روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
روضة البدر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 

 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المواضيع الأخيرة
» فن باعواد الكبريت
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola

» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله

» قصة سيدنا عزير
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة

» ** قصة أبيار على **
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة

» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله

» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة

» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله

» إعجاز بناء الكعبة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز

» صفات اليهود فى القرآن الكريم
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله

نوفمبر 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

صفحة 19 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 11 ... 18, 19, 20  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت ديسمبر 28, 2013 11:39 pm

تفسير سورة نوح للقرطبى
====

مقدمة السورة
مكية، وهي ثمان وعشرون آية.

الآية: 1 ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم )
قوله تعالى: « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه » قد مضى القول في « الأعراف » أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض ) . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة « العنكبوت » القول فيه. والحمد لله. « أن أنذر قومك » أي بأن أنذر قومك؛ فموضع « أن » نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع « أن » . ويجوز « أن » بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله « انذر قومك » بغير « أن » بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول « البقرة » . « من قبل أن يأتيهم عذاب أليم » النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وقد مضى هذا مستوفى في سورة « العنكبوت » والحمد لله.

الآيات: 2 - 4 ( قال يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون )
قوله تعالى: « قال ياقوم إني لكم نذير » أي مخوف. « مبين » أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. « أن اعبدوا الله واتقوه » و « أن » المفسرة على ما تقدم في « أن أنذر » . « اعبدوا » أي وحدوا. واتقوا: خافوا. « وأطيعون » أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. « يغفر لكم من ذنوبكم » جزم « يغفر » بجواب الأمر. و « من » صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن « من » لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفيه بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها « ويؤخركم إلى أجل مسمى » قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات ( الشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: « أجل مسمى » عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول « أجل مسمى » عند الله. « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم » [ النحل: 61 ] لأنه مضروب لهم. « لو » بمعنى « إن » أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.

الآيات: 5 - 6 ( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا )
قوله تعالى: « قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا » أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. « فلم يزدهم دعائي إلا فرارا » أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من « دعائي » وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.

الآية: 7 ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا )
قوله تعالى: « وإني كلما دعوتهم » أي إلى سبب المغفرة، وهي الإيمان بك والطاعة لك. « جعلوا أصابعهم في آذانهم » لئلا يسمعوا دعائي « واستغشوا ثيابهم » أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. « وأصروا » أي على الكفر فلم يتوبوا. « واستكبروا » عن قبول الحق؛ لأنهم قالوا: « أنؤمن لك واتبعك الأرذلون » [ الشعراء: 111 ] . « استكبارا » تفخيم.

الآيات: 8 - 9 ( ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا )
قوله تعالى: « ثم إني دعوتهم جهارا » أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب « بدعوتهم » نصب المصدر؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد؛ لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد « بدعوتهم » جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا؛ أي دعاء جهارا؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. « ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا » أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، « وأسررت لهم إسرارا » . بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: « أسررت لهم » أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من « إني أعلنت لهم » الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.

الآيات: 10 - 12 ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا )
قوله تعالى: « فقلت استغفروا ربكم » أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. « إنه كان غفارا » وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الاستغفار ممحاة للذنوب ) . وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله؛ وتفسيرها أقلني. « يرسل السماء عليكم مدرارا » أي يرسل ماء السماء؛ ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر:

إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

و « مدرارا » ذا غيث كثير. وجزم « يرسل » جوابا للأمر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال « استغفروا ربكم إنه كان غفارا » أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان: « يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا » . قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: ( هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة ) .
في هذه الآية والتي في « هود » دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: « استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا » . وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: « ما على المحسنين من سبيل » التوبة: 91 ] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا؛ إن الله تعالى يقول في سورة « نوح » : « استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا » . وقد مضى في سورة « آل عمران » كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.

الآيات: 13 - 14 ( ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا )
قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه: مالكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: مالكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم. وقال قتادة: مالكم لا ترجون لله عاقبة؛ كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان: مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل: مالكم لا توحدون الله؛ لأن من عظمه فقد وحده. وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل؛ ومنه قوله تعالى: « وقرن في بيوتكن » [ الأحزاب: 33 ] أي اثبتن. ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؛ قال ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال: « وقد خلقكم أطوارا » أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: « أطوارا » يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة « المؤمنون » . والطور في اللغة: المرة؛ أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل: « أطوارا » صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء. وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا. وقيل: إن « أطوارا » أختلافهم في الأخلاق والأفعال.

الآيات: 15 - 16 ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا )
قوله تعالى: « ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا » ذكر لهم دليلا آخر؛ أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى « طباقا » بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب؛ قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن: خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين، بين كل أرض وأرض، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله: « ألم تروا » على جهة الإخبار لا المعاينة؛ كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. وطباقا « نصب على أنه مصدر؛ أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق؛ فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. » وجعل القمر فيهن نورا « أي في سماء الدنيا؛ كما يقال: أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم؛ قاله الأخفش. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب: » فيهن « بمعنى معهن؛ وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس: »

وهل ينعمن من كان أخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال

« في » بمعنى مع. النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن؛ كما تقول: أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر: أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات، ومعنى « نورا » أي لأهل الأرض؛ قاله السدي. وقال عطاء: نورا لأهل السماء والأرض. وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضيء لأهل الأرض وظهره يضيء لأهل السماء. « وجعل الشمس سراجا » يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لأهل السماء القولان الأولان حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. وقيل: على العكس. وقيل لعبدالله بن عمر: ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا؟ فقال: إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن؛ ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.

الآيات: 17 - 18 ( والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا )
يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها؛ قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة « الأنعام والبقرة » بيان ذلك. وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين؛ فإنما تلين القلوب في الشتاء. و « نباتا » مصدر على غير المصدر؛ لأن مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة « آل عمران » وغيرها. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى: « أنبتكم » جعلكم تنبتون نباتا؛ قال الخليل والزجاج. وقيل: أي أنبت لكم من الأرض النبات. « فنباتا » على هذا نصب على المصدر الصريح. والأول أظهر. وقال ابن جريج: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. « ثم يعيدكم فيها » أي عند موتكم بالدفن. « ويخرجكم إخراجا » بالنشور للبعث يوم القيامة.

الآيات: 19 - 20 ( والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا )
قوله تعالى: « والله جعل لكم الأرض بساطا » أي مبسوطة. « لتسلكوا منها سبلا فجاجا » السبل: الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة؛ قاله الفراء. وقيل: الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورتي « الأنبياء والحج » .

الآية: 21 ( قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا )
شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين؛ حكاه الماوردي. « واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا » يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرأ أهل المدنية والشام وعاصم « وولده » بفتح الواو واللام. الباقون « ولده » بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم.

الآية: 22 ( ومكروا مكرا كبارا )
أي كبيرا عظيما. يقال: كبير وكبار وكبار، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال: رجل حسن وحسان، وجميل وجمال، وقراء للقارئ، ووضاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت:

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القُرّاء

وقال آخر:

والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء

وقال المبرد: « كبارا » ( بالتشديد ) للمبالغة. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد « كبارا » بالتخفيف. واختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد؛ حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جحلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل: مكرهم كفرهم. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: « لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا » .

الآيات: 23 - 24 ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا )
قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم؛ فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى: « لا تذرن آلهتكم » . ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم: « لا تذرن ألهتكم » قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا؛ ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه؛ فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر، فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله؛ حتى بعث الله نوحا فقالوا: { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا « الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها؛ فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.»

قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) . وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره؛ فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به؛ فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء؛ فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود، سمي ودا لودهم له؛ وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل؛ في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم:

حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر؛ في قولهم.

وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ؛ في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيء - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل؛ فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.

وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع؛ في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه؛ الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:

يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير؛ في قول قتادة، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير؛ فالله أعلم. وقرأ نافع « ولا تذرن ودا » بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود ( بفتح الواو ) صنم كان لقوم نوح. وود ( بالضم ) صنم لقريش؛ وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود ( بالفتح ) الوتد في لغة أهل، نجد؛ كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرئ القيس:

تظهر الود إذا ما أشجذت وتواريه إذا ما تعتكر

قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل؛ ومنه سموه عبد ود وقال: « لا تذرن آلهتكم » ثم قال: « ولا تذرون ودا ولا سواعا » الآية. خصها بالذكر؛ لقوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] . « وقد أضلوا كثيرا » هذا من قول نوح؛ أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم؛ فهو عطف على قوله: « ومكروا مكرا كبارا » . وقيل: إن الأصنام « أضلوا كثيرا » أي ضل بسببها كثير؛ نظيره قول إبراهيم: « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » [ إبراهيم: 36 ] فأجرى عليهم وصف ما يعقل؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. « ولا تزد الظالمين إلا ضلالا » أي عذابا؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقوله تعالى: « إن المجرمين في ضلال وسعر » [ القمر: 47 ] . وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.

الآية: 25 ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا )
قوله تعالى: « مما خطيئاتهم أغرقوا » « ما » صلة مؤكدة؛ والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم؛ فأدت « ما » هذا المعنى. قال: و « ما » تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو « خطاياهم » على جمع التكسير؛ الواحدة خطية. وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل؛ فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك؛ فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون « خطيئاتهم » على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات؛ يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد؛ جمعان مستعملان في الكثرة والقلة؛ واستدلوا بقوله تعالى: « ما نفدت كلمات الله » [ لقمان: 27 ] وقال الشاعر:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وقرئ « خطيئاتهم » و « خطياتهم » بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي « خطيئتهم » على التوحيد، والمراد الشرك. « فأدخلوا نارا » أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار؛ كما قال تعالى: « النار يعرضون عليها غدوا وعشيا » [ غافر: 46 ] . وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: ( البحر نار في نار ) . وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: « أغرقوا فأدخلوا نارا » قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة؛ كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:

الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار

« فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا » أي من يدفع عنهم العذاب.

الآيات: 26 - 27 ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا )
قوله تعالى: « وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين » دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته؛ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب أهزمهم وزلزلهم ) . وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: ( احذر هذا فإنه يضلك ) . فقال: يا أبت أنزلني؛ فأنزله فرماه فشجه؛ فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم؛ ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب؛ بدليل قوله تعالى: « وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم » [ الفرقان: 37 ] .
قال ابن العربي: « دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم » .

قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة « البقرة » والحمد لله. الثالثة: قال ابن العربي: « إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما: أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني: أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك؛ فخاف الدرك فيه يوم القيامة؛ كما قال موسى عليه السلام: ( إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ) . قال: وبهذا أقول » .

قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له: « أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن » [ هود: 36 ] . فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك؛ كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: ( اللهم عليك بهم ) لما أعلم عواقبهم؛ وعلى هذا يكون فيه معنى الأم بالدعاء. والله أعلم.
قوله تعالى: « ديارا » أي من يسكن الديار؛ قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور؛ فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام؛ أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار؛ أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار؛ أي أحد. وقيل: الديار صاحب الدار.

الآية: 28 ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا )
قوله تعالى: « رب اغفر لي ولوالدي » دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش؛ ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل. وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير « لوالدي » بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. « ولمن دخل بيتي مؤمنا » أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي. صلي الله عليه وسلم: ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم أرحمه ) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: « بيتي » مسجدي؛ حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني؛ فالبيت بمعنى الدين؛ حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي؛ حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. « وللمؤمنين والمؤمنات » عامة إلى يوم القيامة؛ قال الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قومه؛ والأول أظهر. « ولا تزد الظالمين » أي الكافرين. « إلا تبارا » إلا هلاكا؛ فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران؛ حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: « إن هؤلاء متبر ما هم فيه » [ الأعراف: 139 ] . وقيل: التبار الدمار؛ والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.

هدى من الله
Admin
Admin

عدد المساهمات : 10627
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد ديسمبر 29, 2013 11:17 pm

تفسير سورة الجن للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 3 ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا )
قوله تعالى: « قل أوحي إلي » أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل « أنه استمع » إلي « نفر من الجن » وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة « أحِي » على الأصل؛ يقال أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه.
واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم؛ لقوله تعالى: « استمع » ، وقوله تعالى: « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن » [ الأحقاف: 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم؛ فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: « إنا سمعنا قرآنا عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا » فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: « قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن » : رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم: « لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا » قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: « لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا » [ الجن: 19 ] . قال: هذا حديث حسن صحيح؛ ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا.

وقيل لهم شياطين كما قال: « شياطين الإنس والجن » [ الأنعام: 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة. وقيل: تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر؛ ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين. وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق ) . وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف ) . قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرأ باسم ربك » [ العلق: 1 ] وقد مضى في سورة « الأحقاف » التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لإعادة ذلك.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت؛ روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؛ فقال: ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبدالله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبدالله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة « الأحقاف » والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ ) فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبدالله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال: ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ( ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .

قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية: انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكأن وجوههم المكاكي، فقالوا: ما أنت؟ قال: ( أنا نبي الله ) قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: ( هذه الشجرة ) فقال: ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: ( على ماذا تشهدين ) قالت: أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت.

ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: ( هل من وضوء ) قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه.

قد مضى الكلام في الماء في سورة « الحجر » وما يستنجى به في سورة « براءة » فلا معنى للإعادة.

واختلف أهل العلم، في أصل الجن؛ فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون؛ ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما: وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني: وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة « الرحمن » عند قوله تعالى: « لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان » [ الرحمن: 56 ] بيان أنهم يدخلونها.

قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم؛ اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات؛ ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: ( إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال: ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم ) وقد مضى هذا المعنى في سورة « البقرة » وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة؛ لقوله في الصحيح: ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي: ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله: ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام. وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة.

قوله تعالى: « فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا » أي في فصاحة كلامه. وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل: عجبا في عظم بركته. وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل: يعنون عظيما. « يهدي إلى الرشد » أي إلى مراشد الأمور. وقيل: إلى معرفة الله تعالى؛ و « يهدي » في موضع الصفة أي هاديا. « فآمنا به » أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله « ولن نشرك بربنا أحدا » أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه؛ لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمي الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر؛ لأنه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: « استمع نفر من الجن » أي استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط؛ قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي « يهدي إلى الرشد » بفتح الراء والشين.

قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربنا » كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون « أن » في جميع السورة في اثني عشر موضعا، وهو: « أنه تعالى جد ربنا » ، « وأنه كان يقول » ، « وأنا ظننا » ، « وأنه كان رجال » ، « وأنهم ظنوا » ، « وأنا لمسنا السماء » ، « وأنا كنا نقعد » ، « وأنا لا ندري » ، « وأنا منا الصالحون » ، « وأنا ظننا أن نعجز الله في الأرض » ، « وأنا لما سمعنا الهدى » ، « وأنا منا المسلمون » عطفا على قوله: « أنه استمع نفر » ، « وأنه استمع » لا يجوز فيه إلا الفتح؛ لأنها في موضع اسم فاعل « أوحي » فما بعده معطوف عليه. وقيل: هو محمول على الهاء في « آمنا به » ، أي و « بأنه تعالى جد ربنا » وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع « أن » . وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: « فقالوا إنا سمعنا » لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع؛ وهي قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربا » ، « وأنه كان يقول » ، « وأنه كان رجال » ، قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي؛ لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: « وأنه لما قام عبدالله » [ الجن: 19 ] . فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة « أنه استمع نفر من الجن » ، « وأن لو استقاموا » « وأن المساجد لله » ، « وأن قد أبلغوا » . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول؛ نحو قوله تعالى: « فقالوا إنا سمعنا » و « قل إنما أدعوا ربي » [ الجن: 20 ] و « قل إن أدري » [ الجن: 25 ] . و « قل إني لا أملك » [ الجن: 21 ] . وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء؛ نحو قوله تعالى: « فإن له نار جهنم » [ الجن: 23 ] و « فإنه يسلك من بين يديه » [ الجن: 27 ] . لأنه موضع ابتداء.

قوله تعالى: « وأنه تعالى جد ربنا » الجد في اللغة: العظمة والجلال؛ ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا؛ أي عظم وجل. فمعنى: « جد ربنا » أي عظمته وجلاله؛ قال عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ؛ وفي الحديث: [ ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش ملكه وسلطانه. وقال السدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: « وأنه تعالى جد ربنا » أي تعالى ربنا. وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى؛ إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة « جد » بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب « جدا ربنا » ، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا « جد » بالتنوين « ربنا » بالرفع على أنه مرفوع، « بتعالى » ، و « جدا » منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا « جد » بالتنوين والرفع « ربنا » بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا؛ فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.

الآيات: 4 - 7 ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا )
قوله تعالى: « وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا » الهاء في « أنه » للأمر أو الحديث، وفي « كان » اسمها، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون « كان » زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المشركون من الجن: قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. الكلبي: هو الكذب. وأصله العبد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر:

بأيه حال حكموا فيك فاشتطوا وما ذاك إلا حيث يممك الوخط

قوله تعالى: « وأنا ظننا » أي حسبنا « أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا » ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.

وقرأ يعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق « أن لن تقول » . وقيل: انقطع الإخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى: « وأنه كان رجال من الأنس » فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله: « أنه استمع » [ الجن: 1 ] ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه؛ فيبيت في جواره حتى يصبح؛ قال الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي، [ أنا ] جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة: « وأنه كان رجال من الإنس. يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا » أي زاد الجن الإنس « رهقا » أي خطيئة وإثما؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم؛ ورجل رهق إذا كان كذلك؛ ومنه قوله تعالى: « وترهقهم ذلة » [ يونس: 27 ] وقال الأعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا: « فزادوهم » أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد بن جبير: كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن؛ فالمعنى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن.
قوله تعالى: « وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا » هذا من قول الله تعالى للإنس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي: المعنى: ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش؛ أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك.

الآيات: 8 - 10 ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا )
قوله تعالى: « وأنا لمسنا السماء » هذا من قول الجن؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا « فوجدناها » قد « ملئت حرسا شديدا » أي حفظة، يعني الملائكة. والحرس: جمع حارس « وشهبا » جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة « الحجر » « والصافات » . و « وجد » يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين، فالأول الهاء والألف، و « ملئت » في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون « ملئت » في موضع الحال على إضمار قد. و « حرسا » نصب على المفعول الثاني « بملئت » . و « شديدا » من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا. ووحد الشديد على لفظ الحرس؛ وهو كما يقال: السلف الصالح بمعنى الصالحين، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس؛ قال:

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

ويجوز أن يكون « حرسا » مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة.
قوله تعالى: « وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » « منها » أي من السماء، و « مقاعد » : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء؛ يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: « فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » يعني بالشهاب: الكوكب المحرق؛ وقد تقدم بيان ذلك. ويقال: لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال الكلبي وقال قوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه: خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة والشهب.

قلت: ورواه عطية العوفي عن ابن عباس؛ ذكره البيهقي. وقال عبدالله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشياطين، ورموا بالشهب، وقال عبدالملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب. ونحوه عن أبي بن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها. وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله؛ وهو معنى قوله تعالى: « ملئت » أي زيد في حرسها؛ وقال أوس بن حجر وهو جاهلي:

فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا

وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح؛ لقوله تعالى: « فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا » . وهذا إخبار عن الجن، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم؛ ولما روي عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم؛ فقال: [ ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ] ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطف الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ] . وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله سبحانه: « وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا » قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة: كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث؛ وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة « الصافات » عند قوله: « ويقذفون من كل جانب. دحورا ولهم عذاب واصب » [ الصافات: 8 - 9 ] قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسي إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له: « وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين » [ الحجر: 35 ] ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد: قيل من الملائكة؛ أي ورصدا من الملائكة.

والرصد: الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس، والواحد: راصد. وقيل: الرصد هو الشهاب، أي شهابا قد أرصد له، ليرجم به؛ فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض.
قوله تعالى: « وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض » أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء « أم أراد بهم ربهم رشدا » أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري، هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل: هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا؛ فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان؛ وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: لا؛ بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين؛ أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟

الآيات: 11 - 12 ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا، وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا )
قوله تعالى: « وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك » هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل: « ومنا دون ذلك » أي ومن دون الصالحين في الصلاح، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك. « كنا طرائق قددا » أي فرقا شتى؛ قال السدي. الضحاك: أديانا مختلفة. قتادة: أهواء متباينة؛ ومنه قول الشاعر:

القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى: « طرائق قددا » قال: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية. وقال قوم: أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون: منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: « إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه » [ الأحقاف: 30 ] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضا لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق: جمع الطريقة وهي مذهب الرجل، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال: القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد: نحو من الطرائق وهو توكيد لها، واحدها: قدة. يقال: لكل طريق قدة، وأصلها من قد السيور، وهو قطعها؛ قال لبيد يرثي أخاه أربد:

لم تبلغ العين كل نهمتها ليلة تمسي الجياد كالقدد

وقال آخر:

ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قددا

والقد بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ؛ ويقال: ماله قد ولا قحف؛ فالقد: إناء من جلد، والقحف: من خشب.



قوله تعالى: « وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض » الظن هنا بمعنى العلم واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: « وأنا ظننا أن لن تقول » [ الجن: 5 ] ، « وأنهم ظنوا » [ الجن: 7 ] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه، لن نفوته بهرب ولا غيره. و « هربا » مصدر في موضع الحال أي هاربين.


الآيات: 13 - 15 ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا، وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا )
قوله تعالى: « وأنا لما سمعنا الهدى » يعني القرآن « آمنا به » وبالله، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن، ولا من أهل البادية، ولا من النساء؛ وذلك قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى » [ يوسف: 109 ] وقد تقدم هذا المعنى. وفي الصحيح: [ وبعثت إلى الأحمر والأسود ] أي الإنس والجن.

قوله تعالى: « فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا » قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس النقصان

والرهق: العدوان وغشيان المحارم؛ قال الأعشى:

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

الوامق: المحب؛ وقد وَمِقَه يمِقه بالكسر أي أحبه، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة « فلا يخاف » رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم « فلا يخف » جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء.

قوله تعالى: « وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون » أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط: الجائر، لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق؛ يقال: قسط: أي جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال الشاعر:

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة عمرا وهم قسطوا على النعمان

« فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا » أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة « وأما القاسطون » أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان « فكانوا لجهنم حطبا »

أي وقودا. وقوله: « فكانوا » أي في علم الله تعالى.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين ديسمبر 30, 2013 11:24 pm

تفسير القرطبى لسورة الجن
=====


الآيات: 16 - 17 ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا، لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا )
قوله تعالى: « وأن لو استقاموا على الطريقة » هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي؛ أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من « إن » المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح « وأن لو استقاموا » أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة؛ كما يقال في الكلام: والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت؛ قال الشاعر:

أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على « أوحي إلي أنه » ، « وأن لو استقاموا » أو على « آمنا به » وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى « أن » المخففة، أن يعطف المخففة على « أوحي إلي » أو على « آمنا به » ، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من « لو » لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و « ماء غدقا » أي واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين؛ يقال: غدقت العين تغدق، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي « لو استقاموا على الطريقة » طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين « لأسقيناهم ماء غدقا » أي كثيرا « لنفتنهم فيه » أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى « لأسقيناهم » لوسعنا عليهم في الدنيا؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه؛ كقوله تعالى: « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض » [ الأعراف: 96 ] وقوله تعالى: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » [ المائدة: 66 ] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفان.

وقال الكلبي وغيره: « وأن لو استقاموا على الطريقة » التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم، حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز؛ واستدلوا بقوله تعالى: « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » [ الأنعام: 44 ] الآية. وقوله تعالى: « ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة » [ الزخرف: 33 ] الآية؛ والأول أشبه؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا ) قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: ( بركات الأرض ) وذكر الحديث. وقال عليه السلام: ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .
قوله تعالى: « ومن يعرض عن ذكر ربه » يعني القرآن؛ قال ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل: « ومن يعرض عن ذكر ربه » أي لم يشكر نعمه « يسلكه عذابا صعدا » قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو « يسلكه » بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لذكر اسم الله أولا فقال: « ومن يعرض عن ذكر ربه » . الباقون « نسلكه » بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى؛ أي ندخله. « عذابا صعدا » أي شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. أبو سعيد الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الأمر: إذا شق عليك؛ ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي. وعذاب صعد أي شديد.

والصعد: مصدر صعد؛ يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر؛ أي عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكؤود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: « سأرهقه صعودا » [ المدثر: 17 ] .

الآية: 18 ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا )
قوله تعالى: « وأن المساجد لله » « أن » بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: « قل أوحي إلي » [ الجن: 1 ] أي قل أوحي إلي أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: « وأن المساجد لله » أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد ) وفي الصحيح: ( وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) .

وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه؛ يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ) . وقال العباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ) . وقيل: المساجد هي الصلوات؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، ويقال بالفتح؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مسجد وهو السجود، يقال: سجدت سجودا ومسجدا، كما تقول: ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح: إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله.
قوله تعالى: « لله » إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال: « وطهر بيتي » [ الحج: 26 ] . وقال عليه السلام: ( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ) الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) . قال ابن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا ) ولو صح هذا لكان نصا.

قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة « إبراهيم » .
المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا؛ فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها، وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة « التوبة » . و « النور » وغيرهما.
قوله تعالى: « فلا تدعوا مع الله أحدا » هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد. وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا، ولا طرقا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفي الصحيح: [ من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ] وقد مضى في سورة « النور » ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.
روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال: [ « وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا » اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار ] فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى؛ وقال: [ اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا، واجعل لي في الأرض جدا ] أي غنى.

الآيات: 19 - 21 ( وأنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا، قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا، قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا )
قوله تعالى: « وأنه لما قام عبدالله يدعوه » يجوز الفتح؛ أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و « عبد الله » هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن، حسب ما تقدم أول السورة. « يدعوه » أي يعبده. وقال ابن جريج: « يدعوه » أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. « كادوا يكونون عليه لبدا » قال الزبير بن العوام: هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون، حرصا على سماع القرآن. وقيل: كادوا يركبونه حرصا؛ قال الضحاك. ابن عباس: رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا: إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل: المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني « لما قام عبد الله » محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى: كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد: قوله « لبدا » جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد؛ قال زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لِبَد أظفاره لم تقلَّم

ويقال للجراد الكثير: لبد وفيه أربع لغات وقراءات؛ فتح الباء وكسر اللام، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد. وقيل: اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم؛ ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه؛ قال النابغة:

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

القشيري: وقرئ « لبدا » بضم اللام والباء، وهو جمع لبيد، وهو الجولق الصغير. وفي الصحاح: [ وقوله تعالى ] « أهلكت مالا لبدا » أي جما.

ويقال أيضا: الناس لبد أي مجتمعون، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [ منزله ] . قال الشاعر:

من امرئ ذي سماح لا تزال له بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد

ويروى: اللبد. قال أبو عبيد: وهو أشبه.

والبزلاء: الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء: إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام؛ قال الشاعر:

إني إذا شغلت قوما فروجهم رحب المسالك نهاض ببزلاء

ولبد: آخر نسور لقمان، وهو ينصرف؛ لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور، وكان آخر نسوره يسمى لبدا، وقد ذكرته الشعراء؛ قال النابغة:

أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد

واللبيد: الجوالق الصغير؛ يقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.
قوله تعالى: « قال إنما أدعو ربي » أي قال صلى الله عليه وسلم: « إنما أدعو ربي » « ولا أشرك به أحدا » وكذا قرأ أكثر القراء « قال » على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم « قل » على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك؛ فنزلت. « قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل: « لا أملك لكم ضرا » أي كفرا « ولا رشدا » أي هدى؛ أي إنما علي التبليغ. وقيل: الضر: العذاب، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة.

الآيات: 22 - 25 ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا، قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا )
قوله تعالى: « قل إني لن يجيرني من الله أحد » أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته؛ وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك؛ فقال: ( إني لن يجيرني من الله أحد ) ذكره الماوردي. قال: ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. « ولن أجد من دونه ملتحدا » أي ملتجأ ألجأ إليه؛ قال قتادة. وعنه: نصيرا ومولى. السدي: حرزا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل: وليا ولا مولى. وقيل: مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة، والمعنى واحد؛ ومنه قول الشاعر:

يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية عني وما من قضاء الله ملتحد

قوله تعالى: « إلا بلاغا من الله ورسالاته » فإن فيه الأمان والنجاة؛ قال الحسن.

وقال قتادة: « إلا بلاغا من الله » فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى: « قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل: هو استثناء ومنقطع من قوله: « لا أملك لكم ضرا ولا رشدا » أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به؛ قاله الفراء. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: « ملتحدا » أي « ولن أجد من دونه ملتحدا » إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته، فآخذ نفسي بما أمر به غيري.

وقيل هو مصدر، و « لا » بمعنى لم، و « إن » للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا: أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.
قوله تعالى: « ومن يعص الله ورسوله » في التوحيد والعبادة. « فإن له نار جهنم » كسرت إن؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. « خالدين فيها » نصب على الحال، وجمع « خالدين » لأن المعنى لكل من فعل ذلك، فوحد أولا للفظ « من » ثم جمع للمعنى. وقوله « أبدا » دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون معنى « خالدين فيها أبدا » إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة « النساء » وغيرها.
قوله تعالى: « حتى إذا رأوا ما يوعدون » « حتى » هنا مبتدأ، أي « حتى إذا رأوا ما يوعدون » من عذاب الآخرة، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل ببدر « فسيعلمون » حينئذ « من أضعف ناصرا » أهم أم المؤمنون. « وأقل عددا » معطوف. « قل إن أدري أقريب ما توعدون » يعني قيام الساعة. وقيل: عذاب الدنيا؛ أي لا أدري « فإن » بمعنى « ما » أو « لا » ؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و « ما » في قوله: « ما يوعدون » : يجوز [ أن يكون مع الفعل مصدرا، ويجوز ] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. « أم يجعل له ربي أمدا » أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح.

الآيات: 26 - 27 ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )
قوله تعالى: « عالم الغيب » « عالم » رفعا نعتا لقوله: « ربي » . وقيل: أي هو « عالم الغيب » والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه. « فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول » فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات؛ وفي التنزيل: « وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم » [ آل عمران: 49 ] . وقال ابن جبير: « إلا من ارتضى من رسول » هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوته.
قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:

حكم المنجم أن طالعَ مولدي يقضي علي بمِيتة الغَرِق

قل للمنجم صَبحة الطوفان هل ولد الجميع بكوكب الغرق

وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا إيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه.
قوله تعالى: « فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا » يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان؛ فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد: « رصدا » أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة.

وقال الفراء: المراد جبريل؛ كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السدي: « رصدا » أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان. و « رصدا » نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرصد القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشيء الراقب له؛ يقال: رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.

الآية: 28 ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا )
قوله تعالى: « ليعلم » قال قتادة ومقاتل: أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه؛ قال ابن جبير. قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل: أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة: أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة « ليعلم » بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء؛ كقوله تعالى: « ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين » [ آل عمران: 142 ] المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. « وأحاط بما لديهم » أي أحاط علمه بما عندهم، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير: المعنى: ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم، فيبلغوا رسالاته. « وأحصى كل شيء عددا » أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء. و « عددا » نصب على الحال، أي أحصى كل شيء في حال العدد، وإن شئت على المصدر، أي أحصى وعد كل شيء عددا، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله وحده.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء ديسمبر 31, 2013 11:32 pm

تفسير سورة المزمل للقرطبى
=======

مقدمة السورة
( مكية ) وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: « واصبر على ما يقولون » [ المزمل: 10 ] والتي تليها؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى » [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة؛ فإنه نزل بالمدينة.

الآيات: 1 - 4 ( يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا )
قوله تعالى: « يا أيها المزمل » قال الأخفش سعيد: « المزمل » أصله المتزمل؛ فأدغمت التاء في الزاي وكذلك « المدثر » . وقرأ أبي بن كعب على الأصل « المتزمل » و « المتدثر » . وسعيد: « المزمل » . وفي أصل « المزمل » قولان: أحدهما أنه المحتمل؛ يقال: زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة؛ لأنها تحمل القماش. الثاني أن المزمل هو المتلفف؛ يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر؛ قال امرؤ القيس:

كبير أناس في بجاد مزمل

قوله تعالى: « يا أيها المزمل » هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الأول قول عكرمة: « يا أيها المزمل » بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ: « يا أيها المزمَّل » بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك « المدثر » والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني: « يا أيها المزمل » بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قال قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي.

قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم.

وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: « يا أيها المزمل » [ المزمل: 1 ] و « يا أيها المدثر » [ المدثر: 1 ] . وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال: ( زملوني دثروني ) روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء: إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر؛ لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي: واختلف في تأويل: « يا أيها المزمل » فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم؛ قال إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز، كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة؛ قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل.

قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه.
قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: ( قم يا أبا تراب ) إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: ( قم يا نومان ) وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب. فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: « يا أيها المزمل قم » فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة.
قوله تعالى: « قم الليل » قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة؛ لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن « قم » هنا معناه صل؛ عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال.

« الليل » حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة « البقرة » . واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا؛ وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني: قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح؛ كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله... الحديث، وفيه: فقلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألست تقرأ: « يا أيها المزمل » قلت: بلى! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول « يا أيها المزمل » [ المزمل: 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] فخفف الله عنهم.

قوله تعالى: « إلا قليلا » استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف؛ فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. « نصفه أو انقص منه قليلا » فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » [ المزمل: 20 ] . وقال الأخفش: « نصفه » أي أو نصفه؛ يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج: « نصفه » بدل من الليل و « إلا قليلا » استثناء من النصف. والضمير في « منه » و « عليه » للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين؛ فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن « نصفه » بدل من قوله: « قليلا » وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه؛ كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر ) . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله... ) الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟ ) صححه أبو محمد عبدالحق؛ فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول، وأن ذلك يكون عند نصف الليل. وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبدالله الأغر، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر ) . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث.

اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل؛ فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » [ المزمل: 20 ] .

وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى » [ المزمل: 20 ] . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » [ المزمل: 20 ] . قال أبو عبدالرحمن السلمي: لما نزلت: « يا أيها المزمل » قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » [ المزمل: 20 ] .

قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله؛ كما قال تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] .

قلت: القول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى: « وأقيموا الصلاة » [ المزمل: 20 ] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال: ( أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وإن خير العمل أدومه وإن قل ) . فنزلت: « يا أيها المزمل » فكتب عليهم، فأنزل بمنزلة الفريضة، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فرحمهم الله وأنزل: « إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل » [ المزمل: 20 ] فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به.

قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: ( وإن قل ) وباقيه يدل على أن قوله تعالى: « يا أيها المزمل » نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة؛ قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة؛ قاله ابن جبير.

قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « ورتل القرآن ترتيلا » أي لا تعجل بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام؛ ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال: ( ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: « ورتل القرآن ترتيلا » هذا الترتيل ) . وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال: لقد رتل القرآن، فداه أبي وأمي، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. وروى عبدالله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ) خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا.

الآية: 5 ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا )
قوله تعالى: « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا » هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله؛ لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم؛ مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء: « ثقيلا » رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: « ثقيلا » أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه؛ كما جاء في الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.

قال ابن العربي: وهذا أولى؛ لأنه الحقيقة، وقد جاء: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] . وقال عليه السلام: « بعثت بالحنيفية السمحة » . وقيل: القول في هذه السورة: هو قول لا إله إلا الله؛ إذ في الخبر: خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان؛ ذكره القشيري.

الآيات: 6 - 7 ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا، إن لك في النهار سبحا طويلا )
قوله تعالى: « إن ناشئة الليل » قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا؛ يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله؛ فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى: « أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين » [ الزخرف: 18 ] والمراد إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لأن كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى ( قيام الليل ) كالخاطئة والكاذبة؛ أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى.
بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل؛ فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق؛ ومنه قول الشاعر:

ولولا أن يقال صبا نصيب لقلت بنفسي النشأ الصغار

وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ حكاه الجوهري.
قوله تعالى: « هي أشد وطئا » قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة « وطاء » بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون « وطئا » بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم؛ من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة: إذا وافقته من الوفاق، وفلان يواطئ اسمه اسمي، وتواطؤوا عليه أي توافقوا؛ فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان؛ لانقطاع الأصوات والحركات؛ قال مجاهد وابن أبي مليكة وغيرهما. وقال ابن عباس بمعناه، أي يواطئ السمع القلب؛ قال الله تعالى: « ليواطئوا عدة ما حرم الله » [ التوبة: 37 ] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مهادا للتصرف في التفكر والتدبر. والوطاء خلاف الغطاء. وقيل: « أشد وطئا » بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتا من النهار؛ فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتقى لما يلهي ويشغل القلب. والوطء الثبات، تقول: وطئت الأرض بقدمي. وقال الأخفش: أشد قياما. الفراء: أثبت قراءة وقياما. وعنه: « أشد وطئا » أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن اشتغال المعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: « أشد وطئا » أي أشد نشاطا للمصلي؛ لأنه في، زمان راحته. وقال عبادة: « أشد وطأ » أي نشاطا للمصلي وأخف، وأثبت للقراءة.
قوله تعالى: « وأقوم قيلا » أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار؛ أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي: « أقوم قيلا » أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد بن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك « إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا » فقيل له: « وأقوم قيلا » فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الأنباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو. مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله؛ لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع « الحمد لله رب العالمين » [ الفاتحة: 2 ] : الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريا على الله عز وجل، كاذبا على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال وأقبل؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلم، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفا منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم؛ لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قبل أن الأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه.
قوله تعالى: « إن لك في النهار سبحا طويلا » قراءة العامة بالحاء غير معجمة؛ أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري؛ قال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن الغبار بالكديد المركل

وقيل: السبح الفراغ؛ أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل: « إن لك في النهار سبحا » أي نوما، والتسبح التمدد؛ ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: ( سبحا طويلا ) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل، شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك.

وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل « سبخا » بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: ( لا تسبخي ( عنه ) بدعائك عليه ) . أي لا تخففي عنه إثمه؛ قال الشاعر:

فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن

الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر: فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها؛ يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ؛ قال الأخطل يصف القناص والكلاب:

فأرسلوهن يذرين التراب كما يذري سبائخ قطن ندف أوتار

وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمى من فيح جهنم، فسبخوها بالماء ) أي سكنوها. وقال أبو عمرو: السبخ:: النوم والفراغ.

قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة.

الآية: 8 ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا )
قوله تعالى: « واذكر اسم ربك » أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار.

قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار؛ إذ هو قسيمه؛ وقد قال الله تعالى: « وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر » [ الفرقان: 62 ] على ما تقدم.
قوله تعالى: « وتبتل إليه تبتيلا » التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل؛ أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي بائنة منقطعة عن صاحبها،؛ أي قطع ملكه عنها بالكلية؛ ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:

تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتل

وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد؛ قال ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.
قد مضى في ( المائدة ) في تفسير قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » [ المائدة: 87 ] كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ابن العربي: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي؛ فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم؛ فالتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة؛ كما قال تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » [ البينة: 5 ] والتبتل المنهي عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهيب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.

الآيات: 9 - 11 ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا )

قوله تعالى: « رب المشرق والمغرب » قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص « رب » بالرفع على الابتداء والخبر « لا إله إلا هو » . وقيل: على إضمار « هو » . الباقون « رب » بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى: « واذكر اسم ربك » « رب المشرق » ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. « فاتخذه وكيلا » أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك.

قوله تعالى: « واصبر على ما يقولون » أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. « واهجرهم هجرا جميلا » أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك؛ قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه ( أقوام ) ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.

قوله تعالى: « وذرني والمكذبين » أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في « الأنفال » . وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. « أولي النعمة » أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا « ومهلهم قليلا » يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل: « ومهلهم قليلا » يعني إلى مدة الدنيا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 01, 2014 11:08 pm

تفسير القرطبى لسورة المزمل
=====


الآيات: 12 - 14 ( إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما، يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا )
قوله تعالى: « إن لدينا أنكالا وجحيما » الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.

وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة؛ ومنه قول الخنساء:

دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع

وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد؛ قاله مقاتل. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يحب النكل على النكل ) بالتحريك، قال الجوهري. قيل: وما النكل؟ قال: ( الرجل القوي المجرب، على الفرس القوي المجرب ) ذكره الماوردي قال: ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته، وكذلك، الغل، وكل عذاب قوي فاشتد، والجحيم النار المؤججة. « وطعاما ذا غصة » أي غير سائغ؛ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الغسلين والزقوم والضريع؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: انه شوك يدخل الحلق، فلا ينزل ولا يخرج. وقال الزجاج: أي طعامهم الضريع؛ كما قال: « ليس لهم طعام إلا من ضريع » [ الغاشية: 6 ] وهو شوك كالعوسج. وقال مجاهد: هو الزقوم، كما قال: « إن شجرة الزقوم طعام الأثيم » [ الدخان:43 - 44 ] . والمعنى واحد. وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما ذا غصة ) فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية « إن لدينا أنكالا وجحيما. وطعاما » فقال: أرفع طعامك. فلما كانت الثانية أتيته بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه. ومثله في الثالثة؛ فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم، فجاؤوه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعها غصص. والغصص بالفتح مصدر قولك: غصصت يا رجل تغص، فأنت غاص بالطعام وغصان، وأغصصته أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم.
قوله تعالى: « يوم ترجف الأرض والجبال » أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب « يوم » على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون « يوم ترجف الأرض » . وقيل: بنزع الخافض؛ يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل « ذرني » أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. « وكانت الجبال كثيبا مهيلا » أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان:

عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب

والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: « مهيلا » أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون؛ قال الشاعر:

قد كان قومك يحسبونك سيدا وإدخال أنك سيد معيون

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شكوا إليه الجدوبة؛ فقال: ( أتكيلون أم تهيلون ) قالوا: نهيل. قال: ( كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه ) . وأهلت الدقيق لغة في هلت فهو مهال ومهيل. وإنما حذفت الواو، لأن الياء تثقل فيها الضمة، فحذفت فسكنت هي والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

الآيات: 15 - 19 ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به كان وعده مفعولا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا )
قوله تعالى: « إنا أرسلنا إليكم رسولا » يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش « كما أرسلنا إلى فرعون رسولا » وهو موسى « فعصى فرعون الرسول » أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون أزدرى موسى؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: « ألم نربك فينا وليدا » [ الشعراء:18 ] .

قال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره؛ ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. « وبيلا » أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد؛ قال الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا.

ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكا ( والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة ) قال:

أكلت بنيك أكل الضب حتى وجدت مرارة الكلأ الوبيل

واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرأ، قال زهير:

فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا إلى كلأ مستوبل متوخم

وقالت الخنساء:

لقد أكلت بجيلة يوم لاقت فوارس مالك أكلا وبيلا

والوبيل أيضا: العصا الضخمة؛ قال:

لو أصبح في يمنى يدي زمامها وفي كفي الأخرى وبيل تحاذره

وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة:

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
قوله تعالى: « فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا » هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبدالله وعطية.

قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و « يوما » مفعول بـ « تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول « كفرتم » . وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: ( كفرتم ) والابتداء ( يوما ) يذهب إلى أن اليوم مفعول « يجعل » والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري؛ وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في « يجعل » يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم « بكفرتم » وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق بـ « كفرتم » احتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبدالله « فكيف تتقون يوما » .

قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ « يوما » مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب « فكيف تتقون » بكسر النون على الإضافة. و « الولدان » الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح؛ أي يشيب فيه الضمير من غير كبر. وذلك حين يقال: ( يا آدم قم فابعث بعث النار ) . على ما تقدم في أول سورة « الحج » . قال القشيري: ثم إن أهل الجنة يغير الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد.

وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قوله تعالى: « السماء منفطر به » أي متشققة لشدته. ومعنى « به » أي فيه؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: « ثقلت في السموات والأرض » [ الأعراف: 187 ] . وقيل: « به » أي له، أي لذلك اليوم؛ يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع؛ قال الله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة » [ الأنبياء: 47 ] أي في يوم القيامة. وقيل: « به » أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة؛ لأن مجازها السقف؛ تقول: هذا سماء البيت؛ قال الشاعر:

فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء وبالسحاب

وفي التنزيل: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] . وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و « أعجاز نخل منقعر » [ القمر: 20 ] . وقال أبو علي أيضا: أي السماء ذات انفطار؛ كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. « كان وعده » أي بالقيامة والحساب والجزاء « مفعولا » كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
قوله تعالى: « إن هذه تذكرة » يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. « فمن شاء اتخذ إلى ربه » أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه « سبيلا » أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: « فمن شاء ذكره » [ المدثر: 55 ] قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.

الآية: 20 ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )
قوله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم » هذه الآية تفسير لقوله تعالى: « قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه » [ المزمل: 4 ] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. « تقوم » معناه تصلي و « أدنى » أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام « ثلثي » بإسكان اللام. « ونصفه وثلثه » بالخفض قراءة العامة عطفا على « ثلثي » ؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه » فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون « ونصفه وثلثه » بالنصب عطفا على « أدنى » التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
قوله تعالى: « والله يقدر الليل والنهار » أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. « علم أن لن تحصوه » أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزلت: « قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه » [ المزمل: 4 ] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتقخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم؛ فقال تعالى: « علم أن لن تحصوه » و « أن » مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
قوله تعالى: « فتاب عليكم » أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى « والله يقدر الليل والنهار » يخلقهما مقدرين؛ كقوله تعالى: « وخلق كل شيء فقدره تقديرا » [ الفرقان: 2 ] . ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف، التكليف.
قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية.

قلت: قول كعب أصح؛ لقول عليه السلام: ( من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ) خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني: « فاقرؤوا ما تيسر منه » أي فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا؛ كقوله تعالى: « وقرآن الفجر » أي صلاة الفجر. ابن العربي: وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.

قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.

قال بعض العلماء: قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل: « فاقرؤوا ما تيسر منه » معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا » [ الإسراء: 79 ] فاحتمل قوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.

قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى: « فما استيسر من الهدي » [ البقرة: 196 ] فالهدي لا بد منه، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: « نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] ، وقوله: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: « يا أيها المزمل. قم الليل » [ المزمل: 1 ] كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله » ، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: « ومن الليل فتهجد به نافلة لك » [ الإسراء: 79 ] . وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى: « إن ربك يعلم أنك تقوم » وجوب صلاة الليل

قوله تعالى: « علم أن سيكون منكم مرضى » الآية؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و « أن » في « أن سيكون » مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله » وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ « وآخرون يضربون في الأرض » الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه فقال له: يا بني! ما لك وللطعام؟ فهلا إبلا، فهلا بقرا، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.

قوله تعالى: « فاقرؤوا ما تيسر منه » أي صلوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية؛ قال البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا قال: ( أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة ) . وحديث عبدالله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال: ( ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ) فقال ابن العربي: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري: قال عبدالله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل ) فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك: لم ترع. والله أعلم.

إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » ، « فاقرؤوا ما تيسر منه » محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة « الفاتحة » أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عباده؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية؛ قال السدي. الرابع مائة آية؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.

قوله تعالى: « وأقيموا الصلاة » يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. « وآتوا الزكاة » الواجبة في أموالكم؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير.

وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له.

قوله تعالى: « وأقرضوا الله قرضا حسنا » القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة « الحديد » بيانه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.

قوله تعالى: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا » أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. « وأعظم أجرا » قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب « خيرا وأعظم » على المفعول الثاني « لتجدوه » و « هو » : فضل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب. و « أجرا » تمييز. « واستغفروا الله » أي سلوه المغفرة لذنوبكم « إن الله غفور » لما كان قبل التوبة « رحيم » لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 02, 2014 11:29 pm

تفسير سورة المدثر للقرطبى
======


الآيات: 1 - 4 ( يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر )
قوله تعالى: « يا أيها المدثر » أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي « المتدثر » على الأصل.

وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه: ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر » ) في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال: ( ثم تتابع الوحي ) . خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها المدثر » فقلت: أو « أقرأ » . فقال: سألت جابر بن عبدالله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: « يا أيها المدثر » فقلت: أو « أقرأ » فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر وثيابك فطهر » ) خرجه البخاري وقال فيه: ( فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: « يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولا تمنن تستكثر » ) . ابن العربي: وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة ( بن ربيعة ) أمر، فرجع إلى منزله مغموما، فقلق واضطجع، فنزلت: « يا أيها المدثر » وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر: وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر، فوجد من ذلك غما وحم، فتدثر بثيابه، فقال الله تعالى: « قم فانذر » أي لا تفكر في قولهم، وبلغهم الرسالة.

وقيل: اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم في الإخبار عنه؛ فمن قائل يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر؛ فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما؛ فقالوا: كاهن. فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط؛ فقام آخر فقال: مجنون؛ فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة؛ فدخل عليه أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد: ما لي إلى ذلك حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة، ونزلت: « يا أيها المدثر » . وقال عكرمة: معنى « يا أيها المدثر » أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي: وهذا مجاز بعيد؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
قوله تعالى: « يا أيها المدثر » : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة « المزمل » . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد: ( قم أبا تراب ) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق: ( قم يا نومان ) وقد تقدم. « قم فأنذر » أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة. وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء: قم فصل وأمر بالصلاة. « وربك فكبر » أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: « وربك فكبر » أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قولوا الله أعلى وأجل ) وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله: « الله أكبر » وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد؛ منها قوله: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك، وإعلانا باسمه في النسك، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.

قلت: قد تقدم في أول سورة « البقرة » أن هذا اللفظ « الله أكبر » هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه لما نزل قوله تعالى: « وربك فكبر » قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( الله أكبر ) فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛ ذكره القشيري.
الفاء في قوله تعالى: « وربك فكبر » دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في ( فأنذر ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة.
قوله تعالى: « وثيابك فطهر » فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر:

لا هم إن عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم

ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما ) يعني عمله الصالح والطالح؛ ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية وقلبك فطهر؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير؛ دليله قول امرئ القيس:

فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنسل

أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع

ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة:

فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم

وقال امرؤ القيس:

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال:

ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران

أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا:

رموها بأثياب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.

ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛ والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى: « هن لباس لكم وأنتم لباس لهن » [ البقرة: 187 ] . الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر:

ويحيى لا يلام بسوء خلق ويحيى طاهر الأثواب حر

أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: ( ورأيت الناس وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره ) . قالوا: يا رسول الله فما أولت ذلك؟ قال: الدين. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق، قال الله تعالى: « وثيابك فطهر » يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبدالله بن نافع عن أبي بكر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى: « وثيابك فطهر » أي لا تلبسها على غدرة؛ ومنه قول أبي كبشة:

ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران

يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر:

أو ذم حجا في ثياب دسم

أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة:

رقاق النعال طيب حجزاتهم يُحَيون بالريحان يوم السباسب

ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما: معناه وثيابك فأنق؛ ومنه قول امرئ القيس:

ثياب بني عوف طهارى نقية

الثاني: وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قال الزجاج وطاوس. الثالث: « وثيابك فطهر » من النجاسة بالماء؛ قال محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار ) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يرسلون أذيالهم، ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العجب، ( وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم ) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ) ولفظ الصحيح: ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) . قال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لست ممن يصنعه خيلاء ) فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصديق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك لهم.

والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة « التوبة » مستوفى.

الآية: 5 ( والرجز فاهجر )
قوله تعالى: « والرجز فاهجر » قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] . قاله ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: والمأثم فاهجر؛ أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: الرجز الإثم. وقال قتادة: الرجز: إساف ونائلة، صنمان كانا عند البيت. وقيل: الرجز العذاب، على تقدير حذف المضاف؛ المعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب، قال الله تعالى: « لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك » [ الأعراف: 134 ] . وقال تعالى: « فأرسلنا عليهم رجزا من السماء » [ الأعراف: 162 ] . فسميت الأوثان رجزا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة « الرجز » بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم « والرجز » بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا: بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. وقال السدي: الرجز ينصب الراء: الوعيد.

الآية: 6 ( ولا تمنن تستكثر )
قوله تعالى: « ولا تمنن تستكثر » فيه أحد عشر تأويلا؛ الأول: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقال مجاهد. الثالث: عن مجاهد أيضا لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود « ولا تمنن تستكثر من الخير » . الرابع: عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع: قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن: قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع: لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: [ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: [ لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ] ابن العربي: وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى » [ طه: 131 ] . وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
قوله تعالى: « ولا تمنن » قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن « ولا تمن » مدغمة مفتوحة. « تستكثر » : قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من « تمنن » كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى « تستكثر » بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار « أن » كقوله:

( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى )

ويؤيده قراءة ابن مسعود « ولا تمنن أن تستكثر » . قال الكسائي: فإذا حذف « أن » رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني:، ويعضده قوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم.


الآية: 7 ( ولربك فاصبر )
قوله تعالى: « ولربك فاصبر » أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت. وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى.

وقيل: فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الأهل والأوطان.

الآيات: 8 - 10 ( فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير )
قوله تعالى: « فإذا نقر في الناقور » إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس:

أخفضه بالنقر لما علوته ويرفع طرفا غير خاف غضيض

وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في « النمل » و « الأنعام » وفي كتاب « التذكرة » ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ « فإذا نقر في الناقور » خر ميتا. « فذلك يومئذ يوم عسير » أي فذلك اليوم يوم شديد « على الكافرين » أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم « غير يسير » أي، غير سهل ولا هين؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و « يومئذ » نصب، على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن.

الآيات: 11 - 17 ( ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا )
قوله تعالى: « ذرني ومن خلقت وحيدا » « ذرني » أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. « ومن خلقت » أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ « وحيدا » على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى: « ذرني ومن خلقت » بزعمه « وحيدا » لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: « وحيدا » يرجع إلى الرب تعالى على معنيين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ « فوحيدا » على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في « خلقت » والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله: « وحيدا » على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى: « عتل بعد ذلك زنيم » [ القلم: 13 ] وهو في صفة الوليد أيضا.
قوله تعالى: « وجعلت له مالا ممدودا » أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه: « وجعلت له مالا ممدودا » غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.

قوله تعالى: « وبنين شهودا » أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر؛ قال السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه؛ قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.

قوله تعالى: « ومهدت له تمهيدا » أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: « ومهدت له تمهيدا » أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في « ومهدت له تمهيدا » أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى: « ثم يطمع أن أزيد » أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له: « كلا » أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و « ثم » في قوله تعالى: « ثم يطمع » ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: « وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) [ الأنعام: 1 ] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و « كلا » قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلا بالكلام الأول. »

وقيل: « كلا » بمعنى حقا ويكون ابتداء « إنه » يعني الوليد « كان لآياتنا عنيدا » أي معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي:

إذا ركبت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا

وقال أبو صالح: « عنيدا » معناه مباعدا؛ قال الشاعر:

أرانا على حال تفرق بيننا نوى غربة إن الفراق عنود

قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه.

وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة « إبراهيم » . وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف.
قوله تعالى: « سأرهقه » أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. « صعودا » ( الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا ) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة « قل أوحي » [ الجن: 1 ] وفي التفسير: أنه صخرة ملساء يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.

الآيات: 18 - 25 ( إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر )
قوله تعالى: « إنه فكر وقدر » يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و « قدر » أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: « حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم » [ غافر: 1 ] إلى قوله: « إليه المصير » سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛ فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فذلك قوله تعالى: « إنه فكر » أي في أمر محمد والقرآن « وقدر » في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. « فقتل » أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل؛ قال الشاعر:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال الزهري: عذب؛ وهو من باب الدعاء. « كيف قدر » قال ناس: « كيف » تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله: « انظر كيف ضربوا لك الأمثال » [ الإسراء: 48 ] . « ثم قتل » أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة « كيف قدر » أي على أي حال قدر. « ثم نظر » بأي شيء يرد الحق ويدفعه. « ثم عبس » أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.. قيل: عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا: إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها؛ قال أبو النجم:

كأن في أذنابهن الشول من عبس الصيف قرون الأيل
قوله تعالى: « وبسر » أي كلح وجهه وتغير لونه؛ قال قتادة والسدي؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم:

صبحنا تميما غداة الجفار بشهباء ملمومة باسره

وقال آخر:

وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم: « بسر » وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. « ثم أدبر » أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. « واستكبر » أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. « فقال إن هذا » أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم « إلا سحر يؤثر » أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) . وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال امرؤ القيس:

ولو عن نثا غيره جاءني وجرح اللسان كجرح اليد

لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني يد المسند

يريد: آخر الدهر، وقال الأعشى:

إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر

ويروى: بين. « إن هذا إلا قول البشر » أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.

وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر؛ أي يورث.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 03, 2014 11:05 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة المدثر
=====


الآيات: 26 - 29 ( سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر )
أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ سأل موسى ربه فقال: أي رب، أي عبادك أفقر؟ قال صاحب سقر ] ذكره الثعلبي: « وما أدراك ما سقر » ؟ هذه مبالغة في وصفها؛ أي وما أعلمك أي شيء هي؟ وهي كلمة تعظيم، ثم فسر حالها فقال: « لا تبقي ولا تذر » أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وقيل: لا تبقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد: لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما « لواحة للبشر » أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة « لواحة » بالرفع نعت لـ « سقر » في قوله تعالى: « وما أدراك ما سقر » . وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر « لواحة » بالنصب على الاختصاص، للتهويل. وقال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل؛ وقاله مجاهد. والعرب تقول: لاحه البرد والحر والسقم والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:

تقول ما لا حك يا مسافر يا ابنة عمي لاحني الهواجر

وقال آخر:

وتعجب هند أن رأتني شاحبا تقول لشيء لوحته السمائم

وقال رؤبة بن العجاج:

لوح منه بعد بدن وسنق تلويحك الضامر يطوى للسبق

وقيل: إن اللوح شدة العطش؛ يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها؛ قاله الأخفش؛ وأنشد:

سقتني على لوح من الماء شربة سقاها بها الله الرهام الغواديا

يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس: « لواحة » أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره: « وبرزت الجحيم للغاوين » [ الشعراء: 91 ] وفي البشر وجهان: أحدهما: أنه الإنس من أهل النار؛ قاله الأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة؛ قال مجاهد وقتادة، وجمع البشر أبشار، وهذا على التفسير الأول، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود؛ لأنه من لاح الشيء يلوح، إذا لمع.

الآيات: 30 - 31 ( عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر )
قوله تعالى: « عليها تسعة عشر » أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: [ فكأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمي فوقهم الجبل ] .

قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية: « وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر » فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل: « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا » قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبدالله. قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم؛ فقال: ( وماذا غلبوا ) ؟ قال: سألهم يهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( فماذا قالوا ) قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال: ( أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة، علي بأعداء الله! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك ) . فلما جاؤوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: ( هكذا وهكذا ) في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا: نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما تربة الجنة ) قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: أخبزة يا أبا القاسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الخبز من الدرمك ) . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال: حدثنا عبدالرحمن بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: [ ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ] .

وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.

قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل: « عليها تسعة عشر » قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة؛ يقولها مستهزئا. في رواية: أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين. وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قوله تعالى: « وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة » أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابا، كما قال تعالى: « يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم » [ الذاريات: 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي « تسعة عشر » سبع قراءات: قراءة العامة « تسعة عشر » . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان « تسعة عشر » بإسكان العين. وعن ابن عباس « تسعة عشر » بضم الهاء. وعن أنس بن مالك « تسعة وعشر » وعنه أيضا « تسعة وعشر » . وعنه أيضا « تسعة أعشر » ذكرها المهدوي وقال: من قرأ « تسعة عشر » أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ « تسعة وعشر » جاء به على الأصل قبل التركيب، وعطف عشرا على تسعة، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ « تسعة عشر » فكأنه من التداخل؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب، فرفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء وأسكن. وأما « تسعة أعشر » : فغير معروف، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك « تسعة وعشر » لأنها محمولة على « تسعة أعشر » والواو بدل من الهمزة، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري: وقرئ: « تسعة أعشر » جمع عشير، مثل يمين وأيمن.
قوله تعالى: « ليستيقن الذين أوتوا الكتاب » أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا « بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. » ولا يرتاب « أي ولا يشك » الذين أوتوا الكتاب « أي أعطوا الكتاب » والمؤمنون « أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. » وليقول الذين في قلوبهم مرض « أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. » والكافرون « أي اليهود والنصارى » ماذا أراد الله بهذا مثلا « يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و » الكافرون « أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم: » ماذا أراد الله « أي ما أراد » بهذا « العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث؛ ومنه: » مثل الجنة التي وعد المتقون « أي حديثها والخبر عنها » كذلك « أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم » يضل الله « أي يخزي ويعمي » من يشاء ويهدي « أي ويرشد » من يشاء « كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: » كذلك يضل الله « عن الجنة » من يشاء ويهدي « إليها » من يشاء « . » وما يعلم جنود ربك إلا هو « أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار » إلا هو « أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فأتاه جبريل فجلس عنده، فأتى ملك فقال: إن ربك يأمرك بكذا وكذا، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا، فقال: ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال: هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي: قال موسى: » يا رب من في السماء؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب؟ قال: اثني عشر سبطا. قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب « ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) . »

قوله تعالى: « وما هي إلا ذكرى للبشر » يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل: « وما هي » أي وما هذه النار التي هي سقر « إلا ذكري » أي عظة « للبشر » أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة « إلا ذكري للبشر » أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى: « وما هي » ترجع إلى الجنود؛ لأنه أقرب مذكور.

الآيات: 32 - 48 ( كلا والقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر، نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشافعين )

قوله تعالى: « كلا والقمر » قال الفراء: « كلا » صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على « كلا » وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم؛ أي ليس الأم كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده، فقال: « والليل إذا أدبر » أي ولى وكذلك « دبر » . وقرأ نافع وحمزة وحفص « إذ أدبر » الباقون « إذا » بألف و « دبر » بغير ألف وهما لغتان بمعنى؛ يقال دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدابر؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي:

ولقد قتلناكم ثناء وموحدا وتركت مرة مثل أمس الدابر

ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.

وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: « والليل إذا دبر » فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع « والليل إذا أدبر » بألفين، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ « دبر » فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب: « أدبر » ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد: « إذا أدبر » قال: لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه؛ ألا تراه يقول: « والصبح إذا أسفر » ، فكيف يكون أحدهما « إذ » والآخر « إذا » وليس في القرآن قسم تعقبه « إذ » وإنما يتعقبه « إذا » . ومعنى « أسفر » : ضاء. وقراءة العامة « أسفر » بالألف. وقرأ ابن السميقع: « سفر » . وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء.

وفي الحديث: ( أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ) أي صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إلى الإسفار، والإسفار: الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون ( من ) سفر الظلام أي كنسه، كما يسفر البيت، أي يكنس؛ ومنه السفير: لما سقط من ورق الشجر وتحات؛ يقال: إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة: المكنسة.

قوله تعالى: « إنها لإحدى الكبر » جواب القسم؛ أي إن هذه النار « لإحدى الكبر » أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل « الكبر » : اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس « إنها » أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم « لإحدى الكبر » أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات؛ قال الراجز:

يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير

وواحدة ( الكبر ) ، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرأ العامة ( لإحدى ) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر؛ نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير « إنها لحدى الكبر » بحذف الهمزة. « نذيرا للبشر » يريد النار؛ أي أن هذه النار الموصوفة « نذيرا للبشر » فهو نصب على الحال من المضمر في « إنها » قال الزجاج. وذكر؛ لأن معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب؛ كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم « فنذيرا » حال من « قم » في أول السورة حين قال: « قم فأنذر » [ المدثر: 2 ] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه « يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر » . وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين « نذيرا للبشر » قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و ( نذيرا ) على هذا نصب على الحال؛ أي « وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من « هو » في قوله تعالى: « وما يعلم جنود ربك إلا هو » . وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر إنذارا؛ فهو كقوله تعالى: « فكيف كان نذير » أي إنذاري؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة؛ أي ( قم فأنذر ) أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة « نذير » بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد.

قوله تعالى: « لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر » اللام متعلقة « بنذيرا » ، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية؛ نظيره: « ولقد علمنا المستقدمين منكم » [ الحجر: 24 ] أي في الخير « ولقد علمنا المستأخرين » [ الحجر: 24 ] عنه. قال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر؛ كقوله تعالى: « فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » [ الكهف: 29 ] . وقال بعض أهل التأويل: معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه، والتقديم الإيمان، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.

وقال السدي: « لمن شاء منكم أن يتقدم » إلى النار المتقدم ذكرها، « أو يتأخر » عنها إلى الجنة.

قوله تعالى: « كل نفس بما كسبت رهينة » أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست « رهينة » تأنيث رهين في قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » [ الطور: 21 ] لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم؛ كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين؛ ومنه بيت الحماسة:

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل

كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك « إلا أصحاب اليمين » فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم؛ فقال ابن عباس: الملائكة. علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج؛ قال: كل نفس بعملها محاسبة « إلا أصحاب اليمين » وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. « في جنات » أي في بساتين « يتساءلون » أي يسألون « عن المجرمين » أي المشركين « ما سلككم » أي أدخلكم « في سقر » كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير « يا فلان ما سلكك في سقر » ؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب « يا فلان ما سلككم في سقر » وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن؛ قال أبو بكر بن الأنباري.

وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم: « ما سلككم في سقر » . قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. « قالوا » يعني أهل النار « لم نك من المصلين » أي المؤمنين الذين يصلون. « ولم نك نطعم المسكين » أي لم نك نتصدق. « وكنا نخوض مع الخائضين » أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر. وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. « وكنا نكذب بيوم الدين » أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. « حتى أتانا اليقين » أي جاءنا ونزل بنا الموت؛ ومنه قوله تعالى: « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين » [ الحجر: 99 ] .

قوله تعالى: « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم.

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: « ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين » إلى قوله: « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » قال عبدالله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب ( التذكرة ) .

الآيات: 49 - 53 ( فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، كلا بل لا يخافون الآخرة )

قوله تعالى: « فما لهم عن التذكرة معرضين » أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و « معرضين » نصب على الحال من الهاء والميم في « لهم » وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. « كأنهم » أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم « حمر مستنفرة » قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى؛ مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء:

أمسك حمارك إنه مستنفر في إثر أحمرة عمدن لغرب

قوله تعالى: « فرت » أي نفرت وهربت « من قسورة » أي من رماة يرمونها.

وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ ظبيان ] عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من العسر بمعنى القهر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال؛ قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد:

يا بنت كوني خيرة لخيرة أخوالها الجن وأهل القسورة

وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا: « فرت من قسورة » أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الأعرابي: القسورة: أول الليل؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة:

إذا ما هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال العائدون القساور
قوله تعالى: « بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة » أي يعطى كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم. نظيره: « ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه » [ الإسراء: 93 ] . وقال ابن عباس: كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلان بن فلان. وقيل: المعنى أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟ « كلا » أي ليس يكون ذلك. وقيل: حقا. والأول أجود؛ لأنه رد لقولهم. « بل لا يخافون الآخرة » أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير « صحفا منشرة » بسكون الحاء والنون، فأما تسكين الحاء فتخفيف، وأما النون فشاذ. إنما يقال: نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها، فإذا نشرت حييت، فجاء على أنشر الله الميت، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب، فقيل فيه نشر الله الميت، فهي لغة فيه.

الآيات: 54 - 56 ( كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة )
قوله تعالى: « كلا إنه تذكرة » أي حقا إن القرآن عظة. « فمن شاء ذكره » أي اتعظ به. « وما يذكرون » أي وما يتعظون « إلا أن يشاء الله » أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة « يذكرون » بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى: « كلا بل لا يخافون الآخرة » . وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » في الترمذي وسنن ابن ماجة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: « هو أهل التقوى وأهل المغفرة » قال: [ قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له ] لفظ الترمذي، وقال فيه: حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير: هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار، باجتناب الذنوب الكبار.

وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [ وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم ] .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد يناير 05, 2014 12:33 am

تفسير سورة القيامة للقرطبى
======


الآيات: 1 - 6 ( لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة، أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، يسأل أيان يوم القيامة )

قوله تعالى: « لا أقسم بيوم القيامة » قيل: إن « لا » صلة، وجاز وقوعها في أول السورة؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى؛ كقوله تعالى: « وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون » [ الحجر: 6 ] . وجوابه في سورة أخرى: « ما أنت بنعمة ربك بمجنون » [ القلم: 2 ] . ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة؛ قال ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة؛ ومثله قول الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع

وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى « لا أقسم » : أقسم. واختلفوا في تفسير: « لا » قال بعضهم: « لا » زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة ( لا ) كما قال في آية أخرى: « قال ما منعك أن تسجد » [ ص: 75 ] . يعني أن تسجد، وقال بعضهم: « لا » : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم.

قلت: وهذا قول الفراء؛ قال الفراء: وكثير من النحويين يقولون « لا » صلة، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالرد عليهم ( في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل « فلا » رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:

فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر

وقال غوية بن سلمى:

ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي

وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ « لأقسم » بغير ألف؛ كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب؛ لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز « بيوم القيامة » أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. « ولا أقسم بالنفس اللوامة » لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ( ولم يقسم بالنفس ) . وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.

وقيل: « ولا أقسم بالنفس اللوامة » رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: « بالنفس اللوامة » أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامى؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم.

وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير: إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما؛ إذ ليس للعاصي خطر يقسم به، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.

قوله تعالى: « أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه » فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن؛ ودل عليه قوله تعالى: « أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه » للإحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أأمن به، أو يجمع الله العظام؟ ! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق ) . وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق. « بلى » وقف حسن ثم تبتدئ « قادرين » . قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، « فقادرين » حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: « قادرين » نصب على الخروج من « نجمع » أي نقدر ونقوى « قادرين » على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي « بلى » فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع « بلى قادرون » بتأويل نحن قادرون. « على أن نسوي بنانه » البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة؛ قال النابغة:

بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد

وقال عنترة:

وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك.

قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى « على أن نسوي بنانه » أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؛ وهو كقوله تعالى: « وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون » [ الواقعة:61 ] .

قلت: والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم.

قوله تعالى: « بل يريد الإنسان ليفجر أمامه » قال ابن عباس: يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقال عبدالرحمن بن زيد؛ ودليله: « يسأل أيان يوم القيامة » أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره: أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله؛ فقال الأعرابي:

أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا: يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب؛ فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان. وقيل: الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. « يسأل أيان يوم القيامة » أي متى يوم القيامة.

الآيات: 7 - 13 ( فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )

قوله تعالى: « فإذا برق البصر » قرأ نافع وأبان عن عاصم « برق » بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدة شخوصه، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة « إذا برق البصر. وخسف القمر » والباقون بالكسر « برق » ومعناه: تحير فلم يطرف؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة:

ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق

الفراء والخليل: « برق » بالكسر: فزع وبهت وتحير. والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت: قد برق فهو برق؛ وأنشد الفراء:

فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق

أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل: برق يبرق بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الكلابي:

لما أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيشا صهابا فبرق

أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى.

قوله تعالى: « وخسف القمر » أي ذهب ضوئه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوئه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب؛ ومنه قوله تعالى: « فخسفنا به وبداره الأرض » [ القصص: 81 ] . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: « وخسف القمر » بضم الخاء وكسر السين يدل عليه « وجمع الشمس والقمر » . وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف. « وجمع الشمس والقمر » أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه؛ قاله الفراء والزجاج.

قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة « الأنعام » . وفي قراءة عبدالله « وجمع بين الشمس والقمر » وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس: يجعلان في ( نور ) الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم؛ لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس ابن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار )

وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدة الحر؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.

قوله تعالى: « يقول الإنسان يومئذ أين المفر » أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل؛ أي أين المهرب؟ قال الشاعر:

أين المفر والكباش تنتطح وأي كبش حاد عنها يفتضح

الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما « أين المفر » من الله استحياء منه. الثاني « أين المفر » من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة « المفر » بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم؛ قال الكسائي: هما لغتان مثل مدب ومدب، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي: من فتح الميم والفاء من « المفر » فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار؛ فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك.

قلت: ومنه قول امرئ القيس:

مكر مفر مقبل مدبر معا

يريد أنه حسن الكر والفر جيده. « كلا » أي لا مفر « فكلا » رد وهو من قول الله تعالى.. ثم فسر هذا الرد فقال: « لا وزر » أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول: لا حصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وابن عباس يقول: لا ملجأ. وابن جبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما؛ قال الشاعر:

لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر

قال السدي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ مني؛ قال طرفة:

ولقد تعلم بكر أننا فاضلوا الرأي وفي الروع وزر

أي ملجأ للخائف. ويروى: وقر. « إلى ربك يومئذ المستقر » أي المنتهى؛ قال قتادة نظيره: « وأن إلى ربك المنتهى » [ النجم: 42 ] . وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى؛ إذ هو الحاكم بينهم.

وقيل: إن « كلا » من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه: « كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر » .
قوله تعالى: « ينبأ الإنسان » أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا « بما قدم وأخر » : أي بما أسلف من عمل سيء أو صالح، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده؛ قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة. وقال ابن زيد: « بما قدم » من أمواله لنفسه « وأخر » : خلف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدم من فرض، وأخر من فرض. قال القشيري: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت.

قلت: والأول أظهر؛ لما خرجه ابن ماجة في سننه من حديث الزهري، حدثني أبو عبدالله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ) وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ) فقوله: ( بعد موته وهو في قبره ) نص على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق: « وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم » [ العنكبوت: 13 ] وقوله تعالى: « ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم » [ النحل: 25 ] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.

وفي الصحيح: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد يناير 05, 2014 11:08 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة القيامة
=====


الآيات: 14 - 15 ( بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره )
قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة » قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: « بصيرة » أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:

كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان؛ فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة؛ قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: « بصيرة » هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر؛ يدل عليه قوله تعالى: « ولو ألقى معاذيره » فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة؛ أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون « بصيرة » نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة؛ وأنشد الفراء:

كأن على ذي العقل عينا بصيرة

وقال الحسن في قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة » يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار؛ قاله الضحاك وقال الشاعر:

ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت فوقها بالمعاذر

قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار؛ أي وإن أرخى ستره؛ يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه. وقيل: أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذره؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبدالرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: « يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم » [ غافر: 52 ] وقوله: « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » [ المرسلات: 36 ] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر؛ قال الشاعر:

وإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر

فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر

واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس: « ولو ألقى معاذيره » أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.

قلت: والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب؛ ومنه قول النابغة:

ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك الكند

والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار « والله ربنا ما كنا مشركين » [ الأنعام: 23 ] وقوله تعالى في المنافقين: « يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم » [ المجادلة: 18 ] . وفي الصحيح أنه يقول: ( يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع ) الحديث. وقد تقدم في « حم السجدة » وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة؛ ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري؛ قال الشاعر:

إني حددت ولا عذرى لمحدود

وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة؛ قال النابغة:

ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد

قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: « بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره » : فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه؛ لأنها بشهادة منه عليها؛ قال الله سبحانه وتعالى: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] ولا خلاف فيه؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه، وهي

وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين » [ آل عمران: 81 ] ثم قال تعالى: « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا » [ التوبة: 102 ] وهو في الآثار كثير؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ) . فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الأولى: أن يقول له عندي شيء، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية: أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة: أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، ( فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء ) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل.

وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة: إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه.

الصورة الخامسة: أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم؛ فقال الشافعي: يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: « لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين » [ التوبة: 25 ] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح؛ لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: « اذكروا الله ذكرا كثيرا » [ الأحزاب: 41 ] ، وقال: « لا خير في كثير من نجواهم » [ النساء: 114 ] ، وقال: « والعنهم لعنا كبيرا » [ الأحزاب: 68 ] . الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا؛ كقوله: مائة وخمسون درهما؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.
قوله تعالى: « ولو ألقى معاذيره » ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله؛ فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.

والصحيح جواز الرجوع مطلقا؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( أبك جنون ) قال: لا. قال: ( أحصنت ) قال: نعم. وفي حديث البخاري: ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) . وفي النسائي وأبي داود: حتى قال له في الخامسة ( أجامعتها ) قال: نعم. قال: ( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ) قال: نعم. قال: ( كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ) . قال: نعم. ثم قال: ( هل تدري ما الزنى ) قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: ( فما تريد مني ) ؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فضربه رجل بلحى جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه ) وقال أبو داود والنسائي: ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام: ( لعلك قبلت أو غمزت ) إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.

وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد ) . المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي ( الدمية ) في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه؛ ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.

الآيات: 16 - 21 ( لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه، كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة )

قوله تعالى: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما؛ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله عز وجل: « لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه » قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه: « فإذا قرآناه فاتبع قرآنه » قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه؛ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » [ طه: 114 ] وقد تقدم. وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » [ طه: 114 ] ونزل: « سنقرئك فلا تنسى » [ الأعلى: 6 ] ونزل: « لا تحرك به لسانك » قاله ابن عباس: « وقرآنه » أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة: « فاتبع قرآنه » أي فاتبع شرائعه وأحكامه. « ثم إن علينا بيانه » أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام؛ قاله قتادة. وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. « كلا » قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل: أي ( كلا ) لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. « بل تحبون » أي بل تحبون يا كفار أهل مكة « العاجلة » أي الدار الدنيا والحياة فيها « وتذرون » أي تدعون « الآخرة » والعمل لها. وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون « بل تحبون » « وتذرون » بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد؛ قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: « ينبأ الإنسان » [ القيامة: 13 ] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود؛ نظيره: « إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا » [ الإنسان: 27 ] .

الآيات: 22 - 25 ( وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة )
قوله تعالى: « وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة » الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة؛ يقال: نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى؛ ومنه الحديث ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ) . « إلى ربها » إلى خالقها ومالكها « ناظرة » من النظر أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في « يونس » عند قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » [ يونس: 26 ] . وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية: « وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة » وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.

وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] وهذا القول ضعيف جدا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة » قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) . وروى جرير بن عبدالله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ( إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) . ثم قرأ « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب » متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مخليا به يوم القيامة؟ قال: ( نعم يا أبا رزين ) قال: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ( يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ) قال ابن معاذ: ليلة البدر مخليا به. قلنا: بلى. قال: ( فالله أعظم ) ( قال ابن معاذ قال ) : ( فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم ) . وفي كتاب النسائي عن صهيب قال: ( فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، ولا أقر لأعينهم ) وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرون له سجدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة ]

قال الثعلبي: وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته؛ كما قال تعالى: « هل ينظرون إلا الساعة » [ الزخرف: 66 ] ، « هل ينظرون إلا تأويله » [ الأعراف: 53 ] ، و « ما ينظرون إلا صيحة واحدة » [ يس: 49 ] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته؛ قال:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لما أراد الانتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إلي؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه؛ قال:

نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال

وقال آخر:

نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم

وقال آخر:

إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

أي إني أنظر إليك بذل؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] فإنما ذلك في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها؛ يدل عليه: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » [ الأنعام: 103 ] قال القشيري أبو نصر: وقيل: « إلى » واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدفع، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم، والمنتظر للشيء متنغص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل: أضاف النظر إلى الوجه؛ وهو كقوله تعالى: « تجري من تحتها الأنهار » [ المائدة: 119 ] والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين؛ قال الله تعالى: « فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا » [ يوسف: 93 ] أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه؛ وهو كقوله تعالى: « أفمن يمشي مكبا على وجهه » [ الملك: 22 ] ، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: ( الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ) . « ووجوه يومئذ باسرة » أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح: وبسر الفحل الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح؛ يقال: عبس وبسر. وقال السدي: « باسرة » أي متغيرة والمعنى واحد. « تظن أن يفعل بها فاقرة » أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والأمر العظيم؛ يقال: فقرته الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة: الفاقرة الشر. السدي: الهلاك. ابن عباس وابن زيد: دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم؛ قاله الأصمعي. يقال: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي، لتذلله بذلك وتروضه؛ ومنه قولهم: قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة:

أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره

الآيات: 26 - 30 ( كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق )

قوله تعالى: « كلا إذا بلغت التراقي » « كلا » ردع وزجر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم استأنف فقال: « إذا بلغت التراقي » أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] وقوله تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » [ الواقعة: 83 ] وقد تقدم. وقيل: « كلا » معناه حقا؛ أي حقا أن المساق إلى الله « إذا بلغت التراقي » أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشرجة؛ قال دريد بن الصمة.

ورب عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي

وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.

قوله تعالى: « وقيل من راق » اختلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال: من راق يرقي: أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشفيه؛ وقال أبو قلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:

هل للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.

وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى: إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راق؟ أي من يرقى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: « من راق » واللام في قوله: « بل ران » لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في « من راق » ، وفتحة النون في « بل ران » تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر: قصد الوقف على « من » و « بل » ، فأظهرهما؛ قاله القشيري.

قوله تعالى: « وظن » أي أيقن الإنسان « أنه الفراق » أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر:

فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق

« والتفت الساق بالساق » أي فاتصلت الشدة بالشدة؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس: القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: « والتفت الساق بالساق » قال: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى: « إلى ربك يومئذ المساق » وقال مجاهد: بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:

وقامت الحرب بنا على ساق

وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة « ن والقلم » . وقال قوم: الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده: « إلى ربك » أي إلى خالقك « يومئذ » أي يوم القيامة « المساق » أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.

الآيات: 31 - 35 ( فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى )

قوله تعالى: « فلا صدق ولا صلى » أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة « ولا صلى » ودعا لربه، وصلى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله. وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: « لا » بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدالله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: « فلا اقتحم العقبة » [ البلد: 11 ] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا أقتحم؛ أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش: « فلا صدق » أي لم يصدق؛ كقوله: « فلا اقتحم » أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:

فلا هو أبداها ولم يتقدم
قوله تعالى: « ولكن كذب وتولى » أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان « ثم ذهب إلى أهله يتمطى » أي يتبختر، افتخارا بذلك؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: « يتمطى » من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدد؛ وفي الخبر: ( إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم « . والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي.»
قوله تعالى: « أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى » تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: « فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى » أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن، كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: « ثم ذهب إلى أهله يتمطى » خصلة خامسة؛ فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه أو مرتين ثم قال: ( أولى لك فأولى ) فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:

فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد

قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال: [ أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى ] . فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.

وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:

هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها

سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها

الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال: لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك، أولى، من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي « أولى » في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك؛ وأصله من الولي، وهو القرب؛ قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » [ التوبة: 123 ] أي يقربون منكم؛ وأنشد الأصمعي:

وأولى أن يكون له الولاء

أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضا:

أولى لمن هاجت له أن يكمدا

أي قد دنا صاحبها [ من ] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أولاة الآن: إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و « لك » خبر عن « أولى » . ولم ينصرف « أولى » لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.

الآيات: 36 - 40 ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى )

قوله تعالى: « أيحسب الإنسان » أي يظن ابن آدم « أن يترك سدى » أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى؛ قال ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع.

وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر:

فأقسم بالله جهد اليميــ ــن ما ترك الله شيئا سدى

قوله تعالى: « ألم يك نطفة من مني يمنى » أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه؛ ولذلك سميت ( مني ) لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة: الماء القليل؛ يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.

وقرأ حفص « من مني يمنى » بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. « ثم كان علقة » أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: « فخلق » أي فقدر « فسوى » أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه « فجعل منه » أي من الإنسان. وقيل: من المني. « الزوجين الذكر والأنثى » أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة « الشورى » أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة « النساء » أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته. « أليس ذلك بقادر » أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء « بقادر على أن يحيي الموتى » أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: [ سبحانك اللهم، بلى ] وقال ابن عباس. من قرأ « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] إماما كان أوغيره فليقل: « سبحان ربي الأعلى » ومن قرأ « لا أقسم بيوم القيامة » [ القيامة: 1 ] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: « سبحانك اللهم بلى » ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 07, 2014 7:28 am

تفسير سورة الانسان للقرطبى
=====

مقدمة السورة
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: « إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا » [ الإنسان: 23 ] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني.

وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( دعه يا ابن الخطاب ) قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة ) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.

الآيات: 1 - 3 ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )

قوله تعالى: « هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا » « هل » : بمعنى قد؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه « هل » بمعنى قد. قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. « حين من الدهر » قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره؛ عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. « لم يكن شيئا مذكورا » قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض. وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا؛ قال الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.

وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر؛ تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: « لم يكن شيئا » قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.

وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا.

وقد قيل: « الإنسان » في قوله تعالى « هل أتى على الإنسان حين » عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه « لم يكن شيئا مذكورا » : إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ « هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا » فقال ليتها تمت.
قوله تعالى: « إنا خلقنا الإنسان » أي ابن آدم من غير خلاف « من نطفة » أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة؛ كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه:

مالي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه

وجمعها: نطف ونطاف. « أمشاج » أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين؛ قال: رؤبة:

يطرحن كل معجل نشاج لم يُكس جلدا في دم أمشاج

ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج؛ يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم؛ قال الشماخ:

طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين

وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة؛ قال الهذلي:

كان الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيج

وعن ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا؛ ذكره البزار.

وروي عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس: خلق من ألوان؛ خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما؛ كما قال في سورة « المؤمنون » « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين » [ المؤمنون: 12 ] الآية. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد؛ لأنه نعت للنطفة؛ كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة « البقرة » .

قوله تعالى: « نبتليه » أي نختبره. وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر؛ قال الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء؛ قال الحسن. وقيل: « نبتليه » نكلفه. وفيه أيضا وجهان: أحدهما: بالعمل بعد الخلق؛ قال مقاتل. الثاني: بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس: « نبتليه » : نصرفه خلقا بعد خلق؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم « فجعلناه سميعا بصيرا » لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير.

قلت: لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل: « جعلناه سميعا بصيرا » : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله تعالى: « إنا هديناه السبيل » أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر؛ كقوله تعالى: « وهديناه النجدين » [ البلد: 10 ] . وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. « إما شاكرا وإما كفورا » أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: « إن » ها هنا تكون جزاء و « ما » زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون؛ إذ لا تدخل « إن » للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك؛ أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا « إما شاكرا » والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في « الفاتحة » وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.

الآية: 4 ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا )
قوله تعالى: « إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا » بين حال الفريقين، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم، فمن كفر فله العقاب، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في « الحاقة » . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر « سلاسلا » منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما « قوارير » الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما « قوارير » الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف، ومن لم ينون أسقط منها الألف، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف؛ قال: رأيت في مصحف عثمان « سلاسلا » بالألف و « وقواريرا » الأول بالألف، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج: أحدها: أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية: أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك، وكذا قال الكسائي والفراء: هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم:

كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لا عبينا

وقال لبيد:

وجزور أيسار دعوت لحتفها بمغالق متشابه أجسامها

وقال لبيد أيضا:

فضلا وذو كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائب غنامها

فصرف مخاريق ومغالق ورغائب، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة: أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالنون، كقوله جل وعز: « مذكورا » . « سميعا بصيرا » فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك: قناديل ودنانير ومناديل، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل: « لهدمت صوامع » [ الحج: 40 ] لأن بعد الألف منه حرفين، وكذلك قوله: « ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » [ الحج: 40 ] . والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف: سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال: في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف: رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين؛ قال الفراء وغيره.

قوله تعالى: « وأغلالا » جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول: ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. « وسعيرا » تقدم القول فيه.

الآية [ 5 ] في الصفحة التالية ...

الآيات: 5 - 6 ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا " )

قوله تعالى: « إن الأبرار يشربون من كأس » الأبرار: أهل الصدق واحدهم بر، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل: البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بر مثل نهر وأنهار؛ وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا ) . وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.

وفي الحديث: ( الأبرار الذين لا يؤذون أحدا ) . « يشربون من كأس » أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم:

صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا

وقال الأصمعي: يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا: بمعنى كففت؛ قاله الجوهري. « كان مزاجها » أي شوبها وخلطها، قال حسان:

كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء

ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. « كافورا » قال ابن عباس: هو اسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة: مزاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب؛ كقوله تعالى: « حتى إذا جعله نارا » [ الكهف: 96 ] أي كنار. وقال ابن كيسان: طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: « كان مزاجها » « كان » زائدة أي من كأس مزاجها كافور. « عينا يشرب بها عباد الله » قال الفراء: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة؛ « فعينا » بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في « مزاجها » . وقيل: ( نصب على المدح؛ كما يذكر الرجل فتقول: العاقل اللبيب؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضا: وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:

تكسو المفارق واللبات ذا أرج من قصب معتلف الكافور دراج

فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. « يشرب بها » قال الفراء: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع؛ وأنشد:

شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج

قال: ومثله فلان يتكلم بكلام حسن، ويتكم كلاما حسنا. وقيل: المعنى يشربها والباء زائدة وقيل: الباء بدل « من » تقديره يشرب منها؛ قاله القتبي. « يفجرونها تفجيرا » فيقال: إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره؛ وذلك قوله تعالى: « عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا » أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد « يفجرونها تفجيرا » يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله « يفجرونها تفجيرا » [ والأخرى الزنجبيل ] والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [ عينا فيها تسمى ] « سلسبيلا » والأخرى التسنيم ) ذكره الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » . وقال: فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم، والكافور للأبرار شربا لهم؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللإبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون، والمقربون: هم الصديقون.

الآيات: 7 - 9 ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )
قوله تعالى: « يوفون بالنذر » أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة « كان » وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي: « يوفون بالنذر » أي يتممون العهود والمعنى واحد؛ وقد قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم » [ الحج: 29 ] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.

وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله؛ قال القشيري.

وروى أشهب عن مالك أنه قال: « يوفون بالنذر » هو نذر العتق والصيام والصلاة.

وروى عنه أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. « يوفون بالنذر » قال: النذر: هو اليمين.

قوله تعالى: « ويخافون » أي يحذرون « يوما » أي يوم القيامة. « كان شره مستطيرا » أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد؛ قال الأعشى:

وبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا

ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.

وقال حسان:

وهان على سراء بني لؤي حريق بالبويرة مستطير

وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.

وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
قوله تعالى: « ويطعمون الطعام على حبه » قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني: على حب الله. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. « مسكينا » أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك « ويتيما » أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل؛ فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت؛ قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن.

« وأسيرا » أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.

وقال عكرمة: الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » فقال: ( المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون ) ذكره الثعلبي. وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات؛ وإطعام الأسير ( آية ) السيف؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل؛ لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام؛ وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الأمير من أهل القبلة وغيرهم.

قلت: وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.

ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في « البقرة » مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: « إنما نطعمكم لوجه الله » أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير « إنما نطعمكم » في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. « لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » « لا نريد منكم جزاء » أي مكافأة. « ولا شكورا » أي ولا أن تثنوا علينا بذلك؛ قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود؛ فقال: ( والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت المرأة: اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ( والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب ) فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.

قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا؛ فهي عامة.

وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: « يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا » قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادهما عامة العرب؛ فقالوا: يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش؛ إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا والله جائع؛ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ يقول:

فاطم ذات الفضل اليقين يا بنت خير الناس أجمعين

أما ترين البائس المسكين قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى الله ويستكين يشكو إلينا جائع حزين

كل امرئ بكسبه رهين وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين حرمها الله على الضنين

وللبخيل موقف مهين تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:

أمرك عندي يا ابن عم طاعه ما بي من لؤم ولا وضاعه

غديت في الخبز له صناعه أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الجنة لي شفاعه

فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم؛ فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:

فاطم بنت السيد الكريم بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم من يرحم اليوم يكن رحيم

ويدخل الجنة أي سليم قد حرم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم يزل في النار إلى الجحيم

شرابه الصديد والحميم

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:

أطعمه اليوم ولا أبالي وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهمُ أشبالي أصغرهم يقتل في القتال

بكر بلا يقتل باغتيال يا ويل للقاتل مع وبال

تهوي به النار إلى سفال وفي يديه الغل والأغلال

كبولة زادت على الأكبال

فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح؛ فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:

فاطم يا بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسود

وسماه الله فهو محمد قد زانه الله بحسن أغيد

هذا أسير للنبي المهتد مثقل في غله مقيد

ينكو إلينا الجوع قد تمدد من يطعم اليوم يجده في غد

عند العلي الواحد الموحد ما يزرع الزارع سوف يحصد

أعطيه لا لا تجعليه أقعد

فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:

لم يبق مما جاء غير صاع قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله هما جياع يا رب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع يصطنع المعروف بابتداع

عبل الذراعين شديد الباع وما على رأسي من قناع

إلا قناعا نسجه أنساع

فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع؛ فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة ] فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: [ واغوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا ] فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: ( وما أخذ يا جبريل ) فأقرأه « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » [ البقرة: 219 ] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ] . [ وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم؛ لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟

فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيده أكثر.

الآيات: 10 - 11 ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا )

قوله تعالى: « إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا » « عبوسا » من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل؛ قال الشاعر:

شديدا عبوسا قمطريرا

وقيل: القمطرير الشديد؛ تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى؛ وأنشد الفراء:

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر

بضم القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء؛ قال الشاعر:

ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر

وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا؛ قال الهذلي:

بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب

وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين؛ فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم؛ وأنشد ابن الأعرابي:

يغدو على الصيد يعود منكسر ويقمطر ساعة ويكفهر

وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:

واصطليت الحروب في كل يوم باسل الشطر قمطرير الصباح

قوله تعالى: « فوقاهم الله » أي دفع عنهم « شر ذلك اليوم » أي بأسه وشدته وعذابه

« ولقاهم » أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه « نضرة » أي حسنا « وسرورا » أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: « نضرة » في وجوههم « وسرورا » في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء؛ قال ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة؛ قال ابن زيد.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 08, 2014 6:43 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الانسان
=======


الآيات: 12 - 14 ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا، متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا )

قوله تعالى: « وجزاهم بما صبروا » على الفقر. وقال القرظي: على الصوم. وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و « ما » : مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال: ( الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب ) . « جنة وحريرا » أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [ وفيه ] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.

قوله تعالى: « متكئين فيها » أي في الجنة؛ ونصب « متكئين » على الحال من الهاء والميم في « جزاهم » والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها « صبروا » ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت « متكئين » تابعا، كأنه قال جزاهم جنة « متكئين فيها » . « على الأرائك » السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ، والكأس لا تسمو، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان؛ قال ذو الرمة:

خدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك

أي الفرش على السرر. « لا يرون فيها شمسا » أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس « ولا زمهريرا » أي ولا بردا مفرطا؛ قال الأعشى:

منعمة طفلة كالمهاة لم تر شمسا ولا زمهريرا

وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من سمومها ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد ) والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:

أو كنت ريحا كنت زمهريرا

وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيي؛ قال شاعرهم:

وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر

ويروى: ما ظهر؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » [ مريم: 62 ] . وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: « هل أتى على الإنسان » وأنشد:

أنا مولى لفتى أنزل فيه هل أتى

ذاك علي المرتضى وابن عم المصطفى

قوله تعالى: « ودانية عليهم ظلالها » أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت « دانية » على الحال عطفا على « متكئين » كما تقول: في الدار عبدالله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل: انتصبت نعتا للجنة؛ أي وجزاهم جنة دانية، فهي، صفة لموصوف محذوف. وقيل: على موضع « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. « ظلالها » الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في « وجزاهم » وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبدالله « ودانيا عليهم » لتقدم الفعل. وفي حرف أبي « ودان » رفع على الاستئناف « وذللت » أي سخرت لهم « قطوفها » أي ثمارها « تذليلا » أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك؛ قاله قتادة. وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله؛ فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.

وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف، كما سمي الجنى لأنه يجنى. « تذليلا » تأكيد لما وصف به من الذل؛ كقوله: « ونزلناه تنزيلا » [ الإسراء: 106 ] « وكلم الله موسى تكليما » [ النساء: 164 ] . الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها.

قلت: وفي هذا بعد؛ فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس فيه عجم.

قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوى؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:

وساق كأنبوب السقي المذلل

الآيات: 15 - 18 ( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قوارير من فضة قدروها تقديرا، ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا )
قوله تعالى: « ويطاف عليهم بأنية من فضة وأكواب » أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب « بآنية من فضة » قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب » [ الزخرف: 71 ] . وقيل: نبه بذكر الفضة على الذهب؛ كقوله: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] أي والبرد؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب: الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى، الواحد منها كوب؛ وقال عدي:

متكئا تقرع أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب

وقد مضى في « الزخرف » . « قوارير من فضة » أي في صفاء القوارير وبياض الفضة؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه، إلا القوارير من فضة. وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. « قدروها تقديرا » قراءة العامة بفتح القاف والدال؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أتوا بها على قدر ريهم، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى: وذلك ألذ وأشهى؛ والمعنى: قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا: قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل: إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين « قدروها » بضم القاف وكسر الدال؛ أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ وقال: ومن قرأ « قدروها » فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر؛ والمعنى قدرت عليهم؛ وأنشد سيبويه:

آليت حب العراق الدهر آكله والحب يأكله في القرية السوس

وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل: هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب؛ وذلك قوله تعالى: « قدروها تقديرا » أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » .



قوله تعالى: « ويسقون فيها كأسا » وهي الخمر في الإناء. « كان مزاجها زنجبيلا » « كان » صلة؛ أي مزاجها زنجبيل، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة:

وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر

ويروى. الكرم. وقال آخر:،

كأن جنيا من الزنجبيـ ـل بات بفيها وأريا مشورا

ونحوه قول الأعشى:

كأن القرنفل والزنجبيـ ـل باتا بفيها وأريا مشورا

وقال مجاهد: الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة: والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل: هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل: إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. « عينا » بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى: « عينا يشرب بها عباد الله » [ الإنسان: 6 ] . « فيها » أي في الجنة

« تسمى سلسبيلا » السلسبيل الشراب اللذيذ، وهو فعليل من السلالة؛ تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح: وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسلسلته أنا صببته فيه، وماء سلسل وسلسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسلاسل بالضم مثله.

وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السلاسة؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال: سلسبيلا: حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.

ونحوه عن ابن عباس: إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقال أبو العالية ومقاتل: إنما سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة: سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال: أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله: « تسمى » أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل؛ لأنه رأس آية؛ كقوله تعالى: « الظنونا » [ الأحزاب: 10 ] و « السبيلا » [ الأحزاب: 67 ] .

الآيات: 19 - 22 ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا، عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا )
قوله تعالى: « ويطوف عليهم ولدان مخلدون » بين من الذي يطوف عليهم بالآنية؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال: « مخلدون » أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلدون لا يموتون. وقيل: مسورون مقرطون؛ أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. « إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا » أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم: لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول:

كأن صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على أرض من الذهب

وقيل: إنما شبههم بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
قوله تعالى: « وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا » « ثم » : ظرف مكان أي هناك في الجنة، والعامل في « ثم » معنى « رأيت » أي وإذا رأيت ببصرك « ثم » . وقال الفراء: في الكلام « ما » مضمرة؛ أي وإذا رأيت ما ثم؛ كقوله تعالى: « لقد تقطع بينكم » [ الأنعام: 94 ] أي ما بينكم. وقال الزجاج: « ما » موصولة « بثم » على ما ذكره الفراء، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن « رأيت » يتعدى في المعنى إلى « ثم » والمعنى: إذا رأيت ببصرك « ثم » ويعني « بثم » الجنة، وقد ذكر الفراء هذا أيضا.

والنعيم: سائر ما يتنعم به. والملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم؛ قال السدي وغيره. قال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله، فيستأذن عليه؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل: الملك الكبير: هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا، حاجبا دون حاجب، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط، فيقول للحاجب الخارج: استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه: هذا رسول من رب العالمين، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له: يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له؟ فيقول: نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه: نعم فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر. فيقول له: نعم أيها الملك؛ قد أذن لك، فيدخل فيسلم عليه ويقول: السلام يقرئك السلام، وهذه تحفة، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه: من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه: سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم؛ دليله قوله تعالى: « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » [ الرعد: 23 ] وقيل: الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم: يعني ملك التكوين، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق: ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الملك الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه ) قال: [ وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين ] سبحان المنعم.
قوله تعالى: « عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق » قرأ نافع وحمزة وابن محيصن « عاليهم » ساكنة الياء، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما « عاليتهم » وبتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء: وهو مرفوع بالابتداء وخبره « ثياب سندس » واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و « ثياب » مرتفعة به وسدت مسد الخبر، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ الباقون « عاليهم » بالنصب. وقال الفراء: هو كقولك فوقهم، والعرب تقول: قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال: هو مما لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين: أحدهما الهاء والميم في قوله: « يطوف عليهم » أي على الأبرار « ولدان » عاليا الأبرار ثياب سندس؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال، والثاني: أن يكون حالا من الولدان؛ أي « إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا » في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي: العامل في الحال إما « لقاهم نضرة وسرورا » وإما « جزاهم بما صبروا » قال: ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي: ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا؛ كقولك هو ناحية من الدار، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم « خضر » بالجر على نعت السندس « وإستبرق » بالرفع نسقا على الثياب، ومعناه عاليهم [ ثياب ] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب « خضر » رفعا نعتا للثياب « وإستبرق » بالخفض نعتا للسندس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس، والمعنى: عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون « خضر » نعتا للثياب؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع « وإستبرق » عطفا على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله: « خضر » نعتا للسندس، والسندس اسم جنس، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له؛ وتقول: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة: عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق، إلا ابن محيصن، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ « وإستبرق » نصبا في موضع الجر، على منع الصرف، لأنه أعجمي، وهو غلط؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ ابن محيصن ] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ « واستبرق » بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا، لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبرك والسندس: ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه. وقد تقدم.
قوله تعالى: « وحلوا » عطف على « ويطوف » . « أساور من فضة » وفي سورة فاطر « يحلون فيها من أساور من ذهب » وفي سورة الحج « يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا » [ الحج: 23 ] ، فقيل: حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ، ليجتمع لهم محاسن الجنة؛ قاله سعيد بن المسيب. وقيل: أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم: « سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدي » [ الزمر: 73 ] . وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة، تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن علي، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة « الفرقان » والحمد لله. وقال طيب الجمال: صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » وجعل يحرك شفتيه وفمه، كأنه يمص شيئا، فلما فرغ قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ فقال: والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.

قوله تعالى: « إن هذا كان لكم جزاء » أي يقال لهم: إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. « وكان سعيكم » أي عملكم « مشكورا » أي من قبل الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال مجاهد: « مشكورا » أي مقبولا والمعنى متقارب؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر: أن رجلا حبشيا قال: يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت، أكائن أنا معك في الجنة؟ قال: [ نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام ] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ] ، فقال الرجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ فقال: [ إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته ] . قال: ثم نزلت « هل أتى على الإنسان حين من الدهر » إلى قوله: « وملكا كبيرا » قال الحبشي: يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى، عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعم ) فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول: « إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا » قلنا: يا رسول الله وما هو؟ قال: [ والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت، فنعم أجر العاملين ]

الآيات: 23 - 26 ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا، فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا )

قوله تعالى: « إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا » ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، فسك، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه، فليس بسحر ولا كهانة، ولا شعر، وأنه حق. وقال ابن عباس: أنزل القرآن متفرقا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال « نزلنا » وقد مضى القول في هذا مبينا والحمد لله.

قوله تعالى: « فاصبر لحكم ربك » أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: اصبر على أذى المشركين؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل: أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » أي ذا إثم

« أو كفورا » أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » .

ويقال: نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج، على أن يترك ذكر النبوة، ففيهما نزلت: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » . قال مقاتل: الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة؛ قال: إن بناتي من أجمل نساء قريش، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر؛ فنزلت. ثم قيل: « أو » في قوله تعالى: « آثما أو كفورا » أوكد من الواو؛ لأن الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال: « لا تطع منهم آثما أو كفورا » « فأو » قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي؛ كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع؛ قاله الزجاج. وقال الفراء: « أو » هنا بمنزلة « لا » كأنه قال: ولا كفورا؛ قال الشاعر:

لا وجد ثكلى كما وجدت ولا وجد عجول أضلها ربع

أو وجد شيخ أضل ناقته يوم توافى الحجيج فاندفعوا

أراد ولا وجد شيخ. وقيل: الآثم المنافق، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر؛ أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.



قوله تعالى: « واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا » أي صل لربك أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. « ومن الليل فاسجد له » يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. « وسبحه ليلا طويلا » يعني التطوع في الليل؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره: إن قوله: « وسبحه ليلا طويلا » منسوخ بالصلوات الخمس وقيل: هو ندب. وقيل: هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة « المزمل » وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل: الأصائل والأصل؛ كقولك سفائن وسفن؛ قال: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل، وهو جمع الجمع:

لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل

وقد مضى في آخر « الأعراف » مستوفى. ودخلت « من » على الظرف للتبعيض، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى: « يغفر لكم ذنوبكم » [ الصف: 12 ] .

الآيات: 27 - 28 ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا )
قوله تعالى: « إن هؤلاء يحبون العاجلة » توبيخ وتقريع؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا « ويذرون » أي ويدعون « وراءهم » أي بين أيديهم « يوما ثقيلا » أي عسيرا شديدا كما قال: « ثقلت في السموات والأرض » [ الأعراف: 187 ] . أي يتركون الإيمان بيوم القيامة. وقيل: « ورائهم » أي خلفهم، أي ويذرون الآخرة خلف ظهورهم، فلا يعملون لها. وقيل: « نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته. وحبهم العاجلة: أخذهم الرشا على ما أراد المنافقين؛ لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا. والآية تعم. واليوم الثقيل يوم القيامة. وإنما سمي ثقيلا لشدائده وأهواله. وقيل: للقضاء فيه بين عباده.»



قوله تعالى: « نحن خلقناهم » أي من طين. « وشددنا أسرهم » أي خلقهم؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم. والأسر الخلق؛ قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر أي الخلق. ويقال أسره الله جل ثناؤه إذا شدد خلقه؛ قال لبيد:

ساهم الوجه شديد أسره مشرف الحارك محبوك الكتد

وقال الأخطل:

من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا

وقال أبو هريرة والحسن والربيع: شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج، أي إذا خرج الغائط والبول تقبض الموضع. وقال ابن زيد القوة. وقال ابن أحمر يصف فرسا:

يمشي بأوظفة شداد أسرها صم السنابك لا تقي بالجدجد

واشتقاقه من الأسار وهو القد الذي يشد به الأقتاب؛ يقال: أسرت القتب أسرا أي شددته وربطه؛ ويقال: ما أحسن أسر قتبه أي شده وربطه؛ ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا هو لك كله؛ كأنهم أرادوا تعكيمه وشده لم يفتح ولم ينقص منه شيء. ومنه الأسير، لأنه كان يكتف بالإسار. والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوي ثم أنت تكفر بي. « وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا » قال ابن عباس: يقول لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا: لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها. كذلك روى الضحاك عنه. والأول رواه عنه أبو صالح.

الآيات: 29 - 31 ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما )
قوله تعالى: « إن هذه » أي السورة « تذكرة » أي موعظة « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » أي طريقا موصلا إلى طاعته وطلب مرضاته. وقيل: « سبيلا » أي وسيلة. وقيل وجهة وطريقا إلى الجنة. والمعنى واحد. « وما تشاؤون » أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله « إلا أن يشاء الله » فأخبر أن الأمر إليه سبحانه ليس إليهم، وأنه لا تنفذ مشيئة أحد ولا تتقدم، إلا أن تتقدم مشيئته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « وما يشاؤون » بالياء على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء على معنى المخاطبة لله سبحانه.

وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية. والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته. قال الفراء: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله » جواب لقوله: « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم فقال: « وما تشاؤون » ذلك السبيل « إلا أن يشاء الله » لكم. « إن الله كان عليما » بأعمالكم « حكيما » في أمره ونهيه لكم. وقد مضى في غير موضع. « يدخل من يشاء في رحمته » أي يدخله الجنة راحما له « والظالمين » أي ويعذب الظالمين فنصبه بإضمار يعذب. قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوب؛ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين أي المشركين ويكون « أعد لهم » تفسيرا لهذا المضمر؛ كما قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب وإن جاز الرفع؛ تقول: أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا، فيختار النصب؛ أي وبررت عمرا أو أبر عمرا. وقوله في « الشورى » : « يدخل من يشاء في رحمته والظالمون » [ الشورى: 8 ] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصب في المعنى؛ فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء. وها هنا قوله: « أعد لهم عذابا » يدل على ويعذب، فجاز النصب. وقرأ أبان بن عثمان « والظالمون » رفعا بالابتداء والخبر « أعد لهم » .

« عذابا أليما » أي مؤلما موجعا. وقد تقدم هذا في سورة « البقرة » وغيرها والحمد لله. ختمت السورة
.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 08, 2014 11:11 pm

تفسير سورة المرسلات للقرطبى
======

مقدمة السورة
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: « وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » [ المرسلات: 48 ] مدنية.

وقال ابن مسعود: نزلت « والمرسلات عرفا » على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقيتم شرها كما وقيت شركم ) . وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة « والمرسلات عرفا » فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. والله أعلم. وهي خمسون آية.

الآيات: 1 - 15 ( والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا، والناشرات نشرا، فالفارقات فرقا، فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا، إنما توعدون لواقع، فإذا النجوم طمست، وإذا السماء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقتت، لأي يوم أجلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « والمرسلات عرفا » جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي. وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله؛ قاله ابن عباس. وقال أبو صالح: إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وعن ابن عباس وابن مسعود: إنها الرياح؛ كما قال تعالى: « وأرسلنا الرياح » [ الحجر: 22 ] . وقال: « وهو الذي يرسل الرياح » [ الأعراف: 57 ] . ومعنى « عرفا » يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا. وهو نصب على الحال من « والمرسلات » أي والرياح التي أرسلت متتابعة. ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه. وقيل: إنها الزواجر والمواعظ. و « عرفا » على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قال ابن مسعود. وقيل: جاريات؛ قال الحسن؛ يعني في القلوب. وقيل: معروفات في العقول. « فالعاصفات عصفا » الرياح بغير اختلاف؛ قال المهدوي. وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه؛ كما قال تعالى: « فيرسل عليكم قاصفا » [ الإسراء: 69 ] . وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها. وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. « والناشرات نشرا » الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها. وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث.

وروي ذلك عن أبي صالح. وعنه أيضا: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه. وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد.

وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح. قال: « والناشرات » بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر. « فالفارقات فرقا » الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده. وعن سعيد عن قتادة قال: « الفارقات فرقا » الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال. وقال الحسن وابن كيسان. وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.

وقيل: السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفرق. [ وربما ] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمة:

أو مزنة فارق يجلو غواربها تبوج البرق والظلماء علجوم

« فالملقيات ذكرا » الملائكة بإجماع؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي. وقيل: هو جبريل وسمي باسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها. وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قال قطرب. وقرأ ابن عباس « فالملقيات » بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى: « وإنك لتلقى القرآن » [ النمل: 6 ] « عذرا أو نذرا » أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه؛ قال الفراء. وروى عن أبي صالح قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون. وروى سعيد عن قتادة « عذرا » قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به. وروى الضحاك عن ابن عباس. « عذرا » أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة « أو نذرا » ينذر أعداءه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص « أو نذرا » بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال « عذرا » سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة « عذرا ونذرا » بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا. وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار. وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من « ذكرا » أي فالملقيات عذرا أو نذرا. وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى: « هذا نذير من النذر الأولى » [ النجم: 56 ] فيكون نصبا على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا « لذكرا » أي « فالملقيات » أي تذكر « عذرا أو نذرا » . وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.
قوله تعالى: « إنما توعدون لواقع » هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم. ثم بين وقت وقوعه فقال: « فإذا النجوم طمست » أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب؛ يقال: طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس. « وإذا السماء فرجت » أي فتحت وشقت؛ ومنه قوله تعالى: « وفتحت السماء فكانت أبوابا » [ النبأ: 19 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي. « وإذا الجبال نسفت » أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة. وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشر:

نسوف للحزام بمرفقيها

ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته. وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه. وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح. ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن. « وإذا الرسل أقتت » أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى: « يوم يجمع الله الرسل » [ المائدة: 109 ] . وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون. وإنما تزول الشكوك يوم القيامة. والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به. التأقيت قبل يوم القيامة. قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت. وقيل: « أقتت » أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في « أقتت » بدل من الواو؛ قال الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و [ أجوه ] . وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة. ولم يجز البدل في قوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » [ البقرة: 237 ] لأن الضمة غير لازمة.

وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد « وقتت » بالواو وتشديد القاف على الأصل. وقال أبو عمرو: وإنما يقرأ « أقتت » من قال في وجوه أجوه. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج « وقتت » بالواو وتخفيف القاف. وهو فعلت من الوقت ومنه « كتابا موقوتا » . وعن الحسن أيضا: « ووقتت » بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت. ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز. وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام « أقتت » بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.

قوله تعالى: « لأي يوم أجلت » أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم. أي « ليوم الفصل » أجلت. وروى سعيد عن قتادة قال: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار. وفي الحديث: [ إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل ] . « وما أدراك ما يوم الفصل » أتبع التعظيم تعظيما؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ « ويل يومئذ للمكذبين » أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله: « جزاء وفاقا » . [ النبأ: 26 ] . وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب. وقال ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا. وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل ] وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي. مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.

الآيات: 16 - 19 ( ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « ألم نهلك الأولين » أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. « ثم نتبعهم الآخرين » أي نلحق الآخرين بالأولين. « كذلك نفعل بالمجرمين » أي مثل ما فعلناه بمن تقدم نفعل بمشركي قريش إما بالسيف، وإما بالهلاك. وقرأ العامة « ثم نتبعهم » بالرفع على الاستئناف، وقرأ الأعرج « نتبعهم » بالجزم عطفا على « نهلك الأولين » كما تقول: ألم تزرني ثم أكرمك. والمراد أنه أهلك قوما بعد قوم على اختلاف أوقات المرسلين. ثم استأنف بقوله: « كذلك نفعل بالمجرمين » يريد من يهلك فيما بعد. ويجوز أن يكون الإسكان تخفيفا من « نتبعهم » لتوالي الحركات. وروي عنه الإسكان للتخفيف. وفي قراءة ابن مسعود « ثم سنتبعهم » والكاف من « كذلك » في موضع نصب، أي مثل ذلك الهلاك نفعله بكل مشرك. ثم قيل: معناه التهويل لهلاكهم في الدنيا اعتبارا. وقيل: هو إخبار بعذابهم في الآخرة.



الآيات: 20 - 24 ( ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « ألم نخلقكم من ماء مهين » أي ضعيف حقير وهو النطفة وقد تقدم.

وهذه الآية أصل لمن قال: إن خلق الجنين إنما هو من ماء الرجل وحده. وقد مضى القول فيه. « فجعلناه في قرار مكين » أي في مكان حريز وهو الرحم. « إلى قدر معلوم » قال مجاهد: إلى أن نصوره. وقيل: إلى وقت الولادة. « فقدرنا » وقرأ نافع والكسائي « فقدرنا » بالتشديد. وخفف الباقون، وهما لغتان بمعنى. قاله الكسائي والفراء والقتبي. قال القتبي: قدرنا بمعنى قدرنا مشددة: كما تقول: قدرت كذا وقدرته؛ ومنه قول النبي صلى الله علسه سلم في الهلال: [ إذا غم عليكم فاقدروا له ] أي قدروا له المسير والمنازل. وقال محمد بن الجهم عن الفراء: « فقدرنا » قال: وذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه، تخفيفها، قال: ولا يبعد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحدا؛ لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: قال الله تعالى: « نحن قدرنا بينكم الموت » [ الواقعة: 60 ] قرئ بالتخفيف، والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر. قال: واحتج الذين خففوا فقالوا؛ لو كانت كذلك لكانت فنعم المقدرون. قال الفراء: وتجمع العرب بين اللغتين؛ قال الله تعالى: « فمهل الكافرين أمهلهم رويدا » [ الطارق: 17 ] قال الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وروي عن عكرمة « فقدرنا » مخففة من القدرة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والكسائي لقوله: « فنعم القادرون » ومن شدد فهو من التقدير، أي فقدرنا الشقي والسعيد فنعم المقدرون. رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قدرنا قصيرا أو طويلا. ونحوه عن ابن عباس: قدرنا ملكنا. المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.

قلت: هو صحيح فإن عكرمة هو الذي قرأ « فقدرنا » مخففا قال: معناه فملكنا فنعم المالكون، فأفادت الكلمتان معنيين متغايرين؛ أي قدرنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى حالة حتى صارت بشرا سويا، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير، كله على قراءة التشديد. وقيل: هما بمعنى كما ذكرنا.

الآيات: 25 - 28 ( ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « ألم نجعل الأرض كفاتا » أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وقوله عليه السلام: [ قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم ] وقد مضى. يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت: الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه:

كرام حين تنكفت الأفاعي إلى أجحارهن من الصقيع

وقال أبو عبيد: « كفاتا » أوعية. ويقال للنحي: كفت وكفيت، لأنه يحوي اللبن ويضمه قال:

فأنت اليوم فوق الأرض حيا وأنت غدا تضمك في كفات

وخرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.

روى عن ربيعة في النباش قال تقطع يده فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال. إن الله عز وجل يقول: « ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا » فالأرض حرز. وقد مضى هذا في سورة « المائدة » . وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفتة، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها. وقيل: هي كفات للأحياء يعني دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض؛ إذ لا ضم في كون الناس عليها، والضم يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه. وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت. وقال الفراء: انتصب، « أحياء وأمواتا » بوقوع الكفات عليه؛ أي ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات. فإذا نونت نصبت؛ كقوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما » [ البلد: 14 ] . وقيل: نصب على الحال من الأرض، أي منها كذا ومنها كذا. وقال الأخفش: « كفاتا » جمع كافتة والأرض يراد بها الجمع فنعتت بالجمع. وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشيء ظهرا لبطن أو بطنا لظهر. ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم أي انقلبوا. فمعنى الكفات أنهم يتصرفون على ظهرها وينقلبون إليها ويدفنون فيها. « وجعلنا فيها » أي في الأرض « رواسي شامخات » يعني الجبال، والرواسي الثوابت، والشامخات الطوال؛ ومنه يقال: شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. « وأسقيناكم ماء فراتا » أي وجعلنا لكم سقيا. والفرات: الماء العذب يشرب ويسقى منه الزرع. أي خلقنا الجبال وأنزلنا الماء الفرات. وهذه الأمور أعجب من البعث. وفي بعض الحديث قال أبو هريرة: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن. وفي صحيح مسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.

الآيات: 29 - 34 ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون » أي يقال للكفار سيروا « إلى ما كنتم به تكذبون » من العذاب يعني النار، فقد شاهدتموها عيانا. « انطلقوا إلى ظل » أي دخان « ذي ثلاث شعب » يعني الدخان الذي يرتفع ثم يتشعب إلى ثلاث شعب. وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب. ثم وصف الظل فقال: « لا ظليل » أي ليس كالظل الذي يقي حر الشمس « ولا يغني من اللهب » أي لا يدفع من لهب جهنم شيئا. واللهب ما يعلو على النار إذ اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: إن الشعب الثلاث هي الضريع والزقوم والغسلين؛ قاله الضحاك. وقيل: اللهب ثم الشرر ثم الدخان؛ لأنها ثلاثة أحوال، هي غاية أوصاف النار إذا أضطرمت واشتدت. وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب. فأما النور فيقف على رؤوس المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رؤوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رؤوس الكافرين. وقيل: هو الرادق، وهو لسان من نار يحيط بهم، ثم يتشعب منه ثلاث شعب، فتظللهم حتى يفرغ من حسابهم إلى النار. وقيل: هو الظل من يحموم؛ كما قال تعالى: « في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم » [ الواقعة: 43 ] على ما تقدم. وفي الحديث: ( إن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا لهم أكفان فتلحقهم الشمس وتأخذ بأنفاسهم ومد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهنالك يقولون: « فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم » [ الطور: 27 ] ويقال للمكذبين: « انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون » من عذاب الله وعقابه « انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب » . فيكون أولياء الله جل ثناؤه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل، إلى أن يفرغ من الحساب ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار. ثم وصف النار فقال: « إنها ترمي بشرر كالقصر » الشرر: واحدته شررة. والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والقصر البناء العالي. وقراءة العامة « كالقصر » بإسكان الصاد: أي الحصون والمدائن في العظم وهو واحد القصور. قاله ابن عباس وابن مسعود. وهو في معنى الجمع على طريق الجنس. وقيل: القصر جمع قصرة ساكنة الصاد، مثل جمرة، وجمر وتمرة وتمر. والقصرة: الواحدة من جزل الحطب الغليظ.

وفي البخاري عن ابن عباس أيضا: « ترمى بشرر كالقصر » قال كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل، فترفعه للشتاء، فنسميه القصر، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع. وقيل: أعناقه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد والسلمي « كالقصر » بفتح الصاد، أراد أعناق النخل. والقصرة العنق، جمعها قصر وقصرات. وقال قتادة: أعناق الإبل. قرأ سعيد بن جبير بكسر القاف وفتح الصاد، وهي أيضا جمع قصرة مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع وحلقة وحلق، لحلق الحديد. وقال أبو حاتم: ولعله لغة، كما قالوا حاجة وحوج. وقيل: القصر: الجبل، فشبه الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود؛ والعرب تسمي السود من الإبل صفرا؛ قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب

أي هن سود. وإنما سميت السود من الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة؛ كما قيل لبيض الظباء: الأدم؛ لأن بياضها تعلوه كدرة: والشرر إذا تطاير وسقط وفيه بقية من لون النار أشبه شيء بالإبل السود، لما ينوبها من صفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي:

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وضعف الترمذي هذا القول فقال: وهذا القول محال في اللغة، أن يكون شيء يشوبه شيء قليل، فنسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب لمن قد قال هذا، وقد قال الله تعالى: « جمالات صفر » فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. ووجهه عندنا أن النار خلقت من النور فهي نار مضيئة، فلما خلق الله جهنم وهي موضع النار، حشا ذلك الموضع بتلك النار، وبعث إليها سلطانه وغضبه، فاسودت من سلطانه وازدادت حدة، وصارت أشد سوادا من النار ومن كل شيء سوادا، فإذا كان يوم القيامة وجيء بجهنم في الموقف رمت بشررها على أهل الموقف، غضبا لغضب الله، والشرر هو أسود، لأنه من نار سوداء، فإذا رمت النار بشررها فإنها ترمي الأعداء به، فهن سود من سواد النار، لا يصل ذلك إلى الموحدين؛ لأنهم في سرادق الرحمة قد أحاط بهم في الموقف، وهو الغمام الذي يأتي فيه الرب تبارك وتعالى، ولكن يعاينون ذلك الرمي، فإذا عاينوه نزع الله ذلك السلطان والغضب عنه في رأي العين منهم حتى يروها صفراء؛ ليعلم الموحدون أنهم في رحمة الله لا في سلطانه وغضبه. وكان ابن عباس يقول: الجمالات الصفر: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال. ذكره البخاري. وكان يقرؤها « جمالات » بضم الجيم، وكذلك قرأ مجاهد وحميد « جمالات » بضم الجيم، وهي الحبال الغلاط، وهي قلوس السفينة أي حبالها. وواحد القلوس: قلس. وعن ابن عباس أيضا على أنها قطع النحاس. والمعروف في الحبل الغليظ جمل بتشديد الميم كما تقدم في « الأعراف » . و « جمالات » بضم الجيم: جمع جمالة بكسر الجيم موحدا، كأنه جمع جمل، نحو حجر وحجارة، وذكر وذكارة، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري « جُمالة » بضم الجيم موحدا وهي الشيء العظيم المجموع بعضه إلى بعض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « جمالة » وبقية السبعة « جمالات » قال الفراء: يجوز أن تكون الجمالات جمع جمال كما يقال: رجل ورجال ورجالات. وقيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها. وقيل: لمتابعة بعضها بعضا. والقصر: واحد القصور. وقصر الظلام: اختلاطه ويقال: أتيته قصرا أي عشيا، فهو مشترك؛ قال:

كأنهم قصرا مصابيح راهب بموزن روى بالسليط ذبالها

مسألة: في هذه الآية دليل على جواز ادخار الحطب والفحم وإن لم يكن من القوت، فإنه من مصالح المرء ومغاني مفاقره. وذلك مما يقتضي النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته؛ ليكون أرخص وحالة وجوده أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه ومال، وكل شيء محمول عليه. وقد بين ابن عباس هذا بقوله: كنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه وندخره للشتاء وكنا نسميه القصر. وهذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم.

الآيات: 35 - 37 ( هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « هذا يوم لا ينطقون » أي لا يتكلمون « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها، ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: سأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: « هذا يوم لا ينطقون » و « فلا تسمع إلا همسا » [ طه: 108 ] وقد قال تعالى: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » [ الصافات: 27 ] فقال له: إن الله عز وجل يقول: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » [ الحج: 47 ] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] وقد تقدم. وقال أبو عثمان: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وقال الجنيد: أي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ و « يوم » بالرفع قراءة العامة على الابتداء والخبر؛ أي تقول الملائكة: « هذا يوم لا ينطقون » ويجوز أن يكون قوله: « انطلقوا » [ المرسلات: 29 ] من قول الملائكة، ثم يقول الله لأوليائه: هذا يوم لا ينطق الكفار. ومعنى اليوم الساعة والوقت. وروى يحيى بن سلطان. عن أبي بكر عن عاصم « هذا يوم لا ينطقون » بالنصب، ورويت عن ابن هرمز وغيره، فجاز أن يكون مبنيا لإضافته إلى الفعل وموضعه رفع. وهذا مذهب الكوفيين. وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تكون الإشارة إلى غير اليوم. وهذا مذهب البصريين؛ لأنه إنما بني عندهم إذا أضيف إلى مبني، والفعل ها هنا معرب. وقال الفراء في قوله تعالى: « ولا يؤذن لهم فيعتذرون » الفاء نسق أي عطف على « يؤذن » وأجيز ذلك؛ لأن أواخر الكلام بالنون. ولو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. وقد قال: « لا يقضى عليهم فيموتوا » [ فاطر: 36 ] بالنصب وكله صواب؛ ومثله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه » [ البقرة: 245 ] بالنصب والرفع.

الآيات: 38 - 40 ( هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين، فإن كان لكم كيد فكيدون، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « هذا يوم الفصل » أي ويقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق؛ فيتبين المحق من المبطل. « جمعناكم والأولين » قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمدا والذين كذبوا النبيين من قبله. رواه عنه الضحاك. « فإن كان لكم كيد » أي حيلة في الخلاص من الهلاك « فكيدوني » أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك. وقيل: أي « فإن كان لكم كيد » أي قدرتم على حرب « فكيدوني » أي حاربوني. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى الله عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني. وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون كقول هود: « فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون » [ هود: 55 ] .

الآيات: 41 - 45 ( إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنا كذلك نجزي المحسنين، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « إن المتقين في ظلال وعيون » أخبر بما يصير إليه المتقون غدا، والمراد بالظلال ظلال الأشجار وظلال القصور مكان الظل في الشعب الثلاث. وفي سورة يس « هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون » [ يس: 56 ] . « وفواكه مما يشتهون » أي يتمنون. وقراءة العامة « ظلال » . وقرأ الأعرج والزهري وطلحة « ظلل » جمع ظلة يعني في الجنة. « كلوا واشربوا » أي يقال لهم غدا هذا بدل ما يقال للمشركين « فإن كان لكم كيد فكيدون » . فـ « كلوا وأشربوا » في موضع الحال من ضمير « المتقين » في الظرف الذي هو « في ظلال » أي هم مستقرون « في ظلال » مقولا لهم ذلك. « إنا كذلك نجزي المحسنين » أي نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.

الآيات: 46 - 47 ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون، ويل يومئذ للمكذبين )
قوله تعالى: « كلوا وتمتعوا قليلا » هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين، وهو وعيد وتهديد وهو حال من « المكذبين » أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: « كلوا وتمتعوا قليلا » . « إنكم مجرمون » أي كافرون. وقيل: مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة، من الشرك والمعاصي.

الآيات: 48 - 50 ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، ويل يومئذ للمكذبين، فبأي حديث بعده يؤمنون )
قوله تعالى: « وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: « اركعوا » أي صلوا « لا يركعون » أي لا يصلون؛ قال مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسلموا ) وأمرهم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ) . يذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ قم فاركع. فقام فركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين « إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون » . وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. قتادة: هذا في الدنيا. ابن العربي: هذه الآية حجة على وجوب الركوع وإنزاله ركنا في الصلاة وقد أنعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان لله يسجد يمكن من السجود، ومن كان يسجد رثاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا. وقيل: أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد. وقيل: الأمر بالإيمان لأنها لا تصح من غير إيمان.
قوله تعالى: « فبأي حديث بعده يؤمنون » أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام، فبأي شيء يصدقون! وكرر: « ويل يومئذ للمكذبين » لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر؛ كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا. ثم كذلك إلى آخرها. ختمت السورة ولله الحمد.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 09, 2014 11:13 pm

تفسير سورة النبأ للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 5 ( عم يتساءلون، عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون )

قوله تعالى: « عم » لفظ استفهام؛ ولذلك سقطت منها ألف « ما » ، ليتميز الخبر عن الاستفهام. وكذلك ( فيم، ومم ) إذا استفهمت. والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا. وقال الزجاج: أصل « عم » عن ما فأدغمت النون في الميم، لأنها تشاركها في الغنة. والضمير في « يتساءلون » لقريش. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت « عم يتساءلون » ؟ وقيل: « عم » بمعنى: فيم يتشدد المشركون ويختصمون.

قوله تعالى: « عن النبأ العظيم » أي يتساءلون « عن النبأ العظيم » فعن ليس تتعلق بـ « يتساءلون » الذي في التلاوة؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون « عن النبأ العظيم » كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه « بيتساءلون » الذي في التلاوة، وإنما يتعلق بيتساءلون آخر مضمر. وحسن ذلك لتقدم يتساءلون؛ قال المهدوي. وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله: « عن » مكرر إلا أنه مضمر، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى. و « النبأ العظيم » أي الخبر الكبير.

قوله تعالى: « الذي هم فيه مختلفون » أي يخالف فيه بعضهم بعضا، فيصدق واحد ويكذب آخر؛ فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو القرآن؛ دليله قوله: « قل هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون » فالقرآن نبأ وخبر وقصص، وهو نبأ عظيم الشأن.

وروى سعيد عن قتادة قال: هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين: مصدق ومكذب. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وروي الضحاك عن ابن عباس قال: وذلك أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبره الله جل ثناؤه باختلافهم، ثم هددهم فقال: « كلا سيعلمون » أي سيعلمون عاقبة القرآن، أو سيعلمون البعث: أحق هو أم باطل. و « كلا » رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن، فيوقف عليها. ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو « ألا » فيبدأ بها. والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث؛ قال بعض علمائنا: والذي يدل عليه قوله عز وجل: « إن يوم الفصل كان ميقاتا » [ النبأ: 17 ] يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث. « ثم كلا سيعلمون » أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وقال الضحاك: « كلا سيعلمون » يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم. « ثم كلا سيعلمون » يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم. وقيل: بالعكس أيضا. وقال الحسن: هو وعيد بعد وعيد. وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر؛ لقوله تعالى: « يتساءلون » وقوله: « هم فيه مختلفون » . وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما.

الآيات: 6 - 16 ( ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا )
قوله تعالى: « ألم نجعل الأرض مهادا » دلهم على قدرته على البعث؛ أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة. والمهاد: الوطاء والفراش. وقد قال تعالى: « الذي جعل لكم الأرض فراشا » [ البقرة: 22 ] وقرئ « مهدا » . ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه « والجبال أوتادا » أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها. « وخلقناكم أزواجا » أي أصنافا: ذكرا وأنثى. وقيل: ألوانا. وقيل: يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير؛ لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار، فيشكر الفاضل ويصبر المفضول. « وجعلنا نومكم سباتا » « جعلنا » معناه صيرنا؛ ولذلك تعدت إلى مفعولين. « سباتا » المفعول الثاني، أي راحة لأبدانكم، ومنه يوم السبت أي يوم الراحة؛ أي قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا فيه شيئا. وأنكر ابن الأنباري هذا وقال: لا يقال للراحة سبات. وقيل: أصله التمدد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلته وأرسلته، فالسبات كالمد، ورجل مسبوت الخلق: أي ممدود. وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتا. وقيل: أصله القطع؛ يقال: سبت شعره سبتا: حلقه؛ وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال، فالسبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح. ويقال: سير سبت: أي سهل لين؛ قال الشاعر:

ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل

« وجعلنا الليل لباسا » أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم؛ قال الطبري. وقال ابن جبير والسدي: أي سكنا لكم. « وجعلنا النهار معاشا » فيه إضمار، أي وقت معاش، أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما معاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك فـ « معاشا » على هذا اسم زمان، ليكون الثاني هو الأول. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف. « وبنينا فوقكم سبعا شدادا » أي سبع سموات محكمات؛ أي محكمة الخلق وثيقة البنيان. « وجعلنا سراجا وهاجا » أي وقادا وهي الشمس. وجعل هنا بمعنى خلق؛ لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج؛ يقال: وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا. ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج. وقال ابن عباس: وهاجا منيرا متلألئا. « وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا » قال مجاهد وقتادة: والمعصرات الرياح. وقاله ابن عباس: كأنها تعصر السحاب. وعن ابن عباس أيضا: أنها السحاب. وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك: أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد، كالمرأة المعصر التي قددنا حيضها ولم تحض، قال أبو النجم:

تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أوقد دنا إعصارها

وقال آخر:

فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

وقال آخر:

وذي أشر كالأقحوان يزينه ذهاب الصبا والمعصرات الروائح

فالرياح تسمى معصرات؛ يقال: أعصرت الريح تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الإعصار، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر. وقال قتادة أيضا: المعصرات السماء، النحاس: هذه الأقوال صحاح؛ يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات، والرياح تلقح السحاب، فيكون المطر، والمطر ينزل من الريح على هذا. ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات « ماء ثجاجا » وأصح الأقوال أن المعصرات؛ السحاب. كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى. وفي الصحاح: والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر. وأعصر القوم أي أمطروا؛ ومنه قرأ بعضهم « وفيه يعصرون » والمعصر: الجارية أول ما أدركت وحاضت؛ يقال: قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته؛ قال الراجز:

جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارها

قد أعصرت أو قد دنا إعصارها

والجمع: معاصر، ويقال: هي التي قاربت الحيض؛ لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام. سمعته من أبي الغوث الأعرابي. قال غيره: والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر؛ يقال أجن الزرع فهو مجن: أي صار إلى أن يجن، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر. وقال المبرد: يقال سحاب معصر أي ممسك للماء، ويعتصر منه شيء بعد شيء، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرة بالضم أيضا الملجأ. وقد مضى هذا المعنى في سورة « يوسف » والحمد لله. وقال أبو زبيد:

صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود

ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر؛ لأنها تحبس في البيت، فيكون البيت لها عصرا. وفي قراءة ابن عباس وعكرمة « وأنزلنا بالمعصرات » . والذي في المصاحف « من المعصرات » قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: « من المعصرات » أي من السموات. « ماء ثجاجا » صبابا متتابعا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: ثججت دمه فأنا أثجه ثجا، وقد ثج الدم يثج ثجوجا، وكذلك الماء، فهو لازم ومتعد. والثجاج في الآية المنصب. وقال الزجاج: أي الضباب، وهو متعد كأنه يثج: نفسه أي يصب. وقال عبيد بن الأبرص:

فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحج المبرور فقال: [ العج والثج ] فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء وذبح الهدايا. وقال ابن زيد: ثجاجا كثيرا. والمعنى واحد.
قوله تعالى: « لنخرج به » أي بذلك الماء « حبا » كالحنطة والشعير وغير ذلك

« ونباتا » من الأب، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش. « وجنات » أي بساتين

« ألفاقا » أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم. ذكره الكسائي، قال:

جنة لُفٌّ وعيشٌ مغدِق وندامى كلهم بيض زُهُرْ

وعنه أيضا وأبي عبيدة: لفيف كشريف وأشراف. وقيل: هو جمع الجمع. حكاه الكسائي. يقال: جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر، ثم يجمع اللف ألفافا. الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها. ويقال: شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء: أي غليظة الساق مجتمعة اللحم. وقيل: التقدير: ونخرج به جنات ألفافا، فحذف لدلالة الكلام عليه. ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها.

الآيات: 17 - 20 ( إن يوم الفصل كان ميقاتا، يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا، وفتحت السماء فكانت أبوابا، وسيرت الجبال فكانت سرابا )
قوله تعالى: « إن يوم الفصل كان ميقاتا » أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين، لما وعد الله من الجزاء والثواب. وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. « يوم ينفخ في الصور » أي للبعث « فتأتون » أي إلى موضع العرض.

« أفواجا » أي أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا وجماعات. الواحد: فوج. ونصب يوما بدلا من اليوم الأول. وروي من حديث معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالى: « يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا » فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ [ بن جبل ] لقد سألت عن أمر عظيم ) ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال: ( يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون: أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير، فأهل السحت والحرام والمكس. وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم، فأكلة الربا، والعمي: من يجور في الحكم، والصم البكم: الذين يعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم: فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم: فالذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع النار: فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله من أموالهم. والذين يلبسون الجلابيب: فأهل الكبر والفخر والخيلاء ) .
قوله تعالى: « وفتحت السماء فكانت أبوابا » أي لنزول الملائكة؛ كما قال تعالى: « ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] . وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب؛ لأنها تصير كلها أبوابا. وقيل: أبوابها طرقها. وقيل: تنحل وتتناثر، حتى تصير فيها أبواب. وقيل: إن لكل عبد بابين في السماء: بابا لعمله، وبابا لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وفي حديث الإسراء: ( ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا ) . « وسيرت الجبال فكانت سرابا » أي لا شيء كما أن السراب كذلك: يظنه الرائي ماء وليس بماء.

وقيل: « سيرت » نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت عن مواضعها.

الآيات: 21 - 30 ( إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، إلا حميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا، فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )
قوله تعالى: « إن جهنم كانت مرصادا » مفعال من الرصد والرصد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل « مرصادا » ذات أرصاد على النسب؛ أي ترصد من يمر بها. وقال مقاتل: محبسا. وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.

وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم؛ فالمرصاد بمعنى المحل؛ فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم. وفي الصحاح: الراصد الشيء: الراقب له؛ تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله.

قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب؛ أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار.

« للطاغين مآبا » بدل من قوله: « مرصادا » والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها؛ يقال: آب يؤوب أوبة: إذا رجع. وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.
قوله تعالى: « لابثين فيها أحقابا » أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة؛ والجمع حقب؛ قال متمم بن نويرة التميمي:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة. وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية؛ [ لابثين ] فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة؛ أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب؛ وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب. وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب؛ ولهذا قال: « لابثين فيها أحقابا. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا » . و « لابثين » اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي « لبثين » بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان؛ يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفاره. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق؛ لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث.

والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة: والسنة ثلثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة. وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الحُقُب الواحد ثلاثون ألف سنة ) ذكره المهدوي. والأول الماوردي. وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون؛ فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار ) . ذكره الثعلبي. القُرظي: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة.

قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا؛ أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع. وقال ابن كيسان: معنى « لابثين فيها أحقابا » لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا. وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل.

قلت: وهذا بعيد؛ لأنه خبر، وقد قال تعالى: « ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط » [ الأعراف: 40 ] على ما تقدم. هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم. وقيل: المعنى « لابثين فيها أحقابا » أي في الأرض؛ إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في « لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا » لجهنم. وقيل: واحد الأحقاب حقب وحقبة؛ قال:

فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت بما أحدثته بالمجرب

وقال الكميت:

مر لها بعد حقبة حقب
قوله تعالى: « لا يذوقون فيها » أي في الأحقاب « بردا ولا شرابا » البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره؛ قال الشاعر:

ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نُقاخا ولا بردا

وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي؛ وأنشدوا قول الكندي:

بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرد

يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم.

قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: ( لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها ) فكذلك النار؛ وقد قال تعالى: « لا يقضى عليهم فيموتوا » [ فاطر: 36 ] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء. وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به. وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة؛ قال الشاعر:

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق
قوله تعالى: « لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا » جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب؛ فالأحقاب ظرف زمان، والعامل فيه « لابثين » أو « لبثين » على تعدية فعل. « إلا حميما وغساقا » استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار؛ قاله أبو عبيدة. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه « وظل من يحموم » : إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في « ص » القول فيه. « جزاء وفاقا » أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. و « جزاء » نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم؛ قال الفراء والأخفش. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد. وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. « إنهم كانوا لا يرجون » أي لا يخافون « حسابا » أي محاسبة على أعمالهم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. « وكذبوا بآياتنا كذابا » أي بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة « كذابا » بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة؛ يقولون: كذبت [ به ] كذابا، وخرقت القميص خراقا؛ وكل فعل في وزن ( فعل ) فمصدره فعال مشدد في لغتهم؛ وأنشد بعض الكلابيين:

لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائنا

وقرأ علي رضي الله عنه « كذابا » بالتخفيف وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:

فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه

أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري: « كذابا » بالتخفيف مصدر كذب؛ بدليل قوله:

فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه

وهو مثل قوله: « أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه بـ « كذبوا » . لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر « كذابا » بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب؛ قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر « كذبوا » أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه. وفي الصحاح: وقوله تعالى: « وكذبوا بآياتنا كذابا » وهو أحد مصادر المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على ( تفعيل ) مثل التكليم وعلى ( فعال ) كذاب وعلى ( تفعلة ) مثل توصية، وعلى ( مفعل ) ؛ « ومزقناهم كل ممزق » . « وكل شيء أحصيناه كتابا » « كل » نصب بإضمار فعل يدل عليه « أحصيناه » أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال « وكل شيء » بالرفع على الابتداء.

« كتابا » نصب على المصدر؛ لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان. وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة. وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة؛ دليله قوله تعالى: « وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين » [ الانفطار: 10 ] . « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » قال أبو برزة: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: « فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا » أي « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها » [ النساء: 56 ] و « كلما خبت زدناهم سعيرا » [ الإسراء: 97 ] .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 10, 2014 11:09 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة النبأ
=======


الآيات: 31 - 36 ( إن للمتقين مفازا، حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا، جزاء من ربك عطاء حسابا )

قوله تعالى: « إن للمتقين مفازا » ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله « مفازا » موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. « حدائق وأعنابا » هذا تفسير الفوز. وقيل: « إن للمتقين مفازا » إن للمتقين حدائق؛ جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه؛ يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. « وكواعب أترابا » كواعب: جمع كاعب وهي الناهد؛ يقال: كَعَبت الجارية تكعَب كُعوبا، وكعَّبت تُكَعِّب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا. وقال الضحاك: ككواعب العذارى؛ ومنه قول قيس بن عاصم:

وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر

والأتراب: الأقران في السن. وقد مضى في سورة « الواقعة » الواحد: ترب. « وكأسا دهاقا » قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة؛ يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دهاق أي ممتلئة؛ قال:

ألا فاسقني صِرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك الدهاق

وقال خداش بن زهير:

أتانا عامر يبغي قِرانا فأترعنا له كأسا دهاقا

وقال سعد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا؛ ومنه ادهقت الحجارة أدهاقا، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض؛ فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية؛ قال الشاعر:

لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من الصادي إلى كأس دهاق

وهو جمع دهق، وهو خشبتان [ يغمز ] بهما [ الساق ] . والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت؛ قاله القشيري. وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق - بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية دأشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الأعرابي: دهقت الشيء كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد:

ندهدق بضع اللحم للباع والندى وبعضهم تغلي بذم مناقعه

ودهمقته بزيادة الميم: مثله. وقال الأصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين؛ ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: « أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها » [ الأحقاف: 20 ] .

قوله تعالى: « لا يسمعون فيها » أي في الجنة « لغوا ولا كذابا » اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح؛ ومنه الحديث: ( إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو؛ بخلاف أهل الدنيا. « ولا كذابا » تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي « كذابا » بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة. وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله: « وكذبوا بآياتنا كذابا » لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. « جزاء من ربك » نصب على المصدر. لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك « عطاء » لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. « حسابا » أي كثيرا، قاله قتادة؛ يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال:

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع

وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: « حسابا » أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني. وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدارا؛ كما قال تعالى: « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] . وقرأ أبو هاشم « عطاء حسابا » بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا؛ قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته؛ وأنشد قول الشاعر:

إذا أتاه ضيفه يحسِّبه

وقرأ ابن عباس. « حسانا » بالنون.

الآيات: 37 - 40 ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا، إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )

قوله تعالى: « رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن » قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم: « رب » بالرفع على الاستئناف، « الرحمن » خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون « الرحمن » مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله: « جزاء من ربك » أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي: « رب السموات » خفضا على النعت، « الرحمن » رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها؛ خفض « رب » لقربه من قوله: « من ربك » فيكون نعتا له، ورفع « الرحمن » لبعده منه، على الاستئناف، وخبره « لا يملكون منه خطابا » أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقال الكسائي: « لا يملكون منه خطابا » بالشفاعة إلا بإذنه. وقيل: الخطاب: الكلام؛ أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه؛ دليله: « لا تكلم نفس إلا بإذنه » [ هود: 105 ] .

وقيل: أراد الكفار « لا يملكون منه خطابا » ، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم؛ لقوله تعالى: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » وقوله تعالى: « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا » [ طه: 109 ] .

قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا » « يوم » نصب على الظرف؛ أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأول: أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود؛ قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة؛ يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجيء يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا.

الثاني: أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة. وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه؛ يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت؛ وهو قوله تعالى: « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن » في الكلام « وقال صوابا » يعني قوله: « لا إله إلا أنت » .

الثالث: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام ] . ثم قرأ « يوم يقوم الروح والملائكة صفا » فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس. الرابع: أنهم أشراف الملائكة؛ قاله مقاتل بن حيان. الخامس: أنهم حفظة على الملائكة؛ قال ابن أبي نجيح. السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح. وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس؛ قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح. السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الأجساد؛ قال عطية. الثامن: أنه القرآن؛ قاله زيد بن أسلم.

وقرأ « وكذلك أوحينا إليك روح له من أمرنا » . و « صفا » : مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل، والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف. وقال في موضع آخر: « وجاء ربك والملك صفا صفا » [ الفجر: 22 ] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره. وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان. وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. « لا يتكلمون » أي لا يشفعون « إلا من أذن له الرحمن » في الشفاعة « وقال صوابا » يعني حقا؛ قاله الضحاك ومجاهد. وقال أبو صالح: لا إله إلا الله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله. وأصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة؛ كالجواب من أجاب يجيب إجابة. وقيل: « لا يتكلمون » يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا « إلا من أذن له الرحمن » في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه. وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى: « وقال صوابا » .

قوله تعالى: « ذلك اليوم الحق » أي الكائن الواقع « فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا » أي مرجعا بالعمل الصالح؛ كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: [ والخير كله بيديك، والشر ليس إليك ] . وقال قتادة: « مآبا » : سبيلا.

قوله تعالى: « إنا أنذرناكم عذابا قريبا » يخاطب كفار قريش ومشركي العرب؛ لأنهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: « كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها » [ النازعات: 46 ] قال معناه الكلبي وغيره. وقال قتادة: عقوبة الدنيا؛ لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان؛ ولهذا قال تعالى: « يوم ينظر المرء ما قدمت يداه » بين وقت ذلك العذاب؛ أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه، وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن؛ أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال: « ويقول الكافر » علم أنه أراد بالمرء المؤمن. وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط. « ويقول الكافر » أبو جهل. وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب. وقال مقاتل: نزلت قوله: « يوم ينظر المرء ما قدمت يداه » في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: « ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا » : في أخيه الأسود بن عبد الأسد. وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، فيقول: « يا ليتني كنت ترابا » قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر. وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: « يا ليتني كنت ترابا » . ونحوه عن أبي هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة » ، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبدالرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك « يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا » . وقال قوم: « يا ليتني كنت ترابا » : أي لم أبعث، كما قال: « يا ليتني لم أوت كتابيه » . وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم « يا ليتني كنت ترابا » . وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنوا الجن يعودون ترابا. وقال عمر بن عبدالعزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنوا الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة « الرحمن » بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 11, 2014 11:11 pm

تفسير سورة التغابن للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 14 ( والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا، يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة، أئذا كنا عظاما نخرة، قالوا تلك إذا كرة خاسرة، فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة )
قوله تعالى: « والنازعات غرقا » أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها، على أن القيامة حق. و « النازعات » : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار؛ قاله علي رضي الله عنه، وكذا قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد: هي الملائكة تنزع نفوس بين آدم. قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعا كالسفود ينزع من الصوف الرطب، يغرقها، أي يرجعها في أجسادهم، ثم ينزعها فهذا عمله بالكفار. وقاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم، ثم غرقت، ثم حرقت؛ ثم قذف بها في النار. وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق. وقال السدي: و « النازعات » هي النفوس حين تغرق في الصدور. مجاهد: هي الموت ينزع النفوس. الحسن وقتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق؛ أي تذهب، من قولهم: نزع إليه أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل أي جرت. « غرقا » أي إنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر. وقاله أبو عبيدة وابن كيسان والأخفش. وقيل: النازعات القسي تنزع بالسهام؛ قاله عطاء وعكرمة. و « غرقا » بمعنى إغراقا؛ وإغراق النازع في القوس أن يبلغ غاية المد، حتى ينتهي إلى النصل. يقال: أغرق في القوس أي استوفي مدها، وذلك بأن تنتهي إلى العقب الذي عند النصف الملفوف عليه. والاستغراق الاستيعاب. ويقال لقشرة البيضة الداخلة: « غِرقِئ » . وقيل: هم الغزاة الرماة.

قلت: هو والذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد النازعون بها تعظيما لها؛ وهو مثل قوله تعالى: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] والله أعلم. وأراد بالإغراق: المبالغة في النزع وهو سائر في جميع وجوه تأويلها. وقيل: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر. حكاه يحيى ابن سلام. ومعنى « غرقا » أي إبعادا في النزع.

قوله تعالى: « والناشطات نشطا » قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير: إذا حل عنه. وحكى هذا القول الفراء ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا أنشطت وكأنما أنشط من عقال. وربطها نشطها والرابط الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته، فأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج؛ وذلك أنه ما من مؤمن [ يحضره الموت ] إلا وتعرض عليه الجنة قبل أن يموت، فيرى فيها ما أعد الله له من أزواجه وأهله من الحور العين، فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشطة أن تخرج فتأتيهم. وعنه أيضا قال: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب، الذي يعقب به السهم. والعقب بالتحريك: العصب الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة؛ تقول منه: عقب السهم والقدح والقوس عقبا : إذا لوى شيئا منه عليه. والنشط: الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة: عقدة يسهل أنحلالها إذا جذبت مثل عقدة التكة. وقال أبو زيد: نشطت الحجل أنشطة نشطا: عقدته بأنشوطة، وأنشطته أي حللته، وأنشطت الحبل أي مددته حتى ينحل. وقال الفراء: أنشط العقال أي حل، ونشط: أي ربط الحبل في يديه. وقال الليث: أنشطته بأنشوطة وأنشوطتين أي أوثقته، وأنشطت العقال: أي مددت أنشوطته فانحلت. قال: ويقال نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى؛ وعليه يصح قول ابن عباس المذكور أولا. وعنه أيضا: الناشطات الملائكة لنشاطها، تذهب وتجيء بأمر الله حيثما كان. وعنه أيضا وعن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار، ما بين الجلد والأظفار، حتى تخرجها من أجوافهم نشطا بالكرب والغم، كما تنشط الصوف من سفود الحديد، وهي من النشط بمعنى الجذب؛ يقال: نشطت الدلو أنشطها بالكسر، وأنشطها بالضم: أي نزعتها.

قال الأصمعي: بئر أنشاط: أي قريبة القعر، تخرج الدلو منها بجذبة واحدة. وبئر نشوط؛ قال: وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى تنشط كثيرا. وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان. السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم، تنزع القسي بإغراق السهام، وهي التي تنشط الأوهاق. عكرمة وعطاء: هي الأوهاق تنشط السهام. وعن عطاء أيضا وقتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق: أي تذهب. وكذا في الصحاح. « والناشطات نشطا » يمني النجوم من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها؛ قال هميان بن قحافة:

أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا

أبو عبيدة وعطاء أيضا: الناشطات: هي الوحش حين تنشط من بلد إلى بلد، كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد؛ وأنشد قول هميان:

أمست همومي... ( البيت ) .

وقيل: « والنازعات » للكافرين « والناشطات » للمؤمنين، فالملائكة يجذبون روح المؤمن برفق، والنزع جذب :شدة، والنشط جذب برفق. وقيل: هما جميعا للكفار والآيتان بعدهما للمؤمنين عند فراق الدنيا.

قوله تعالى: « والسابحات سبحا » قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. الكلبي: هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين، كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأم الله، كما يقال للفرس الجواد سابح: إذا أسرع في جريه. وعن مجاهد أيضا: الملائكة تسبح في نزولها وصعودها. وعنه أيضا: السابحات: الموت يسبح في أنفس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة؛ قال عنترة:

والخيل تعلم حين تسـ ـبح في حياض الموت سبحا

وقال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل

قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر؛ قال الله تعالى: « كل في فلك يسبحون » . عطاء: هي السفن تسبح في الماء. ابن عباس: السابحات أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى لقاء الله ورحمته حين تخرج.



قوله تعالى: « فالسابقات سبقا » قال علي رضي الله عنه: هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء عليهم السلام. وقاله مسروق ومجاهد. وعن مجاهد أيضا وأبي روق: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: تسبق بني آدم إلى العمل الصالح فتكتبه. وعن مجاهد أيضا: الموت يسبق الإنسان. مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق، إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور، شوقا إلى لقاء الله تعالى ورحمته. ونحو عن الربيع، قال: هي النفوس تسبق بالخروج عند الموت. وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير. عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد. وقيل: يحتمل أن تكون السابقات ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار؛ قال الماوردي. وقال الجرجاني: ذكر « فالسابقات » بالفاء لأنها مشتقة من التي قبلها؛ أي واللائي يسبحن فيسبقن، تقول: قام فذهب؛ فهذا يوجب أن يكون القيام سببا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب، لم يكن القيام سببا للذهاب.
قوله تعالى: « فالمدبرات أمرا » قال القشيري: أجمعوا على أن المراد الملائكة. وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة؛ قال الجمهور. والقول الثاني هي الكواكب السبعة. حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وفي تدبيرها الأمر وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها. الثاني تدبيرها ما قضاه الله تعالى فيها من تقلب الأحوال. وحكى هذا القول أيضا القشيري في تفسيره، وأن الله تعالى علق كثيرا من تدبير أم العالم بحركات النجوم، فأضيف التدبير إليها وإن كان من الله، كما يسمى الشيء باسم ما يجاوره. وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة، فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وهو إلى الله جل ثناؤه، ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك؛ كما قال عز وجل: « نزل به الروح الأمين » [ الشعراء: 193 ] . وكما قال تعالى: « فإنه نزله على قلبك » [ البقرة: 97 ] . يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي أنزل.

وروى عطاء عن ابن عباس: « فالمدبرات أمرا » : الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك. قال عبدالرحمن بن ساباط: تدبير أم الدنيا إلى أربعة؛ جبريل وميكائيل وملك الموت واسمه عزرائيل وإسرافيل، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس في البر والبحر، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس من الملائكة أقرب من إسرافيل، وبينه وبين العرش مسيرة خمسمائة عام. وقيل: أي وكلوا بأمور عرفهم الله بها. ومن أول السورة إلى هنا قسم أقسم الله به، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك إلا به عز وجل. وجواب القسم مضمر، كأنه قال: والنازعات وكذا وكذا لتبعثن ولتحاسبن. أضمر لمعرفة السامعين بالمعنى؛ قاله الفراء. ويدل عليه قوله تعالى: « أئذا كنا عظاما نخرة » ألست ترى أنه كالجواب لقولهم: « أئذا كنا عظاما نخرة » نبعث؟ فاكتفى بقول: « أئذا كنا عظاما نخرة » ؟ وقال قوم: وقع القسم على قوله: « إن في ذلك لعبرة لمن يخشى » [ النازعات: 26 ] وهذا اختيار الترمذي بن علي. أي فيما قصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى وفرعون « لعبرة لمن يخشى » ولكن وقع القسم على ما في السورة مذكورا ظاهرا بارزا أحرى وأقمن من أن يؤتي بشيء ليس بمذكور فيما قال ابن الأنباري : وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل : جواب القسم « هل أتاك حديث موسى » لأن المعنى قد أتاك.

وقيل: الجواب « يوم ترجف الراجفة » على تقدير ليوم ترجف، فحذف اللام. وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره يوم ترجف الراجفة وتتبعها الرادفة والنازعات غرقا. وقال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير، كأنه قال: فإذا هم بالساهرة والنازعات. ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتح بها الكلام، والأول الوجه. وقيل: إنما وقع القسم على أن قلوب أهل النار تجف، وأبصارهم تخشع، فانتصاب « يوم ترجف الراجفة » على هذا المعنى، ولكن لم يقع عليه.

قال الزجاج: أي قلوب واجفة يوم ترجف، وقيل: انتصب بإضمار اذكر و « ترجف » أي تضطرب. والراجفة: أي المضطربة كذا قال عبدالرحمن بن زيد؛ قال: هي الأرض، والرادفة الساعة. مجاهد: الراجفة الزلزلة « تتبعها الرادفة » الصيحة. وعنه أيضا وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصيحتان. أي النفختان. أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينهما أربعون سنة ) وقال مجاهد أيضا: الرادفة حين تنشق السماء وتحمل الأرض والجبال فتدك دكة واحدة، وذلك بعد الزلزلة.

وقيل: الراجفة تحرك الأرض، والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين « . فالله أعلم. وقد مضى في آخر » النمل « ما فيه كفاية في النفخ في الصور.»

وأصل الرجفة الحركة، قال الله تعالى: « يوم ترجف الأرض » وليست الرجفة ههنا من الحركة فقظ، بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا: أي أظهر الصوت والحركة، ومنه سميت الأراجيف، لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها؛ قال:

أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا

وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال: ( يا أيها الناس أذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه ) . « قلوب يومئذ واجفة » أي خائفة وجلة؛ قاله ابن عباس وعليه عامة المفسرين. وقال السدي: زائلة عن أماكنها. نظيره « إذ القلوب لدى الحناجر » [ غافر: 18 ] .

وقال المؤرج: قلقة مستوفزة، مرتكضة غير ساكنة. وقال المبرد: مضطربة. والمعنى متقارب، والمراد قلوب الكفار؛ يقال وجف القلب يجف وجيفا إذا خفق، كما يقال: وجب يجب وجيبا، ومنه وجيف الفرس والناقة في العدو، والإيجاف حمل الدابة على السير السريع، قال:

بدلن بعد جرة صريفا وبعد طول النفس الوجيفا

و « قلوب » رفع بالابتداء و « واجفة » صفتها. و « أبصارها خاشعة » خبرها؛ مثل قول « ولعبد مؤمن خير من مشرك » [ البقرة: 221 ] . ومعنى « خاشعة » منكسرة ذليلة من هول ما ترى. نظيره: « خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة » [ القلم : 43 ] . والمعنى أبصار أصحابها، فحذف المضاف. « يقولون أئنا لمردودون في الحافرة » أي يقول هؤلاء المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، قالوا منكرين متعجبين: أنرد بعد موتنا إلى أول الأم، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم: « أئنا لمبعوثون خلقا جديدا » يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته، أي رجع من حيث جاء؛ قال قتادة. وأنشد ابن الأعرابي:

أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار

يقول: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت! ويقال: رجع على حافرته: أي الطريق الذي جاء منه. وقولهم في المثل: النقد عند الحافرة. قال يعقوب: أي عند أول كلمة. ويقال: ألتقي القوم فاقتتلوا عند الحافرة. أي عند أول ما التقوا. وقيل: الحافرة العاجلة؛ أي أئنا لمردودون إلى الدنيا فنصبر أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:

آليت لا أنساكم فاعلموا حتى يرد الناس في الحافرة

وقيل: الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى المحفورة؛ كقوله تعالى: « ماء دافق » و « عيشة راضية » . والمعنى أثنا لمردودون في قبورنا أحياء. قال مجاهد والخليل والفراء. وقيل: سميت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سميت القدم أرضا؛ لأنها على الأرض. والمعنى أثنا لراجعون بعد الموت إلى الأرض فنمشي على أقدامنا. وقال ابن زيد: الحافرة: النار، وقرأ « تلك إذا كرة خاسرة » . وقال مقاتل وزيد بن أسلم: هي اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس: الحافرة في كلام العرب: الدنيا. وقرأ أبو حيوة: « الحفرة » بغير ألف، مقصور من الحافر. وقيل: الحفرة: الأرض المنتنة بأجساد موتاها؛ من قولهم: حفرت أسنانه، إذا ركبها الوسخ من ظاهرها وباطنها. يقال: في أسنانه حفر، وقد حفرت تحفر حفرا، مثل كسر يكسر كسرا إذا فسدت أصولها. وبنو أسد يقولون: في أسنانه حفر بالتحريك. وقد حفرت مثال تعب تعبا، وهي أردا اللغتين؛ قاله في الصحاح.

قوله تعالى: « أئذا كنا عظاما نخرة » أي بالية متفتتة. يقال: نخر العظم بالكسر: أي بلي وتفتت؛ يقال: عظام نخرة. وكذا قرأ الجمهور من أهل المدينة ومكة والشام والبصرة، واختاره أبو عبيد؛ لأن الآثار التي تذكر فيها العظام، نظرنا فيها فرأينا نخرة لا ناخرة. وقرأ أبو عمرو وابنه عبدالله وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وحمزة والكسائي وأبو بكر « ناخرة » بألف، واختاره الفراء والطبري وأبو معاذ النحوي؛ لوفاق رؤوس الآي. وفي الصحاح: والناخر من العظام التي تدخل الريح فيه ثم تخرج منه ولها نخير. ويقال: ما بها ناخر، أي ما بها أحد. حكاه يعقوب عن الباهلي.

وقال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد، أي لم تبل ولا بد أن تنخر. وقيل: الناخر المجوفة. وقيل: هما لغتان بمعنى؛ كذلك تقول العرب: نخر الشيء فهو نخر وناخر؛ كقولهم: طمع فهو طمع وطامع، وحذر وحاذر، وبخل وباخل، وفره وفاره؛ قال الشاعر:

يظل بها الشيخ الذي كان بادنا يدب على عوج له نخرات

عوج: يعني قوائم. وفي بعض التفسير: ناخرة بالألف: بالية، ونخرة: تنخر فيها الريح أي تمر فيها، على عكس الأول؛ قال:

من بعد ما صرت عظاما ناخره

وقال بعضهم: الناخرة: التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها. والنخرة: التي فسدت كلها. قال مجاهد: نخرة أي مرفوتة؛ كما قال تعالى: « عظاما ورفاتا » ونخرة الريح بالضم: شدة هبوبها. والنخرة أيضا والنخرة مثال الهمزة: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير؛ يقال: هشم نخرته: أي أنفه. « قالوا تلك إذا كرة خاسرة » أي رجعة خائبة، كاذبة باطلة، أي ليست كائبة؛ قاله الحسن وغيره. الربيع بن أنس: « خاسرة » على من كذب بها. وقيل: أي هي كرة خسران. والمعنى أهلها خاسرون؛ كما يقال: تجارة رابحة أي يربح صاحبها. ولا شيء أخسر من كرة تقتضي المصير إلى النار.

وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنحشرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أو عدوا بالنار. والكر: الرجوع؛ يقال: كرة، وكر بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. والكرة: المرة، والجمع الكرات.

قوله تعالى: « فإنما هي زجرة واحدة » ذكر جل ثناؤه سهولة البعث عليه فقال: « فإنما هي زجرة واحدة » . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نفخة واحدة « فإذا هم » أي الخلائق أجمعون « بالساهرة » أي على وجه الأرض، بعد ما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، بمعنى ذات سهو؛ لأنه يسهر فيها خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها؛ واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية ابن أبي الصلت:

وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر وما فاهوا به لهم مقيم

وقال آخر يوم ذي قار لفرسه:

أقدم محاج إنها الأساوره ولا يهولنك رجل نادره

فإنما قصرك ترب الساهره ثم تعود بعدها في الحافره

من بعد ما صرت عظاما ناخره

وفي الصحاح. ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض. ومنه قوله تعالى: « فإذا هم بالساهرة » ، قال أبو كبير الهذلي:

يرتدن ساهرة كان جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم

ويقال: الساهور: كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:

قمر وساهور يسل ويغمد

وأنشدوا الآخر في وصف امرأة:

كأنها عرق سام عند ضاربه أو شقة خرجت من جوف ساهور

يريد شقة القمر. وقيل: الساهرة: هي الأرض البيضاء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أرض من فضة لم يعص الله جل ثناؤه عليها قط خلقها حينئذ. وقيل: أرض جددها الله يوم القيامة. وقيل: الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال الثوري: الساهرة: أرض الشام. وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه، بالشام، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمده الله كيف يشاء. قتادة: هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم. وإنما قيل لها ساهرة؛ لأنهم لا ينامون عليها حينئذ. وقيل: الساهرة: بمعنى الصحراء على سفير جهنم؛ أي يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ. ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة؛ قال الأشعث بن قيس:

وساهرة يضحي السراب مجللا لأقطارها قد جئتها متلثما

أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة.


الآيات: 15 - 26 ( هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى )

قوله تعالى: « هل أتاك حديث موسى » أي قد جاءك وبلغك « حديث موسى » وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء. وقيل: « هل » بمعنى « ما » أي ما أتاك، ولكن أخبرت به، فإن فيه عبرة لمن يخشى. وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية. وفي « طوى » ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون « طوى » منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم

قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة « طوى » بكسر الطاء، وروي عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة؛ قال الزجاج؛ وأنشد:

أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد

أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في « طه » القول فيه. « اذهب إلى فرعون » أي ناداه ربه، فحذف، لأن النداء قول؛ فكأنه؛ قال له رب « أذهب إلى فرعون » . « إنه طغى » أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. « فقل هل لك إلى أن تزكى » أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. « وأهديك إلى ربك » أي وأرشدك إلى طاعة ربك « فتخشى » أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير « تزكى » بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون: « تزكى » بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: « تزكى » بالتشديد [ تتصدق بـ ] الصدقة، و « تزكى » يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: « أذهب إلى فرعون » إلى قول « وأهديك إلى ربك فتخشى » ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. « فأراه الآية الكبرى » أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. « فكذب » أي كذب نبي الله موسى « وعصى » أي عصى ربه عز وجل. « ثم أدبر يسعى » أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان « يسعى » أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: « أدبر يسعى » هاربا من الحية. « فحشر » أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. « فنادى » أي قال لهم بصوت عال « أنا ربكم الأعلى » أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة. هو ربهم، وأولئك، هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فنادى فحشر؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. « فأخذه الله نكال الآخرة والأولى » أي نكال قوله: « ما علمت لكم من إله غيري » [ القصص: 38 ] وقوله بعد: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة؛ قال ابن عباس. والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل: الآخرة قوله « أنا ربكم الأعلى » والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا. و « نكال » منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج؛ لأن معنى أخذه الله: نكل، الله به، فأخرج [ نكال ] مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة « المزمل » والحمد لله. « إن في ذلك لعبرة » أي اعتبارا وعظة. « لمن يخشى » أي يخاف الله عز وجل.

الآيات: 27 - 33 ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم )
قوله تعالى: « أأنتم أشد خلقا » يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم « أم السماء » فمن قدر على السماء قدر على الإعادة؛ كقوله تعالى: « لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس » [ غافر: 57 ] وقوله تعالى: « أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم » [ يس: 81 ] ، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: « بناها » أي رفعها فوقكم كالبناء. « رفع سمكها » أي أعلى سقفها في الهواء؛ يقال: سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا: ارتفع. وقال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات: السموات. ويقال: أسمك في الديم، أي أصعد في الدرجة. « فسواها » أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور.

قوله تعالى: « وأغطش ليلها » أي جعله مظلما؛ غطش الليل وأغطشه الله؛ كقولك: ظلم [ الليل ] وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء؛ ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى:

ويهماء بالليل غطشى الفلا ة يؤنسني صوت فيادها

وقال الأعشى أيضا:

عقرت لهم موهنا ناقتي وغامرهم مدلهم غطش

يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل.

قوله تعالى: « وأخرج ضحاها » أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. « والأرض بعد ذلك دحاها » أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول « البقرة » عند قوله تعالى: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء » [ البقرة: 29 ] مستوفى.

والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:

وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي

وأنشد المبرد:

دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا

وقيل: دحاها سواها؛ ومنه قول زيد بن عمرو:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا

وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن « بعد » في موضع « مع » كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها؛ كما قال تعالى: « عتل بعد ذلك زنيم » [ القلم: 13 ] . ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق، قال الشاعر:

فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل؛ كقوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر » [ الأنبياء: 105 ] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:

حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض

وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل: « دحاها » : حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة « والأرض » بالنصب، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون « والأرض » بالرفع، على الابتداء؛ لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا؛ كقولهم: طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي، ومحا يمحو ويمحي، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت « أخرج منها » أي أخرج من الأرض « ماءها » أي العيون المتفجرة بالماء. « ومرعاها » أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. « والجبال أرساها » قراءة العامة « والجبال » بالنصب، أي وأرسى الجبال

« أرساها » يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم « والجبال » بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على « أخرج » فيقال: « إنه حال بإضمار قد؛ كقوله تعالى: » حصرت صدورهم « [ النساء: 90 ] . » متاعا لكم « أي منفعة لكم » ولأنعامكم « من الإبل والبقر والغنم. و » متاعا « نصب على المصدر من غير اللفظ؛ لأن معنى » أخرج منها ماءها ومرعاها « أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.»

الآيات: 34 - 36 ( فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى )

قوله تعالى: « فإذا جاءت الطامة الكبرى » أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء، فتعم ما سواها لعظم هولها؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم:

جرى الوادي فطمَّ على القريِّ

المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت؛ قال:

إن بعض الحب يعمي ويصم وكذاك البغض أدهى وأطم

« يوم يتذكر الإنسان ما سعى » أي ما عمل من خير أو شر. « وبرزت الجحيم » أي ظهرت. « لمن يرى » قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب « فإذا جاءت الطامة » محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: « وبرزت الجحيم » . عكرمة: وغيره: « لمن ترى » بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.

الآيات: 37 - 41 ( فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى )
قوله تعالى: « فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا » أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.

وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال « لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك » . « فإن الجحيم هي المأوى » أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.

قوله تعالى: « وأما من خاف مقام ربه » أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: « ولمن خاف مقام ربه جنتان » [ الرحمن : 46 ] . « ونهى النفس عن الهوى » أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة؛ لقوله عز وجل: « وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى » قال عبدالله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. « فإن الجنة هي المأوى » أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه؛ فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. « وأما من خاف مقام ربه » فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال: ( عند الله أحتسبك ) وقال لأصحابه: ( لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب ) . وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية « وأما من خاف مقام ربه » في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: « وأما من خاف مقام ربه » . وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.

الآيات: 42 - 46 ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها )
قوله تعالى: « يسألونك عن الساعة أيان مرساها » قاله ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: « فيم أنت من ذكراها » ؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية « إلى ربك منتهاها » . ومعنى « مرساها » أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسى السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في « الأعراف » بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك ) . « فيم أنت من ذكراها » أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت: « فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها » أي منتهى علمها؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.

قوله تعالى: « إلى ربك منتهاها » أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة؛ وهو كقوله تعالى: « قل إنما علمها عند ربي » [ الأعراف : 187 ] وقوله تعالى: « إن الله عنده علم الساعة » [ لقمان: 34 ] . « إنما أنت منذر من يخشاها » أي مخوف؛ وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف؛ وهو كقوله تعالى: « إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب » [ يس: 11 ] .

وقراءة العامة « منذر » بالإضافة غير منون؛ طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه؛ كقوله تعالى: « بالغ أمره » [ الطلاق: 3 ] ، و « بالغ أمره » و « موهن كيد الكافرين » [ الأنفال: 18 ] و « موهن كيد الكافرين » والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو « منذر » منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس؛ لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. « كأنهم يوم يرونها » يعني الكفار يرون الساعة « لم يلبثوا » أي في دنياهم، « إلا عشية » أي قدر عشية « أو ضحاها » أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: « لم يلبثوا إلا ساعة من نهار » [ الأحقاف: 35 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: « لم يلبثوا » في قبورهم « إلا عشية أو ضحاها » ، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب؛ يقولون: آتيك الغداة أوعشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار؛ قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 13, 2014 12:00 pm

تفسير سورة عبس للقرطبى
====


الآيات: 1 - 4 ( عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى )
« عبس » أي كلح بوجهه؛ يقال: عبس وبسر. وقد تقدم. « وتولى » أي أعرض بوجهه « أن جاءه » « أن » في موضع نصب لأنه مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى، أي الذي لا يبصر بعينيه. فروى أهل التفسير أجمع أن قوما من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبدالله بن أم مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عبدالله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية. قال مالك: إن هشام بن عروة حدثه عن عروة، أنه قال: نزلت « عبس وتولى » في ابن أم مكتوم؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: [ يا فلان، هل ترى بما أقول بأسا ] ؟ فيقول: [ لا والدمي ما أرى بما تقول بأسا ] ؛ فأنزل الله: « عبس وتولى » . وفي الترمذي مسندا قال: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، قال هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: نزلت « عبس وتولى » في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل، يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: [ أترى بما أقول بأسا ] فيقول: لا؛ ففي هذا نزلت؛ قال: هذا حديث غريب.

الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبدالله بن أم مكتوم. ويقال: عمرو بن أم مكتوم، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وعمرو هذا: هو ابن قيس بن زائدة بن الأصم، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها. وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين، يقال كان الوليد بن المغيرة. قال ابن العربي: أما قول علمائنا إنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون إنه أمية بن خلف والعباس وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد.

أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوي طمعه في إسلامهم وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد؛ فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: ( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ) . ويقول: ( هل من حاجة ) ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء.

قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: « ما كان لنبي أن يكون له أسرى » [ الأنفال: 67 ] الآية على ما تقدم. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان؛ كما قال: ( إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه ) .

قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبي إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم: « عبس وتولى » بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: « وما يدريك » أي يعلمك « لعله » يعني ابن أم مكتوم « يزكى » بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في « لعله » للكافر يعني إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرأ الحسن « آأن جاءه الأعمى » بالمد على الاستفهام فـ « أن » متعلقة بفعل محذوف دل عليه « عبس وتولى » التقدير: آأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على « وتولى » ، ولا يوقف عليه على قراءة الخبر، وهي قراءة العامة.

نظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » [ الأنعام: 52 ] وكذلك قول في سورة الكهف: « ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا » [ الكهف: 28 ] وما كان مثله، والله أعلم.

« أو يذكر » يتعظ بما تقول « فتنفعه الذكرى » أي العظة. وقراءة العامة « فتنفعه » بضم العين، عطفا على « يزكى » . وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وعيسى « فتنفعه » نصبا. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش، على جواب لعل، لأنه غير موجب؛ كقوله تعالى: « لعلي أبلغ الأسباب » [ غافر: 36 ] ثم قال: « فاطلع » [ الصافات: 55 ] .

الآيات: 5 - 10 ( أما من استغنى، فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى )
قوله تعالى: « أما من استغنى » أي كان ذا ثروة وغنى « فأنت له تصدى » أي تعرض له، وتصغي لكلامه. والتصدي: الإصغاء؛ قال الراعي:

تصدي لو ضاح كأن جبينه سراج الدجي يحني إليه الأساور

وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك؛ يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف. وقيل: من الصدى وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة « تصدى » بالتخفيف، على طرح التاء الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. « وما عليك ألا يزكى » أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. « وأما من جاءك يسعى » يطلب العلم لله « وهو يخشى » أي يخاف الله. « فأنت عنه تلهى » أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى؛ يقال: لهيت عن الشيء ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيتُ عنه وتليتُ: بمعنى.

الآيات: 11 - 16 ( كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة )

قوله تعالى: « كلا » كلمة ردع وزجر؛ أي ما الأمر كما تفعل مع الفريقين؛ أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم كان ترك الأولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد؛ قاله القشيري. والوقف على « كلا » على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على « تلهي » ثم تبتدئ « كلا » على معنى حقا. « إنها » أي السورة أو آيات القرآن « تذكرة » أي موعظة وتبصرة للخلق « فمن شاء ذكره » أي اتعظ بالقرآن. قال الجُرجاني: « إنها » أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز؛ كما قال تعالى في موضع آخر: « كلا إنه تذكرة » . ويدل على أنه أراد القرآن قوله: « فمن شاء ذكره » أي كان حافظا له غير ناس؛ وذكر الضمير، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: « فمن شاء ذكره » قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال: « في صحف » جمع صحيفة « مكرمة » أي عند الله؛ قاله السدي. الطبري: « مكرمة » في الدين لما فيها من العلم والحكم. وقيل: « مكرمة » لأنها نزل بها كرام الحفظة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ. وقيل: « مكرمة » لأنها نزلت من كريم؛ لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. وقيل: المراد كتب الأنبياء؛ دليله: « إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى » [ الأعلى:19 ] . « مرفوعة » رفيعة القدر عند الله. وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى. وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر. وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. « مطهرة » قال الحسن: من كل دنس. وقيل: مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرؤونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. « بأيدي سفرة » أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها « بأيدي سفرة » قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد في الأسفار، التي هي الكتب، وأحدهم: سافر؛ كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار.

قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقال الفراء، وأنشد:

فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغش إن مشيت

والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية. وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لأنهم يقرؤون الأسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس. وقال وهب بن منبه: « بأيدي سفرة. كرام بررة » هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة؛ ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران ] متفق عليه، واللفظ للبخاري. « كرام » أي كرام على ربهم؛ قال الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها. وروى الضحاك عن ابن عباس في « كرام » قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه. وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. « بررة » جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة؛ يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينه: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه؛ فمعنى « بررة » مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة « الواقعة » قولة تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة:79 ] أنهم الكرام البررة في كتاب مكنون. « لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة: 79 ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.

الآيات: 17 - 23 ( قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، كلا لما يقض ما أمره )

قوله تعالى: « قتل الإنسان ما أكفره » ؟ « قتل » أي لعن. وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن « قتل الإنسان » فإنما عني به الكافر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد أمن، فلما نزلت « والنجم » آرتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه « قتل الإنسان » أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة ] فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حول، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وروى أبو صالح عن ابن عباس « ما أكفره » : أي شيء أكفره؟ وقيل: « ما » تعجب؛ وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه؛ والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا؛ قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل: « ما » استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر؛ فهو استفهام توبيخ. و « ما » تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما.

قوله تعالى: « من أي شيء خلقه » أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي اعجبوا لخلقه. « من نطفة » أي من ماء يسير مهين جماد « خلقه » فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. « فقدره » في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا. وقيل: « فقدره » أي فسواه كما قال: « أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا » . وقال: « الذي خلقك فسواك » . وقيل: « فقدره » أطوارا أي من حال إلى حال؛ نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. « ثم السبيل يسره » قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر؛ أي بين له ذلك. دليله: « إنا هديناه السبيل » و « هديناه النجدين » . وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام. وقال أبو بكر بن طاهر يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه؛ دليله قوله عليه السلام: [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ] .

قوله تعالى: « ثم أماته فأقبره » أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي؛ قال الفراء. وقال أبو عبيدة: « أقبره » : جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبدالرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا؛ فقال: دونكموه. وقال: « أقبره » ولم يقل قبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:

لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر

يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا؛ تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. « ثم إذا شاء أنشره » أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة « أنشره » بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة « شاء نشره » بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى؛ يقال: أنشر الله الميت ونشره؛ قال الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

قوله تعالى: « كلا لما يقض ما أمره » قال مجاهد وقتادة: « لما يقض » : لا يقضي أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: « لما يقض ما أمره » لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: « كلا » ردع وزجر، أي ليس الأمر: كما يقول الكافر؛ فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: « ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى » [ فصلت: 50 ] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي. وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. و « ما » في قوله: « لما » عماد للكلام؛ كقوله تعالى: « فبما رحمة من الله » [ آل عمران: 159 ] وقول: « عما قليل ليصبحن نادمين » [ المؤمنون: 40 ] . وقال الإمام ابن فورَك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على « كلا » قبيح، والوقف على « أمره » و « نشره » جيد؛ فـ « كلا » على هذا بمعنى حقا.

الآيات: 24 - 32 ( فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم )

قوله تعالى: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يسر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد. وروي عن الحسن ومجاهد قالا: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » أي إلى مدخله ومخرجه. وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا ضحاك ما طعامك ) قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن؛ قال: ( ثم يصير إلى ماذا ) قلت إلى ما قد علمته؛ قال: ( فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ) . وقال أبي بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير ] . وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه؛ قال: يأتيه الملك فيقول أنظر ما بخلت به إلى ما صار؟

قوله تعالى: « أنا صببنا الماء صبا » قراءة العامة « إناء » بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب « أنا » بفتح الهمزة، فـ « أنا » في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال: « فلينظر الإنسان إلى طعامه » إلى « أنا صببنا » فلا يحسن الوقف على « طعامه » من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت « أنا » بإضمار هو أنا صببنا؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي « أني » فقال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على « طعامه » تام. ويقال: معنى « أني » أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه؛ وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء؛ قال الكميت:

أني، ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب

« صببنا الماء صبا » : يعني الغيث والأمطار. « ثم شققنا الأرض شقا » أي بالنبات « فأنبتنا فيها حبا » أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر « وعنبا وقضبا » وهو القت والعلف، عن الحسن: سمو، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل: القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا،يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح: والقضة والقضب الرطبة، وهي الإسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. « وزيتونا » وهي شجرة الزيتون « ونخلا » يعني النخيل « وحدائق » أي بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. « غلبا » عظاما شجرها؛ يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا؛ قال العجاج:

ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي والرأس حتى صرت مثل الأغلب

ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير؛ قال قال عمرو بن معدي كرب:

يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم بزل كُسِين من الكحيل جِلالا

وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ وألتف البعض بالبعض.

قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. « وفاكهة » أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما « وأبا » هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا

وقيل: إنما سمي أبا؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم: أخوان؛ قال:

جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرع

وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام. وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة. وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا؛ قال الشاعر:

فما لهم مرتع للسوا م والأب عندهم يقدر

الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها.

وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.

وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع ) . وإنما أراد بقول: ( خلقتم من سبع ) يعني « من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة » [ الحج: 5 ] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: « قأنبتنا فيها حبا وعنبا » إلى قوله: « وفاكهة » ثم قال: « وأبا » وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. « متاعا لكم » نصب على المصدر المؤكد، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.

الآيات: 33 - 42 ( فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة )
قوله تعالى: « فإذا جاءت الصاخة » لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: ( ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ) . وقال الشاعر:

يصيخ للنبأة أسماعه إصاخة المنشد للمنشد

قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز:

يا جارتي هل لك أن تجالدي جلادة كالصك بالجلامد

ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:

أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا

وقال آخر:

أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصمما

لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.

قوله تعالى: « يوم يفر المرء من أخيه » أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده: « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا؛ كما قال: « يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا » [ الدخان: 41 ] . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.

وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ] قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [ يا عائشة، الأم أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ] . خرجه الترمذي. عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يحشرون حفاة عراة غرلا ] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [ يا فلانة ] « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد « يعنيه » بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه؛ قال خفاف:

سيعنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى: « وجوه يومئذ مسفرة » أي مشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. « ضاحكة » أي مسرورة فرحة. « مستبشرة » : أي بما آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني: « مسفرة » من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك: من آثار الوضوء. ابن عباس: من قيام الليل؛ لما روي في الحديث: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] يقال: أسفر الصبح إذا أضاء. « ووجوه يومئذ عليها غبرة » أي غبار ودخان « ترهقها » أي تغشاها « قترة » أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا: ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب: الغبار، جمع القترة، عن أبي عبيد؛ وأنشد الفرزدق:

متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا

وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم، القترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغبرة: واحد. « أولئك هم الكفرة » جمع كافر « الفجرة » جمع فاجر، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل: الفاسق؛ [ يقال ] : فجر فجورا: أي فسق، وفجر: أي كذب. وأصله: الميل، والفاجر: المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 13, 2014 11:02 pm

تفسير سورة التكوير للقرطبى
=====

مقدمة السورة
وفي الترمذي: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلي يوم القيامة [ كأنه رأي عين ] فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت ) . قال: هذا حديث حسن [ غريب ] .

الآيات: 1 - 14 ( إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت، علمت نفس ما أحضرت )
قوله تعالى: « إذا الشمس كورت » قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. والحسن: ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد: وروي عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير: عورت. أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم: « كورت رمي بها؛ ومنه: كورته فتكور؛ أي سقط.»

قلت: وأصل التكوير: الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح: كورت: نكست.

« وإذا النجوم انكدرت » أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة: أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا:

أبصر خربان فضاء فانكدر تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا ) ، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تساقطت؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا جاءت النفخة الأولى مات، من في الأرض ومن في السموات، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا: انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب.
قوله تعالى: « وإذا الجبال سيرت » يعني قلعت من الأرض، وسيرت في الهواء؛ وهو مثل قوله تعالى: « ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة » [ الكهف: 47 ] . وقيل: سيرها تحولها عن منزلة الحجارة، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن، وتكون هباء منثورا، وتكون سرابا، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمنا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. « وإذا العشار عطلت » أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها؛ الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك؛ يقول الرجل لفرسه وقد قرح: هاتوا مهري وقربوا مهري، ويسميه بمتقدم اسمه؛ قال عنترة:

لا تذكري مهري وما أطمعته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

وقال أيضا:

وحملت مهري وسطها فمضاها

وإنما خص العشار بالذكر؛ لأنها أعزما تكون على العرب، وليس عطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المئل؛ أن هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل: إنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضا، ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبؤوا بها، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس: عطلت: عطلها أهلها، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى:

هو الواهب المائة المصطفا ة إما مخاضا وإما عشارا

وقال آخر:

ترى المرء مهجورا إذا قل ماله وبيت الغني يهدي له ويزار

وما ينفع الزوار مال مزورهم إذا سرحت شول له وعشار

يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوان، نوق عشار وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشبوا: أي صارت عشراء. وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل: الديار تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر، وعليه من الناس الأكثر.
قوله تعالى: « وإذا الوحوش حشرت » أي جمعت والحشر: الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: حشرها: موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شيء: الموت غير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال: يحشر كل شيء حتى الذباب. قال ابن عباس: تحشر الوحوش غدا: أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة، وقد بيناه في كتاب « التذكرة » مستوفى، ومضى في سورة « الأنعام » بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل: عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها في الصحاري، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب.
قوله تعالى: « وإذا البحار سجرت » أي ملئت من الماء؛ والعرب تقول: سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سجرت: فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين: سجرت: حقيقته ملئت، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل: أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد: أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري: وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى: « بينهما برزخ لا يبغيان » [ الرحمن: 20 ] ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار، فعمت الأرض كلها، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل: صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان: تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري: وهو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس: وقد تكون الأقوال متفقة؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض، بعضها إلى بعض، فتقلب نارا. قلت: ثم سير الجبال حينئذ، كما ذكر القشيري، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه: أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس: يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث: ( يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا، فتلك نارا، فتلك نار الله الكبرى، التي يعذب بها الكفار ) . قال القشيري: قيل في تفسير قول ابن عباس « سجرت » أوقدت، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا، فإذا أنقضت الدنيا سجرت، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر: البحر نار. في نار. وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم وسط الأرض، أسفله آبار مطبقة بنحاس يسجر نارا يوم القيامة. وقيل: تكون الشمس في البحر، فيكون البحر نارا بحر الشمس. ثم جميع ما في هذه الآيات يجوز أن يكون في الدنيا قبل يوم القيامة ويكون من أشراطها، ويجوز أن يكون يوم القيامة، وما بعد هذه الآيات فيكون في يوم القيامة. قلت: روي عن عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال أبي بن كعب: ست آيات من قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم ذهب ضوء الشمس وبدت النجوم فتحيروا ودهشوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذ تناثرت النجوم وتساقطت، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت واحترقت، فصارت هباء منثورا، ففزعت الإنس إلى الجن والجن إلى الإنس، واختلطت الدواب والوحوش والهوام والطير، وماج بعضها في بعض؛ فذلك قوله تعالى: « وإذا الوحوش حشرت » ثم قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلي، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم. وقيل: معنى « سجرت » : هو حمرة مائها، حتى تصير كالدم؛ مأخوذ من قولهم: عين سجراء: أي حمراء. وقرأ ابن كثير « سجرت » وأبو عمرو أيضا، إخبارا عن حالها مرة واحدة. وقرأ الباقون بالتشديد إخبارا عن حالها في تكرير ذلك منها مرة بعد أخرى.
قوله تعالى: « وإذا النفوس زوجت » قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم « وإذا النفوس زوجت » قال: ( يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله ) . وقال عمر بن الخطاب: يقرن الفاجر مع الفاجر، ويقرن الصالح مع الصالح. وقال ابن عباس: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج. وعنه أيضا قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرن الكافر بالشياطين، وكذلك المنافقون وعنه أيضا: قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله؛ فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله؛ والمعنى: وإذا النفوس قرنت إلى أشكالها في الجنة والنار. وقيل: يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان، كما قال تعالى: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] . وقال عبدالرحمن بن زيد: جعلوا أزواجا على أشباه أعمالهم ليس بتزويج، أصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج، والسابقون زوج؛ وقد قال جل ثناؤه: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] أي أشكالهم. وقال عكرمة: « وإذا النفوس زوجت » قرنت الأرواح بالأجساد؛ أي ردت إليها. وقال الحسن: ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصاري بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد شيئا من دون الله يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان، على جهة البغض والعداوة، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين. وقيل: قرنت النفوس بأعمالها، فصارت لاختصاصها به كالتزويج.
قوله تعالى: « وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت » الموؤودة المقتولة؛ وهي الجارية تدفن وهي حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءدها أي يثقلها حتى تموت؛ ومنه قوله تعالى: « ولا يؤوده حفظهما » [ البقرة: 255 ] أي لا يثقله؛ وقال متمم بن نويرة:

وموؤودة مقبورة في مفازة بآمتها موسودة لم تمهد

وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى في سورة « النحل » هذا المعنى، عند قوله تعالى: « أم يدسه في التراب » [ النحل: 59 ] مستوفى. وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا، ويمنعون منه، حتى افتخر به الفرزدق، فقال:

ومنا الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأَد

يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن. فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة. وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته، ومنه قوال الراجز: سميتها إذ ولدت تموت والقبر صهر ضامن زميت الزميت الوقور، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم، وما أشد تزمته؛ عن الفراء. وقال قتادة: كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاتبهم الله على ذلك، وتوعدهم بقوله: « وإذا الموؤودة سئلت » قال عمر في قوله تعالى: « وإذا الموؤودة سئلت » قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية، قال: ( فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة ) قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، قال: ( فأهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت ) .

وقوله تعالى: « سئلت » سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ قال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنب. وقال ابن أسلم: بأي ذنب ضربت، وكانوا يضربونها. وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: « سئلت » قال: طلبت؛ كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل. قال: وهو كقوله: « وكان عهد الله مسؤولا » [ الأحزاب: 15 ] أي مطلوبا. فكأنها طلبت منهم، فقيل أين أولادكم؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح « وإذا الموؤودة سألت » فتتعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب قتلتني؟! فلا يكون له عذر؛ قال ابن عباس وكان يقرأ « وإذا الموؤودة سألت » وكذلك هو في مصحف أبي. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها، ملطخا بدمائه، فيقول يا رب، هذه أمي، وهذه قتلتني ) . والقول الأول عليه الجمهور، وهو مئل قوله تعالى لعيسى: « أأنت قلت للناس » ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب، فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها. والله أعلم. وقرئ « قتلت » بالتشديد، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب.
قوله تعالى: « وإذا الصحف نشرت » أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوي بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: « مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها » [ الكهف: 49 ] . وروى مرثد بن وداعة قال: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده « في جنة عالية » [ الحاقة: 22 ] إلى قوله: « الأيام الخالية » [ الحاقة: 24 ] وتقع صحيفة الكافر في يده « في سموم وحميم » إلى قوله « ولا كريم » [ الواقعة: 42 ] . وروي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة ) فقلت: يا رسول الله فكيف بالنساء؟ قال: ( شغل الناس يا أم سلمة ) . قلت: وما شغلهم؟ قال: ( نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل ) . وقد مضى في سورة « الإسراء » قول أبي الثوار العدوي: هما نشرتان وطية، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت، حتى إذا بعثت نشرت « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] . وقال مقاتل: إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وقرأ نافع وابن عام وعاصم وأبو عمرو « نشرت » مخففة، على نشرت مرة واحدة، لقيام الحجة. الباقون بالتشديد، على تكرار النشر، للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع. وقيل: لتكرار ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه.
قوله تعالى: « وإذا السماء كشطت » الكشط: قلع عن شدة التزاق؛ فالسماء تكشط كما يكشط الجلد عن الكبش وغيره والقشط: لغة فيه. وفي قراءة عبدالله « وإذا السماء قشطت » وكشطت البعير كشطا: نزعت جلده ولا يقال سلخته؛ لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، وانكشط: أي ذهب؛ فالسماء تنزع من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء. وقيل: تطوى كما قال تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » [ الأنبياء: 104 ] فكأن المعنى: قلعت فطويت. والله أعلم.

قوله تعالى: « وإذا الجحيم سعرت » أي أو قدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها. يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مدة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أوقد على النار ألف سنة حتى أحمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت، فهي سوداء مظلمة « وروي موقوفا.»

قوله تعالى: « وإذا الجنة أزلفت » أي دنت وقربت من المتقين. قال الحسن: إنهم يقربون منها؛ لا أنها تزول عن موضعها. وكان عبدالرحمن بن زيد يقول: زينت: أزلفت؟ والزلفى في كلام العرب: القربة قال الله تعالى: « وأزلفت الجنة للمتقين » [ الشعراء:90 ] ، وتزلف فلان تقرب.

قوله تعالى: « علمت نفس ما أحضرت » يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب « إذا الشمس كورت » وما بعدها. قال عمر رضي الله عنه لهذا أجري الحديث. وروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما قرآها، فلما بلغا « علمت نفس ما أحضرت » قالا لهذا أجريت القصة؛ فالمعنى على هذا إذا الشمس كورت وكانت هذه الأشياء، علمت نفس ما أحضرت من عملها. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ما بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه [ وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ] بين يديه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن: يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل ) وقال الحسن: « إذ الشمس كورت » وقع على قوله: « علمت نفس ما أحضرت » كما يقال: إذا نفر زيد نفر عمرو. والقول الأول أصح. وقال ابن زيد عن ابن عباس في قوله تعالى: « إذا الشمس كورت » إلى قوله: « وإذا الجنة أزلفت » اثنتا عشرة خصلة: ستة في الدنيا، وستة في الآخرة؛ وقد بينا الستة الأولى بقول أبي بن كعب.

الآيات: 15 - 22 ( فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون )
قوله تعالى: « فلا أقسم » أي أقسم، و « لا » زائدة، كما تقدم. « بالخنس، الجوار الكنس » هي الكواكب الخمسة الدراري: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة، فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي كرم الله وجهه. وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان: أحدهما: لأنها تستقبل الشمس؛ قاله بكر بن عبدالله المزني. الثاني: لأنها تقطع المجرة؛ قال ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنس في وقت غروبها؛ أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى. وفي الصحاح: « الخنس » : الكواكب كلها. لأنها تخنس في آن قيب، أو لأنها تخنس نهارا. ويقال: هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة. وقال الفراء في قوله تعالى: « فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس » : إنها النجوم الخمسة؛ زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد؛ لأنها تخنس في مجراها، وتكنس، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار، وهو الكناس. ويقال: سميت خنسا لتأخرها، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم، يقال: خنس عنه يحنس بالضم خنوسا: تأخر، وأخنسه غيره: إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس. وقد روي عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى: « فلا أقسم بالخنس » هي بقر الوحش. روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: قال لي عبدالله بن مسعود: إنكم قوم عرب فما الخنس؟ قلت: هي بقر الوحش؛ قال: وأنا أرى ذلك. وقال إبراهيم وجابر بن عبدالله. وروي عن ابن عباس: إنما أقسم الله ببقر الوحش. وروى عنه عكرمة قال: « الخنس » : البقر و « الكنس » : هي الظباء، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وأنقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن. القشيري: وقيل على هذا « الخنس » من الخنس في الأنف، وهو تأخرن الأرنبة وقصر القصبة، وأنوف البقر والظباء خنس. والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك.

قلت: لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك. وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبدالله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء. وعن الحجاج بن منذر قال: سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس، فقال: الظباء والبقر، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم. وقد قيل: إنها الملائكة؛ حكاه الماوردي. والكنس الغيب؛ مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه. قال أوس بن حجر:

ألم تر أن الله أنزل مزنه وغفر الظباء في الكناس تقمع

وقال طرفة:

كأن كناسي ضالة يكنفانها وأطرقسي تحت صلب مؤيد

وقيل: الكنوس أن تأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى في ذلك:

فلما أتينا الحي أتلع أنس كما أتلعت تحت المكانس ربرب

يقال: تلع. النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها: أي سمت بجيدها. وقال أمرو القيس:

تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه يثير التراب عن مبيت ومكنس

والكنس: جمع كانس وكانسة، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة. والجواري: جمع جارية من جرى يجري. « والليل إذا عسعس » قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر؛حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا: إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي: « والليل إذا عسعس » أدبر بظلامه؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما أيضا وعن الحسن وغيره: أقبل بظلامه. زيد بن أسلم: « عسعس » ذهب. الفراء: العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره: عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره؛ وقال علقمة بن قرط:

حتى إذا الصبح لها تنفسا وأنجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال روبة:

يا هند ما أسرع ما تسعسعا من بعد ما كان فتى سرعرعا

وهذه حجة الفراء. وقال امرؤ القيس:

عسعس حتى لو يشاء ادَّنا كان لنا من ناره مقبس

فهذا يدل على الدنو. وقال الحسن ومجاهد: عسعس: أظلم، قال الشاعر:

حتى إذا ما ليلهن عسعسا ركبن من حد الظلام حندسا

الماوردي: وأصل العس الامتلاء؛ ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه؛ وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه؛ لاستكمال امتلائه به. وأما قول امرئ القيس.

ألما على الربع القديم بعسعسا

فموضع بالبادية. وعسعس أيضا اسم رجل؛ قال الرجز:

وعسعس نعم الفتى تبياه

أي تعتمده. ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو: والتعسعس الشم، وأنشد:

كمنخر الذنب إذا تعسعسا

والتعسعس أيضا: طلب الصيد [ بالليل ] .
قوله تعالى: « والصبح إذا تنفس » أي امتد حتى يصير نهارا واضحا؛ يقال للنهار إذا زاد: تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء. ومعن التنفس: خروج النسيم من الجوف. وقيل: « إذا تنفس » أي انشق وانفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت. « إنه لقول رسول كريم » هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قال الحسن وقتادة والضحاك. والمعنى « إنه لقول رسول » عن الله « كريم » على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقول « تنزيل من رب العالمين » [ الواقعة: 80 ] ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل. وقيل: هو محمد عليه الصلاة والسلام « ذي قوة » من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه. « عند ذي العرش » أي عند الله جل ثناؤه « مكين » أي ذي منزلة ومكانة؛ فروي عن أبي صالح قال: يدخل سبعين سرادقا بغير إذن. « مطاع ثم » أي في السموات؛ قال ابن عباس: من طاعة الملائكة جبريل، أنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له، ففتح، فدخل ورأى ما فيها، وقال لمالك خازن النار: افتح له جهنم حتى ينظر إليها، فأطاعه وفتح له. « أمين » أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به. ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى « ذي قوة » على تبليغ الرسالة « مطاع » أي يطيعه من أطاع الله جل وعز. « وما صاحبكم بمجنون » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بمجنون حتى يتهم في قول. وهو من جواب القسم. وقيل: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال: ما ذاك إلي؛ فإذن له الرب جل ثناؤه، فأتاه وقد سد الأفق، فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فقال المشركون: إنه مجنون، فنزلت: « إنه لقول رسول كريم » « وما صاحبكم بمجنون » وإنما رأى جبريل على صورته فهابه، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته، فخر مغشيا عليه.

الآيات: 23 - 29 ( ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين )
قوله تعالى: « ولقد رآه بالأفق المبين » أي رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح. « بالأفق المبين » أي بمطلع الشمس من قبل المشرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين. أي من جهته ترى الأشياء. وقيل: الأفق المبين: أقطار السماء ونواحيها؛ قال الشاعر:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع

الماوردي: فعلى هذا، فيه ثلاثة أقاويل أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي؛ قاله سفيان. الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة؛ قاله مجاهد. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: « إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء » قال: لن تقدر على ذلك. قال: « بلى » قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: « بالأبطح » قال: لا يسعني. قال: « فبمنى » قال: لا يسعني. قال: « فبعرفات » قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو قد أقبل بخشخشة وكلكلة من جبال عرفات، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورته، وضمه إلى صدره. وقال: يا محمد لا تخف؛ فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرضى السابعة، وإن العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من خشية الله، حتى يصير مثل الوصع - يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إن محمدا عليه السلام رأى ربه عز وجل بالأفق المبين. وهو معنى قول ابن مسعود. وقد مضى القول في هذا في « والنجم » مستوفى، فتأمله هناك. وفي « المبين » قولان: أحدهما أنه صفة الأفق؛ قال الربيع. الثاني أنه صفة لمن رآه؛ قاله مجاهد. « وما هو على الغيب بظنين » : بالظاء، قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، أي بمتهم، والظنة التهمة؛ قال الشاعر:

أما وكتاب الله لا عن سناءة هجرت ولكن الظنين ظنين

واختاره أبو عبيد؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه؛ ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم. وقرأ الباقون « بضنين » بالضاد: أي ببخيل من ضننت بالشيء أضن ضنا [ فهو ] ضنين. فروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يضن عليكم بما يعلم، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه. وقال الشاعر:

أجود بمكنون الحديث وإنني بسرك عمن سالني لضنين

والغيب: القرآن وخبر السماء. ثم هذا صفة محمد عليه السلام. وقيل: صفة جبريل عليه السلام. وقيل: بظنين: بضعيف. حكاه الفراء والمبرد؛ يقال: رجل ظنين: أي ضعيف. وبئر ظنون: إذا كانت قليلة الماء؛ قال الأعشى:

ما جعل الجد الظنون الذي جنب صوب اللجب الماطر

مثل الفراتي إذا ما طما يقذف بالبوصي والماهر

والظنون: الدين الذي لا يدري أيقضيه آخذه أم لا؟ ومنه حديث علي عليه السلام في الرجل يكون له الدين الظنون، قال: يزكيه لما مضى إذا قبضه إن كان صادقا. والظنون: الرجل السيء الخلق؛ فهو لفظ مشترك.
قوله تعالى: « وما هو » يعني القرآن « بقول شيطان رجيم » أي مرجوم ملعون، كما قالت قريش. قال عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه. « فأين تذهبون » قال قتادة: فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته. كذا روى معمر عن قتادة؛ أي أين تذهبون عن كتابي وطاعتي. وقال الزجاج: فأي طريقة تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم. ويقال: أين تذهب؟ وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق: أي إليها. قال: سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة؛ وأنشدني بعض بني عقيل:

تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا وأي الأرض تذهب بالصياح

يريد إلى أي أرض تذهب، فحذف إلى. وقال الجنيد: معنى الآية مقرون بآية أخرى؛ وهي قوله تعالى: « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » [ الحجر: 21 ] المعنى: أي طريق تسلكون أبين من الطريق الذي بينه الله لكم. وهذا معنى قول الزجاج. « إن هو » يعني القرآن « إلا ذكر للعالمين » أي موعظة وزجر. و « إن » بمعنى « ما » . وقيل: ما محمد إلا ذكر. « لمن شاء منكم أن يستقيم » أي يتبع الحق ويقيم عليه. وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت « لمن شاء منكم أن يستقيم » قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم - وهذا هو القدر؛ وهو رأس القدرية - فنزلت: « وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين » ، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه. وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها. وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: « ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله » [ الأنعام: 111 ] . وقال تعالى: « وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله » [ يونس: 100 ] . وقال تعالى: « إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء » [ القصص: 56 ] والآي في هذا كثير، وكذلك الأخبار، وأن الله سبحانه هدى بالإسلام، وأضل بالكفر، كما تقدم في غير موضع. ختمت السورة والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 15, 2014 12:01 am

تفسير سورة الانفطار للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 5 ( إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت )

قوله تعالى: « إذا السماء انفطرت » أي تشققت بأمر الله؛ لنزول الملائكة؛ كقول: « ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا » [ الفرقان: 25 ] . وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق؛ يقال: فطرته فانفطر؛ ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: شقق، وسيف فطار أي فيه شقوق؛ قال عنترة:

وسيفي كالعقيقة وهو كمعي سلاحي لا أفل ولا فطارا

وقد تقدم في غير موضع. « وإذا الكواكب انتثرت » أي تساقطت؛ نثرت الشيء أنثره نثرا، فانتثر،والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء، ودر منثر، شدد للكثرة. « وإذا البحار فجرت » أي فجر بعضها في بعض، فصارت بحرا واحدا، على ما تقدم. قال الحسن: فجرت: ذهب ماؤها ويبست؛ وذلك أنها أولا راكدة مجتمعة؛ فإذا فجرت تفرقت، فذهب ماؤها. وهذه الأشياء بين يدي الساعة، على ما تقدم في « إذا الشمس كورت » [ التكوير: 1 ] . « وإذا القبور بعثرت » أي قلبت وأخرج ما فيها من أهلها أحياء؛ يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض وبحثرته: إذا هدمته وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء: « بعثرت » : أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة. وذلك من أشراط الساعة: أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها. « علمت نفس ما قدمت وأخرت » مثل: « ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر » [ القيامة: 13 ] . وتقدم. وهذا جواب « إذا السماء أنفطرت » لأنه قسم في قول الحسن وقع على قوله تعالى: « علمت نفس » يقول: إذا بدت هذه الأمور من أشراط الساعة ختمت الأعمال فعلمت كل نفس ما كسبت؛ فإنها لا ينفعها عمل بعد ذلك. وقيل: أي إذا كانت هذه الأشياء قامت القيامة، فحوسبت كل نفس بما عملت، وأوتيت كتابها بيمينها أو بشمالها، فتذكرت عند قراءته جميع أعمالها. وقيل: هو خبر، وليس بقسم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

الآيات: 6 - 9 ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، كلا بل تكذبون بالدين )

قوله تعالى: « يا أيها الإنسان » خاطب بهذا منكري البعث. وقال ابن عباس: الإنسان هنا: الوليد بن المغيرة. وقال عكرمة: أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي. عن ابن عباس أيضا: « ما غرك بربك الكريم » أي ما الذي غرك حتى كفرت؟ « بربك الكريم » أي المتجاوز عنك. قال قتادة: غرة شيطانه المسلط عليه. الحسن: غرة شيطانه الخبيث. وقيل: حمقه وجهله. رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه. وروى غالب الحنفي قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم » [ الانفطار: 6 ] قال: « غره الجهل » وقال صالح بن مسمار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه قرأ « يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم » ؟ فقال: « غره جهله » . وقال عمر رضي الله عنه: كما قال الله تعالى « إنه كان ظلوما جهولا » [ الأحزاب: 72 ] . وقيل: غره عفو الله، إذ لم يعاقبه في أول مرة. قال إبراهيم بن الأشعث: قيل: للفضيل بن عياض: لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه، فقال لك: « ما غرك بربك الكريم » ؟ [ الانفطار: 6 ] ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة، لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك فقال:

يا كاتم الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا

وقال ذو النون المصري: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر

وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري:

يا من غلا في العجب والتيه وغره طول تماديه

أملى لك الله فبارزته ولم تخف غب معاصيه

وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لم تجبني؟ فقال. لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه فأعتقه. وناس يقولون: ما غرك: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ « الذي خلقك » أي قدر خلقك من نطفة « فسواك » في بطن أمك، وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك « فعدلك » أي جعلك معتدلا سوى الخلق؛ كما يقال: هذا شيء معدل. وهذه قراءة العامة وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ قال الفراء: وأبو عبيد: يدل عليه قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] . وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي: « فعدلك » مخففا أي: أمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا. وقال [ موسى بن علي بن أبي رباح اللخمي عن أبيه عن جده ] قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم » . أما قرأت هذه الآية « في أي صورة ما شاء ركبك » فيما بينك وبين آدم، وقال عكرمة وأبو صالح: « في أي صورة ما شاء ركبك » إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى. قال مجاهد: « في أي صورة » أي في أي شبه من أب أو أم أو عم أو خال أو غيرهم. و « في » متعلقة بـ « ركب » ، ولا تتعلق بـ « عدلك » ، على قراءة من خفف؛ لأنك تقول عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلت في كذا؛ ولذلك منع الفراء التخفيف؛ لأنه قدر « في » متعلقة بـ « عدلك » ، و « ما » يجوز أن تكون صلة مؤكدة؛أي في أي صورة شاء ركبك. ويجوز أن تكون شرطية أي إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة قرد أو حمار أو خنزير، فـ « ما » بمعنى الشرط والجزاء؛ أي في صورة ما شاء يركبك ركبك.

قوله تعالى: « كلا بل تكذبون بالدين » يجوز أن تكون « كلا » بمعنى حقا و « ألا » فيبتدأ بها. ويجوز أن تكون بمعنى « لا » ، على أن يكون المعنى ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: « ما غرك بربك الكريم » [ الانفطار: 6 ] وكذلك يقول الفراء: يصير المعنى: ليس كما غررت به. وقيل: أي ليس الأمر كما يقولون، من أنه لا بعث. وقيل: هو بمعنى الردع والزجر. أي لا وقتروا بحلم الله وكرمه، فتتركوا التفكر في آياته. ابن الأنباري: الوقف الجيد على « الدين » ، وعلى « ركبك » ، والوقف على « كلا » قبيح. « بل تكذبون » يا أهل مكة « بالدين » أي بالحساب، و « بل » لنفي شيء تقدم وتحقيق غيره. وإنكارهم للبعث كان معلوما، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة.

الآيات: 10 - 12 ( وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون )

قوله تعالى: « وإن عليكم لحافظين » أي رقباء من الملائكة « كراما » أي علي؛ كقوله: « كرام بررة » [ عبس: 16 ] . وهنا ثلاث مسائل:

الأولى: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حدى حالتين: الخراءة أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم [ حائط ] أو بغيره، أو ليستره أخوه ) . وروي عن علي رضي الله عنه قال: ( لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة ) وروي ( إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه ) .

الثانية: واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد؛ قال الله تعالى: « يعرف المجرمون بسيماهم » [ الرحمن: 41 ] . وقيل: بل عليهم حفظة؛ لقوله تعالى: « كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون » [ الانفطار: 9 - 12 ] . وقال: « وأما من أوتي كتابه بشمال » [ الحاقة: 25 ] وقال: « وأما من أوتي كتابه وراء ظهره » [ الإنشقاق:10 ] ، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شمال يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب. والله أعلم.

الثالثة: سئل سفيان: كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة؟ قال: إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن. وقد مضى في « ق » قوله: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] زيادة بيان لمعنى هذه الآية. وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع، لمفارقة الملك العبد عند ذلك. وقد مضى في آخر « آل عمران » القول في هذا. وعن الحسن: يعلمون لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم. وقيل: يعلمون ما ظهر منكم دون ما حدثتم به أنفسكم. والله أعلم.


الآيات: 13 - 19 ( إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم، يصلونها يوم الدين، وما هم عنها بغائبين، وما أدراك ما يوم الدين، ثم ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله )

قوله تعالى: « إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم » تقسيم مثل قوله: « فريق في الجنة وفريق في السعير » [ الشورى: 7 ] وقال: « يومئذ يصدعون » [ الروم: 43 ] الآيتين. « يصلونها » أي يصيبهم لهبها وحرها « يوم الدين » أي يوم الجزاء والحساب، وكرر ذكره تعظيما لشأنه؛ نحو قوله تعالى: « القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة » [ القارعة: 1 ] وقال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيء من القرآن من قوله: « وما أدراك » فقد أدراه. وكل شيء من قوله « وما يدريك » فقد طوي عنه. « يوم لا تملك نفس » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « يوم » بالرفع على البدل من « يوم الدين » أو ردا على اليوم الأول، فيكون صفة ونعتا لـ « يوم الدين » . ويجوز أن يرفع بإضمار هو. الباقون بالنصب على أنه في موضع رفع إلا أنه، نصب، لأنه مضاف غير متمكن؛ كما تقول: أعجبني يوم يقوم زيد. وأنشد المبرد:

من أي يومي من الموت أفر أيومَ لم يقدر أم يوم قدر

فاليومان الثانيان مخفوضان بالإضافة، عن الترجمة عن اليومين الأولين، إلا أنهما نصبا في اللفظ؛ لأنهما أضيفا إلى غير محض. وهذا اختيار الفراء والزجاج. وقال قوم: اليوم الثاني منصوب على المحل، كأنه قال في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا. وقيل: بمعنى: إن هذه الأشياء تكون يوم، أو على معنى يدانون يوم؛ لأن الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. « والأمر يومئذ لله » لا ينازعه فيه أحد، كما قال: « لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم » [ غافر:17 ] . تمت السورة والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 15, 2014 11:47 pm

تفسير سورة المطففين للقرطبى
====


الآيات: 1 - 3 ( ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )
روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: « ويل للمطففين » فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم؛ كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أو في الناس كيلا إلى يومهم هذا. وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو؛ كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه.
قوله تعالى: « ويل » أي شدة عذاب في الآخرة. وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد. أهل النار، فهو قوله تعالى: « ويل للمطففين » أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم. وروي عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه. وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث. في الموطأ قال مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: « ويل للمطففين » .
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه؛ وفي الحديث: ( كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه ) . وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ الملء طفافه؛ تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره، أي جوانبه؛ يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي.
المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفي حسب ما بيناه؛ وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ « ويل للمطففين » فقال: لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك. وقال عبدالملك بن الماجشون: نهى، رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد.
قوله تعالى: « الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون » قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال أكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك. وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل؛ والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري: « على » بمعنى عند.
قوله تعالى: « وإذا كالوهم أو وزنوهم » : أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب؛ ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه؛ قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على « كالوا » و « وزنوا » حتى تصل به « هم » قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على « كالوا » و « وزنوا » والأول الاختيار؛ لأنها حرف واحد. وهو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على « كالوا » و « وزنوا » ويبتدئ « هم يخسرون » قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط؛ وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا « كالوا » و « وزنوا » بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي؛ كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: « يخسرون » : أي ينقصون؛ والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. و ( هم ) في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره ( وإذا كانوا ) الناس ( أو وزنوهم يخسرون ) وفيه وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال:

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين؛ كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية « هم » في موضع رفع بالابتداء؛ أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح؛ لأنه تكون الأولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون.

الثانية: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر ) خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار، جبلين من نار فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، كلما ضربت أحدهما بالآخر آزداد عظما، فمات من وجعه. وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الأصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط؛ ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل. وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روي أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى « كهيعص » وقرأ في الركعة الثانية « ويل للمطففين » قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان، كان له مكيالان إذا أكتال أكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.

الآيات: 4 - 6 ( أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّب?عُوثُونَ، لِيَو?مٍ عَظِيمٍ، يَو?مَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ ال?عَالَمِينَ )

قوله تعالى: « ألا يظن أولئك » إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا « أنهم مبعوثون » فمسؤولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين؛ أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط « ليوم عظيم » شأنه وهو يوم القيامة.

قوله تعالى: « يوم يقوم الناس » العامل في « يوم » فعل مضمر، دل عليه « مبعوثون » والمعنى يبعثون « يوم يقوم الناس لرب العالمين » . ويجوز أن يكون بدلا من يوم في « ليوم عظيم » ، وهو مبني. وقيل: هو في موضع خفض؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن. وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.

وعن عبدالملك بن مروان: أن أعرابيا قال لي: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين؛ أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل.

قرأ ابن عمر: « ويل للمطففين » حتى بلغ « يوم يقوم الناس لرب العالمين » فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع ) . وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وروي عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقومون ألف عام في الظلة ) . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ) . وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقوم مائة سنة ) . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: ( كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر ) قال بشير: المستعان الله.

قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) في « سأل سائل » [ المعارج: 1 ] . وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة. وقيل: إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس؛ والدليل على هذا من الكتاب قول الحق: « ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » [ يونس: 62 ] ثم وصفهم فقال: « الذين آمنوا وكانوا يتقون » [ يونس: 63 ] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين. وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين؛ قال ابن جبير وفيه بعد؛ لما ذكرنا من الأخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم، والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم « يوم يقوم الناس لرب الله العالمين » قال: ( يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه ) . ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم. وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا. وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء.

القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس؛ فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: ( قوموا إلى سيدكم ) . وقال أيضا: ( من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) . وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك وأعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة « يوسف » شيء من هذا.

الآيات: 7 - 13 ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم، ويل يومئذ للمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين )

قوله تعالى: « كلا إن كتاب الفجار لفي سجين » قال قوم من أهل العلم بالحربية: « كلا » ردع وتنبيه، أي ليس الأم على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك. فهي كلمة ردع وزجر، ثم استأنف فقال: « إن كتاب الفجار » . وقال الحسن: « كلا » بمعنى حقا. وروى ناس عن ابن عباس « كلا » قال: ألا تصدقون؛ فعلى هذا: الوقف « لرب العالمين. وفي تفسير مقاتل: إن أعمال الفجار. وروى ناس عن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم » لفي سجين « . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها. ونحوه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب؛ قال كعب: تحتها أرواح الكفار تحت خد إبليس. وعن كعب أيضا قال: سجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تلقى أنفس، الكفار عندها. وقال سعيد بن جبير: سجين تحت خد إبليس. يحيى بن سلام: حجر أسود تحت الأرض، يكتب فيه أرواح الكفار. وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السابعة السفلى، وفيها إبليس وذريته. وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، وهي آخر سلطان إبليس، فأثبتوا فيها كتابه. وعن كعب الأحبار في هذه الآية قال: إن روح الفاجر إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل في سبع أرضين، حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس. فيخرج لها من سجين من تحت خد إبليس رق، فيرقم فيوضع تحت خد إبليس. وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم. قال مجاهد: المعنى عملهم تحت الأرض السابعة لا يصعد منها شيء. وقال: سجين صخرة في الأرض السابعة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سجين جب في جهنم وهو مفتوح ) وقال في الفلق: ( إنه جب مغطى ) . وقال أنس: هي دركة في الأرض السفلي. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سجين أسفل الأرض السابعة ) . وقال عكرمة: ( سجين: خسار وضلال؛ كقولهم لمن سقط قدره: قد زلق بالحضيض. وقال أبو عبيدة والأخفش والزجاج: » لفي سجين « لفي حبس وضيق شديد، فعيل من السجين؛ كما يقول: فسيق وشريب؛ قال ابن مقبل: »

ورفقة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصت به الأبطال سجينا

والمعنى: كتابهم في حبس؛ جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم، أو لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان. وقيل: أصله سجيل، فأبدلت اللام نونا. وقد تقدم ذلك. وقال زيد بن أسلم: سجين في الأرض السافلة، وسجيل في السماء الدنيا. القشيري: سجين: موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون. وهذا دليل على خبث أعمالهم، وتحقير الله إياها؛ ولهذا قال في كتاب الأبرار: « يشهده المقربون » . « وما أدراك ما سجين » أي ليس ذلك مما كنت تعلمه يا محمد أنت ولا قومك. ثم فسره فقال: « كتاب مرقوم » أي مكتوب كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى. وقال قتادة: مرقوم أي مكتوب، رقم لهم بشر: لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وقال الضحاك: مرقوم: مختوم، بلغة حمير؛ وأصل الرقم: الكتابة؛ قال:

سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم

وليس في قوله: « وما أدراك ما سجين » ما يدل على أن لفظ سجين ليس عربيا، كما لا يدل في قوله: « القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة » [ القارعة: 1 ] بل هو تعظيم لأمر سجين، وقد مضى في مقدمة الكتاب - والحمد لله - أنه ليس في القرآن غير عربي.
قوله تعالى: « ويل يومئذ للمكذبين » أي شدة وعذاب يوم القيامة للمكذبين. ثم بين تعالى أمرهم فقال: « الذين يكذبون بيوم الدين » أي بيوم الحساب والجزاء والفصل بين العباد. « وما يكذب به إلا كل معتد أثيم » أي فاجر جائز عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما لقوله تعالى: « إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين » وقراءة العامة « تتلى » بتاءين، وقراءة أبي حيوة وأبي سماك وأشهب العقيلي والسلمي: « إذا يتلى » بالياء. وأساطير الأولين: أحاديثهم وأباطيلهم التي كتبوها وزخرفوها. وأحدها أسطورة وإسطارة، وقد تقدم.

الآيات: 14 - 17 ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، ثم إنهم لصالوا الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون )

قوله تعالى: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » « كلا » : ردع وزجر، أي ليس هو أساطير الأولين. وقال الحسن: معناها حقا « ران على قلوبهم » . وقيل: في الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيا. فيها، حتى تعلو على قلبه ) ، وهو ( الران ) الذي ذكر الله في كتابه: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » . قال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. قال مجاهد: هو الرجل يذنب الذنب، فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، حتى تغشي الذنوب قلبه. قال مجاهد: هي مثل الآية التي في سورة البقرة: « بلى من كسب سيئة » [ البقرة: 81 ] الآية. ونحوه عن الفراء؛ قال: يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها. وروي عن مجاهد أيضا قال: القلب مثل الكهف ورفع كفه، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذب الذنب انقبض، وضم أخرى، حتى ضم أصابعه كلها، حتى يطبع على قلبه. قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين، ثم قرأ: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » . ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء. وقال بكر بن عبدالله: إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل، أو كالغربال، حتى لا يعي خيرا، ولا يثبت فيه صلاح. وقد بينا في « البقرة » القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معنى لإعادتها. وقد روى عبدالغني بن سعيد عن موسى بن عبدالرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته؛ قال: هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم، وهو الذي يلبس في الحرب. قال: وقال آخرون: الران: الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل. وهذا مما لا يضمن عهدة صحته. فالله أعلم. فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا. وكذلك أهل اللغة عليه؛ يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله: « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » أي غلب؛ وقال أبو عبيد: كل ما غلبك [ وعلاك ] فقد ران بك، ورانك، وران عليك؛ وقال الشاعر:

وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران وانجلى

ورانت الخمر على عقله: أي غلبته، وران عليه النعاس: إذا غطاه؛ ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به. أي غلبته الديون، وكان يدان؛ ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا، فقال:

ثم لما رآه رانت به الخمـ ـر وأن لا ترينه باتقاء

فقوله: رانت به الخمر، أي غلبت على عقله وقلبه. وقال الأموي: قد أران القوم فهم مرينون: إذا هلكت مواشيهم وهزلت. وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم، فلا يستطيعون احتماله. قال أبو زيد يقال: قد رين بالرجل رينا: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهذا أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع. الزجاج: الرين: هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين، يقال: غين على قلبه: غطي. والغين: شجر ملتف، الواحدة غيناء، أي خضراء، كثيرة الورق، ملتفة الأغصان. وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب. وذكر الثعلبي عن ابن عباس: « ران على قلوبهم » : أي غطى عليها. وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل « ران » بالإمالة؛ لأن فاء الفعل الراء، وعينه الألف منقلبة من ياء، فحسنت الإمالة لذلك. ومن فتح فعلى الأصل؛ لأن باب فاء الفعل في ( فعل ) الفتح، مثل كال وباع ونحوه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص « بل » ثم يبتدئ « ران » وقفا يبين اللام، لا للسكت.
قوله تعالى: « كلا » أي حقا « » إنهم « يعني الكفار » عن ربهم يومئذ « أي يوم القيامة » لمحجوبون « وقيل: « كلا » ردع وزجر، أي ليس كما يقولون، بل » إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون « . قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون. وقال جل ثناؤه: » وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة « [ القيامة: 22 ] فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه، وقال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا. ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا. وقال الحسين بن الفضل: لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. وقال مجاهد في قوله تعالى: » لمحجوبون « : أي عن كرامته ورحمته ممنوعون. وقال قتادة: هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وعلى الأول الجمهور، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. » ثم إنهم لصالوا الجحيم « أي ملازموها، ومحترقون فيها غير خارجين منها، » كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها « [ النساء: 56 ] و » كلما خبت زدناهم سعيرا « [ الإسراء: 97 ] . ويقال: الجحيم الباب الرابع من النار. » ثم يقال « لهم أي تقول لهم خزنة جهنم » هذا الذي كنتم به تكذبون « رسل الله في الدنيا.»

الآيات: 18 - 21 ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون )
قوله تعالى: « كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين » « كلا » بمعنى حقا، والوقف على « تكذبون » . وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. وقال مقاتل: كلا، أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه. ثم استأنف فقال: « إن كتاب الأبرار » مرفوع في عليين على قدر مرتبتهم. قال ابن عباس: أي في الجنة. وعنه أيضا قال: أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين. وروى ابن الأجلح عن الضحاك قال: هي سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شيء من أمر الله لا يعدوها، فيقولون: رب عبدك فلان، وهو. أعلم به منهم، فيأتيه كتاب من الله عز وجل مختوم بأمانه من العذاب. فذلك قوله تعالى: « كلا إن كتاب الأبرار » . وعن كعب الأحبار قال: إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: « في عليين » هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقال البراء بن عازب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليون في السماء السابعة تحت العرش ) . وعن ابن عباس أيضا: هو لوح من زبر جدة خضراء معلق بالعرش، أعمالهم مكتوبة فيه. وقال الفراء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع. وقيل: عليون أعلى الأمكنة. وقيل: معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له؛ ولذلك جمع بالواو والنون. وهو معنى قول الطبري. قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه؛ كقولك: عشرون وثلاثون، والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالنون. وهي معنى قول الطبري. وقال الزجاج: إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع، كما تقول: هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وقال يونس النحوي وأحدها: علي وعلية. وقال أبو الفتح: عليين: جمع على، وهو فعيل من العلو. وكان سبيله أن يقول علية كما قالوا للغرفة علية؛ لأنها من العلو، فلما حذف التاء من علية عوضوا منها الجمع بالواو والنون، كما قالوا في أرضين. وقيل: إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملأ الأعلى؛ كما يقال: فلان في بني فلان؛ أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة من كذا، فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه، فيقولون: ما هذا النور؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة والصدق ) . وفي خبر آخر: ( إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء ) يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع. وروى ناس عن ابن عباس في قوله « عليين » قال: أخبر أن أعمالهم وأرواحهم في السماء الرابعة.

قوله تعالى: « وما أدراك ما عليون » أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال: « كتاب مرقوم يشهده المقربون » . وقيل: إن « كتاب مرقوم » ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله « عليون » ثم ابتدأ وقال: « كتاب مرقوم » أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ولهذا عكس الرقم في كتاب الفجار؛ قال القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.

قوله تعالى: « يشهده المقربون » أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وقال وهب وابن إسحاق: المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله: « يشهده المقربون » أي يشهد كتابتهم.

الآيات: 22 - 28 ( إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقربون )

قوله تعالى: « إن الأبرار » أي أهل الصدق والطاعة. « لفي نعيم » أي نعمة، والنعمة بالفتح: التنعيم؛ يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى. أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون. « على الأرائك » وهي الأسرة في الحجال « ينظرون » أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات؛ قال عكرمة وابن عباس ومجاهد. وقال مقاتل: ينظرون إلى أهل النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينظرون إلى أعدائهم في النار ) ذكره المهدوي. وقيل: على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله.

قوله تعالى: « تعرف في وجوههم نضرة النعيم » أي بهجته وغضارته ونوره؛ يقال: نضر النبات: إذا آزهر ونور. وقراءة العامة « تعرف » بفتح التاء وكسر الراء « نضرة » نصبا؛ أي تعرف يا محمد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق: « تعرف » بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول « نضرة » رفعا. « يسقون من رحيق » أي من شراب لا غش فيه. قاله الأخفش والزجاج. وقيل، الرحيق الخمر الصافية. وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر. والمعنى واحد. الخليل: أقصى الخمر وأجودها. وقال مقاتل وغيره: هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة، قال حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم بردي يصفق بالرحيق السلسل

وقال آخر:

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إلي من الرحيق السلسل

قوله تعالى: « مختوم » المختوم الممزوج. وقيل: مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار. وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي « خاتمه » بفتح الخاء والتاء وألف بينهما. قاله علقمة: أما رأيت المرأة تقول للعطار: أجعل خاتمه مسكا، تريد آخره. والخاتم والختام متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم الاسم، والختام المصدر؛ قال الفراء. وفي الصحاح: والختام: الطين الذي يحتم به. وكذا قال مجاهد وابن زيد: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين. حكاه المهدوي. وقال الفرزدق:

وبت أفض أغلاق الختام

وقال الأعشى:

وأبرزها وعليها ختم

أي عليها طينة مختومة؛ مثل نفض بمعنى منفوض، وقبض بمعنى مقبوض. وذكر ابن المبارك وابن وهب، واللفظ لابن وهب، عن عبدالله. بن مسعود في قوله تعالى: « ختامه مسك » : خلطه، ليس بخاتم يختم، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم: إن خلطه من الطيب كذا وكذا. إنما خلطه مسك؛ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها. وروى أبي بن كعب قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: ( غدران الخمر ) . وقيل: مختوم في الآنية، وهو غير الذي يجري في الأنهار. فالله أعلم. « وفي ذلك » أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة « فليتنافس المتنافسون » أي فليرغب الراغبون يقال: نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة: أي ضننت به، ولم أحب أن يصير إليه. وقيل: الفاء بمعنى إلى، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل؛ نظيره: « لمثل هذا فليعمل العاملون » .

قوله تعالى: « ومزاجه » أي ومزاجه ذلك الرحيق « من تسنيم » وهو شراب ينصب عليهم من علو، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل؛ ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور. وروي عن عبدالله قال: تسنيم عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب. وقال ابن عباس في قول عز وجل: « ومزاجه من تسنيم » قال: هذا مما قال الله تعالى: « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين » [ السجدة: 17 ] . وقيل: التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء، فلا تقع منه قطرة على الأرض، ولا يحتاجون إلى الاستقاء؛ قال قتادة، ابن زيد: بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش. وكذا في مراسيل الحسن. وقد ذكرناه في سورة « الإنسان » .

« عينا يشرب بها المقربون » أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة صرفا، وهي لغيرهم مزاج. و « عينا » نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال من تسنيم، وتسنيم معرفة، ليس يعرف له أشتقاق، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام فـ « عينا » نصب؛ لأنه مفعول به؛ كقوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما » [ البلد: 14 ] وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم. وعند الأخفش بـ « يسقون » أي يسقون عينا أو من عين. وعند المبرد بإضمار أعني على المدح.

الآيات: 29 - 36 ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون )
قوله تعالى: « إن الذين أجرموا » وصف أرواح الكفار في الدنيا مع المؤمنين باستهزائهم بهم والمراد رؤساء قريش من أهل الشرك. روى ناس عن ابن عباس قال: هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث؛ وأولئك « كانوا من الذين آمنوا » من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل عمار، وخباب وصهيب وبلال « يضحكون » على وجه السخرية. « وإذا مروا بهم » عند إتيانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « يتغامزون » يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. وقيل: أي يعيرونهم بالإسلام ويعيبونهم به يقال: غمزت الشيء بيدي؛ قال:

وكنت إذا غمزت فتاة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما

وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد غمزني، فقبضت رجلي. الحديث؛ وقد مضى في « النساء » . وغمزته بعيني. وقيل: الغمز: بمعنى العيب، يقال غمزه: أي عابه، وما في فلأن غمزة أي عيب. وقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلمزهم المنافقون، وضحكوا عليهم وتغامزوا.
قوله تعالى: « وإذا انقلبوا » أي أنصرفوا إلى أهلهم وأصحابهم وذويهم « انقلبوا فكهين » أي معجبين منهم. وقيل: معجبون بما هم عليه من الكفر، متفكهون بذكر المؤمنين. وقرأ ابن القعقاع وحفص والأعرج والسلمي: « فكهين » بغير ألف. الباقون بألف. قال الفراء: هما لغتان مثل طمع وطامع وحذر وحاذر، وقد تقدم في سورة « الدخان » والحمد لله. وقيل: الفكه: الأشر البطر والفاكه: الناعم المتنعم. « وإذا رأوهم » أي إذا رأى هؤلاء الكفار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم « قالوا إن هؤلاء لضالون » في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم « وما أرسلوا عليهم حافظين » لأعمالهم، موكلين بأحوالهم، رقباء عليهم.
قوله تعالى: « فاليوم » يعني هذا اليوم الذي هو يوم القيامة « الذين آمنوا » بمحمد صلى الله عليه وسلم « من الكفار يضحكون » كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. نظيره في آخر سورة « المؤمنين » وقد تقدم. وذكر ابن المبارك: أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى: « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون » قال: ذكر لنا أن كعبا كان يقول إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى؛ قال الله تعالى في آية أخرى: « فاطلع فرآه في سواء الجحيم » [ الصافات: 55 ] قال: ذكر لنا أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر ابن المبارك أيضا: أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] قال: يقال لأهل النار وهم في النار: أخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم؛ فذلك قوله: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله تعالى: « فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. على الأرائك ينظرون. هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون » قد مضى هذا في أول سورة « البقرة » . ومعنى « هل ثوب » أي هل جوزي بسخريتهم في الدنيا بالمؤمنين إذا فعل بهم ذلك. وقيل: إنه متعلق بـ « ينظرون » أي ينظرون: هل جوزي الكفار؟ فيكون معنى هل [ التقرير ] وموضعها نصبا بـ « ينظرون » . وقيل: استئناف لا موضع له من الأعراب. وقيل: هو إضمار على القول، والمعنى؛ يقول بعض المؤمنين لبعض: « هل ثوب الكفار » أي أثيب وجوزي. وهو من ثاب يثوب أي رجع؛ فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. تمت السورة والله أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 16, 2014 11:10 pm

تفسير سورة الانشقاق للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 5 ( إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت )
قوله تعالى: « إذا السماء انشقت » أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » أي ما استمع الله لشيء قال الشاعر:

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أي سمعوا. وقال قعنب ابن أم صاحب:

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا

وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق. وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لأنه خلقها؛ يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب. وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك؛ ومنه قول كثير:

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا وحقت لها العتبى لدينا وقلت

قوله تعالى: « وإذا الأرض مدت » أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تمد مد الأديم ) لأن الأديم إذا مد زال كل آنثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا؛ لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة « إبراهيم » أن الأرض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه « وألقت ما فيها وتخلت » أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم. وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: ألقت ما في بطنها كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت؛ لأن الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، واستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. « وأذنت لربها » أي في إلقاء موتاها « وحقت » أي وحق لها أن تسمع أمره. واختلف في جواب « إذا » فقال الفراء: « أذنت » . والواو زائدة، وكذلك « وألقت » . ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: جواب « إذا السماء أنشقت » « أذنت » ، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط؛ لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع « حتى - إذا » كقوله تعالى: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 71 ] ومع « لما » كقوله تعالى: « فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه » [ الصافات: 103 ] معناه « ناديناه » والواو لا تقحم مع غير هذين. وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال: « إذا السماء أنشقت » فيا أيها الإنسان إنك كادح. وقيل: جوابها ما دل عليه « فملاقيه » أي إذا السماء انشقت لاقي الإنسان كدحه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه » « إذا السماء انشقت » . قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب « فأما من أوتي كتابه بيمينه » وهو قول الكسائي؛ أي إذا السماء أنشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى أذكر « إذا السماء انشقت » . وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به؛ أي إذا كانت هذه الأشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم. وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراطها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله « إذا السماء انشقت » قسم. والجمهور على خلاف قول من أنه خبر وليس بقسم.

الآيات: 6 - 9 ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا )
قوله تعالى: « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا » المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيا. عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الأسود بن عبدالأسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب؛ قال ابن مقبل:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقال آخر:

ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب

أي أعمل. وروى الضحاك عن ابن عباس: « إنك كادح » أي راجع « إلى ربك كدحا أي رجوعا لا محالة » فملاقيه « أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك. القتبي « إنك كادح » أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى ولهذا قال: » فأما من أوتي كتابه بيمينه « وهو المؤمن » فسوف يحاسب حسابا يسيرا « لا مناقشة فيه. كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حوسب يوم القيامة عذب ) قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله » فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا « فقال: » ليس ذاك الحساب؛ إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. « وينقلب إلى أهله مسرورا » أزواجه في الجنة من الحور العين « مسرورا » أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة بن عبدالأسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والأول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة.

الآيات: 10 - 15 ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا، إنه كان في أهله مسرورا، إنه ظن أن لن يحور، بلى إن ربه كان به بصيرا )

قوله تعالى: « وأما من أوتي كتابه وراء ظهره » نزلت في الأسود بن عبدالأسد أخي أبي سلمة قال ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشمال من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. « فسوف يدعو ثبورا » أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. « ويصلى سعيرا » أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرأ الحرميان وابن عامر والكسائي « ويصلى » بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى: « ثم الجحيم صلوه » [ الحاقة: 31 ] وقوله: « وتصلية جحيم » [ الواقعة: 94 ] . الباقون « ويصلى » بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد؛ لقوله: « إلا من هو صال الجحيم » [ الصافات: 163 ] وقوله: « يصلى النار الكبرى » [ الأعلى: 12 ] وقوله « ثم إنهم لصالوا الجحيم » [ المطففين: 16 ] . وقراءة ثالثة رواها أبان عن عاصم وخارجة عن نافع وإسماعيل المكي عن ابن كثير « ويصلي » بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا؛ كما قرئ « وسيصلون » بضم الياء، وكذلك في « الغاشية » قد قرئ أيضا: « تصلي نارا » وهما لغتان صلى وأصلى؛ كقوله: « نزل. وأنزل » .

قوله تعالى: « إنه كان في أهله » أي في الدنيا « مسرورا » قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: « إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم » . قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال: « إنه كان في أهله مسرورا » . « إنه ظن أن لن يحور » أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع؛ قل لبيد:

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق؛ ومنه الخبز الحوارة؛ لأنه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع؛ ومنه قول عليه السلام: « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل « حور في محارة » أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر:

واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا والذم يبقى وزاد القوم في حور

والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة؛ قال الراجز:

في بئر لا حور سرى ولا شعر

قال أبو عبيدة: أي بئر حور، و « لا » زائدة. وروى « بعد الكون » ومعناه من انتشار الأمر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبدالرزاق: وما الكنتي؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:

فأصبحت كنتا وأصبحت عاجنا وشر خصال المرء كنت وعاجن

عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر. وقال ابن الأعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب.

قوله تعالى: « بلى » أي ليس الأمر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. « إن ربه كان به بصيرا » قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه. وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم ستأنف فقال: « إن ربه كان به بصيرا » من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.

الآيات: 16 - 21 ( فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، لتركبن طبقا عن طبق، فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون )

قوله تعالى: « فلا أقسم » أي فأقسم و « لا » صلة. « بالشفق » أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال أشهب وعبدالله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم، كثير عددهم عن مالك: الشفق الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء. وروى بن وهب قال: أخبرني غير واحد عن علي ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة: أن الشفق الحمرة، وبه قال مالك بن أنس. وذكر غير ابن وهب من الصحابة: عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنسا وأبا قتادة وجابر بن عبدالله وابن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وعبدالله بن دينار، والزهري، وقال به من الفقهاء الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيدة وأحمد وإسحاق وقيل: هو البياض؛ روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعي وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وروي عن ابن عمر أيضا أنه البياض والاختيار الأول؛ لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ: كأنه الشفق وكان أحمر، فهذا شاهد للحمرة؛ وقال الشاعر:

وأحمر اللون كمحمر الشفق

وقال آخر:

قم يا غلام أعني غير مرتبك على الزمان بكأس حشوها شفق

ويقال للمغرة الشفق. وفي الصحاح: الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة. قال الخليل: الشفق: الحمرة، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، إذا ذهب قيل: غاب الشفق. ثم قيل: أصل الكلمة من رقة الشيء؛ يقال: شيء شفق أي لا تماسك له لرقته. واشفق عليه. أي رق قلبه عليه، والشفقة: الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق؛ قال الشاعر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم

فالشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرقة عن ضوء الشمس. وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر قال علماؤنا: فلما لم يتحدد وقته سقط اعتباره. وفي سنن أبي داود عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة. وهذا تحديد، ثم الحكم معلق بأول الاسم. لا يقال: فينقض عليكم بالفجر الأول، فإنا نقول الفجر الأول لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال: « وليس الفجر أن تقول هكذا - فرفع يده إلى فوق - ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها » وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة « البقرة » ، فلا معنى للإعادة. وقال مجاهد: الشفق: النهار كله ألا تراه قال « والليل وما وسق » وقال عكرمة: ما بقي من النهار. والشفق أيضا: الرديء من الأشياء؛ يقال: عطاء مشفق أي مقلل قال الكميت:

ملك أغر من الملوك تحلبت للسائلين يداه غير مشفق

قوله تعالى: « والليل وما وسق » أي جمع وضم ولف، وأصله من سورة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها، فسكن الخلق إليه ثم انذعروا والتفوا وانقبضوا، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هوله وحشا، وهو قوله تعالى: « ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه » [ القصص: 73 ] أي بالليل « ولتبتغوا من فضله » [ القصص: 73 ] أي بالنهار على ما تقدم. فالليل يجمع ويضم ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم؛ قال ضابئ بن الحارث البرجمي:

فإني وإياكم وشوقا إليكم كقابض ماء لم تسقه أنامله

يقول: ليس في يده من ذلك شيء كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء؛ فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له، فقد وسقها. والوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، تقول: وسقته أسقه وسقا. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وطعام موسق: أي مجموع، وإبل مستوسقة أي مجتمعة؛ قال الراجز:

إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا

وقال عكرمة: « وما وسق » أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوي، فالوسق بمعنى الطرد، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر: وسيقة، قال الشاعر:

كما قاف آثار الوسيقة قائف

وعن ابن عباس: « وما وسق » أي وما جن وستر. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شيء حملته فقد وسقته، والعرب تقول: لا أفعله ما وسقت عيني الماء، أي حملته. ووسقت الناقة تسق وسقا: أي حملت وأغلقت رحمها على الماء، فهي ناقة واسق، ونوق وساق مثل نائم ونيام، وصاحب وصحاب، قال بشر بن أبي خازم:

ألظ بهن يحدوهن حتى تبينت الحيال من الوساق

ومواسيق أيضا. وأوسقت البعير: حملته حمله، وأوسقت النخلة: كثر حملها. وقال يمان والضحاك ومقاتل بن سليمان: حمل من الظلمة. قال مقاتل: أو حمل من الكواكب. القشيري: ومعنى حمل: ضم وجمع، والليل يجلل بظلمته كل شيء فإذا جللها فقد وسقها. ويكون هذا القسم قسما بجميع المخلوقات، لاشتمال الليل عليها، كقوله تعالى: « فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون » [ الحاقة:38 - 39 ] . وقال ابن جبير: « وما وسق » أي وما عمل فيه، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار، قال الشاعر:

ويوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب

أي كالعامل.

قوله تعالى: « والقمر إذا اتسق » أي تم واجتمع واستوى. قال الحسن: اتسق: أي امتلأ واجتمع. ابن عباس: استوى. قتادة: استدار. الفراء: اتساقه: امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق، كما يقال: وصلته فاتصل، ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء: إذا تتابع: « لتركبن طبقا عن طبق » قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخعي وابن كثير وحمزة والكسائي « لتركبن » بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لتركبن يا محمد حالا بعد حال، قال ابن عباس. الشعبي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة، في القربة من الله تعالى. ابن مسعود: لتركبن السماء حالا بعد حال، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانشقاق والطي وكونها مرة كالمهل ومرة كالدهان. وعن إبراهيم عن عبدالأعلى: « طبقا عن طبق » قال: السماء تقلب حالا بعد حال. قال: تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل؛ وقيل: أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعه حال، من كونك نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حيا وميتا وغنيا وفقيرا. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله: « يا أيها الإنسان إنك كادح » هو اسم للجنس، ومعناه الناس. وقرأ الباقون « لتركبن » بضم الباء، خطابا للناس، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله. أي لتركبن حالا بعد حال من شدائد القيامة، أو لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب واختلاق على الأنبياء.

قلت: وكله مراد، وقد جاءت بذلك أحاديث، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل؛ إن الله لا إله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله، واكتب شقيا أو سعيدا، ثم يرتفع ذلك الملك، ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه، فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده، ثم يرتفع ملك الموت، ثم جاءه ملكا، القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فأنشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه، واحد سائق والآخر شهيد ) ثم قال الله عز وجل « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد » [ ق: 22 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لتركبن طبقا عن طبق » قال: ( حالا بعد حال ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم ) فقد أشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان، من حين يخلق إلى حين يبعث، وكله شدة بعد شدة، حياة ثم موت، ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدائد. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ خرجه البخاري: وأما أقوال المفسرين، فقال عكرمة: حالا بعد حال، فطيما بعد رضيع، وشيخا بعد شباب، قال الشاعر:

كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق

وعن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه: وقال الحسن: أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غني، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة: سعيد بن جبير: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة: وقيل: منزلة عن منزلة، وطبقا عن طبق، وذلك، أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجري إلى شكله: ابن زيد: ولتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة: وقال ابن عباس: الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أم شديد: وقع في بنات طبق، وإحدى بنات طبق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بنات طبق: وأصلها من الحيات، إذ يقال: للحية أم طبق لتحويها: والطبق في اللغة: الحال كما وصفنا، قال الأقرع بن حابس التميمي:

إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق

وغدا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه: وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أن لهذا العالم صانعا؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر النية: ونسخ العزيمة: ويقال: أتانا طبق من الناس وطبق من الجراد: أي جماعة: وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق

أي قرن من الناس. يكون طباق الأرض أي ملأها. والطبق أيضا: عظم رقيق يفصل بين الفقارين ويقال: مضى طبق من الليل، وطبق من النهار: أي معظم منه. والطبق: واحد الأطباق، فهو مشترك. وقرئ « لتركبن » بكسر الباء، على خطاب النفس و « ليركبن » بالياء على ليركبن الإنسان. و « عن طبق » في محل نصب على أنه صفة لـ « طبقا » أي طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في « لتركبن » أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق، أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة.
قوله تعالى: « فما لهم لا يؤمنون » يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات. وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجب أي أعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات. « وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون » أي لا يصلون. وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ « إذا السماء أنشقت » فسجد فيها، فلما أنصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود؛ لأن [ المعنى ] لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد أعتضد فيها القرآن والسنة. قال ابن العربي: لما أممت بالناس تركت قراءتها؛ لأني إن سجدت أنكروه، وإن تركتها كان تقصيرا مني، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون المعروف منكرا، والمنكر معروفا؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: ( لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت البيت، ولرددته على قواعد إبراهيم ) . ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشيعة، فحضر عندي يوما في محرس ابن الشواء بالثغر - موضع تدريسي - عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب تخت الميناء، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وأرموا به إلى البحر، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذا مذهب مالك، في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك وقال: ومن أين لي أن أقتل على سنة؟ فقلت له: ولا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك. فقال: دع هذا الكلام، وخذ في غيره.

الآيات: 22 - 25 ( بل الذين كفروا يكذبون، والله أعلم بما يوعون، فبشرهم بعذاب أليم، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )
قوله تعالى: « بل الذين كفروا يكذبون » محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به. وقال مقاتل: نزلت في بني عمرو بن عمير وكانوا أربعة، فأسلم آثنان منهم. وقيل: هي في جميع الكفار. « والله أعلم بما يوعون » أي بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة؛ مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه؛ يقال: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء؛ قال الشاعر:

الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زاد

ووعاه أي حفظه؛ تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا، وأذن واعية. وقد تقدم.

« فبشرهم بعذاب أليم » أي موجع في جهنم على تكذيبهم. أي أجعل ذلك بمنزلة البشارة. « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعملوا الصالحات، أي أدوا الفرائض المفروضة عليهم « لهم أجر » أي ثواب « غير ممنون » أي غير منقوص ولا مقطوع؛ يقال: مننت الحبل: إذا قطعته. وقد تقدم. « لهم أجر غير ممنون » سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: فقال: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم قد عرفه أخو يشكر حيث يقول:

فترى خلفهن من سرعة الرجـ ـع مَنِينا كأنه أهباء

قال المبرد: المنين: الغبار؛ لأنها تقطعه وراءها. وكل ضعيف منين وممنون. وقيل: « غير ممنون » لا يمن عليهم به. وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ليس استئناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا. وقد مضى في « البقرة » القول فيه والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 17, 2014 11:05 pm

تفسير سورة البروج للقرطبى
======


الآية: 1 ( والسماء ذات البروج )

قسم أقسم الله به جل وعز وفي « البروج » أقوال أربعة: أحدها: ذات النجوم؛ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. الثاني: القصور، قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد أيضا. قال عكرمة: هي قصور في السماء. مجاهد: البروج فيها الحرس. الثالث: ذات الخلق الحسن؛ قال المنهال بن عمرو. الرابع: ذات المنازل؛ قال أبو عبيدة ويحيى بن سلام. وهي أثنا عشر برجا، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلت يوم؛ فذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستسر ليلتين؛ وتسير الشمس في كل برج منها شهرا. وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو، والحوت. والبروج في كلام العرب: القصور؛ قال الله تعالى؛ « ولو كنتم في بروج مشيدة » [ النساء: 78 ] . وقد تقدم.

الآيات: 2 - 3 ( واليوم الموعود، وشاهد ومشهود )

قوله تعالى: « واليوم الموعود » أي الموعود به. وهو قسم آخر، وهو يوم القيامة؛ من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. « وشاهد ومشهود » اختلف فيهما؛ فقال علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وهو قول الحسن. ورواه أبو هريرة مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة... ) خرجه أبو عيسى الترمذي في جامعه، وقال: هذا حديت [ حسن ] غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عنه. قال القشيري فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.

قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي؛ فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة؛ ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادي فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غد، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك ) . حديث غريب من حديث معاوية، تفرد به عنه زيد العمري، ولا أعلمه مرفوعا. عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد بن المسيب: الشاهد: التروية، والمشهود: يوم عرفة. وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر. وقاله النخعي. وعن علي أيضا: المشهود يوم عرفة. وقال ابن عباس والحسين بن علي رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة؛ لقوله تعالى: « ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود » [ هود: 103 ] .

قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد، فقيل: الله تعالى؛ عن ابن عباس والحسن وسعيد - بن جبير؛ بيانه: « وكفى بالله شهيدا » [ النساء: 79 ] ، « قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم » [ الأنعام: 19 ] . وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس أيضا والحسين ابن علي؛ وقرأ ابن عباس « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] ، وقرأ الحسين « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا » [ الأحزاب: 45 ] .

قلت: وأقرأ أنا « ويكون الرسول عليكم شهيدا » . وقيل: الأنبياء يشهدون على أممهم؛ لقوله تعالى: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد » [ النساء: 41 ] . وقيل: آدم. وقيل: عيسى بن مريم؛ لقوله: « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم » [ المائدة: 117 ] . والمشهود: أمته. وعن ابن عباس أيضا ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان؛ دليله: « كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا » [ الإسراء: 14 ] . مقاتل: أعضاؤه؛ بيانه: « يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون » [ النور: 24 ] . الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم؛ بيانه: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس » [ البقرة: 143 ] . وقيل: الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم. وقيل: الليالي والأيام. وقد بيناه.

قلت: وقد يشهد المال على صاحبه، والأرض بما عمل عليها؛ ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة ) . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « يومئذ تحدث أخبارها » [ الزلزلة: 4 ] قال: ( أتدرون ما أخبارها ) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ( فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها ) . قال حديث حسن غريب صحيح. وقيل: الشاهد الخلق، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية. والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى. وقيل: المشهود يوم الجمعة؛ كما روى أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة... ) وذكر الحديث. خرجه ابن ماجه وغيره.

قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود، لأن الملائكة تشهده، وتنزل فيه بالرحمة. وكذا يوم النحر إن شاء الله. وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود؛ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين. والمشهود الحاج. وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم؛ بيانه: « وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة » إلى قوله تعالى « وأنا معكم من الشاهدين » [ آل عمران: 81 ] .

الآيات: 4 - 7 ( قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود )

قوله تعالى: « قتل أصحاب الأخدود » ي لعن. قال ابن عباس: كل شيء في القرآن « قتل » فهو لعن. وهذا جواب القسم في قول الفراء - واللام فيه مضمرة؛ كقوله: « والشمس وضحاها » [ الشمس: 1 ] ثم قال « قد أفلح من زكاها » [ الشمس: 9 ] : أي لقد أفلح. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج؛ قاله أبو حاتم السجستاني. ابن الأنباري: وهذا غلط لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد على معنى قام زيد والله. وقال قوم: جواب القسم « إن بطش ربك لشديد » وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما. وقيل: « إن الذين فتنوا » . وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد. ومنه الخد لمجاري الدموع، والمخدة؛ لأن الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح. قال طرفة:

ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد

« النار ذات الوقود » « النار » بدل من « الأخدود » بدل الاشتمال. و « الوقود » بفتح الواو قراءة العامة وهو الحطب. وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم ( بضم الواو ) على المصدر؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب. وقيل: ذات الوقود بأبدان الناس. وقرأ أشهب العقيلي وأبو السمال العدوي وابن السميقع « النار ذات » بالرفع فيهما؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود.

قوله تعالى: « إذ هم عليها قعود » أي الذين خددوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب. ففي صحيح مسلم عن صهيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاما يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سلك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فاعجبه؛ فكان إذا أتى الساحر م بالراهب وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه؛ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضى الناس؛ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني؟ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلي؛ فإن أبتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؟ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام؛ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟ ! قال: أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب، فقيل له: أرجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع سقاه. ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء بالغلام فقيل له: أرجع عن دينك، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت؛ فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه؛ فذهبوا به فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت؛ فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت، تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس؛ فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فحدث، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها - أو قيل له أقتحم - ففعلوا؛ حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال، لها الغلام: ( يا أمة اصبري فإنك على الحق ) . خرجه الترمذي بمعناه.

وفيه: ( وكان على طريق، الغلام راهب في صومعة ) قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين. وفيه: ( أن الدابة التي حبست الناس كانت أسدا، وأن الغلام دفن - قال - : فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل ) . وقال: حديث حسن غريب. ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان ملك بنجران، وفي رعيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب؛ فأقبل يوما فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجرا فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما؛ فقتلها. وذكر نحو ما تقدم. وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبدالله بن ثامر، وكان اسم الغلام، فغضب الملك، وأم فخدت أخاديد، وجمع فيها حطب ونار، وعرض أهل مملكته عليها، فمن رجع عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار. وجيء بامرأة مرضع فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك - قال - فأشفقت وهمت بالرجوع، فقال لها الصبي المرضع: يا أمي، اثبتي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة؛ فألقوها وابنها. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم. وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. حكاه الماوردي، وحكى الثعلبي عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذوا رجالا ونساء، فخدوا لهم الأخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها. وقيل لهم: تكفرون أو تقذفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه؛ وقال عطية العوفي. وروي نحو هذا عن ابن عباس. وقال علي رضي الله عنه: إن ملكا سكر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته فلم يقبلوا؛ فأشارت إليه أن يخطب بأن الله - عز وجل - أحل نكاح الأخوات، فلم يسمع منه. فأشارت إليه أن يخد لهم الأخدود، ويلقي فيه كل من عصاه. ففعل. قال: وبقاياهم ينكحون الأخوات وهم المجوس، وكانوا أهل كتاب.

وروي عن علي أيضا أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبيا بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فاتبعه ناس، فخد لهم قومهم أخدودا، فمن اتبع النبي رمي فيها، فجيء بامرأة لها بني رضيع فجزعت، فقال لها: يا أماه، أمضى ولا تجزعي. وقال أيوب عن عكرمة قال: « قتل أصحاب الأخدود » قال: كانوا من قومك من السجستان. وقال الكلبي: هم نصارى نجران، أخذوا بها قوما مؤمنين، فخدوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعا، وعرضه أثنا عشر ذراعا. ثم طرح فيه النفط والحطب، ثم عرضوهم عليها؛ فمن أبى قذفوه فيها. وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين. وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة؛ واحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس. أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس. فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران. وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، أجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الإنجيل؛ فرأت ابنة المستأجر النور في قراءة الإنجيل، فأخبرت أباها فأسلم. وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة، بعد ما رفع عيسى، فخد لهم يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري أخدودا، وأوقد فيه النار؛ وعرضهم على الكفر، فمن أبي أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف. وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ابنها: يا أماه، إني أرى أمامك نارا لا تطفأ، فقذفا جميعا أنفسهما في النار، فجعلها الله وأبنها في الجنة. فقذف في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام، يقال له قيميون، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا في القرى، لا يعرف بقرية إلا مضى عنها، وكان بناء يعمل الطين. قال محمد بن كعب القرظي، وكان أهل نجران أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر؛ فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامر عبدالله بن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبدالله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن آسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا ابن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه؛ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان. فلما رأى عبدالله أن الراهب قد بخل عليه بتعليم اسم الله الأعظم، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله تعالى أسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء، فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه علم اسم الله الأعظم الذي كتمه إياه، فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فقال له: يا ابن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.

فجعل عبدالله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبدالله، أتوحد الله وتدخل في ديني، فأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم؛ فيوحد الله ويسلم، فيدعوا الله له فيشفي، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي؛ حتى رفع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين أبائي، فلأمثلن بك. قال: لا تقدر على ذلك؛ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس. وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بحار لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي فيها فيخرج ليس به بأس؛ فلما غلبه قال له عبدالله بن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي وقتلتني. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه، واجتمع أهب نجران على دين عبدالله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث؛ فمن، ذلك كان أصل النصرانية بنجران. فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفا. وقال وهب بن منبه: اثني عشر ألفا. وقال الكلبي: كان أصحاب الأخدود خرج ذو نواس هاربا، فاقتحم البحر بفرسه فغرق. قال ابن إسحاق: وذو نواس هذا سمه زرعة بن تبان أسعد الحميري، وكان أيضا يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعر تنوس، أي تضطرب، فسمي ذا نواس، وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل اسمه دوس ذو ثعلبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر، ألقي نفسه فيه، وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:

أتوعدني كأنك ذو رعين بأنعم عيشة أو ذو نواس

وكائن كان قبلك من نعيم وملك ثابت في الناس راس

قديم عهده من عهد عاد عظيم قاهر الجبروت قاس

أزال الدهر ملكهم فأضحى ينقل من أناس في أناس

وذو رعين: ملك من ملوك حمير. ورعين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سبأ.

مسألة: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحد قبلهم من الشدائد، يؤنسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره. وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار. وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم. ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حسب ما تقدم بيانه في سورة « النحل » .

قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبرا عن لقمان: « يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور » [ لقمان: 17 ] : وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) : خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن سنجر ( محمد بن سنجر ) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أوضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، قال: أوصني فقال: ( لا تشرك بالله شيئا وأن قطعت أو حرقت بالنار.. ) الحديث قال علماؤنا: ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابهما وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في « النحل » أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك.

قوله تعالى: « قتل أصحاب الأخدود » دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه روي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نجوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى « عليها » أي عندها وعلى بمعنى عند، وقيل: « عليها » على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كما قال:

وبات على النار الندى والمحلق

العامل في « إذ » : « قتل » ، أي لعنوا في ذلك الوقت: « وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود » أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبي ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: « على » بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.

الآيات: 8 - 9 ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد )

قوله تعالى: « وما نقموا منهم » وقرأ أبو حيوة « نقموا » بالكسر، والفصيح هو الفتح، وقد مضى في « التوبة » القول فيه: أي ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرقهم. « إلا أن يؤمنوا » أي إلا أن يصدقوا. « بالله العزيز » أي الغالب المنيع. « الحميد » أي المحمود في كل حال. « الذي له ملك السماوات والأرض » لا شريك له ولا نديد « والله على كل شيء شهيد » أي عالم بأعمال خلقه لا تخفي عليه خافية.

الآيات: 10 - 11 ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير )

قوله تعالى: « إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات » أي حرقوهم بالنار. والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ودينار مفتون. ويسمى الصائغ الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي فضة محترقة. ويقال للحرة فتين، أي كأنها أحرقت حجارتها بالنار، وذلك لسوادها. « ثم لم يتوبوا » أي من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام. « فلهم عذاب جهنم » لكفرهم. « ولهم عذاب الحريق » في الدنيا لإحراقهم المؤمنين بالنار. وقد تقدم عن ابن عباس. وقيل: « ولهم عذاب الحريق » أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق. والحريق: اسم من أسماء جهنم؛ كالسعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء. وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها.

قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله؛ أي صدقوا به وبرسله. « وعملوا الصالحات لهم جنات » أي بساتين. « تجري من تحتها الأنهار » من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. « ذلك الفوز الكبير » أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه.

الآيات: 12 - 16 ( إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد )

قوله تعالى: « إن بطش ربك لشديد » أي أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله جل ثناؤه: « وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد » [ هود: 102 ] . وقد تقدم. قال المبرد: « إن بطش ربك » جواب القسم. المعنى: والسماء ذات البروج إن بطش ربك، وما بينهما معترض مؤكد للقسم. وكذلك قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة: « إنه هو يبدئ ويعيد » يعني الخلق - عن أكثر العلماء - يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله جل ثناؤه الأموات، وقال ابن عباس: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا، ثم يعيده عليهم الآخرة. وهذا اختيار الطبري. « وهو الغفور » أي الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها. « الودود » أي المحب لأوليائه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضا « الودود » أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة، وقال مجاهد الواد لأوليائه، فعول بمعني فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم، وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قول الشاعر:

وأركب في الروع عريانة ذلول الجناح لقاحا ودودا

أي لا ولد لها تحن إليه، ويكون معنى الآية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلا من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه.

قوله تعالى: « ذو العرش المجيد » قرأ الكوفيون إلا عاصما « المجيد » بالخفض، نعتا للعرش. وقيل: لـ « ربك » ؛ أي إن بطش ربك المجيد لشديد، ولم يمتنع الفصل، لأنه جار مجرى الصفة في التشديد. الباقون بالرفع نعتا لـ « ذو » وهو الله تعالى. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر « المؤمنون » . تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار؛ أي تناهيا فيه، حتى يقتبس منهما. ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان؛ كما يقال: فلان على سرير ملكه؛ وإن لم يكن على سرير. ويقال: ثل عرشه: أي ذهب سلطانه. وقد مضى بيان هذا في « الأعراف » وخاصة في « كتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى » . « فعال لما يريد » أي لا يمتنع عليه شيء يريده. الزمخشري: « فعال » خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: « فعال » لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الفراء: هو رفع على التكرير والاستئناف؛ لأنه نكرة محضة. وقال الطبري: رفع « فعال » وهي نكرة محضة على وجه الاتباع لإعراب « الغفور الودود » . وعن أبي السفر قال: دخل ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.

الآيات: 17 - 19 ( هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب )

قوله تعالى: « هل أتاك حديث الجنود » أي قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم؛ يؤنسه بذلك ويسليه. ثم بينهم فقال: « فرعون وثمود » وهما في موضع جر على البدل من « الجنود » . المعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله بهم حين كذبوا أبياءه ورسله. « بل الذين كفروا » أي من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك. « في تكذيب » لك؛ كدأب من قبلهم. وإنما خص فرعون وثمود؛ لأن ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة وإن كانوا من المتقدمين، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك؛ فدل بهما على أمثالهما في الهلاك. والله أعلم.

الآيات: 20 - 22 ( والله من ورائهم محيط، بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ )

قوله تعالى: « والله من ورائهم محيط » أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون. والمحاط به كالمحصور. وقيل: أي والله عالم بهم فهو يجازيهم. « بل هو قرآن مجيد » أي متناه في الشرف والكرم والبركة، وهو بيان ما بالناس الحاجة إليه من أحكام الدين والدنيا، لا كما زعم المشركون. وقيل « مجيد » : أي غير مخلوق. « في لوح محفوظ » أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أم الكتاب؛ ومنه انتسخ القرآن والكتب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: « اللوح من ياقوتة حمراء، أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك يقال له ماطريون، كتابه نور، وقلمه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظره؛ ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء؛ يرفع وضيعا، ويضع رفيعا، ويغني فقيرا، ويفقر غنيا؛ يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء؛ لا إله إلا هو » . وقال أنس بن مالك ومجاهد، إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. وقيل: اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وهو أم الكتاب. وقال ابن عباس: أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ « إني أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ إلها سواي » . وكتب الحجاج إلى محمد بن الحنفية رضي الله عنه يتوعده؛ فكتب إليه ابن الحنفية: « بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ؛ يعز ويذل، ويبتلى ويفرح، ويفعل ما يريد؛ فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك، فتشتغل بها ولا تتفرغ » . وقال بعض المفسرين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه.

وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة « قرآن مجيد » على الإضافة؛ أي قرآن رب مجيد. وقرأ نافع « في لوح محفوظ » بالرفع نعتا للقرآن؛ أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح. الباقون ( بالجر ) نعتا للوح. والقراء متفقون على فتح اللام من « لوح » إلا ما روي عن يحيى بن يعمر؛ فإنه قرآن « لوح » بضم اللام، أي إنه يلوج، وهو ذو نور وعلو وشرف. قال الزمخشري: واللوح الهواء؛ يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح. وفي الصحاح: لاح الشيء يلوح لوحا أي لمح. ولاحه السفر: غيره. ولاح لوحا ولواحا: عطش، والتاج مثله. واللوح: الكتف، وكل عظم عريض. واللوح: الذي يكتب فيه. واللوح ( بالضم ) : الهواء بين السماء والأرض. والحمد لله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 18, 2014 11:25 pm

تفسير سورة الطارق للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 3 ( والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب )

قوله تعالى: « والسماء والطارق » قسمان: « السماء » قسم، و « الطارق » قسم. والطارق: النجم. وقد بينه اللّه تعالى بقوله: « وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب » . واختلف فيه؛ فقيل: هو زحل: الكوكب الذي في السماء السابعة؛ ذكره محمد بن الحسن في تفسيره، وذكر له أخبارا، اللّه أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل؛ وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - والفراء: « النجم الثاقب » : نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم؛ فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء: ثقب الطائر: إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورا، ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال: [ هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات اللّه ] فعجب أبو طالب، ونزل: « والسماء والطارق » . وروي عن ابن عباس أيضا « والسماء والطارق » قال: السماء وما يطرق فيها. وعن ابن عباس وعطاء: « الثاقب » : الذي ترمي به الشياطين. قتادة: هو عام في سائر النجوم؛ لأن طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال:

ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

وقال:

ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب

فالطارق: النجم، اسم جنس، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا، ومنه الحديث: [ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا، كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة ] . والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا. يقال: طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا، فهو طارق. ولابن الرومي:

يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تفرحن بليل طاب أوله فرب آخر ليل أجج النارا

وفي الصحاح: والطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند:

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء. الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل طارقا، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول؛ أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: ( أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) . وقال جرير في الطروق:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام

ثم بين فقال: « وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب » والثاقب: المضيء. ومنه « شهاب ثاقب » [ الصافات: 10 ] . يقال: ثقب يثقب ثقوبا وثقابة: إذا أضاء. وثقوبه: ضوئه. والعرب تقول: أثقب نارك؛ أي أضئها. قال:

أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب

الثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد: الثاقب: المتوهج. القشيري والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم، كما ذكرنا عن مجاهد. « وما أدراك ما الطارق » تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان: كل ما في القرآن « وما أدراك » ؟ فقد أخبره به. وكل شيء قال فيه « وما يدريك » : لم يخبره به.

الآية: 4 ( إن كل نفس لما عليها حافظ )

قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب « إنه على رجعه لقادر » في قول الترمذي: محمد بن علي. و « إن » : مخففة من الثقيلة، و « ما » : مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من اللّه، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقال الكلبي. وقال أبو أمامة: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ] . وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة « لما » بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: « له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله » [ الرعد: 11 ] ، على ما تقدم. وقيل: الحافظ هو اللّه سبحانه؛ فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله، يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره.

قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو اللّه جل وعز؛ قال اللّه عز وجل: « فالله خير حافظا » [ يوسف: 65 ] ، وقال: « قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن » [ الأنبياء: 52 ] . وما كان مثله.

الآيات: 5 - 8 ( فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر )

قوله تعالى: « فلينظر الإنسان » أي ابن آدم « مم خلق » وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره، وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و « مم خلق » ؟ استفهام؛ أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: « خلق » وهو جواب الاستفهام « من ماء دافق » أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم؛ لأنه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء. ويقال: دفق اللّه روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: « من ماء دافق » أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل؛ أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: « دافق » لزج. « يخرج » أي هذا الماء « من بين الصلب » أي الظهر. وفيه لغات أربع: صلب، وصلب - وقرئ بهما - وصلب ( بفتح اللام ) ، وصالب ( على وزن قالب ) ؛ ومنه قول العباس:

تنقل من صالب إلى رحم

« والترائب » أي الصدر، الواحدة: تريبة؛ وهي موضع القلادة من الصدر. قال:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل

والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها؛ وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين؛ وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر عنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب؛ ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر. وقال دريد بن الصمة:

فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب

وقال آخر:

وبدت كأن ترائبا من نحرها جمر الغضى في ساعد تتوقد

وقال آخر:

والزعفران على ترائبها شرق به اللبات والنحر

وعن عكرمة: الترائب: الصدر؛ ثم أنشد:

نظام در على ترائبها

وقال ذو الرمة:

ضرجن البرود عن ترائب حرة

أي شققن. ويروي « ضرحن » بالخاء، أي ألقين. وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر؛ ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر:

أشرف ثدياها على التريب

وقال المثقب العبدي:

ومن ذهب يسن على تريب كلون العاج ليس بذي غضون

[ عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعي: مغرز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي؛ إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز ] . وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم؛ وقال الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة « آل عمران » . والحمد لله - وفي ( الحجرات ) « إنا خلقناكم من ذكر وأنثى » [ الحجرات:31 ] وقد تقدم. وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: « من بين الصلب » ؛ لأنه إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب؛ وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن؛ ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه؛ وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة « يخرج من بين الصلُب » بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في « يخرج » للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرئ « الصلب » ، بفتح الصاد واللام. وفيه أربع لغات: صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج:

في صلب مثل العنان المؤدم

وفي مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم:

تنقل من صالب إلى رحم

الأبيات مشهورة معروفة. « إنه » أي إن اللّه جل ثناؤه « على رجعه » أي على رد الماء في الإحليل، « لقادر » كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب؛ وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الأقوى؛ لقوله تعالى: « يوم تبلى السرائر » [ الطارق: 9 ] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة؛ لأن الكفار يسألون اللّه تعالى فيها الرجعة.

الآية 9 ( يوم تبلى السرائر )

العامل في « يوم » - وفي قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان - قوله « لقادر » ، ولا يعمل فيه « رجعه » لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر « إن » . وعلى الأقوال الأخر التي في « إنه على رجعه لقادر » ، يكون العامل في « يوم » فعل مضمر، ولا يعمل فيه « لقادر » ؛ لأن المراد في الدنيا. و « تبلى » أي تمتحن وتختبر؛ وقال أبو الغول الطهوي:

ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

ويروى تبلى بسالتهم. فمن رواه « تبلى » - بضم التاء - جعله من الاختبار؛ وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة؛ كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. و « تبلى » تعرف. وقال الراجز:

قد كنت قبل اليوم تزدريني فاليوم أبلوك وتبتليني

أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه « تبلى » - بفتح التاء - فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته. وقيل: « تبلى السرائر » : أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر؛ كما قال الأحوص:

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( ائتمن اللّه تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها اللّه عز وجل يوم القيامة ) . ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( ثلاث من حافظ عليها فهو ولي اللّه حقا، ومن اختانهن فهو عدو اللّه حقا: الصلاة؛ والصوم، والغسل من الجنابة ) ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( الأمانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصلاة؛ فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الجنابة؛ فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرؤوا إن شئتم « يوم تبلى السرائر » ) ، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: « يوم تبلى السرائر » : أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب؛ يجزي اللّه به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة؛ وأشد ذلك الوديعة؛ تمثل له على هيئتها يوم أخذها؛ فيرمي بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها؛ فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث: [ غسل الجنابة من الأمانة ] . وقال ابن عمر: يبدي اللّه يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. واللّه عالم بكل شيء، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.

الآية: 10 ( فما له من قوة ولا ناصر )

قوله تعالى: « فما له » أي للإنسان « من قوة » أي منعة تمنعه. « ولا ناصر » ينصره مما نزل به. وعن عكرمة « فما له من قوة ولا ناصر » قال: هؤلاء الملوك، ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان: القوة: العشيرة. والناصر: الحليف. وقيل: « فما له من قوة » في بدنه. « ولا ناصر » من غيره يمتنع به من اللّه. وهو معنى قول قتادة.

الآيات: 11 - 16 ( والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيدا )

قوله تعالى: « والسماء ذات الرجع » أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة: الرجع: المطر، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء:

أبيض كالرجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي

[ ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه؛ قاله الجوهري ] . قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضا: نبات الربيع. وقيل: « ذات الرجع » . أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا، كما يسمى رجعا، قال:

رباء شماء لا يأوي لقلتها إلا السحاب وإلا الأوب والسبل

وقال عبدالرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل: ذات الملائكة؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. « والأرض ذات الصدع » قسم آخر؛ أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار؛ نظيره « ثم شققنا الأرض شقا » [ عبس: 26 ] الآية. والصدع: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتنصدع به. وكأنه قال: والأرض ذات النبات؛ لأن النبات صادع للأرض. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل: ذات الحرث، لأنه يصدعها. وقيل: ذات الأموات: لانصداعها عنهم للنشور. « إنه لقول فصل » على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: [ كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه ] . وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: « إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر » . « وما هو بالهزل » أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل: ضد الجد، وقد هزل يهزل. قال الكميت:

يُجَد بنا في كل يوم ونهزِل

« إنهم » أي إن أعداء اللّه « يكيدون كيدا » أي يمكرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مكرا. « وأكيد كيدا » أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل: هو ما أوقع اللّه بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل: كيد اللّه: استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول « البقرة » ، عند قوله تعالى: « الله يستهزئ بهم » [ البقرة: 15 ] . مستوفى.

الآية: 17 ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا )

قوله تعالى: « فمهل الكافرين » أي أخرهم، ولا تسأل اللّه تعجيل إهلاكهم، وارض بما يدبره في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . « أمهلهم » تأكيد. ومهل وأمهل: بمعنى؛ مثل نزل وأنزل. وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة. والاستمهال: الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا: سكون وفتور. ويقال: مهلا يا فلان؛ أي رفقا وسكونا. « رويدا » أي قريبا؛ عن ابن عباس. قتادة: قليلا. والتقدير: أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب: تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد:

كأنها ثمل يمشي على رود

أي على مهل. وتفسير « رويدا » : مهلا، وتفسير رويدك: أمهل؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأموو به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد؛ وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر؛ فالاسم نحو قولك: رويد عمرا؛ أي أرود عمرا، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك: سار القوم رويدا؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالإضافة؛ كقوله تعالى: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] . قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر؛ أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 20, 2014 2:19 pm

تفسير سورة الاعلى للقرطبى
=====


الآية: 1 ( سبح اسم ربك الأعلى )

يستحب للقارئ إذا قرأ « سبح اسم ربك الأعلى » أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى؛ قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين؛ على ما يأتي. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: ( إن لله تعالى ملكا يقال له حِزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام، فخطر له خاطر هل تقدر أن تبصر العرش جميعه؟ فزاده اللّه أجنحة مثلها، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى اللّه إليه: أيها الملك، أن طر، فطار مقدار عشرين ألف سنة؛ فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف اللّه له في الأجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضا؛ فأوحى اللّه إليه أيها الملك، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سبحان ربي الأعلى؛ فأنزل اللّه تعالى: « سبح اسم ربك الأعلى » . فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم ) . ذكره الثعلبي في ( كتاب العرائس ) له. وقال ابن عباس والسدي: معنى « سبح اسم ربك الأعلى » أي عظم ربك الأعلى. والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى؛ كما قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمي به أحدا سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، والأولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال: لا تقل على اسم اللّه؛ فإن اسم اللّه هو الأعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس: صلّ بأمر ربك الأعلى. قال: وهو أن تقول سبحان ربك الأعلى. وروي عن علي رضي اللّه عنه، وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وأبي موسى وعبدالله بن مسعود رضي اللّه عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الأعلى؛ امتثالا لأمره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم؛ لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن؛ كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل: إنها في قراءة أُبيّ: « سبحان ربي الأعلى » . وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأها قال: [ سبحان ربي الأعلى ] .

قال أبو بكر الأنباري: حدثني محمد بن شهريار، قال: حدثنا حسين بن الأسود، قال: حدثنا عبدالرحمن بن أبي حماد قال: حدثنا عيسى بن عمر، عن أبيه، قال: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة « سبح اسم ربك الأعلى » ، ثم قال: سبحان ربي الأعلى؛ فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت « سبح اسم ربك الأعلى » قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( اجعلوها في سجودكم ) . وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربك الأعلى. وقيل: إن أول من قال [ سبحان ربي الأعلى ] ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجبريل: ( يا جبريل أخبرني بثواب من قال: سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته ) . فقال: ( يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول اللّه تعالى: صدق عبدي، أنا فوق كل شيء، وليس فوقي شيء، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له، وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه، فأوقفه بين يدي اللّه تعالى، فيقول: يا رب شفعني فيه، فيقول قد شفعتك فيه، فاذهب به إلى الجنة ) . وقال الحسن: « سبح اسم ربك الأعلى » أي صل لربك الأعلى. وقل: أي صل بأسماء اللّه، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا تكبيرا

الآيات: 2 - 5 ( الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى )

قوله تعالى: « الذي خلق فسوى » قد تقدم معنى التسوية في « الانفطار » وغيرها. أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج. وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن أكثر قامته. ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الأمهات. وقيل: خلق الأجساد، فسوى الأفهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. « الذي قدر فهدى » قرأ علي رضي اللّه عنه السلمي والكسائي « قدر » مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكل. « فهدى » أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله « فهدى » قالوا: عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى؛ كما قال في ( طه ) : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » [ طه: 50 ] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقيل « قدر فهدى » : قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها؛ فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه، ولا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ كقوله تعالى: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] . ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان؛ كقوله تعالى: « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » . [ الشورى: 52 ] . أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الإيمان. وقيل: « فهدى » أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من « قدر » أنه من التقدير؛ كقوله تعالى: « وخلق كل شيء فقدره تقديرا » [ الفرقان: 2 ] . ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك؛ أي ملك الأشياء، وهدي من يشاء.

قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته.
قوله تعالى: « والذي أخرج المرعى » أي النبات والكلأ الأخضر. قال الشاعر:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا

« فجعله غثاء أحوى » الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش. وكذلك الغثاء ( بالتشديد ) . والجمع: الأغثاء، قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء؛ كما قال:

كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل

وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا. وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى: الأسود؛ أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة: السواد؛ قال الأعشى:

لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب

وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة. وتصغير أحوى أحيو؛ في لغة من قال أسيود. ثم قيل: يجوز أن يكون « أحوى » حالا من « المرعى » ، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد؛ والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت؛ حكاه الكسائي، وقال:

وغيث من الوسميّ حُوٍّ تلاعه تبطنته بشيظم صلتان

ويجوز أن يكون « حوى » صفة لـ « غثاء » . والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه؛ والرطب إذا يبس أسود. وقال عبدالرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه اللّه تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

الآيات: 6 - 8 ( سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى، ونيسرك لليسرى )

قوله تعالى: « سنقرئك » أي القرآن يا محمد فنعلمكه « فلا تنسى » أي فتحفظ؛ رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من اللّه تعالى؛ بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أُمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأولها، مخافة أن ينساها؛ فنزلت: « سنقرئك فلا تنسى » بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.
قوله تعالى: « إلا ما شاء الله » وجه الاستثناء على، ما قاله الفراء: إلا ما شاء اللّه، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا؛ كقوله تعالى: « خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك » [ هود: 108 ] . ولا يشاء. ويقال في الكلام: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الإيمان؛ يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات، « إلا ما شاء اللّه » . وعن سعيد عن قتادة، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينسى شيئا؛ « إلا ما شاء اللّه » . وعلى هذه الأقوال قيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك؛ فاذا قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: [ إني نسيتها ] . وقيل: هو من النسيان؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسيك. ثم قيل: هذا بمعنى النسخ؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك؛ أي يعصمك من أن تترك العمل به؛ إلا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة. قال الفرغاني: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان رجلا جليلا؛ فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى: « سنقرئك فلا تنسى » ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض اللّه فاك مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله « فلا » : للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي؛ وإنما أثبتت الياء لأن رؤوس الآي على ذلك. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه؛ إلا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والأول هو المختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. وقيل: معناه إلا ما شاء اللّه أن يؤخر إنزاله. وقيل: المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء اللّه أن ينال بنو آدم والبهائم، فإنه لا يصير كذلك.

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر وما يخفى » أي الإعلان من القول والعمل. « وما يخفى » من السر. وعن ابن عباس: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. « وما يخفى » هو ما نسخ من صدرك. « ونيسرك » : معطوف على « سنقرئك » وقوله: « إنه يعلم الجهر وما يخفى » اعتراش. ومعنى « لليسرى » أي للطريقة اليسرى؛ وهي عمل الخير. قال ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرا. ابن مسعود: « لليسرى » أي للجنة. وقيل: نوفقك للشريعة اليسرى؛ وهي الحنيفية السمحة السهلة؛ قال معناه الضحاك. وقيل: أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.

الآية: 9 ( فذكر إن نفعت الذكرى )

قوله تعالى: « فذكر » أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. « إن نفعت الذكرى » أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى؛ أو لم تنفع، فحذف؛ كما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] . وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل: إن « إن » بمعنى ما؛ أي فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون « إن » بمعنى ما، لا بمعنى الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال؛ قال ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية: « أن » « إن » بمعنى إذ؛ أي إذ نفعت؛ كقوله تعالى: « وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين » [ آل عمران: 139 ] أي إذ كنتم؛ فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد.

الآية: 10 ( سيذكر من يخشى )

أي من يتقي اللّه ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي: وقد يذكر من يرجوه، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل: أي عمم أنت التذكير والوعظ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء؛ حكاه القشيري.

الآيات: 11 - 13 ( ويتجنبها الأشقى، الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى )

قوله تعالى: « ويتجنبها » أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. « الأشقى » أي الشقي في علم اللّه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. « الذي يصلى النار الكبرى » أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار؛ قاله الفراء. وعن الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا؛ وقاله يحيى بن سلام. « ثم لا يموت فيها ولا يحيى » أي لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه؛ كما قال الشاعر:

ألا ما لنفس لا تموت فينقضي عناها ولا تحيا حياة لها طعم

وقد مضى في « النساء » وغيرها حديث أبي سعيد الخدري، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول الفراء - احترقوا فيها وماتوا؛ إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل: أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم، هذا الوعيد للأشقى، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة.

الآيات: 14 - 15 ( قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى )

قوله تعالى: « قد أفلح » أي قد صادف البقاء في الجنة؛ أي من تطهر من الشرك بإيمان؛ قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة: « تزكى » قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي عالية: نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى » قال: خرج فصلى بعدما أدى. وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان: قال اللّه تعالى: « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى » . وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: « قد أفلح من تزكى » قال: [ أخرج زكاة الفطر ] ، « وذكر اسم ربه فصلى » قال: [ صلاة العيد ] . وقال ابن عباس والضحاك: « وذكر اسم ربه » في طريق المصلى « فصلى » صلاة العيد. وقيل: المراد بالآية زكاة الأموال كلها؛ قال أبو الأحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال: قلت لعطاء: « قد أفلح من تزكى » للفطر؟ قال: هي للصدقات كلها. وقيل: هي زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير؛ لأن الأكثر أن يقال في المال: زكى، لا تزكى. وروى جابر بن عبدالله قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ « قد أفلح من تزكى » أي من شهد أن لا إله إلا اللّه، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول اللّه ] . وعن ابن عباس « تزكى » قال: لا إله إلا اللّه. وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق؛ فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: [ إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزل، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ] ؟ فقال: أبيع عاجلا بآجل لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته؛ ففيه نزلت « قد أفلح من تزكى » . ونزلت في المنافق « ويتجنبها الأشقى » . وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.

وقد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة « البقرة » مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية؛ في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل.

قوله تعالى: « وذكر اسم ربه فصلى » أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي اللّه جل ثناؤه، فعبده وصلى له. وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة، لأنها لا تنعقد إلا بذكره؛ وهو قوله: اللّه أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأن الصلاة معطوفة عليها. وفيه حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللّه عز وجل. وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة « البقرة » . وقيل: هي تكبيرات العيد. قال الضحاك: « وذكر اسم ربه » في طريق المصلى « فصلى » ؛ أي صلاة العيد. وقيل: « وذكر اسم ربه » وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه. وقيل: هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. « فصلى » أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وقيل: الدعاء؛ أي دعاء اللّه بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل: صلاة العيد؛ قال أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته؛ قال أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبدالله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.

الآية: 16 ( بل تؤثرون الحياة الدنيا )

قراءة العامة « بل تؤثرون » بالتاء؛ تصديقه قراءة أُبيّ « بل أنتم تؤثرون » . وقرأ أبو عمرو ونصر بن عاصم « بل يؤثرون » بالياء على الغيبة؛ تقديره: بل يؤثرون الأشقون الحياة الدنيا. وعلى الأول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا، للاستكثار من الثواب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها، ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وروى ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا. قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فريا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة. ثم قال: يا أنس، ما ثَبَر الناس ما بطأ بهم؟ قلت الدنيا والشيطان والشهوات. قال: لا، ولكن عجلت الدنيا، وغيبت الآخرة، أما واللّه لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا.

الآية: 17 ( والآخرة خير وأبقى )

أي والدار الآخرة؛ أي الجنة. « خير » أي أفضل. « وأبقى » أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ] صحيح. وقد تقدم. وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى. قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى.

الآيات: 18 - 19 ( إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى )

قوله تعالى: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال قتادة وابن زيد: يريد قوله « والآخرة خير وأبقى » . وقالا: تتابعت كتب اللّه جل ثناؤه ـ كما تسمعون ـ أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال: كتب اللّه جل ثناؤه كلها. الكلبي: « إن هذا لفي الصحف الأولى » من قوله: « قد أفلح » إلي آخر السورة؛ لحديث أبي ذر على ما يأتي. وروى عكرمة عن ابن عباس: « إن هذا لفي الصحف الأولى » قال: هذه السورة. وقال الضحاك: إن هذا القرآن لفي الصحف الأولى؛ أي الكتب الأولى. « صحف إبراهيم وموسى » يعني الكتب المنزلة عليهما. ولم يرد أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى؛ أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وروى الآجري من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم. فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع اللّه عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه. قال: قلت يا رسول اللّه، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل!. قال: قلت يا رسول اللّه، فهل في أيدينا شيء مما كان في يديه إبراهيم وموسى، مما أنزل اللّه عليك؟ قال: نعم اقرأ يا أبا ذر: « قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى. إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى » . وذكر الحديث.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 21, 2014 12:40 am

تفسير سورة الغاشية للقرطبى
======


الآية: 1 ( هل أتاك حديث الغاشية )

« هل » بمعنى قد؛ كقوله: « هل أتى على الإنسان » [ الإنسان: 1 ] ؛ قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية؛ أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها؛ قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: « الغاشية » : النار تغشى وجوه الكفار؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس؛ ودليله قوله تعالى: « وتغشى وجوههم النار » [ إبراهيم: 50 ] . وقيل: تغشى الخلق. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلائق. وقيل: « الغاشية » أهل النار يغشونها، ويقتحمون فيها. وقيل: معنى « هل أتاك » أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا. وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله؛ ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك؛ وهو معنى قول الكلبي.

الآيات: 2 - 3 ( وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة )

قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: « وجوه يومئذ » أي يوم القيامة. « خاشعة » قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت: خفي؛ قال اللّه تعالى: « وخشعت الأصوات للرحمن » [ طه: 108 ] . والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه. وقال قتادة وابن زيد: « خاشعة » أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى؛ قاله ابن عباس. ثم قال: « عاملة ناصبة » فهذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا « خاشعة » في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي:

حتى شآها كليل موهنا عمل باتت طرابا وبات الليل لم ينم

« ناصبة » أي تعبة. يقال: نصب ( بالكسر ) ينصب نصبا: إذا تعب، ونصبا أيضا، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية اللّه عز وجل، وعلى الكفر؛ مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل اللّه جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له.

وقال سعيد عن قتادة: « عاملة ناصبة » قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة اللّه عز وجل، فأعملها اللّه وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار؛ كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقائها في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها؛ إلى غير ذلك من عذابها. وقال ابن عباس. وقرا ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير « ناصبة » بالنصب على الحال. وقيل: على الذم. الباقون ( بالرفع ) على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على « خاشعة » . ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن « وجوه » ، فلا يوقف على « خاشعة » . وقيل: « عاملة ناصبة » أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة. قال عكرمة والسدي: عملت في الدنيا بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان أصحاب الصوامع؛ وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه. وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، - وقرأ قول اللّه عز وجل - « وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة » . قال الكسائي: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيء الحال، مثل المتقحل. وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة. وأنشد:

لعوا إذا لاقيته تقهلا

والقهل: كفران الإحسان. وقد قهل يقهل قهلا: إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط؛ قال الجوهري. وعن علي رضي اللّه عنه أنهم أهل حروراء؛ يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرميَّة... ] الحديث.

الآية: 4 ( تصلى نارا حامية )

قوله تعالى: « تصلى » أي يصيبها صلاؤها وحرها. « حامية » شديدة الحر؛ أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار ( بالكسر ) ، وحمي التنور حميا فيهما؛ أي اشتد حره. وحكى الكسائي: اشتد حمي الشمس وحموها: بمعنى. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب « تُصلى » بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرئ « تُصلّى » بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في « إذا السماء انشقت » [ الانشقاق:1 ] . الماوردي: فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها: أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني: أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم؛ كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن لكل ملك حمى، وإن حمى اللّه محارمه. ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] . الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماستها؛ كما يحمي الأسد عرينه؛ ومثله قول النابغة:

تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأس د الحامي

الرابع: أنها حامية حمى غيظ وغضب؛ مبالغة في شدة الانتقام. ولم يرد حمى جرم وذات؛ كما يقال: قد حمى فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين اللّه تعالى بقوله هذا المعنى فقال: « تكاد تميز من الغيظ » [ الملك: 8 ] .

الآية: 5 ( تسقى من عين آنية )

الآني: الذي قد انتهى حره؛ من الإيناء، بمعنى التأخير. ومنه ( آنيت وآذيت ) . وآناه يؤنيه إيناء، أي أحره وحبسه وأبطأه. ومنه « يطوفون بينها وبين حميم آن » [ الرحمن: 44 ] . وفي التفاسير « من عين آنية » أي تناهى حرها؛ فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت. وقال الحسن: « آنية » أي حرها أدرك؛ أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بلغت أناها، وحان شربها.

الآية: 6 ( ليس لهم طعام إلا من ضريع )

قوله تعالى: « ليس لهم » أي لأهل النار. « طعام إلا من ضريع » لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم. قال عكرمة ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه؛ وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه؛ على هذا عامة المفسرين. إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال: هو شيء يرمى به البحر، يسمى الضريع، من أقوات الأنعام لا الناس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلا. والصحيح ما قاله الجمهور: أنه نبت. قال أبو ذؤيب:

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بأن منه النحائص

وقال الهذلي وذكر إبلا وسوء مرعاها:

وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود

وقال الخليل: الضريع: نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر. وقال الوالبي عن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها. وقال سعيد بن جبير: هو الحجارة، وقاله عكرمة. والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الضريع: شيء يكون في النار، يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه اللّه ضريعا ) . وقال خالد بن زياد: سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية « ليس لهم طعام إلا من ضريع » قال: بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم، حملها القيح والدم، أشد مرارة من الصبر، فذلك طعامهم.

وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه اللّه من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى اللّه تعالى، طلبا للخلاص منه؛ فسمي بذلك، لأن أكله يضرع في أن يعفى منه، لكراهته وخشونته. قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقا من الضارع، وهو الذليل؛ أي ذو ضراعة، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة. وعن الحسن أيضا: هو الزقوم. وقيل: هو واد في جهنم. فاللّه أعلم. وقد قال اللّه تعالى في موضع آخر: « فليس له اليوم ههنا حمم. ولا طعام إلا من غسلين » [ الحاقة:35 - 36 ] . وقال هنا: « إلا من ضريع » وهو غير الغسلين. ووجه الجمع أن النار دركات؛ فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد. قال الكلبي: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى. ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال: « يطوفون بينها وبين حميم آن » [ الرحمن: 44 ] . القتبي: ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار. قال: وإنما دلنا اللّه على الغائب عنده، بالحاضر عندنا؛ فالأسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة. وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها. القشيري: وأمثل من قول القتبي أن نقول: إن الذي يبقي الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب، يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار، ليعذب بها الكفار. وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه. فالضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس. وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكت هزلا، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلا، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع. قال الترمذي الحكيم: وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنيء، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة اللّه تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر نارا، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار؛ فقال تعالى: « الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون » [ يس: 80 ] . وكما قيل حين نزلت « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم » [ الإسراء: 97 ] : قالوا يا رسول اللّه، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: [ الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ] . فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب. أو ليس قد أخبرنا أنه « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها » [ النساء: 56 ] ، وقال: « سرابيلهم من قطران » [ إبراهيم: 50 ] ، وقال: « إن لدينا أنكالا » [ المزمل: 12 ] أي قيودا. « وجحيما وطعاما ذا غصة » قيل: ذا شوك. فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الأشياء.

الآية: 7 ( لا يسمن ولا يغني من جوع )

يعني الضريع لا يسمن آكله. وكيف يسمن من يأكل الشوك! قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: « لا يسمن ولا يغني من جوع » . وكذبوا، فإن الإبل إنما ترعاه رطبا، فإذا يبس لم تأكله. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع، لأن المضارعة المشابهة. فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع.

الآيات: 8 - 10 ( وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية )

قوله تعالى: « وجوه يومئذ ناعمة » أي ذات نعمة. وهي وجوه المؤمنين؛ نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح. « لسعيها » أي لعملها الذي عملته في الدنيا. « راضية » في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها. ومجازه: لثواب سعيها راضية. وفيها واو مضمرة. المعنى: ووجوه يومئذ، للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة. والوجوه عبارة عن الأنفس. « في جنة عالية » أي مرتفعة، لأنها فوق السموات حسب ما تقدم. وقيل: عالية القدر، لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وهم فيها خالدون.

الآية: 11 ( لا تسمع فيها لاغية )

قوله تعالى: « لاغية » أي كلاما ساقطا غير مرضي. وقال: « لاغية » ، واللغو واللغا واللاغية: بمعنى واحد. قال:

عن اللَّغا ورفث التكلم

وقال الفراء والأخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو. وفي المراد بها ستة أوجه: أحدها: يعني كذبا وبهتانا وكفرا باللّه عز وجل؛ قال ابن عباس. الثاني: لا باطل ولا إثم؛ قال قتادة. الثالث: أنه الشتم؛ قاله مجاهد. الرابع: المعصية؛ قاله الحسن. الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب؛ قاله الفراء. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة. السادس: لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو؛ لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد اللّه على ما رزقهم من النعيم الدائم؛ قال الفراء أيضا. وهو أحسنها لأنه يعم ما ذكر. وقرأ أبو عمرو وابن كثير « لا يسمع » بياء غير مسمى الفاعل. وكذلك نافع، إلا أنه بالتاء المضمومة؛ لأن اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه. ومن قرأ بالياء فلأنه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور. وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة « لاغية » نصا على إسناد ذلك للوجوه، أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية.

الآيات: 12 - 16 ( فيها عين جارية، فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة )

قوله تعالى: « فيها عين جارية » أي بماء مندفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود. وقد تقدم في سورة « الإنسان » أن فيها عيونا. فـ « عين » : بمعنى عيون. واللّه أعلم. « فيها سرر مرفوعة » أي عالية. وروي أنه كان ارتفاعها قدر ما بين السماء والأرض، ليرى ولي اللّه ملكه حوله. « وأكواب موضوعة » أي أباريق وأوان. والإبريق: هو ماله عروة وخرطوم. والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم. وقد تقدم هذا في سورة « الزخرف » وغيرها. « نمارق » أي وسائد، الواحدة نمرقة. « مصفوفة » أي واحدة إلى جنب الأخرى. قال الشاعر:

وإنا لنجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوسَ فوق النمارق

وقال آخر:

كهول وشبان حسان وجوهم على سرر مصفوفة ونمارق

وفي الصحاح: النُّمرق والنمرقة: وسادة صغيرة. وكذلك النِّمرِقة ( بالكسر ) لغة حكاها يعقوب. وربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة؛ عن أبي عبيد. « وزرابي مبثوثة » قال أبو عبيدة: الزرابي: البسط. وقال ابن عباس: الزرابي: الطنافس التي لها حمل رقيق، واحدتها: زربية؛ وقال الكلبي والفراء. والمبثوثة: المبسوطة؛ قال قتادة. وقيل: بعضها فوق بعض؛ قال عكرمة. وقيل كثيرة؛ قاله الفراء. وقيل: متفرقة في المجالس؛ قاله القتبي.

قلت: هذا أصوب، فهي كثيرة متفرقة. ومنه « وبث فيها من كل دابة » [ البقرة: 164 ] . وقال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الحسين، قال حدثنا حسين بن عرفة، قال حدثنا عمار بن محمد، قال: صليت خلف منصور بن المعتمر، فقرأ: « هل أتاك حديث الغاشية » ، وقرأ فيها: « وزرابي مبثوثة » : متكئين فيها ناعمين.

الآية: 17 ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )

قال المفسرون: لما ذكر اللّه عز وجل أمر أهل الدارين، تعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا؛ فذكرهم اللّه صنعته وقدرته؛ وأنه قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض. ثم ذكر الإبل أولا، لأنها كثيرة في العرب، ولم يروا الفيلة، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه؛ قد ذلله للصغير، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره. فأراهم عظيما من خلقه، مسخرا لصغير من خلقه؛ يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته. وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها؛ ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق. وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش؛ حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم. وقيل: لما ذكر السرر المرفوعة قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل اللّه هذه الآية، وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم؛ فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع. قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما. وقيل: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب؛ قاله المبرد. قال الثعلبي: وقيل في الإبل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة.

قلت: قد ذكر الأصمعي أبو سعيد عبدالملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها « أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت » بالتخفيف: عنى به البعير، لأنه من ذوات الأربع، يبرك فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم. ومن قرأها بالتثقيل فقال: « الإبل » ، عني بها السحاب التي تحمل الماء والمطر. وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الإبل من النعم. الثاني: أنها السحاب. فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه. وإن كان المراد بها الإبل من النعم، فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والإبل تجمع هذه الخلال الأربع؛ فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة فيها أتم. وقال الحسن: إنما خصها اللّه بالذكر لأنها تأكل النوى والقَتّ، وتخرج اللبن. وسئل الحسن أيضا عنها وقالوا: الفيل أعظم في الأعجوبة: فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب دره. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. والإبل: لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها الهاء، فقلت: أبيلة وغنيمه، ونحو ذلك. وربما قالوا للإبل: إبل، بسكون الباء للتخفيف، والجمع: آبال.

الآيات: 18 - 20 ( وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت )

قوله تعالى: « وإلى السماء كيف رفعت » أي رفعت عن الأرض بلا عمد. وقيل: رفعت، فلا ينالها شيء. « وإلى الجبال كيف نصبت » أي كيف نصبت على الأرض، بحيث لا تزول؛ وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال. كما قال: « وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم » [ الأنبياء: 31 ] . « وإلى الأرض كيف سطحت » أي بسطت ومدت. وقال أنس: صليت خلف علي رضي اللّه عنه، فقرأ « كيف خلقت » و « رفعت » و « نصبت » و « سطحت » ، بضم التاءات؛ أضاف الضمير إلى اللّه تعالى. وبه كان يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية؛ والمفعول محذوف، والمعنى خلقتها. وكذلك سائرها. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء: « سطحت » بتشديد الطاء وإسكان التاء. وكذلك قرأ الجماعة، إلا أنهم خففوا الطاء. وقدم الإبل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز. قال القشيري: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة. وقد قيل: هو أقرب إلى الناس في حق العرب، لكثرتها عندهم، وهم من أعرف الناس بها. وأيضا: مرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأخر؛ فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب. وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس، ومن هذا حاله تفكر فيما يحضره، فقد ينظر في مركوبه، ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الأرض. فأمروا بالنظر في هذه الأشياء، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر.

الآيات: 21 - 26 ( فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم )

قوله تعالى: « فذكر » أي فعظهم يا محمد وخوفهم. « إنما أنت مذكر » أي واعظ. « لست عليهم بمصيطر » أي بمسلط عليهم فتقتلهم. ثم نسختها آية السيف. وقرأ هارون الأعور « بمسيطَر » ( بفتح الطاء ) ، و « المسيطَرون » [ الطور: 37 ] . وهي لغة تميم. وفي الصحاح: « المسيطر والمصيطر: المسلِّط على الشيء، ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر، لأن من معنى السطر ألا يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر؛ يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: » لست عليهم بمسيطر « . وسطره أي صرعه. » إلا من تولى وكفر « استثناء منقطع، أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير. » فيعذبه الله العذاب الأكبر « وهي جهنم الدائم عذابها. وإنما قال: » الأكبر « لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والأسر والقتل. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: » إلا من تولى وكفر فإنه يعذبه اللّه « . وقيل: هو استثناء متصل. والمعنى: لست بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلط عليه بالجهاد، واللّه يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير. وروي أن عليا أتى برجل ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الإسلام، فضرب عنقه، وقرأ » إلا من تولى وكفر « . وقرأ ابن عباس وقتادة » ألا « على الاستفتاح والتنبيه، كقول امرئ القيس: »

ألا رب يوم لك منهن صالح

و « من » على هذا: للشرط. والجواب « فيعذبه اللّه » والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه اللّه، لأنه لو أرتد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: إلا من تولى وكفر يعذبه اللّه. « إن إلينا إيابهم » أي رجوعهم بعد الموت. يقال: آب يؤوب؛ أي رجع. قال عبيد:

وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب

وقرأ أبو جعفر « إيابهم » بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام. وقيل: هما لغتان بمعنى. الزمخشري: وقرأ أبو جعفر المدني « إيابهم » بالتشديد؛ ووجهه أن يكون فيعالا: مصدر أيب، قيل من الإياب. أو أن يكون أصله إوابا فعالا من أوب، ثم قيل: إيوابا كديوان في دوان. ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 21, 2014 11:09 pm

تفسير سورة الفجر للقرطبى
=====


الآيات: 1 - 2 ( والفجر، وليال عشر )

قوله تعالى: « والفجر » أقسم بالفجر. « وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر » أقسام خمسة. واختلف في « الفجر » ، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم؛ قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي اللّه عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لأنه أوله. وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس: يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة. وعنه أيضا: صلاة الصبح. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: « والفجر » : يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن اللّه تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله؛ إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد. وقال عكرمة: « والفجر » قال: انشقاق الفجر من يوم جمع. وعن محمد بن كعب القرظي: « والفجر » آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن اللّه تعالى قرن الأيام به فقال: « وليال عشر » أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: « وليال عشر » هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها اللّه في قصة موسى عليه السلام « وأتممناها بعشر » [ الأعراف: 142 ] ، وهي أفضل أيام السنة. وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: « والفجر وليال عشر » - قال: [ عشر الأضحى ] فهي ليال عشر على هذا القول؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها اللّه بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. واللّه اعلم. وعن ابن عباس أيضا: هي العشر الأواخر من رمضان؛ وقاله الضحاك. وقال ابن عباس أيضا ويمان والطبري: هي العشر الأول من المحرم، التي عاشرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس « وليال عشر » بالإضافة يريد: وليالي أيام عشر.

الآية: 3 ( والشفع والوتر )

الشفع: الاثنان، والوتر: الفرد. واختلف في ذلك؛ فروي مرفوعا عن عمران بن الحصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( الشفع والوتر: الصلاة، منها شفع، ومنها وتر ) . وقال جابر بن عبداللّه: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( « والفجر وليال عشر » - قال: هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع: يوم النحر ) . وهو قول ابن عباس وعكرمة. واختاره النحاس، وقال: حديث أبي الزبير عن جابر هو الذي صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين. فيوم عرفة وتر، لأنه تاسعها، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وعن أبي أيوب قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: « والشفع والوتر » فقال: ( الشفع: يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر ) . وقال مجاهد وابن عباس أيضا: الشفع خَلْقُهُ، قال اللّه تعالى: « وخلقناكم أزواجا » [ النبأ: 8 ] والوتر هو اللّه عز وجل. فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ونحوه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، قالوا: الشفع: الخلق، قال اللّه تعالى : « ومن كل شيء خلقنا زوجين » [ الذاريات: 49 ] : الكفر والإيمان.، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والجن والإنس. والوتر: هو اللّه عز وجل، قال جل ثناؤه: « قل هو الله أحد. الله الصمد » [ الإخلاص: 2 ] . وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن لله تسعة وتسعين اسما، واللّه وتر يحب الوتر ] . وعن ابن عباس أيضا: الشفع: صلاة الصبح « والوتر: صلاة المغرب. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب، الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة. وقال ابن الزبير: الشفع: يوما منى: الحادي عشر، والثاني عشر. والثالث عشر الوتر؛ قال اللّه تعالى: » فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه « . وقال الضحاك : الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة. وهو قول عطاء. وقيل: إن الشفع والوتر: آدم وحواء؛ لأن آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء، فصار شفعا بعد وتر. رواه ابن أبي نجيح، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وفي رواية: الشفع: آدم وحواء، والوتر هو اللّه تعالى. وقيل: الشفع والوتر: الخلق؛ لأنهم شفع ووتر، فكأنه أقسم بالخلق.»

وقد يقسم اللّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى: « وما خلق الذكر والأنثى » [ الليل: 3 ] . ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه؛ كما قال: « والشمس وضحاها » ، « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] ، « والسماء والطارق » [ الطارق: 1 ] . وقيل: الشفع: درجات الجنة، وهي ثمان. والوتر، دركات النار؛ لأنها سبعة. وهذا قول الحسين بن الفضل؛ كأنه أقسم بالجنة والنار. وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة. وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينه: الوتر: هو اللّه، وهو الشفع أيضا؛ لقوله تعالى: « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » [ المجادلة: 7 ] . وقال أبو بكر الوراق: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين: العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والحياة والموت، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس. والوتر: انفراد صفات اللّه تعالى: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وازاها. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر: العدد كله؛ لأن العدد لا يخلو عنهما، وهو إقسام بالحساب. وقيل: الشفع: مسجدي مكة والمدينة، وهما الحرمان. والوتر: مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع: القرن بين الحج والعمرة، أو التمتع بالعمرة إلى الحج. والوتر: الإفراد فيه. وقيل: الشفع: الحيوان؛ لأنه ذكر وأنثى. والوتر: الجماد. وقيل: الشفع: ما ينمي، والوتر: ما لا ينمي. وقيل غير هذا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي وحمزة وخلف « والوتر » بكسر الواو. والباقون [ بفتح الواو ] ، وهما لغتان بمعنى واحد. وفي الصحاح: الوتر بالكسر: الفرد، والوتر [ بفتح الواو ] : الذحل. هذه لغة أهل العالية. فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم. فأما تميم فبالكسر فيهما.

الآيات: 4 - 5 ( والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر )

قوله تعالى: « والليل إذا يسر » وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى « يسري » أي يسرى فيه؛ كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل الم ط ي بنائم

ومنه قوله تعالى: « بل مكر الليل والنهار » [ سبأ: 33 ] . وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتبي والأخفش. وقال أكثر المفسرين: معنى « يسري » : سار فذهب. وقال قتادة وأبو العالية: جاء وأقبل. وروي عن إبراهيم: « والليل إذا يسر » قال: إذا استوى. وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله: « والليل » : هي ليلة المزدلفة خاصة؛ لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة اللّه. وقيل: ليلة القدر؛ لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها. وقيل: إنه أراد عموم الليل كله.

قلت: وهو الأظهر، كما تقدم. واللّه أعلم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب « يسري » بإثبات الياء في الحالين، على الأصل؛ لأنها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا؛ لأنه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط؛ لأنها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرؤوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم:

كفاك كفٌّ ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

يقال: فلان ما يليق درهما من جوده؛ أي ما يمسكه، ولا يلصق به. وقال المؤرج: سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من « يسر » فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة؛ فقال: الليل لا يَسْرِي وإنما يَسْرَى فيه؛ فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: « وما كانت أمك بغيا » [ مريم: 28 ] ، لم يقل بغية، لأنه صرفها عن باغية. الزمخشري: وياء « يسري » تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، وهو ليعذبن؛ يدل عليه قوله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك » إلى قوله تعالى « فصب عليهم ربك سوط عذاب » [ الفجر:13 ] . وقال ابن الأنباري هو « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر:14 ] . وقال مقاتل: « هل » هنا في موضع إن؛ تقديره: إن في ذلك قسما لذي حجر. فـ « هل » على هذا، في موضع جواب القسم. وقيل: هي على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير؛ كقولك: ألم أنعم عليك؛ إذا كنت قد أنعمت. وقيل: المراد بذلك التأكيد لما أقسم به وأقسم عليه. والمعنى « : بل في ذلك مقنع لذي حجر. والجواب على هذا: « إن ربك لبالمرصاد » [ الفجر:14 ] . أو مضمر محذوف. »

قوله تعالى: « لذي حجر » أي لذي لب وعقل. قال الشاعر:

وكيف يرجى أن تتوب وإنما يرجى من الفتيان من كان ذا حجر

كذا قال عامة المفسرين؛ إلا أن أبا مالك قال: « لذي حجر » : لذي ستر من الناس. وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر؛ الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر؛ ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف؛ ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها. وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها؛ كأنه أخذ من حجرت على الرجل.

الآيات: 6 - 7 ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد )

قوله تعالى: « ألم تر كيف فعل ربك » أي مالكك وخالقك. « بعاد » قراءة العامة « بعادٍ » منونا. وقرأ الحسن وأبو العالية « بعاد إرم » مضافا. فمن لم يضف جعل « إرم » اسمه، ولم يصرفه؛ لأنه جعل عادا اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة؛ وجعله بدلا منه، أو عطف بيان. ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم. وتقديره: بعاد أهل إرم. كقوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ولم تنصرف - قبيلة كانت أو أرضا - للتعريف والتأنيث. وقراءة العامة « إرم » بكسر الهمزة. وعن الحسن أيضا « بعادَ إرَمَ » مفتوحتين، وقرئ « بعاد إِرْمَ » بسكون الراء، على التخفيف؛ كما قرئ « بورِقكم » . وقرئ « بعادٍ إرَمَ ذات العماد » بإضافة « إرم » - إلى - « ذات العماد » . والإرم: العلم. أي بعاد أهل ذات العلم. وقرئ « بعادٍ إرَمَ ذات العماد » أي جعل اللّه ذات العماد رميما. وقرأ مجاهد والضحاك وقتادة « أَرَمَ » بفتح الهمزة. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام، التي هي الأعلام، واحدها: أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر. أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد. وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد عام. وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورا؛ إذ كانوا في بلاد العرب، وحِجر ثمود موجود اليوم. وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب. وقد تقدم هذا المعنى في سورة « البروج » وغيرها « بعاد » أي بقوم عاد. فروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة، ولو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.

و « إرم » قيل هو سام بن نوح؛ قاله ابن إسحاق. وروى عطاء عن ابن عباس - وحكى عن ابن إسحاق أيضا - قال: عاد بن إرم. فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعلى القول الأول: هو اسم جد عاد. قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام. فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة. وقال مجاهد: « إرم » أمة من الأمم. وعنه أيضا: أن معنى إرم: القديمة، ورواه ابن أبي نجيح. وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية. وقال قتادة: هي قبيلة من عاد. وقيل: هما عادان. فالأولى هي إرم؛ قال اللّه عز وجل: « وأنه أهلك عادا الأولى » [ النجم: 50 ] . فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد؛ كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم. ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:

مجدا تليدا بناه أولهم أدرك عادا وقبله إرما

وقال معمر: « إرم » : إليه مجمع عاد وثمود. وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود. وكانت القبائل تنتسب إلى إرم. « ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد » قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طول ثلثمائة ذراع بذراع نفسه. وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا. ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح: [ إن اللّه خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن ] . وزعم قتادة: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا. قال أبو عبيدة: « ذات العماد » ذات الطول. يقال: رجل معمد إذا كان طويلا. ونحوه عن ابن عباس ومجاهد. وعن قتادة أيضا: كانوا عمادا لقومهم؛ يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وعنه أيضا: قيل لهم ذلك، لأنهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع، وكانوا أهل خيام وأعمدة، ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم. وقيل: « ذات العماد » أي ذات الأبنية المرفوعة على العمد. وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور. قال ابن زيد: « ذات العماد » يعني إحكام البنيان بالعمد. وفي الصحاح: والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث. قال عمرو بن كلثوم:

ونحن اذا عماد الحي خرت على الأحفاض نمنع من يلينا

والواحدة عمادة. وفلان طويل العماد: إذا كان منزل معلما لزائره. والأحفاض: جمع حفض - بالتحريك - وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل؛ أي خرت على المتاع. ويروى؛ عن الأحفاض أي خرت عن الإبل التي تحمل خرثي البيت. وقال الضحاك: « ذات العماد » ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة؛ دليله قوله تعالى: « وقالوا من أشد منا قوة » [ فصلت: 15 ] . وروى عوف عن خالد الربعي « إرم ذات العماد » قال: هي دمشق. وهو قول عكرمة وسعيد المقبري. رواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الإسكندرية.

الآية: 8 ( التي لم يخلق مثلها في البلاد )

قوله تعالى: « التي لم يخلق مثلها في البلاد » الضمير في « مثلها » يرجع إلى القبيلة. أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد: قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة؛ عن الحسن وغيره. وفي حرف عبدالله « التي لم يخلق مثلهم في البلاد » . وقيل: يرجع للمدينة. والأول أظهر، وعليه الأكثر، حسب ما ذكرناه. ومن جعل « إرم » مدينة قدر حذفا؛ المعنى: كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم، أو بعد صاحبه إرم. وإرم على هذا: مؤنثة معرفة. واختار ابن العربي أنها دمشق، لأنه ليس في البلاد مثلها. ثم أخذ ينعتها بكثرة مياهها وخيراتها. ثم قال: وإن في الإسكندرية لعجائب، لو لم يكن إلا المنارة، فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد، ولكن لها أمثال، فأما دمشق فلا مثل لها. وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالإسكندرية، فلم يدر ما هو؟ فإذا فيه: أنا شداد بن عاد، الذي رفع العماد، بنيتها حين لا شيب ولا موت. قال مالك: إن كان لتمر بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وذكر عن ثور بن زيد أنه قال: أنا شداد بن عاد، وأنا رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن الواد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، ودانت له ملوكها؛ فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، في ثلثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة. وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبداللّه بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا واللّه ذلك الرجل. وقيل: أي لم يخلق مثل أبنية عاد المعروفة بالعمد. فالكناية للعماد. والعماد على هذا: جمع عمد. وقيل: الإرم: الهلاك؛ يقال: أرم بنو فلان: أي هلكوا؛ وقال ابن عباس. وقرأ الضحاك: « أرم ذات العماد » ؛ أي أهلكهم، فجعلهم رميما.

الآية: 9 ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد )

ثمود: هم قوم صالح. و « جابوا » : قطعوا. ومنه: فلان يجوب البلاد، أي يقطعها. وإنما سمي جيب القميص لأنه جيب؛ أي قطع. قال الشاعر وكان قد نزل على ابن الزبير بمكة، فكتب له بستين وسقا يأخذها بالكوفة. فقال:

راحت رواحا قلوصي وهي حامد آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا

راحت بستين وسقا في حقيبتها ما حملت حملها الأدنى ولا السددا

ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ستين وسقا ولا جابت به بلدا

أي قطعت. قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود. فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف، كلها من الحجارة. وقد قال تعالى: « وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين » [ الحجر: 82 ] . وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال، ويجعلونها بيوتا لأنفسهم. « بالوادي » أي بوادي القرى؛ قاله محمد بن إسحاق. وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: [ أسرعوا السير، فإنكم في واد ملعون ] . وقيل: الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتا ودورا وأحواضا. وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ومنفذا فهو واد.

الآية: 10 ( وفرعون ذي الأوتاد )

أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه؛ قاله ابن عباس. وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد، ويشدهم بها إلى أن يموتوا؛ تجبرا منه وعتوا. وهكذا فعل بامرأته آسية وماشطة ابنته؛ حسب ما تقدم في آخر سورة « التحريم » . وقال عبدالرحمن بن زيد: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ الإنسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه. وقد مضى في سورة « ص » من ذكر أوتاده ما فيه كفاية. والحمد لله.

الآيات: 11 - 13 ( الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب )

قوله تعالى: « الذين طغوا في البلاد » يعني عادا وثمودا وفرعون « طغوا » أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان. « فأكثروا فيها الفساد » أي الجور والأذى. و « الذين طغوا » أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا، أو مجرورا على وصف المذكورين: عاد، وثمود، وفرعون. « فصب عليهم ربك » أي أفرغ عليهم وألقى؛ يقال: صب على فلان خلعة، أي ألقاها عليه. وقال النابغة:

فصب عليه الله أحسن صنعه وكان له بين البرية ناصرا

« سوط عذاب » أي نصيب عذاب. ويقال: شدته؛ لأن السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر:

ألم تر أن الله أظهر دينه وصب على الكفار سوط عذاب

وقال الفراء: وهي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب؛ إذ كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل: معناه عذاب يخالط اللحم والدم؛ من قولهم: ساطه يسوطه سوطا أي خلطه، فهو سائط. فالسوط: خلط الشيء بعضه ببعض؛ ومنه سمي المسواط. وساطه أي خلطه، فهو سائط، وأكثر ذلك يقال: سوط فلان أموره. قال:

فسطها ذميم الرأي غير موفق فلست على تسويطها بمعان

قال أبو زيد: يقال أموالهم سويطة بينهم؛ أي مختلطة. حكاه عنه يعقوب. وقال الزجاج: أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. يقال: ساط دابته يسوطها؛ أي ضربها بسوطه. وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند اللّه أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب اللّه تعالى به فهو سوط عذاب.

الآية: 14 ( إن ربك لبالمرصاد )

أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به؛ قال الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. والمرصد والمرصاد: الطريق. وقد مضى في سورة « التوبة » والحمد لله. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: إن على جهنم سبع قناطر، يُسأل الإنسان عند أول قنطرة عن الإيمان، فإن جاء به تاما جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يُسأل عن الصلاة، فان جاء بها جاز إلى الثالثة، ثم يُسأل عن الزكاة، فإن جاء بها جاز إلى الرابعة. ثم يُسأل عن صيام شهر رمضان، فإن جاء به جاز إلى الخامسة. ثم يُسأل عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما جاز إلى السادسة. ثم يُسأل عن صلة الرحم، فإن جاء بها جاز إلى السابعة. ثم يُسأل عن المظالم، وينادي مناد: ألا من كانت له مظلمة فليأت؛ فيقتص للناس منه، يقتص له من الناس؛ فذلك قوله عز وجل: « إن ربك لبالمرصاد » . وقال الثوري: « لبالمرصاد » يعني جهنم؛ عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها الأمانة، وقنطرة فيها الرب تبارك وتعالى.

قلت: أي حكمته وإرادته وأمره. واللّه أعلم. وعن ابن عباس، أيضا « لبالمرصاد » أي يسمع ويرى.

قلت: هذا قول حسن؛ « يسمع » أقوالهم ونجواهم، و « يرى » أي يعلم أعمالهم وأسرارهم، فيجازي كلا بعمله. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه الآية، فقال: « إن ربك لبالمرصاد » يا أبا جعفر قال الزمخشري: عرض له في هذا النداء، بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة؛ فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه؟ يدق الظلمة بإنكاره، ويقمع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه

الآيات: 15 - 16 ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن )

قوله تعالى: « فأما الإنسان » يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل: أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. « إذا ما ابتلاه ربه » أي امتحنه واختبره بالنعمة. و « ما » : زائدة صلة. « فأكرمه » بالمال. « ونعمه » بما أوسع عليه. « فيقول ربي أكرمني » فيفرح بذلك ولا يحمده. « وأما إذا ما ابتلاه » أي امتحنه بالفقر واختبره. « فقدر » أي ضيق « عليه رزقه » على مقدار البُلغة. « فيقول ربي أهانني » أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه اللّه بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.

قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه اللّه لكرامته وفضيلته عند اللّه، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه اللّه. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على اللّه. وقراءة العامة « فقدر » مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف؛ لقوله: « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] . قال أبو عمرو: « قدر » أي قتر. و « قدر » مشددا: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال « ربي أهانن » . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو « ربي » بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي وابن محيصن ويعقوب الياء من « أكرمن » ، و « أهانن » في الحالين؛ لأنها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف، اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها؛ لأنها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها، لأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف؛ لأنه إجماع الصحابة.

الآيات: 17 - 20 ( كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلا لما، وتحبون المال حبا جما )

قوله تعالى: « كلا » ردّ، أي ليس الأمر كما يُظَن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء: « كلا » في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد اللّه عز وجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: ( يقول اللّه عز وجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي ) . « بل لا تكرمون اليتيم » إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب « يكرمون » ، و « يحضون » و « يأكلون » ، و « يحبون » بالياء، لأنه تقدم ذكر الإنسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الأربعة، على الخطاب والمواجهة؛ كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف.
قوله تعالى: « ولا تحاضون على طعام المسكين » أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون « ولا تحاضون » بفتح التاء والحاء والألف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمي « تحاضون » بضم التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. « وتأكلون التراث » أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فأبدلوا الواو تاء؛ كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتودة ونحو ذلك. وقد تقدم. « أكلا لما » أي شديدا؛ قاله السدي. قيل « لما » : جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا؛ قاله الحسن وأبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب: الجمع؛ يقال: لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم اللّه شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة:

ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

ومنه قولهم: إن دارك لَمُومَة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق الطائي يمدح علقمة ابن سيف:

لأَحَبَّني حُبَّ الصبي ولَمَّني لمَّ الهُدِيّ إلى الكريم الماجد

وقال الليث: اللم الجمع الشديد؛ ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفا : وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة:

إذا كان لما يتبع الذم ربه فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا

يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيَلُمُ في الأكل بين حرامه وحلاله. ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا، مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون.

قوله تعالى: « وتحبون المال حبا جما » أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجمُومُ: المصدر؛ يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها.

الآية: 21 ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا )

قوله تعالى: « كلا » أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها؛ فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ولا ينفع الندم. والدك: الكسر والدق؛ وقد تقدم. أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دُكٌ. وقد مضى في سورة « الأعراف » و « الحاقة » القول في هذا. ويقولون: دك الشيء أي هدم. قال:

هل غير غار دك غارا فانهدم

« دكا دكا » أي مرة بعد مرة؛ زلزلت فكسر بعضها بعضا؛ فتكسر كل شيء على ظهرها. وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل: دكت أي استوت في الانفراش؛ فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الأرض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الأرض مد الأديم.

الآيات: 22 - 23 ( وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى )

قوله تعالى: « وجاء ربك » أي أمره وقضاؤه؛ قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة؛ وهو كقوله تعالى: « إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » [ البقرة: 210 ] ، أي بظلل. وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئا له، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث : ( يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني ) . وقيل: « وجاء ربك » أي زالت الشبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت، واللّه جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز.
قوله تعالى: « والملك » أي الملائكة. « صفا صفا » أي صفوفا. « وجيء يومئذ بجهنم » قال ابن مسعود ومقاتل: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش. وفي صحيح، مسلم عن عبداللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ يؤتى بجهنم، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ] . وقال أبو سعيد الخدري: لما نزلت « وجيء يومئذ بجهنم » تغير لون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعرف في وجهه. حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: [ أقرأني جبريل « كلا إذا دكت الأرض دكا دكا » ـ الآية ـ، جيء يومئذ بجهنم ] . قال علي رضي اللّه عنه: قلت يا رسول اللّه، كيف يجاء بها؟ قال: ( تؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، يقود بكل زمام سبعون ألف ملك، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لي ولك يا محمد، إن اللّه قد حرم لحمك علي ) فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي إلا محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنه يقول: رب أمتي رب أمتي
قوله تعالى: « يومئذ يتذكر الإنسان » أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر، أو من همته معظم الدنيا. « وأنى له الذكرى » أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال: أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين « يومئذ يتذكر » وبين « وأنى له الذكرى » تناف، قاله الزمخشري.

الآية: 24 ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي )

أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياةٍ لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم؛ فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة.

الآيات: 25 - 26 ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد )

قوله تعالى: « فيومئذ لا يعذب عذابه أحد » أي لا يعذب كعذاب اللّه أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى اللّه تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي « لا يعذب » « ولا يوثق » بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب اللّه الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس؛ لأن الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل إجرامه؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية بن خلف؛ حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد؛ لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الإيثاق. ومنه قول الشاعر:

وبعد عطائك المائه الرتاعا

وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر؛ لأن ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب اللّه. وقد روى أبو قلابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءه الجماعة؛ أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر؛ فتكون الهاء للكافر. والمراد بـ « أحد » الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار.

الآيات: 27 - 30 ( يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي )

قوله تعالى: « يا أيتها النفس المطمئنة » لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم اللّه في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى اللّه تعالى. فسلم لأمره، واتكل عليه. وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء اللّه عز وجل. والنفس المطمئنة « الساكنة الموقنة؛ أيقنت أن اللّه ربها، فأخبتت لذلك؛ قال مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب اللّه. وعنه المؤمنة. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء اللّه، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب اللّه. وفي حرف أُبي بن كعب » يأيتها النفس الآمنة المطمئنة « . وقيل: التي عملت على يقين بما وعد اللّه في كتابه. وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة. وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل: المطمئنة بذكر اللّه تعالى؛ بيانه » الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله « [ الرعد: 38 ] . وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع. وروى عبداللّه بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري: إن اللّه تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى اللّه تعالى، واطمأن اللّه إليها. وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل اللّه إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، ومرضيا عنك، اخرجي إلى ووح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجَد أحد من أنفه على ظهر الأرض. وذكر الحديث. وقال سعيد بن زيد: قرا رجل عند النبي صلى اللّه عليه وسلم « يا أيتها النفس المطمئنة » ، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إن الملك يقولها لك يا أبا بكر ] . وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر - لا يدري من تلاها - : » يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية « . وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه حين وقف بئر رومة. وقيل: نزلت في خُبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة؛ فحول اللّه وجهه نحو القبلة. واللّه أعلم.»

قوله تعالى: « ارجعي إلى ربك » أي إلى صاحبك وجسدك؛ قال ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري؛ ودليله قراءة ابن عباس « فادخلي في عبدي » على التوحيد، فيأمر اللّه تعالى الأرواح غدا أن ترجع إلى الأجساد. وقرأ ابن مسعود « في جسد عبدي » . وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى اللّه. وهذا عند الموت. « فادخلي في عبادي » أي في أجساد عبادي؛ دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة؛ وقال الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الأبرار، ودار الصالحين والأخيار. ومعنى « في عبادي » أي في الصالحين من عبادي؛ كما قال: « لندخلنهم في الصالحين » [ العنكبوت: 9 ] . وقال الأخفش: « في عبادي » أي في حزبي؛ والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. « وادخلي جنتي » مع عبادي.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 22, 2014 11:22 pm

تفسير سورة البلد للقرطبى
=====


الآية: 1 ( لا أقسم بهذا البلد )

يجوز أن تكون « لا » زائدة، كما تقدم في « لا أقسم بيوم القيامة » [ القيامة: 1 ] ؛ قاله الأخفش. أي أقسم؛ لأنه قال: « بهذا البلد » وقد أقسم به في قوله: « وهذا البلد الأمين » [ التين: 3 ] فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع

أي يتقطع، ودخل حرف « لا » صلة؛ ومنه قوله تعالى: « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » [ الأعراف: 12 ] بدليل قوله تعالى في « ص ] : » ما منعك أن تسجد « . [ ص: 75 ] . وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير » لأقسم « من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الأخفش أيضا أن تكون بمعنى » ألا « . وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، ولا والله لأفعلن كذا. وقيل: هي نفي صحيح؛ والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: « لا » رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي؛ لأنه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم. وقال القشيري: قوله « لا » رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الأمر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. و » البلد « : هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك. وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والأول أصح؛ لأن السورة نزلت بمكة باتفاق.»

الآية: 2 ( وأنت حل بهذا البلد )

يعني في المستقبل؛ مثل قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » . ومثله واسع في كلام العرب. تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة؛ وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: « وأنت حل » قال: ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لأحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أُحلت له ساعة من نهار، ثم أُطبقت وحُرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ] الحديث. وقد تقدم في سورة « المائدة » ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك. وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم. وقال قتادة: أنت حل به: لست بأثم. وقيل: هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت؛ لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك. وقال شرحبيل بن سعد: « وأنت حل بهذا البلد » أي حلال؛ أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك.

الآية: 3 ( ووالد وما ولد )

قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: « ووالد » آدم: عليه السلام. « وما ولد » أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض؛ لما فيهم من البيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل: الوالد إبراهيم. وما ولد: ذريته؛ قال أبو عمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت « ما » للناس؛ كقوله: « ما طاب لكم » [ النساء: 3 ] وكقوله: « وما خلق الذكر والأنثى » [ الليل: 3 ] وهو الخالق للذكر والأنثى، وقيل: « ما » مع ما بعدها في موضع المصدر؛ أي ووالد وولادته؛ كقوله تعالى: « والسماء وما بناها » . وقال عكرمة وسعيد بن جبير: « ووالد » يعني الذي يولد له، « وما ولد » يعني العاقر الذي لا يولد له؛ وقال ابن عباس. و « ما » على هذا نفي. وهو بعيد؛ ولا يصح إلا بإضمار الموصول؛ أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين. وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود؛ قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختيار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: [ إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ] . فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده؛ مبالغة في تشريفه عليه السلام.

الآية: 4 ( لقد خلقنا الإنسان في كبد )

إلى هنا انتهى القسم؛ وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم. والإنسان هنا ابن آدم. « في كبد » أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد؛ لأنه دم تغلظ واشتد. ويقال: كابدت هذا الأمر: قاسيت شدته: قال لبليد:

يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد

قال ابن عباس والحسن: « في كبد » أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه. والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم، فإنه منتصب انتصابا؛ وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كبسان: منتصبا رأسه في بطن أمه؛ فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء؛ لأنه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يَمانٌ: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم؛ وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن. ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك، وضغطة القبر وظلمته؛ ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار؛ قال الله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان في كبد » ، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الأحوال؛ فليمتثل أمره. وقال ابن زيد: الإنسان هنا آدم.

وقوله: « في كبد » أي في وسط السماء. وقال الكلبي: إن هذا نزل في رجل من بني جمح؛ كان يقال ل أبو الأشدين، وكان يأخذ الأديم العكاظي فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه؛ وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل « أيحسب أن لن يقدر عليه أحد » [ البلد: 5 ] يعني: لقوته. وروي عن ابن عباس. « في كبد » أي شديدا، يعني شديد الخلق؛ وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبدالمطلب، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل: « في كبد » أي جريء القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خلقته، ومهانة مادته. ابن عطاء: في ظلمة وجهل. الترمذي: مضيعا ما يعنيه، مشتغلا بما لا يعنيه

الآيات: 5 - 9 ( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب أن لم يره أحد، ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين )

قوله تعالى: « أيحسب أن لن يقدر عليه أحد » أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل: « يقول أهلكت » أي أنفقت. « مالا لبدا » أي كثيرا مجتمعا. « أيحسب » أي أيظن. « أن لم يره » أي أن لم يعاينه « أحد » بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسؤول عن مالك من أين جمعت؟ وكيف أنفقت؟ وعن ابن عباس قال: كان أبو الأشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل: نَزَلتْ في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه. وقرأ أبو جعفر « مالا لبدا » بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لا بد؛ مثل راكع وركع، وساجد وسجد، وشاهد وشهد، ونحوه. وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد؛ يريد الكثرة. وقد مضى في سورة « الجن » القول فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ « أيحسُب » بضم السين في الموضعين. وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا، فمن يحاسبني به، دعني أحسبه. ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله عز وجل يرى صنيعه، ثم عدد عليه نعمه فقال: « ألم نجعل له عينين » يبصر بهما « ولسانا » ينطق به. « وشفتين » يستر بهما ثغره. والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى قال: يا ابن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق؛ وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق ) . والشفة: أصلها شفهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شفيهة، والجمع: شفاه. ويقال: شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعم، تشبيها بالسنوات. وقال الأزهري: يقال هذه شفة في الوصل وشفه، بالتاء والهاء. وقال قتادة: نعم الله ظاهرة، يقررك بها حتى تشكر.

الآية: 10 ( وهديناه النجدين )

يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وروى قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( يا أيها الناس، إنما هما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير ) . وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد: العلو، وجمعه نجود؛ ومنه سميت « نجد » ، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان: الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس:

فريقان منهم جازع بطن نخلة وآخر منهم قاطع نجد كبكب

الآية: 11 ( فلا اقتحم العقبة )

أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن والاقتحام: الرمي بالنفس في شيء من غير روية؛ يقال منه: قحم في الأمر قحوما: أي رمى بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه. تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشيء: إدخالها فيه من غير روية. والقُحمة بالضم المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الأعراب القُحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقُحم: صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج: وذكر « لا » مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد « لا » مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر؛ كقوله تعالى: « فلا صدق ولا صلى » [ القيامة: 31 ] « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه؛ فيجوز أن يكون قوله: « ثم كان من الذين آمنوا » [ البلد: 17 ] قائما مقام التكرير؛ كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء؛ كقوله: لا نجا ولا سلم. وقال: معنى « فلا اقتحم العقبة » أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير:

وكان طوى كشحا على مستكِنَّة فلا هو أبداها ولم يتقدم

أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي: « لا » : بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال « فك رقبة » وكذا وكذا؛ فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الإنكار؛ تقديره: أفلا اقتحم العقبة؛ أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغْبَان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الأمور فغي إنفاق ماله في طاعة ربه، والإيمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل « فلا اقتحم العقبة » على الدعاء؛ أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبدالله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه ] . وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوا منها ] . قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل: العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم:

إني بليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا

إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا

يا رب ساعدني بعفو إنني أصبحت لا أرجو لهن سواكا

الآية: 12 ( وما أدراك ما العقبة )

فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري: وحمل العقبة على عقبه جهنم بعيد؛ إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم؛ إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية: « وما أدراك ما العقبة » ؟ ثم قال في الآية الثالثة: « فك رقبة » ، وفي الآية الرابعة « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » ، ثم قال في الآية الخامسة: « يتيما ذا مقربة » ، ثم قال في الآية السادسة: « أو مسكينا ذا متربة » ؛ فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. وقال سفيان ابن عيينة: كل شيء قال فيه « وما أدراك » ؟ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه « وما يدريك » ؟ فإنه لم يخبر به.

الآية: 13 ( فك رقبة )

قوله تعالى: « فك رقبة » فكها: خلاصها من الأسر. وقيل: من الرق. وفي الحديث: [ وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ] . من حديث البراء، وقد تقدم في سورة « التوبة » . والفك: هو حل القيد؛ والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر. قال حسان:

كم من أسير فككناه بلا ثمن وجز ناصية كنا مواليها

وروى عقبة بن عامر الجُهَني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار ] قال الماوردي: ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات؛ ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.

قوله تعالى: « رقبة » قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الرقاب أفضل؟ قال: [ أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ] . ابن العربي: والمراد في هذا الحديث: من المسلمين؛ بدليل قوله عليه السلام: [ من أعتق امرأ مسلما ] و [ من أعتق رقبة مؤمنة ] . وما ذكره أصبغ وهلة؛ وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى.

العتق والصدقة من أفضل الأعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة؛ لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار ] .

الآيات: 14 - 16 ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة )

قوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن « أو إطعام في يوم ذا مسغبة » بالألف في « ذا » - وأنشد أبو عبيدة:

فلو كنت جارا يا ابن قيس بن عاصم لما بت شبعانا وجارك ساغبا

وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة » قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان ] . « يتيما ذا مقربة » أي قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. وأهل اللغة يقولون: سمي يتيما لضعفه. يقال: يتم الرجل يتما: إذا ضعف. وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الأب. وفي البهائم من قبل الأمهات. وقد مضى في سورة « البقرة » مستوفى، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح:

إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا إلى الله فقد الوالدين يتيم

قوله تعالى: « أو مسكينا ذا متربة » أي لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة؛ يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب؛ وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي:

وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا سفكنا دماء البدن في تربة الحال

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: « فكَ » بفتح الكاف، على الفعل الماضي. « رقبة » نصبا لكونها مفعولا « أو أَطعم » بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا؛ لقوله: « ثم كان من الذين آمنوا » فهذا أشكل بـ « فك وأطعم » . وقرأ الباقون: « فك » رفعا، على أنه مصدر فككت. « رقبة » خفض بالإضافة. « أو إطعام » بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنه تفسير لقوله تعالى: « وما أدراك ما العقبة » ؟ ثم أخبره فقال: « فك رقبة أو إطعام » . المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى؛ أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة؛ فكيف يجاوز العقبة. وقرأ الحسن وأبو رجاء: « ذا مسغبة » بالنصب على أنه مفعول « إطعام » أي يطعمون ذا مسغبة و « يتيما » بدل منه. الباقون « ذي مسغبة » فهو صفة لـ « يوم » . ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لأن قوله: « في يوم » ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ.

الآيات: 17 - 20 ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة، عليهم نار مؤصدة )

قوله تعالى: « ثم كان من الذين آمنوا » يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله. فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال الله تعالى في المنافقين: « وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله » . [ التوبة: 54 ] . وقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فعل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: [ لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل: « ثم كان من الذين آمنوا » أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة؛ نظيره قوله تعالى: « وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى » [ طه: 82 ] . وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله، ثم أمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم، يا رسول الله، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ] . وقيل: إن « ثم » بمعنى الواو؛ أي وكان هذا المعتق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين أمنوا. « وتواصوا » أي أوصى بعضهم بعضا. « بالصبر » أي بالصبر على طاعة الله، وعن معاصيه؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصايب. « وتواصوا بالمرحمة » بالرحمة على الخلق؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين.

قوله تعالى: « أولئك أصحاب الميمنة » أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم؛ قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله ميمون بن مهران. « والذين كفروا بآياتنا » أي كفروا بالقرآن. « هم أصحاب المشأمة » أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قال محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار.

قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار؛ قال الله تعالى: « وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود » ، وقال: « وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم » [ الواقعة:42 ] . وما كان مثله. ومعنى « مؤصدة » أي مطبقة مغلقة. قال:

تحن إلى جبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده

وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وأصدته؛ أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي « موصدة » بالهمز هنا، وفي « الهمزة » . الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا إمام يهمز « مؤصدة » فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 24, 2014 12:06 am

تفسير الشمس سورة للقرطبى
======


الآية: 1 (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)

سُورَة الشَّمْس : تَقَدَّمَ حَدِيث جَابِر الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ " هَلَّا صَلَّيْت بِ " سَبِّحْ اِسْم رَبّك الْأَعْلَى " " وَالشَّمْس وَضُحَاهَا " " وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى" ؟ " . قَالَ مُجَاهِد " وَالشَّمْس وَضُحَاهَا " أَيْ وَضَوْئِهَا وَقَالَ قَتَادَة " وَضُحَاهَا " النَّهَار كُلّه . قَالَ اِبْن جَرِير وَالصَّوَاب أَنْ يُقَال أَقْسَمَ اللَّه بِالشَّمْسِ وَنَهَارهَا لِأَنَّ ضَوْء الشَّمْس الظَّاهِرَة هُوَ النَّهَار .

الآية: 2 ( والقمر إذا تلاها )

أي تبعها: وذلك إذا سقطت رؤي الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. القراء: « تلاها » : أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم: « والقمر إذا تلاها » حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور؛ وقاله الزجاج.

الآية: 3 ( والنهار إذا جلاها )

أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما. وقال قوم: الضمير في « جلاها » للشمس؛ والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم:

تجلت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب

وقيل: جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا. وقيل: جلى الأرض؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ ومثله قوله تعالى: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] على ما تقدم آنفا.

الآية: 4 ( والليل إذا يغشاها )

أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها؛ قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور.

الآية: 5 ( والسماء وما بناها )

أي وبنيانها. فما مصدرية؛ كما قال: « بما غفر لي ربي » [ يس: 27 ] أي بغفران ربي؛ قاله قتادة، واختاره المبرد. وقيل: المعنى ومن بناها؛ قاله الحسن ومجاهد؛ وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له؛ أي سبحان من سبحت له.

الآية: 6 ( والأرض وما طحاها )

أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها؛ على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها؛ كذا قال عامة المفسرين؛ مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد؛ أي بسطها من كل جانب. والطحو: البسط؛ طحا يطحو طحوا، وطحى يطحي طحيا، وطحيت: اضطجعت؛ عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها؛ قال الشاعر:

وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع

الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي؛ أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شيء. قال علقمة:

طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب

الآية: 7 ( ونفس وما سواها )

قيل: المعنى وتسويتها. « فما » : بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عز وجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه.

الآية: 8 ( فألهمها فجورها وتقواها )

قوله تعالى: « فألهمها » أي عرفها؛ كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى؛ وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: « فألهمها » قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر؛ كما قال: « وهديناه النجدين » [ البلد: 10 ] . وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « فألهمها فجورها وتقواها » قال: [ اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ] . ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: « فالهمها فجورها وتقواها » رفع صوته بها، وقال: [ اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها ] . وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ( لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: « ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها » ) . والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به.

الآيات: 9 - 10 ( قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها )

قوله تعالى: « قد أفلح من زكاها » هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لأن الكلام طال، فصار طول عوضا منها. وقيل: الجواب محذوف؛ أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم؛ أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحا. وأما « قد أفلح من زكاها » فكلام تابع لأوله؛ لقوله: « فألهمها فجورها وتقواها » على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء. وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف؛ والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها. « أفلح » فاز. « من زكاها » أي من زكى الله نفسه بالطاعة. « وقد خاب من دساها » أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي؛ قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة « البقرة » مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعا

قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت سينه ياء؛ كما يقال: قصيت أظفاري؛ وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي. وقال ابن الأعرابي: « وقد خاب من دساها » أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.

الآيات: 11 - 14 ( كذبت ثمود بطغواها، إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها )

قوله تعالى: « كذبت ثمود بطغواها » أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس « بطغواها » أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي؛ لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: « بطغواها » بأجمعها. وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برؤوس الآي. وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن « فعلى » إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة ( بضم الطاء ) على أنه مصدر؛ كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل: هما لغتان. « إذ انبعث » أي نهض. « أشقاها » لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أتدري من أشقى الأولين ] قلت: الله ورسوله أعلم. قال: [ قاتلك ] .

قوله تعالى: « فقال لهم رسول الله » يعني صالحا. « ناقة الله » « ناقة » منصوب على التحذير؛ كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله؛ أي عقرها. وقيل: ذروا ناقة الله، كما قال: « هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم » . [ الأعراف: 73 ] . « وسقياها » أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة « الشعراء » بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة « اقتربت الساعة » [ القمر: 1 ] . فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم. « فكذبوه » أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: [ إنكم تعذبون إن عقرتموها ] . « فعقروها » أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم؛ فلهذا لم يقل: أشقياها.

قوله تعالى: « فدمدم عليهم ربهم بذنبهم » أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم؛ أي بجرمهم. وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الإطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستئصال؛ قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: « فدمدم عليهم » أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة؛ تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة. « فسواها » أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول « فسواها » أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم. وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقيل: « فسواها » أي فسوى الأمة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير « فدمدم » وهما، لغتان؛ كما يقال: امتقع لونه وانتقع.

الآية: 15 ( ولا يخاف عقباها )

أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في « عقباها » ترجع إلى الفعلة؛ كقوله: ( من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت ) أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر؛ أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر « فلا » بالفاء، وهو الأجود؛ لأنه يرجع إلى المعنى الأول؛ أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني؛ أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفيه: « ولا يخاف » بالواو. وكذا هي في في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة يناير 24, 2014 11:09 pm

تفسير سورة الليل للقرطبى
====


الآيات: 1 - 4 ( والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى )

قوله تعالى: « والليل إذا يغشى » أي يُغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الأرض. وقيل: الخلائق. وقيل: يغشى كل شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أول ما خلق اللّه النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، والنور نهارا مضيئا مبصرا. « والنهار إذا تجلى » أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. « وما خلق الذكر والأنثى » قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى؛ ( فما ) : مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبحت له ( فما ) على هذا بمعنى ( من ) ، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى؛ فتكون « من » مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة: « وما خلق » أي من خلق. وكذا قوله: « والسماء وما بناها » [ الشمس: 5 ] ، « ونفس وما سواها » [ الشمس: 7 ] ، « ما » في هذه المواضع بمعنى من. وروي. ابن مسعود أنه كان يقرأ « والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى » ويسقط « وما خلق » . وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبدالله؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبدالله يقرأ هذه الآية « والليل إذا يغشى » ؟ قال: سمعته يقرأ « والليل إذا يغشى. والذكر والأنثى » قال: وأنا واللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ « وما خلق » فلا أتابعهم.

قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله قال: أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إني أنا الرازق ذو القوة المتين » ؛ قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود؛ بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبدالله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي اللّه عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة.

وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية اللّه وطاعته. « إن سعيكم لشتى » هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل؛ فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها؛ يدل عليه قوله عليه السلام: ( الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها ) . وشتى: واحده شتيت؛ مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: « لشتى » أي لمختلف الجزاء؛ فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الأخلاق؛ فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل؛ وشبه ذلك.

الآيات: 5 - 10 ( فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى )

قوله تعالى: « فأما من أعطى واتقى » قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي اللّه عنه؛ وقال عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني لو أنك أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد. وعن ابن عباس في قوله تعالى: « فأما من أعطى » أي بذل. « واتقى » أي محارم اللّه التي نهى عنها. « وصدق بالحسنى » أي بالخلف من اللّه تعالى على عطائه. « فسنيسره لليسرى » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) . وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق اللّه كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا ) فأنزل اللّه تعالى في ذلك في القرآن « فأما من أعطى » ... الآيات. وقال أهل التفسير: « فأما من أعطى » المعسرين. وقال قتاده: أعطى حق اللّه تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. « وصدق بالحسنى » أي بلا إله إلا اللّه؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضا. وقال مجاهد: بالجنة؛ دليله قوله تعالى: « للذين أحسنوا الحسنى وزيادة » ... [ يونس: 26 ] الآية. وقال قتادة: بموعود اللّه الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخلف من عطائه؛ وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى؛ إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.

قوله تعالى: « فسنيسره لليسرى » أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: « لليسرى » للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: [ ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها ] فقال القوم: يا رسول اللّه، أفلا نتكل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: [ بل اعملوا فكل ميسر؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء - ثم قرأ - « فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى » ] لفظ الترمذي. وقال فيه: حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: [ بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير ] قالا: ففيم العمل؟ قال: [ اعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له ] قالا: فالآن نجد ونعمل.

قوله تعالى: « وأما من بخل واستغنى » أي ضن بما عنده، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة « آل عمران » . وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس « فسنيسره للعسرى » قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان باللّه وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: « وأما من بخل واستغنى » يقول: بخل بماله، واستغنى ربه. « وكذب بالحسنى » أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « وكذب بالحسن » قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال « بالحسنى » أي بلا إله إلا اللّه. « فسنيسره » أي نسهل طريقه... « للعسرى » أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء: [ اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا ] . رواه أبو الدرداء.

مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: « ومما رزقناهم ينفقون » [ البقرة: 3 ] ، وقوله: « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » [ البقرة: 274 ] إلى غير ذلك من الآيات - أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد، وإنما هو مسوف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم اللّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما، واستوجب به حمدا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم.

قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: « فسنيسره للعسرى » ؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] ، والبشارة في الأصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء: وقوله تعالى: « فسنيسره » : سنهيئه. والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال:

هما سيدانا يزعمان وإنما يسوداننا أن يسرت غنماهما

الآيات: 11 - 13 ( وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن علينا للهدى، وإن لنا للآخرة والأولى )

قوله تعالى: « وما يغني عنه ماله إذا تردى » أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي : إذا هلك. قال:

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: « إذا تردى » : سقط في جهنم؛ ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب. و « ما » : يحتمل أن تكون جحدا؛ أي ولا يغني عنه ماله شيئا؛ ويحتمل أن تكون استفهاما معناه التوبيخ؛ أيْ أيّ شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! « إن علينا للهدى » أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج. أي على اللّه البيان، بيان حلال وحرامه، وطاعته ومعصيته؛ قال قتادة. وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى اللّه سبيله؛ لقوله: « وعلى الله قصد السبيل » [ النحل: 9 ] يقول: من أراد اللّه فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال؛ كقوله: « بيدك الخير » [ آل عمران: 26 ] ، و « بيده ملكوت كل شيء » [ يس: 83 ] . وكما قال: « سرابيل تقيكم الحر » [ النحل: 81 ] وهي تقي البرد؛ عن الفراء أيضا. وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. « وإن لنا للآخرة والأولى » « للآخرة » الجنة. « والأولى » الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: « من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة » [ النساء: 134 ] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

الآيات: 14 - 16 ( فأنذرتكم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى )
قوله تعالى: « فأنذرتكم » أي حذرتكم وخوفتكم. « نارا تلظى » أي تلهب وتتوقد وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. « لا يصلاها » أي لا يجد صلاها وهو حرها. « إلا الأشقى » أي الشقي. « الذي كذب » نبي اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم. « وتولى » أي أعرض عن الإيمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبىّ أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى. وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب، فقرأ « والليل إذا يغشى » فلما بلغ « فأنذرتكم نارا تلظى » وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: « إلا الأشقى » إلا من كان شقيا في علم اللّه جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: « لا يصلاها إلا الأشقى » أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال قتادة: كذب بكتاب اللّه، وتولى عن طاعة اللّه. وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة؛ فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: « ليس لوقعتها كاذبة » [ الواقعة: 2 ] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر؛ لقوله جل ثناؤه: « لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » وليس الأمر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل؛ فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ واللّه سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] ، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: « ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » فائدة، وكان « ويغفر ما دون ذلك » كلاما لا معنى له.

الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي اللّه عنه.

الآيات: 17 - 18 ( وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى )

قوله تعالى: « وسيجنبها » أي يكون بعيدا منها. « الأتقى » أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي اللّه عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال: « الذي يؤتي ماله يتزكى » أي يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه اللّه تعالى. وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله « الأتقى » و « الأشقى » أي التقي والشقي؛ كقول طرفة:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي واحد ووحيد؛ وتوضع ( أفعل ) موضع فعيل، نحو قولهم: اللّه أكبر بمعنى كبير، « وهو أهون عليه » [ الروم: 27 ] بمعنى هين.

الآيات: 19 - 21 ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى )

قوله تعالى: « وما لأحد عنده من نعمة تجزى » أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي « ولسوف يرضى » أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد؛ فمر به النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: [ أحد - يعني اللّه تعالى - ينجيك ] ثم قال لأبي بكر: [ يا أبا بكر إن بلالا يعذب في اللّه ] فعرف أبو بكر الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا؟ قال: نعم؛ فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده؛ فنزلت « وما لأحد عنده » أي عند أبي بكر « من نعمة » ، أي من يد ومنة، « تجزى » بل « ابتغاء » بما فعل « وجه ربه الأعلى » . وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: « إن سعيكم لشتى » [ الليل: 4 ] . وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون ماله، فأبىّ، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده؛ فنزلت « وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء » أي لكن ابتغاء؛ فهو استثناء منقطع؛ فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب « إلا ابتغاء وجه ربه » بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها إلا الجاذر والظلمان تختلف

وقول القائل:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

وفي التنزيل: « ما فعلوه إلا قليل منهم » [ النساء: 66 ] وقد تقدم. « وجه ربه الأعلى » أي مرضاته وما يقرب منه. و « الأعلى » من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون « ابتغاء وجه ربه » مفعولا له على المعنى؛ لأن معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. « ولسوف يرضى » أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي؛ وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ رحم اللّه أبا بكر زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله ] . ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل اللّه؟ قال: بل لعمل اللّه قال: فذرني وعمل اللّه، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي اللّه عنه. وقال عطاء - وروى عن ابن عباس - : إن السورة نزلت في أبي الدحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم. [ تبيعها بنخلة في الجنة ] ؟ فأبى؛ فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها بـ « حسنى » : حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال: يا رسول اللّه، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: [ نعم، والذي نفسي بيده ] فقال: هي لك يا رسول اللّه؛ فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم جار الأنصاري، فقال: [ خذها ] فنزلت « والليل إذا يغشى » [ الليل: 1 ] إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. « فأما من أعطى واتقى » يعني أبا الدحداح. « وصدق بالحسنى » أي بالثواب. « فسنيسره لليسرى » : يعني الجنة. « وأما من بخل واستغنى » يعني الأنصاري. « وكذب بالحسنى » أي بالثواب. « فسنيسره للعسرى » ، يعني جهنم. « وما يغني عنه ماله إذا تردى » أي مات. إلى قوله: « لا يصلاها إلا الأشقى » يعني بذلك الخزرجي؛ وكان منافقا، فمات على نفاقه. « وسيجنبها الأتقى » يعني أبا الدحداح. « الذي يؤتي ماله يتزكى » في ثمن تلك النخلة. « ما لأحد عنده من نعمة تجزى » يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح. « ولسوف يرضى » إذا أدخله اللّه الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي اللّه عنه. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبدالله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لأبي الدحداح في سورة « البقرة » ، عند قوله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » [ البقرة: 245 ] . واللّه تعالى أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت يناير 25, 2014 11:15 pm

تفسير سورة الضحى للقرطبى
======


الآيات: 1 - 3 ( والضحى، والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى )

قوله تعالى: « والضحى. والليل إذا سجى » قد تقدم القول في « الضحى » ، والمراد به النهار؛ لقوله: « والليل إذا سجى » فقابله بالليل. وفي سورة ( الأعراف ) « أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون » [ الأعراف: 97 ] أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم اللّه فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: « وأن يحشر الناس ضحى » [ طه: 59 ] . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. و « سجا » معناه: سكن؛ قال قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:

فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

وقال الراجز:

يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج

وقال جرير:

ولقد رمينك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواجي

وقال الضحاك: « سجا » غطى كل شيء. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار؛ مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه؛ وقال ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل؛ وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « سجا » استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: « سجا » سكن؛ أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: « والضحى. والليل إذا سجا » : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: « الضحى » : يعني نور الجنة إذا تنور. « والليل إذا سجا » : يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: « والضحى » : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. « والليل إذا سجا » : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل؛ فأقسم اللّه عز وجل بهذه الأشياء.

قوله تعالى: « ما ودعك ربك » هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه اللّه وودعه؛ فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا؛ فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فأنزل اللّه عز وجل « والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى » .

وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت ] قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد؛ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: « ما ودعك ربك وما قلى » . هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: « فلم يقم ليلتين أو ثلاثا » أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. واللّه أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رُمي النبي صلى اللّه عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: [ هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل اللّه ما لقيت ] فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم اره قربك منذ ليلتين أو ثلاث؛ فنزلت « والضحى » . وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى شق عليه؛ فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو؛ فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: « ما ودعك ربك وما قلى » . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: [ يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني ] قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته؛ فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار؛ فجاء نبي اللّه ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: [ يا خولة دثريني ] فأنزل اللّه هذه السورة. ولما نزل جبريل سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن التأخر فقال: [ أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ] . وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: [ سأخبركم غدا ] . ولم يقل إن شاء اللّه. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: « ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله » [ الكهف: 23 ] فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت « ما ودعك ربك وما قلى » . وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: [ وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ] . فنزل جبريل بهذه السورة؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ ما جئت حتى اشتقت إليك ] فقال جبريل: [ أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور ] ثم أنزل عليه « وما نتنزل إلا بأمر ربك » [ مريم: 64 ] . « ودعك » بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه « ودعك » بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:

وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر

واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك.

قوله تعالى: « وما قلى » أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض؛ فإن فتحت القاف مددت؛ تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طيء. وأنشد ثعلب:

أيام أم الغمر لا نقلاها

أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقال امرؤ القيس:

ولست بمقلي الخلال ولا قال

وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية؛ كما قال عز وجل: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات اللّه.

الآيات: 4 - 5 ( وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى )

روى سلمة عن ابن إسحاق قال: « وللآخرة خير لك من الأولى » أي ما عندي في مرجعك إلي يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يفتح اللّه على أمته بعده؛ فسر بذلك؛ فنزل جبريل بقوله: « وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى » . قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيدالله، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه قال: أري النبي صلى اللّه عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك؛ فأنزل اللّه عز وجل « والضحى - إلى قوله تعالى - ولسوف يعطيك ربك فترضى » ، فأعطاه اللّه جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك؛ في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( يشفعني اللّه في أمتي حتى يقول اللّه سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت ) . وفي صحيح مسلم عن، عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى في إبراهيم: « فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم » [ إبراهيم: 36 ] وقول عيسى: « إن تعذبهم فإنهم عبادك » [ المائدة: 118 ] ، فرفع يديه وقال: ( اللهم أمتي أمتي ) وبكى. فقال اللّه تعالى لجبريل: ( اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك ) فأتى جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسأل فأخبره. فقال اللّه تعالى لجبريل: [ اذهب إلى محمد، فقل له: إن اللّه يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ] . وقال علي رضي اللّه عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب اللّه تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » [ الزمر: 53 ] قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب اللّه قوله تعالى: « ولسوف يعطيك ربك فترضى » . وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إذا واللّه لا أرضى وواحد من أمتي في النار ] .

الآية: 6 ( ألم يجدك يتيما فآوى )

عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال: « ألم يجدك يتيما » لا أب لك قد مات أبوك. « فآوى » أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة؛ إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك اللّه بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.

الآية: 7 ( ووجدك ضالا فهدى )

أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة؛ كقوله جل ثناؤه: « لا يضل ربي ولا ينسى » [ طه: 52 ] أي لا يغفل. وقال في حق نبيه: « وإن كنت من قبله لمن الغافلين » [ يوسف: 3 ] . وقال قوم: « ضالا » لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك اللّه إلى القرآن، وشرائع الإسلام؛ عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى قوله تعالى: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » ، على ما بينا في سورة « الشورى » . وقال قوم: « ووجدك ضالا » أي في قوم ضلال، فهداهم اللّه بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه؛ أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم. وقيل: « ووجدك ضالا » عن الهجرة، فهداك إليها. وقيل: « ضالا » أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك؛ كما قال تعالى: « أن تضل إحداهما » [ البقرة: 282 ] . وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها؛ بيانه: « قد نرى تقلب وجهك في السماء... » [ البقرة: 144 ] الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب. وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه؛ فيكون الضلال بمعنى التحير؛ لأن الضال متحير. وقيل: ووجدك ضائعا في قومك؛ فهداك إليه؛ ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: « قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم » [ يوسف: 95 ] أي في محبتك. قال الشاعر:

هذا الضلال أشاب مني المفرقا العارضين ولم أكن متحققا

عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وقيل: « ضالا » في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبدالمطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبدالمطلب؛ فمن اللّه عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة؛ فمن اللّه عليه بذلك. وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لترده على عبدالمطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقال: لم نر شيئا؛ فصحت : وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلاكنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبدالمطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبدالمطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى اللّه أن يرده، وقال:

يا رب رد ولدي محمدا اردده ربي واتخذ عندي يدا

يا رب إن محمد لم يوجدا فشمل قومي كلهم تبددا

فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبدالمطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى اللّه عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالأغصان وبالورق. وقيل: « ووجدك ضالا » ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره: « ووجدك ضالا » : تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبدالله: « ووجدك ضالا » بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان؛ بيانه: « لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] الآية. « لتبين لهم الذي اختلفوا فيه » [ النحل: 64 ] . وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق؛ فقال اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: « ووجدك ضالا » أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد؛ فهديت بك الخلق إلي.

قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي؛ لأنه يجمع الأقوال المعنوية. وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال؛ فأما الشرك فلا يظن به؛ بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره؛ أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة « الشورى » . وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن؛ ومنه « أئذا ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن « ووجدك ضالٌ فهدى » أي وجدك الضال فاهتدى بك؛ وهذه قراءة على التفسير. وقيل: « ووجدك ضالا » لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك؛ فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك.

الآية: 8 ( ووجدك عائلا فأغنى )

أي فقيرا لا مال لك. « فأغنى » أي فأغناك بخديجة رضي اللّه عنها؛ يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح:

فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يغيل

أي يفتقر. وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي: قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك. وقال الأخفش: وجدك ذا عيال؛ دليله « فأغنى » . ومنه قول جرير:

الله أنزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل

وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها. وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري وفي هذا نظر؛ لأن السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة.

وقراءة العامة « عائلا » . وقرأ ابن السميقع « عيلا » بالتشديد؛ مثل طبيب وهين.

الآيات: 9 - 11 ( فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث )

قوله تعالى: « فأما اليتيم فلا تقهر » أي لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك؛ قال الأخفش. وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد « فلا تقهر » فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي « تكهر » بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى؛ فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... الحديث. وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر.
ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه؛ حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه؛ فقال: ( إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين ) . وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين ) . وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول اللّه تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه يوم القيامة ) . فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [ من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مؤونته،كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ] . وقال أكثم بن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.
قوله تعالى: « وأما السائل فلا تنهر » أي لا تزجره؛ فهو نهى عن إغلاط القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك؛ قال قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: [ لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين من ذهب ] . وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السُّؤَّال: يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: [ ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الإنس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم اللّه ] . وقيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين؛ أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين؛ قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم، على الكفاية؛ كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: [ إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ] . وفي رواية [ يأتيكم رجال من قبل المشرق ] ... فذكره. و « اليتيم » و « السائل » منصوبان بالفعل الذي بعده؛ وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء، والتقدير: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( سألت ربي مسئلة وددت أني لم أسألها: قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال يسبحن، وأعطيت فلانا كذا؛ فقال عز وجل: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك: خواتيم سورة البقرة، الم أتخذك خليلا، كما اتخذت إبراهيم خليلا؟ قلت بلى يا رب )
قوله تعالى: « وأما بنعمة ربك فحدث » أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم اللّه، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد « وأما بنعمة ربك » قال بالقرآن. وعنه قال: بالنبوة؛ أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له: رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا. وكان أبو فراس عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني اللّه البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت اللّه كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا قال يقول اللّه تعالى: « وأما بنعمة ربك فحدث » وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم. وقال بكر بن عبدالله المزني قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( من أعطي خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض اللّه، معاديا لنعم اللّه ) . وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ من لم يشكو القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر اللّه، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ] . وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا، فرآني رث الثياب فقال: [ ألك مال؟ ] قلت: نعم، يا رسول اللّه، من كل المال. قال: [ إذا آتاك اللّه مالا فلير أثره عليك ] . وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: [ إن اللّه جميل يحب الجمال، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده ] .
فصل: يُكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: إذا بلغ آخر « والضحى » كبر بين كل سورة تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيره؛ بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أياما، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه؛ فنزلت هذه السورة فقال: [ اللّه أكبر ] . قال مجاهد: قرأت على ابن عباس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين؛ لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.

قلت: القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه؛ لا زيادة فيه ولا نقصان؛ فالكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم اللّه الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد، فاستحبه ابن كثير، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن يزيد، المقرئ الإمام بمكة، في المسجد الحرام، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن زيد الصائغ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبدالله بن قسطنطين، فلما بلغت « والضحى » قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبدالله بن كثير فلما بلغت « والضحى » قال: كبر حتى تختم. وأخبره عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 27, 2014 1:56 am

تفسير سورة الشرح للقرطبى
=====


الآية: 1 ( ألم نشرح لك صدرك )

شرح الصدر: فتحه؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نلين لك قلبك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول اللّه، أينشرح الصدر؟ قال: [ نعم وينفسح ] . قالوا: يا رسول اللّه، وهل لذلك علامة؟ قال: [ نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت ] . وقد مضى هذا المعنى في « الزمر » عند قوله تعالى: « أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه » . وروي عن الحسن قال: « ألم نشرح لك صدرك » قال: مُلئ حكما وعلما. وفي الصحيح عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة فأُتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا ) قال قتادة قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: [ فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة ] . وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر بمنقاره فيه فغسله ) . وفي حديث آخر قال: [ جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول اللّه، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قثم، وأنت قيم ] . قال أهل اللغة: قوله [ وكيع ] أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال: سقاء وكيع؛ أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته، أي قويت وقوله: [ قثم ] أي جامع. يقال: رجل قثوم للخير؛ أي جامع له. ومعنى « ألم نشرح » قد شرحنا؛ الدليل؛ على ذلك قوله في النسق عليه: « ووضعنا عنك وزرك » ، فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى « ألم نشرح » : قد شرحنا. و « لم » جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق؛ كقوله تعالى: « أليس الله بأحكم الحاكمين » [ التين: 8 ] . ومعناه: اللّه أحكم الحاكمين. وكذا « أليس الله بكاف عبده » [ الزمر: 36 ] . ومثله قول جرير يمدح عبدالملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

المعنى: أنتم كذا.

الآيات: 2 - 3 ( ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك )

قوله تعالى: « ووضعنا عنك وزرك » أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس « وحللنا، وحططنا » . وقرأ ابن مسعود: « وحللنا عنك وقرك » . هذه الآية مثل قوله تعالى: « ليعفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . قيل: الجميع كان قبل النبوة. والوزر: الذنب؛ أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صلى اللّه عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ذنوب أثقلته؛ فغفرها اللّه له « الذي أنقض ظهرك » أي أثقله حتى سمع نقيضه؛ أي صوته. وأهل اللغة يقولون: أنقض، الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل؛ أي صريره. قال جميل:

وحتى تداعت بالنقيض حباله وهمت بواني زوره أن تحطما

بواني زوره: أي أصول صدره. فالوزر: الحمل الثقيل. قال المحاسبي: يعني ثقل الوزر لو لم يعف اللّه عنه. « الذي أنقض ظهرك » أي أثقله وأوهنه. قال: وإنما وصفت ذنوب، الأنبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة، لشدة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها. وقال السدي: « ووضعنا عنك وزرك » أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبدالله بن مسعود « وحططنا عنك وقرك » . وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين بن المفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه. بها. وقال عبدالعزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك. وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه؛ وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل: عصمناك عن احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس؛ حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس.

الآية: 4 ( ورفعنا لك ذكرك )

قال مجاهد: يعني بالتأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:

أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد اللّه جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمدا رسول اللّه، لم ينتفع بشيء وكان كافرا. وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات.

الآيات: 5 - 6 ( فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا )

أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: « إن مع العسر يسرا » ، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام؛ كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل؛ قال اللّه تعالى: « كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون » [ التكاثر: 3 ] . ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا لا. وذلك للإطناب والمبالغة؛ قاله الفراء. ومنه قول الشاعر:

هممت بنفسي بعض الهموم فأولى لنفسي أولى لها

وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر؛ قاله ثعلب. وقال ابن عباس: يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة: أنه قال: [ لن يغلب عسر يسرين ] . وقال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما: أما بعد، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل اللّه بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون » [ آل عمران: 200 ] . وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا؛ فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره؛ فعزاه اللّه، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: « فإن مع العسر يسرا » أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا؛ أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده؛ فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعد لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا؛ وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم، فقال مبتدئا: « إن مع العسر يسرا » فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه؛ أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: [ لن يغلب عسر يسرين ] يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا؛ فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: « إن مع العسر » وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة « يسرا » ، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف.

الآيات: 7 - 8 ( فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب )

قوله تعالى: « فإذا فرغت » قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك « فانصب » أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة « فانصب » أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضا: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: « فإذا فرغت » من دنياك، « فانصب » في صلاتك. ونحوه عن الحسن. وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي: « ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية « فانصب » بكسر الصاد، والهمز من أوله، وقالوا: معناه: انصب الإمام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى؛ لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض: الجهال « فانصب » بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة، لمخالفة الإجماع، لكن معناه صحيح؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم: [ السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته، فليعجل، الرجوع إلى أهله ] . وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحا، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا، فيكون كاذبا على اللّه، كاذبا على رسول؛ » ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا « . قال المهدوي: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ » ألم نشرح لك صدرك « بفتح الحاء؛ وهو بعيد، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف، ثم حمل الوصل على الوقف، ثم حذف الألف. وأنشد عليه: »

اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسوط قونس الفرس

أراد: اضربن. وروي عن أبي السمال « فإذا فرغت » بكسر الراء، وهي لغة فيه. وقرئ « فرغب » أي فرغب الناس إلى ما عنده.

قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على عائشة رضي اللّه عنها وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: ( دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد ) . وليس يلزم الدؤوب على العمل، بل هو مكراه للخلق.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين يناير 27, 2014 11:03 pm

تفسير سورة التين للقرطبى
====


الآية: 1 ( والتين والزيتون )

قوله تعالى: « والتين والزيتون » قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت؛ قال اللّه تعالى: « وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين » [ المؤمنون: 20 ] . وقال أبو ذر: أهدي للنبي صلى اللّه عليه وسلم سل تين؛ فقال: [ كلوا ] وأكل منه. ثم قال: [ لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ] . وعن معاذ: أنه استاك بقضيب زيتون، وقال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: [ نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفر، وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي ] .

وروي عن ابن عباس أيضا: التين: مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق: والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء. وقال كعب الأخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام. وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تينا بالسريانية سميا بذلك لأنهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة، قال: التين والزيتون: جبلان بالشام. وقال النابغة:

أتين التين عن عرض

وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف؛ أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ قاله النحاس.

وأصح هذه الأقوال الأول؛ لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم اللّه بالتين، لأنه كان ستر آدم في الجنة؛ لقوله تعالى: « يخصفان عليهما من ورق الجنة » [ الأعراف: 22 ] وكان ورق التين. وقيل: أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه؛ فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه:

انظر إلى التين في الغصون ضحى ممزق الجلد مائل العنق

كأنه رب نعمة سلبت فعاد بعد الجديد في الخلق

أصغر ما في النهود أكبره لكن ينادى عليه في الطرق

وقال آخر:

التين يعدل عندي كل فاكهة إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي

مخمش الوجه قد سالت حلاوته كأنه راكع من خشية الله

وأقسم بالزيتون لأنه مثل به إبراهيم في قوله تعالى: « يوقد من شجرة مباركة زيتونة » [ النور: 35 ] . وهو أكثر أُدَم أهل الشام والمغرب؛ يصطبغون به، ويستعملونه في طبيخهم، ويستصبحون به، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام: [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] . وقد مضى في سورة « المؤمنون » القول فيه.

قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقية جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية، فيأخذونها مغرما، حسب ما أنذر به الصادق صلى اللّه عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما.

الآية: 2 ( وطور سينين )

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد « طور » قال: جبل. « سينين » قال: مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: « طور » جبل، و « سينين، حسن. وقال قتادة: سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى اللّه جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي: « سينين » كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء؛ بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ » والتين والزيتون. وطور سيناء. وهذا البلد الأمين « قال: وهكذا هي في قراءة عبدالله؛ ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية: » ألم تر كيف فعل ربك « [ الفيل: 1 ] . و » لإيلاف قريش « [ قريش: 1 ] جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. النحاس: وفي قراءة عبدالله » سناء « ( بكسر السين ) ، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر ( بفتح السين ) . وقال الأخفش: « طور » جبل. و « سينين » شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي: « سينين » فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في زحليل: للمكان الزلق، وكرديدة: للقطعة من التمر، وخنذيد: للطويل. ولم ينصرف « سينين » كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسما لبقعة أو أرض، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف؛ لأنك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدسة، وقد بارك اللّه فيهما؛ كما قال: » إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله « [ الإسراء: 1 ] .»

الآية: 3 ( وهذا البلد الأمين )

يعني مكة. سماه أمينا لأنه آمن؛ كما قال: « أنا جعلنا حرما آمنا » [ العنكبوت: 67 ] فالأمين: بمعنى الآمن؛ قال الفراء وغيره. قال الشاعر:

ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني حلفت يمينا لا أخون أميني

يعني: آمني. وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم اللّه بجبل دمشق، لأنه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء عليهم السلام، وبمكة لأنها أثر إبراهيم ودار محمد صلى اللّه عليه وسلم.

الآيات: 4 - 5 ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين )

قوله تعالى: « لقد خلقنا الإنسان » هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري البعث. وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته. « في أحسن تقويم » وهو اعتداله واستواء شبابه؛ كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مُزيناً بالعقل، مُؤدياً للأمر، مَهدياً بالتمييز، مديد القامة؛ يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: [ إن اللّه خلق آدم على صورته ] يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية [ على صورة الرحمن ] ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبدالجبار الأزدي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر؛ فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني. وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر: قد طلقت؛ إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم اللّه الرحمن الرحيم: « والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » . يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.

فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.

قوله تعالى: « ثم رددناه أسفل سافلين » أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول؛ قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: « ثم رددناه أسفل سافلين » إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية. وقيل: لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] وحين علم اللّه هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رده أسفل سافلين؛ بأن جعله مملوءا قذرا، مشحونا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى، إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إل قدره. وقرأ عبدالله « أسفل السافلين » . وقال؛ « أسفل سافلين » على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز؛ لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين؛ لأنك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مضمر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع؛ كقوله تعالى: « والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون » [ الزمر: 33 ] . وقوله تعالى: « وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة » [ الشورى: 48 ] . وقد قيل: إن معنى « رددناه أسفل سافلين » أي رددناه إلي الضلال؛ كما قال تعالى: « إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال « أسفل سافلين » النار، متصل. ومن قال: إنه الهرم فهو منقطع.

الآية: 6 ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون )

قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم؛ قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر، لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه؛ أجرى اللّه عز وجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [ إذا سافر العبد أو مرض كتب اللّه له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ] . وقيل: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » فإنه لا يخرف ولا يهرم، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال [ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ] . وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر اللّه ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك. « فلهم أجر غير ممنون » قال الضحاك: أجر بغير عمل. وقيل مقطوع.

الآية: 7 ( فما يكذبك بعد بالدين )

قيل: الخطاب للكافر؛ توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن اللّه خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال؛ فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى اللّه عليه وسلم به؟ وقيل: الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي استيقن مع ما جاءك من اللّه عز وجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر:

دنا تميما كما كانت أوائلنا دانت أوائلهم في سالف الزمن

الآية: 8 ( أليس الله بأحكم الحاكمين )

أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل: « بأحكم الحاكمين » قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال:

ألستم خير من ركب المطايا

وقيل: « فما يكذبك بعد بالدين. أليس اللّه بأحكم الحاكمين » : منسوخة بآية السيف. وقيل: هي ثابتة؛ لأنه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنهما إذا قرأ: « أليس اللّه بأحكم الحاكمين » قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ فيختار ذلك. واللّه أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة « والتين والزيتون » فقرأ « أليس اللّه بأحكم الحاكمين » فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. واللّه أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء يناير 28, 2014 11:06 pm

تفسير سورة العلق للقرطبى
=====


الآية: 1 ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )

هذه السورة أول ما نزل من القرآن؛ في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم على حراء، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل: إن أول ما نزل « يا أيها المدثر » [ المدثر: 1 ] ، قاله جابر بن عبدالله؛ وقد تقدم. وقيل: فاتحة الكتاب أول ما نزل؛ قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أول ما نزل من القرآن « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم » [ الأنعام: 151 ] والصحيح الأول. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرؤيا الصادقة؛ فجاءه الملك فقال: « اقرأ باسم ربك الذي خلف خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم » . خرجه البخاري.

وفي الصحيحين عنها قالت: أول ما بدئ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك؛ ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها؛ حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: [ اقرأ ] : فقال: ( ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني ) فقال: [ أقرأ ] فقلت: [ ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: « اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ] الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي: وكان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد: مسجد البصرة، فيقعدنا حلقا، فيقرئنا القرآن؛ فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: » اقرأ باسم ربك الذي خلق « . وكانت أول سورة أنزلها اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وروت عائشة رضي اللّه عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم بعدها » ن والقلم « ، ثم بعدها » يا أيها المدثر « ثم بعدها » والضحى « ذكره الماوردي. وعن الزهري: أول ما نزل سورة: » اقرأ باسم ربك - إلى قوله - ما لم يعلم « ، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال له: [ إنك نبي اللّه ] فرجع إلى خديجة وقال: [ دثروني وصبوا عليّ ماء باردا ] فنزل » يا أيها المدثر « [ المدثر: 1 ] . ومعنى » اقرأ باسم ربك « أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من » باسم ربك « النصب على الحال. وقيل: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم ربك. يقال: فعل كذا باسم اللّه، وعلى اسم اللّه. وعلى هذا فالمقروء محذوف، أي اقرأ القرآن، وافتتحه باسم اللّه. وقال قوم: اسم ربك هو القرآن، فهو يقول: » اقرأ باسم ربك « أي اسم ربك، والباء زائدة؛ كقوله تعالى » تنبت بالدهن « [ المؤمنون: 20 ] ، وكما قال: »

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

أراد: لا يقرأن السور. وقيل: معنى « اقرأ باسم ربك » أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم اللّه.

الآية: 2 ( خلق الإنسان من علق )

قوله تعالى: « خلق الإنسان » « خلق الإنسان » يعني ابن آدم. « من علق » أي من دم؛ جمع علقة، والعلقة الدم الجامد؛ وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: « من علق » فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر:

تركناه يخر على يديه يمج عليهما علق الوتين

وخص الإنسان بالذكر تشريفا له. وقيل: أراد أن يبين قدر نعمته عليه، بأن خلقه من علقة مهينة، حتى صار بشرا سويا، وعاقلا مميزا.

الآية: 3 ( اقرأ وربك الأكرم )

قوله تعالى: « اقرأ » تأكيد، وتم الكلام، ثم استأنف فقال: « وربك الأكرم » أي الكريم. وقال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. والأول أشبه بالمعنى، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه، دل بها على كرمه. وقيل: « اقرأ وربك » أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير القارئ. و « الأكرم » بمعنى المتجاوز عن جهل العباد.

الآية: 4 ( الذي علم بالقلم )

قوله تعالى: « الذي علم بالقلم » يعني الخط والكتابة؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من اللّه تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم؛ أي يقطع، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم:

فكأنه والحبر يخضب رأسه شيخ لوصل خريدة يتصنع

لم لا ألاحظه بعين جلالة وبه إلى الله الصحائف ترفع

وعن عبدالله بن عمر قال: يا رسول اللّه، أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: ( نعم فاكتب، فإن اللّه علم بالقلم ) . وروى مجاهد عن أبي عمر قال: خلق اللّه عز وجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام؛ لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار. الثاني: أنه إدريس، وهو أول من كتب. قال الضحاك. الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم؛ لأنه ما علم إلا بتعليم اللّه سبحانه، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه، وبين نعمته عليه في تعليمه؛ استكمالا للنعمة عليه.

صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من حديث أبي هريرة، قال: ( لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب عضبي ) . وثبت عنه عليه السلام أنه قال: ( أول ما خلق اللّه: القلم، فقال له اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه ) . وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم يقول، يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، وقال تعالى: « إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين » ( الانفطار: 10 ) .

قال علماؤنا: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول: الذي خلقه اللّه بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها اللّه بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها اللّه بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مآربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي.

قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى اللّه عليه وسلم؛ صرف عن علمه، ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى في حجته، وقد مضى هذا مبينا في سورة « العنكبوت » . وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبدالسلام، عن أيوب بن عبدالله الفهري، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة ) . قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك، لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل؛ وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل؛ فتحدث الفتنة والبلاء؛ فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. وهو كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال ] . وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة؛ تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن.

الآية: 5 ( علم الإنسان ما لم يعلم )

قيل: « الإنسان » هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شيء؛ حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: « وعلم آدم الأسماء كلها » . فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة اللّه على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة « البقرة » مستوفى والحمد لله. وقيل: « الإنسان » هنا الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ دليله قوله تعالى: « وعلمك ما لم تكن تعلم » [ النساء: 113 ] . وعلى هذا فالمراد بـ « علمك » المستقبل؛ فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل: هو عام لقوله تعالى: « والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا » [ النحل: 78 ] .

الآيات: 6 - 7 ( كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى )

قوله تعالى: « كلا إن الإنسان ليطغى » قيل: إنه نزل في أبي جهل. وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل؛ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الصلاة؛ فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة؛ لأن تأليف السور جرى بأمر من اللّه. ألا ترى أن قوله تعالى: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] آخر ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و « كلا » بمعنى حقا؛ إذ ليس قبله شيء. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. « أن رآه » أي لأن رأى نفسه استغنى؛ أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى؛ فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة ) . فعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك؛ فكف عنهم إبقاء عليهم. وقيل: « أن رآه استغنى » بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله « أن رآه » كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم. وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه؛ لأن رأى من الأفعال التي تريد اسما وخبرا، نحو الظن والحسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير « أن رآه استغنى » بقصر الهمزة. الباقون « رآه » بمدها، وهو الاختيار.

الآية: 8 ( إن إلى ربك الرجعى )

أي مرجع من هذا وصفه، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر؛ يقال: رجع إليه رجوعا ومرجعا. ورجعى؛ على وزن فعلى.

الآيات: 9 - 10 ( أرأيت الذي ينهى، عبدا إذا صلى )

قوله تعالى: « أرأيت الذي ينهى » وهو أبو جهل « عبدا » وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن أبا جهل قال: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه؛ قاله أبو هريرة. فأنزل اللّه هذه الآيات تعجبا منه. وقيل: في الكلام حذف؛ والمعنى: أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.

الآيات: 11 - 12 ( أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى )

أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا؟

الآيات: 13 - 14 ( أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى )

يعني أبا جهل كذب بكتاب اللّه عز وجل، وأعرض عن الإيمان. وقال الفراء: المعنى « أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى » وهو على الهدى، وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر؛ أي فما أعجب هذا! ثم يقول: ويله ألم يعلم أبو جهل بأن اللّه يرى؛ أي يراه ويعلم فعله؛ فهو تقرير وتوبيخ. وقيل: كل واحد من « أرأيت » بدل من الأول. و « ألم يعلم بأن اللّه يرى » الخبر.

الآيات: 15 - 16 ( كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة )

قوله تعالى: « كلا لئن لم ينته » أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. « لنسفع بالناصية » « لنسفعا » أي لنأخذن « بالناصية » فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة، وتطوى مع قدميه، ويطرح في النار، كما قال تعالى: « فيؤخذ بالنواصي والأقدام » [ الرحمن: 41 ] . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون: سفعت بالشيء: إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. ويقال: سفع بناصية فرسه. قال:

قوم إذا كثر الصياح رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع

وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد؛ كما قال:

أثافي سفعا في معرس مرجل ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

والناصية: شعر مقدم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الإنسان؛ كما يقال: هذه ناصية مباركة؛ إشارة إلى جميع الإنسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرد: السفع: الجذب بشدة؛ أي لنجرن بناصيته إلى النار. وقيل: السفع الضرب؛ أي لنلطمن وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ؛ ثم يجر إلى جهنم. ثم قال على البدل: « ناصية كاذبة خاطئة » أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ. ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى: « إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 23 ] . وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ؛ كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم؛ أي هو صائم في نهاره، ثم قائم في ليله.

الآيات: 17 - 18 ( فليدع ناديه، سندع الزبانية )

قوله تعالى: « فليدع ناديه » أي أهل مجلسه وعشيرته، فليستنصر بهم. « سندع الزبانية » أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني؛ قاله الكسائي. وقال الأخفش: زابن. أبو عبيدة: زبنية. وقيل: زباني. وقيل: هو اسم للجمع؛ كالأبابيل والعباديد. وقال قتادة: هم الشرط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع؛ ومنه المزابنة في البيع. وقيل: إنما سموا الزبانية لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم؛ حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه اللّه - قال: وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه السورة، وبلغ إلى قوله تعالى: « لنسفعا بالناصية » قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. فقال اللّه تعالى: « فليدع ناديه، سندع الزبانية » . فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا؛ فقيل له: خشيت منه قال لا ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية. فما أدري ما الزبانية، ومال إلي الفارس، فخشيت منه أن يأكلني. وفي الأخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض، فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل: إنهم أعظم الملائكة خلقا، وأشدهم بطشا. والعرب تطلق هذا الاسم على من أشتد بطشه. قال الشاعر:

مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عطام حلومها

وعن عكرمة عن ابن عباس: « سندع الزبانية » قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي عند المقام، فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد فأغلظ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد، واللّه إني لأكثر أهل الوادي هذا ناديا؛ فأنزل اللّه عز وجل: « فليدع ناديه. سندع الزبانية » . قال ابن عباس: واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب : المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي يجتمعون، والمراد أهل النادي؛ كما قال جرير:

لهم مجلس صهب السبال أذلة

وقال زهير:

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وقال آخر:

واستب بعدك يا كليب المجلس

وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته. قال زهير:

وجار البيت والرجل المنادي أمام الحي عقدهما سواء

الآية: 19 ( كلا لا تطعه واسجد واقترب )

قوله تعالى: « كلا » أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل. « لا تطعه » أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. « واسجد » أي صل لله « واقترب » أي تقرب إلى اللّه جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من اللّه بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الأرض ساجدا لله ) .

قال علماؤنا: وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة؛ ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها؛ فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: [ أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم ] . ولقد أحسن من قال:

وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها

وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصليا، واقترب أنت يا أبا جهل من النار.

قوله تعالى: « واسجد » هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربي: « والظاهر أنه سجود الصلاة » لقوله تعالى: « أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب » ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم « إذا السماء انشقت » [ الإنشقاق: 1 ] ، وفي « اقرأ باسم ربك الذي خلق » [ العلق: 1 ] سجدتين، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة. وقد روى ابن وهب، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال: عزائم السجود أربع: « ألم » و « حم تنزيل من الرحمن الرحيم » و « النجم » و « اقرأ باسم ربك » . وقال ابن العربي: وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة « الحج » ، وإن كان مقترنا بالركوع؛ لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع، واسجدوا في موضع السجود. وقد قال ابن نافع ومطرف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من « اقرأ باسم ربك » وابن وهب يراها من العزائم.

قلت: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن نافع عن ابن عمر قال: لما أنزل اللّه تعالى « اقرأ باسم ربك الذي خلق » [ العلق: 1 ] قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ: [ اكتبها يا معاذ ] فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ؛ فلما بلغ « كلا لا تطعه واسجد واقترب » سجد اللوح، وسجد القلم، وسجدت النون، وهم يقولون: اللهم ارفع به ذكرا، اللهم احطط به وزرا، اللهم اغفر به ذنبا. قال معاذ: سجدت، وأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسجد.

ختمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمنة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء يناير 29, 2014 11:08 pm

تفسير سورة القدر للقرطبى
====


الآيات: 1 - 3 ( إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر )

قوله تعالى: « إنا أنزلناه » يعني القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ لأن المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال: « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » [ البقرة: 185 ] وقال: « حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة » ، [ الدخان: 3 ] يريد: في ليلة القدر. وقال الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى اللّه عليه وسلم نجوما نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة؛ قال ابن عباس، وقد تقدم في سورة « البقرة » . وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند اللّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا؛ فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى اللّه عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: « وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة » .

قوله تعالى: « في ليلة القدر » قال مجاهد: في ليلة الحكم. « وما أدراك ما ليلة القدر » قال: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير؛ سمين بذلك لأن اللّه تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة؛ من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال: يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتى الحاج. قال عكرمة: يكتب حاج بيت اللّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم، ما يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة « الدخان » هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا: أن اللّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر؛ أي شرف ومنزلة. قال الزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر. وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوي قدر وخطر. وقيل: لأن اللّه تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل: سميت بذلك لأن اللّه تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال: الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: « وما أدراك » فقد أدراه. وما كان من قوله: « وما يدريك » [ الأحزاب: 63 ] فلم يدره. وقاله سفيان، وقد تقدم.

قوله تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر » بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. واللّه أعلم. وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء؛ كما قال تعالى: « يود أحدهم لو يعمر ألف سنة » [ البقرة: 96 ] يعني جميع الدهر. وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد اللّه ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل اللّه تعالى لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر؛ فجعل اللّه تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما. وقال ابن مسعود: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر؛ فعجب المسلمون من ذلك؛ فنزلت « إنا أنزلناه » [ الدخان: 3 ] الآية. « خير من ألف شهر » ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل اللّه. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلما، وإن أمه جعلته نذرا لله، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام، وكان سكن قريبا منها؛ فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش، انفجر له من اللحيين ماء عذب، فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة في البطش، لا يوجعه حديد ولا غيره: وكان اسمه شمسون. وقال كعب الأحبار: كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى اللّه إلى نبي زمانهم: قل لفلان يتمنى. فقال: يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي، فرزقه اللّه ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل، اللّه، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل، صائم النهار؛ فقتل الألف ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس: لا أحد يدرك منزلة هذا الملك؛ فأنزل اللّه تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر » من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل اللّه. وقال عليّ وعروة: ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، فقال ( عبدوا اللّه ثمانين سنة، لم يعصوا طرفة عين ) ؛ فذكر أيوب وزكريا، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون؛ فعجب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين، فقد أنزل اللّه عليك خيرا من ذلك؛ ثم قرأ: « إنا أنزلناه في ليلة القدر » . فسر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه اللّه تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر. وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أري بني أمية على منبره، فساءه ذلك؛ فنزلت « إنا أعطيناك الكوثر » [ الكوثر: 1 ] ، يعني نهرا في الجنة. ونزلت « إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من الف شهر » يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني: فعددناها، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يوما، ولا تنقص يوما. قال: حديث غريب.

الآية: 4 ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر )

قوله تعالى: « تنزل الملائكة » أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى؛ ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر؛ فذلك قوله تعالى: « تنزل الملائكة » . « والروح فيها بإذن ربهم » أي جبريل عليه السلام. وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة. وأقربهم من اللّه تعالى. وقيل: إنهم جند من جند اللّه عز وجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا؛ ذكره الماوردي وحكى القشيري: قيل هم صنف من خلق اللّه يأكلون الطعام، ولهم أيد وأرجل؛ وليسوا ملائكة. وقيل: « الروح » خلق عظيم يقوم صفا، والملائكة كلهم صفا. وقيل: « الروح » الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها؛ دليله: « ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده » [ النحل: 2 ] ، أي بالرحمة. « فيها » أي في ليلة القدر. « بإذن ربهم » أي بأمره. « من كل أمر » أمر بكل أمر قدره اللّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل؛ قاله ابن عباس؛ كقوله تعالى: « يحفظونه من أمر الله » [ الرعد: 11 ] أي بأمر اللّه. وقراءة العامة « تنزل » بفتح التاء؛ إلا أن البزي شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي « من كل امرئ » . وروي عن ابن عباس أن معناه: من كل ملك؛ وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. « فمن » بمعنى على. وعن أنس قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: « إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه تعالى.»

الآية: 5 ( سلام هي حتى مطلع الفجر )

قيل: إن تمام الكلام « من كل أمر » ثم قال « سلام » . روي ذلك عن نافع وغيره؛ أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. « حتى مطلع الفجر » أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر اللّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام؛ أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر؛ يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن. وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. وقال قتادة: « سلام هي » : خير هي. « حتى مطلع الفجر » أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن « مطلع » بكسر اللام، الباقون بالفتح. والفتح والكسر: لغتان في المصدر. والفتح الأصل في فعل يفعل؛ نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه؛ نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر، على أن يراد به المصدر لا الاسم.

وهنا ثلاث مسائل: الأولى: في تعيين ليلة القدر؛ وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين؛ لحديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن أخاك عبدالله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر اللّه لأبي عبدالرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين؛ ولكنه أراد ألا يتكل الناس؛ ثم حلف لا يستثني: أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم. وقيل: هي في شهر رمضان دون سائر العام؛ قاله أبو هريرة وغيره. وقيل: هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضى سنة من يوم حلف. لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت؛ فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضى حول. وكذلك العتق؛ وما كان مثله من يمين أو غيره. وقال ابن مسعود: من يقم الحول يصبها؛ فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: يرحم اللّه أبا عبدالرحمن! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه: إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة؛ والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا: أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل: إنها الليلة الأولى من الشهر؛ قال أبو رزين العقيلي. وقال الحسن وابن إسحاق وعبدالله بن الزبير: هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان » [ الأنفال: 41 ] ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور: أنها في العشر الأواخر من رمضان؛ وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم: هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي اللّه عنه، لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري، خرجه مالك وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين؛ لما رواه ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول اللّه إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين ) . قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين ) . قال عبدالله بن أنيس: فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين، كما أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: ليلة خمس وعشرين؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( التمسوها في العشر. الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعه تبقى، في خامسة تبقى ) . رواه مسلم، قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل: ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله، وهو قول علي رضي اللّه عنه وعائشة ومعاوية وأبيّ بن كعب. وروى ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من كان متحريا ليلة القدر، فليتحرها ليلة سبع وعشرين ) .

وقال أبيّ بن كعب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) . وقال أبو بكر الوراق: إن اللّه تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجيء سبعا وعشرين. وقيل: هي ليلة تسع وعشرين؛ لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: « ليلة القدر التاسعة والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى » . وقد قيل: إنها في الأشفاع. قال الحسن: ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي. وقيل: أخفاها في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، والعبد الصالح بين العباد؛ رحمة منه وحكمة.

الثانية: في علاماتها: منها أن الشمس، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. وقال الحسن قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة القدر: ( إن من أماراتها: أنها ليلة سمحة بلجة، لا حارة ولا باردة، تطلع، الشمس صبيحتها ليس لها شعاع ) . وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر، فأخذت من مائه، فوجدته عذبا سلسا.

الثالثة: في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى: « ليلة القدر خير من ألف شهر وقوله تعالى: » تنزل الملائكة والروح فيه « . وفي الصحيحين: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه ) رواه أبو هريرة. وقال ابن عباس: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى، منهم جبريل، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل الخنزير، والمتضمخ بالزعفران ) : وفي الحديث: ( إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر » . وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفراء؛ لا يقدر اللّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم؛ وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع. واللّه أعلم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: ( من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها ) ، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيدالله بن عامر بن ربيعة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر ) ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قلت: يا رسول اللّه إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 19 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس يناير 30, 2014 11:12 pm

تفسير سورة البينة للقرطبى
=====


وقد جاء في فضلها حديث لا يصح، رويناه عن محمد بن محمد بن عبداللّه الحضرمي قال: قال لي أبو عبدالرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب، فاكتب عنه فإنه قد كتب، فذهب إليه، فقال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه: ( لو يعلم الناس ما في « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب » لعطلوا الأهل والمال، فتعلموها ) فقال رجل من خزاعة: وما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ قال: ( لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شك في اللّه. واللّه إن الملائكة المقربين يقرؤونها منذ خلق اللّه السموات والأرض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث اللّه إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة ) . قال الحضرمي: فجئت إلى أبي عبدالرحمن بن نمير، فألقيت هذا الحديث عليه، فقال: هذا قد كفانا مؤونته، فلا تعد إليه. قال ابن العربي: « روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لو يعلم الناس ما في » لم يكن « الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها ) . حديث باطل؛ وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب: ( إن اللّه أمرني أن اقرأ عليك » لم يكن الذين كفروا « قال: وسماني لك قال » نعم « فبكى ) .»

قلت: خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبيّ، ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل: لأن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فأراد بقراءته عليه، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر اللّه رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد؛ قال حدثنا علي بن الجعد، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال: في قراءة أبيّ بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لا لتمس ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللّه على من تاب. قال عكرمة. قرأ علي عاصم « لم يكن » ثلاثين آية، هذا فيها. قال أبو بكر: هذا باطل عند أهل العلم، لأن قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبيّ بن كعب، لا يقرأ فيها هذا المذكور في « لم يكن » مما هو معروف في حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الإجماع: أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة.

الآيات: 1 - 3 ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة )


قوله تعالى: « لم يكن الذين كفروا » كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود « لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين » وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: « وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح » فطلقوهن لقبل عدتهن « وهو تفسير؛ فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف » .

قوله تعالى: « من أهل الكتاب » يعني اليهود والنصارى « والمشركين » في موضع جر عطفا على « أهل الكتاب » . قال ابن عباس « أهل الكتاب » : اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها؛ وهم مشركو قريش. « منفكين » أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. « حتى تأتيهم البينة » أي أتتهم البينة؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: « منفكين » زائلين؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح؛ ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة:

فآليت لا ينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتين مهند

وقال ذو الرمة:

حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا

يريد: ما تنفك مناخة؛ فزاد « إلا » . وقيل: « منفكين » : بارحين؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: « فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به » [ البقرة: 89 ] . ولهذا قال: « وما تفرق الذين أوتوا الكتاب » [ البينة: 4 ] ... الآية. وعلى هذا « والمشركين » أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى بعث؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين: « منفكين » هالكين من قولهم: أنفك صلا المرأة عند الولادة؛ وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب؛ فمن اليهود من قال: عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال: عيسى هو اللّه. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: « والمشركين » . وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة؛ والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين. وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري: وفيه بعد؛ لأن الظاهر من « حتى تأتيهم البينة. رسول من اللّه » أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد؛ إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم « والمشركون » رفعا، عطفا على « الذين » . والقراءة الأولى أبين؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ: « فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين » . وفي مصحف ابن مسعود: « لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين » . وقد تقدم. « حتى تأتيهم البينة » قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صلى اللّه عليه وسلم.

قوله تعالى: « رسول من الله » أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج: « رسول » رفع على البدل من « البينة » . وقال الفراء: أي هي رسول من اللّه، أو هو رسول من اللّه؛ لأن البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود « رسول » بالنصب على القطع. « يتلو » أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة. « صحفا » جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. « مطهرة » قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة: من الباطل. وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب؛ لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و « مطهرة » : من نعت الصحف؛ وهو كقوله تعالى: « في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة » [ عبس: 13 ] ، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل: « مطهرة » أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون؛ كما قال في سورة « الواقعة » حسب ما تقدم بيانه. وقيل: الصحف المطهرة: هي التي عند اللّه في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء من الكتب؛ كما قال تعالى: « بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ » [ البروج:22 ] . قال الحسن: يعني الصحف المطهرة في السماء. « فيها كتب قيمة » أي مستقيمة مستوية محكمة؛ من قول العرب: قام يقوم: إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب؛ فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب: أن الكتب هنا بمعنى الأحكام؛ قال اللّه عز وجل: « كتب الله لأغلبن » [ المجادلة:21 ] بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه ) ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب؛ فالمعنى: لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر:

وما الولاء بالبلاء فملتم وما ذاك قال الله إذ هو يكتب

وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.

الآية: 4 ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة )

قوله تعالى: « وما تفرق الذين أوتوا الكتاب » أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم علم فاذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. « إلا من بعد ما جاءتهم البينة » أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم؛ أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن؛ كقوله تعالى: « وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم » [ الشورى: 14 ] . وقيل: « البينة » : البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله « قيمة » [ البينة: 5 ] : حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله: « وما تقرق » : حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.

الآية: 5 ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )

قوله تعالى: « وما أمروا » أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل « إلا ليعبدوا الله » أي ليوحدوه. واللام في « ليعبدوا » بمعنى « أن » ؛ كقوله: « يريد الله ليبين لكم » [ النساء: 26 ] أي أن يبين. و « يريدون ليطفئوا نور الله » [ الصف: 8 ] . و « أمرنا لنسلم لرب العالمين » [ الأنعام: 71 ] . وفي حرف عبدالله: « وما أمروا إلا أن يعبدوا اللّه » . « مخلصين له الدين » أي العبادة؛ ومنه قوله تعالى: « قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين » [ الزمر: 11 ] . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره.

قوله تعالى: « حنفاء » أي مائلين عن الأديان كلها، إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل: الحنيف: من اختتن وحج؛ قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام؛ أي مال إليه. « ويقيموا الصلاة » أي بحدودها في أوقاتها. « ويؤتوا الزكاة » أي يعطوها عند محلها. « وذلك دين القيمة » أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة؛ أي الدين المستقيم. وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. و « القيمة » : نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الأمة القيمة بالحق؛ أي القائمة بالحق. وفي حرف عبدالله « وذلك الدين القيم » . قال الخليل: « القيمة » جمع القيم، والقيم والقائم: واحد. وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الأشعث، الطالقاني « القيمة » ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها.

الآيات: 6 - 7 ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )

قوله تعالى: « إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين » « المشركين » : معطوف على « الذين » ، أو يكون مجرورا معطوفا على « أهل » . « في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية » قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الأصل في الموضعين؛ من قولهم: برأ اللّه الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: « من قبل أن نبرأها » [ الحديد: 22 ] . الباقون بغير همز، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء: إن أخذت البرية من البرى، وهو التراب، فأصله غير الهمز؛ تقول منه: براه اللّه يبروه بروا؛ أي خلقه. قال القشيري: ومن قال البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته؛ فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب منه تخطئة من همز. وقوله « شر البرية » أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ كما قال تعالى: « وأني فضلتكم على العالمين » [ البقرة: 47 ] أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شر منهم؛ مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا « خير البرية » : إما على التعميم، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة « البقرة » القول فيه. وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه: المؤمن أكرم على اللّه عز وجل من بعض الملائكة الذين عنده.

الآية: 8 ( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه )

قوله تعالى: « جزاؤهم » أي ثوابهم. « عند ربهم » أي خالقهم ومالكهم. « جنات » أي بساتين. « عدن » أي إقامة. والمفسرون يقولون: « جنات عدن » بطنان الجنة، أي وسطها؛ تقول: عدن بالمكان يعدن [ عدنا وعدونا ] : أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى:

وإن يستضافوا إلى حكمه يضافوا إلى راجح قد عدن

« تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا » لا يظعنون ولا يموتون. « رضي الله عنهم » أي رضي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس. « ورضوا عنه » أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. « ذلك » أي الجنة. « لمن خشي ربه » أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 19 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 11 ... 18, 19, 20  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى