع نضيد » [ ق: 10 ] فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قال القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد - « وطلح منضود » فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ « وطلع » ثم قال: « لها طلع نضيد » [ ق: 10 ] فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قول. والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحسبه ورفعته إلى السجفين فالنضد
وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها.
قوله تعالى: « وظل ممدود » أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: « ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا » [ الفرقان: 45 ] وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمر بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب دهر طويل دائم ممدود
وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم « وظل ممدود » . « وماء مسكوب » أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه. يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطرادها.
قوله تعالى: « وفاكهة كثيرة » أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم « لا مقطوعة » أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء « ولا ممنوعة » أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: « ولا ممنوعة » أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: « وذللت قطوفها تذليلا » [ الإنسان: 14 ] . وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم.
قوله تعالى: « وفرش مرفوعة » روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « وفرش مرفوعة » قال: ( ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ) قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل: « وفرش مرفوعة » دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء » أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: « هن لباس لكم » . ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني ادم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولأن الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء » قال: ( منهن البكر والثيب ) . وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: « إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا » فقال ( يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء « أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيد عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رفعه « إنا أنشأناهن إنشاء » قال ( هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا ) . وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله « إنا أنشأناهن إنشاء » الآية قال: ( هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا ) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس هناك وجع ) . » عربا « جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد: »
وفي الخباء عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وهي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عربا » قال: ( كلامهن عربي ) . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « عربا » بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. « أترابا » على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: « أترابا » أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. « لأصحاب اليمين » قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين.
قوله تعالى: « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » رجع الكلام إلى قوله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين » أي هم « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: « ثلة من الأولين » يعني من سابقي هذه الأمة « وثلة من الآخرين » من هذه الأمة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية « ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هم جميعا من أمتي ) . وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان من الأمم الماضية ونصف من هذه الأمة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و « ثلة » رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الأمة على القول الثاني.
الآيات: 41 - 56 ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين، وكانوا يصرون على الحنث العظيم، وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون، قل إن الأولين والآخرين، لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم، ثم إنكم أيها الضالون المكذبون، لآكلون من شجر من زقوم، فمالئون منها البطون، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الهيم، هذا نزلهم يوم الدين )
قوله تعالى: « وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال » ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: « ما أصحاب الشمال. » في سموم « والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. » وحميم « أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في » محمد « » وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم « [ محمد: 15 ] . » وظل من يحموم « أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو المأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. » لا بارد « بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. » ولا كريم « عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم. وقيل: » وظل من يحموم « أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: » لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل « [ الزمر: 16 ] . » إنهم كانوا قبل ذلك مترفين « أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: » مترفين « أي مشركين. » وكانوا يصرون على الحنث العظيم « أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: » وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت « [ النحل: 38 ] وفي الخبر: كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. » وكانوا يقولون أئذا متنا « هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له. فقال الله تعالى: » قل « لهم يا محمد » إن الأولين « من أبائكم » والآخرين « منكم » لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم « يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قوله تعالى: » لمجوعون « هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل » ثم إنكم أيها الضالون « عن الهدى » المكذبون « بالبعث » لآكلون من شجر من زقوم « وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة » والصافات « . » فمالئون منها البطون « أي من الشجرة، لأن المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون » من « الأولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: » لآكلون من شجر من زقوم « طعاما. وقوله: » من زقوم « صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.»
قوله تعالى: « فشاربون عليه » أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. « من الحميم » وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. « فشاربون شرب الهيم » قراءة نافع وعاصم وحمزة « شرب » بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين ولتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائها
وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث وأطلاح من العيدي هيم
وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.
قوله تعالى: « هذا نزلهم يوم الدين » أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو « هذا نزلهم » بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر « آل عمران » القول فيه. « يوم الدين » يوم الجزاء، يعني في جهنم
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الواقعة
=====
الآيات: 57 - 62 ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون )
قوله تعالى: « نحن خلقناكم فلولا تصدقون » أي فهلا تصدقون بالبعث؟ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟ « أفرأيتم ما تمنون » أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. « أأنتم تخلقونه » أي تصورون منه الإنسان « أم نحن الخالقون » المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: « تمنون » بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذى يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لإمنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة.
قوله تعالى: « نحن قدرنا بينكم الموت » احتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير « قدرنا » بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عز وجل. « وما نحن بمسبوقين » أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. « بمسبوقين » معناه بمغلوبين. « على أن نبدل أمثالكم » وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت « على أن نبدل أمثالكم » بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. « وننشئكم في ما لا تعلمون » من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ومقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير: قوله تعالى: « فيما لا تعلمون » يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: « فيما لا تعلمون » في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون.
قوله تعالى: « ولقد علمتم النشأة الأولى » أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. « فلولا تتذكرون » أي فهلا تذكرون. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة « النشأة » بالقصر. وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: « النشاءة » بالمد، وقد مضى في « العنكبوت » بيانه.
الآيات: 63 - 67 ( أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون )
قوله تعالى: « أفرأيتم ما تحرثون » هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله ) قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: « أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة « أفر أيتم ما تحرثون » الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، وأجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى « أأنتم تزرعونه » أي تجعلونه زرعا. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يؤول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا.
قلت: فهو نهي إرشاد وأدب لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ) وقد مضى في « يوسف » القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما: الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للاعتبار، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقال إلى استواء حال من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال « لو نشاء لجعلناه حطاما » أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعلا الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. « فظللتم تتفكهون » أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: « فظلتم تفكهون » أي تندمون. وتفكهت بالشيء تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: « فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها » [ الكهف: 42 ] وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفيه لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة « فظلتم » بفتح الظاء. وقرأ عبدالله « فظلتم » بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الأصل. والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها. « إنا لمغرمون » وقرأ أبو بكر والمفضل « أئنا » بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زر بن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون « إنا لمغرمون » أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم:
وثقت بأن الحفظ مني سجية وأن فؤادي متبل بك مغرم
وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
سلا عن تذكره تكتما وكان رهينا بها مغرما
يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: « إنا لمغرمون » مأخوذ من الغرام وهو الهلال، كما قال:
يوم النسار ويوم الجفار كانا عذابا وكانا غراما
والضحاك وابن كيسان: هو من الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. « بل نحن محرومون » أي حرث ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار فقال: ( ما يمنعكم من الحرث ) قالوا: الجدوبة، فقال: ( لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ) ثم تلا « أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » .
قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) .
الآيات: 68 - 74 ( أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون، أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم )
قوله تعالى: « أفرأيتم الماء الذي تشربون » لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا سقوا أضيافهم شبما زلالا
وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. « أأنتم أنزلتموه من المزن »
أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولافينا يعد بخيل
وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال:
ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمع
« أم نحن المنزلون » أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟. « لو نشاء جعلناه أجاجا » أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. « فلولا تشكرون » أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم.
قوله تعالى: « أفرأيتم النار التي تورون » أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب « أأنتم أنشأتم شجرتها » يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل ش جر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لأنهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. « أم نحن المنشؤون » أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدوتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. « نحن جعلناها تذكرة » يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: ( فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها ) . « ومتاعا للمقوين » قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
ويقال: أقوى أي قوي وقوي أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: « للمقوين » المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر:
وإني لأختار القوى طاوي الحشى محافظة من أن يقال لئيم
وقال الربيع والسدي: « المقوين » المنزلين الذين لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. « فسبح باسم ربك العظيم » أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
=====
الآيات: 57 - 62 ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون )
قوله تعالى: « نحن خلقناكم فلولا تصدقون » أي فهلا تصدقون بالبعث؟ لأن الإعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؟ « أفرأيتم ما تمنون » أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. « أأنتم تخلقونه » أي تصورون منه الإنسان « أم نحن الخالقون » المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الأولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: « تمنون » بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذى يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لإمنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لأنه مقدار لذلك، وكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة.
قوله تعالى: « نحن قدرنا بينكم الموت » احتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الإماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير « قدرنا » بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عز وجل. « وما نحن بمسبوقين » أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. « بمسبوقين » معناه بمغلوبين. « على أن نبدل أمثالكم » وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت « على أن نبدل أمثالكم » بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. « وننشئكم في ما لا تعلمون » من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ومقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير: قوله تعالى: « فيما لا تعلمون » يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: « فيما لا تعلمون » في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون.
قوله تعالى: « ولقد علمتم النشأة الأولى » أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. « فلولا تتذكرون » أي فهلا تذكرون. وفي الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة « النشأة » بالقصر. وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: « النشاءة » بالمد، وقد مضى في « العنكبوت » بيانه.
الآيات: 63 - 67 ( أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون )
قوله تعالى: « أفرأيتم ما تحرثون » هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك؟ وإنما منكم البذر وشق الأرض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وإعادتهم؟! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله ) قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: « أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » والمستحب لكل من يلقي البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة « أفر أيتم ما تحرثون » الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، وأجعلنا لأنعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى « أأنتم تزرعونه » أي تجعلونه زرعا. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يؤول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الأرض وتكريبها تجوزا.
قلت: فهو نهي إرشاد وأدب لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ) وقد مضى في « يوسف » القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما: الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للاعتبار، لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقال إلى استواء حال من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال « لو نشاء لجعلناه حطاما » أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعلا الزرع حطاما إذا شاء وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. « فظللتم تتفكهون » أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: « فظلتم تفكهون » أي تندمون. وتفكهت بالشيء تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: « فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها » [ الكهف: 42 ] وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفيه لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة « فظلتم » بفتح الظاء. وقرأ عبدالله « فظلتم » بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الأصل. والأصل ظللتم فحذف اللام الأولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها. « إنا لمغرمون » وقرأ أبو بكر والمفضل « أئنا » بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زر بن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون « إنا لمغرمون » أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم:
وثقت بأن الحفظ مني سجية وأن فؤادي متبل بك مغرم
وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
سلا عن تذكره تكتما وكان رهينا بها مغرما
يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: « إنا لمغرمون » مأخوذ من الغرام وهو الهلال، كما قال:
يوم النسار ويوم الجفار كانا عذابا وكانا غراما
والضحاك وابن كيسان: هو من الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. « بل نحن محرومون » أي حرث ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الأنصار فقال: ( ما يمنعكم من الحرث ) قالوا: الجدوبة، فقال: ( لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ) ثم تلا « أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون » .
قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) .
الآيات: 68 - 74 ( أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون، أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون، نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم )
قوله تعالى: « أفرأيتم الماء الذي تشربون » لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الآية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سقيت ضيوف الناس محضا سقوا أضيافهم شبما زلالا
وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. « أأنتم أنزلتموه من المزن »
أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا كهام ولافينا يعد بخيل
وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال:
ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمع
« أم نحن المنزلون » أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة؟. « لو نشاء جعلناه أجاجا » أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. « فلولا تشكرون » أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم.
قوله تعالى: « أفرأيتم النار التي تورون » أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب « أأنتم أنشأتم شجرتها » يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل ش جر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لأنهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. « أم نحن المنشؤون » أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدوتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. « نحن جعلناها تذكرة » يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: ( فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها ) . « ومتاعا للمقوين » قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
ويقال: أقوى أي قوي وقوي أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: « للمقوين » المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر:
وإني لأختار القوى طاوي الحشى محافظة من أن يقال لئيم
وقال الربيع والسدي: « المقوين » المنزلين الذين لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. « فسبح باسم ربك العظيم » أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الواقعة
========
الآيات: 75 - 80 ( فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين )
قوله تعالى: « فلا أقسم » « لا » صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم، بدليل قوله: « وإنه لقسم » . وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف « أقسم » . وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الأمر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل: « لا » بمعنى إلا للتنبيه كما قال:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر فلأقسم « بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلأنا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ. »
قوله تعالى: « بمواقع النجوم » مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح: منازلها. الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي: ويكون قوله تعالى: « فلا أقسم » مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة. قلت: يدل على هذا قراءة الحسن « فلأقسم » وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزل على الأحداث من أمته، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرضى نجوما، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: « فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم » وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرأ حمزة والكسائي « بموقع » على التوحيد، وهي قراءة عبدالله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه.
قوله تعالى: « إنه لقرآن كريم » قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم « إنه لقرآن كريم » ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: « كريم » أي غير مخلوق. وقيل: « كريم » لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. « في كتاب مكنون » مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قال ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
قوله تعالى: « لا يمسه إلا المطهرون » اختلف في معنى « لا يمسه » هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في « المطهرون » من هم؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله « لا يمسه إلا المطهرون » أنها بمنزلة الآية التي في « عبس وتولى » [ عبس: 1 ] : « فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة » [ عبس: 13 ] يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة « عبس » . وقيل: معنى « لا يمسه » لا ينزل به « إلا المطهرون » أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: ( من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد ) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ) . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: « لا يمسه إلا المطهرون » فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة « طه » .
وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: « لا يمسه إلا المطهرون » من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى « لا يمسه » لا يقرؤه « إلا المطهرون » إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ) . وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » . المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
« تنزيل من رب العالمين » أي منزل، كقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن. وقيل: « تنزيل » صفة لقوله تعالى: « إنه لقرآن كريم » . وقيل: أي هو تنزيل.
الآيات: 81 - 87 ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أفبهذا الحديث » يعني القرآن « أنتم مدهنون » أي مكذبون، قال ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهر. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: « ودوا لو تدهن فيدهنون » [ القلم: 9 ] . وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر النفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: « مدهنون » معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.
قوله تعالى: « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي:أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: « وتجعلون رزقكم » أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم « أنكم تكذبون » بالرزق أن تضعوا الرزق مكان الشكر، كقوله تعالى: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » [ الأنفال: 35 ] أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباب، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قرأ « وتجعلون بشكركم أنكم تكذبون » حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله لعليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: « فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » .
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا ) فقالوا يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: » وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون « أي شكركم لله على رزقه إياكم » أنكم تكذبون « بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحدبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: ( أتدرون ماذا قال ربكم ) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: ( أصبح من عبادي مومن بي وكافر بالكوكب فأما من مطرنا بفضل الله ورحمته فذللك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك بالكوكب كافر بي ) . قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض، أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن اله سبحانه: ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: » ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها « [ فاطر: 2 ] قال أبو عمر : وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مطرنا بفضل الله ورحمته ) . ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبدالمطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بغية؟.»
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كذبت بل هو سقيا الله عز وجل ) قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة « تكذبون » من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب « تكذبون » بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء ) ولفظ مسلم في هذا ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة ) .
قوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى معروف، قال حاتم.
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وفي حديث: ( إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت ) . « وأنتم حينئذ تنظرون » أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم « لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا » [ آل عمران: 156 ] أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: « نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر » [ الجاثية:24 ] . وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. « ونحن أقرب إليه منكم » أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه « أقرب إليه منكم » « ولكن لا تبصرون » أي لا ترونهم.
قوله تعالى: « فلولا إن كنتم غير مدينين » أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: « أإنا لمدينون » [ الصافات: 53 ] أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم. وقيل : غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت أمر بنيك حتى تركتهم أدق من الطحين
يعني ملكت. ودانه أي أدله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في « الفاتحة » القول في هذا عند قوله تعالى: « يوم الدين » . « ترجعونها » ترجعون الروح إلى الجسد. « إن كنتم صادقين » أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و « ترجعونها » جواب لقوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » ولقوله: « فلولا إن كنتم غير مدينين » أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: « فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ البقرة: 38 ] أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.
الآيات: 88 - 96 ( فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين، فنزل من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم )
قوله تعالى: « فأما إن كان من المقربين » ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: « فأما إن كان » هذا المتوفى « من المقربين » وهم السابقون. « فروح وريحان وجنة نعيم » وقراءة العامة « فروح » بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. قال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، « وجنة نعيم » هو ألا يحجب فيها عن الله عز وجل. وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب « فروح » بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « فروح » بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة في الحنة وهذا هو الرحمة. « وريحان » قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماه درر
وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة « الرحمن » فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك.
قوله تعالى: « وأما إن كان من أصحاب اليمين » أي « إن كان » هذا المتوفى « من أصحاب اليمين » « فسلام لك من أصحاب اليمين » أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك وسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة « النحل » عند قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين » [ النحل: 32 ] . الثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير. الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب « إن » عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شيء « فسلام لك من أصحاب اليمين » إن كان من أصحاب اليمين « فسلام لك من أصحاب اليمين » فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الأخفش أن الفاء جواب « أما » و « إن » ، ومعنى ذلك أن الفاء جواب « أما » وقد سدت مسد جواب « إن » على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى « أما » عند الزجاج: الخروج من شيء إلى شيء، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره.
قوله تعالى: « وأما إن كان من المكذبين » بالبعث « الضالين » عن الهدى وطريق الحق « فنزل من حميم » أي فلهم رزق من حميم، كما قال: « ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون » وكما قال: « ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم » [ الصافات: 67 ] « وتصلية جحيم » إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر ههنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرئ « وتصلية » بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. « إن هذا لهو حق اليقين »
أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: « ولدار الآخرة » [ يوسف: 109 ] وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. « فسبح باسم ربك العظيم » أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل: « فسبح » أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت « فسبح باسم ربك العظيم » قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزلت « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في سجودكم ) خرجه أبو داود. والله أعلم.
========
الآيات: 75 - 80 ( فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين )
قوله تعالى: « فلا أقسم » « لا » صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم، بدليل قوله: « وإنه لقسم » . وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف « أقسم » . وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الأمر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل: « لا » بمعنى إلا للتنبيه كما قال:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر فلأقسم « بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلأنا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ. »
قوله تعالى: « بمواقع النجوم » مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح: منازلها. الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي: ويكون قوله تعالى: « فلا أقسم » مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة. قلت: يدل على هذا قراءة الحسن « فلأقسم » وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزل على الأحداث من أمته، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرضى نجوما، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: « فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم » وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرأ حمزة والكسائي « بموقع » على التوحيد، وهي قراءة عبدالله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه.
قوله تعالى: « إنه لقرآن كريم » قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم « إنه لقرآن كريم » ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: « كريم » أي غير مخلوق. وقيل: « كريم » لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. « في كتاب مكنون » مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قال ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
قوله تعالى: « لا يمسه إلا المطهرون » اختلف في معنى « لا يمسه » هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في « المطهرون » من هم؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله « لا يمسه إلا المطهرون » أنها بمنزلة الآية التي في « عبس وتولى » [ عبس: 1 ] : « فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة » [ عبس: 13 ] يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة « عبس » . وقيل: معنى « لا يمسه » لا ينزل به « إلا المطهرون » أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: ( من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد ) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ) . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: « لا يمسه إلا المطهرون » فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة « طه » .
وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: « لا يمسه إلا المطهرون » من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى « لا يمسه » لا يقرؤه « إلا المطهرون » إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ) . وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » . المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لأن حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
« تنزيل من رب العالمين » أي منزل، كقولهم: ضرب الأمير ونسج اليمن. وقيل: « تنزيل » صفة لقوله تعالى: « إنه لقرآن كريم » . وقيل: أي هو تنزيل.
الآيات: 81 - 87 ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أفبهذا الحديث » يعني القرآن « أنتم مدهنون » أي مكذبون، قال ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهر. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: « ودوا لو تدهن فيدهنون » [ القلم: 9 ] . وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر النفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: « مدهنون » معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.
قوله تعالى: « وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي:أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: « وتجعلون رزقكم » أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم « أنكم تكذبون » بالرزق أن تضعوا الرزق مكان الشكر، كقوله تعالى: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » [ الأنفال: 35 ] أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباب، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قرأ « وتجعلون بشكركم أنكم تكذبون » حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله لعليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: « فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون » .
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا ) فقالوا يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: » وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون « أي شكركم لله على رزقه إياكم » أنكم تكذبون « بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحدبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: ( أتدرون ماذا قال ربكم ) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: ( أصبح من عبادي مومن بي وكافر بالكوكب فأما من مطرنا بفضل الله ورحمته فذللك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك بالكوكب كافر بي ) . قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض، أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن اله سبحانه: ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: » ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها « [ فاطر: 2 ] قال أبو عمر : وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مطرنا بفضل الله ورحمته ) . ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبدالمطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بغية؟.»
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كذبت بل هو سقيا الله عز وجل ) قال سفيان: عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة « تكذبون » من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب « تكذبون » بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء ) ولفظ مسلم في هذا ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة ) .
قوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لأن المعنى معروف، قال حاتم.
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وفي حديث: ( إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت ) . « وأنتم حينئذ تنظرون » أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شيء. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لإخوانهم « لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا » [ آل عمران: 156 ] أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: « نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر » [ الجاثية:24 ] . وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. « ونحن أقرب إليه منكم » أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه « أقرب إليه منكم » « ولكن لا تبصرون » أي لا ترونهم.
قوله تعالى: « فلولا إن كنتم غير مدينين » أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: « أإنا لمدينون » [ الصافات: 53 ] أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم. وقيل : غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنيت أمر بنيك حتى تركتهم أدق من الطحين
يعني ملكت. ودانه أي أدله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في « الفاتحة » القول في هذا عند قوله تعالى: « يوم الدين » . « ترجعونها » ترجعون الروح إلى الجسد. « إن كنتم صادقين » أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و « ترجعونها » جواب لقوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » ولقوله: « فلولا إن كنتم غير مدينين » أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: « فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ البقرة: 38 ] أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.
الآيات: 88 - 96 ( فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين، فنزل من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم )
قوله تعالى: « فأما إن كان من المقربين » ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: « فأما إن كان » هذا المتوفى « من المقربين » وهم السابقون. « فروح وريحان وجنة نعيم » وقراءة العامة « فروح » بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. قال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، « وجنة نعيم » هو ألا يحجب فيها عن الله عز وجل. وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب « فروح » بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « فروح » بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة في الحنة وهذا هو الرحمة. « وريحان » قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماه درر
وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة « الرحمن » فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك.
قوله تعالى: « وأما إن كان من أصحاب اليمين » أي « إن كان » هذا المتوفى « من أصحاب اليمين » « فسلام لك من أصحاب اليمين » أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك وسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة « النحل » عند قوله تعالى: « الذين تتوفاهم الملائكة طيبين » [ النحل: 32 ] . الثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير. الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.
قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب « إن » عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شيء « فسلام لك من أصحاب اليمين » إن كان من أصحاب اليمين « فسلام لك من أصحاب اليمين » فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الأخفش أن الفاء جواب « أما » و « إن » ، ومعنى ذلك أن الفاء جواب « أما » وقد سدت مسد جواب « إن » على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى « أما » عند الزجاج: الخروج من شيء إلى شيء، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره.
قوله تعالى: « وأما إن كان من المكذبين » بالبعث « الضالين » عن الهدى وطريق الحق « فنزل من حميم » أي فلهم رزق من حميم، كما قال: « ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون » وكما قال: « ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم » [ الصافات: 67 ] « وتصلية جحيم » إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر ههنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرئ « وتصلية » بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. « إن هذا لهو حق اليقين »
أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الأمر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: « ولدار الآخرة » [ يوسف: 109 ] وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. « فسبح باسم ربك العظيم » أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل: « فسبح » أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت « فسبح باسم ربك العظيم » قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزلت « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في سجودكم ) خرجه أبو داود. والله أعلم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تفسير سورة الحديد للقرطبى
======
مقدمة السورة
عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: ( إن فيهن آية أفضل من ألف آية ) يعني بالمسبحات « الحديد » و « الحشر » و « الصف » و « الجمعة » و « التغابن » .
الآيات: 1 - 3 ( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )
قوله تعالى: « سبح لله ما في السماوات والأرض » أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله « ما في السموات » ممن خلق من الملائكة « والأرض » من شيء فيه روح أولا روح فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: « ولكن لا تفقهون تسبيحهم » [ الإسراء: 44 ] وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله تعالى: « وسخرنا مع داود الجبال يسبحن » [ الأنبياء: 79 ] فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟!
قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في « الإسراء » عند قوله تعالى: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » [ الإسراء: 44 ] « وهو العزيز الحكيم » .
قوله تعالى: « له ملك السماوات والأرض » أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الأمر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطرو النبات وسائر الرزق. « يحي ويميت » يميت الأحياء في الدنيا ويحي الأموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات وحيث الأحياء. وموضع « يحيي ويميت » رفع على معنى وهو يحي ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى « له ملك السموات والأرض » محييا ومميتا على الحال من المجرور في « له » والجار عاملا فيها. « وهو على كل شيء قدير » أي هو الله لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: « هو الأول والآخر والظاهر والباطن » اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى. وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. « وهو بكل شيء عليم » بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شيء.
الآيات: 4 - 6 ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير، له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور )
قوله تعالى: « هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش » تقدم. « يعلم ما يلج في الأرض » أي يدخل فيها من مطر وغيره « وما يخرج منها » من نبات وغيره « وما ينزل من السماء » من رزق ومطر وملك « وما يعرج فيها » يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد « وهو معكم أين ما كنتم » يعني بقدرته وسلطانه وعلمه « والله بما تعملون بصير » يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شيء منها. وقد جمع في هذه الآية بين « استوى على العرش » وبين « وهو معكم » والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والإعراض عن التأمل اعتراف بالتناقض. وقد قال الإمام أبو المعالي: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.
قوله تعالى: « له ملك السماوات والأرض » هذا التكرير للتأكيد أي هو المعبود على الحقيقة « وإلى الله ترجع الأمور » أي أمور الخلائق في الآخرة. وقرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة والكسائي وخلف « ترجع » بفتح التاء وكسر الجيم. الباقون « ترجع » . « يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وهو عليم بذات الصدور » أي لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة فلا يجوز أن يعبد من سواه.
الآيات: 7 - 9 ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين، هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم )
قوله تعالى: « آمنوا بالله ورسوله » أي صدقوا أن الله واحد وأن محمدا رسوله « وأنفقوا » تصدقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه « مما جعلكم مستخلفين فيه » دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثبته على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون عل الرجل، النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وقال الحسن: « مستخلفين فيه » بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. « فالذين آمنوا » وعملوا الصالحات « منكم وأنفقوا » في سبيل الله « لهم أجر كبير » وهو الجنة.
قوله تعالى: « وما لكم لا تؤمنون بالله » استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل؟ « والرسول يدعوكم » بين بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع. قرأ أبو عمرو: « وقد أُخذ ميثاقكم » على غير مسمى الفاعل. والباقون على مسمى الفاعل، أي أخذ الله ميثاقكم. قال مجاهد: هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركب فيكم العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول « إن كنتم مؤمنين » أي إذ كنتم. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا. وقيل: هو خطاب لقوم آمنوا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقهم فارتدوا. وقوله: « إن كنتم مؤمنين » أي إن كنتم تقرون بشرائط الإيمان.
قوله تعالى: « هو الذي ينزل على عبده آيات بينات » يريد القرآن. وقيل: المعجزات، أي لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما معه من المعجزات، والقرآن أكبرها وأعظمها. « ليخرجكم » أي بالقرآن. وقيل: بالرسول. وقيل: بالدعوة. « من الظلمات » وهو الشرك والكفر « إلى النور » وهو الإيمان. « وإن الله بكم لرؤوف رحيم » .
الآية: 10 ( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير )
قوله تعالى: « وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله » أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى: فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق. « ولله ميراث السماوات والأرض » أي إنهما راجحتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له.
قوله تعالى: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم.
روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: ( قد أنفق علي ماله قبل الفتح « قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ) ؟ فقال أبو بكر: أأسخط ( على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: ( فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض ) فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.»
التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) الحديث. وقال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) وقال: ( وليؤمكما أكبركما ) من حديث مالك بن الحويرث وقد قدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الولاء للكبر ) ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار: ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا وحرف لعالمنا حقه ) . ومن الحديث الثابت في الأفراد: ( ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ) . وأنشدوا:
يا عائبا للشيوخ من أشر داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم جدك واذكر أباك يا ابن أخ
وأعلم بأن الشباب منسلخ عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بلغت يوما به سنه إلى الشيخ
قوله تعالى: « وكلا وعد الله الحسنى » أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر « وكل » بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون « وكلا » بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده.
======
مقدمة السورة
عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: ( إن فيهن آية أفضل من ألف آية ) يعني بالمسبحات « الحديد » و « الحشر » و « الصف » و « الجمعة » و « التغابن » .
الآيات: 1 - 3 ( سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )
قوله تعالى: « سبح لله ما في السماوات والأرض » أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله « ما في السموات » ممن خلق من الملائكة « والأرض » من شيء فيه روح أولا روح فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: « ولكن لا تفقهون تسبيحهم » [ الإسراء: 44 ] وإنما هو تسبيح مقال. واستدل بقوله تعالى: « وسخرنا مع داود الجبال يسبحن » [ الأنبياء: 79 ] فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟!
قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في « الإسراء » عند قوله تعالى: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » [ الإسراء: 44 ] « وهو العزيز الحكيم » .
قوله تعالى: « له ملك السماوات والأرض » أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الأمر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطرو النبات وسائر الرزق. « يحي ويميت » يميت الأحياء في الدنيا ويحي الأموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات وحيث الأحياء. وموضع « يحيي ويميت » رفع على معنى وهو يحي ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى « له ملك السموات والأرض » محييا ومميتا على الحال من المجرور في « له » والجار عاملا فيها. « وهو على كل شيء قدير » أي هو الله لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: « هو الأول والآخر والظاهر والباطن » اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى. وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. « وهو بكل شيء عليم » بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شيء.
الآيات: 4 - 6 ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير، له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور )
قوله تعالى: « هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش » تقدم. « يعلم ما يلج في الأرض » أي يدخل فيها من مطر وغيره « وما يخرج منها » من نبات وغيره « وما ينزل من السماء » من رزق ومطر وملك « وما يعرج فيها » يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد « وهو معكم أين ما كنتم » يعني بقدرته وسلطانه وعلمه « والله بما تعملون بصير » يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شيء منها. وقد جمع في هذه الآية بين « استوى على العرش » وبين « وهو معكم » والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والإعراض عن التأمل اعتراف بالتناقض. وقد قال الإمام أبو المعالي: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.
قوله تعالى: « له ملك السماوات والأرض » هذا التكرير للتأكيد أي هو المعبود على الحقيقة « وإلى الله ترجع الأمور » أي أمور الخلائق في الآخرة. وقرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة والكسائي وخلف « ترجع » بفتح التاء وكسر الجيم. الباقون « ترجع » . « يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » تقدم. « وهو عليم بذات الصدور » أي لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة فلا يجوز أن يعبد من سواه.
الآيات: 7 - 9 ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين، هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم )
قوله تعالى: « آمنوا بالله ورسوله » أي صدقوا أن الله واحد وأن محمدا رسوله « وأنفقوا » تصدقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه « مما جعلكم مستخلفين فيه » دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثبته على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها، كما يهون عل الرجل، النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والأجر العظيم. وقال الحسن: « مستخلفين فيه » بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. « فالذين آمنوا » وعملوا الصالحات « منكم وأنفقوا » في سبيل الله « لهم أجر كبير » وهو الجنة.
قوله تعالى: « وما لكم لا تؤمنون بالله » استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل؟ « والرسول يدعوكم » بين بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع. قرأ أبو عمرو: « وقد أُخذ ميثاقكم » على غير مسمى الفاعل. والباقون على مسمى الفاعل، أي أخذ الله ميثاقكم. قال مجاهد: هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركب فيكم العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول « إن كنتم مؤمنين » أي إذ كنتم. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا. وقيل: هو خطاب لقوم آمنوا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقهم فارتدوا. وقوله: « إن كنتم مؤمنين » أي إن كنتم تقرون بشرائط الإيمان.
قوله تعالى: « هو الذي ينزل على عبده آيات بينات » يريد القرآن. وقيل: المعجزات، أي لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما معه من المعجزات، والقرآن أكبرها وأعظمها. « ليخرجكم » أي بالقرآن. وقيل: بالرسول. وقيل: بالدعوة. « من الظلمات » وهو الشرك والكفر « إلى النور » وهو الإيمان. « وإن الله بكم لرؤوف رحيم » .
الآية: 10 ( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير )
قوله تعالى: « وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله » أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى: فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق. « ولله ميراث السماوات والأرض » أي إنهما راجحتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له.
قوله تعالى: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم.
روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: ( قد أنفق علي ماله قبل الفتح « قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ) ؟ فقال أبو بكر: أأسخط ( على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: ( فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض ) فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.»
التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) الحديث. وقال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) وقال: ( وليؤمكما أكبركما ) من حديث مالك بن الحويرث وقد قدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الولاء للكبر ) ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار: ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا وحرف لعالمنا حقه ) . ومن الحديث الثابت في الأفراد: ( ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه ) . وأنشدوا:
يا عائبا للشيوخ من أشر داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم جدك واذكر أباك يا ابن أخ
وأعلم بأن الشباب منسلخ عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بلغت يوما به سنه إلى الشيخ
قوله تعالى: « وكلا وعد الله الحسنى » أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر « وكل » بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون « وكلا » بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الحديد
======
الآيات: 11 - 12 ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم، يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في « البقرة » القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وسمي قرضا، لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي: « قرضا » أي صدقة « حسنا » أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. « فيضاعفه له » ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » [ البقرة: 267 ] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: ( أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: « وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » [ البقرة: 271 ] وألا يمن، لقوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] وأن يستحقر كثير ما يعطي، لأن الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أموال، لقوله تعالى: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » [ آل عمران: 92 ] وأن يكون كثيرا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . « فيضاعفه له » وقرأ ابن كثير وابن عامر « فيضعفه » بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة « فيضاعفه » بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء. ورفع الباقون عطفا على « يقرض » . وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في « البقرة » القول في هذا مستوفى. « وله أجر كريم » يعني الجنة.
قوله تعالى: « يوم ترى المؤمنين والمؤمنات » العامل في « يوم » « وله أجر كريم » ، وفي الكلام حذف أي « وله أجر كريم » في « يوم ترى » فيه « المؤمنين والمومنات يسعى نورهم » أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه « بين أيديهم » أي قدامهم. « وبأيمانهم » قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: « نورهم » هداهم « وبأيمانهم » كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على « بين أيديهم » ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة « وبأيمانهم » بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لأن معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كامنا « بين أيديهم » وكائنا « بأيمانهم » ، وليس قوله: « بين أيديهم » متعلقا بنفس « يسعى » . وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) قال الحسن: ليستضيؤوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى: « بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار » التقدير يقال لهم: « بشراكم اليوم » دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لأن البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. « تجري من تحتها الأنهار » أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. « خالدين فيها » حال من الدخول المحذوف، التقدير « بشراكم اليوم » دخول جنات « تجري من تحتها الأنهار » مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لأن فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو « اليوم » خبرا عن « بشراكم » و « جنات » به لا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و « خالدين » حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب « جنات » على الحال على أن يكون « اليوم » خبرا عن « بشراكم » وهو بعيد، إذ ليس في « جنات » معنى الفعل. وأجاز أن يكون « بشراكم » نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب « جنات » بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.
الآيات: 13 - 15 ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير )
قوله تعالى: « يوم يقول المنافقون » العامل في « يوم » « ذلك هو الفوز العظيم » . وقيل: هو به له من اليوم الأول. « نقتبس من نوركم » قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب « أنظرونا » بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي استمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أنتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
أي انتظرنا. « نقتبس من نوركم » أي نستضيء من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: « وهو خادعهم » [ النساء: 142 ] . وقيل: إنما يعطون النور، لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قال ابن عباس. وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: « ربنا أتمم لنا نورنا » [ التحريم: 8 ] يقول المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: « انظرونا نقتبس من نوركم » . « قيل ارجعوا وراءكم » أي قالت لهم الملائكة « ارجعوا » . وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم « أرجعوا وراءكم » إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور « فضرب بينهم بسور » وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. « بسور » أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. « باطنه فيه الرحمة » يعني ما يلي منه المؤمنين « وظاهره من قبله العذاب » يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباء الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبدالله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد « وظاهره من قبله العذاب » يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار « باطنه فيه الرحمة » يعني الجنة « وظاهره من قبله العذاب » يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في « الأعراف » وقد مضى القول فيه. وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
قوله تعالى: « ينادونهم » أي ينادي المنافقون المؤمنين « ألم نكن معكم » في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزو مثل ما تغزون، ونفعل مثل، ما تفعلون « قالوا بلى » أي يقول المؤمنون « بلى » قد كنتم معنا في الظاهر « ولكنكم فتنتم أنفسكم » أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات، رواه أبو نمير الهمداني. « وتربصتم » أي « تربصتم » بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: « تربصتم » بالتوبة « وارتبتم » أي شككتم في التوحيد والنبوة « وغرتكم الأماني » أي الأباطيل. وقيل: طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا، قال عبدالله بن عباس. وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. « حتى جاء أمر الله » يعني الموت. وقيل: نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. « وغركم » أي خدعكم « بالله الغرور » أي الشيطان، قاله عكرمة. وقيل: الدنيا، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء « الغرور » على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب « الغرور » بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: ( أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو متمنى إذ جاءه الموت ) . وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: ( هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا ) .
قوله تعالى: « فاليوم لا يؤخذ منكم فدية » أيها المنافقون « ولا من الذين كفروا » أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة « يؤخذ » بالياء، لأن التأنيث غير. حقيقي، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ومعقوب « تؤخذ » بالتاء واختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول اختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. « مأواكم النار » أي مقامكم ومنزلكم « هي مولاكم » أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء. وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: « يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » [ ق: 30 ] . « وبئس المصير » أي ساءت مرجعا ومصيرا.
======
الآيات: 11 - 12 ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم، يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم )
قوله تعالى: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في « البقرة » القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وسمي قرضا، لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي: « قرضا » أي صدقة « حسنا » أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. « فيضاعفه له » ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » [ البقرة: 267 ] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: ( أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: « وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » [ البقرة: 271 ] وألا يمن، لقوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] وأن يستحقر كثير ما يعطي، لأن الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أموال، لقوله تعالى: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » [ آل عمران: 92 ] وأن يكون كثيرا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . « فيضاعفه له » وقرأ ابن كثير وابن عامر « فيضعفه » بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة « فيضاعفه » بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء. ورفع الباقون عطفا على « يقرض » . وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في « البقرة » القول في هذا مستوفى. « وله أجر كريم » يعني الجنة.
قوله تعالى: « يوم ترى المؤمنين والمؤمنات » العامل في « يوم » « وله أجر كريم » ، وفي الكلام حذف أي « وله أجر كريم » في « يوم ترى » فيه « المؤمنين والمومنات يسعى نورهم » أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه « بين أيديهم » أي قدامهم. « وبأيمانهم » قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: « نورهم » هداهم « وبأيمانهم » كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على « بين أيديهم » ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة « وبأيمانهم » بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لأن معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كامنا « بين أيديهم » وكائنا « بأيمانهم » ، وليس قوله: « بين أيديهم » متعلقا بنفس « يسعى » . وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) قال الحسن: ليستضيؤوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى: « بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار » التقدير يقال لهم: « بشراكم اليوم » دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لأن البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. « تجري من تحتها الأنهار » أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. « خالدين فيها » حال من الدخول المحذوف، التقدير « بشراكم اليوم » دخول جنات « تجري من تحتها الأنهار » مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لأن فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو « اليوم » خبرا عن « بشراكم » و « جنات » به لا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و « خالدين » حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب « جنات » على الحال على أن يكون « اليوم » خبرا عن « بشراكم » وهو بعيد، إذ ليس في « جنات » معنى الفعل. وأجاز أن يكون « بشراكم » نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب « جنات » بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.
الآيات: 13 - 15 ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير )
قوله تعالى: « يوم يقول المنافقون » العامل في « يوم » « ذلك هو الفوز العظيم » . وقيل: هو به له من اليوم الأول. « نقتبس من نوركم » قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب « أنظرونا » بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي استمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أنتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
أي انتظرنا. « نقتبس من نوركم » أي نستضيء من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: « وهو خادعهم » [ النساء: 142 ] . وقيل: إنما يعطون النور، لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قال ابن عباس. وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: « ربنا أتمم لنا نورنا » [ التحريم: 8 ] يقول المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: « انظرونا نقتبس من نوركم » . « قيل ارجعوا وراءكم » أي قالت لهم الملائكة « ارجعوا » . وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم « أرجعوا وراءكم » إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور « فضرب بينهم بسور » وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. « بسور » أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. « باطنه فيه الرحمة » يعني ما يلي منه المؤمنين « وظاهره من قبله العذاب » يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباء الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبدالله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد « وظاهره من قبله العذاب » يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار « باطنه فيه الرحمة » يعني الجنة « وظاهره من قبله العذاب » يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في « الأعراف » وقد مضى القول فيه. وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
قوله تعالى: « ينادونهم » أي ينادي المنافقون المؤمنين « ألم نكن معكم » في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزو مثل ما تغزون، ونفعل مثل، ما تفعلون « قالوا بلى » أي يقول المؤمنون « بلى » قد كنتم معنا في الظاهر « ولكنكم فتنتم أنفسكم » أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات، رواه أبو نمير الهمداني. « وتربصتم » أي « تربصتم » بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: « تربصتم » بالتوبة « وارتبتم » أي شككتم في التوحيد والنبوة « وغرتكم الأماني » أي الأباطيل. وقيل: طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا، قال عبدالله بن عباس. وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. « حتى جاء أمر الله » يعني الموت. وقيل: نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. « وغركم » أي خدعكم « بالله الغرور » أي الشيطان، قاله عكرمة. وقيل: الدنيا، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء « الغرور » على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب « الغرور » بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: ( أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو متمنى إذ جاءه الموت ) . وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: ( هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا ) .
قوله تعالى: « فاليوم لا يؤخذ منكم فدية » أيها المنافقون « ولا من الذين كفروا » أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة « يؤخذ » بالياء، لأن التأنيث غير. حقيقي، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ومعقوب « تؤخذ » بالتاء واختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول اختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. « مأواكم النار » أي مقامكم ومنزلكم « هي مولاكم » أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء. وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: « يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد » [ ق: 30 ] . « وبئس المصير » أي ساءت مرجعا ومصيرا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الحديد
=======
الآيات: 16 - 17 ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون )
قوله تعالى: « ألم يأن للذين آمنوا » أي يقرب ويحين، قال الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت:
ألما يئن لي تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن « ألما يأن » وأصلها « ألم » زيدت « ما » فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و « لم » نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة « أن تخشع » أي تذل وتلين « قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: « الر تلك آيات الكتاب المبين » [ يوسف: 1 ] إلى قوله: « نحن نقص عليك أحسن القصص » [ يوسف: 3 ] الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: « الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: « ألم يأن للذين آمنوا » بالظاهر وأسروا الكفر « أن تخشع قلوبهم لذكر الله » . وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: « نحن نقص عليك » فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: « ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: « والذين آمنوا بالله ورسله » [ الحديد: 19 ] أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم.
قوله تعالى: « ولا يكونوا » أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على « أن تخشع » . وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب « لا تكونوا » بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن ابن قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبدالله: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم « فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون » يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فأرحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى. ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبدالله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
قوله تعالى: « اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها » أي « يحيي الأرض » الجدبة « بعد موتها » بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. « قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون » أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى..
الآيات: 18 - 19 ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم، والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم )
قوله تعالى: « إن المصدقين والمصدقات » قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد، وكذلك في مصحف في. وهو حث على الصدقات، ولهذا قال: « وأقرضوا الله قرضا حسنا » بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم، لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا « يضاعف لهم » أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الأعمش « يضاعفه » بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب « يضعف » بفتح العين وتشديدها. « ولهم أجر كريم » يعني الجنة.
قوله تعالى: « والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم » اختلف في « الشهداء » هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد بن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله: « الصديقون » وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى: « فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين » [ النساء: 69 ] فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل، أعني « والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء » . ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ) وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله: « الصديقون » حسن. والمعنى « والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم » أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى: « وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما: أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم، قال الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا: إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال: أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.
وقد اختلف في تعيينهم، فقال الضحاك: هم ثمانية نفر، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر الصديق، وأصحاب الأخدود.
قوله تعالى: « والذين كفروا وكذبوا بآياتنا » أي بالرسل والمعجزات « أولئك أصحاب الجحيم » فلا أجر لهم ولا نور.
=======
الآيات: 16 - 17 ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون )
قوله تعالى: « ألم يأن للذين آمنوا » أي يقرب ويحين، قال الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت:
ألما يئن لي تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن « ألما يأن » وأصلها « ألم » زيدت « ما » فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و « لم » نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة « أن تخشع » أي تذل وتلين « قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: « الر تلك آيات الكتاب المبين » [ يوسف: 1 ] إلى قوله: « نحن نقص عليك أحسن القصص » [ يوسف: 3 ] الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: « الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: « ألم يأن للذين آمنوا » بالظاهر وأسروا الكفر « أن تخشع قلوبهم لذكر الله » . وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: « نحن نقص عليك » فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: « ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: « والذين آمنوا بالله ورسله » [ الحديد: 19 ] أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم.
قوله تعالى: « ولا يكونوا » أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على « أن تخشع » . وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب « لا تكونوا » بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن ابن قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبدالله: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم « فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون » يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله.
وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فأرحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى. ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبدالله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق » قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:
ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
قوله تعالى: « اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها » أي « يحيي الأرض » الجدبة « بعد موتها » بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. « قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون » أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى..
الآيات: 18 - 19 ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم، والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم )
قوله تعالى: « إن المصدقين والمصدقات » قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد، وكذلك في مصحف في. وهو حث على الصدقات، ولهذا قال: « وأقرضوا الله قرضا حسنا » بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم، لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا « يضاعف لهم » أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الأعمش « يضاعفه » بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب « يضعف » بفتح العين وتشديدها. « ولهم أجر كريم » يعني الجنة.
قوله تعالى: « والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم » اختلف في « الشهداء » هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد بن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله: « الصديقون » وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى: « فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين » [ النساء: 69 ] فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل، أعني « والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء » . ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ) وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله: « الصديقون » حسن. والمعنى « والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم » أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى: « وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما: أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم، قال الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا: إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال: أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.
وقد اختلف في تعيينهم، فقال الضحاك: هم ثمانية نفر، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر الصديق، وأصحاب الأخدود.
قوله تعالى: « والذين كفروا وكذبوا بآياتنا » أي بالرسل والمعجزات « أولئك أصحاب الجحيم » فلا أجر لهم ولا نور.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
تابع تفسير القرطبى لسورة الحديد
=====
الآيات: 20 - 21 ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
قوله تعالى: « اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو » وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و « ما » صلة تقديره: اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. « وزينة » الزينة ما يتزبن به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. « وتفاخر بينكم » أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب ) الحديث. وقد تقدم جميع هذا. « وتكاثر في الأموال والأولاد » لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: « لعب » كلعب الصبيان « ولهو » كلهو الفتيان « وزينة » كزينة النسوان « وتفاخر » كتفاخر الأقران « وتكاثر » كتكاثر الدهقان. وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال: « كمثل غيث » أي مطر « أعجب الكفار نباته » الكفار هنا: الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في « يونس » و « الكهف » . وقيل: الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. « ثم يهيج » أي يجف بعد خضرته « فتراه مصفرا » أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. « ثم يكون حطاما » أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. « وفي الآخرة عذاب شديد » أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ « ومغفرة من الله ورضوان » أي للمؤمنين. وقال الفراء: « وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة » تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على « شديد » . « وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة.
قوله تعالى: « سابقوا إلى مغفرة من ربكم » أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام، قال مكحول. وقيل: الصف الأول. « وجنة عرضها كعرض السماء والأرض » لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في « آل عمران » . وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: « وجنة عرضها كعرض السماء والأرض » فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. « أعدت للذين آمنوا بالله ورسله » شرط الإيمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الإيمان هنا وزاد عليه في « آل عمران » فقال: « أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس » [ آل عمران: 133 ] « ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء » أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في « الأعراف » وغيرها. « والله ذو الفضل العظيم » .
الآيات: 22 - 24 ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد )
قوله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض » قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. « ولا في أنفسكم » بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. « إلا في كتاب » يعني في اللوح المحفوظ. « من قبل أن نبرأها » الضمير في « نبرأها » عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. « إن ذلك على الله يسير » أي خلق ذلك وحفظ جميعه « على الله يسير » هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسك » الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نرأها » . وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: « لكيلا تأسوا على ما فاتكم » أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) ثم قرأ « لكيلا تأسوا على ما فاتكم » إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم « ولا تفرحوا بما آتاكم » أي من الدنيا، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: « والله لا يحب كل مختال فخور » أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة « آتاكم » بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو « أتاكم » بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ « فاتكم » ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: « الذين يبخلون » أي لا يحب المختالين « الذين يبخلون » فـ « الذين » في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: « الذين يبخلون » يعني بالعلم « ويأمرون الناس بالبخل » أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. « ومن يتول » أي عن الإيمان « فإن الله هو الغني الحميد » غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة « بالبخل » بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي « بالبخل » بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع « بالبخل » بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم « البخل » بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر « آل عمران » .
وقرأ نافع وابن عامر « فإن الله الغني الحميد » بغير « هو » . والباقون « هو الغني » على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و « الغني » خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
الآيات: 25 - 26 ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز، ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون )
قوله تعالى: « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات » أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. « وأنزلنا معهم الكتاب » أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم « والميزان » قال ابن زيد: هو ما يوزن به ومتعامل « ليقوم الناس بالقسط » أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: « بالقسط » يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى: « والسماء رفعها ووضع الميزان » [ الرحمن: 7 ] ثم قال: « وأقيموا الوزن بالقسط » [ الرحمن: 9 ] وقد مضى القول فيه. « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح ) . وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشية القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. « فيه بأس شديد » أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم ) . وقيل: « أنزلنا الحديد » أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » [ الزمر: 6 ] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. « فيه بأس شديد » يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. « ومنافع للناس » قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. « وليعلم الله من ينصره » أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: « ليقوم الناس بالقسط » أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، « وليعلم الله من ينصره » وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله « ورسله بالغيب » قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم « بالغيب » أي وهم لا يرونهم. « إن الله قوي » « قوي » في أخذه « عزيز » أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: « بالغيب » بالإخلاص.
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم » فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما « وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب » أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم « فمنهم » أي من ائتم بإبراهيم ونوح « مهتد » وقيل: « فمنهم مهتد » أي من ذريتهما مهتدون. « وكثير منهم فاسقون » كافرون خارجون عن الطاعة.
=====
الآيات: 20 - 21 ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
قوله تعالى: « اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو » وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و « ما » صلة تقديره: اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. « وزينة » الزينة ما يتزبن به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. « وتفاخر بينكم » أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب ) الحديث. وقد تقدم جميع هذا. « وتكاثر في الأموال والأولاد » لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: « لعب » كلعب الصبيان « ولهو » كلهو الفتيان « وزينة » كزينة النسوان « وتفاخر » كتفاخر الأقران « وتكاثر » كتكاثر الدهقان. وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال: « كمثل غيث » أي مطر « أعجب الكفار نباته » الكفار هنا: الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في « يونس » و « الكهف » . وقيل: الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. « ثم يهيج » أي يجف بعد خضرته « فتراه مصفرا » أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. « ثم يكون حطاما » أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. « وفي الآخرة عذاب شديد » أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ « ومغفرة من الله ورضوان » أي للمؤمنين. وقال الفراء: « وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة » تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على « شديد » . « وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور » هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة.
قوله تعالى: « سابقوا إلى مغفرة من ربكم » أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لأنها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام، قال مكحول. وقيل: الصف الأول. « وجنة عرضها كعرض السماء والأرض » لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في « آل عمران » . وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: « وجنة عرضها كعرض السماء والأرض » فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. « أعدت للذين آمنوا بالله ورسله » شرط الإيمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الإيمان هنا وزاد عليه في « آل عمران » فقال: « أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس » [ آل عمران: 133 ] « ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء » أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في « الأعراف » وغيرها. « والله ذو الفضل العظيم » .
الآيات: 22 - 24 ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد )
قوله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض » قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. « ولا في أنفسكم » بالأوصاب والأسقام، قال قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قال ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. « إلا في كتاب » يعني في اللوح المحفوظ. « من قبل أن نبرأها » الضمير في « نبرأها » عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. « إن ذلك على الله يسير » أي خلق ذلك وحفظ جميعه « على الله يسير » هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسك » الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: « ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نرأها » . وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى: « لكيلا تأسوا على ما فاتكم » أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) ثم قرأ « لكيلا تأسوا على ما فاتكم » إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم « ولا تفرحوا بما آتاكم » أي من الدنيا، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: « والله لا يحب كل مختال فخور » أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة « آتاكم » بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو « أتاكم » بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ « فاتكم » ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: « الذين يبخلون » أي لا يحب المختالين « الذين يبخلون » فـ « الذين » في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: « الذين يبخلون » يعني بالعلم « ويأمرون الناس بالبخل » أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. « ومن يتول » أي عن الإيمان « فإن الله هو الغني الحميد » غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة « بالبخل » بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي « بالبخل » بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع « بالبخل » بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم « البخل » بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر « آل عمران » .
وقرأ نافع وابن عامر « فإن الله الغني الحميد » بغير « هو » . والباقون « هو الغني » على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و « الغني » خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
الآيات: 25 - 26 ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز، ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون )
قوله تعالى: « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات » أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. « وأنزلنا معهم الكتاب » أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم « والميزان » قال ابن زيد: هو ما يوزن به ومتعامل « ليقوم الناس بالقسط » أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: « بالقسط » يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى: « والسماء رفعها ووضع الميزان » [ الرحمن: 7 ] ثم قال: « وأقيموا الوزن بالقسط » [ الرحمن: 9 ] وقد مضى القول فيه. « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح ) . وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشية القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. « فيه بأس شديد » أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم ) . وقيل: « أنزلنا الحديد » أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » [ الزمر: 6 ] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. « فيه بأس شديد » يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. « ومنافع للناس » قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. « وليعلم الله من ينصره » أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: « ليقوم الناس بالقسط » أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، « وليعلم الله من ينصره » وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله « ورسله بالغيب » قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم « بالغيب » أي وهم لا يرونهم. « إن الله قوي » « قوي » في أخذه « عزيز » أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: « بالغيب » بالإخلاص.
قوله تعالى: « ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم » فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما « وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب » أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم « فمنهم » أي من ائتم بإبراهيم ونوح « مهتد » وقيل: « فمنهم مهتد » أي من ذريتهما مهتدون. « وكثير منهم فاسقون » كافرون خارجون عن الطاعة.
صفحة 17 من اصل 20 • 1 ... 10 ... 16, 17, 18, 19, 20
مواضيع مماثلة
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» شخصية فرعون في القرآن الكريم
» عشرون معجزة من القرآن الكريم
صفحة 17 من اصل 20
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola
» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله
» قصة سيدنا عزير
الإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة
» ** قصة أبيار على **
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة
» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله
» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة
» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله
» إعجاز بناء الكعبة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز
» صفات اليهود فى القرآن الكريم
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله