بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
هدى من الله | ||||
لولو حسن | ||||
روز | ||||
هنا سيد | ||||
توتى بدر | ||||
fola | ||||
روضة البدر | ||||
ام دهب و مصطفى | ||||
امة الرحمن | ||||
لولا |
تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
صفحة 3 من اصل 5
صفحة 3 من اصل 5 • 1, 2, 3, 4, 5
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة النمل ..بن كثير
======
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ( 1 )
( طس ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
هذه آيات القرآن وهي آيات الكتاب العزيز بينة المعنى, واضحة الدلالة, على ما فيه من العلوم والحكم والشرائع. فالقرآن هو الكتاب، جمع الله له بين الاسمين.
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 3 )
وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والآخرة, وتبشر بحسن الثواب للمؤمنين الذين صَدَّقوا بها, واهتدَوْا بهديها, الذين يقيمون الصلوات الخمس كاملة الأركان, مستوفية الشروط, ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها, وهم يوقنون بالحياة الآخرة, وما فيها مِن ثواب وعقاب.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ( 5 )
إن الذين لا يُصَدِّقون بالدار الآخرة, ولا يعملون لها حسَّنَّا لهم أعمالهم السيئة, فرأوها حسنة, فهم يترددون فيها متحيِّرين. أولئك الذين لهم العذاب السيِّئ في الدنيا قتلا وأَسْرًا وذُلا وهزيمةً, وهم في الآخرة أشد الناس خسرانًا.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( 6 )
وإنك - أيها الرسول- لتتلقى القرآن من عند الله, الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا.
إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 7 )
اذكر قصة موسى حين قال لأهله في مسيره من « مدين » إلى « مصر » : إني أبصَرْتُ نارًا سآتيكم منها بخبر يدلنا على الطريق, أو آتيكم بشعلة نار; كي تستدفئوا بها من البرد.
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 8 ) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 9 ) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( 10 ) إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 11 ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 12 )
فلما جاء موسى النارَ ناداه الله وأخبره أن هذا مكانٌ قدَّسه الله وباركه فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله, وأن الله بارك مَن في النار ومَن حولها مِنَ الملائكة, وتنزيهًا لله رب الخلائق عما لا يليق به. يا موسى إنه أنا الله المستحق للعبادة وحدي, العزيز الغالب في انتقامي من أعدائي, الحكيم في تدبير خلقي. وألق عصاك فألقاها فصارت حية, فلما رآها تتحرك في خفة تَحَرُّكَ الحية السريعة ولَّى هاربًا ولم يرجع إليها, فطمأنه الله بقوله: يا موسى لا تَخَفْ, إني لا يخاف لديَّ من أرسلتهم برسالتي, لكن مَن تجاوز الحدَّ بذنب, ثم تاب فبدَّل حُسْن التوبة بعد قبح الذنب, فإني غفور له رحيم به, فلا ييئس أحدٌ من رحمة الله ومغفرته. وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء كالثلج من غير بَرَص في جملة تسع معجزات، وهي مع اليد: العصا، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم؛ لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه, إنهم كانوا قومًا خارجين عن أمر الله كافرين به.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 13 )
فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيِّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما دلت عليه, قالوا: هذا سحرٌ واضحٌ بيِّن.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 14 )
وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدلالة على صدق موسى في نبوته وصدق دعوته, وأنكروا بألسنتهم أن تكون من عند الله, وقد استيقنوها في قلوبهم اعتداءً على الحق وتكبرًا على الاعتراف به, فانظر - أيها الرسول- كيف كان مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الأرض, إذ أغرقهم الله في البحر؟ وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( 15 )
ولقد آتينا داود وسليمان علمًا فعملا به, وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا بهذا على كثير من عباده المؤمنين. وفي الآية دليل على شرف العلم, وارتفاع أهله.
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( 16 )
وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك, وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس عُلِّمنا وفُهِّمنا كلام الطير, وأُعطينا مِن كل شيء تدعو إليه الحاجة, إن هذا الذي أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي يُمَيِّزنا على مَن سوانا.
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 17 )
وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم, فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين, بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا جميعًا منتظمين.
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 18 ) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( 19 )
حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يهلكنَّكم سليمان وجنوده, وهم لا يعلمون بذلك. فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل, واستشعر نعمة الله عليه, فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني, ووفقني, أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ, وأن أعمل عملا صالحًا ترضاه مني, وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( 20 ) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 21 )
وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب منها, وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده, فقال: ما لي لا أرى الهدهد الذي أعهده؟ أسَتَره ساتر عني, أم أنه كان من الغائبين عني, فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه غائب قال: لأعذبنَّ هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا له, أو لأذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخلَّ بما سُخِّر له, أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة, فيها عذر لغيبته.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( 22 )
فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على مغيبه وتخلُّفه, فقال له الهدهد: علمت ما لم تعلمه من الأمر على وجه الإحاطة, وجئتك من مدينة « سبأ » بـ « اليمن » بخبر خطير الشأن, وأنا على يقين منه.
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( 23 )
إني وجدت امرأةً تحكم أهل « سبأ » , وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا, ولها سرير عظيم القدر, تجلس عليه لإدارة ملكها.
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ( 24 )
وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة الله, وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها, فصرفهم عن الإيمان بالله وتوحيده, فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده.
أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 25 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 26 )
حسَّن لهم الشيطان ذلك; لئلا يسجدوا لله الذي يُخرج المخبوء المستور في السموات والأرض من المطر والنبات وغير ذلك, ويعلم ما تُسرُّون وما تظهرون. الله الذي لا معبود يستحق العبادة سواه, رب العرش العظيم.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 27 ) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( 28 )
قال سليمان للهدهد: سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر أصدقت في ذلك أم كنت من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي هذا إلى أهل « سبأ » فأعطهم إياه, ثم تنحَّ عنهم قريبًا منهم بحيث تسمع كلامهم, فتأمل ما يتردد بينهم من الكلام.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( 29 )
ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته, فجمعت أشراف قومها, وسمعها تقول لهم: إني وصل إليَّ كتاب جليل المقدار من شخص عظيم الشأن.
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 30 ) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 31 )
ثم بيَّنت ما فيه فقالت: إنه من سليمان, وإنه مفتتح بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه, وأقْبِلوا إليَّ منقادين لله بالوحدانية والطاعة مسلمين له.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ( 32 )
قالت: يا أيها الأشراف أشيروا عليَّ في هذا الأمر, ما كنت لأفصل في أمر إلا بمحضركم ومشورتكم.
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ( 33 )
قالوا مجيبين لها: نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة وأصحاب النجدة والشجاعة في شدة الحرب, والأمر موكول إليكِ, وأنتِ صاحبة الرأي, فتأملي ماذا تأمريننا به؟ فنحن سامعون لأمرك مطيعون لك.
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( 34 ) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( 35 )
قالت محذرةً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة, ومبيِّنة لهم سوء مغبَّة القتال: إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قريةً عنوةً وقهرًا خرَّبوها وصيَّروا أعزَّة أهلها أذلة, وقتلوا وأسروا, وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على أن يهابوهم. وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة مشتملة على نفائس الأموال أصانعه بها, ومنتظرة ما يرجع به الرسل.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ( 36 )
فلمَّا جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان, قال مستنكرًا ذلك متحدثًا بأَنْعُمِ الله عليه: أتمدونني بمالٍ تَرْضيةً لي؟ فما أعطاني الله من النبوة والملك والأموال الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم، بل أنتم الذين تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم; لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 37 )
وقال سليمان عليه السلام لرسول أهل « سبأ » : ارجع إليهم, فوالله لنأتينَّهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها ومقابلتها, ولنخرجنَّهم مِن أرضهم أذلة وهم صاغرون مهانون, إن لم ينقادوا لدين الله وحده, ويتركوا عبادة من سواه.
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 38 )
قال سليمان مخاطبًا من سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ( 39 )
قال مارد قويٌّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا, وإني لقويٌّ على حَمْله, أمين على ما فيه, آتي به كما هو لا أُنقِص منه شيئًا ولا أبدله.
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( 40 )
قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا تحرَّكَتْ للنظر في شيء. فأذن له سليمان فدعا الله, فأتى بالعرش. فلما رآه سليمان حاضرًا لديه ثابتًا عنده قال: هذا مِن فضل ربي الذي خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني: أأشكر بذلك اعترافًا بنعمته تعالى عليَّ أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله على نعمه فإنَّ نَفْعَ ذلك يرجع إليه, ومن جحد النعمة وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره, كريم يعم بخيره في الدنيا الشاكر والكافر, ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة.
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ( 41 )
قال سليمان لمن عنده: غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس عليه إلى حال تنكره إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم تكون من الذين لا يهتدون؟
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( 42 )
فلما جاءت ملكة « سبأ » إلى سليمان في مجلسه قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: إنه يشبهه. فظهر لسليمان أنها أصابت في جوابها, وقد علمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان عليه السلام, فقال: وأوتينا العلم بالله وبقدرته مِن قبلها, وكنا منقادين لأمر الله متبعين لدين الاسلام.
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 43 )
ومَنَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده مِن دون الله تعالى, إنها كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين, واستمرت على دينهم, وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما تعرف به الحق من الباطل, ولكن العقائد الباطلة تُذهب بصيرة القلب.
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 44 )
قيل لها: ادخلي القصر, وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء, فلما رأته ظنته ماء تتردد أمواجه, وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء, فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صاف والماء تحته. فأدركت عظمة ملك سليمان, وقالت: رب إني ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك, وانقدتُ متابعة لسليمان داخلة في دين رب العالمين أجمعين.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( 45 )
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا: أن وحِّدوا الله, ولا تجعلوا معه إلهًا آخر, فلما أتاهم صالحٌ داعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده صار قومه فريقين: أحدهما مؤمن به, والآخر كافر بدعوته, وكل منهم يزعم أن الحق معه.
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 46 )
قال صالح للفريق الكافر: لِمَ تبادرون الكفر وعمل السيئات الذي يجلب لكم العذاب, وتؤخرون الإيمان وفِعْل الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هلا تطلبون المغفرة من الله ابتداء, وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا.
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( 47 )
قال قوم صالح له: تَشاءَمْنا بك وبمن معك ممن دخل في دينك, قال لهم صالح: ما أصابكم الله مِن خير أو شر فهو مقدِّره عليكم ومجازيكم به, بل أنتم قوم تُخْتَبرون بالسراء والضراء والخير والشر.
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ( 48 )
وكان في مدينة صالح - وهي « الحِجْر » الواقعة في شمال غرب جزيرة العرب- تسعة رجال, شأنهم الإفساد في الأرض, الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 49 )
قال هؤلاء التسعة بعضهم لبعض: تقاسموا بالله بأن يحلف كل واحد للآخرين: لنأتينَّ صالحًا بغتة في الليل فنقتله ونقتل أهله, ثم لنقولَنَّ لوليِّ الدم مِن قرابته: ما حضرنا قتلهم, وإنا لصادقون فيما قلناه.
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 50 )
ودبَّروا هذه الحيلة لإهلاك صالح وأهله مكرًا منهم, فنصرنا نبينا صالحًا عليه السلام, وأخذناهم بالعقوبة على غِرَّة, وهم لا يتوقعون كيدنا لهم جزاءً على كيدهم.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( 51 )
فانظر - أيها الرسول- نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلاء الرهط بنبيهم صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 52 )
فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد, أهلكهم الله; بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك, وتكذيب نبيهم. إن في ذلك التدمير والإهلاك لَعظة لقوم يعلمون ما فعلناه بهم, وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 53 )
وأنجينا مما حلَّ بثمود من الهلاك صالحًا والمؤمنين به, الذين كانوا يتقون بإيمانهم عذاب الله.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( 54 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( 55 )
واذكر لوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفعلة المتناهية في القبح, وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم للشهوة عوضًا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون حقَّ الله عليكم, فخالفتم بذلك أمره, وعَصَيْتُم رسوله بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 56 )
فما كان لقوم لوط جواب له إلا قول بعضهم لبعض: أَخْرجوا آل لوط من قريتكم, إنهم أناس يتنزهون عن إتيان الذكران. قالوا لهم ذلك استهزاءً بهم.
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( 57 )
فأنجينا لوطًا وأهله من العذاب الذي سيقع بقوم لوط, إلا امرأته قدَّرناها من الباقين في العذاب حتى تهلك مع الهالكين; لأنها كانت عونًا لقومها على أفعالهم القبيحة راضية بها.
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ( 58 )
وأمطرنا عليهم من السماء حجارة مِن طين مهلكة, فقَبُحَ مطر المنذَرين, الذين قامت عليهم الحجة.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ ( 59 )
قل - أيها الرسول- : الثناء والشكر لله, وسلام منه, وأَمَنَةٌ على عباده الذين تخيرهم لرسالته, ثم اسأل مشركي قومك هل الله الذي يملك النفع والضر خير أو الذي يشركون من دونه, ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا؟
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( 60 )
واسألهم مَن خلق السموات والأرض, وأنزل لكم من السماء ماء, فأنبت به حدائق ذات منظر حسن؟ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها, لولا أن الله أنزل عليكم الماء من السماء. إن عبادته سبحانه هي الحق, وعبادة ما سواه هي الباطل. أمعبود مع الله فعل هذه الأفعال حتى يُعبد معه ويُشرك به؟ بل هؤلاء المشركون قوم ينحرفون عن طريق الحق والإيمان, فيسوون بالله غيره في العبادة والتعظيم.
أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 61 )
أعبادة ما تشركون بربكم خير أم الذي جعل لكم الأرض مستقرًا وجعل وسطها أنهارًا, وجعل لها الجبال ثوابت, وجعل بين البحرين العذب والملح حاجزًا حتى لا يُفسد أحدهما الآخر؟ أمعبود مع الله فَعَلَ ذلك حتى تشركوه معه في عبادتكم؟ بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر عظمة الله, فهم يشركون به تقليدًا وظلمًا.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 62 )
أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يجيب المكروب إذا دعاه, ويكشف السوء النازل به, ويجعلكم خلفاء لمن سبقكم في الأرض؟ أمعبود مع الله ينعم عليكم هذه النعم؟ قليلا ما تذكرون وتعتبرون, فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 63 )
أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يرشدكم في ظلمات البر والبحر إذا ضللتم فأظلمت عليكم السبل, والذي يرسل الرياح مبشرات بما يرحم به عباده مِن غيث يحيي موات الأرض؟ أمعبود مع الله يفعل بكم شيئًا من ذلك فتدعونه من دونه؟ تنزَّه الله وتقدَّس عما يشركون به غيره.
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 64 )
واسألهم من الذي ينشئ الخلق ثم يفنيه إذا شاء, ثم يعيده, ومَن الذي يرزقكم من السماء بإنزال المطر, ومن الأرض بإنبات الزرع وغيره؟ أمعبود سوى الله يفعل ذلك؟ قل: هاتوا حجتكم إن كنتم صادقين في زعمكم أن لله تعالى شريكًا في ملكه وعبادته.
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( 65 ) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ( 66 )
قل - أيها الرسول- لهم: لا يعلم أحد في السموات ولا في الأرض ما استأثر الله بعلمه من المغيَّبات, ولا يدرون متى هم مبعوثون مِن قبورهم عند قيام الساعة؟ بل تكامل علمهم في الآخرة, فأيقنوا بالدار الآخرة, وما فيها مِن أهوال حين عاينوها, وقد كانوا في الدنيا في شك منها, بل عميت عنها بصائرهم.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ( 67 )
وقال الذين جحدوا وحدانية الله: أنحن وآباؤنا مبعوثون أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا بعد أن صرنا ترابًا؟
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 68 )
لقد وُعدنا هذا البعث نحن وآباؤنا مِن قبل, فلم نر لذلك حقيقة ولم نؤمن به, ما هذا الوعد إلا مما سطَّره الأولون من الأكاذيب في كتبهم وافتروه.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 69 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين: سيروا في الأرض, فانظروا إلى ديار مَن كان قبلكم من المجرمين, كيف كان عاقبة المكذبين للرسل؟ أهلكهم الله بتكذيبهم, والله فاعل بكم مثلهم إن لم تؤمنوا.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ( 70 )
ولا تحزن على إعراض المشركين عنك وتكذيبهم لك, ولا يَضِقْ صدرك مِن مكرهم بك, فإن الله ناصرك عليهم.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 71 )
ويقول مشركو قومك - أيها الرسول- : متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تَعِدُنا به أنت وأتباعك إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( 72 )
قل لهم - أيها الرسول- : عسى أن يكون قد اقترب لكم بعض الذي تستعجلون من عذاب الله.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 73 )
وإنَّ ربك لذو فضل على الناس; بتركه معاجلتهم بالعقوبة على معصيتهم إياه وكفرهم به, ولكن أكثرهم لا يشكرون له على ذلك, فيؤمنوا به ويخلصوا له العبادة.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 74 )
وإن ربك لَيعلم ما تخفيه صدور خلقه وما يظهرونه.
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 75 )
وما مِن شيء غائب عن أبصار الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب واضح عند الله. قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان وما يكون.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 76 )
إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل الحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها.
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 77 )
وإن هذا القرآن لهداية من الضلال ورحمة من العذاب, لمن صدَّق به واهتدى بهداه.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 78 )
إن ربك يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم بحكمه فيهم, فينتقم من المبطل, ويجازي المحسن. وهو العزيز الغالب, فلا يُرَدُّ قضاؤه, العليم, فلا يلتبس عليه حق بباطل.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( 79 )
فاعتمد - أيها الرسول- في كل أمورك على الله, وثق به; فإنه كافيك, إنك على الحق الواضح الذي لا شك فيه.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 80 )
إنك - أيها الرسول- لا تقدر أن تُسمع الحق مَن طبع الله على قلبه فأماته, ولا تُسمع دعوتك مَن أصمَّ الله سمعه عن سماع الحق عند إدبارهم معرضين عنك، فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلا، فكيف إذا كان معرضًا عنه موليًا مدبرًا؟
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ( 81 )
وما أنت - أيها الرسول- بهادٍ عن الضلالة مَن أعماه الله عن الهدى والرشاد, ولا يمكنك أن تُسمع إلا مَن يصدِّق بآياتنا, فهم مسلمون مطيعون, مستجيبون لما دعوتهم إليه.
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ( 82 )
وإذا وجب العذاب عليهم; لتماديهم في المعاصي والطغيان, وإعراضهم عن شرع الله وحكمه, حتى صاروا من شرار خلقه, أخرجنا لهم من الأرض في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى, وهي « الدابة » , تحدثهم أن الناس المنكرين للبعث كانوا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ودينه لا يصدقون ولا يعملون.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 83 )
ويوم نجمع يوم الحشر من كل أمة جماعة, ممن يكذب بأدلتنا وحججنا, يُحْبَس أولهم على آخرهم; ليجتمعوا كلهم, ثم يساقون إلى الحساب.
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 84 ) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ( 85 )
حتى إذا جاء من كل أمة فوج ممن يكذب بآياتنا فاجتمعوا قال الله: أكذَّبْتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي, وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي واستحقاقي وحدي للعبادة ولم تحيطوا علمًا ببطلانها, حتى تُعرضوا عنها وتُكَذِّبوا بها, أم أي شيء كنتم تعملون؟ وحقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم وتكذيبهم, فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم ما حلَّ بهم من سوء العذاب.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 86 )
ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا جعلنا الليل يستقرُّون فيه وينامون, والنهار يبصرون فيه للسعي في معاشهم؟ إن في تصريفهما لَدلالة لقوم يؤمنون بكمال قدرة الله ووحدانيَّته وعظيم نعمه.
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( 87 )
واذكر - أيها الرسول- يوم يَنفخ الملَك في « القرن » ففزع مَن في السموات ومَن في الأرض فزعًا شديدًا مِن هول النفخة, إلا مَنِ استثناه الله ممن أكرمه وحفظه من الفزع, وكل المخلوقات يأتون إلى ربهم صاغرين مطيعين.
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( 88 )
وترى الجبال تظنها واقفة مستقرة, وهي تسير سيرًا حثيثًا كسير السحاب الذي تسيِّره الرياح, وهذا مِن صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقنه. إن الله خبير بما يفعل عباده من خير وشر, وسيجازيهم على ذلك.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( 89 )
من جاء بتوحيد الله والإيمان به وعبادته وحده, والأعمال الصالحة يوم القيامة, فله عند الله من الأجر العظيم ما هو خير منها وأفضل, وهو الجنة, وهم يوم الفزع الأكبر آمنون.
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 90 )
ومن جاء بالشرك والأعمال السيئة المنكرة, فجزاؤهم أن يكبَّهم الله على وجوههم في النار يوم القيامة, ويقال لهم توبيخًا: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا؟
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 91 ) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( 92 )
قل - أيها الرسول- للناس: إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة, وهي « مكة » , الذي حَرَّمها على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا حرامًا, أو يظلموا فيها أحدًا, أو يصيدوا صيدها, أو يقطعوا شجرها, وله سبحانه كل شيء, وأُمرت أن أعبده وحده دون مَن سواه, وأُمرت أن أكون من المنقادين لأمره, المبادرين لطاعته, وأن أتلو القرآن على الناس, فمن اهتدى بما فيه واتبع ما جئت به, فإنما خير ذلك وجزاؤه لنفسه, ومن ضلَّ عن الحق فقل - أيها الرسول- : إنما أنا نذير لكم من عذاب الله وعقابه إن لم تؤمنوا، فأنا واحد من الرسل الذين أنذروا قومهم, وليس بيدي من الهداية شيء.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 93 )
وقل - أيها الرسول- : الثناء الجميل لله, سيريكم آياته في أنفسكم وفي السماء والأرض, فتعرفونها معرفة تدلكم على الحق، وتبيِّن لكم الباطل, وما ربك بغافل عما تعملون, وسيجازيكم على ذلك.
======
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ( 1 )
( طس ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
هذه آيات القرآن وهي آيات الكتاب العزيز بينة المعنى, واضحة الدلالة, على ما فيه من العلوم والحكم والشرائع. فالقرآن هو الكتاب، جمع الله له بين الاسمين.
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 3 )
وهي آيات ترشد إلى طريق الفوز في الدنيا والآخرة, وتبشر بحسن الثواب للمؤمنين الذين صَدَّقوا بها, واهتدَوْا بهديها, الذين يقيمون الصلوات الخمس كاملة الأركان, مستوفية الشروط, ويؤدون الزكاة المفروضة لمستحقيها, وهم يوقنون بالحياة الآخرة, وما فيها مِن ثواب وعقاب.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ( 5 )
إن الذين لا يُصَدِّقون بالدار الآخرة, ولا يعملون لها حسَّنَّا لهم أعمالهم السيئة, فرأوها حسنة, فهم يترددون فيها متحيِّرين. أولئك الذين لهم العذاب السيِّئ في الدنيا قتلا وأَسْرًا وذُلا وهزيمةً, وهم في الآخرة أشد الناس خسرانًا.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( 6 )
وإنك - أيها الرسول- لتتلقى القرآن من عند الله, الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا.
إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 7 )
اذكر قصة موسى حين قال لأهله في مسيره من « مدين » إلى « مصر » : إني أبصَرْتُ نارًا سآتيكم منها بخبر يدلنا على الطريق, أو آتيكم بشعلة نار; كي تستدفئوا بها من البرد.
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 8 ) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 9 ) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ( 10 ) إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 11 ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 12 )
فلما جاء موسى النارَ ناداه الله وأخبره أن هذا مكانٌ قدَّسه الله وباركه فجعله موضعًا لتكليم موسى وإرساله, وأن الله بارك مَن في النار ومَن حولها مِنَ الملائكة, وتنزيهًا لله رب الخلائق عما لا يليق به. يا موسى إنه أنا الله المستحق للعبادة وحدي, العزيز الغالب في انتقامي من أعدائي, الحكيم في تدبير خلقي. وألق عصاك فألقاها فصارت حية, فلما رآها تتحرك في خفة تَحَرُّكَ الحية السريعة ولَّى هاربًا ولم يرجع إليها, فطمأنه الله بقوله: يا موسى لا تَخَفْ, إني لا يخاف لديَّ من أرسلتهم برسالتي, لكن مَن تجاوز الحدَّ بذنب, ثم تاب فبدَّل حُسْن التوبة بعد قبح الذنب, فإني غفور له رحيم به, فلا ييئس أحدٌ من رحمة الله ومغفرته. وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء كالثلج من غير بَرَص في جملة تسع معجزات، وهي مع اليد: العصا، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم؛ لتأييدك في رسالتك إلى فرعون وقومه, إنهم كانوا قومًا خارجين عن أمر الله كافرين به.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 13 )
فلما جاءتهم هذه المعجزات ظاهرة بيِّنة يبصر بها مَن نظر إليها حقيقةَ ما دلت عليه, قالوا: هذا سحرٌ واضحٌ بيِّن.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 14 )
وكذَّبوا بالمعجزات التسع الواضحة الدلالة على صدق موسى في نبوته وصدق دعوته, وأنكروا بألسنتهم أن تكون من عند الله, وقد استيقنوها في قلوبهم اعتداءً على الحق وتكبرًا على الاعتراف به, فانظر - أيها الرسول- كيف كان مصير الذين كفروا بآيات الله وأفسدوا في الأرض, إذ أغرقهم الله في البحر؟ وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( 15 )
ولقد آتينا داود وسليمان علمًا فعملا به, وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا بهذا على كثير من عباده المؤمنين. وفي الآية دليل على شرف العلم, وارتفاع أهله.
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ( 16 )
وورث سليمان أباه داود في النبوة والعلم والملك, وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس عُلِّمنا وفُهِّمنا كلام الطير, وأُعطينا مِن كل شيء تدعو إليه الحاجة, إن هذا الذي أعطانا الله تعالى إياه لهو الفضل الواضح الذي يُمَيِّزنا على مَن سوانا.
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 17 )
وجُمِع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسيرة لهم, فهم على كثرتهم لم يكونوا مهمَلين, بل كان على كل جنس من يَرُدُّ أولهم على آخرهم; كي يقفوا جميعًا منتظمين.
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 18 ) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( 19 )
حتى إذا بلغوا وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يهلكنَّكم سليمان وجنوده, وهم لا يعلمون بذلك. فتبسم ضاحكًا من قول هذه النملة لفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل, واستشعر نعمة الله عليه, فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني, ووفقني, أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ, وأن أعمل عملا صالحًا ترضاه مني, وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ( 20 ) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 21 )
وتفقد سليمان حال الطير المسخرة له وحال ما غاب منها, وكان عنده هدهد متميز معروف فلم يجده, فقال: ما لي لا أرى الهدهد الذي أعهده؟ أسَتَره ساتر عني, أم أنه كان من الغائبين عني, فلم أره لغيبته؟ فلما ظهر أنه غائب قال: لأعذبنَّ هذا الهدهد عذابًا شديدًا لغيابه تأديبًا له, أو لأذبحنَّه عقوبة على ما فعل حيث أخلَّ بما سُخِّر له, أو ليأتينِّي بحجة ظاهرة, فيها عذر لغيبته.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( 22 )
فمكث الهدهد زمنًا غير بعيد ثم حضر فعاتبه سليمان على مغيبه وتخلُّفه, فقال له الهدهد: علمت ما لم تعلمه من الأمر على وجه الإحاطة, وجئتك من مدينة « سبأ » بـ « اليمن » بخبر خطير الشأن, وأنا على يقين منه.
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( 23 )
إني وجدت امرأةً تحكم أهل « سبأ » , وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا, ولها سرير عظيم القدر, تجلس عليه لإدارة ملكها.
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ( 24 )
وجدتُها هي وقومها يعبدون الشمس معرضين عن عبادة الله, وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها, فصرفهم عن الإيمان بالله وتوحيده, فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده وعبادته وحده.
أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 25 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 26 )
حسَّن لهم الشيطان ذلك; لئلا يسجدوا لله الذي يُخرج المخبوء المستور في السموات والأرض من المطر والنبات وغير ذلك, ويعلم ما تُسرُّون وما تظهرون. الله الذي لا معبود يستحق العبادة سواه, رب العرش العظيم.
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 27 ) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( 28 )
قال سليمان للهدهد: سنتأمل فيما جئتنا به من الخبر أصدقت في ذلك أم كنت من الكاذبين فيه؟ اذهب بكتابي هذا إلى أهل « سبأ » فأعطهم إياه, ثم تنحَّ عنهم قريبًا منهم بحيث تسمع كلامهم, فتأمل ما يتردد بينهم من الكلام.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( 29 )
ذهب الهدهد وألقى الكتاب إلى الملكة فقرأته, فجمعت أشراف قومها, وسمعها تقول لهم: إني وصل إليَّ كتاب جليل المقدار من شخص عظيم الشأن.
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 30 ) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 31 )
ثم بيَّنت ما فيه فقالت: إنه من سليمان, وإنه مفتتح بـ « بسم الله الرحمن الرحيم » ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه, وأقْبِلوا إليَّ منقادين لله بالوحدانية والطاعة مسلمين له.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ( 32 )
قالت: يا أيها الأشراف أشيروا عليَّ في هذا الأمر, ما كنت لأفصل في أمر إلا بمحضركم ومشورتكم.
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ( 33 )
قالوا مجيبين لها: نحن أصحاب قوة في العدد والعُدَّة وأصحاب النجدة والشجاعة في شدة الحرب, والأمر موكول إليكِ, وأنتِ صاحبة الرأي, فتأملي ماذا تأمريننا به؟ فنحن سامعون لأمرك مطيعون لك.
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( 34 ) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( 35 )
قالت محذرةً لهم من مواجهة سليمان بالعداوة, ومبيِّنة لهم سوء مغبَّة القتال: إن الملوك إذا دخلوا بجيوشهم قريةً عنوةً وقهرًا خرَّبوها وصيَّروا أعزَّة أهلها أذلة, وقتلوا وأسروا, وهذه عادتهم المستمرة الثابتة لحمل الناس على أن يهابوهم. وإني مرسلة إلى سليمان وقومه بهديَّة مشتملة على نفائس الأموال أصانعه بها, ومنتظرة ما يرجع به الرسل.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ( 36 )
فلمَّا جاء رسول الملكة بالهديَّة إلى سليمان, قال مستنكرًا ذلك متحدثًا بأَنْعُمِ الله عليه: أتمدونني بمالٍ تَرْضيةً لي؟ فما أعطاني الله من النبوة والملك والأموال الكثيرة خير وأفضل مما أعطاكم، بل أنتم الذين تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم; لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ومكاثرة بها.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 37 )
وقال سليمان عليه السلام لرسول أهل « سبأ » : ارجع إليهم, فوالله لنأتينَّهم بجنود لا طاقة لهم بمقاومتها ومقابلتها, ولنخرجنَّهم مِن أرضهم أذلة وهم صاغرون مهانون, إن لم ينقادوا لدين الله وحده, ويتركوا عبادة من سواه.
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 38 )
قال سليمان مخاطبًا من سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: أيُّكم يأتيني بسرير ملكها العظيم قبل أن يأتوني منقادين طائعين؟
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ( 39 )
قال مارد قويٌّ شديد من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا, وإني لقويٌّ على حَمْله, أمين على ما فيه, آتي به كما هو لا أُنقِص منه شيئًا ولا أبدله.
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ( 40 )
قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك بهذا العرش قبل ارتداد أجفانك إذا تحرَّكَتْ للنظر في شيء. فأذن له سليمان فدعا الله, فأتى بالعرش. فلما رآه سليمان حاضرًا لديه ثابتًا عنده قال: هذا مِن فضل ربي الذي خلقني وخلق الكون كله؛ ليختبرني: أأشكر بذلك اعترافًا بنعمته تعالى عليَّ أم أكفر بترك الشكر؟ ومن شكر لله على نعمه فإنَّ نَفْعَ ذلك يرجع إليه, ومن جحد النعمة وترك الشكر فإن ربي غني عن شكره, كريم يعم بخيره في الدنيا الشاكر والكافر, ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة.
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ( 41 )
قال سليمان لمن عنده: غيِّروا سرير ملكها الذي تجلس عليه إلى حال تنكره إذا رأته; لنرى أتهتدي إلى معرفته أم تكون من الذين لا يهتدون؟
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ( 42 )
فلما جاءت ملكة « سبأ » إلى سليمان في مجلسه قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: إنه يشبهه. فظهر لسليمان أنها أصابت في جوابها, وقد علمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان عليه السلام, فقال: وأوتينا العلم بالله وبقدرته مِن قبلها, وكنا منقادين لأمر الله متبعين لدين الاسلام.
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 43 )
ومَنَعَها عن عبادة الله وحده ما كانت تعبده مِن دون الله تعالى, إنها كانت كافرة ونشأت بين قوم كافرين, واستمرت على دينهم, وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما تعرف به الحق من الباطل, ولكن العقائد الباطلة تُذهب بصيرة القلب.
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 44 )
قيل لها: ادخلي القصر, وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء, فلما رأته ظنته ماء تتردد أمواجه, وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء, فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صاف والماء تحته. فأدركت عظمة ملك سليمان, وقالت: رب إني ظلمت نفسي بما كنت عليه من الشرك, وانقدتُ متابعة لسليمان داخلة في دين رب العالمين أجمعين.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( 45 )
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا: أن وحِّدوا الله, ولا تجعلوا معه إلهًا آخر, فلما أتاهم صالحٌ داعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده صار قومه فريقين: أحدهما مؤمن به, والآخر كافر بدعوته, وكل منهم يزعم أن الحق معه.
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 46 )
قال صالح للفريق الكافر: لِمَ تبادرون الكفر وعمل السيئات الذي يجلب لكم العذاب, وتؤخرون الإيمان وفِعْل الحسنات الذي يجلب لكم الثواب؟ هلا تطلبون المغفرة من الله ابتداء, وتتوبون إليه؛ رجاء أن ترحموا.
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( 47 )
قال قوم صالح له: تَشاءَمْنا بك وبمن معك ممن دخل في دينك, قال لهم صالح: ما أصابكم الله مِن خير أو شر فهو مقدِّره عليكم ومجازيكم به, بل أنتم قوم تُخْتَبرون بالسراء والضراء والخير والشر.
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ( 48 )
وكان في مدينة صالح - وهي « الحِجْر » الواقعة في شمال غرب جزيرة العرب- تسعة رجال, شأنهم الإفساد في الأرض, الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 49 )
قال هؤلاء التسعة بعضهم لبعض: تقاسموا بالله بأن يحلف كل واحد للآخرين: لنأتينَّ صالحًا بغتة في الليل فنقتله ونقتل أهله, ثم لنقولَنَّ لوليِّ الدم مِن قرابته: ما حضرنا قتلهم, وإنا لصادقون فيما قلناه.
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 50 )
ودبَّروا هذه الحيلة لإهلاك صالح وأهله مكرًا منهم, فنصرنا نبينا صالحًا عليه السلام, وأخذناهم بالعقوبة على غِرَّة, وهم لا يتوقعون كيدنا لهم جزاءً على كيدهم.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( 51 )
فانظر - أيها الرسول- نظرة اعتبار إلى عاقبة غَدْر هؤلاء الرهط بنبيهم صالح؟ أنا أهلكناهم وقومهم أجمعين.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 52 )
فتلك مساكنهم خالية ليس فيها منهم أحد, أهلكهم الله; بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك, وتكذيب نبيهم. إن في ذلك التدمير والإهلاك لَعظة لقوم يعلمون ما فعلناه بهم, وهذه سنتنا فيمن يكذب المرسلين.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 53 )
وأنجينا مما حلَّ بثمود من الهلاك صالحًا والمؤمنين به, الذين كانوا يتقون بإيمانهم عذاب الله.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( 54 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( 55 )
واذكر لوطًا إذ قال لقومه: أتأتون الفعلة المتناهية في القبح, وأنتم تعلمون قبحها؟ أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم للشهوة عوضًا عن النساء؟ بل أنتم قوم تجهلون حقَّ الله عليكم, فخالفتم بذلك أمره, وعَصَيْتُم رسوله بفعلتكم القبيحة التي لم يسبقكم بها أحد من العالمين.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 56 )
فما كان لقوم لوط جواب له إلا قول بعضهم لبعض: أَخْرجوا آل لوط من قريتكم, إنهم أناس يتنزهون عن إتيان الذكران. قالوا لهم ذلك استهزاءً بهم.
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( 57 )
فأنجينا لوطًا وأهله من العذاب الذي سيقع بقوم لوط, إلا امرأته قدَّرناها من الباقين في العذاب حتى تهلك مع الهالكين; لأنها كانت عونًا لقومها على أفعالهم القبيحة راضية بها.
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ( 58 )
وأمطرنا عليهم من السماء حجارة مِن طين مهلكة, فقَبُحَ مطر المنذَرين, الذين قامت عليهم الحجة.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ ( 59 )
قل - أيها الرسول- : الثناء والشكر لله, وسلام منه, وأَمَنَةٌ على عباده الذين تخيرهم لرسالته, ثم اسأل مشركي قومك هل الله الذي يملك النفع والضر خير أو الذي يشركون من دونه, ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا؟
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( 60 )
واسألهم مَن خلق السموات والأرض, وأنزل لكم من السماء ماء, فأنبت به حدائق ذات منظر حسن؟ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها, لولا أن الله أنزل عليكم الماء من السماء. إن عبادته سبحانه هي الحق, وعبادة ما سواه هي الباطل. أمعبود مع الله فعل هذه الأفعال حتى يُعبد معه ويُشرك به؟ بل هؤلاء المشركون قوم ينحرفون عن طريق الحق والإيمان, فيسوون بالله غيره في العبادة والتعظيم.
أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 61 )
أعبادة ما تشركون بربكم خير أم الذي جعل لكم الأرض مستقرًا وجعل وسطها أنهارًا, وجعل لها الجبال ثوابت, وجعل بين البحرين العذب والملح حاجزًا حتى لا يُفسد أحدهما الآخر؟ أمعبود مع الله فَعَلَ ذلك حتى تشركوه معه في عبادتكم؟ بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر عظمة الله, فهم يشركون به تقليدًا وظلمًا.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 62 )
أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يجيب المكروب إذا دعاه, ويكشف السوء النازل به, ويجعلكم خلفاء لمن سبقكم في الأرض؟ أمعبود مع الله ينعم عليكم هذه النعم؟ قليلا ما تذكرون وتعتبرون, فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 63 )
أعبادة ما تشركون بالله خير أم الذي يرشدكم في ظلمات البر والبحر إذا ضللتم فأظلمت عليكم السبل, والذي يرسل الرياح مبشرات بما يرحم به عباده مِن غيث يحيي موات الأرض؟ أمعبود مع الله يفعل بكم شيئًا من ذلك فتدعونه من دونه؟ تنزَّه الله وتقدَّس عما يشركون به غيره.
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 64 )
واسألهم من الذي ينشئ الخلق ثم يفنيه إذا شاء, ثم يعيده, ومَن الذي يرزقكم من السماء بإنزال المطر, ومن الأرض بإنبات الزرع وغيره؟ أمعبود سوى الله يفعل ذلك؟ قل: هاتوا حجتكم إن كنتم صادقين في زعمكم أن لله تعالى شريكًا في ملكه وعبادته.
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( 65 ) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ( 66 )
قل - أيها الرسول- لهم: لا يعلم أحد في السموات ولا في الأرض ما استأثر الله بعلمه من المغيَّبات, ولا يدرون متى هم مبعوثون مِن قبورهم عند قيام الساعة؟ بل تكامل علمهم في الآخرة, فأيقنوا بالدار الآخرة, وما فيها مِن أهوال حين عاينوها, وقد كانوا في الدنيا في شك منها, بل عميت عنها بصائرهم.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ( 67 )
وقال الذين جحدوا وحدانية الله: أنحن وآباؤنا مبعوثون أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا بعد أن صرنا ترابًا؟
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 68 )
لقد وُعدنا هذا البعث نحن وآباؤنا مِن قبل, فلم نر لذلك حقيقة ولم نؤمن به, ما هذا الوعد إلا مما سطَّره الأولون من الأكاذيب في كتبهم وافتروه.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 69 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين: سيروا في الأرض, فانظروا إلى ديار مَن كان قبلكم من المجرمين, كيف كان عاقبة المكذبين للرسل؟ أهلكهم الله بتكذيبهم, والله فاعل بكم مثلهم إن لم تؤمنوا.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ( 70 )
ولا تحزن على إعراض المشركين عنك وتكذيبهم لك, ولا يَضِقْ صدرك مِن مكرهم بك, فإن الله ناصرك عليهم.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 71 )
ويقول مشركو قومك - أيها الرسول- : متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تَعِدُنا به أنت وأتباعك إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( 72 )
قل لهم - أيها الرسول- : عسى أن يكون قد اقترب لكم بعض الذي تستعجلون من عذاب الله.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 73 )
وإنَّ ربك لذو فضل على الناس; بتركه معاجلتهم بالعقوبة على معصيتهم إياه وكفرهم به, ولكن أكثرهم لا يشكرون له على ذلك, فيؤمنوا به ويخلصوا له العبادة.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 74 )
وإن ربك لَيعلم ما تخفيه صدور خلقه وما يظهرونه.
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 75 )
وما مِن شيء غائب عن أبصار الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب واضح عند الله. قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان وما يكون.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 76 )
إن هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل الحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها.
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 77 )
وإن هذا القرآن لهداية من الضلال ورحمة من العذاب, لمن صدَّق به واهتدى بهداه.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 78 )
إن ربك يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم بحكمه فيهم, فينتقم من المبطل, ويجازي المحسن. وهو العزيز الغالب, فلا يُرَدُّ قضاؤه, العليم, فلا يلتبس عليه حق بباطل.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( 79 )
فاعتمد - أيها الرسول- في كل أمورك على الله, وثق به; فإنه كافيك, إنك على الحق الواضح الذي لا شك فيه.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 80 )
إنك - أيها الرسول- لا تقدر أن تُسمع الحق مَن طبع الله على قلبه فأماته, ولا تُسمع دعوتك مَن أصمَّ الله سمعه عن سماع الحق عند إدبارهم معرضين عنك، فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلا، فكيف إذا كان معرضًا عنه موليًا مدبرًا؟
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ( 81 )
وما أنت - أيها الرسول- بهادٍ عن الضلالة مَن أعماه الله عن الهدى والرشاد, ولا يمكنك أن تُسمع إلا مَن يصدِّق بآياتنا, فهم مسلمون مطيعون, مستجيبون لما دعوتهم إليه.
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ( 82 )
وإذا وجب العذاب عليهم; لتماديهم في المعاصي والطغيان, وإعراضهم عن شرع الله وحكمه, حتى صاروا من شرار خلقه, أخرجنا لهم من الأرض في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى, وهي « الدابة » , تحدثهم أن الناس المنكرين للبعث كانوا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ودينه لا يصدقون ولا يعملون.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 83 )
ويوم نجمع يوم الحشر من كل أمة جماعة, ممن يكذب بأدلتنا وحججنا, يُحْبَس أولهم على آخرهم; ليجتمعوا كلهم, ثم يساقون إلى الحساب.
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 84 ) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ( 85 )
حتى إذا جاء من كل أمة فوج ممن يكذب بآياتنا فاجتمعوا قال الله: أكذَّبْتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي, وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي واستحقاقي وحدي للعبادة ولم تحيطوا علمًا ببطلانها, حتى تُعرضوا عنها وتُكَذِّبوا بها, أم أي شيء كنتم تعملون؟ وحقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم وتكذيبهم, فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم ما حلَّ بهم من سوء العذاب.
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 86 )
ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا أنا جعلنا الليل يستقرُّون فيه وينامون, والنهار يبصرون فيه للسعي في معاشهم؟ إن في تصريفهما لَدلالة لقوم يؤمنون بكمال قدرة الله ووحدانيَّته وعظيم نعمه.
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( 87 )
واذكر - أيها الرسول- يوم يَنفخ الملَك في « القرن » ففزع مَن في السموات ومَن في الأرض فزعًا شديدًا مِن هول النفخة, إلا مَنِ استثناه الله ممن أكرمه وحفظه من الفزع, وكل المخلوقات يأتون إلى ربهم صاغرين مطيعين.
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( 88 )
وترى الجبال تظنها واقفة مستقرة, وهي تسير سيرًا حثيثًا كسير السحاب الذي تسيِّره الرياح, وهذا مِن صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقنه. إن الله خبير بما يفعل عباده من خير وشر, وسيجازيهم على ذلك.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( 89 )
من جاء بتوحيد الله والإيمان به وعبادته وحده, والأعمال الصالحة يوم القيامة, فله عند الله من الأجر العظيم ما هو خير منها وأفضل, وهو الجنة, وهم يوم الفزع الأكبر آمنون.
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 90 )
ومن جاء بالشرك والأعمال السيئة المنكرة, فجزاؤهم أن يكبَّهم الله على وجوههم في النار يوم القيامة, ويقال لهم توبيخًا: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا؟
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 91 ) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( 92 )
قل - أيها الرسول- للناس: إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة, وهي « مكة » , الذي حَرَّمها على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا حرامًا, أو يظلموا فيها أحدًا, أو يصيدوا صيدها, أو يقطعوا شجرها, وله سبحانه كل شيء, وأُمرت أن أعبده وحده دون مَن سواه, وأُمرت أن أكون من المنقادين لأمره, المبادرين لطاعته, وأن أتلو القرآن على الناس, فمن اهتدى بما فيه واتبع ما جئت به, فإنما خير ذلك وجزاؤه لنفسه, ومن ضلَّ عن الحق فقل - أيها الرسول- : إنما أنا نذير لكم من عذاب الله وعقابه إن لم تؤمنوا، فأنا واحد من الرسل الذين أنذروا قومهم, وليس بيدي من الهداية شيء.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 93 )
وقل - أيها الرسول- : الثناء الجميل لله, سيريكم آياته في أنفسكم وفي السماء والأرض, فتعرفونها معرفة تدلكم على الحق، وتبيِّن لكم الباطل, وما ربك بغافل عما تعملون, وسيجازيكم على ذلك.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة القصص .. بن كثير
====
طسم ( 1 )
( طسم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 )
هذه آيات القرآن الذي أنزلته إليك - أيها الرسول- , مبينًا لكل ما يحتاج إليه العباد في دنياهم وأخراهم.
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 )
نقصُّ عليك من خبر موسى وفرعون بالصدق لقوم يؤمنون بهذا القرآن, ويصدِّقون بأنه من عند الله, ويعملون بهديه.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 )
إن فرعون تكبر وطغى في الأرض, وجعل أهلها طوائف متفرقة, يستضعف طائفة منهم, وهم بنو إسرائيل, يذبِّح أبناءهم, ويستعبد نساءهم, إنه كان من المفسدين في الأرض.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 )
ونريد أن نتفضل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض, ونجعلهم قادةً في الخير ودعاةً إليه, ونجعلهم يرثون الأرض بعد هلاك فرعون وقومه.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( 6 )
ونمكن لهم في الأرض, ونجعل فرعون وهامان وجنودهما يرون من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه مِن هلاكهم وذهاب ملكهم, وإخراجهم من ديارهم على يد مولود من بني إسرائيل.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 7 ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( 8 )
وألْهمنا أم موسى حين ولدته وخشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بني إسرائيل: أن أرضعيه مطمئنة, فإذا خشيت أن يُعرف أمره فضعيه في صندوق وألقيه في النيل, دون خوف من فرعون وقومه أن يقتلوه, ودون حزن على فراقه, إنا رادُّو ولدك إليك وباعثوه رسولا. فوضعته في صندوق وألقته في النيل, فعثر عليه أعوان فرعون وأخذوه, فكانت عاقبةُ ذلك أن جعله الله لهم عدوًّا وحزنًا, فكان إهلاكُهم على يده. إن فرعون وهامان وأعوانهما كانوا آثمين مشركين.
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 9 )
وقالت امرأة فرعون لفرعون: هذا الطفل سيكون مصدر سرور لي ولك, لا تقتلوه; فقد نصيب منه خيرًا أو نتخذه ولدا, وفرعون وآله لا يدركون أن هلاكهم على يديه.
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 10 )
وأصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره, وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها, فصبرت ولم تُبْدِ به; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به.
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 11 )
وقالت أم موسى لأخته حين ألقته في اليم: اتَّبِعي أثر موسى كيف يُصْنَع به؟ فتتبعت أثره فأبصرته عن بُعْد, وقوم فرعون لا يعرفون أنها أخته, وأنها تتبع خبره.
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( 12 )
وحرمنا على موسى المراضع أن يرتضع منهن مِن قبل أن نردَّه إلى أمه, فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يحسنون تربيته وإرضاعه, وهم مشفقون عليه؟ فأجابوها إلى ذلك.
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
فرددنا موسى إلى أمه; كي تقرَّ عينها به, ووفينا إليها بالوعد; إذ رجع إليها سليمًا مِن قتل فرعون, ولا تحزنَ على فراقه, ولتعلم أن وعد الله حق فيما وعدها مِن ردِّه إليها وجعله من المرسلين. إن الله لا يخلف وعده, ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 14 )
ولما بلغ موسى أشد قوته وتكامل عقله, آتيناه حكمًا وعلمًا يعرف بهما الأحكام الشرعية, وكما جزينا موسى على طاعته وإحسانه نجزي مَن أحسن مِن عبادنا.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ( 15 )
ودخل موسى المدينة مستخفيًا وقت غفلة أهلها, فوجد فيها رجلين يقتتلان: أحدهما من قوم موسى من بني إسرائيل, والآخر من قوم فرعون, فطلب الذي من قوم موسى النصر على الذي من عدوه, فضربه موسى بجُمْع كفِّه فمات, قال موسى حين قتله: هذا من نزغ الشيطان, بأن هيَّج غضبي, حتى ضربت هذا فهلك, إن الشيطان عدو لابن آدم, مضل عن سبيل الرشاد, ظاهر العداوة. وهذا العمل من موسى عليه السلام كان قبل النبوة.
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 16 )
قال موسى: رب إني ظلمت نفسي بقتل النفس التي لم تأمرني بقتلها فاغفر لي ذلك الذنب, فغفر الله له. إن الله غفور لذنوب عباده, رحيم بهم.
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ( 17 )
قال موسى: ربِّ بما أنعمت عليَّ بالتوبة والمغفرة والنعم الكثيرة, فلن أكون معينًا لأحد على معصيته وإجرامه.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ( 18 )
فأصبح موسى في مدينة فرعون خائفًا يترقب الأخبار مما يتحدث به الناس في أمره وأمر قتيله, فرأى صاحبه بالأمس يقاتل قبطيًا آخر, ويطلب منه النصر, قال له موسى: إنك لكثير الغَواية ظاهر الضلال.
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 )
فلما أن أراد موسى أن يبطش بالقبطي, قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ ما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض, وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20 )
وجاء رجل من آخر المدينة يسعى, قال يا موسى: إن أشراف قوم فرعون يتآمرون بقتلك, ويتشاورون, فاخرج من هذه المدينة, إني لك من الناصحين المشفقين عليك.
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 21 )
فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا ينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه, فدعا الله أن ينقذه من القوم الظالمين.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 22 )
ولما قصد موسى بلاد « مدين » وخرج من سلطان فرعون قال: عسى ربي أن يرشدني خير طريق إلى « مدين » .
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ( 23 )
ولما وصل ماء « مدين » وجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم, ووجد من دون تلك الجماعة امرأتين منفردتين عن الناس, تحبسان غنمهما عن الماء; لعجزهما وضعفهما عن مزاحمة الرجال, وتنتظران حتى تَصْدُر عنه مواشي الناس, ثم تسقيان ماشيتهما, فلما رآهما موسى - عليه السلام- رقَّ لهما, ثم قال: ما شأنكما؟ قالتا: لا نستطيع مزاحمة الرجال, ولا نسقي حتى يسقي الناس, وأبونا شيخ كبير, لا يستطيع أن يسقي ماشيته؛ لضعفه وكبره.
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( 24 )
فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما, ثم تولى إلى ظل شجرة فاستظلَّ بها وقال: رب إني مفتقر إلى ما تسوقه إليَّ مِن أي خير كان, كالطعام. وكان قد اشتد به الجوع.
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 25 )
فجاءت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تسير إليه في حياء, قالت: إن أبي يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا, فمضى موسى معها إلى أبيها, فلما جاء أباها وقصَّ عليه قصصه مع فرعون وقومه, قال له أبوها: لا تَخَفْ نجوت من القوم الظالمين, وهم فرعون وقومه؛ إذ لا سلطان لهم بأرضنا.
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ( 26 )
قالت إحدى المرأتين لأبيها: يا أبت استأجره ليرعى لك ماشيتك; إنَّ خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك, الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه.
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 )
قال الشيخ لموسى: إني أريد أن أزوِّجك إحدى ابنتيَّ هاتين, على أن تكون أجيرًا لي في رعي ماشيتي ثماني سنين مقابل ذلك, فإن أكملت عشر سنين فإحسان من عندك, وما أريد أن أشق عليك بجعلها عشرا, ستجدني إن شاء الله من الصالحين في حسن الصحبة والوفاء بما قلتُ.
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 28 )
قال موسى: ذلك الذي قلته قائم بيني وبينك, أي المدتين أَقْضِها في العمل أكن قد وفيتك, فلا أُطالَب بزيادة عليها, والله على ما نقول وكيل حافظ يراقبنا, ويعلم ما تعاقدنا عليه.
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 29 )
فلما وفى نبي الله موسى - عليه السلام- صاحبه المدة عشر سنين, وهي أكمل المدتين, وسار بأهله إلى « مصر » أبصر من جانب الطور نارًا, قال موسى لأهله: تمهلوا وانتظروا إني أبصرت نارًا; لعلي آتيكم منها بنبأ, أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها.
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 30 ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ( 31 )
فلما أتى موسى النار ناداه الله من جانب الوادي الأيمن لموسى في البقعة المباركة من جانب الشجرة: أن يا موسى إني أنا الله رب العالين, وأن ألق عصاك, فألقاها موسى, فصارت حية تسعى, فلما رآها موسى تضطرب كأنها جانٌّ من الحيات ولَّى هاربًا منها, ولم يلتفت من الخوف, فناداه ربه: يا موسى أقبل إليَّ ولا تَخَفْ; إنك من الآمنين من كل مكروه.
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 )
أدخل يدك في فتحة قميصك وأخرجها تخرج بيضاء كالثلج مِن غير مرض ولا برص, واضمم إليك يدك لتأمن من الخوف, فهاتان اللتان أريتُكَهما يا موسى: مِن تحوُّل العصا حية, وجَعْلِ يدك بيضاء تلمع من غير مرض ولا برص, آيتان من ربك إلى فرعون وأشراف قومه. إن فرعون وملأه كانوا قومًا كافرين.
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 33 ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 34 )
قال موسى: ربِّ إني قتلت من قوم فرعون نفسًا فأخاف أن يقتلوني, وأخي هارون هو أفصح مني نطقًا, فأرسله معي عونًا يصدقني, ويبين لهم عني ما أخاطبهم به, إني أخاف أن يكذبوني في قولي لهم: إني أُرسلت إليهم.
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 35 )
قال الله لموسى: سنقوِّيك بأخيك, ونجعل لكما حجة على فرعون وقومه فلا يصلون إليكما بسوء. أنتما - يا موسى وهارون- ومَن آمن بكما المنتصرون على فرعون وقومه; بسبب آياتنا وما دلَّتْ عليه من الحق.
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ( 36 )
فلما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا شاهدة بحقيقة ما جاء به موسى مِن عند ربه, قالوا لموسى: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته كذبًا وباطلا وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الذين مضوا قبلنا.
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 37 )
وقال موسى لفرعون: ربي أعلم بالمحقِّ منَّا الذي جاء بالرشاد من عنده, ومَن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة, إنه لا يظفر الظالمون بمطلوبهم.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 38 )
وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة, فأشْعِل لي - يا هامان- على الطين نارًا, حتى يشتد, وابْنِ لي بناء عاليًا; لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته, وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ( 39 )
واستعلى فرعون وجنوده في أرض « مصر » بغير الحق عن تصديق موسى واتِّباعه على ما دعاهم إليه, وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 40 )
فأخذنا فرعون وجنوده, فألقيناهم جميعًا في البحر وأغرقناهم, فانظر - أيها الرسول- كيف كان نهاية هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم, فكفروا بربهم؟
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ( 41 )
وجعلنا فرعون وقومه قادة إلى النار, يَقتدي بهم أهل الكفر والفسق, ويوم القيامة لا ينصرون; وذلك بسبب كفرهم وتكذيبهم رسول ربهم وإصرارهم على ذلك.
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ( 42 )
وأتبعنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيًا وغضبًا منا عليهم, ويوم القيامة هم من المستقذرة أفعالهم, المبعدين عن رحمة الله.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 43 )
ولقد آتينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت من قبله - كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب « مدين » - فيها بصائر لبني إسرائيل, يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرهم, وفيها رحمة لمن عمل بها منهم; لعلهم يتذكرون نِعَم الله عليهم, فيشكروه عليها, ولا يكفروه.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 44 )
وما كنت - أيها الرسول- بجانب الجبل الغربي من موسى إذ كلَّفناه أَمْرنا ونَهْينا, وما كنت من الشاهدين لذلك, حتى يقال: إنه وصل إليك من هذا الطريق.
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 45 )
ولكنا خلقنا أممًا من بعد موسى, فمكثوا زمنًا طويلا فنسوا عهد الله, وتركوا أمره, وما كنت مقيمًا في أهل « مدين » تقرأ عليهم كتابنا, فتعرف قصتهم وتخبر بها, ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى وحي, وشاهد على رسالتك.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 46 )
وما كنت - أيها الرسول- بجانب جبل الطور حين نادينا موسى, ولم تشهد شيئًا من ذلك فتعلمه, ولكنا أرسلناك رحمة من ربك; لتنذر قومًا لم يأتهم مِن قبلك من نذير; لعلهم يتذكرون الخير الذي جئتَ به فيفعلوه, والشرَّ الذي نَهيتَ عنه فيجتنبوه.
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )
ولولا أن ينزل بهؤلاء الكفار عذاب بسبب كفرهم بربهم, فيقولوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من قبل, فنتبع آياتك المنزلة في كتابك, ونكون من المؤمنين بك.
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ( 48 )
فلما جاء محمد هؤلاء القوم نذيرًا لهم, قالوا: هلا أوتي هذا الذي أُرسل إلينا مثل ما أوتي موسى من معجزات حسية, وكتابٍ نزل جملة واحدة! قل - أيها الرسول- لهم: أولم يكفر اليهود بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: في التوراة والقرآن سحران تعاونا في سحرهما, وقالوا: نحن بكل منهما كافرون.
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 49 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء: فأتوا بكتاب من عند الله هو أقوم من التوراة والقرآن أتبعه, إن كنتم صادقين في زعمكم.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 50 )
فإن لم يستجيبوا لك بالإتيان بالكتاب, ولم تبق لهم حجة, فاعلم أنما يتبعون أهواءهم, ولا أحد أكثر ضلالا ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. إن الله لا يوفِّق لإصابة الحق القوم الظالمين الذين خالفوا أمر الله, وتجاوزوا حدوده.
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 51 )
ولقد فصَّلنا وبيَّنا القرآن رحمة بقومك أيها الرسول؛ لعلهم يتذكرون, فيتعظوا به.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ( 52 )
الذين آتيناهم الكتاب من قبل القرآن - وهم اليهود والنصارى الذين لم يبدِّلوا- يؤمنون بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام.
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( 53 )
وإذا يتلى هذا القرآن على الذين آتيناهم الكتاب, قالوا: صدَّقنا به, وعملنا بما فيه, إنه الحق من عند ربنا, إنا كنا من قبل نزوله مسلمين موحدين، فدين الله واحد, وهو الإسلام.
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 54 ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( 55 )
هؤلاء الذين تقدَّمَتْ صفتُهم يُؤتَوْن ثواب عملهم مرتين: على الإيمان بكتابهم, وعلى إيمانهم بالقرآن بما صبروا, ومن أوصافهم أنهم يدفعون السيئة بالحسنة, ومما رزقناهم ينفقون في سبيل الخير والبر. وإذا سمع هؤلاء القوم الباطل من القول لم يُصْغوا إليه, وقالوا: لنا أعمالنا لا نحيد عنها, ولكم أعمالكم ووزرها عليكم, فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم, ولا تسمعون منَّا إلا الخير, ولا نخاطبهم بمقتضى جهلكم; لأننا لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. وهذا من خير ما يقوله الدعاة إلى الله.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 56 )
إنك - أيها الرسول- لا تهدي هداية توفيق مَن أحببت هدايته, ولكن ذلك بيد الله يهدي مَن يشاء أن يهديه للإيمان, ويوفقه إليه, وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه.
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 57 )
وقال كفار « مكة » : إن نتبع الحق الذي جئتنا به, ونتبرأ من الأولياء والآلهة, نُتَخَطَّفْ من أرضنا بالقتل والأسر ونهب الأموال, أولم نجعلهم متمكنين في بلد آمن, حرَّمنا على الناس سفك الدماء فيه, يُجلب إليه ثمرات كل شيء رزقًا مِن لدنا؟ ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر هذه النعم عليهم, فيشكروا مَن أنعم عليهم بها ويطيعوه.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( 58 )
وكثير من أهل القرى أهلكناهم حين أَلْهَتهم معيشتهم عن الإيمان بالرسل, فكفروا وطغَوْا, فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلا منها, وكنا نحن الوارثين للعباد نميتهم, ثم يرجعون إلينا, فنجازيهم بأعمالهم.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( 59 )
وما كان ربك - أيها الرسول- مهلك القرى التي حول « مكة » في زمانك حتى يبعث في أمها - وهي « مكة » - رسولا يتلو عليهم آياتنا, وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله ومعصيته, فهم بذلك مستحقون للعقوبة والنكال.
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 60 )
وما أُعطيتم - أيها الناس- من شيء من الأموال والأولاد, فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا, وزينة يُتزيَّن بها, وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير وأبقى; لأنه دائم لا نفاد له, أفلا تكون لكم عقول - أيها القوم- تتدبرون بها, فتعرفون الخير من الشر؟
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 61 )
أفمَن وعدناه مِن خَلْقنا على طاعته إيانا الجنة, فهو ملاقٍ ما وُعِدَ, وصائر إليه, كمن متعناه في الحياة الدنيا متاعها, فتمتع به, وآثر لذة عاجلة على آجلة, ثم هو يوم القيامة من المحضرين للحساب والجزاء؟ لا يستوي الفريقان, فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار, وهو طاعة الله وابتغاء مرضاته.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 62 )
ويوم ينادي الله عز وجل الذين أشركوا به الأولياء والأوثان في الدنيا, فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم لي شركاء؟
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( 63 )
قال الذين حقَّ عليهم العذاب, وهم دعاة الكفر: ربنا هؤلاء الذين أضللنا, أضللناهم كما ضللنا, تبرأنا إليك مِن ولايتهم ونصرتهم, ما كانوا إيانا يعبدون, وإنما كانوا يعبدون الشياطين.
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( 64 )
وقيل للمشركين بالله يوم القيامة: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله, فدعوهم فلم يستجيبوا لهم, وعاينوا العذاب, لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق لما عُذِّبوا.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( 65 )
ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين, فيقول: بأيِّ شيء أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم؟
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ( 66 )
فخفيت عليهم الحجج, فلم يَدْروا ما يحتجون به, فهم لا يسأل بعضهم بعضًا عما يحتجون به سؤال انتفاع.
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ( 67 )
فأما من تاب من المشركين, وأخلص لله العبادة, وعمل بما أمره الله به ورسوله, فهو من الفائزين في الدارين.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 68 )
وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه, ويصطفي لولايته مَن يشاء من خلقه, وليس لأحد من الأمر والاختيار شيء, وإنما ذلك لله وحده سبحانه, تعالى وتنزَّه عن شركهم.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 69 )
وربك يعلم ما تُخفي صدور خلقه وما يظهرونه.
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 70 )
وهو الله الذي لا معبود بحق سواه, له الثناء الجميل والشكر في الدنيا والآخرة, وله الحكم بين خلقه, وإليه تُرَدُّون بعد مماتكم للحساب والجزاء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ( 71 )
قل - أيها الرسول- : أخبروني - أيها الناس- إن جعل الله عليكم الليل دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بضياء تستضيئون به؟ أفلا تسمعون سماع فهم وقَبول؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 72 )
قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 73 )
ومن رحمته بكم - أيها الناس- أن جعل لكم الليل والنهار فخالف بينهما, فجعل هذا الليل ظلامًا؛ لتستقروا فيه وترتاح أبدانكم, وجعل لكم النهار ضياءً; لتطلبوا فيه معايشكم, ولتشكروا له على إنعامه عليكم بذلك.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 74 )
ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين, فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي؟
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 75 )
ونزعنا من كل أمة من الأمم المكذبة شهيدا - وهو نبيُّهم- , يشهد على ما جرى في الدنيا من شركهم وتكذيبهم لرسلهم, فقلنا لتلك الأمم التي كذبت رسلها وما جاءت به من عند الله: هاتوا حجتكم على ما أشركتم مع الله, فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم, وأن الحق لله, وذهب عنهم ما كانوا يفترون على ربهم, فلم ينفعهم ذلك, بل ضرَّهم وأوردهم نار جهنم.
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( 76 )
إن قارون كان من قوم موسى - عليه الصلاة والسلام- فتجاوز حدَّه في الكِبْر والتجبر عليهم, وآتينا قارون من كنوز الأموال شيئًا عظيمًا, حتى إنَّ مفاتحه لَيثقل حملها على العدد الكثير من الأقوياء, إذ قال له قومه: لا تبطر فرحًا بما أنت فيه من المال, إن الله لا يحب مِن خلقه البَطِرين الذين لا يشكرون لله تعالى ما أعطاهم.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 77 )
والتمس فيما أتاك الله من الأموال ثواب الدار الآخرة, بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا, ولا تترك حظك من الدنيا, بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسراف, وأحسن إلى الناس بالصدقة, كما أحسن الله إليك بهذه الأموال الكثيرة, ولا تلتمس ما حرَّم الله عليك من البغي على قومك, إن الله لا يحب المفسدين.
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 )
قال قارون لقومه الذين وعظوه: إنما أُعطيتُ هذه الكنوز بما عندي من العلم والقدرة, أولم يعلم قارون أن الله قد أهلك مِن قبله من الأمم مَن هو أشد منه بطشًا, وأكثر جمعًا للأموال؟ ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون; لعلم الله تعالى بها, إنما يُسْألون سؤال توبيخ وتقرير, ويعاقبهم الله على ما علمه منهم.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 79 )
فخرج قارون على قومه في زينته, مريدًا بذلك إظهار عظمته وكثرة أمواله, وحين رآه الذين يريدون زينة الحياة الدنيا قالوا: يا ليت لنا مثل ما أُعطي قارون من المال والزينة والجاه, إن قارون لذو نصيب عظيم من الدنيا.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( 80 )
وقال الذين أوتوا العلم بالله وشرعه وعرفوا حقائق الأمور للذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: ويلكم اتقوا الله وأطيعوه, ثوابُ الله لمن آمن به وبرسله, وعمل الأعمال الصالحة, خيرٌ مما أوتي قارون, ولا يَتَقَبَّل هذه النصيحة ويوفَّق إليها ويعمل بها إلا مَن يجاهد نفسه, ويصبر على طاعة ربه, ويجتنب معاصيه.
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ( 81 )
فخسفنا بقارون وبداره الأرض, فما كان له من جند ينصرونه من دون الله, وما كان ممتنعًا من الله إذا أحلَّ به نقمته.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 82 )
وصار الذين تمنوا حاله بالأمس يقولون متوجعين ومعتبرين وخائفين من وقوع العذاب بهم: إن الله يوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده, ويضيِّق على مَن يشاء منهم, لولا أن الله منَّ علينا فلم يعاقبنا على ما قلنا لَخسف بنا كما فعل بقارون, ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون, لا في الدنيا ولا في الآخرة؟
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 83 )
تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق في الأرض ولا فسادًا فيها. والعاقبة المحمودة - وهي الجنة- لمن اتقى عذاب الله وعمل الطاعات, وترك المحرمات.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 84 )
من جاء يوم القيامة بإخلاص التوحيد لله وبالأعمال الصالحة وَفْق ما شرع الله, فله أجر عظيم خير من ذلك, وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم, ومن جاء بالأعمال السيئة, فلا يُجْزى الذين عملوا السيئات على أعمالهم إلا بما كانوا يعملون.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 85 )
إن الذي أنزل عليك - أيها الرسول- القرآن, وفرض عليك تبليغه والتمسُّك به, لمرجعك إلى الموضع الذي خرجت منه, وهو « مكة » , قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: ربي أعلم مَن جاء بالهدى, ومن هو في ذهابٍ واضحٍ عن الحق.
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ( 86 )
وما كنت - أيها الرسول- تؤمِّل نزول القرآن عليك, لكن الله سبحانه وتعالى رحمك فأنزله عليك, فاشكر لله تعالى على نِعَمه, ولا تكوننَّ عونًا لأهل الشرك والضلال.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 87 )
ولا يصرفَنَّك هؤلاء المشركون عن تبليغ آيات ربك وحججه, بعد أن أنزلها إليك, وبلِّغ رسالة ربك, ولا تكونن من المشركين في شيء.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 88 )
ولا تعبد مع الله معبودًا أخر; فلا معبود بحق إلا الله, كل شيء هالك وفانٍ إلا وجهه, له الحكم, وإليه ترجعون من بعد موتكم للحساب والجزاء. وفي هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى كما يليق بكماله وعظمة جلاله.
====
طسم ( 1 )
( طسم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 )
هذه آيات القرآن الذي أنزلته إليك - أيها الرسول- , مبينًا لكل ما يحتاج إليه العباد في دنياهم وأخراهم.
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 )
نقصُّ عليك من خبر موسى وفرعون بالصدق لقوم يؤمنون بهذا القرآن, ويصدِّقون بأنه من عند الله, ويعملون بهديه.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 )
إن فرعون تكبر وطغى في الأرض, وجعل أهلها طوائف متفرقة, يستضعف طائفة منهم, وهم بنو إسرائيل, يذبِّح أبناءهم, ويستعبد نساءهم, إنه كان من المفسدين في الأرض.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 )
ونريد أن نتفضل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض, ونجعلهم قادةً في الخير ودعاةً إليه, ونجعلهم يرثون الأرض بعد هلاك فرعون وقومه.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( 6 )
ونمكن لهم في الأرض, ونجعل فرعون وهامان وجنودهما يرون من هذه الطائفة المستضعفة ما كانوا يخافونه مِن هلاكهم وذهاب ملكهم, وإخراجهم من ديارهم على يد مولود من بني إسرائيل.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 7 ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( 8 )
وألْهمنا أم موسى حين ولدته وخشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بني إسرائيل: أن أرضعيه مطمئنة, فإذا خشيت أن يُعرف أمره فضعيه في صندوق وألقيه في النيل, دون خوف من فرعون وقومه أن يقتلوه, ودون حزن على فراقه, إنا رادُّو ولدك إليك وباعثوه رسولا. فوضعته في صندوق وألقته في النيل, فعثر عليه أعوان فرعون وأخذوه, فكانت عاقبةُ ذلك أن جعله الله لهم عدوًّا وحزنًا, فكان إهلاكُهم على يده. إن فرعون وهامان وأعوانهما كانوا آثمين مشركين.
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 9 )
وقالت امرأة فرعون لفرعون: هذا الطفل سيكون مصدر سرور لي ولك, لا تقتلوه; فقد نصيب منه خيرًا أو نتخذه ولدا, وفرعون وآله لا يدركون أن هلاكهم على يديه.
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 10 )
وأصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره, وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها, فصبرت ولم تُبْدِ به; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به.
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 11 )
وقالت أم موسى لأخته حين ألقته في اليم: اتَّبِعي أثر موسى كيف يُصْنَع به؟ فتتبعت أثره فأبصرته عن بُعْد, وقوم فرعون لا يعرفون أنها أخته, وأنها تتبع خبره.
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( 12 )
وحرمنا على موسى المراضع أن يرتضع منهن مِن قبل أن نردَّه إلى أمه, فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يحسنون تربيته وإرضاعه, وهم مشفقون عليه؟ فأجابوها إلى ذلك.
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
فرددنا موسى إلى أمه; كي تقرَّ عينها به, ووفينا إليها بالوعد; إذ رجع إليها سليمًا مِن قتل فرعون, ولا تحزنَ على فراقه, ولتعلم أن وعد الله حق فيما وعدها مِن ردِّه إليها وجعله من المرسلين. إن الله لا يخلف وعده, ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 14 )
ولما بلغ موسى أشد قوته وتكامل عقله, آتيناه حكمًا وعلمًا يعرف بهما الأحكام الشرعية, وكما جزينا موسى على طاعته وإحسانه نجزي مَن أحسن مِن عبادنا.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ( 15 )
ودخل موسى المدينة مستخفيًا وقت غفلة أهلها, فوجد فيها رجلين يقتتلان: أحدهما من قوم موسى من بني إسرائيل, والآخر من قوم فرعون, فطلب الذي من قوم موسى النصر على الذي من عدوه, فضربه موسى بجُمْع كفِّه فمات, قال موسى حين قتله: هذا من نزغ الشيطان, بأن هيَّج غضبي, حتى ضربت هذا فهلك, إن الشيطان عدو لابن آدم, مضل عن سبيل الرشاد, ظاهر العداوة. وهذا العمل من موسى عليه السلام كان قبل النبوة.
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 16 )
قال موسى: رب إني ظلمت نفسي بقتل النفس التي لم تأمرني بقتلها فاغفر لي ذلك الذنب, فغفر الله له. إن الله غفور لذنوب عباده, رحيم بهم.
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ( 17 )
قال موسى: ربِّ بما أنعمت عليَّ بالتوبة والمغفرة والنعم الكثيرة, فلن أكون معينًا لأحد على معصيته وإجرامه.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ( 18 )
فأصبح موسى في مدينة فرعون خائفًا يترقب الأخبار مما يتحدث به الناس في أمره وأمر قتيله, فرأى صاحبه بالأمس يقاتل قبطيًا آخر, ويطلب منه النصر, قال له موسى: إنك لكثير الغَواية ظاهر الضلال.
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 )
فلما أن أراد موسى أن يبطش بالقبطي, قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ ما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض, وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20 )
وجاء رجل من آخر المدينة يسعى, قال يا موسى: إن أشراف قوم فرعون يتآمرون بقتلك, ويتشاورون, فاخرج من هذه المدينة, إني لك من الناصحين المشفقين عليك.
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 21 )
فخرج موسى من مدينة فرعون خائفًا ينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه, فدعا الله أن ينقذه من القوم الظالمين.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 22 )
ولما قصد موسى بلاد « مدين » وخرج من سلطان فرعون قال: عسى ربي أن يرشدني خير طريق إلى « مدين » .
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ( 23 )
ولما وصل ماء « مدين » وجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم, ووجد من دون تلك الجماعة امرأتين منفردتين عن الناس, تحبسان غنمهما عن الماء; لعجزهما وضعفهما عن مزاحمة الرجال, وتنتظران حتى تَصْدُر عنه مواشي الناس, ثم تسقيان ماشيتهما, فلما رآهما موسى - عليه السلام- رقَّ لهما, ثم قال: ما شأنكما؟ قالتا: لا نستطيع مزاحمة الرجال, ولا نسقي حتى يسقي الناس, وأبونا شيخ كبير, لا يستطيع أن يسقي ماشيته؛ لضعفه وكبره.
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( 24 )
فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما, ثم تولى إلى ظل شجرة فاستظلَّ بها وقال: رب إني مفتقر إلى ما تسوقه إليَّ مِن أي خير كان, كالطعام. وكان قد اشتد به الجوع.
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 25 )
فجاءت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تسير إليه في حياء, قالت: إن أبي يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا, فمضى موسى معها إلى أبيها, فلما جاء أباها وقصَّ عليه قصصه مع فرعون وقومه, قال له أبوها: لا تَخَفْ نجوت من القوم الظالمين, وهم فرعون وقومه؛ إذ لا سلطان لهم بأرضنا.
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ( 26 )
قالت إحدى المرأتين لأبيها: يا أبت استأجره ليرعى لك ماشيتك; إنَّ خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك, الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه.
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 )
قال الشيخ لموسى: إني أريد أن أزوِّجك إحدى ابنتيَّ هاتين, على أن تكون أجيرًا لي في رعي ماشيتي ثماني سنين مقابل ذلك, فإن أكملت عشر سنين فإحسان من عندك, وما أريد أن أشق عليك بجعلها عشرا, ستجدني إن شاء الله من الصالحين في حسن الصحبة والوفاء بما قلتُ.
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 28 )
قال موسى: ذلك الذي قلته قائم بيني وبينك, أي المدتين أَقْضِها في العمل أكن قد وفيتك, فلا أُطالَب بزيادة عليها, والله على ما نقول وكيل حافظ يراقبنا, ويعلم ما تعاقدنا عليه.
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 29 )
فلما وفى نبي الله موسى - عليه السلام- صاحبه المدة عشر سنين, وهي أكمل المدتين, وسار بأهله إلى « مصر » أبصر من جانب الطور نارًا, قال موسى لأهله: تمهلوا وانتظروا إني أبصرت نارًا; لعلي آتيكم منها بنبأ, أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها.
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 30 ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ( 31 )
فلما أتى موسى النار ناداه الله من جانب الوادي الأيمن لموسى في البقعة المباركة من جانب الشجرة: أن يا موسى إني أنا الله رب العالين, وأن ألق عصاك, فألقاها موسى, فصارت حية تسعى, فلما رآها موسى تضطرب كأنها جانٌّ من الحيات ولَّى هاربًا منها, ولم يلتفت من الخوف, فناداه ربه: يا موسى أقبل إليَّ ولا تَخَفْ; إنك من الآمنين من كل مكروه.
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 )
أدخل يدك في فتحة قميصك وأخرجها تخرج بيضاء كالثلج مِن غير مرض ولا برص, واضمم إليك يدك لتأمن من الخوف, فهاتان اللتان أريتُكَهما يا موسى: مِن تحوُّل العصا حية, وجَعْلِ يدك بيضاء تلمع من غير مرض ولا برص, آيتان من ربك إلى فرعون وأشراف قومه. إن فرعون وملأه كانوا قومًا كافرين.
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 33 ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 34 )
قال موسى: ربِّ إني قتلت من قوم فرعون نفسًا فأخاف أن يقتلوني, وأخي هارون هو أفصح مني نطقًا, فأرسله معي عونًا يصدقني, ويبين لهم عني ما أخاطبهم به, إني أخاف أن يكذبوني في قولي لهم: إني أُرسلت إليهم.
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 35 )
قال الله لموسى: سنقوِّيك بأخيك, ونجعل لكما حجة على فرعون وقومه فلا يصلون إليكما بسوء. أنتما - يا موسى وهارون- ومَن آمن بكما المنتصرون على فرعون وقومه; بسبب آياتنا وما دلَّتْ عليه من الحق.
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ( 36 )
فلما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا شاهدة بحقيقة ما جاء به موسى مِن عند ربه, قالوا لموسى: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته كذبًا وباطلا وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الذين مضوا قبلنا.
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 37 )
وقال موسى لفرعون: ربي أعلم بالمحقِّ منَّا الذي جاء بالرشاد من عنده, ومَن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة, إنه لا يظفر الظالمون بمطلوبهم.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 38 )
وقال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة, فأشْعِل لي - يا هامان- على الطين نارًا, حتى يشتد, وابْنِ لي بناء عاليًا; لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته, وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ( 39 )
واستعلى فرعون وجنوده في أرض « مصر » بغير الحق عن تصديق موسى واتِّباعه على ما دعاهم إليه, وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 40 )
فأخذنا فرعون وجنوده, فألقيناهم جميعًا في البحر وأغرقناهم, فانظر - أيها الرسول- كيف كان نهاية هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم, فكفروا بربهم؟
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ( 41 )
وجعلنا فرعون وقومه قادة إلى النار, يَقتدي بهم أهل الكفر والفسق, ويوم القيامة لا ينصرون; وذلك بسبب كفرهم وتكذيبهم رسول ربهم وإصرارهم على ذلك.
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ( 42 )
وأتبعنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيًا وغضبًا منا عليهم, ويوم القيامة هم من المستقذرة أفعالهم, المبعدين عن رحمة الله.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 43 )
ولقد آتينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت من قبله - كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب « مدين » - فيها بصائر لبني إسرائيل, يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرهم, وفيها رحمة لمن عمل بها منهم; لعلهم يتذكرون نِعَم الله عليهم, فيشكروه عليها, ولا يكفروه.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 44 )
وما كنت - أيها الرسول- بجانب الجبل الغربي من موسى إذ كلَّفناه أَمْرنا ونَهْينا, وما كنت من الشاهدين لذلك, حتى يقال: إنه وصل إليك من هذا الطريق.
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 45 )
ولكنا خلقنا أممًا من بعد موسى, فمكثوا زمنًا طويلا فنسوا عهد الله, وتركوا أمره, وما كنت مقيمًا في أهل « مدين » تقرأ عليهم كتابنا, فتعرف قصتهم وتخبر بها, ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى وحي, وشاهد على رسالتك.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 46 )
وما كنت - أيها الرسول- بجانب جبل الطور حين نادينا موسى, ولم تشهد شيئًا من ذلك فتعلمه, ولكنا أرسلناك رحمة من ربك; لتنذر قومًا لم يأتهم مِن قبلك من نذير; لعلهم يتذكرون الخير الذي جئتَ به فيفعلوه, والشرَّ الذي نَهيتَ عنه فيجتنبوه.
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )
ولولا أن ينزل بهؤلاء الكفار عذاب بسبب كفرهم بربهم, فيقولوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من قبل, فنتبع آياتك المنزلة في كتابك, ونكون من المؤمنين بك.
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ( 48 )
فلما جاء محمد هؤلاء القوم نذيرًا لهم, قالوا: هلا أوتي هذا الذي أُرسل إلينا مثل ما أوتي موسى من معجزات حسية, وكتابٍ نزل جملة واحدة! قل - أيها الرسول- لهم: أولم يكفر اليهود بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: في التوراة والقرآن سحران تعاونا في سحرهما, وقالوا: نحن بكل منهما كافرون.
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 49 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء: فأتوا بكتاب من عند الله هو أقوم من التوراة والقرآن أتبعه, إن كنتم صادقين في زعمكم.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 50 )
فإن لم يستجيبوا لك بالإتيان بالكتاب, ولم تبق لهم حجة, فاعلم أنما يتبعون أهواءهم, ولا أحد أكثر ضلالا ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. إن الله لا يوفِّق لإصابة الحق القوم الظالمين الذين خالفوا أمر الله, وتجاوزوا حدوده.
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 51 )
ولقد فصَّلنا وبيَّنا القرآن رحمة بقومك أيها الرسول؛ لعلهم يتذكرون, فيتعظوا به.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ( 52 )
الذين آتيناهم الكتاب من قبل القرآن - وهم اليهود والنصارى الذين لم يبدِّلوا- يؤمنون بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام.
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( 53 )
وإذا يتلى هذا القرآن على الذين آتيناهم الكتاب, قالوا: صدَّقنا به, وعملنا بما فيه, إنه الحق من عند ربنا, إنا كنا من قبل نزوله مسلمين موحدين، فدين الله واحد, وهو الإسلام.
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 54 ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( 55 )
هؤلاء الذين تقدَّمَتْ صفتُهم يُؤتَوْن ثواب عملهم مرتين: على الإيمان بكتابهم, وعلى إيمانهم بالقرآن بما صبروا, ومن أوصافهم أنهم يدفعون السيئة بالحسنة, ومما رزقناهم ينفقون في سبيل الخير والبر. وإذا سمع هؤلاء القوم الباطل من القول لم يُصْغوا إليه, وقالوا: لنا أعمالنا لا نحيد عنها, ولكم أعمالكم ووزرها عليكم, فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم, ولا تسمعون منَّا إلا الخير, ولا نخاطبهم بمقتضى جهلكم; لأننا لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. وهذا من خير ما يقوله الدعاة إلى الله.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 56 )
إنك - أيها الرسول- لا تهدي هداية توفيق مَن أحببت هدايته, ولكن ذلك بيد الله يهدي مَن يشاء أن يهديه للإيمان, ويوفقه إليه, وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه.
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 57 )
وقال كفار « مكة » : إن نتبع الحق الذي جئتنا به, ونتبرأ من الأولياء والآلهة, نُتَخَطَّفْ من أرضنا بالقتل والأسر ونهب الأموال, أولم نجعلهم متمكنين في بلد آمن, حرَّمنا على الناس سفك الدماء فيه, يُجلب إليه ثمرات كل شيء رزقًا مِن لدنا؟ ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قَدْر هذه النعم عليهم, فيشكروا مَن أنعم عليهم بها ويطيعوه.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( 58 )
وكثير من أهل القرى أهلكناهم حين أَلْهَتهم معيشتهم عن الإيمان بالرسل, فكفروا وطغَوْا, فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلا قليلا منها, وكنا نحن الوارثين للعباد نميتهم, ثم يرجعون إلينا, فنجازيهم بأعمالهم.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( 59 )
وما كان ربك - أيها الرسول- مهلك القرى التي حول « مكة » في زمانك حتى يبعث في أمها - وهي « مكة » - رسولا يتلو عليهم آياتنا, وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله ومعصيته, فهم بذلك مستحقون للعقوبة والنكال.
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 60 )
وما أُعطيتم - أيها الناس- من شيء من الأموال والأولاد, فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا, وزينة يُتزيَّن بها, وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير وأبقى; لأنه دائم لا نفاد له, أفلا تكون لكم عقول - أيها القوم- تتدبرون بها, فتعرفون الخير من الشر؟
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 61 )
أفمَن وعدناه مِن خَلْقنا على طاعته إيانا الجنة, فهو ملاقٍ ما وُعِدَ, وصائر إليه, كمن متعناه في الحياة الدنيا متاعها, فتمتع به, وآثر لذة عاجلة على آجلة, ثم هو يوم القيامة من المحضرين للحساب والجزاء؟ لا يستوي الفريقان, فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار, وهو طاعة الله وابتغاء مرضاته.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 62 )
ويوم ينادي الله عز وجل الذين أشركوا به الأولياء والأوثان في الدنيا, فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم لي شركاء؟
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( 63 )
قال الذين حقَّ عليهم العذاب, وهم دعاة الكفر: ربنا هؤلاء الذين أضللنا, أضللناهم كما ضللنا, تبرأنا إليك مِن ولايتهم ونصرتهم, ما كانوا إيانا يعبدون, وإنما كانوا يعبدون الشياطين.
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( 64 )
وقيل للمشركين بالله يوم القيامة: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله, فدعوهم فلم يستجيبوا لهم, وعاينوا العذاب, لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق لما عُذِّبوا.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( 65 )
ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين, فيقول: بأيِّ شيء أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم؟
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ( 66 )
فخفيت عليهم الحجج, فلم يَدْروا ما يحتجون به, فهم لا يسأل بعضهم بعضًا عما يحتجون به سؤال انتفاع.
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ( 67 )
فأما من تاب من المشركين, وأخلص لله العبادة, وعمل بما أمره الله به ورسوله, فهو من الفائزين في الدارين.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 68 )
وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه, ويصطفي لولايته مَن يشاء من خلقه, وليس لأحد من الأمر والاختيار شيء, وإنما ذلك لله وحده سبحانه, تعالى وتنزَّه عن شركهم.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 69 )
وربك يعلم ما تُخفي صدور خلقه وما يظهرونه.
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 70 )
وهو الله الذي لا معبود بحق سواه, له الثناء الجميل والشكر في الدنيا والآخرة, وله الحكم بين خلقه, وإليه تُرَدُّون بعد مماتكم للحساب والجزاء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ( 71 )
قل - أيها الرسول- : أخبروني - أيها الناس- إن جعل الله عليكم الليل دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بضياء تستضيئون به؟ أفلا تسمعون سماع فهم وقَبول؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 72 )
قل لهم: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائمًا إلى يوم القيامة, مَن إله غير الله يأتيكم بليل تستقرون وتهدؤون فيه؟ أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار؟
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 73 )
ومن رحمته بكم - أيها الناس- أن جعل لكم الليل والنهار فخالف بينهما, فجعل هذا الليل ظلامًا؛ لتستقروا فيه وترتاح أبدانكم, وجعل لكم النهار ضياءً; لتطلبوا فيه معايشكم, ولتشكروا له على إنعامه عليكم بذلك.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 74 )
ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين, فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي؟
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 75 )
ونزعنا من كل أمة من الأمم المكذبة شهيدا - وهو نبيُّهم- , يشهد على ما جرى في الدنيا من شركهم وتكذيبهم لرسلهم, فقلنا لتلك الأمم التي كذبت رسلها وما جاءت به من عند الله: هاتوا حجتكم على ما أشركتم مع الله, فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم, وأن الحق لله, وذهب عنهم ما كانوا يفترون على ربهم, فلم ينفعهم ذلك, بل ضرَّهم وأوردهم نار جهنم.
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( 76 )
إن قارون كان من قوم موسى - عليه الصلاة والسلام- فتجاوز حدَّه في الكِبْر والتجبر عليهم, وآتينا قارون من كنوز الأموال شيئًا عظيمًا, حتى إنَّ مفاتحه لَيثقل حملها على العدد الكثير من الأقوياء, إذ قال له قومه: لا تبطر فرحًا بما أنت فيه من المال, إن الله لا يحب مِن خلقه البَطِرين الذين لا يشكرون لله تعالى ما أعطاهم.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 77 )
والتمس فيما أتاك الله من الأموال ثواب الدار الآخرة, بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا, ولا تترك حظك من الدنيا, بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسراف, وأحسن إلى الناس بالصدقة, كما أحسن الله إليك بهذه الأموال الكثيرة, ولا تلتمس ما حرَّم الله عليك من البغي على قومك, إن الله لا يحب المفسدين.
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 )
قال قارون لقومه الذين وعظوه: إنما أُعطيتُ هذه الكنوز بما عندي من العلم والقدرة, أولم يعلم قارون أن الله قد أهلك مِن قبله من الأمم مَن هو أشد منه بطشًا, وأكثر جمعًا للأموال؟ ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون; لعلم الله تعالى بها, إنما يُسْألون سؤال توبيخ وتقرير, ويعاقبهم الله على ما علمه منهم.
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 79 )
فخرج قارون على قومه في زينته, مريدًا بذلك إظهار عظمته وكثرة أمواله, وحين رآه الذين يريدون زينة الحياة الدنيا قالوا: يا ليت لنا مثل ما أُعطي قارون من المال والزينة والجاه, إن قارون لذو نصيب عظيم من الدنيا.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( 80 )
وقال الذين أوتوا العلم بالله وشرعه وعرفوا حقائق الأمور للذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: ويلكم اتقوا الله وأطيعوه, ثوابُ الله لمن آمن به وبرسله, وعمل الأعمال الصالحة, خيرٌ مما أوتي قارون, ولا يَتَقَبَّل هذه النصيحة ويوفَّق إليها ويعمل بها إلا مَن يجاهد نفسه, ويصبر على طاعة ربه, ويجتنب معاصيه.
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ( 81 )
فخسفنا بقارون وبداره الأرض, فما كان له من جند ينصرونه من دون الله, وما كان ممتنعًا من الله إذا أحلَّ به نقمته.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 82 )
وصار الذين تمنوا حاله بالأمس يقولون متوجعين ومعتبرين وخائفين من وقوع العذاب بهم: إن الله يوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده, ويضيِّق على مَن يشاء منهم, لولا أن الله منَّ علينا فلم يعاقبنا على ما قلنا لَخسف بنا كما فعل بقارون, ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون, لا في الدنيا ولا في الآخرة؟
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 83 )
تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرًا عن الحق في الأرض ولا فسادًا فيها. والعاقبة المحمودة - وهي الجنة- لمن اتقى عذاب الله وعمل الطاعات, وترك المحرمات.
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 84 )
من جاء يوم القيامة بإخلاص التوحيد لله وبالأعمال الصالحة وَفْق ما شرع الله, فله أجر عظيم خير من ذلك, وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم, ومن جاء بالأعمال السيئة, فلا يُجْزى الذين عملوا السيئات على أعمالهم إلا بما كانوا يعملون.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 85 )
إن الذي أنزل عليك - أيها الرسول- القرآن, وفرض عليك تبليغه والتمسُّك به, لمرجعك إلى الموضع الذي خرجت منه, وهو « مكة » , قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: ربي أعلم مَن جاء بالهدى, ومن هو في ذهابٍ واضحٍ عن الحق.
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ( 86 )
وما كنت - أيها الرسول- تؤمِّل نزول القرآن عليك, لكن الله سبحانه وتعالى رحمك فأنزله عليك, فاشكر لله تعالى على نِعَمه, ولا تكوننَّ عونًا لأهل الشرك والضلال.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 87 )
ولا يصرفَنَّك هؤلاء المشركون عن تبليغ آيات ربك وحججه, بعد أن أنزلها إليك, وبلِّغ رسالة ربك, ولا تكونن من المشركين في شيء.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 88 )
ولا تعبد مع الله معبودًا أخر; فلا معبود بحق إلا الله, كل شيء هالك وفانٍ إلا وجهه, له الحكم, وإليه ترجعون من بعد موتكم للحساب والجزاء. وفي هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى كما يليق بكماله وعظمة جلاله.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة العنكبوت .. بن كثير
====
الم ( 1 )
الم سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( 2 )
أظَنَّ الناس إذ قالوا: آمنا, أن الله يتركهم بلا ابتلاء ولا اختبار؟
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3 )
ولقد فتنَّا الذين من قبلهم من الأمم واختبرناهم, ممن أرسلنا إليهم رسلنا, فليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق صدق الصادقين في إيمانهم، وكذب الكاذبين؛ ليميز كلَّ فريق من الآخر.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 4 )
بل أظنَّ الذين يعملون المعاصي مِن شرك وغيره أن يعجزونا, فيفوتونا بأنفسهم فلا نقدر عليهم؟ بئس حكمهم الذي يحكمون به.
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 5 )
من كان يرجو لقاء الله, ويطمع في ثوابه, فإن أجل الله الذي أجَّله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآتٍ قريبًا, وهو السميع للأقوال, العليم بالأفعال.
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 6 )
ومن جاهد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى, وجاهد نفسه بحملها على الطاعة, فإنما يجاهد لنفسه؛ لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب على جهاده. إن الله لغني عن أعمال جميع خلقه, له الملك والخلق والأمر.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 7 )
والذين صدَّقوا الله ورسوله, وعملوا الصالحات لنمحونَّ عنهم خطيئاتهم, ولنثيبنَّهم على أعمالهم الصالحة أحسن ما كانوا يعملون.
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )
ووصينا الإنسان بوالديه أن يبرهما, ويحسن إليهما بالقول والعمل, وإن جاهداك - أيها الإنسان- على أن تشرك معي في عبادتي, فلا تمتثل أمرهما. ويلحق بطلب الإشراك بالله, سائر المعاصي, فلا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الله سبحانه, كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إليَّ مصيركم يوم القيامة, فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئها, وأجازيكم عليها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( 9 )
والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال, لندخلنهم الجنة في جملة عباد الله الصالحين.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( 10 )
ومن الناس من يقول: آمنا بالله, فإذا آذاه المشركون جزع من عذابهم وأذاهم, كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذيَّة منه, فارتدَّ عن إيمانه, ولئن جاء نصر من ربك - أيها الرسول- لأهل الإيمان به ليقولَنَّ هؤلاء المرتدون عن إيمانهم: إنَّا كنا معكم - أيها المؤمنون- ننصركم على أعدائكم, أوليس الله بأعلم من كل أحد بما في صدور جميع خلقه؟
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 11 )
وليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، وليعلمنَّ المنافقين; ليميز كل فريق من الآخر.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 12 )
وقال الذين جحدوا وحدانية الله من قريش, ولم يؤمنوا بوعيد الله ووعده, للذين صدَّقوا الله منهم وعملوا بشرعه: اتركوا دين محمد, واتبعوا ديننا, فإنا نتحمل آثام خطاياكم, وليسوا بحاملين من آثامهم من شيء, إنهم لكاذبون فيما قالوا.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 13 )
وليحملَنَّ هؤلاء المشركون أوزار أنفسهم وآثامها, وأوزار مَن أضلوا وصدُّوا عن سبيل الله مع أوزارهم, دون أن ينقص من أوزار تابعيهم شيء, وليُسألُنَّ يوم القيامة عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 )
ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا, يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك, فلم يستجيبوا له, فأهلكهم الله بالطوفان, وهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم وطغيانهم.
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 15 )
فأنجينا نوحًا ومَن تبعه ممن كان معه في السفينة, وجعلنا ذلك عبرة وعظة للعالمين.
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 )
واذكر - أيها الرسول- إبراهيم عليه السلام حين دعا قومه: أن أخلصوا العبادة لله وحده, واتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, ذلكم خير لكم, إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 )
ما تعبدون - أيها القوم- مِن دون الله إلا أصنامًا, وتفترون كذبًا بتسميتكم إياها آلهة, إنَّ أوثانكم التي تعبدونها من دون الله لا تقدر أن ترزقكم شيئًا, فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم, وأخلصوا له العبادة والشكر على رزقه إياكم, إلى الله تُردُّون من بعد مماتكم, فيجازيكم على ما عملتم.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 18 )
وإن تكذِّبوا - أيها الناس- رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادة الله وحده, فقد كذبت جماعات من قبلكم رسلها فيما دعتهم إليه من الحق, فحل بهم سخط الله, وما على الرَّسول محمد إلا أن يبلغكم عن الله رسالته البلاغ الواضح, وقد فَعَل.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 19 )
أولم يعلم هؤلاء كيف ينشئ الله الخلق من العدم, ثم يعيده من بعد فنائه, كما بدأه أول مرة خلقًا جديدًا, لا يتعذر عليه ذلك؟ إن ذلك على الله يسير, كما كان يسيرًا عليه إنشاؤه.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
قل - أيها الرسول- لمنكري البعث بعد الممات: سيروا في الأرض, فانظروا كيف أنشأ الله الخلق, ولم يتعذر عليه إنشاؤه مبتدَأً؟ فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير, لا يعجزه شيء أراده.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 )
يعذب مَن يشاء مِن خلقه على ما أسلف مِن جرمه في أيام حياته, ويرحم مَن يشاء منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحًا, وإليه ترجعون, فيجازيكم بما عملتم.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 22 )
وما أنتم - أيها الناس- بمعجزي الله في الأرض ولا في السماء إن عصيتموه, وما كان لكم من دون الله مِن وليٍّ يلي أموركم, ولا نصير ينصركم من الله إن أراد بكم سوءًا.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 )
والذين جحدوا حُجج الله وأنكروا أدلته, ولقاءه يوم القيامة, أولئك ليس لهم مطمع في رحمتي لَمَّا عاينوا ما أُعِدَّ لهم من العذاب, وأولئك لهم عذاب مؤلم موجع.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 24 )
فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إلا أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو حرِّقوه بالنار, فألقوه فيها, فأنجاه الله منها, وجعلها عليه بردًا وسلامًا, إن في إنجائنا لإبراهيم من النار لأدلة وحججًا لقوم يصدِّقون الله ويعملون بشرعه.
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 25 )
وقال إبراهيم لقومه: يا قوم إنما عبدتم من دون الله آلهة باطلة, اتخذتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا, تتحابون على عبادتها, وتتوادون على خدمتها, ثم يوم القيامة, يتبرأ بعضكم من بعض, ويلعن بعضكم بعضًا, ومصيركم جميعًا النار, وليس لكم ناصر يمنعكم من دخولها.
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26 )
فصدَّق لوطٌ إبراهيمَ وتبع ملته. وقال إبراهيم: إني تارك دار قومي إلى الأرض المباركة وهي « الشام » ، إن الله هو العزيز الذي لا يُغَالَب, الحكيم في تدبيره.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 )
ووهبنا له إسحاق ولدًا, ويعقوب من بعده وَلَدَ وَلَدٍ, وجعلنا في ذريته الأنبياء والكتب, وأعطيناه ثواب بلائه فينا, في الدنيا الذكر الحسن والولد الصالح, وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 28 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 29 )
واذكر - أيها الرسول- لوطًا حين قال لقومه: إنكم لتأتون الفعلة القبيحة, ما تَقَدَّمكم بفعلها أحد من العالمين, أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم, وتقطعون على المسافرين طرقهم بفعلكم الخبيث, وتأتون في مجالسكم الأعمال المنكرة كالسخرية من الناس, وحذف المارة, وإيذائهم بما لا يليق من الأقوال والأفعال؟ وفي هذا إعلام بأنه لا يجوز أن يجتمع الناس على المنكر مما نهى الله ورسوله عنه. فلم يكن جواب قوم لوط له إلا أن قالوا: جئنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين فيما تقول, والمنجزين لما تَعِد.
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( 30 )
قال: رب انصرني على القوم المفسدين بإنزال العذاب عليهم; حيث ابتدعوا الفاحشة وأصرُّوا عليها, فاستجاب الله دعاءه.
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( 31 )
ولما جاءت الملائكة إبراهيم بالخبر السارِّ من الله بإسحاق, ومن وراء إسحاق ولده يعقوب, قالت الملائكة لإبراهيم: إنا مهلكو أهل قرية قوم لوط, وهي « سدوم » ; إنَّ أهلها كانوا ظالمي أنفسهم بمعصيتهم لله.
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 32 )
قال إبراهيم للملائكة: إنَّ فيها لوطًا وليس من الظالمين, فقالت الملائكة له: نحن أعلم بمن فيها, لننجِّينَّه وأهله من الهلاك الذي سينزل بأهل قريته إلا امرأته كانت من الباقين الهالكين.
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 33 )
ولما جاءت الملائكة لوطًا ساءه ذلك; لأنه ظنهم ضيوفًا من البشر, وحزن بسبب وجودهم; لعلمه خبث فعل قومه, وقالوا له: لا تَخَفْ علينا لن يصل إلينا قومك, ولا تحزن مما أخبرناك مِن أنا مهلكوهم, إنَّا منجُّوك من العذاب النازل بقومك ومنجُّو أهلك معك إلا أمرأتك, فإنها هالكة فيمن يهلك مِن قومها.
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 34 )
إنا منزلون على أهل هذه القرية عذابًا من السماء; بسبب معصيتهم لله وارتكابهم الفاحشة.
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 35 )
ولقد أبقينا مِن ديار قوم لوط آثارًا بينة لقوم يعقلون العبر, فينتفعون بها.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 36 )
وأرسلنا إلى « مدين » أخاهم شعيبًا, فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده, وأخلصوا له العبادة, ما لكم من إله غيره, وارجوا بعبادتكم جزاء اليوم الآخر, ولا تكثروا في الأرض الفساد والمعاصي, ولا تقيموا عليها, ولكن توبوا إلى الله منها وأنيبوا.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 37 )
فكذَّب أهل « مدين » شعيبًا فيما جاءهم به عن الله من الرسالة, فأخذتهم الزلزلة الشديدة, فأصبحوا في دارهم صَرْعى هالكين.
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( 38 )
وأهلكنا عادًا وثمود, وقد تبين لكم من مساكنهم خَرابُها وخلاؤها منهم, وحلول نقمتنا بهم جميعًا, وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة, فصدَّهم عن سبيل الله وعن طريق الإيمان به وبرسله, وكانوا مستبصرين في كفرهم وضلالهم, معجبين به, يحسبون أنهم على هدى وصواب, بينما هم في الضلال غارقون.
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( 39 )
وأهلكنا قارون وفرعون وهامان, ولقد جاءهم جميعًا موسى بالأدلة الواضحة, فتعاظموا في الأرض, واستكبروا فيها, ولم يكونوا ليفوتوننا, بل كنا مقتدرين عليهم.
فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 40 )
فأخذنا كلا من هؤلاء المذكورين بعذابنا بسبب ذنبه: فمنهم الذين أرسلنا عليهم حجارة من طين منضود, وهم قوم لوط, ومنهم مَن أخذته الصيحة, وهم قوم صالح وقوم شعيب, ومنهم مَن خسفنا به الأرض كقارون, ومنهم مَن أغرقنا, وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه, ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم, فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق, ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 )
مثل الذين جعلوا الأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرها, كمثل العنكبوت التي عملت بيتًا لنفسها ليحفظها, فلم يُغن عنها شيئًا عند حاجتها إليه, فكذلك هؤلاء المشركون لم يُغْن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا, وإن أضعف البيوت لَبيت العنكبوت, لو كانوا يعلمون ذلك ما اتخذوهم أولياء, فهم لا ينفعونهم ولا يضرونهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 )
إن الله يعلم ما يشركون به من الأنداد, وأنها ليست بشيء في الحقيقة, بل هي مجرد أسماء سَمَّوها, لا تنفع ولا تضر. وهو العزيز في انتقامه ممن كفر به, الحكيم في تدبيره وصنعه.
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ( 43 )
وهذه الأمثال نضربها للناس; لينتفعوا بها ويتعلموا منها, وما يعقلها إلا العالمون بالله وآياته وشرعه.
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( 44 )
خلق الله السموات والأرض بالعدل والقسط, إن في خلقه ذلك لدلالة عظيمة على قدرته، وتفرده بالإلهية، وخَصَّ المؤمنين؛ لأنهم الذين ينتفعون بذلك.
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 45 )
اتل ما أُنزل إليك من هذا القرآن, واعمل به, وأدِّ الصلاة بحدودها, إن المحافظة على الصلاة تنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات; وذلك لأن المقيم لها, المتمم لأركانها وشروطها, يستنير قلبه, ويزداد إيمانه, وتقوى رغبته في الخير, وتقل أو تنعدم رغبته في الشر, ولَذكر الله في الصلاة وغيرها أعظم وأكبر وأفضل من كل شيء. والله يعلم ما تصنعون مِن خيرٍ وشر, فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 )
ولا تجادلوا - أيها المؤمنون- اليهودَ والنصارى إلا بالأسلوب الحسن, والقول الجميل, والدعوة إلى الحق بأيسر طريق موصل لذلك, إلا الذين حادوا عن وجه الحق وعاندوا وكابروا وأعلنوا الحرب عليكم فجالدوهم بالسيف حتى يؤمنوا, أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون, وقولوا: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا, وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذَيْن أُنزلا إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في ألوهيته, ولا في ربوبيته, ولا في أسمائه وصفاته, ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا به, ونهانا عنه.
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ( 47 )
وكما أنزلنا - أيها الرسول- الكتب على مَن قبلك من الرسل, أنزلنا إليك هذا الكتاب المصدق للكتب السابقة, فالذين آتيناهم الكتاب من بني إسرائيل فعرفوه حق معرفته يؤمنون بالقرآن, ومِن هؤلاء العرب من قريش وغيرهم مَن يؤمن به, ولا ينكر القرآن أو يتشكك في دلائله وبراهينه البينة إلا الكافرون الذين دَأْبُهم الجحود والعناد.
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( 48 )
من معجزاتك البينة - أيها الرسول- أنك لم تقرأ كتابًا ولم تكتب حروفًا بيمينك قبل نزول القرآن عليك, وهم يعرفون ذلك, ولو كنت قارئًا أو كاتبًا من قبل أن يوحى إليك لشك في ذلك المبطلون, وقالوا: تعلَّمه من الكتب السابقة أو استنسخه منها.
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ( 49 )
بل القرآن آيات بينات واضحة في الدلالة على الحق يحفظه العلماء, وما يكذِّب بآياتنا ويردها إلا الظالمون المعاندون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 )
وقال المشركون: هلا أُنزل على محمد دلائل وحجج من ربه نشاهدها كناقة صالح, وعصا موسى! قل لهم: إن أمر هذه الآيات لله, إن شاء أنزلها, وإن شاء منعها, وإنما أنا لكم نذير أحذركم شدة بأسه وعقابه, مبيِّن طريق الحق من الباطل.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 51 )
أولم يكف هؤلاء المشركين في علمهم بصدقك - أيها الرسول- أنَّا أنزلنا عليك القرآن يتلى عليهم؟ إن في هذا القرآن لَرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة, وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 52 )
قل: كفى بالله بيني وبينكم شاهدًا على صدقي أني رسوله, وعلى تكذيبكم لي وردكم الحق الذي جئتُ به من عند الله, يعلم ما في السموات والأرض, فلا يخفى عليه شيء فيهما. والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله - مع هذه الدلائل الواضحة- أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 53 )
ويستعجلك - أيها الرسول- هؤلاء المشركون من قومك بالعذاب استهزاء, ولولا أن الله جعل لعذابهم في الدنيا وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر, لجاءهم العذاب حين طلبوه, وليأتينهم فجأة, وهم لا يشعرون به ولا يُحِسُّون.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 54 )
يستعجلونك بالعذاب في الدنيا, وهو آتيهم لا محالة إمَّا في الدنيا وإما في الآخرة, وإن عذاب جهنم في الآخرة لمحيط بهم, لا مفرَّ لهم منه.
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 55 )
يوم القيامة يغشى الكافرين عذاب جهنم من فوق رؤوسهم, ومِن تحت أقدامهم, فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم, ويقول الله لهم حينئذ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا: من الإشراك بالله, وارتكاب الجرائم والآثام.
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( 56 )
يا عبادي الذين آمنوا إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان وعبادة الله وحده, فهاجِروا إلى أرض الله الواسعة, وأخلصوا العبادة لي وحدي.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 57 )
كل نفس حية ذائقة الموت, ثم إلينا ترجعون للحساب والجزاء.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 58 )
والذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا ما أُمروا به من الصالحات لننزلنَّهم من الجنة غرفًا عالية تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا, نِعْمَ جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف في جنات النعيم.
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 59 )
إن تلك الجنات المذكورة للمؤمنين الذين صبروا على عبادة الله, وتمسكوا بدينهم, وعلى الله يعتمدون في أرزاقهم وجهاد أعدائهم.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 60 )
وكم من دابة لا تدَّخر غذاءها لغد, كما يفعل ابن آدم, فالله سبحانه وتعالى يرزقها كما يرزقكم, وهو السميع لأقوالكم, العليم بأفعالكم وخطرات قلوبكم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 61 )
ولئن سألت - أيها الرسول- المشركين: من الذي خلق السموات والأرض على هذا النظام البديع, وذلَّل الشمس والقمر؟ ليقولُنَّ: خلقهن الله وحده, فكيف يصرفون عن الإيمان بالله خالق كل شيء ومدبره, ويعبدون معه غيره؟ فاعجب من إفكهم وكذبهم!!
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 62 )
الله سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من خلقه, ويضيق على آخرين منهم; لعلمه بما يصلح عباده, إن الله بكل شيء من أحوالكم وأموركم عليم, لا يخفى عليه شيء.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 63 )
ولئن سألت - أيها الرسول- المشركين: مَنِ الذي نزَّل من السحاب ماء فأنبت به الأرض من بعد جفافها؟ ليقولُنَّ لك معترفين: الله وحده هو الذي نزَّل ذلك, قل: الحمد لله الذي أظهر حجتك عليهم, بل أكثرهم لا يعقلون ما ينفعهم ولا ما يضرهم, ولو عَقَلوا ما أشركوا مع الله غيره.
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 64 )
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب, تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان; بسبب ما فيها من الزينة والشهوات, ثم تزول سريعًا, وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها, لو كان الناس يعلمون ذلك لما آثروا دار الفناء على دار البقاء.
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( 65 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 66 )
فإذا ركب الكفار السفن في البحر, وخافوا الغرق, وحَّدوا الله, وأخلصوا له في الدعاء حال شدتهم, فلما نجَّاهم إلى البر, وزالت عنهم الشدة, عادوا إلى شركهم, إنهم بهذا يتناقضون, يوحِّدون الله ساعة الشدة, ويشركون به ساعة الرخاء. وشِرْكهم بعد نعمتنا عليهم بالنجاة من البحر; ليكونَ عاقبته الكفر بما أنعمنا عليهم في أنفسهم وأموالهم, وليكملوا تمتعهم في هذه الدنيا, فسوف يعلمون فساد عملهم, وما أعدَّه الله لهم من عذاب أليم يوم القيامة. وفي ذلك تهديد ووعيد لهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ( 67 )
أولم يشاهد كفار « مكة » أن الله جعل « مكة » لهم حَرَمًا آمنًا يأمن فيه أهله على أنفسهم وأموالهم, والناسُ مِن حولهم خارج الحرم, يُتَخَطَّفون غير آمنين؟ أفبالشرك يؤمنون, وبنعمة الله التي خصَّهم بها يكفرون, فلا يعبدونه وحده دون سواه؟
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 68 )
لا أحد أشد ظلمًا ممن كذَب على الله, فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى الله, أو كذَّب بالحق الذي بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إن في النار لمسكنًا لمن كفر بالله, وجحد توحيده وكذَّب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 69 )
والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله, والنفس, والشيطان, وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله, سيهديهم الله سبل الخير, ويثبتهم على الصراط المستقيم, ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.
====
الم ( 1 )
الم سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ( 2 )
أظَنَّ الناس إذ قالوا: آمنا, أن الله يتركهم بلا ابتلاء ولا اختبار؟
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( 3 )
ولقد فتنَّا الذين من قبلهم من الأمم واختبرناهم, ممن أرسلنا إليهم رسلنا, فليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق صدق الصادقين في إيمانهم، وكذب الكاذبين؛ ليميز كلَّ فريق من الآخر.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 4 )
بل أظنَّ الذين يعملون المعاصي مِن شرك وغيره أن يعجزونا, فيفوتونا بأنفسهم فلا نقدر عليهم؟ بئس حكمهم الذي يحكمون به.
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 5 )
من كان يرجو لقاء الله, ويطمع في ثوابه, فإن أجل الله الذي أجَّله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآتٍ قريبًا, وهو السميع للأقوال, العليم بالأفعال.
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 6 )
ومن جاهد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى, وجاهد نفسه بحملها على الطاعة, فإنما يجاهد لنفسه؛ لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب على جهاده. إن الله لغني عن أعمال جميع خلقه, له الملك والخلق والأمر.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 7 )
والذين صدَّقوا الله ورسوله, وعملوا الصالحات لنمحونَّ عنهم خطيئاتهم, ولنثيبنَّهم على أعمالهم الصالحة أحسن ما كانوا يعملون.
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 )
ووصينا الإنسان بوالديه أن يبرهما, ويحسن إليهما بالقول والعمل, وإن جاهداك - أيها الإنسان- على أن تشرك معي في عبادتي, فلا تمتثل أمرهما. ويلحق بطلب الإشراك بالله, سائر المعاصي, فلا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الله سبحانه, كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إليَّ مصيركم يوم القيامة, فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئها, وأجازيكم عليها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( 9 )
والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال, لندخلنهم الجنة في جملة عباد الله الصالحين.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ( 10 )
ومن الناس من يقول: آمنا بالله, فإذا آذاه المشركون جزع من عذابهم وأذاهم, كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذيَّة منه, فارتدَّ عن إيمانه, ولئن جاء نصر من ربك - أيها الرسول- لأهل الإيمان به ليقولَنَّ هؤلاء المرتدون عن إيمانهم: إنَّا كنا معكم - أيها المؤمنون- ننصركم على أعدائكم, أوليس الله بأعلم من كل أحد بما في صدور جميع خلقه؟
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 11 )
وليعلمنَّ الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، وليعلمنَّ المنافقين; ليميز كل فريق من الآخر.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 12 )
وقال الذين جحدوا وحدانية الله من قريش, ولم يؤمنوا بوعيد الله ووعده, للذين صدَّقوا الله منهم وعملوا بشرعه: اتركوا دين محمد, واتبعوا ديننا, فإنا نتحمل آثام خطاياكم, وليسوا بحاملين من آثامهم من شيء, إنهم لكاذبون فيما قالوا.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 13 )
وليحملَنَّ هؤلاء المشركون أوزار أنفسهم وآثامها, وأوزار مَن أضلوا وصدُّوا عن سبيل الله مع أوزارهم, دون أن ينقص من أوزار تابعيهم شيء, وليُسألُنَّ يوم القيامة عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 )
ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا, يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك, فلم يستجيبوا له, فأهلكهم الله بالطوفان, وهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم وطغيانهم.
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 15 )
فأنجينا نوحًا ومَن تبعه ممن كان معه في السفينة, وجعلنا ذلك عبرة وعظة للعالمين.
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 )
واذكر - أيها الرسول- إبراهيم عليه السلام حين دعا قومه: أن أخلصوا العبادة لله وحده, واتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, ذلكم خير لكم, إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 )
ما تعبدون - أيها القوم- مِن دون الله إلا أصنامًا, وتفترون كذبًا بتسميتكم إياها آلهة, إنَّ أوثانكم التي تعبدونها من دون الله لا تقدر أن ترزقكم شيئًا, فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم, وأخلصوا له العبادة والشكر على رزقه إياكم, إلى الله تُردُّون من بعد مماتكم, فيجازيكم على ما عملتم.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 18 )
وإن تكذِّبوا - أيها الناس- رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادة الله وحده, فقد كذبت جماعات من قبلكم رسلها فيما دعتهم إليه من الحق, فحل بهم سخط الله, وما على الرَّسول محمد إلا أن يبلغكم عن الله رسالته البلاغ الواضح, وقد فَعَل.
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 19 )
أولم يعلم هؤلاء كيف ينشئ الله الخلق من العدم, ثم يعيده من بعد فنائه, كما بدأه أول مرة خلقًا جديدًا, لا يتعذر عليه ذلك؟ إن ذلك على الله يسير, كما كان يسيرًا عليه إنشاؤه.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )
قل - أيها الرسول- لمنكري البعث بعد الممات: سيروا في الأرض, فانظروا كيف أنشأ الله الخلق, ولم يتعذر عليه إنشاؤه مبتدَأً؟ فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير, لا يعجزه شيء أراده.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 )
يعذب مَن يشاء مِن خلقه على ما أسلف مِن جرمه في أيام حياته, ويرحم مَن يشاء منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحًا, وإليه ترجعون, فيجازيكم بما عملتم.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 22 )
وما أنتم - أيها الناس- بمعجزي الله في الأرض ولا في السماء إن عصيتموه, وما كان لكم من دون الله مِن وليٍّ يلي أموركم, ولا نصير ينصركم من الله إن أراد بكم سوءًا.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 )
والذين جحدوا حُجج الله وأنكروا أدلته, ولقاءه يوم القيامة, أولئك ليس لهم مطمع في رحمتي لَمَّا عاينوا ما أُعِدَّ لهم من العذاب, وأولئك لهم عذاب مؤلم موجع.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 24 )
فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إلا أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو حرِّقوه بالنار, فألقوه فيها, فأنجاه الله منها, وجعلها عليه بردًا وسلامًا, إن في إنجائنا لإبراهيم من النار لأدلة وحججًا لقوم يصدِّقون الله ويعملون بشرعه.
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 25 )
وقال إبراهيم لقومه: يا قوم إنما عبدتم من دون الله آلهة باطلة, اتخذتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا, تتحابون على عبادتها, وتتوادون على خدمتها, ثم يوم القيامة, يتبرأ بعضكم من بعض, ويلعن بعضكم بعضًا, ومصيركم جميعًا النار, وليس لكم ناصر يمنعكم من دخولها.
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26 )
فصدَّق لوطٌ إبراهيمَ وتبع ملته. وقال إبراهيم: إني تارك دار قومي إلى الأرض المباركة وهي « الشام » ، إن الله هو العزيز الذي لا يُغَالَب, الحكيم في تدبيره.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 )
ووهبنا له إسحاق ولدًا, ويعقوب من بعده وَلَدَ وَلَدٍ, وجعلنا في ذريته الأنبياء والكتب, وأعطيناه ثواب بلائه فينا, في الدنيا الذكر الحسن والولد الصالح, وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 28 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 29 )
واذكر - أيها الرسول- لوطًا حين قال لقومه: إنكم لتأتون الفعلة القبيحة, ما تَقَدَّمكم بفعلها أحد من العالمين, أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم, وتقطعون على المسافرين طرقهم بفعلكم الخبيث, وتأتون في مجالسكم الأعمال المنكرة كالسخرية من الناس, وحذف المارة, وإيذائهم بما لا يليق من الأقوال والأفعال؟ وفي هذا إعلام بأنه لا يجوز أن يجتمع الناس على المنكر مما نهى الله ورسوله عنه. فلم يكن جواب قوم لوط له إلا أن قالوا: جئنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين فيما تقول, والمنجزين لما تَعِد.
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( 30 )
قال: رب انصرني على القوم المفسدين بإنزال العذاب عليهم; حيث ابتدعوا الفاحشة وأصرُّوا عليها, فاستجاب الله دعاءه.
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( 31 )
ولما جاءت الملائكة إبراهيم بالخبر السارِّ من الله بإسحاق, ومن وراء إسحاق ولده يعقوب, قالت الملائكة لإبراهيم: إنا مهلكو أهل قرية قوم لوط, وهي « سدوم » ; إنَّ أهلها كانوا ظالمي أنفسهم بمعصيتهم لله.
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 32 )
قال إبراهيم للملائكة: إنَّ فيها لوطًا وليس من الظالمين, فقالت الملائكة له: نحن أعلم بمن فيها, لننجِّينَّه وأهله من الهلاك الذي سينزل بأهل قريته إلا امرأته كانت من الباقين الهالكين.
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 33 )
ولما جاءت الملائكة لوطًا ساءه ذلك; لأنه ظنهم ضيوفًا من البشر, وحزن بسبب وجودهم; لعلمه خبث فعل قومه, وقالوا له: لا تَخَفْ علينا لن يصل إلينا قومك, ولا تحزن مما أخبرناك مِن أنا مهلكوهم, إنَّا منجُّوك من العذاب النازل بقومك ومنجُّو أهلك معك إلا أمرأتك, فإنها هالكة فيمن يهلك مِن قومها.
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 34 )
إنا منزلون على أهل هذه القرية عذابًا من السماء; بسبب معصيتهم لله وارتكابهم الفاحشة.
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 35 )
ولقد أبقينا مِن ديار قوم لوط آثارًا بينة لقوم يعقلون العبر, فينتفعون بها.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 36 )
وأرسلنا إلى « مدين » أخاهم شعيبًا, فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده, وأخلصوا له العبادة, ما لكم من إله غيره, وارجوا بعبادتكم جزاء اليوم الآخر, ولا تكثروا في الأرض الفساد والمعاصي, ولا تقيموا عليها, ولكن توبوا إلى الله منها وأنيبوا.
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 37 )
فكذَّب أهل « مدين » شعيبًا فيما جاءهم به عن الله من الرسالة, فأخذتهم الزلزلة الشديدة, فأصبحوا في دارهم صَرْعى هالكين.
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( 38 )
وأهلكنا عادًا وثمود, وقد تبين لكم من مساكنهم خَرابُها وخلاؤها منهم, وحلول نقمتنا بهم جميعًا, وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة, فصدَّهم عن سبيل الله وعن طريق الإيمان به وبرسله, وكانوا مستبصرين في كفرهم وضلالهم, معجبين به, يحسبون أنهم على هدى وصواب, بينما هم في الضلال غارقون.
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( 39 )
وأهلكنا قارون وفرعون وهامان, ولقد جاءهم جميعًا موسى بالأدلة الواضحة, فتعاظموا في الأرض, واستكبروا فيها, ولم يكونوا ليفوتوننا, بل كنا مقتدرين عليهم.
فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 40 )
فأخذنا كلا من هؤلاء المذكورين بعذابنا بسبب ذنبه: فمنهم الذين أرسلنا عليهم حجارة من طين منضود, وهم قوم لوط, ومنهم مَن أخذته الصيحة, وهم قوم صالح وقوم شعيب, ومنهم مَن خسفنا به الأرض كقارون, ومنهم مَن أغرقنا, وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه, ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم, فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق, ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 )
مثل الذين جعلوا الأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرها, كمثل العنكبوت التي عملت بيتًا لنفسها ليحفظها, فلم يُغن عنها شيئًا عند حاجتها إليه, فكذلك هؤلاء المشركون لم يُغْن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا, وإن أضعف البيوت لَبيت العنكبوت, لو كانوا يعلمون ذلك ما اتخذوهم أولياء, فهم لا ينفعونهم ولا يضرونهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 )
إن الله يعلم ما يشركون به من الأنداد, وأنها ليست بشيء في الحقيقة, بل هي مجرد أسماء سَمَّوها, لا تنفع ولا تضر. وهو العزيز في انتقامه ممن كفر به, الحكيم في تدبيره وصنعه.
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ( 43 )
وهذه الأمثال نضربها للناس; لينتفعوا بها ويتعلموا منها, وما يعقلها إلا العالمون بالله وآياته وشرعه.
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ( 44 )
خلق الله السموات والأرض بالعدل والقسط, إن في خلقه ذلك لدلالة عظيمة على قدرته، وتفرده بالإلهية، وخَصَّ المؤمنين؛ لأنهم الذين ينتفعون بذلك.
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 45 )
اتل ما أُنزل إليك من هذا القرآن, واعمل به, وأدِّ الصلاة بحدودها, إن المحافظة على الصلاة تنهى صاحبها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات; وذلك لأن المقيم لها, المتمم لأركانها وشروطها, يستنير قلبه, ويزداد إيمانه, وتقوى رغبته في الخير, وتقل أو تنعدم رغبته في الشر, ولَذكر الله في الصلاة وغيرها أعظم وأكبر وأفضل من كل شيء. والله يعلم ما تصنعون مِن خيرٍ وشر, فيجازيكم على ذلك أكمل الجزاء وأوفاه.
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 )
ولا تجادلوا - أيها المؤمنون- اليهودَ والنصارى إلا بالأسلوب الحسن, والقول الجميل, والدعوة إلى الحق بأيسر طريق موصل لذلك, إلا الذين حادوا عن وجه الحق وعاندوا وكابروا وأعلنوا الحرب عليكم فجالدوهم بالسيف حتى يؤمنوا, أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون, وقولوا: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا, وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذَيْن أُنزلا إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في ألوهيته, ولا في ربوبيته, ولا في أسمائه وصفاته, ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا به, ونهانا عنه.
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ( 47 )
وكما أنزلنا - أيها الرسول- الكتب على مَن قبلك من الرسل, أنزلنا إليك هذا الكتاب المصدق للكتب السابقة, فالذين آتيناهم الكتاب من بني إسرائيل فعرفوه حق معرفته يؤمنون بالقرآن, ومِن هؤلاء العرب من قريش وغيرهم مَن يؤمن به, ولا ينكر القرآن أو يتشكك في دلائله وبراهينه البينة إلا الكافرون الذين دَأْبُهم الجحود والعناد.
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( 48 )
من معجزاتك البينة - أيها الرسول- أنك لم تقرأ كتابًا ولم تكتب حروفًا بيمينك قبل نزول القرآن عليك, وهم يعرفون ذلك, ولو كنت قارئًا أو كاتبًا من قبل أن يوحى إليك لشك في ذلك المبطلون, وقالوا: تعلَّمه من الكتب السابقة أو استنسخه منها.
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ( 49 )
بل القرآن آيات بينات واضحة في الدلالة على الحق يحفظه العلماء, وما يكذِّب بآياتنا ويردها إلا الظالمون المعاندون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 )
وقال المشركون: هلا أُنزل على محمد دلائل وحجج من ربه نشاهدها كناقة صالح, وعصا موسى! قل لهم: إن أمر هذه الآيات لله, إن شاء أنزلها, وإن شاء منعها, وإنما أنا لكم نذير أحذركم شدة بأسه وعقابه, مبيِّن طريق الحق من الباطل.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 51 )
أولم يكف هؤلاء المشركين في علمهم بصدقك - أيها الرسول- أنَّا أنزلنا عليك القرآن يتلى عليهم؟ إن في هذا القرآن لَرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة, وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 52 )
قل: كفى بالله بيني وبينكم شاهدًا على صدقي أني رسوله, وعلى تكذيبكم لي وردكم الحق الذي جئتُ به من عند الله, يعلم ما في السموات والأرض, فلا يخفى عليه شيء فيهما. والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله - مع هذه الدلائل الواضحة- أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 53 )
ويستعجلك - أيها الرسول- هؤلاء المشركون من قومك بالعذاب استهزاء, ولولا أن الله جعل لعذابهم في الدنيا وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر, لجاءهم العذاب حين طلبوه, وليأتينهم فجأة, وهم لا يشعرون به ولا يُحِسُّون.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 54 )
يستعجلونك بالعذاب في الدنيا, وهو آتيهم لا محالة إمَّا في الدنيا وإما في الآخرة, وإن عذاب جهنم في الآخرة لمحيط بهم, لا مفرَّ لهم منه.
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 55 )
يوم القيامة يغشى الكافرين عذاب جهنم من فوق رؤوسهم, ومِن تحت أقدامهم, فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم, ويقول الله لهم حينئذ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا: من الإشراك بالله, وارتكاب الجرائم والآثام.
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( 56 )
يا عبادي الذين آمنوا إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان وعبادة الله وحده, فهاجِروا إلى أرض الله الواسعة, وأخلصوا العبادة لي وحدي.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 57 )
كل نفس حية ذائقة الموت, ثم إلينا ترجعون للحساب والجزاء.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 58 )
والذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا ما أُمروا به من الصالحات لننزلنَّهم من الجنة غرفًا عالية تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا, نِعْمَ جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف في جنات النعيم.
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 59 )
إن تلك الجنات المذكورة للمؤمنين الذين صبروا على عبادة الله, وتمسكوا بدينهم, وعلى الله يعتمدون في أرزاقهم وجهاد أعدائهم.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 60 )
وكم من دابة لا تدَّخر غذاءها لغد, كما يفعل ابن آدم, فالله سبحانه وتعالى يرزقها كما يرزقكم, وهو السميع لأقوالكم, العليم بأفعالكم وخطرات قلوبكم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 61 )
ولئن سألت - أيها الرسول- المشركين: من الذي خلق السموات والأرض على هذا النظام البديع, وذلَّل الشمس والقمر؟ ليقولُنَّ: خلقهن الله وحده, فكيف يصرفون عن الإيمان بالله خالق كل شيء ومدبره, ويعبدون معه غيره؟ فاعجب من إفكهم وكذبهم!!
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 62 )
الله سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من خلقه, ويضيق على آخرين منهم; لعلمه بما يصلح عباده, إن الله بكل شيء من أحوالكم وأموركم عليم, لا يخفى عليه شيء.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 63 )
ولئن سألت - أيها الرسول- المشركين: مَنِ الذي نزَّل من السحاب ماء فأنبت به الأرض من بعد جفافها؟ ليقولُنَّ لك معترفين: الله وحده هو الذي نزَّل ذلك, قل: الحمد لله الذي أظهر حجتك عليهم, بل أكثرهم لا يعقلون ما ينفعهم ولا ما يضرهم, ولو عَقَلوا ما أشركوا مع الله غيره.
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 64 )
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب, تلهو بها القلوب وتلعب بها الأبدان; بسبب ما فيها من الزينة والشهوات, ثم تزول سريعًا, وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها, لو كان الناس يعلمون ذلك لما آثروا دار الفناء على دار البقاء.
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( 65 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 66 )
فإذا ركب الكفار السفن في البحر, وخافوا الغرق, وحَّدوا الله, وأخلصوا له في الدعاء حال شدتهم, فلما نجَّاهم إلى البر, وزالت عنهم الشدة, عادوا إلى شركهم, إنهم بهذا يتناقضون, يوحِّدون الله ساعة الشدة, ويشركون به ساعة الرخاء. وشِرْكهم بعد نعمتنا عليهم بالنجاة من البحر; ليكونَ عاقبته الكفر بما أنعمنا عليهم في أنفسهم وأموالهم, وليكملوا تمتعهم في هذه الدنيا, فسوف يعلمون فساد عملهم, وما أعدَّه الله لهم من عذاب أليم يوم القيامة. وفي ذلك تهديد ووعيد لهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ( 67 )
أولم يشاهد كفار « مكة » أن الله جعل « مكة » لهم حَرَمًا آمنًا يأمن فيه أهله على أنفسهم وأموالهم, والناسُ مِن حولهم خارج الحرم, يُتَخَطَّفون غير آمنين؟ أفبالشرك يؤمنون, وبنعمة الله التي خصَّهم بها يكفرون, فلا يعبدونه وحده دون سواه؟
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 68 )
لا أحد أشد ظلمًا ممن كذَب على الله, فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى الله, أو كذَّب بالحق الذي بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إن في النار لمسكنًا لمن كفر بالله, وجحد توحيده وكذَّب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 69 )
والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله, والنفس, والشيطان, وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله, سيهديهم الله سبل الخير, ويثبتهم على الصراط المستقيم, ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الروم .. بن كثير
====
الم ( 1 )
( الم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4 ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 5 )
غَلَبت فارسُ الرومَ في أدنى أرض « الشام » إلى « فارس » , وسوف يَغْلِب الرومُ الفرسَ في مدة من الزمن, لا تزيد على عشر سنوات ولا تنقص عن ثلاث. لله سبحانه وتعالى الأمر كله قبل انتصار الروم وبعده, ويوم ينتصر الروم على الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله للروم على الفرس. والله سبحانه وتعالى ينصر من يشاء, ويخذل من يشاء, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الرحيم بمن شاء من خلقه. وقد تحقق ذلك فغَلَبَت الرومُ الفرسَ بعد سبع سنين, وفرح المسلمون بذلك; لكون الروم أهل كتاب وإن حرَّفوه.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 6 ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( 7 )
وعد الله المؤمنين وعدًا جازمًا لا يتخلف, بنصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين, ولكن أكثر كفار « مكة » لا يعلمون أن ما وعد الله به حق, وإنما يعلمون ظواهر الدنيا وزخرفها, وهم عن أمور الآخرة وما ينفعهم فيها غافلون, لا يفكرون فيها.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( 8 )
أولم يتفكر هؤلاء المكذِّبون برسل الله ولقائه في خلق الله إياهم, وأنه خلقهم, ولم يكونوا شيئًا. ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا لإقامة العدل والثواب والعقاب, والدلالة على توحيده وقدرته, وأجل مسمى تنتهي إليه وهو يوم القيامة؟ وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لجاحدون منكرون; جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم, وغفلةً منهم عن الآخرة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 9 )
أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بالله الغافلون عن الآخرة في الأرض سَيْرَ تأمل واعتبار, فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذَّبوا برسل الله كعاد وثمود؟ وقد كانوا أقوى منهم أجسامًا, وأقدر على التمتع بالحياة حيث حرثوا الأرض وزرعوها, وبنَوْا القصور وسكنوها, فعَمَروا دنياهم أكثر مما عَمَر أهل « مكة » دنياهم, فلم تنفعهم عِمارتهم ولا طول مدتهم, وجاءتهم رسلهم بالحجج الظاهرة والبراهين الساطعة, فكذَّبوهم فأهلكهم الله, ولم يظلمهم الله بذلك الإهلاك, وإنما ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان.
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )
ثم كانت عاقبة أهل السوء من الطغاة والكفرة أسوأ العواقب وأقبحها; لتكذيبهم بالله وسخريتهم بآياته التي أنزلها على رسله.
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 11 )
الله وحده هو المتفرد بإنشاء المخلوقات كلها, وهو القادر وحده على إعادتها مرة أخرى, ثم إليه يرجع جميع الخلق, فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( 12 )
ويوم تقوم الساعة ييئس المجرمون من النجاة من العذاب, وتصيبهم الحَيْرة فتنقطع حجتهم.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( 13 )
ولم يكن للمشركين في ذلك اليوم من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شفعاء, بل إنها تتبرأ منهم, ويتبرؤون منها. فالشفاعة لله وحده, ولا تُطلَب من غيره.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( 14 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( 15 )
ويوم تقوم الساعة يفترق أهل الإيمان به وأهل الكفر, فأما المؤمنون بالله ورسوله, العاملون الصالحات فهم في الجنة, يكرَّمون ويسرُّون وينعَّمون.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 16 )
وأما الذين كفروا بالله وكذَّبوا بما جاءت به الرسل وأنكروا البعث بعد الموت, فأولئك في العذاب مقيمون; جزاء ما كذَّبوا به في الدنيا.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( 18 )
فيا أيها المؤمنون سبِّحوا الله ونزِّهوه عن الشريك والصاحبة والولد, وَصِفوه بصفات الكمال بألسنتكم, وحقِّقوا ذلك بجوارحكم كلها حين تمسون, وحين تصبحون, ووقت العشي, ووقت الظهيرة. وله - سبحانه- الحمد والثناء في السموات والأرض وفي الليل والنهار.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 19 )
يخرج الله الحي من الميت كالإنسان من النطفة والطير من البيضة, ويخرج الميت من الحي, كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطير. ويحيي الأرض بالنبات بعد يُبْسها وجفافها, ومثل هذا الإحياء تخرجون - أيها الناس- من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ( 20 )
ومن آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق أباكم آدم من تراب, ثم أنتم بشر تتناسلون منتشرين في الأرض, تبتغون من فضل الله.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 )
ومن آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لأجلكم من جنسكم - أيها الرجال- أزواجًا; لتطمئن نفوسكم إليها وتسكن, وجعل بين المرأة وزوجها محبة وشفقة, إن في خلق الله ذلك لآيات دالة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يتفكرون, ويتدبرون.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ( 22 )
ومن دلائل القدرة الربانية: خَلْقُ السموات وارتفاعها بغير عمد, وخَلْقُ الأرض مع اتساعها وامتدادها, واختلافُ لغاتكم وتباينُ ألوانكم, إن في هذا لَعبرة لكل ذي علم وبصيرة.
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 23 )
ومن دلائل هذه القدرة أن جعل الله النوم راحة لكم في الليل أو النهار; إذ في النوم حصول الراحة وذهاب التعب, وجعل لكم النهار تنتشرون فيه لطلب الرزق, إن في ذلك لدلائل على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته لقوم يسمعون المواعظ سماع تأمل وتفكر واعتبار.
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 24 )
ومن دلائل قدرته سبحانه أن يريكم البرق, فتخافون من الصواعق, وتطمعون في الغيث, وينزل من السحاب مطرًا فيحيي به الأرض بعد جدبها وجفافها, إن في هذا لدليلا على كمال قدرة الله وعظيم حكمته وإحسانه لكل مَن لديه عقل يهتدي به.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ( 25 )
ومن آياته الدالة على قدرته قيام السماء والأرض واستقرارهما وثباتهما بأمره, فلم تتزلزلا ولم تسقط السماء على الأرض, ثم إذا دعاكم الله إلى البعث يوم القيامة, إذا أنتم تخرجون من القبور مسرعين.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 26 )
ولله وحده كل مَن في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد, كل هؤلاء منقادون لأمره خاضعون لكماله.
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 )
والله وحده الذي يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده حيًا بعد الموت, وإعادة الخلق حيًا بعد الموت أهون على الله من ابتداء خلقهم, وكلاهما عليه هيِّن. وله سبحانه الوصف الأعلى في كل ما يوصف به, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير. وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله, وتدبير أمور خلقه.
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 28 )
ضرب الله مثلا لكم - أيها المشركون - من أنفسكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم مَن يشارككم في رزقكم, وترون أنكم وإياهم متساوون فيه, تخافونهم كما تخافون الأحرار الشركاء في مقاسمة أموالكم؟ إنكم لن ترضوا بذلك, فكيف ترضون بذلك في جنب الله بأن تجعلوا له شريكًا من خلقه؟ وبمثل هذا البيان نبيِّن البراهين والحجج لأصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بها.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 29 )
بل اتبع المشركون أهواءهم بتقليد آبائهم بغير علم, فشاركوهم في الجهل والضلالة، ولا أحد يقدر على هداية مَن أضلَّه الله بسبب تماديه في الكفر والعناد, وليس لهؤلاء مِن أنصار يُخَلِّصونهم من عذاب الله.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 30 )
فأقم - أيها الرسول أنت ومن اتبعك- وجهك, واستمر على الدين الذي شرعه الله لك, وهو الإسلام الذي فطر الله الناس عليه, فبقاؤكم عليه, وتمسككم به, تمسك بفطرة الله من الإيمان بالله وحده, لا تبديل لخلق الله ودينه, فهو الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله رب العالمين وجنته, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الذي أمرتك به - أيها الرسول- هو الدين الحق دون سواه.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 )
وكونوا راجعين إلى الله بالتوبة وإخلاص العمل له, واتقوه بفعل الأوامر واجتناب النواهي, وأقيموا الصلاة تامة بأركانها وواجباتها وشروطها, ولا تكونوا من المشركين مع الله غيره في العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 32 )
ولا تكونوا من المشركين وأهل الأهواء والبدع الذين بدَّلوا دينهم, وغيَّروه, فأخذوا بعضه, وتركوا بعضه; تبعًا لأهوائهم, فصاروا فرقًا وأحزابًا, يتشيعون لرؤسائهم وأحزابهم وآرائهم, يعين بعضهم بعضًا على الباطل, كل حزب بما لديهم فرحون مسرورون, يحكمون لأنفسهم بأنهم على الحق وغيرهم على الباطل.
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( 33 )
وإذا أصاب الناسَ شدة وبلاء دعَوا ربهم مخلصين له أن يكشف عنهم الضر, فإذا رحمهم وكشف عنهم ضرهم إذا فريق منهم يعودون إلى الشرك مرة أخرى, فيعبدون مع الله غيره.
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 34 )
ليكفروا بما آتيناهم ومننَّا به عليهم من كشف الضر, وزوال الشدة عنهم, فتمتعوا - أيها المشركون- بالرخاء والسَّعَة في هذه الدنيا, فسوف تعلمون ما تلقونه من العذاب والعقاب.
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( 35 )
أم أنزلنا على هؤلاء المشركين برهانًا ساطعًا وكتابًا قاطعًا, ينطق بصحة شركهم وكفرهم بالله وآياته.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( 36 )
وإذا أذقنا الناس منا نعمة مِن صحة وعافية ورخاء, فرحوا بذلك فرح بطرٍ وأَشَرٍ, لا فرح شكر, وإن يصبهم مرض وفقر وخوف وضيق بسبب ذنوبهم ومعاصيهم, إذا هم يَيْئَسون من زوال ذلك, وهذا طبيعة أكثر الناس في الرخاء والشدة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 37 )
أولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانًا, هل يشكر أو يكفر؟ ويضيِّقه على من يشاء اختبارًا, هل يصبر أو يجزع؟ إن في ذلك التوسيع والتضييق لآيات لقوم يؤمنون بالله ويعرفون حكمة الله ورحمته.
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 38 )
فأعط - أيها المؤمن- قريبك حقه من الصلة والصدقة وسائر أعمال البر, وأعط الفقير والمحتاج الذي انقطع به السبيل من الزكاة والصدقة, ذلك الإعطاء خير للذين يريدون بعملهم وجه الله, والذين يعملون هذه الأعمال وغيرها من أعمال الخير, أولئك هم الفائزون بثواب الله الناجون مِن عقابه.
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( 39 )
وما أعطيتم قرضًا من المال بقصد الربا, وطلب زيادة ذلك القرض; ليزيد وينمو في أموال الناس, فلا يزيد عند الله, بل يمحقه ويبطله. وما أعطيتم من زكاة وصدقة للمستحقين ابتغاء مرضاة الله وطلبًا لثوابه, فهذا هو الذي يقبله الله ويضاعفه لكم أضعافًا كثيرة.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 40 )
الله وحده هو الذي خلقكم - أيها الناس- ثم رزقكم في هذه الحياة, ثم يميتكم بانتهاء آجالكم, ثم يبعثكم من القبور أحياء للحساب والجزاء, هل من شركائكم مَن يفعل من ذلكم من شيء؟ تنزَّه الله وتقدَّس عن شرك هؤلاء المشركين به.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 41 )
ظهر الفساد في البر والبحر, كالجدب وقلة الأمطار وكثرة الأمراض والأوبئة; وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر; ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا; كي يتوبوا إلى الله - سبحانه- ويرجعوا عن المعاصي, فتصلح أحوالهم, وتستقيم أمورهم.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ( 42 )
قل - أيها الرسول- للمكذبين بما جئت به: سيروا في أنحاء الأرض سير اعتبار وتأمل, فانظروا كيف كان عاقبة الأمم السابقة المكذبة كقوم نوح, وعاد وثمود, تجدوا عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل؟ فقد كان أكثرهم مشركين بالله.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 )
فوجِّه وجهك - أيها الرسول- نحو الدين المستقيم, وهو الإسلام, منفذًا أوامره مجتنبًا نواهيه, واستمسك به من قبل مجيء يوم القيامة, فإذا جاء ذلك اليوم الذي لا يقدر أحد على ردِّه تفرقت الخلائق أشتاتًا متفاوتين; ليُروا أعمالهم.
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 )
من كفر فعليه عقوبة كفره, وهي خلوده في النار, ومن آمن وعمل صالحًا فلأنفسهم يهيئون منازل الجنة; بسبب تمسكهم بطاعة ربهم.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 )
ليجزي الله الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من فضله وإحسانه. إنه لا يحب الكافرين لسخطه وغضبه عليهم.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 )
ومن آيات الله الدالة على أنه الإله الحق وحده لا شريك له وعلى عظيم قدرته إرسال الرياح أمام المطر مبشرات بإثارتها للسحاب, فتستبشر بذلك النفوس; وليذيقكم من رحمته بإنزاله المطر الذي تحيا به البلاد والعباد, ولتجري السفن في البحر بأمر الله ومشيئته, ولتبتغوا من فضله بالتجارة وغيرها; فعل الله ذلك من أجل أن تشكروا له نعمه وتعبدوه وحده.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )
ولقد أرسلنا مِن قبلك - أيها الرسول- رسلا إلى قومهم مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى التوحيد, ويحذرونهم من الشرك, فجاؤوهم بالمعجزات والبراهين الساطعة, فكفر أكثرهم بربهم, فانتقمنا من الذين اكتسبوا السيئات منهم, فأهلكناهم, ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل, وكذلك نفعل بالمكذبين بك إن استمروا على تكذيبك, ولم يؤمنوا.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 )
الله - سبحانه- هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا مثقلا بالماء, فينشره الله في السماء كيف يشاء, ويجعله قطعًا متفرقة, فترى المطر يخرج من بين السحاب, فإذا ساقه الله إلى عباده إذا هم يستبشرون ويفرحون بأن الله صرف ذلك إليهم.
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 )
وإنْ كانوا من قبل نزول المطر لفي يأس وقنوط; بسبب احتباسه عنهم.
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 )
فانظر - أيها المشاهد- نظر تأمل وتدبر إلى آثار المطر في النبات والزروع والشجر, كيف يحيي به الله الأرض بعد موتها, فينبتها ويعشبها؟ إن الذي قَدَر على إحياء هذه الأرض لمحيي الموتى, وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( 51 )
ولئن أرسلنا على زروعهم ونباتهم ريحًا مفسدة, فرأوا نباتهم قد فسد بتلك الريح, فصار من بعد خضرته مصفرًا, لمكثوا من بعد رؤيتهم له يكفرون بالله ويجحدون نعمه.
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 52 )
فإنك - أيها الرسول- لا تسمع من مات قلبه, أو سدَّ أذنه عن سماع الحق, فلا تجزع ولا تحزن على عدم إيمان هؤلاء المشركين بك, فإنهم كالصم والموتى لا يسمعون, ولا يشعرون ولو كانوا حاضرين, فكيف إذا كانوا غائبين عنك مدبرين؟
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ( 53 )
وما أنت - أيها الرسول- بمرشد مَن أعماه الله عن طريق الهدى, ما تُسمع سماع انتفاع إلا مَن يؤمن بآياتنا, فهم خاضعون ممتثلون لأمر الله.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( 54 )
الله تعالى هو الذي خلقكم من ماء ضعيف مهين, وهو النطفة, ثم جعل من بعد ضعف الطفولة قوة الرجولة, ثم جعل من بعد هذه القوة ضعف الكبر والهرم, يخلق الله ما يشاء من الضعف والقوة, وهو العليم بخلقه, القادر على كل شيء.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( 55 )
ويوم تجيء القيامة ويبعث الله الخلق من قبورهم يقسم المشركون ما مكثوا في الدنيا غير فترة قصيرة من الزمن, كذبوا في قسمهم, كما كانوا يكذبون في الدنيا, وينكرون الحق الذي جاءت به الرسل.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 56 )
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان بالله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين: لقد مكثتم فيما كتب الله مما سبق في علمه من يوم خُلقتم إلى أن بُعثتم, فهذا يوم البعث, ولكنكم كنتم لا تعلمون, فأنكرتموه في الدنيا, وكذَّبتم به.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 57 )
فيوم القيامة لا ينفع الظالمين ما يقدمونه من أعذار, ولا يُطلب منهم إرضاء الله تعالى بالتوبة والطاعة, بل يُعاقبون بسيئاتهم ومعاصيهم.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ ( 58 )
ولقد بينَّا للناس في هذا القرآن مِن كل مثل من أجل إقامة الحجة عليهم وإثبات وحدانية الله جل وعلا ، ولئن جئتهم - أيها الرسول- بأي حجة تدل على صدقك ليقولَنَّ الذين كفروا بك: ما أنتم - أيها الرسول وأتباعك- إلا مبطلون فيما تجيئوننا به من الأمور.
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 59 )
ومثل ذلك الختم يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به - أيها الرسول- من عند الله من هذه العبر والآيات البينات.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( 60 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما ينالك مِن أذى قومك وتكذيبهم لك, إن ما وعدك الله به من نصر وتمكين وثواب حق لا شك فيه, ولا يستفزَّنَّك عن دينك الذين لا يوقنون بالميعاد, ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء.
====
الم ( 1 )
( الم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4 ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 5 )
غَلَبت فارسُ الرومَ في أدنى أرض « الشام » إلى « فارس » , وسوف يَغْلِب الرومُ الفرسَ في مدة من الزمن, لا تزيد على عشر سنوات ولا تنقص عن ثلاث. لله سبحانه وتعالى الأمر كله قبل انتصار الروم وبعده, ويوم ينتصر الروم على الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله للروم على الفرس. والله سبحانه وتعالى ينصر من يشاء, ويخذل من يشاء, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الرحيم بمن شاء من خلقه. وقد تحقق ذلك فغَلَبَت الرومُ الفرسَ بعد سبع سنين, وفرح المسلمون بذلك; لكون الروم أهل كتاب وإن حرَّفوه.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 6 ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( 7 )
وعد الله المؤمنين وعدًا جازمًا لا يتخلف, بنصر الروم النصارى على الفرس الوثنيين, ولكن أكثر كفار « مكة » لا يعلمون أن ما وعد الله به حق, وإنما يعلمون ظواهر الدنيا وزخرفها, وهم عن أمور الآخرة وما ينفعهم فيها غافلون, لا يفكرون فيها.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( 8 )
أولم يتفكر هؤلاء المكذِّبون برسل الله ولقائه في خلق الله إياهم, وأنه خلقهم, ولم يكونوا شيئًا. ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا لإقامة العدل والثواب والعقاب, والدلالة على توحيده وقدرته, وأجل مسمى تنتهي إليه وهو يوم القيامة؟ وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لجاحدون منكرون; جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم, وغفلةً منهم عن الآخرة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 9 )
أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون بالله الغافلون عن الآخرة في الأرض سَيْرَ تأمل واعتبار, فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذَّبوا برسل الله كعاد وثمود؟ وقد كانوا أقوى منهم أجسامًا, وأقدر على التمتع بالحياة حيث حرثوا الأرض وزرعوها, وبنَوْا القصور وسكنوها, فعَمَروا دنياهم أكثر مما عَمَر أهل « مكة » دنياهم, فلم تنفعهم عِمارتهم ولا طول مدتهم, وجاءتهم رسلهم بالحجج الظاهرة والبراهين الساطعة, فكذَّبوهم فأهلكهم الله, ولم يظلمهم الله بذلك الإهلاك, وإنما ظلموا أنفسهم بالشرك والعصيان.
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )
ثم كانت عاقبة أهل السوء من الطغاة والكفرة أسوأ العواقب وأقبحها; لتكذيبهم بالله وسخريتهم بآياته التي أنزلها على رسله.
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 11 )
الله وحده هو المتفرد بإنشاء المخلوقات كلها, وهو القادر وحده على إعادتها مرة أخرى, ثم إليه يرجع جميع الخلق, فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( 12 )
ويوم تقوم الساعة ييئس المجرمون من النجاة من العذاب, وتصيبهم الحَيْرة فتنقطع حجتهم.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( 13 )
ولم يكن للمشركين في ذلك اليوم من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شفعاء, بل إنها تتبرأ منهم, ويتبرؤون منها. فالشفاعة لله وحده, ولا تُطلَب من غيره.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( 14 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( 15 )
ويوم تقوم الساعة يفترق أهل الإيمان به وأهل الكفر, فأما المؤمنون بالله ورسوله, العاملون الصالحات فهم في الجنة, يكرَّمون ويسرُّون وينعَّمون.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 16 )
وأما الذين كفروا بالله وكذَّبوا بما جاءت به الرسل وأنكروا البعث بعد الموت, فأولئك في العذاب مقيمون; جزاء ما كذَّبوا به في الدنيا.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( 18 )
فيا أيها المؤمنون سبِّحوا الله ونزِّهوه عن الشريك والصاحبة والولد, وَصِفوه بصفات الكمال بألسنتكم, وحقِّقوا ذلك بجوارحكم كلها حين تمسون, وحين تصبحون, ووقت العشي, ووقت الظهيرة. وله - سبحانه- الحمد والثناء في السموات والأرض وفي الليل والنهار.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 19 )
يخرج الله الحي من الميت كالإنسان من النطفة والطير من البيضة, ويخرج الميت من الحي, كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطير. ويحيي الأرض بالنبات بعد يُبْسها وجفافها, ومثل هذا الإحياء تخرجون - أيها الناس- من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ( 20 )
ومن آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق أباكم آدم من تراب, ثم أنتم بشر تتناسلون منتشرين في الأرض, تبتغون من فضل الله.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 )
ومن آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لأجلكم من جنسكم - أيها الرجال- أزواجًا; لتطمئن نفوسكم إليها وتسكن, وجعل بين المرأة وزوجها محبة وشفقة, إن في خلق الله ذلك لآيات دالة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يتفكرون, ويتدبرون.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ( 22 )
ومن دلائل القدرة الربانية: خَلْقُ السموات وارتفاعها بغير عمد, وخَلْقُ الأرض مع اتساعها وامتدادها, واختلافُ لغاتكم وتباينُ ألوانكم, إن في هذا لَعبرة لكل ذي علم وبصيرة.
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 23 )
ومن دلائل هذه القدرة أن جعل الله النوم راحة لكم في الليل أو النهار; إذ في النوم حصول الراحة وذهاب التعب, وجعل لكم النهار تنتشرون فيه لطلب الرزق, إن في ذلك لدلائل على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته لقوم يسمعون المواعظ سماع تأمل وتفكر واعتبار.
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 24 )
ومن دلائل قدرته سبحانه أن يريكم البرق, فتخافون من الصواعق, وتطمعون في الغيث, وينزل من السحاب مطرًا فيحيي به الأرض بعد جدبها وجفافها, إن في هذا لدليلا على كمال قدرة الله وعظيم حكمته وإحسانه لكل مَن لديه عقل يهتدي به.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ( 25 )
ومن آياته الدالة على قدرته قيام السماء والأرض واستقرارهما وثباتهما بأمره, فلم تتزلزلا ولم تسقط السماء على الأرض, ثم إذا دعاكم الله إلى البعث يوم القيامة, إذا أنتم تخرجون من القبور مسرعين.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 26 )
ولله وحده كل مَن في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد, كل هؤلاء منقادون لأمره خاضعون لكماله.
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 )
والله وحده الذي يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده حيًا بعد الموت, وإعادة الخلق حيًا بعد الموت أهون على الله من ابتداء خلقهم, وكلاهما عليه هيِّن. وله سبحانه الوصف الأعلى في كل ما يوصف به, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير. وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله, وتدبير أمور خلقه.
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 28 )
ضرب الله مثلا لكم - أيها المشركون - من أنفسكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم مَن يشارككم في رزقكم, وترون أنكم وإياهم متساوون فيه, تخافونهم كما تخافون الأحرار الشركاء في مقاسمة أموالكم؟ إنكم لن ترضوا بذلك, فكيف ترضون بذلك في جنب الله بأن تجعلوا له شريكًا من خلقه؟ وبمثل هذا البيان نبيِّن البراهين والحجج لأصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بها.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 29 )
بل اتبع المشركون أهواءهم بتقليد آبائهم بغير علم, فشاركوهم في الجهل والضلالة، ولا أحد يقدر على هداية مَن أضلَّه الله بسبب تماديه في الكفر والعناد, وليس لهؤلاء مِن أنصار يُخَلِّصونهم من عذاب الله.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 30 )
فأقم - أيها الرسول أنت ومن اتبعك- وجهك, واستمر على الدين الذي شرعه الله لك, وهو الإسلام الذي فطر الله الناس عليه, فبقاؤكم عليه, وتمسككم به, تمسك بفطرة الله من الإيمان بالله وحده, لا تبديل لخلق الله ودينه, فهو الطريق المستقيم الموصل إلى رضا الله رب العالمين وجنته, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الذي أمرتك به - أيها الرسول- هو الدين الحق دون سواه.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 )
وكونوا راجعين إلى الله بالتوبة وإخلاص العمل له, واتقوه بفعل الأوامر واجتناب النواهي, وأقيموا الصلاة تامة بأركانها وواجباتها وشروطها, ولا تكونوا من المشركين مع الله غيره في العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 32 )
ولا تكونوا من المشركين وأهل الأهواء والبدع الذين بدَّلوا دينهم, وغيَّروه, فأخذوا بعضه, وتركوا بعضه; تبعًا لأهوائهم, فصاروا فرقًا وأحزابًا, يتشيعون لرؤسائهم وأحزابهم وآرائهم, يعين بعضهم بعضًا على الباطل, كل حزب بما لديهم فرحون مسرورون, يحكمون لأنفسهم بأنهم على الحق وغيرهم على الباطل.
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( 33 )
وإذا أصاب الناسَ شدة وبلاء دعَوا ربهم مخلصين له أن يكشف عنهم الضر, فإذا رحمهم وكشف عنهم ضرهم إذا فريق منهم يعودون إلى الشرك مرة أخرى, فيعبدون مع الله غيره.
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 34 )
ليكفروا بما آتيناهم ومننَّا به عليهم من كشف الضر, وزوال الشدة عنهم, فتمتعوا - أيها المشركون- بالرخاء والسَّعَة في هذه الدنيا, فسوف تعلمون ما تلقونه من العذاب والعقاب.
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( 35 )
أم أنزلنا على هؤلاء المشركين برهانًا ساطعًا وكتابًا قاطعًا, ينطق بصحة شركهم وكفرهم بالله وآياته.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( 36 )
وإذا أذقنا الناس منا نعمة مِن صحة وعافية ورخاء, فرحوا بذلك فرح بطرٍ وأَشَرٍ, لا فرح شكر, وإن يصبهم مرض وفقر وخوف وضيق بسبب ذنوبهم ومعاصيهم, إذا هم يَيْئَسون من زوال ذلك, وهذا طبيعة أكثر الناس في الرخاء والشدة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 37 )
أولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانًا, هل يشكر أو يكفر؟ ويضيِّقه على من يشاء اختبارًا, هل يصبر أو يجزع؟ إن في ذلك التوسيع والتضييق لآيات لقوم يؤمنون بالله ويعرفون حكمة الله ورحمته.
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 38 )
فأعط - أيها المؤمن- قريبك حقه من الصلة والصدقة وسائر أعمال البر, وأعط الفقير والمحتاج الذي انقطع به السبيل من الزكاة والصدقة, ذلك الإعطاء خير للذين يريدون بعملهم وجه الله, والذين يعملون هذه الأعمال وغيرها من أعمال الخير, أولئك هم الفائزون بثواب الله الناجون مِن عقابه.
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( 39 )
وما أعطيتم قرضًا من المال بقصد الربا, وطلب زيادة ذلك القرض; ليزيد وينمو في أموال الناس, فلا يزيد عند الله, بل يمحقه ويبطله. وما أعطيتم من زكاة وصدقة للمستحقين ابتغاء مرضاة الله وطلبًا لثوابه, فهذا هو الذي يقبله الله ويضاعفه لكم أضعافًا كثيرة.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 40 )
الله وحده هو الذي خلقكم - أيها الناس- ثم رزقكم في هذه الحياة, ثم يميتكم بانتهاء آجالكم, ثم يبعثكم من القبور أحياء للحساب والجزاء, هل من شركائكم مَن يفعل من ذلكم من شيء؟ تنزَّه الله وتقدَّس عن شرك هؤلاء المشركين به.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 41 )
ظهر الفساد في البر والبحر, كالجدب وقلة الأمطار وكثرة الأمراض والأوبئة; وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر; ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا; كي يتوبوا إلى الله - سبحانه- ويرجعوا عن المعاصي, فتصلح أحوالهم, وتستقيم أمورهم.
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ( 42 )
قل - أيها الرسول- للمكذبين بما جئت به: سيروا في أنحاء الأرض سير اعتبار وتأمل, فانظروا كيف كان عاقبة الأمم السابقة المكذبة كقوم نوح, وعاد وثمود, تجدوا عاقبتهم شر العواقب ومآلهم شر مآل؟ فقد كان أكثرهم مشركين بالله.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 )
فوجِّه وجهك - أيها الرسول- نحو الدين المستقيم, وهو الإسلام, منفذًا أوامره مجتنبًا نواهيه, واستمسك به من قبل مجيء يوم القيامة, فإذا جاء ذلك اليوم الذي لا يقدر أحد على ردِّه تفرقت الخلائق أشتاتًا متفاوتين; ليُروا أعمالهم.
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 )
من كفر فعليه عقوبة كفره, وهي خلوده في النار, ومن آمن وعمل صالحًا فلأنفسهم يهيئون منازل الجنة; بسبب تمسكهم بطاعة ربهم.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 )
ليجزي الله الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من فضله وإحسانه. إنه لا يحب الكافرين لسخطه وغضبه عليهم.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 )
ومن آيات الله الدالة على أنه الإله الحق وحده لا شريك له وعلى عظيم قدرته إرسال الرياح أمام المطر مبشرات بإثارتها للسحاب, فتستبشر بذلك النفوس; وليذيقكم من رحمته بإنزاله المطر الذي تحيا به البلاد والعباد, ولتجري السفن في البحر بأمر الله ومشيئته, ولتبتغوا من فضله بالتجارة وغيرها; فعل الله ذلك من أجل أن تشكروا له نعمه وتعبدوه وحده.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )
ولقد أرسلنا مِن قبلك - أيها الرسول- رسلا إلى قومهم مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى التوحيد, ويحذرونهم من الشرك, فجاؤوهم بالمعجزات والبراهين الساطعة, فكفر أكثرهم بربهم, فانتقمنا من الذين اكتسبوا السيئات منهم, فأهلكناهم, ونصرنا المؤمنين أتباع الرسل, وكذلك نفعل بالمكذبين بك إن استمروا على تكذيبك, ولم يؤمنوا.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 )
الله - سبحانه- هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا مثقلا بالماء, فينشره الله في السماء كيف يشاء, ويجعله قطعًا متفرقة, فترى المطر يخرج من بين السحاب, فإذا ساقه الله إلى عباده إذا هم يستبشرون ويفرحون بأن الله صرف ذلك إليهم.
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 )
وإنْ كانوا من قبل نزول المطر لفي يأس وقنوط; بسبب احتباسه عنهم.
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 )
فانظر - أيها المشاهد- نظر تأمل وتدبر إلى آثار المطر في النبات والزروع والشجر, كيف يحيي به الله الأرض بعد موتها, فينبتها ويعشبها؟ إن الذي قَدَر على إحياء هذه الأرض لمحيي الموتى, وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( 51 )
ولئن أرسلنا على زروعهم ونباتهم ريحًا مفسدة, فرأوا نباتهم قد فسد بتلك الريح, فصار من بعد خضرته مصفرًا, لمكثوا من بعد رؤيتهم له يكفرون بالله ويجحدون نعمه.
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 52 )
فإنك - أيها الرسول- لا تسمع من مات قلبه, أو سدَّ أذنه عن سماع الحق, فلا تجزع ولا تحزن على عدم إيمان هؤلاء المشركين بك, فإنهم كالصم والموتى لا يسمعون, ولا يشعرون ولو كانوا حاضرين, فكيف إذا كانوا غائبين عنك مدبرين؟
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ( 53 )
وما أنت - أيها الرسول- بمرشد مَن أعماه الله عن طريق الهدى, ما تُسمع سماع انتفاع إلا مَن يؤمن بآياتنا, فهم خاضعون ممتثلون لأمر الله.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( 54 )
الله تعالى هو الذي خلقكم من ماء ضعيف مهين, وهو النطفة, ثم جعل من بعد ضعف الطفولة قوة الرجولة, ثم جعل من بعد هذه القوة ضعف الكبر والهرم, يخلق الله ما يشاء من الضعف والقوة, وهو العليم بخلقه, القادر على كل شيء.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( 55 )
ويوم تجيء القيامة ويبعث الله الخلق من قبورهم يقسم المشركون ما مكثوا في الدنيا غير فترة قصيرة من الزمن, كذبوا في قسمهم, كما كانوا يكذبون في الدنيا, وينكرون الحق الذي جاءت به الرسل.
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 56 )
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان بالله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين: لقد مكثتم فيما كتب الله مما سبق في علمه من يوم خُلقتم إلى أن بُعثتم, فهذا يوم البعث, ولكنكم كنتم لا تعلمون, فأنكرتموه في الدنيا, وكذَّبتم به.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 57 )
فيوم القيامة لا ينفع الظالمين ما يقدمونه من أعذار, ولا يُطلب منهم إرضاء الله تعالى بالتوبة والطاعة, بل يُعاقبون بسيئاتهم ومعاصيهم.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ ( 58 )
ولقد بينَّا للناس في هذا القرآن مِن كل مثل من أجل إقامة الحجة عليهم وإثبات وحدانية الله جل وعلا ، ولئن جئتهم - أيها الرسول- بأي حجة تدل على صدقك ليقولَنَّ الذين كفروا بك: ما أنتم - أيها الرسول وأتباعك- إلا مبطلون فيما تجيئوننا به من الأمور.
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 59 )
ومثل ذلك الختم يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به - أيها الرسول- من عند الله من هذه العبر والآيات البينات.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( 60 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما ينالك مِن أذى قومك وتكذيبهم لك, إن ما وعدك الله به من نصر وتمكين وثواب حق لا شك فيه, ولا يستفزَّنَّك عن دينك الذين لا يوقنون بالميعاد, ولا يصدِّقون بالبعث والجزاء.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة السجدة .. بن كثير
=====
الم ( 1 )
( الم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )
هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنه منزل من عند الله، رب الخلائق أجمعين.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 3 )
بل أيقول المشركون: اختلق محمد صلى الله عليه وسلم القرآن؟ كذَبوا, بل هو الحق الثابت المنزل عليك - أيها الرسول- من ربك; لتنذر به أناسًا لم يأتهم نذير من قبلك, لعلهم يهتدون, فيعرفوا الحق ويؤمنوا به ويؤثروه, ويؤمنوا بك.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 )
الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لحكمة يعلمها, وهو قادر أن يخلقها بكلمة « كن » فتكون, ثم استوى سبحانه وتعالى - أي علا وارتفع- على عرشه استواء يليق بجلاله, لا يكيَّف, ولا يشبَّه باستواء المخلوقين. ليس لكم - أيها الناس- من وليٍّ يلي أموركم, أو شفيع يشفع لكم عند الله؛ لتنجوا من عذابه, أفلا تتعظون وتتفكرون - أيها الناس- , فتُفردوا الله بالألوهية وتُخلصوا له العبادة؟
يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ( 5 )
يدبر الله تعالى أَمْر المخلوقات من السماء إلى الأرض, ثم يصعد ذلك الأمر والتدبير إلى الله في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي تعدُّونها.
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 6 )
ذلك الخالق المدبِّر لشؤون العالمين, عالم بكل ما يغيب عن الأبصار, مما تُكِنُّه الصدور وتخفيه النفوس, وعالم بما شاهدته الأبصار, وهو القويُّ الظاهر الذي لا يغالَب, الرحيم بعباده المؤمنين.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ( 7 )
الله الذي أحكم خلق كل شيء, وبدأ خَلْقَ الإنسان, وهو آدم عليه السلام من طين.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ( 8 )
ثم جعل ذرية آدم متناسلة من نطفة ضعيفة رقيقة مهينة.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 9 )
ثم أتم خلق الإنسان وأبدعه, وأحسن خلقته, ونفخ فيه مِن روحه بإرسال الملك له؛ لينفخ فيه الروح, وجعل لكم - أيها الناس- نعمة السمع والأبصار يُميَّز بها بين الأصوات والألوان والذوات والأشخاص, ونعمة العقل يُميَّز بها بين الخير والشر والنافع والضار. قليلا ما تشكرون ربكم على ما أنعم به عليكم.
وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( 10 )
وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أإذا صارت لحومنا وعظامنا ترابًا في الأرض أنُبعَث خلقًا جديدًا؟ يستبعدون ذلك غير طالبين الوصول إلى الحق, وإنما هو منهم ظلم وعناد؛ لأنهم بلقاء ربهم - يوم القيامة- كافرون.
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 11 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم, فيقبض أرواحكم إذا انتهت آجالكم, ولن تتأخروا لحظة واحدة, ثم تُردُّون إلى ربكم, فيجازيكم على جميع أعمالكم: إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( 12 )
ولو ترى - أيها المخاطب- إذ المجرمون الذين أنكروا البعث قد خفضوا رؤوسهم عند ربهم من الخزي والعار قائلين: ربنا أبصرنا قبائحنا, وسمعنا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا, وقد تُبْنا إليك, فارجعنا إلى الدنيا لنعمل فيها بطاعتك, إنا قد أيقنَّا الآن ما كنا به في الدنيا مكذبين من وحدانيتك, وأنك تبعث من في القبور. ولو رأيت - أيها الخاطب- ذلك كله, لرأيت أمرًا عظيمًا, وخطبًا جسيمًا.
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 )
ولو شئنا لآتينا هؤلاء المشركين بالله رشدهم وتوفيقهم للإيمان, ولكن حق القول مني ووجب لأملأنَّ جهنم من أهل الكفر والمعاصي, من الجِنَّة والناس أجمعين؛ وذلك لاختيارهم الضلالة على الهدى.
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 14 )
يقال لهؤلاء المشركين - عند دخولهم النار- : فذوقوا العذاب؛ بسبب غفلتكم عن الآخرة وانغماسكم في لذائذ الدنيا, إنا تركناكم اليوم في العذاب, وذوقوا عذاب جهنم الذي لا ينقطع؛ بما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر بالله ومعاصيه.
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 15 )
إنما يصدق بآيات القرآن ويعمل بها الذين إذا وُعِظوا بها أو تُليت عليهم سجدوا لربهم خاشعين مطيعين, وسبَّحوا الله في سجودهم بحمده, وهم لا يستكبرون عن السجود والتسبيح له, وعبادته وحده لا شريك له.
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 16 )
ترتفع جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله عن فراش النوم, يتهجدون لربهم في صلاة الليل, يدعون ربهم خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب, ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله وفي سبيله.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 17 )
فلا تعلم نفس ما ادَّخر الله لهؤلاء المؤمنين مما تَقَرُّ به العين, وينشرح له الصدر؛ جزاء لهم على أعمالهم الصالحة.
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ( 18 )
أفمن كان مطيعًا لله ورسوله مصدقًا بوعده ووعيده, مثل من كفر بالله ورسله وكذب باليوم الآخر؟ لا يستوون عند الله.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 )
أما الذين آمنوا بالله وعملوا بما أُمِروا به فجزاؤهم جنات يأوون إليها, ويقيمون في نعيمها ضيافة لهم؛ جزاءً لهم بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعته.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 20 )
وأما الذين خرجوا عن طاعة الله وعملوا بمعاصيه فمستقرهم جهنم, كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, وقيل لهم - توبيخا وتقريعا- : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون في الدنيا.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 21 )
ولنذيقن هؤلاء الفاسقين المكذبين من العذاب الأدنى من البلاء والمحن والمصائب في الدنيا قبل العذاب الأكبر يوم القيامة, حيث يُعذَّبون في نار جهنم؛ لعلهم يرجعون ويتوبون من ذنوبهم.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ( 22 )
ولا أحد أشد ظلمًا لنفسه ممن وعظ بدلائل الله, ثم أعرض عن ذلك كله, فلم يتعظ بمواعظه, ولكنه استكبر عنها, إنا من المجرمين الذين أعرضوا عن آيات الله وحججه, ولم ينتفعوا بها, منتقمون.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 23 )
ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك - أيها الرسول- القرآن, فلا تكن في شك من لقاء موسى ليلة الإسراء والمعراج, وجعلنا التوراة هداية لبني إسرائيل, تدعوهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( 24 )
وجعلنا من بني إسرائيل هداة ودعاة إلى الخير, يأتمُّ بهم الناس, ويدعونهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده وطاعته, وإنما نالوا هذه الدرجة العالية حين صبروا على أوامر الله, وترك زواجره, والدعوة إليه, وتحمُّل الأذى في سبيله, وكانوا بآيات الله وحججه يوقنون.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 25 )
إن ربك - أيها الرسول- يقضي بين المؤمنين والكافرين من بني إسرائيل وغيرهم يوم القيامة بالعدل فيما اختلفوا فيه من أمور الدين, ويجازي كل إنسان بعمله بإدخال أهلِ الجنةِ الجنةَ وأهلِ النارِ النارَ.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ( 26 )
أولم يتبين لهؤلاء المكذبين للرسول: كم أهلكنا من قبلهم من الأمم السابقة يمشون في مساكنهم, فيشاهدونها عِيانًا كقوم هود وصالح ولوط؟ إن في ذلك لآيات وعظات يُستدَلُّ بها على صدق الرسل التي جاءتهم, وبطلان ما هم عليه من الشرك, أفلا يسمع هؤلاء المكذبون بالرسل مواعظ الله وحججه, فينتفعون بها؟
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ( 27 )
أولم ير المكذبون بالبعث بعد الموت أننا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها, فنخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه تأكل منه أنعامهم, وتتغذى به أبدانهم فيعيشون به؟ أفلا يرون هذه النعم بأعينهم, فيعلموا أن الله الذي فعل ذلك قادر على إحياء الأموات ونَشْرهم من قبورهم؟
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 28 )
يستعجل هؤلاء المشركون بالله العذاب, فيقولون: متى هذا الحكم الذي يقضي بيننا وبينكم بتعذيبنا على زعمكم إن كنتم صادقين في دعواكم؟
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 29 )
قل لهم - أيها الرسول- : يوم القضاء الذي يقع فيه عقابكم, وتعاينون فيه الموت لا ينفع الكفار إيمانهم, ولا هم يؤخرون للتوبة والمراجعة.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ( 30 )
فأعرض - أيها الرسول- عن هؤلاء المشركين, ولا تبال بتكذيبهم, وانتظر ما الله صانع بهم, إنهم منتظرون ومتربصون بكم دوائر السوء، فسيخزيهم الله ويذلهم، وينصرك عليهم. وقد فعل فله الحمد والمنة.
=====
الم ( 1 )
( الم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )
هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا شك أنه منزل من عند الله، رب الخلائق أجمعين.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 3 )
بل أيقول المشركون: اختلق محمد صلى الله عليه وسلم القرآن؟ كذَبوا, بل هو الحق الثابت المنزل عليك - أيها الرسول- من ربك; لتنذر به أناسًا لم يأتهم نذير من قبلك, لعلهم يهتدون, فيعرفوا الحق ويؤمنوا به ويؤثروه, ويؤمنوا بك.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 4 )
الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام لحكمة يعلمها, وهو قادر أن يخلقها بكلمة « كن » فتكون, ثم استوى سبحانه وتعالى - أي علا وارتفع- على عرشه استواء يليق بجلاله, لا يكيَّف, ولا يشبَّه باستواء المخلوقين. ليس لكم - أيها الناس- من وليٍّ يلي أموركم, أو شفيع يشفع لكم عند الله؛ لتنجوا من عذابه, أفلا تتعظون وتتفكرون - أيها الناس- , فتُفردوا الله بالألوهية وتُخلصوا له العبادة؟
يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ( 5 )
يدبر الله تعالى أَمْر المخلوقات من السماء إلى الأرض, ثم يصعد ذلك الأمر والتدبير إلى الله في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا التي تعدُّونها.
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 6 )
ذلك الخالق المدبِّر لشؤون العالمين, عالم بكل ما يغيب عن الأبصار, مما تُكِنُّه الصدور وتخفيه النفوس, وعالم بما شاهدته الأبصار, وهو القويُّ الظاهر الذي لا يغالَب, الرحيم بعباده المؤمنين.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ( 7 )
الله الذي أحكم خلق كل شيء, وبدأ خَلْقَ الإنسان, وهو آدم عليه السلام من طين.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ( 8 )
ثم جعل ذرية آدم متناسلة من نطفة ضعيفة رقيقة مهينة.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 9 )
ثم أتم خلق الإنسان وأبدعه, وأحسن خلقته, ونفخ فيه مِن روحه بإرسال الملك له؛ لينفخ فيه الروح, وجعل لكم - أيها الناس- نعمة السمع والأبصار يُميَّز بها بين الأصوات والألوان والذوات والأشخاص, ونعمة العقل يُميَّز بها بين الخير والشر والنافع والضار. قليلا ما تشكرون ربكم على ما أنعم به عليكم.
وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( 10 )
وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أإذا صارت لحومنا وعظامنا ترابًا في الأرض أنُبعَث خلقًا جديدًا؟ يستبعدون ذلك غير طالبين الوصول إلى الحق, وإنما هو منهم ظلم وعناد؛ لأنهم بلقاء ربهم - يوم القيامة- كافرون.
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 11 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم, فيقبض أرواحكم إذا انتهت آجالكم, ولن تتأخروا لحظة واحدة, ثم تُردُّون إلى ربكم, فيجازيكم على جميع أعمالكم: إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( 12 )
ولو ترى - أيها المخاطب- إذ المجرمون الذين أنكروا البعث قد خفضوا رؤوسهم عند ربهم من الخزي والعار قائلين: ربنا أبصرنا قبائحنا, وسمعنا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا, وقد تُبْنا إليك, فارجعنا إلى الدنيا لنعمل فيها بطاعتك, إنا قد أيقنَّا الآن ما كنا به في الدنيا مكذبين من وحدانيتك, وأنك تبعث من في القبور. ولو رأيت - أيها الخاطب- ذلك كله, لرأيت أمرًا عظيمًا, وخطبًا جسيمًا.
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 13 )
ولو شئنا لآتينا هؤلاء المشركين بالله رشدهم وتوفيقهم للإيمان, ولكن حق القول مني ووجب لأملأنَّ جهنم من أهل الكفر والمعاصي, من الجِنَّة والناس أجمعين؛ وذلك لاختيارهم الضلالة على الهدى.
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 14 )
يقال لهؤلاء المشركين - عند دخولهم النار- : فذوقوا العذاب؛ بسبب غفلتكم عن الآخرة وانغماسكم في لذائذ الدنيا, إنا تركناكم اليوم في العذاب, وذوقوا عذاب جهنم الذي لا ينقطع؛ بما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر بالله ومعاصيه.
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 15 )
إنما يصدق بآيات القرآن ويعمل بها الذين إذا وُعِظوا بها أو تُليت عليهم سجدوا لربهم خاشعين مطيعين, وسبَّحوا الله في سجودهم بحمده, وهم لا يستكبرون عن السجود والتسبيح له, وعبادته وحده لا شريك له.
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 16 )
ترتفع جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله عن فراش النوم, يتهجدون لربهم في صلاة الليل, يدعون ربهم خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب, ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله وفي سبيله.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 17 )
فلا تعلم نفس ما ادَّخر الله لهؤلاء المؤمنين مما تَقَرُّ به العين, وينشرح له الصدر؛ جزاء لهم على أعمالهم الصالحة.
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ( 18 )
أفمن كان مطيعًا لله ورسوله مصدقًا بوعده ووعيده, مثل من كفر بالله ورسله وكذب باليوم الآخر؟ لا يستوون عند الله.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 )
أما الذين آمنوا بالله وعملوا بما أُمِروا به فجزاؤهم جنات يأوون إليها, ويقيمون في نعيمها ضيافة لهم؛ جزاءً لهم بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعته.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 20 )
وأما الذين خرجوا عن طاعة الله وعملوا بمعاصيه فمستقرهم جهنم, كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, وقيل لهم - توبيخا وتقريعا- : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون في الدنيا.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 21 )
ولنذيقن هؤلاء الفاسقين المكذبين من العذاب الأدنى من البلاء والمحن والمصائب في الدنيا قبل العذاب الأكبر يوم القيامة, حيث يُعذَّبون في نار جهنم؛ لعلهم يرجعون ويتوبون من ذنوبهم.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ( 22 )
ولا أحد أشد ظلمًا لنفسه ممن وعظ بدلائل الله, ثم أعرض عن ذلك كله, فلم يتعظ بمواعظه, ولكنه استكبر عنها, إنا من المجرمين الذين أعرضوا عن آيات الله وحججه, ولم ينتفعوا بها, منتقمون.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 23 )
ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك - أيها الرسول- القرآن, فلا تكن في شك من لقاء موسى ليلة الإسراء والمعراج, وجعلنا التوراة هداية لبني إسرائيل, تدعوهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( 24 )
وجعلنا من بني إسرائيل هداة ودعاة إلى الخير, يأتمُّ بهم الناس, ويدعونهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده وطاعته, وإنما نالوا هذه الدرجة العالية حين صبروا على أوامر الله, وترك زواجره, والدعوة إليه, وتحمُّل الأذى في سبيله, وكانوا بآيات الله وحججه يوقنون.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 25 )
إن ربك - أيها الرسول- يقضي بين المؤمنين والكافرين من بني إسرائيل وغيرهم يوم القيامة بالعدل فيما اختلفوا فيه من أمور الدين, ويجازي كل إنسان بعمله بإدخال أهلِ الجنةِ الجنةَ وأهلِ النارِ النارَ.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ( 26 )
أولم يتبين لهؤلاء المكذبين للرسول: كم أهلكنا من قبلهم من الأمم السابقة يمشون في مساكنهم, فيشاهدونها عِيانًا كقوم هود وصالح ولوط؟ إن في ذلك لآيات وعظات يُستدَلُّ بها على صدق الرسل التي جاءتهم, وبطلان ما هم عليه من الشرك, أفلا يسمع هؤلاء المكذبون بالرسل مواعظ الله وحججه, فينتفعون بها؟
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ( 27 )
أولم ير المكذبون بالبعث بعد الموت أننا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها, فنخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه تأكل منه أنعامهم, وتتغذى به أبدانهم فيعيشون به؟ أفلا يرون هذه النعم بأعينهم, فيعلموا أن الله الذي فعل ذلك قادر على إحياء الأموات ونَشْرهم من قبورهم؟
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 28 )
يستعجل هؤلاء المشركون بالله العذاب, فيقولون: متى هذا الحكم الذي يقضي بيننا وبينكم بتعذيبنا على زعمكم إن كنتم صادقين في دعواكم؟
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 29 )
قل لهم - أيها الرسول- : يوم القضاء الذي يقع فيه عقابكم, وتعاينون فيه الموت لا ينفع الكفار إيمانهم, ولا هم يؤخرون للتوبة والمراجعة.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ( 30 )
فأعرض - أيها الرسول- عن هؤلاء المشركين, ولا تبال بتكذيبهم, وانتظر ما الله صانع بهم, إنهم منتظرون ومتربصون بكم دوائر السوء، فسيخزيهم الله ويذلهم، وينصرك عليهم. وقد فعل فله الحمد والمنة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الاحزاب .. بن كثير
=====
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 1 )
يا أيها النبي دُم على تقوى الله بالعمل بأوامره واجتناب محارمه, وليقتد بك المؤمنون؛ لأنهم أحوج إلى ذلك منك, ولا تطع الكافرين وأهل النفاق. إن الله كان عليمًا بكل شيء, حكيمًا في خلقه وأمره وتدبيره.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 2 )
واتبع ما يوحى إليك من ربك من القرآن والسنة, إن الله مطَّلِع على كل ما تعملون ومجازيكم به, لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 3 )
واعتمد على ربك, وفَوِّضْ جميع أمورك إليه, وحسبك به حافظًا لمن توكل عليه وأناب إليه.
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ( 4 )
ما جعل الله لأحد من البشر من قلبين في صدره, وما جعل زوجاتكم اللاتي تظاهرون منهن ( في الحرمة ) كحرمة أمهاتكم ( والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي, وقد كان هذا طلاقًا في الجاهلية, فبيَّن الله أن الزوجة لا تصير أُمًّا بحال ) وما جعل الله الأولاد المتَبَنَّيْنَ أبناء في الشرع, بل إن الظهار والتبني لا حقيقة لهما في التحريم الأبدي, فلا تكون الزوجة المظاهَر منها كالأم في الحرمة, ولا يثبت النسب بالتبني من قول الشخص للدَّعِيِّ: هذا ابني, فهو كلام بالفم لا حقيقة له, ولا يُعتَدُّ به, والله سبحانه يقول الحق ويبيِّن لعباده سبيله, ويرشدهم إلى طريق الرشاد.
ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 5 )
انسبوا أدعياءكم لآبائهم, هو أعدل وأقوم عند الله, فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين فادعوهم إذًا بأخوَّة الدين التي تجمعكم بهم, فإنهم إخوانكم في الدين ومواليكم فيه, وليس عليكم إثم فيما وقعتم فيه من خطأ لم تتعمدوه, وإنما يؤاخذكم الله إذا تعمدتم ذلك. وكان الله غفورًا لمن أخطأ, رحيمًا لمن تاب من ذنبه.
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( 6 )
النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين, وأقرب لهم من أنفسهم في أمور الدين والدنيا, وحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته كحرمة أمهاتهم, فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده. وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة ( وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم, ثم نُسخ ذلك بآية المواريث ) إلا أن تفعلوا - أيها المسلمون- إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية, كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ, فيجب عليكم العمل به. وفي الآية وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد من نفسه, ووجوب كمال الانقياد له, وفيها وجوب احترام أمهات المؤمنين, زوجاته صلى الله عليه وسلم، وأن من سبَّهن فقد باء بالخسران.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 7 )
واذكر - أيها النبي- حين أخذنا من النبيين العهد المؤكد بتبليغ الرسالة, وأخذنا الميثاق منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ( وهم أولو العزم من الرسل على المشهور ) , وأخذنا منهم عهدًا مؤكدًا بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة, وأن يُصَدِّق بعضهم بعضًا.
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( 8 )
( أخذ الله ذلك العهد من أولئك الرسل ) ليسأل المرسلين عمَّا أجابتهم به أممهم, فيجزي الله المؤمنين الجنة, وأعد للكافرين يوم القيامة عذابًا شديدًا في جهنم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 9 )
يا معشر المؤمنين اذكروا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم في « المدينة » أيام غزوة الأحزاب - وهي غزوة الخندق- , حين اجتمع عليكم المشركون من خارج « المدينة » , واليهود والمنافقون من « المدينة » وما حولها, فأحاطوا بكم, فأرسلنا على الأحزاب ريحًا شديدة اقتلعت خيامهم ورمت قدورهم, وأرسلنا ملائكة من السماء لم تروها, فوقع الرعب في قلوبهم. وكان الله بما تعملون بصيرًا, لا يخفى عليه من ذلك شيء.
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا ( 10 )
اذكروا إذ جاؤوكم مِن فوقكم من أعلى الوادي من جهة المشرق, ومن أسفل منكم من بطن الوادي من جهة المغرب, وإذ شخصت الأبصار من شدة الحَيْرة والدهشة, وبلغت القلوب الحناجر من شدة الرعب, وغلب اليأس المنافقين, وكثرت الأقاويل, وتظنون بالله الظنون السيئة أنه لا ينصر دينه, ولا يعلي كلمته.
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ( 11 )
في ذلك الموقف العصيب اختُبر إيمان المؤمنين ومُحِّص القوم, وعُرف المؤمن من المنافق, واضطربوا اضطرابًا شديدًا بالخوف والقلق; ليتبين إيمانهم ويزيد يقينهم.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ( 12 )
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم شك, وهم ضعفاء الإيمان: ما وعدنا الله ورسوله من النصر والتمكين إلا باطلا من القول وغرورًا, فلا تصدقوه.
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ( 13 )
واذكر - أيها النبي- قول طائفة من المنافقين منادين المؤمنين من أهل « المدينة » : يا أهل « يثرب » ( وهو الاسم القديم « للمدينة » ) لا إقامة لكم في معركة خاسرة, فارجعوا إلى منازلكم داخل « المدينة » , ويستأذن فريق آخر من المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى منازلهم بحجة أنها غير محصنة, فيخشون عليها, والحق أنها ليست كذلك, وما قصدوا بذلك إلا الفرار من القتال.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ( 14 )
ولو دخل جيش الأحزاب « المدينة » من جوانبها, ثم سئل هؤلاء المنافقون الشرك بالله والرجوع عن الإسلام, لأجابوا إلى ذلك مبادرين, وما تأخروا عن الشرك إلا يسيرًا.
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ( 15 )
ولقد كان هؤلاء المنافقون عاهدوا الله على يد رسوله من قبل غزوة الخندق, لا يفرُّون إن شهدوا الحرب, ولا يتأخرون إذا دعوا إلى الجهاد, ولكنهم خانوا عهدهم, وسيحاسبهم الله على ذلك, ويسألهم عن ذلك العهد, وكان عهد الله مسؤولا عنه, محاسَبًا عليه.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ( 16 )
قل - أيها النبي- لهؤلاء المنافقين: لن ينفعكم الفرار من المعركة خوفًا من الموت أو القتل; فإن ذلك لا يؤخر آجالكم, وإن فررتم فلن تتمتعوا في هذه الدنيا إلا بقدر أعماركم المحدودة, وهو زمن يسير جدًا بالنسبة إلى الآخرة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 17 )
قل - أيها النبي- لهم: مَن ذا الذي يمنعكم من الله, أو يجيركم مِن عذابه, إن أراد بكم سوءًا, أو أراد بكم رحمة, فإنه المعطي المانع الضارُّ النافع؟ ولا يجد هؤلاء المنافقون لهم من دون الله وليًّا يواليهم, ولا نصيرًا ينصرهم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ( 18 )
إن الله يعلم المثبطين عن الجهاد في سبيل الله, والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا, واتركوا محمدًا, فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه, وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياء وسمعة وخوف الفضيحة.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 19 )
بُخَلاء عليكم - أيها المؤمنون- بالمال والنفس والجهد والمودة لما في نفوسهم من العداوة والحقد؛ حبًا في الحياة وكراهة للموت, فإذا حضر القتال خافوا الهلاك ورأيتهم ينظرون إليك, تدور أعينهم لذهاب عقولهم؛ خوفًا من القتل وفرارًا منه كدوران عين مَن حضره الموت, فإذا انتهت الحرب وذهب الرعب رموكم بألسنة حداد مؤذية, وتراهم عند قسمة الغنائم بخلاء وحسدة, أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم, فأذهب الله ثواب أعمالهم, وكان ذلك على الله يسيرًا.
يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ( 20 )
يظن المنافقون أن الأحزاب الذين هزمهم الله تعالى شر هزيمة لم يذهبوا؛ ذلك من شدة الخوف والجبن, ولو عاد الأحزاب إلى « المدينة » لتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا غائبين عن « المدينة » بين أعراب البادية, يستخبرون عن أخباركم ويسألون عن أنبائكم, ولو كانوا فيكم ما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( 21 )
لقد كان لكم - أيها المؤمنون- في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله قدوة حسنة تتأسون بها, فالزموا سنته, فإنما يسلكها ويتأسى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر, وأكثرَ مِن ذكر الله واستغفاره, وشكره في كل حال.
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( 22 )
ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول « المدينة » وأحاطوا بها, تذكروا أن موعد النصر قد قرب, فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله, من الابتلاء والمحنة والنصر, فأنجز الله وعده, وصدق رسوله فيما بشَّر به, وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ( 23 )
من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله تعالى, وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس: فمنهم من وَفَّى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء, ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة, وما غيَّروا عهد الله, ولا نقضوه ولا بدَّلوه, كما غيَّر المنافقون.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 24 )
ليثيب الله أهل الصدق بسبب صدقهم وبلائهم وهم المؤمنون, ويعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم, بأن لا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت, فيموتوا على الكفر, فيستوجبوا النار, أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة والإنابة, إن الله كان غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم إذا تابوا, رحيمًا بهم; حيث وفقهم للتوبة النصوح.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( 25 )
وردَّ الله أحزاب الكفر عن « المدينة » خائبين خاسرين مغتاظين, لم ينالوا خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال بما أيدهم به من الأسباب. وكان الله قويًا لا يُغالَب ولا يُقْهَر, عزيزًا في ملكه وسلطانه.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ( 26 )
وأنزل الله يهود بني قريظة من حصونهم; لإعانتهم الأحزاب في قتال المسلمين, وألقى في قلوبهم الخوف فهُزموا, تقتلون منهم فريقًا, وتأسرون فريقًا آخر.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 27 )
وملَّككم الله - أيها المؤمنون- أرضهم ومساكنهم وأموالهم المنقولة كالحليِّ والسلاح والمواشي, وغير المنقولة كالمزارع والبيوت والحصون المنيعة, وأورثكم أرضًا لم تتمكنوا مِن وطئها من قبل؛ لمنعتها وعزتها عند أهلها. وكان الله على كل شيء قديرًا, لا يعجزه شيء.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( 28 )
يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك, يطلبن منك زيادة النفقة: إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا, وأفارقكنَّ دون ضرر أو إيذاء.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )
وإن كنتن تردْنَ رضا الله ورضا رسوله وما أعدَّ الله لكُنَّ في الدار الآخرة, فاصبرْنَ على ما أنتُنَّ عليه, وأطعن الله ورسوله, فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ ثوابًا عظيمًا. ( وقد اخترن الله ورسوله, وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة ) .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 )
يا نساء النبي مَن يأت منكن بمعصية ظاهرة يُضاعَف لها العذاب مرتين. فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهن عقوبته مغلظة؛ صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك العقاب على الله يسيرًا.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( 31 )
ومن تطع منكن الله ورسوله, وتعمل بما أمر الله به, نُعْطها ثواب عملها مثلَي ثواب عمل غيرها من سائر النساء, وأعددنا لها رزقًا كريمًا, وهو الجنة.
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 32 )
يا نساء النبيِّ - محمد- لستنَّ في الفضل والمنزلة كغيركنَّ من النساء, إن عملتن بطاعة الله وابتعدتن عن معاصيه، فلا تتحدثن مع الأجانب بصوت لَيِّن يُطمع الذي في قلبه فجور ومرض في الشهوة الحرام، وهذا أدب واجب على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, وقُلن قولا بعيدًا عن الريبة, لا تنكره الشريعة.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( 33 )
والْزَمْنَ بيوتكن, ولا تخرجن منها إلا لحاجة, ولا تُظهرن محاسنكن, كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام, وهو خطاب للنساء المؤمنات في كل عصر. وأدِّين - يا نساء النبي- الصلاة كاملة في أوقاتها, وأعطين الزكاة كما شرع الله, وأطعن الله ورسوله في أمرهما ونهيهما, إنما أوصاكن الله بهذا؛ ليزكيكنَّ, ويبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي - ومنهم زوجاته وذريته عليه الصلاة والسلام- , ويطهِّر نفوسكم غاية الطهارة.
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( 34 )
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملن به, واقدُرْنه حقَّ قَدْره, فهو من نِعَم الله عليكن, إن الله كان لطيفًا بكنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والسنة, خبيرًا بكنَّ إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجًا.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 35 )
إن المنقادين لأوامر الله والمنقادات, والمصَدِّقين والمصدِّقات والمطيعين لله ورسوله والمطيعات, والصادقين في أقوالهم والصادقات, والصابرين عن الشهوات وعلى الطاعات وعلى المكاره والصابرات, والخائفين من الله والخائفات, والمتصدقين بالفرض والنَّفْل والمتصدقات, والصائمين في الفرض والنَّفْل والصائمات, والحافظين فروجهم عن الزنى ومقدماته, وعن كشف العورات والحافظات, والذاكرين الله كثيرًا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات, أعدَّ الله لهؤلاء مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا, وهو الجنة.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ( 36 )
ولا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله فيهم حُكمًا أن يخالفوه, بأن يختاروا غير الذي قضى فيهم. ومن يعص الله ورسوله فقد بَعُدَ عن طريق الصواب بُعْدًا ظاهرًا.
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ( 37 )
وإذ تقول - أيها النبي- للذي أنعم الله عليه بالإسلام - وهو زيد بن حارثة الذي أعتقه وتبنَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم- وأنعمت عليه بالعتق: أَبْقِ زوجك زينب بنت جحش ولا تطلقها, واتق الله يا زيد, وتخفي - يا محمد- في نفسك ما أوحى الله به إليك من طلاق زيد لزوجه وزواجك منها, والله تعالى مظهر ما أخفيت, وتخاف المنافقين أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه, والله تعالى أحق أن تخافه, فلما قضى زيد منها حاجته, وطلقها, وانقضت عدتها, زوجناكها; لتكون أسوة في إبطال عادة تحريم الزواج بزوجة المتبنى بعد طلاقها, ولا يكون على المؤمنين إثم وذنب في أن يتزوجوا من زوجات من كانوا يتبنَّوْنهم بعد طلاقهن إذا قضوا منهن حاجتهم. وكان أمر الله مفعولا لا عائق له ولا مانع. وكانت عادة التبني في الجاهلية، ثم أُبطلت بقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ .
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ( 38 )
ما كان على النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم من ذنب فيما أحلَّ الله له من زواج امرأة مَن تبنَّاه بعد طلاقها, كما أباحه للأنبياء قبله, سنة الله في الذين خَلَوا من قبل, وكان أمر الله قدرًا مقدورًا لا بد من وقوعه.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 39 )
ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم بأنهم: الذين يُبَلِّغون رسالاتِ الله إلى الناس, ويخافون الله وحده, ولا يخافون أحدًا سواه. وكفى بالله محاسبًا عباده على جميع أعمالهم ومراقبًا لها.
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 40 )
ما كان محمد أبًا لأحد من رجالكم, ولكنه رسول الله وخاتم النبيين, فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة. وكان الله بكل شيء من أعمالكم عليمًا, لا يخفى عليه شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( 41 ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 42 )
يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذِكْرًا كثيرًا, واشغلوا أوقاتكم بذكر الله تعالى عند الصباح والمساء, وأدبار الصلوات المفروضات, وعند العوارض والأسباب, فإن ذلك عبادة مشروعة, تدعو إلى محبة الله, وكف اللسان عن الآثام, وتعين على كل خير.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( 43 )
هو الذي يرحمكم ويثني عليكم وتدعو لكم ملائكته؛ ليخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الإسلام, وكان بالمؤمنين رحيمًا في الدنيا والآخرة, لا يعذبهم ما داموا مطيعين مخلصين له.
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( 44 )
تحية هؤلاء المؤمنين من الله في الجنة يوم يلقونه سلام, وأمان لهم من عذاب الله, وقد أعدَّ لهم ثوابًا حسنًا, وهو الجنة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 45 ) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ( 46 )
يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا على أمتك بإبلاغهم الرسالة, ومبشرًا المؤمنين منهم بالرحمة والجنة, ونذيرًا للعصاة والمكذبين من النار, وداعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده بأمره إياك, وسراجًا منيرًا لمن استنار بك, فأمْرك ظاهر فيما جئتَ به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها, لا يجحدها إلا معاند.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ( 47 )
وبَشِّر - أيها النبي- أهل الإيمان بأن لهم من الله ثوابًا عظيمًا, وهو روضات الجنات.
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 48 )
ولا تطع - أيها الرسول- قول كافر أو منافق واترك أذاهم, ولا يمنعك ذلك من تبليغ الرسالة, وثق بالله في كل أمورك واعتمد عليه؛ فإنه يكفيك ما أهمَّك من كل أمور الدنيا والآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( 49 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن ثم طلقتموهن مِن قبل أن تجامعوهن, فما لكم عليهن مِن عدَّة تحصونها عليهن, فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها بحسب الوسع جبرًا لخواطرهن, وخلُّوا سبيلهن مع الستر الجميل, دون أذى أو ضرر.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 50 )
يا أيها النبي إنَّا أبَحْنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن, وأبَحْنا لك ما مَلَكَتْ يمينك من الإماء, مما أنعم الله به عليك, وأبحنا لك الزواج من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك, وأبحنا لك امرأة مؤمنة مَنَحَتْ نفسها لك من غير مهر, إن كنت تريد الزواج منها خالصة لك, وليس لغيرك أن يتزوج امرأة بالهِبَة. قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين في أزواجهم وإمائهم بألا يتزوجوا إلا أربع نسوة, وما شاؤوا من الإماء, واشتراط الوليِّ والمهر والشهود عليهم, ولكنا رخصنا لك في ذلك, ووسَّعْنا عليك ما لم يُوسَّع على غيرك؛ لئلا يضيق صدرك في نكاح مَن نكحت مِن هؤلاء الأصناف. وكان الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين, رحيمًا بالتوسعة عليهم.
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( 51 )
تؤخر مَن تشاء مِن نسائك في القَسْم في المبيت, وتضم إليك مَن تشاء منهن, ومَن طَلَبْتَ ممن أخَّرت قَسْمها, فلا إثم عليك في هذا, ذلك التخيير أقرب إلى أن يفرحن ولا يحزنَّ, ويرضين كلهن بما قسمت لهنَّ, والله يعلم ما في قلوب الرجال مِن مَيْلها إلى بعض النساء دون بعض. وكان الله عليمًا بما في القلوب, حليمًا لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ( 52 )
لا يباح لك النساء من بعد نسائك اللاتي فى عصمتك, واللاتي أبحناهنَّ لك ( وهنَّ المذكورات في الآية السابقة رقم [ 50 ] من هذه السورة ) , ومن كانت في عصمتك من النساء المذكورات لا يحل لك أن تطلِّقها مستقبَلا وتأتي بغيرها بدلا منها, ولو أعجبك جمالها, وأما الزيادة على زوجاتك من غير تطليق إحداهن فلا حرج عليك, وأما ما ملكت يمينك من الإماء, فحلال لك منهن من شئت. وكان الله على كل شيء رقيبًا, لا يغيب عنه علم شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ( 53 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تدخلوا بيوت النبي إلا بإذنه لتناول طعام غير منتظرين نضجه, ولكن إذا دعيتم فادخلوا, فإذا أكلتم فانصرفوا غير مستأنسين لحديث بينكم؛ فإن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي, فيستحيي من إخراجكم من البيوت مع أن ذلك حق له, والله لا يستحيي من بيان الحق وإظهاره. وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء, وللنساء في أمر الرجال؛ فالرؤية سبب الفتنة, وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله, ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته أبدًا؛ لأنهن أمهاتكم, ولا يحلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه, إنَّ أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده إثم عظيم عند الله. ( وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر, واجتنبت ما نهى الله عنه منه ) .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 54 )
إن تُظْهِروا شيئًا على ألسنتكم - أيها الناس- مما يؤذي رسول الله مما نهاكم الله عنه, أو تخفوه في نفوسكم, فإن الله تعالى يعلم ما في قلوبكم وما أظهرتموه, وسيجازيكم على ذلك.
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 55 )
لا إثم على النساء في عدم الاحتجاب من آبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن والنساء المؤمنات والعبيد المملوكين لهن؛ لشدة الحاجة إليهم في الخدمة. وخفن الله - أيتها النساء- أن تتعدَّيْن ما حَدَّ لكنَّ, فتبدين من زينتكن ما ليس لكُنَّ أن تبدينه, أو تتركن الحجاب أمام مَن يجب عليكن الاحتجاب منه. إن الله كان على كل شيء شهيدًا ، يشهد أعمال العباد ظاهرها وباطنها, وسيجزيهم عليها.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 56 )
إن الله تعالى يثني على النبي صلى الله عليه وسلم عند الملائكة المقربين, وملائكته يثنون على النبي ويدعون له, يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, صلُّوا على رسول لله, وسلِّموا تسليمًا, تحية وتعظيمًا له. وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت في السنة على أنواع, منها: « اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد » .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ( 57 )
إن الذين يؤذون الله بالشرك أو غيره من المعاصي, ويؤذون رسول الله بالأقوال أو الأفعال, أبعدهم الله وطردهم مِن كل خير في الدنيا والآخرة, وأعدَّ لهم في الآخرة عذابًا يذلهم ويهينهم.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 58 )
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بقول أو فعل من غير ذنب عملوه, فقد ارتكبوا أفحش الكذب والزور, وأتوا ذنبًا ظاهر القبح يستحقون به العذاب في الآخرة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 59 )
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يرخين على رؤوسهن ووجوههن من أرديتهن وملاحفهن؛ لستر وجوههن وصدورهن ورؤوسهن; ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة, فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى. وكان الله غفورًا رحيمًا حيث غفر لكم ما سلف, ورحمكم بما أوضح لكم من الحلال والحرام.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( 60 ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( 61 )
لئن لم يكفَّ الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان والذين في قلوبهم شك وريبة, والذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائحهم وشرورهم, لنسلِّطنَّك عليهم, ثم لا يسكنون معك فيها إلا زمنًا قليلا. مطرودين من رحمة الله, في أي مكان وُجِدوا فيه أُسِروا وقُتِّلوا تقتيلا ما داموا مقيمين على النفاق ونشر الأخبار الكاذبة بين المسلمين بغرض الفتنة والفساد.
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 62 )
سنة الله وطريقته في منافقي الأمم السابقة أن يؤسَروا ويُقَتَّلوا أينما كانوا, ولن تجد - أيها النبي- لطريقة الله تحويلا ولا تغييرًا.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ( 63 )
يسألك الناس - أيها الرسول- عن وقت القيامة استبعادًا وتكذيبًا, قل لهم: إنما علم الساعة عند الله, وما يدريك - أيها الرسول- لعل زمانها قريب؟
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ( 64 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 65 ) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ( 66 )
إن الله طرد الكافرين من رحمته في الدنيا والآخرة, وأعدَّ لهم في الآخرة نارًا موقدة شديدة الحرارة, ماكثين فيها أبدًا, لا يجدون وليًّا يتولاهم ويدافع عنهم, ولا نصيرًا ينصرهم, فيخرجهم من النار. يوم تُقَلَّب وجوه الكافرين في النار يقولون نادمين متحيِّرين: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا رسوله في الدنيا, فكنا من أهل الجنة.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ( 67 ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ( 68 )
وقال الكافرون يوم القيامة: ربنا إنا أطَعْنا أئمتنا في الضلال وكبراءنا في الشرك, فأزالونا عن طريق الهُدى والإيمان. ربنا عذِّبهم من العذاب مثلَيْ عذابنا الذي تعذبنا به, واطردهم من رحمتك طردًا شديدًا. وفي هذا دليل على أن طاعة غير الله في مخالفة أمره وأمر رسوله, موجبة لسخط الله وعقابه, وأن التابع والمتبوع في العذاب مشتركون, فليحذر المسلم ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ( 69 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تؤذوا رسول الله بقول أو فعل, ولا تكونوا أمثال الذين آذوا نبيَّ الله موسى, فبرَّأه الله مما قالوا فيه من الكذب والزور, وكان عند الله عظيم القدر والجاه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 70 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, اعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته؛ لئلا تستحقوا بذلك العقاب, وقولوا في جميع أحوالكم وشؤونكم قولا مستقيمًا موافقًا للصواب خاليًا من الكذب والباطل.
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 71 )
إذا اتقيتم الله وقلتم قولا سديدًا أصلح الله لكم أعمالكم, وغفر ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فيما أمر ونهى فقد فاز بالكرامة العظمى في الدنيا والآخرة.
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ( 72 )
إنا عرضنا الأمانة - التي ائتمن الله عليها المكلَّفين من امتثال الأوامر واجتناب النواهي- على السموات والأرض والجبال, فأبين أن يحملنها, وخفن أن لا يقمن بأدائها, وحملها الإنسان والتزم بها على ضعفه, إنه كان شديد الظلم والجهل لنفسه.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 73 )
( وحمل الإنسان الأمانة ) ليعذب الله المنافقين الذين يُظهرون الإسلام ويُخفون الكفر, والمنافقات, والمشركين في عبادة الله غيره, والمشركات, ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بستر ذنوبهم وترك عقابهم. وكان الله غفورًا للتائبين من عباده, رحيمًا بهم.
=====
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 1 )
يا أيها النبي دُم على تقوى الله بالعمل بأوامره واجتناب محارمه, وليقتد بك المؤمنون؛ لأنهم أحوج إلى ذلك منك, ولا تطع الكافرين وأهل النفاق. إن الله كان عليمًا بكل شيء, حكيمًا في خلقه وأمره وتدبيره.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 2 )
واتبع ما يوحى إليك من ربك من القرآن والسنة, إن الله مطَّلِع على كل ما تعملون ومجازيكم به, لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 3 )
واعتمد على ربك, وفَوِّضْ جميع أمورك إليه, وحسبك به حافظًا لمن توكل عليه وأناب إليه.
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ( 4 )
ما جعل الله لأحد من البشر من قلبين في صدره, وما جعل زوجاتكم اللاتي تظاهرون منهن ( في الحرمة ) كحرمة أمهاتكم ( والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي, وقد كان هذا طلاقًا في الجاهلية, فبيَّن الله أن الزوجة لا تصير أُمًّا بحال ) وما جعل الله الأولاد المتَبَنَّيْنَ أبناء في الشرع, بل إن الظهار والتبني لا حقيقة لهما في التحريم الأبدي, فلا تكون الزوجة المظاهَر منها كالأم في الحرمة, ولا يثبت النسب بالتبني من قول الشخص للدَّعِيِّ: هذا ابني, فهو كلام بالفم لا حقيقة له, ولا يُعتَدُّ به, والله سبحانه يقول الحق ويبيِّن لعباده سبيله, ويرشدهم إلى طريق الرشاد.
ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 5 )
انسبوا أدعياءكم لآبائهم, هو أعدل وأقوم عند الله, فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين فادعوهم إذًا بأخوَّة الدين التي تجمعكم بهم, فإنهم إخوانكم في الدين ومواليكم فيه, وليس عليكم إثم فيما وقعتم فيه من خطأ لم تتعمدوه, وإنما يؤاخذكم الله إذا تعمدتم ذلك. وكان الله غفورًا لمن أخطأ, رحيمًا لمن تاب من ذنبه.
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( 6 )
النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين, وأقرب لهم من أنفسهم في أمور الدين والدنيا, وحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته كحرمة أمهاتهم, فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده. وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة ( وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم, ثم نُسخ ذلك بآية المواريث ) إلا أن تفعلوا - أيها المسلمون- إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية, كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ, فيجب عليكم العمل به. وفي الآية وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد من نفسه, ووجوب كمال الانقياد له, وفيها وجوب احترام أمهات المؤمنين, زوجاته صلى الله عليه وسلم، وأن من سبَّهن فقد باء بالخسران.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 7 )
واذكر - أيها النبي- حين أخذنا من النبيين العهد المؤكد بتبليغ الرسالة, وأخذنا الميثاق منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ( وهم أولو العزم من الرسل على المشهور ) , وأخذنا منهم عهدًا مؤكدًا بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة, وأن يُصَدِّق بعضهم بعضًا.
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( 8 )
( أخذ الله ذلك العهد من أولئك الرسل ) ليسأل المرسلين عمَّا أجابتهم به أممهم, فيجزي الله المؤمنين الجنة, وأعد للكافرين يوم القيامة عذابًا شديدًا في جهنم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 9 )
يا معشر المؤمنين اذكروا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم في « المدينة » أيام غزوة الأحزاب - وهي غزوة الخندق- , حين اجتمع عليكم المشركون من خارج « المدينة » , واليهود والمنافقون من « المدينة » وما حولها, فأحاطوا بكم, فأرسلنا على الأحزاب ريحًا شديدة اقتلعت خيامهم ورمت قدورهم, وأرسلنا ملائكة من السماء لم تروها, فوقع الرعب في قلوبهم. وكان الله بما تعملون بصيرًا, لا يخفى عليه من ذلك شيء.
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا ( 10 )
اذكروا إذ جاؤوكم مِن فوقكم من أعلى الوادي من جهة المشرق, ومن أسفل منكم من بطن الوادي من جهة المغرب, وإذ شخصت الأبصار من شدة الحَيْرة والدهشة, وبلغت القلوب الحناجر من شدة الرعب, وغلب اليأس المنافقين, وكثرت الأقاويل, وتظنون بالله الظنون السيئة أنه لا ينصر دينه, ولا يعلي كلمته.
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ( 11 )
في ذلك الموقف العصيب اختُبر إيمان المؤمنين ومُحِّص القوم, وعُرف المؤمن من المنافق, واضطربوا اضطرابًا شديدًا بالخوف والقلق; ليتبين إيمانهم ويزيد يقينهم.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ( 12 )
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم شك, وهم ضعفاء الإيمان: ما وعدنا الله ورسوله من النصر والتمكين إلا باطلا من القول وغرورًا, فلا تصدقوه.
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ( 13 )
واذكر - أيها النبي- قول طائفة من المنافقين منادين المؤمنين من أهل « المدينة » : يا أهل « يثرب » ( وهو الاسم القديم « للمدينة » ) لا إقامة لكم في معركة خاسرة, فارجعوا إلى منازلكم داخل « المدينة » , ويستأذن فريق آخر من المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى منازلهم بحجة أنها غير محصنة, فيخشون عليها, والحق أنها ليست كذلك, وما قصدوا بذلك إلا الفرار من القتال.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ( 14 )
ولو دخل جيش الأحزاب « المدينة » من جوانبها, ثم سئل هؤلاء المنافقون الشرك بالله والرجوع عن الإسلام, لأجابوا إلى ذلك مبادرين, وما تأخروا عن الشرك إلا يسيرًا.
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ( 15 )
ولقد كان هؤلاء المنافقون عاهدوا الله على يد رسوله من قبل غزوة الخندق, لا يفرُّون إن شهدوا الحرب, ولا يتأخرون إذا دعوا إلى الجهاد, ولكنهم خانوا عهدهم, وسيحاسبهم الله على ذلك, ويسألهم عن ذلك العهد, وكان عهد الله مسؤولا عنه, محاسَبًا عليه.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ( 16 )
قل - أيها النبي- لهؤلاء المنافقين: لن ينفعكم الفرار من المعركة خوفًا من الموت أو القتل; فإن ذلك لا يؤخر آجالكم, وإن فررتم فلن تتمتعوا في هذه الدنيا إلا بقدر أعماركم المحدودة, وهو زمن يسير جدًا بالنسبة إلى الآخرة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 17 )
قل - أيها النبي- لهم: مَن ذا الذي يمنعكم من الله, أو يجيركم مِن عذابه, إن أراد بكم سوءًا, أو أراد بكم رحمة, فإنه المعطي المانع الضارُّ النافع؟ ولا يجد هؤلاء المنافقون لهم من دون الله وليًّا يواليهم, ولا نصيرًا ينصرهم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ( 18 )
إن الله يعلم المثبطين عن الجهاد في سبيل الله, والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا, واتركوا محمدًا, فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه, وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياء وسمعة وخوف الفضيحة.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 19 )
بُخَلاء عليكم - أيها المؤمنون- بالمال والنفس والجهد والمودة لما في نفوسهم من العداوة والحقد؛ حبًا في الحياة وكراهة للموت, فإذا حضر القتال خافوا الهلاك ورأيتهم ينظرون إليك, تدور أعينهم لذهاب عقولهم؛ خوفًا من القتل وفرارًا منه كدوران عين مَن حضره الموت, فإذا انتهت الحرب وذهب الرعب رموكم بألسنة حداد مؤذية, وتراهم عند قسمة الغنائم بخلاء وحسدة, أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم, فأذهب الله ثواب أعمالهم, وكان ذلك على الله يسيرًا.
يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ( 20 )
يظن المنافقون أن الأحزاب الذين هزمهم الله تعالى شر هزيمة لم يذهبوا؛ ذلك من شدة الخوف والجبن, ولو عاد الأحزاب إلى « المدينة » لتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا غائبين عن « المدينة » بين أعراب البادية, يستخبرون عن أخباركم ويسألون عن أنبائكم, ولو كانوا فيكم ما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( 21 )
لقد كان لكم - أيها المؤمنون- في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله قدوة حسنة تتأسون بها, فالزموا سنته, فإنما يسلكها ويتأسى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر, وأكثرَ مِن ذكر الله واستغفاره, وشكره في كل حال.
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( 22 )
ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول « المدينة » وأحاطوا بها, تذكروا أن موعد النصر قد قرب, فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله, من الابتلاء والمحنة والنصر, فأنجز الله وعده, وصدق رسوله فيما بشَّر به, وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ( 23 )
من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله تعالى, وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس: فمنهم من وَفَّى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء, ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة, وما غيَّروا عهد الله, ولا نقضوه ولا بدَّلوه, كما غيَّر المنافقون.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 24 )
ليثيب الله أهل الصدق بسبب صدقهم وبلائهم وهم المؤمنون, ويعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم, بأن لا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت, فيموتوا على الكفر, فيستوجبوا النار, أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة والإنابة, إن الله كان غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم إذا تابوا, رحيمًا بهم; حيث وفقهم للتوبة النصوح.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( 25 )
وردَّ الله أحزاب الكفر عن « المدينة » خائبين خاسرين مغتاظين, لم ينالوا خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال بما أيدهم به من الأسباب. وكان الله قويًا لا يُغالَب ولا يُقْهَر, عزيزًا في ملكه وسلطانه.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ( 26 )
وأنزل الله يهود بني قريظة من حصونهم; لإعانتهم الأحزاب في قتال المسلمين, وألقى في قلوبهم الخوف فهُزموا, تقتلون منهم فريقًا, وتأسرون فريقًا آخر.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 27 )
وملَّككم الله - أيها المؤمنون- أرضهم ومساكنهم وأموالهم المنقولة كالحليِّ والسلاح والمواشي, وغير المنقولة كالمزارع والبيوت والحصون المنيعة, وأورثكم أرضًا لم تتمكنوا مِن وطئها من قبل؛ لمنعتها وعزتها عند أهلها. وكان الله على كل شيء قديرًا, لا يعجزه شيء.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( 28 )
يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك, يطلبن منك زيادة النفقة: إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا, وأفارقكنَّ دون ضرر أو إيذاء.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )
وإن كنتن تردْنَ رضا الله ورضا رسوله وما أعدَّ الله لكُنَّ في الدار الآخرة, فاصبرْنَ على ما أنتُنَّ عليه, وأطعن الله ورسوله, فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ ثوابًا عظيمًا. ( وقد اخترن الله ورسوله, وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة ) .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 )
يا نساء النبي مَن يأت منكن بمعصية ظاهرة يُضاعَف لها العذاب مرتين. فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهن عقوبته مغلظة؛ صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك العقاب على الله يسيرًا.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( 31 )
ومن تطع منكن الله ورسوله, وتعمل بما أمر الله به, نُعْطها ثواب عملها مثلَي ثواب عمل غيرها من سائر النساء, وأعددنا لها رزقًا كريمًا, وهو الجنة.
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 32 )
يا نساء النبيِّ - محمد- لستنَّ في الفضل والمنزلة كغيركنَّ من النساء, إن عملتن بطاعة الله وابتعدتن عن معاصيه، فلا تتحدثن مع الأجانب بصوت لَيِّن يُطمع الذي في قلبه فجور ومرض في الشهوة الحرام، وهذا أدب واجب على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, وقُلن قولا بعيدًا عن الريبة, لا تنكره الشريعة.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ( 33 )
والْزَمْنَ بيوتكن, ولا تخرجن منها إلا لحاجة, ولا تُظهرن محاسنكن, كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام, وهو خطاب للنساء المؤمنات في كل عصر. وأدِّين - يا نساء النبي- الصلاة كاملة في أوقاتها, وأعطين الزكاة كما شرع الله, وأطعن الله ورسوله في أمرهما ونهيهما, إنما أوصاكن الله بهذا؛ ليزكيكنَّ, ويبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي - ومنهم زوجاته وذريته عليه الصلاة والسلام- , ويطهِّر نفوسكم غاية الطهارة.
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( 34 )
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملن به, واقدُرْنه حقَّ قَدْره, فهو من نِعَم الله عليكن, إن الله كان لطيفًا بكنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والسنة, خبيرًا بكنَّ إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجًا.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 35 )
إن المنقادين لأوامر الله والمنقادات, والمصَدِّقين والمصدِّقات والمطيعين لله ورسوله والمطيعات, والصادقين في أقوالهم والصادقات, والصابرين عن الشهوات وعلى الطاعات وعلى المكاره والصابرات, والخائفين من الله والخائفات, والمتصدقين بالفرض والنَّفْل والمتصدقات, والصائمين في الفرض والنَّفْل والصائمات, والحافظين فروجهم عن الزنى ومقدماته, وعن كشف العورات والحافظات, والذاكرين الله كثيرًا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات, أعدَّ الله لهؤلاء مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا, وهو الجنة.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ( 36 )
ولا ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة إذا حكم الله ورسوله فيهم حُكمًا أن يخالفوه, بأن يختاروا غير الذي قضى فيهم. ومن يعص الله ورسوله فقد بَعُدَ عن طريق الصواب بُعْدًا ظاهرًا.
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ( 37 )
وإذ تقول - أيها النبي- للذي أنعم الله عليه بالإسلام - وهو زيد بن حارثة الذي أعتقه وتبنَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم- وأنعمت عليه بالعتق: أَبْقِ زوجك زينب بنت جحش ولا تطلقها, واتق الله يا زيد, وتخفي - يا محمد- في نفسك ما أوحى الله به إليك من طلاق زيد لزوجه وزواجك منها, والله تعالى مظهر ما أخفيت, وتخاف المنافقين أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه, والله تعالى أحق أن تخافه, فلما قضى زيد منها حاجته, وطلقها, وانقضت عدتها, زوجناكها; لتكون أسوة في إبطال عادة تحريم الزواج بزوجة المتبنى بعد طلاقها, ولا يكون على المؤمنين إثم وذنب في أن يتزوجوا من زوجات من كانوا يتبنَّوْنهم بعد طلاقهن إذا قضوا منهن حاجتهم. وكان أمر الله مفعولا لا عائق له ولا مانع. وكانت عادة التبني في الجاهلية، ثم أُبطلت بقوله تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ .
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ( 38 )
ما كان على النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم من ذنب فيما أحلَّ الله له من زواج امرأة مَن تبنَّاه بعد طلاقها, كما أباحه للأنبياء قبله, سنة الله في الذين خَلَوا من قبل, وكان أمر الله قدرًا مقدورًا لا بد من وقوعه.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 39 )
ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم بأنهم: الذين يُبَلِّغون رسالاتِ الله إلى الناس, ويخافون الله وحده, ولا يخافون أحدًا سواه. وكفى بالله محاسبًا عباده على جميع أعمالهم ومراقبًا لها.
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 40 )
ما كان محمد أبًا لأحد من رجالكم, ولكنه رسول الله وخاتم النبيين, فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة. وكان الله بكل شيء من أعمالكم عليمًا, لا يخفى عليه شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( 41 ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 42 )
يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذِكْرًا كثيرًا, واشغلوا أوقاتكم بذكر الله تعالى عند الصباح والمساء, وأدبار الصلوات المفروضات, وعند العوارض والأسباب, فإن ذلك عبادة مشروعة, تدعو إلى محبة الله, وكف اللسان عن الآثام, وتعين على كل خير.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( 43 )
هو الذي يرحمكم ويثني عليكم وتدعو لكم ملائكته؛ ليخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الإسلام, وكان بالمؤمنين رحيمًا في الدنيا والآخرة, لا يعذبهم ما داموا مطيعين مخلصين له.
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( 44 )
تحية هؤلاء المؤمنين من الله في الجنة يوم يلقونه سلام, وأمان لهم من عذاب الله, وقد أعدَّ لهم ثوابًا حسنًا, وهو الجنة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 45 ) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ( 46 )
يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا على أمتك بإبلاغهم الرسالة, ومبشرًا المؤمنين منهم بالرحمة والجنة, ونذيرًا للعصاة والمكذبين من النار, وداعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده بأمره إياك, وسراجًا منيرًا لمن استنار بك, فأمْرك ظاهر فيما جئتَ به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها, لا يجحدها إلا معاند.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ( 47 )
وبَشِّر - أيها النبي- أهل الإيمان بأن لهم من الله ثوابًا عظيمًا, وهو روضات الجنات.
وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 48 )
ولا تطع - أيها الرسول- قول كافر أو منافق واترك أذاهم, ولا يمنعك ذلك من تبليغ الرسالة, وثق بالله في كل أمورك واعتمد عليه؛ فإنه يكفيك ما أهمَّك من كل أمور الدنيا والآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ( 49 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن ثم طلقتموهن مِن قبل أن تجامعوهن, فما لكم عليهن مِن عدَّة تحصونها عليهن, فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها بحسب الوسع جبرًا لخواطرهن, وخلُّوا سبيلهن مع الستر الجميل, دون أذى أو ضرر.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 50 )
يا أيها النبي إنَّا أبَحْنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن, وأبَحْنا لك ما مَلَكَتْ يمينك من الإماء, مما أنعم الله به عليك, وأبحنا لك الزواج من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك, وأبحنا لك امرأة مؤمنة مَنَحَتْ نفسها لك من غير مهر, إن كنت تريد الزواج منها خالصة لك, وليس لغيرك أن يتزوج امرأة بالهِبَة. قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين في أزواجهم وإمائهم بألا يتزوجوا إلا أربع نسوة, وما شاؤوا من الإماء, واشتراط الوليِّ والمهر والشهود عليهم, ولكنا رخصنا لك في ذلك, ووسَّعْنا عليك ما لم يُوسَّع على غيرك؛ لئلا يضيق صدرك في نكاح مَن نكحت مِن هؤلاء الأصناف. وكان الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين, رحيمًا بالتوسعة عليهم.
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( 51 )
تؤخر مَن تشاء مِن نسائك في القَسْم في المبيت, وتضم إليك مَن تشاء منهن, ومَن طَلَبْتَ ممن أخَّرت قَسْمها, فلا إثم عليك في هذا, ذلك التخيير أقرب إلى أن يفرحن ولا يحزنَّ, ويرضين كلهن بما قسمت لهنَّ, والله يعلم ما في قلوب الرجال مِن مَيْلها إلى بعض النساء دون بعض. وكان الله عليمًا بما في القلوب, حليمًا لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ( 52 )
لا يباح لك النساء من بعد نسائك اللاتي فى عصمتك, واللاتي أبحناهنَّ لك ( وهنَّ المذكورات في الآية السابقة رقم [ 50 ] من هذه السورة ) , ومن كانت في عصمتك من النساء المذكورات لا يحل لك أن تطلِّقها مستقبَلا وتأتي بغيرها بدلا منها, ولو أعجبك جمالها, وأما الزيادة على زوجاتك من غير تطليق إحداهن فلا حرج عليك, وأما ما ملكت يمينك من الإماء, فحلال لك منهن من شئت. وكان الله على كل شيء رقيبًا, لا يغيب عنه علم شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ( 53 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تدخلوا بيوت النبي إلا بإذنه لتناول طعام غير منتظرين نضجه, ولكن إذا دعيتم فادخلوا, فإذا أكلتم فانصرفوا غير مستأنسين لحديث بينكم؛ فإن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي, فيستحيي من إخراجكم من البيوت مع أن ذلك حق له, والله لا يستحيي من بيان الحق وإظهاره. وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء, وللنساء في أمر الرجال؛ فالرؤية سبب الفتنة, وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله, ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته أبدًا؛ لأنهن أمهاتكم, ولا يحلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه, إنَّ أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده إثم عظيم عند الله. ( وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر, واجتنبت ما نهى الله عنه منه ) .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 54 )
إن تُظْهِروا شيئًا على ألسنتكم - أيها الناس- مما يؤذي رسول الله مما نهاكم الله عنه, أو تخفوه في نفوسكم, فإن الله تعالى يعلم ما في قلوبكم وما أظهرتموه, وسيجازيكم على ذلك.
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 55 )
لا إثم على النساء في عدم الاحتجاب من آبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن والنساء المؤمنات والعبيد المملوكين لهن؛ لشدة الحاجة إليهم في الخدمة. وخفن الله - أيتها النساء- أن تتعدَّيْن ما حَدَّ لكنَّ, فتبدين من زينتكن ما ليس لكُنَّ أن تبدينه, أو تتركن الحجاب أمام مَن يجب عليكن الاحتجاب منه. إن الله كان على كل شيء شهيدًا ، يشهد أعمال العباد ظاهرها وباطنها, وسيجزيهم عليها.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 56 )
إن الله تعالى يثني على النبي صلى الله عليه وسلم عند الملائكة المقربين, وملائكته يثنون على النبي ويدعون له, يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, صلُّوا على رسول لله, وسلِّموا تسليمًا, تحية وتعظيمًا له. وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت في السنة على أنواع, منها: « اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد » .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ( 57 )
إن الذين يؤذون الله بالشرك أو غيره من المعاصي, ويؤذون رسول الله بالأقوال أو الأفعال, أبعدهم الله وطردهم مِن كل خير في الدنيا والآخرة, وأعدَّ لهم في الآخرة عذابًا يذلهم ويهينهم.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 58 )
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بقول أو فعل من غير ذنب عملوه, فقد ارتكبوا أفحش الكذب والزور, وأتوا ذنبًا ظاهر القبح يستحقون به العذاب في الآخرة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 59 )
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يرخين على رؤوسهن ووجوههن من أرديتهن وملاحفهن؛ لستر وجوههن وصدورهن ورؤوسهن; ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة, فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى. وكان الله غفورًا رحيمًا حيث غفر لكم ما سلف, ورحمكم بما أوضح لكم من الحلال والحرام.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( 60 ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( 61 )
لئن لم يكفَّ الذين يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان والذين في قلوبهم شك وريبة, والذين ينشرون الأخبار الكاذبة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائحهم وشرورهم, لنسلِّطنَّك عليهم, ثم لا يسكنون معك فيها إلا زمنًا قليلا. مطرودين من رحمة الله, في أي مكان وُجِدوا فيه أُسِروا وقُتِّلوا تقتيلا ما داموا مقيمين على النفاق ونشر الأخبار الكاذبة بين المسلمين بغرض الفتنة والفساد.
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 62 )
سنة الله وطريقته في منافقي الأمم السابقة أن يؤسَروا ويُقَتَّلوا أينما كانوا, ولن تجد - أيها النبي- لطريقة الله تحويلا ولا تغييرًا.
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ( 63 )
يسألك الناس - أيها الرسول- عن وقت القيامة استبعادًا وتكذيبًا, قل لهم: إنما علم الساعة عند الله, وما يدريك - أيها الرسول- لعل زمانها قريب؟
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ( 64 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 65 ) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ( 66 )
إن الله طرد الكافرين من رحمته في الدنيا والآخرة, وأعدَّ لهم في الآخرة نارًا موقدة شديدة الحرارة, ماكثين فيها أبدًا, لا يجدون وليًّا يتولاهم ويدافع عنهم, ولا نصيرًا ينصرهم, فيخرجهم من النار. يوم تُقَلَّب وجوه الكافرين في النار يقولون نادمين متحيِّرين: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا رسوله في الدنيا, فكنا من أهل الجنة.
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ( 67 ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ( 68 )
وقال الكافرون يوم القيامة: ربنا إنا أطَعْنا أئمتنا في الضلال وكبراءنا في الشرك, فأزالونا عن طريق الهُدى والإيمان. ربنا عذِّبهم من العذاب مثلَيْ عذابنا الذي تعذبنا به, واطردهم من رحمتك طردًا شديدًا. وفي هذا دليل على أن طاعة غير الله في مخالفة أمره وأمر رسوله, موجبة لسخط الله وعقابه, وأن التابع والمتبوع في العذاب مشتركون, فليحذر المسلم ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ( 69 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تؤذوا رسول الله بقول أو فعل, ولا تكونوا أمثال الذين آذوا نبيَّ الله موسى, فبرَّأه الله مما قالوا فيه من الكذب والزور, وكان عند الله عظيم القدر والجاه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 70 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, اعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته؛ لئلا تستحقوا بذلك العقاب, وقولوا في جميع أحوالكم وشؤونكم قولا مستقيمًا موافقًا للصواب خاليًا من الكذب والباطل.
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 71 )
إذا اتقيتم الله وقلتم قولا سديدًا أصلح الله لكم أعمالكم, وغفر ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فيما أمر ونهى فقد فاز بالكرامة العظمى في الدنيا والآخرة.
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ( 72 )
إنا عرضنا الأمانة - التي ائتمن الله عليها المكلَّفين من امتثال الأوامر واجتناب النواهي- على السموات والأرض والجبال, فأبين أن يحملنها, وخفن أن لا يقمن بأدائها, وحملها الإنسان والتزم بها على ضعفه, إنه كان شديد الظلم والجهل لنفسه.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 73 )
( وحمل الإنسان الأمانة ) ليعذب الله المنافقين الذين يُظهرون الإسلام ويُخفون الكفر, والمنافقات, والمشركين في عبادة الله غيره, والمشركات, ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بستر ذنوبهم وترك عقابهم. وكان الله غفورًا للتائبين من عباده, رحيمًا بهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة سبأ .. بن كثير
=====
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 )
الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي له ملك ما في السموات وما في الأرض, وله الثناء التام في الآخرة, وهو الحكيم في فعله, الخبير بشؤون خلقه.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 )
يعلم كل ما يدخل في الأرض من قطرات الماء, وما يخرج منها من النبات والمعادن والمياه, وما ينزل من السماء من الأمطار والملائكة والكتب, وما يصعد إليها من الملائكة وأفعال الخلق. وهو الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة, الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 3 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 )
وقال الكافرون المنكرون للبعث: لا تأتينا القيامة, قل لهم - أيها الرسول- : بلى وربي لتأتينَّكم, ولكن لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى الله علام الغيوب, الذي لا يغيب عنه وزن نملة صغيرة في السموات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا هو مسطور في كتاب واضح, وهو اللوح المحفوظ; ليثيب الذين صدَّقوا بالله, واتَّبَعوا رسوله, وعملوا الصالحات. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم, وهو الجنة.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( 5 )
والذين سعوا في الصدِّ عن سبيل الله وتكذيب رسله وإبطال آياتنا مشاقين الله مغالبين أمره, أولئك لهم أسوأ العذاب وأشده ألمًا.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 6 )
ويعلم الذين أُعطوا العلم أن القرآن الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق, ويرشد إلى طريق الله, العزيز الذي لا يغالَب ولا يمانع, بل قهر كل شيء وغلبه, المحمود في أقواله وأفعاله وشرعه.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 7 )
وقال الذين كفروا بعضهم لبعض استهزاء: هل ندلكم على رجل ( يريدون محمدًا صلى الله عليه وسلم ) يخبركم أنكم إذا متم وتفرقت أجسامكم كل تفرُّق, إنكم ستُحيون وتُبعثون من قبوركم؟ قالوا ذلك مِن فرط إنكارهم.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ( 8 )
هذا الرجل أختلق على الله كذبًا أم به جنون, فهو يتكلم بما لا يدري؟ ليس الأمر كما قال الكفار, بل محمد أصدق الصادقين. والذين لا يصدقون بالبعث ولا يعملون من أجله في العذاب الدائم في الآخرة, والضلال البعيد عن الصواب في الدنيا.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 9 )
أفلم ير هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة عظيم قدرة الله فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض مما يبهر العقول, وأنهما قد أحاطتا بهم؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض, كما فعلنا بقارون, أو ننزل عليهم قطعًا من العذاب, كما فعلنا بقوم شعيب, فقد أمطرت السماء عليهم نارًا فأحرقتهم. إن في ذلك الذي ذكرنا من قدرتنا لَدلالة ظاهرة لكل عبد راجع إلى ربه بالتوبة, ومقر له بتوحيده, ومخلص له في العبادة.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( 10 )
ولقد آتينا داود نبوة, وكتابًا وعلمًا, وقلنا للجبال والطير: سبِّحي معه, وألنَّا له الحديد, فكان كالعجين يتصرف فيه كيف يشاء.
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 11 )
أن اعمل دروعًا تامات واسعات وقدِّر المسامير في حِلَق الدروع, فلا تعمل الحلقة صغيرة فتَضْعُف, فلا تقوى الدروع على الدفاع, ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها, واعمل يا داود أنت وأهلك بطاعة الله, إني بما تعملون بصير لا يخفى عليَّ شيء منها.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( 12 )
وسخَّرنا لسليمان الريح تجري من أول النهار إلى انتصافه مسيرة شهر, ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر بالسير المعتاد, وأسلنا له النحاس كما يسيل الماء, يعمل به ما يشاء, وسخَّرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه, ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار المستعرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( 13 )
يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة, وصور من نحاس وزجاج, وقِصَاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء, وقدور ثابتات لا تتحرك من أماكنها لعظمهن, وقلنا يا آل داود: اعملوا شكرًا لله على ما أعطاكم, وذلك بطاعته وامتثال أمره, وقليل من عبادي من يشكر الله كثيرًا, وكان داود وآله من القليل.
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 14 )
فلما قضينا على سليمان بالموت ما دلَّ الجن على موته إلا الأرَضَةُ تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها, فوقع سليمان على الأرض, عند ذلك علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما أقاموا في العذاب المذلِّ والعمل الشاق لسليمان؛ ظنا منهم أنه من الأحياء. وفي الآية إبطال لاعتقاد بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب; إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان عليه السلام, ولما أقاموا في العذاب المهين.
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 )
لقد كان لقبيلة سبأ بـ « اليمن » في مسكنهم دلالة على قدرتنا: بستانان عن يمين وشمال, كلوا من رزق ربكم, واشكروا له نعمه عليكم; فإن بلدتكم كريمة التربة حسنة الهواء, وربكم غفور لكم.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ( 16 ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ( 17 )
فأعرضوا عن أمر الله وشكره وكذبوا الرسل, فأرسلنا عليهم السيل الجارف الشديد الذي خرَّب السد وأغرق البساتين, وبدَّلناهم بجنتيهم المثمرتين جنتين ذواتَيْ أكل خمط, وهو الثمر المر الكريه الطعم, وأثْل وهو شجر شبيه بالطَّرْفاء لا ثمر له, وقليل من شجر النَّبْق كثير الشوك. ذلك التبديل من خير إلى شر بسبب كفرهم, وعدم شكرهم نِعَمَ الله, وما نعاقب بهذا العقاب الشديد إلا الجَحود المبالغ في الكفر, يجازى بفعله مثلا بمثل.
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ( 18 )
وجعلنا بين أهل « سبأ » - وهم « باليمن » - والقرى التي باركنا فيها - وهي « الشام » - مُدنًا متصلة يُرى بعضها من بعض, وجعلنا السير فيها سيرًا مقدَّرًا من منزل إلى منزل لا مشقة فيه, وقلنا لهم: سيروا في تلك القرى في أيِّ وقت شئتم من ليل أو نهار, آمنين لا تخافون عدوًّا, ولا جوعًا ولا عطشًا.
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 19 )
فبطغيانهم ملُّوا الراحة والأمن ورغد العيش, وقالوا: ربنا اجعل قُرانا متباعدة; ليبعد سفرنا بينها, فلا نجد قرى عامرة في طريقنا, وظلموا أنفسهم بكفرهم فأهلكناهم, وجعلناهم عبرًا وأحاديث لمن يأتي بعدهم, وفَرَّقناهم كل تفريق وخربت بلادهم, إن فيما حل « بسبأ » لَعبرة لكل صبَّار على المكاره والشدائد, شكور لنعم الله تعالى.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 20 )
ولقد ظن إبليس ظنًا غير يقين أنه سيضل بني آدم, وأنهم سيطيعونه في معصية الله, فصدَّق ظنه عليهم, فأطاعوه وعصوا ربهم إلا فريقًا من المؤمنين بالله, فإنهم ثبتوا على طاعة الله.
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 21 )
وما كان لإبليس على هؤلاء الكفار مِن قهر على الكفر, ولكن حكمة الله اقتضت تسويله لبني آدم; ليظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز مَن يصدِّق بالبعث والثواب والعقاب ممن هو في شك من ذلك. وربك على كل شيء حفيظ, يحفظه ويجازي عليه.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ( 22 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: ادعوا الذين زعمتموهم شركاء لله فعبدتموهم من دونه من الأصنام والملائكة والبشر, واقصدوهم في حوائجكم, فإنهم لن يجيبوكم, فهم لا يملكون وزن نملة صغيرة في السموات ولا في الأرض, وليس لهم شِرْكة فيهما, وليس لله من هؤلاء المشركين معين على خلق شيء, بل الله - سبحانه وتعالى- هو المتفرد بالإيجاد, فهو الذي يُعْبَدُ وحده, ولا يستحق العبادة أحد سواه.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 23 )
ولا تنفع شفاعة الشافع عند الله تعالى إلا لمن أذن له. ومن عظمته وجلاله عز وجل أنه إذا تكلم سبحانه بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أُرعدوا من الهيبة, حتى يلحقهم مثل الغشي, فإذا زال الفزع عن قلوبهم سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: قال الحق, وهو العليُّ بذاته وقهره وعلوِّ قدْره, الكبير على كل شيء.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: مَن يرزقكم من السماوات بالمطر, ومن الأرض بالنبات والمعادن وغير ذلك؟ فإنهم لا بدَّ أن يُقِرُّوا بأنه الله, وإن لم يُقِرُّوا بذلك فقل لهم: الله هو الرزاق, وإنَّ أحد الفريقين منا ومنكم لعلى هدى متمكن منه, أو في ضلال بيِّن منغمس فيه.
قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 25 )
قل: لا تُسألون عن ذنوبنا, ولا نُسأل عن أعمالكم; لأننا بريئون منكم ومِن كفركم.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( 26 )
قل: ربنا يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, ثم يقضي بيننا بالعدل, وهو الفتَّاح الحاكم بين خلقه, العليم بما ينبغي أن يُقْضى به, وبأحوال خلقه, لا تخفى عليه خافية.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 )
قل: أروني بالحجة والدليل الذين ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء له في العبادة, هل خلقوا شيئًا؟ ليس الأمر كما وصفوا, بل هو المعبود بحق الذي لا شريك له, العزيز في انتقامه ممن أشرك به، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أمور خلقه.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 28 )
وما أرسلناك - أيها الرسول- إلا للناس أجمعين مبشرًا بثواب الله, ومنذرًا عقابه, ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق, فهم معرضون عنه.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 29 )
ويقول هؤلاء المشركون مستهزئين: متى هذا الوعد الذي تَعِدوننا أن يجمعنا الله فيه, ثم يقضي بيننا, إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ( 30 )
قل لهم - أيها الرسول- : لكم ميعاد هو آتيكم لا محالة, وهو ميعاد يوم القيامة, لا تستأخرون عنه ساعة للتوبة, ولا تستقدمون ساعةً قبله للعذاب. فاحذروا ذلك اليوم, وأَعِدُّوا له عدته.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( 31 )
وقال الذين كفروا: لن نصدِّق بهذا القرآن ولا بالذي تَقَدَّمَه من التوراة والإنجيل والزبور, فقد كذَّبوا بجميع كتب الله. ولو ترى - أيها الرسول- إذ الظالمون محبوسون عند ربهم للحساب, يتراجعون الكلام فيما بينهم, كل يُلْقي بالعتاب على الآخر, لرأيت شيئًا فظيعا, يقول المستضعفون للذين استكبروا - وهم القادة والرؤساء الضالون المضلون- : لولا أنتم أضللتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ( 32 )
قال الرؤساء للذين استُضعِفوا: أنحن منعناكم من الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ دخلتم في الكفر بإرادتكم مختارين.
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 33 )
وقال المستضعفون لرؤسائهم في الضلال: بل تدبيركم الشر لنا في الليل والنهار هو الذي أوقعنا في التهلكة, فكنتم تطلبون منا أن نكفر بالله, ونجعل له شركاء في العبادة, وأسرَّ كُلٌّ من الفريقين الحسرة حين رأوا العذاب الذي أُعدَّ لهم, وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا, لا يعاقَبون بهذا العقاب إلا بسبب كفرهم بالله وعملهم السيئات في الدنيا. وفي الآية تحذير شديد من متابعة دعاة الضلال وأئمة الطغيان.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 34 )
وما أرسلنا في قرية من رسول يدعو الى توحيد الله وإفراده بالعبادة, إلا قال المنغمسون في اللذات والشهوات من أهلها: إنَّا بالذي جئتم به - أيها الرسل- جاحدون.
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 35 )
وقالوا: نحن أكثر منكم أموالا وأولادًا, والله لم يعطنا هذه النعم إلا لرضاه عنا, وما نحن بمعذَّبين في الدنيا ولا في الآخرة.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 36 )
قل لهم - أيها الرسول- : إن ربي يوسِّع الرزق في الدنيا لمن يشاء مِن عباده, ويضيِّق على مَن يشاء, لا لمحبة ولا لبغض, ولكن يفعل ذلك اختبارًا, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك اختبار لعباده؛ لأنهم لا يتأملون.
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( 37 )
وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى, وترفع درجاتكم, لكن مَن آمن بالله وعمل صالحًا فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات, فالحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة, وهم في أعالي الجنة آمنون من العذاب والموت والأحزان.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 38 )
والذين يسعون في إبطال حججنا, ويصدون عن سبيل الله مشاقين مغالبين, هؤلاء في عذاب جهنم يوم القيامة, تحضرهم الزبانية, فلا يخرجون منها.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 39 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد: إن ربي يوسِّع الرزق على مَن يشاء من عباده, ويضيِّقه على مَن يشاء؛ لحكمة يعلمها, ومهما أَعْطَيتم من شيء فيما أمركم به فهو يعوضه لكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالثواب, وهو - سبحانه- خير الرازقين, فاطلبوا الرزق منه وحده, واسعَوا في الأسباب التي أمركم بها.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 40 )
واذكر - أيها الرسول- يوم يحشر الله المشركين والمعبودين من دونه من الملائكة, ثم يقول للملائكة على وجه التوبيخ لمن عبدهم: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون مِن دوننا؟
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ( 41 )
قالت الملائكة: ننزهك يا ألله عن أن يكون لك شريك في العبادة, أنت وليُّنا الذي نطيعه ونعبده وحده, بل كان هؤلاء يعبدون الشياطين, أكثرهم بهم مصدقون ومطيعون.
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 42 )
ففي يوم الحشر لا يملك المعبودون للعابدين نفعًا ولا ضرًّا, ونقول للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 43 )
وإذا تتلى على كفار « مكة » آيات الله واضحات قالوا: ما محمد إلا رجل يرغب أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم, وقالوا: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا - يا محمد- إلا كذب مختلق, جئتَ به من عند نفسك, وليس مِن عند الله, وقال الكفار عن القرآن لما جاءهم: ما هذا إلا سحر واضح.
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ( 44 )
وما أنزلنا على الكفار مِن كُتُب يقرؤونها قبل القرآن فتدلهم على ما يزعمون من أن ما جاءهم به محمد سحر, وما أرسلنا إليهم قبلك - أيها الرسول- من رسول ينذرهم بأسنا.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 45 )
وكذَّب الذين من قبلهم كعاد وثمود رسلنا, وما بلغ أهل « مكة » عُشرَ ما آتينا الأمم السابقة من القوة, وكثرة المال, وطول العمر وغير ذلك من النعم, فكذبوا رسلي فيما جاؤوهم به فأهلكناهم, فانظر - أيها الرسول- كيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 46 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين المعاندين: إنما أنصح لكم بخصلة واحدة أن تنهضوا في طاعة الله اثنين اثنين وواحدًا واحدًا, ثم تتفكروا في حال صاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسب إليه, فما به من جنون, وما هو إلا مخوِّف لكم, ونذير من عذاب جهنم قبل أن تقاسوا حرها.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 47 )
قل - أيها الرسول- للكفار: ما سألتكم على الخير الذي جئتكم به من أجر فهو لكم, ما أجري الذي أنتظره إلا على الله المطَّلِع على أعمالي وأعمالكم, لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع, كلٌّ بما يستحقه.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 48 )
قل - أيها الرسول- لمن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام: إن ربي يقذف الباطل بحجج من الحق, فيفضحه ويهلكه, والله علام الغيوب, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( 49 )
قل - أيها الرسول- : جاء الحق والشرع العظيم من الله, وذهب الباطل واضمحلَّ سلطانه, فلم يبق للباطل شيء يبدؤه ويعيده.
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ( 50 )
قل: إن مِلْت عن الحق فإثم ضلالي على نفسي, وإن استقمت عليه فبوحي الله الذي يوحيه إليَّ, إن ربي سميع لما أقول لكم, قريب ممن دعاه وسأله.
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 51 )
ولو ترى - أيها الرسول- إذ فَزِعَ الكفار حين معاينتهم عذاب الله, لرأيت أمرًا عظيمًا, فلا نجاة لهم ولا مهرب, وأُخذوا إلى النار من موضع قريب التناول.
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 52 )
وقال الكفار - عندما رأوا العذاب في الآخرة- : آمنا بالله وكتبه ورسله, وكيف لهم تناول الإيمان في الآخرة ووصولهم له من مكان بعيد؟ قد حيل بينهم وبينه, فمكانه الدنيا, وقد كفروا فيها.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 53 )
وقد كفروا بالحق في الدنيا, وكذبوا الرسل, ويرمون بالظن من جهة بعيدة عن إصابة الحق, ليس لهم فيها مستند لظنهم الباطل, فلا سبيل لإصابتهم الحق, كما لا سبيل للرامي إلى إصابة الغرض من مكان بعيد.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ( 54 )
وحيل بين الكفار وما يشتهون من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا, كما فعل الله بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة, إنهم كانوا في الدنيا في شَكٍّ من أمر الرسل والبعث والحساب, مُحْدِث للريبة والقلق, فلذلك لم يؤمنوا.
=====
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 )
الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي له ملك ما في السموات وما في الأرض, وله الثناء التام في الآخرة, وهو الحكيم في فعله, الخبير بشؤون خلقه.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 )
يعلم كل ما يدخل في الأرض من قطرات الماء, وما يخرج منها من النبات والمعادن والمياه, وما ينزل من السماء من الأمطار والملائكة والكتب, وما يصعد إليها من الملائكة وأفعال الخلق. وهو الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة, الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 3 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 )
وقال الكافرون المنكرون للبعث: لا تأتينا القيامة, قل لهم - أيها الرسول- : بلى وربي لتأتينَّكم, ولكن لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى الله علام الغيوب, الذي لا يغيب عنه وزن نملة صغيرة في السموات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا هو مسطور في كتاب واضح, وهو اللوح المحفوظ; ليثيب الذين صدَّقوا بالله, واتَّبَعوا رسوله, وعملوا الصالحات. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم, وهو الجنة.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( 5 )
والذين سعوا في الصدِّ عن سبيل الله وتكذيب رسله وإبطال آياتنا مشاقين الله مغالبين أمره, أولئك لهم أسوأ العذاب وأشده ألمًا.
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 6 )
ويعلم الذين أُعطوا العلم أن القرآن الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق, ويرشد إلى طريق الله, العزيز الذي لا يغالَب ولا يمانع, بل قهر كل شيء وغلبه, المحمود في أقواله وأفعاله وشرعه.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 7 )
وقال الذين كفروا بعضهم لبعض استهزاء: هل ندلكم على رجل ( يريدون محمدًا صلى الله عليه وسلم ) يخبركم أنكم إذا متم وتفرقت أجسامكم كل تفرُّق, إنكم ستُحيون وتُبعثون من قبوركم؟ قالوا ذلك مِن فرط إنكارهم.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ( 8 )
هذا الرجل أختلق على الله كذبًا أم به جنون, فهو يتكلم بما لا يدري؟ ليس الأمر كما قال الكفار, بل محمد أصدق الصادقين. والذين لا يصدقون بالبعث ولا يعملون من أجله في العذاب الدائم في الآخرة, والضلال البعيد عن الصواب في الدنيا.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 9 )
أفلم ير هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة عظيم قدرة الله فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض مما يبهر العقول, وأنهما قد أحاطتا بهم؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض, كما فعلنا بقارون, أو ننزل عليهم قطعًا من العذاب, كما فعلنا بقوم شعيب, فقد أمطرت السماء عليهم نارًا فأحرقتهم. إن في ذلك الذي ذكرنا من قدرتنا لَدلالة ظاهرة لكل عبد راجع إلى ربه بالتوبة, ومقر له بتوحيده, ومخلص له في العبادة.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( 10 )
ولقد آتينا داود نبوة, وكتابًا وعلمًا, وقلنا للجبال والطير: سبِّحي معه, وألنَّا له الحديد, فكان كالعجين يتصرف فيه كيف يشاء.
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 11 )
أن اعمل دروعًا تامات واسعات وقدِّر المسامير في حِلَق الدروع, فلا تعمل الحلقة صغيرة فتَضْعُف, فلا تقوى الدروع على الدفاع, ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها, واعمل يا داود أنت وأهلك بطاعة الله, إني بما تعملون بصير لا يخفى عليَّ شيء منها.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( 12 )
وسخَّرنا لسليمان الريح تجري من أول النهار إلى انتصافه مسيرة شهر, ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر بالسير المعتاد, وأسلنا له النحاس كما يسيل الماء, يعمل به ما يشاء, وسخَّرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه, ومن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار المستعرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( 13 )
يعمل الجن لسليمان ما يشاء من مساجد للعبادة, وصور من نحاس وزجاج, وقِصَاع كبيرة كالأحواض التي يجتمع فيها الماء, وقدور ثابتات لا تتحرك من أماكنها لعظمهن, وقلنا يا آل داود: اعملوا شكرًا لله على ما أعطاكم, وذلك بطاعته وامتثال أمره, وقليل من عبادي من يشكر الله كثيرًا, وكان داود وآله من القليل.
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 14 )
فلما قضينا على سليمان بالموت ما دلَّ الجن على موته إلا الأرَضَةُ تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها, فوقع سليمان على الأرض, عند ذلك علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما أقاموا في العذاب المذلِّ والعمل الشاق لسليمان؛ ظنا منهم أنه من الأحياء. وفي الآية إبطال لاعتقاد بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب; إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان عليه السلام, ولما أقاموا في العذاب المهين.
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 )
لقد كان لقبيلة سبأ بـ « اليمن » في مسكنهم دلالة على قدرتنا: بستانان عن يمين وشمال, كلوا من رزق ربكم, واشكروا له نعمه عليكم; فإن بلدتكم كريمة التربة حسنة الهواء, وربكم غفور لكم.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ( 16 ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ( 17 )
فأعرضوا عن أمر الله وشكره وكذبوا الرسل, فأرسلنا عليهم السيل الجارف الشديد الذي خرَّب السد وأغرق البساتين, وبدَّلناهم بجنتيهم المثمرتين جنتين ذواتَيْ أكل خمط, وهو الثمر المر الكريه الطعم, وأثْل وهو شجر شبيه بالطَّرْفاء لا ثمر له, وقليل من شجر النَّبْق كثير الشوك. ذلك التبديل من خير إلى شر بسبب كفرهم, وعدم شكرهم نِعَمَ الله, وما نعاقب بهذا العقاب الشديد إلا الجَحود المبالغ في الكفر, يجازى بفعله مثلا بمثل.
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ( 18 )
وجعلنا بين أهل « سبأ » - وهم « باليمن » - والقرى التي باركنا فيها - وهي « الشام » - مُدنًا متصلة يُرى بعضها من بعض, وجعلنا السير فيها سيرًا مقدَّرًا من منزل إلى منزل لا مشقة فيه, وقلنا لهم: سيروا في تلك القرى في أيِّ وقت شئتم من ليل أو نهار, آمنين لا تخافون عدوًّا, ولا جوعًا ولا عطشًا.
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 19 )
فبطغيانهم ملُّوا الراحة والأمن ورغد العيش, وقالوا: ربنا اجعل قُرانا متباعدة; ليبعد سفرنا بينها, فلا نجد قرى عامرة في طريقنا, وظلموا أنفسهم بكفرهم فأهلكناهم, وجعلناهم عبرًا وأحاديث لمن يأتي بعدهم, وفَرَّقناهم كل تفريق وخربت بلادهم, إن فيما حل « بسبأ » لَعبرة لكل صبَّار على المكاره والشدائد, شكور لنعم الله تعالى.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 20 )
ولقد ظن إبليس ظنًا غير يقين أنه سيضل بني آدم, وأنهم سيطيعونه في معصية الله, فصدَّق ظنه عليهم, فأطاعوه وعصوا ربهم إلا فريقًا من المؤمنين بالله, فإنهم ثبتوا على طاعة الله.
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 21 )
وما كان لإبليس على هؤلاء الكفار مِن قهر على الكفر, ولكن حكمة الله اقتضت تسويله لبني آدم; ليظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز مَن يصدِّق بالبعث والثواب والعقاب ممن هو في شك من ذلك. وربك على كل شيء حفيظ, يحفظه ويجازي عليه.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ( 22 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: ادعوا الذين زعمتموهم شركاء لله فعبدتموهم من دونه من الأصنام والملائكة والبشر, واقصدوهم في حوائجكم, فإنهم لن يجيبوكم, فهم لا يملكون وزن نملة صغيرة في السموات ولا في الأرض, وليس لهم شِرْكة فيهما, وليس لله من هؤلاء المشركين معين على خلق شيء, بل الله - سبحانه وتعالى- هو المتفرد بالإيجاد, فهو الذي يُعْبَدُ وحده, ولا يستحق العبادة أحد سواه.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 23 )
ولا تنفع شفاعة الشافع عند الله تعالى إلا لمن أذن له. ومن عظمته وجلاله عز وجل أنه إذا تكلم سبحانه بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أُرعدوا من الهيبة, حتى يلحقهم مثل الغشي, فإذا زال الفزع عن قلوبهم سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: قال الحق, وهو العليُّ بذاته وقهره وعلوِّ قدْره, الكبير على كل شيء.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: مَن يرزقكم من السماوات بالمطر, ومن الأرض بالنبات والمعادن وغير ذلك؟ فإنهم لا بدَّ أن يُقِرُّوا بأنه الله, وإن لم يُقِرُّوا بذلك فقل لهم: الله هو الرزاق, وإنَّ أحد الفريقين منا ومنكم لعلى هدى متمكن منه, أو في ضلال بيِّن منغمس فيه.
قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 25 )
قل: لا تُسألون عن ذنوبنا, ولا نُسأل عن أعمالكم; لأننا بريئون منكم ومِن كفركم.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( 26 )
قل: ربنا يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, ثم يقضي بيننا بالعدل, وهو الفتَّاح الحاكم بين خلقه, العليم بما ينبغي أن يُقْضى به, وبأحوال خلقه, لا تخفى عليه خافية.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 )
قل: أروني بالحجة والدليل الذين ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء له في العبادة, هل خلقوا شيئًا؟ ليس الأمر كما وصفوا, بل هو المعبود بحق الذي لا شريك له, العزيز في انتقامه ممن أشرك به، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أمور خلقه.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 28 )
وما أرسلناك - أيها الرسول- إلا للناس أجمعين مبشرًا بثواب الله, ومنذرًا عقابه, ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق, فهم معرضون عنه.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 29 )
ويقول هؤلاء المشركون مستهزئين: متى هذا الوعد الذي تَعِدوننا أن يجمعنا الله فيه, ثم يقضي بيننا, إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به؟
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ( 30 )
قل لهم - أيها الرسول- : لكم ميعاد هو آتيكم لا محالة, وهو ميعاد يوم القيامة, لا تستأخرون عنه ساعة للتوبة, ولا تستقدمون ساعةً قبله للعذاب. فاحذروا ذلك اليوم, وأَعِدُّوا له عدته.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( 31 )
وقال الذين كفروا: لن نصدِّق بهذا القرآن ولا بالذي تَقَدَّمَه من التوراة والإنجيل والزبور, فقد كذَّبوا بجميع كتب الله. ولو ترى - أيها الرسول- إذ الظالمون محبوسون عند ربهم للحساب, يتراجعون الكلام فيما بينهم, كل يُلْقي بالعتاب على الآخر, لرأيت شيئًا فظيعا, يقول المستضعفون للذين استكبروا - وهم القادة والرؤساء الضالون المضلون- : لولا أنتم أضللتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ( 32 )
قال الرؤساء للذين استُضعِفوا: أنحن منعناكم من الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ دخلتم في الكفر بإرادتكم مختارين.
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 33 )
وقال المستضعفون لرؤسائهم في الضلال: بل تدبيركم الشر لنا في الليل والنهار هو الذي أوقعنا في التهلكة, فكنتم تطلبون منا أن نكفر بالله, ونجعل له شركاء في العبادة, وأسرَّ كُلٌّ من الفريقين الحسرة حين رأوا العذاب الذي أُعدَّ لهم, وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا, لا يعاقَبون بهذا العقاب إلا بسبب كفرهم بالله وعملهم السيئات في الدنيا. وفي الآية تحذير شديد من متابعة دعاة الضلال وأئمة الطغيان.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 34 )
وما أرسلنا في قرية من رسول يدعو الى توحيد الله وإفراده بالعبادة, إلا قال المنغمسون في اللذات والشهوات من أهلها: إنَّا بالذي جئتم به - أيها الرسل- جاحدون.
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 35 )
وقالوا: نحن أكثر منكم أموالا وأولادًا, والله لم يعطنا هذه النعم إلا لرضاه عنا, وما نحن بمعذَّبين في الدنيا ولا في الآخرة.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 36 )
قل لهم - أيها الرسول- : إن ربي يوسِّع الرزق في الدنيا لمن يشاء مِن عباده, ويضيِّق على مَن يشاء, لا لمحبة ولا لبغض, ولكن يفعل ذلك اختبارًا, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك اختبار لعباده؛ لأنهم لا يتأملون.
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( 37 )
وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى, وترفع درجاتكم, لكن مَن آمن بالله وعمل صالحًا فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات, فالحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة, وهم في أعالي الجنة آمنون من العذاب والموت والأحزان.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 38 )
والذين يسعون في إبطال حججنا, ويصدون عن سبيل الله مشاقين مغالبين, هؤلاء في عذاب جهنم يوم القيامة, تحضرهم الزبانية, فلا يخرجون منها.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 39 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد: إن ربي يوسِّع الرزق على مَن يشاء من عباده, ويضيِّقه على مَن يشاء؛ لحكمة يعلمها, ومهما أَعْطَيتم من شيء فيما أمركم به فهو يعوضه لكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالثواب, وهو - سبحانه- خير الرازقين, فاطلبوا الرزق منه وحده, واسعَوا في الأسباب التي أمركم بها.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 40 )
واذكر - أيها الرسول- يوم يحشر الله المشركين والمعبودين من دونه من الملائكة, ثم يقول للملائكة على وجه التوبيخ لمن عبدهم: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون مِن دوننا؟
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ( 41 )
قالت الملائكة: ننزهك يا ألله عن أن يكون لك شريك في العبادة, أنت وليُّنا الذي نطيعه ونعبده وحده, بل كان هؤلاء يعبدون الشياطين, أكثرهم بهم مصدقون ومطيعون.
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 42 )
ففي يوم الحشر لا يملك المعبودون للعابدين نفعًا ولا ضرًّا, ونقول للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 43 )
وإذا تتلى على كفار « مكة » آيات الله واضحات قالوا: ما محمد إلا رجل يرغب أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم, وقالوا: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا - يا محمد- إلا كذب مختلق, جئتَ به من عند نفسك, وليس مِن عند الله, وقال الكفار عن القرآن لما جاءهم: ما هذا إلا سحر واضح.
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ( 44 )
وما أنزلنا على الكفار مِن كُتُب يقرؤونها قبل القرآن فتدلهم على ما يزعمون من أن ما جاءهم به محمد سحر, وما أرسلنا إليهم قبلك - أيها الرسول- من رسول ينذرهم بأسنا.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 45 )
وكذَّب الذين من قبلهم كعاد وثمود رسلنا, وما بلغ أهل « مكة » عُشرَ ما آتينا الأمم السابقة من القوة, وكثرة المال, وطول العمر وغير ذلك من النعم, فكذبوا رسلي فيما جاؤوهم به فأهلكناهم, فانظر - أيها الرسول- كيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 46 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين المعاندين: إنما أنصح لكم بخصلة واحدة أن تنهضوا في طاعة الله اثنين اثنين وواحدًا واحدًا, ثم تتفكروا في حال صاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسب إليه, فما به من جنون, وما هو إلا مخوِّف لكم, ونذير من عذاب جهنم قبل أن تقاسوا حرها.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 47 )
قل - أيها الرسول- للكفار: ما سألتكم على الخير الذي جئتكم به من أجر فهو لكم, ما أجري الذي أنتظره إلا على الله المطَّلِع على أعمالي وأعمالكم, لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع, كلٌّ بما يستحقه.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 48 )
قل - أيها الرسول- لمن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام: إن ربي يقذف الباطل بحجج من الحق, فيفضحه ويهلكه, والله علام الغيوب, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( 49 )
قل - أيها الرسول- : جاء الحق والشرع العظيم من الله, وذهب الباطل واضمحلَّ سلطانه, فلم يبق للباطل شيء يبدؤه ويعيده.
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ( 50 )
قل: إن مِلْت عن الحق فإثم ضلالي على نفسي, وإن استقمت عليه فبوحي الله الذي يوحيه إليَّ, إن ربي سميع لما أقول لكم, قريب ممن دعاه وسأله.
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 51 )
ولو ترى - أيها الرسول- إذ فَزِعَ الكفار حين معاينتهم عذاب الله, لرأيت أمرًا عظيمًا, فلا نجاة لهم ولا مهرب, وأُخذوا إلى النار من موضع قريب التناول.
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 52 )
وقال الكفار - عندما رأوا العذاب في الآخرة- : آمنا بالله وكتبه ورسله, وكيف لهم تناول الإيمان في الآخرة ووصولهم له من مكان بعيد؟ قد حيل بينهم وبينه, فمكانه الدنيا, وقد كفروا فيها.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 53 )
وقد كفروا بالحق في الدنيا, وكذبوا الرسل, ويرمون بالظن من جهة بعيدة عن إصابة الحق, ليس لهم فيها مستند لظنهم الباطل, فلا سبيل لإصابتهم الحق, كما لا سبيل للرامي إلى إصابة الغرض من مكان بعيد.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ( 54 )
وحيل بين الكفار وما يشتهون من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا, كما فعل الله بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة, إنهم كانوا في الدنيا في شَكٍّ من أمر الرسل والبعث والحساب, مُحْدِث للريبة والقلق, فلذلك لم يؤمنوا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة فاطر .. بن كثير
=====
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 )
الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، خالق السماوات والأرض ومبدعهما, جاعل الملائكة رسلا إلى مَن يشاء من عباده, وفيما شاء من أمره ونهيه, ومِن عظيم قدرة الله أن جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع تطير بها؛ لتبليغ ما أمر الله به, يزيد الله في خلقه ما يشاء. إن الله على كل شيء قدير, لا يستعصي عليه شيء.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 )
ما يفتح الله للناس من رزق ومطر وصحة وعلم وغير ذلك من النعم, فلا أحد يقدر أن يمسك هذه الرحمة, وما يمسك منها فلا أحد يستطيع أن يرسلها بعده سبحانه وتعالى. وهو العزيز القاهر لكل شيء, الحكيم الذي يرسل الرحمة ويمسكها وَفْق حكمته.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 3 )
يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم, فلا خالق لكم غير الله يرزقكم من السماء بالمطر, ومن الأرض بالماء والمعادن وغير ذلك. لا إله إلا هو وحده لا شريك له, فكيف تُصْرَفون عن توحيده وعبادته؟
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 )
وإن يكذبك قومك - أيها الرسول- فقد كُذِّب رسل مِن قبلك, وإلى الله تصير الأمور في الآخرة, فيجازي كلا بما يستحق. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 )
يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق ثابت, فلا تخدعنَّكم الحياة الدنيا بشهواتها ومطالبها, ولا يخدعنَّكم بالله الشيطان. إن الشيطان لبني آدم عدو, فاتخذوه عدوًّا ولا تطيعوه, إنما يدعو أتباعه إلى الضلال؛ ليكونوا من أصحاب النار الموقدة.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
الذين جحدوا أن الله هو وحده الإله الحق وجحدوا ما جاءت به رسله لهم عذاب شديد في الآخرة, والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات لهم عفو من ربهم وتجاوز عن ذنوبهم بعد سترها عليهم، ولهم أجر كبير, وهو الجنة.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 8 )
أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان فرآه حسنًا جميلا كمَن هداه الله تعالى, فرأى الحسن حسنًا والسيئ سيئًا؟ فإن الله يضل من يشاء من عباده, ويهدي من يشاء, فلا تُهْلك نفسك حزنًا على كفر هؤلاء الضالين, إن الله عليم بقبائحهم وسيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 )
واللهُ هو الذي أرسل الرياح فتحرك سحابًا, فسقناه إلى بلد جدب, فينزل الماء فأحيينا به الأرض بعد يُبْسها فتخضر بالنبات, مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 )
من كان يطلب عزة في الدنيا أو الآخرة فليطلبها من الله, ولا تُنال إلا بطاعته, فلله العزة جميعًا, فمن اعتز بالمخلوق أذلَّه الله, ومن اعتز بالخالق أعزه الله, إليه سبحانه يصعد ذكره والعمل الصالح يرفعه. والذين يكتسبون السيئات لهم عذاب شديد, ومكر أولئك يَهْلك ويَفْسُد, ولا يفيدهم شيئًا.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 )
واللهُ خلق أباكم آدم من تراب, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين, ثم جعلكم رجالا ونساءً. وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه, وما يعمَّر من مُعَمَّر, فيطول عمره, ولا يُنْقَص من عمره إلا في كتاب عنده, وهو اللوح المحفوظ, قبل أن تحمل به أمُّه وقبل أن تضعه. قد أحصى الله ذلك كله, وعلمه قبل أن يخلقه, لا يُزاد فيما كتب له ولا يُنْقَص. إن خَلْقكم وعِلْم أحوالكم وكتابتها في اللوح المحفوظ سهل يسير على الله.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )
وما يستوي البحران: هذا عذب شديد العذوبة, سَهْلٌ مروره في الحلق يزيل العطش, وهذا ملح شديد الملوحة, ومن كل من البحرين تأكلون سمكًا طريًّا شهيَّ الطَّعم, وتستخرجون زينة هي اللؤلؤ والمَرْجان تَلْبَسونها, وترى السفن فيه شاقات المياه؛ لتبتغوا من فضله من التجارة وغيرها. وفي هذا دلالة على قدرة الله ووحدانيته; ولعلكم تشكرون لله على هذه النعم التي أنعم بها عليكم.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 )
واللهُ يدخل من ساعات الليل في النهار, فيزيد النهار بقَدْر ما نقص من الليل, ويُدخل من ساعات النهار في الليل, فيزيد الليل بقَدْر ما نقص من النهار, وذلل الشمس والقمر, يجريان لوقت معلوم, ذلكم الذي فعل هذا هو الله ربكم له الملك كله, والذين تعبدون من دون الله ما يملكون مِن قطمير, وهي القشرة الرقيقة البيضاء تكون على النَّواة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 14 )
إن تدعوا - أيها الناس- هذه المعبودات من دون الله لا يسمعوا دعاءكم, ولو سمعوا على سبيل الفرض ما أجابوكم, ويوم القيامة يتبرؤون منكم, ولا أحد يخبرك - أيها الرسول- أصدق من الله العليم الخبير.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 )
يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله في كل شيء, لا تستغنون عنه طرفة عين, وهو سبحانه الغنيُّ عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته, الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بالناس فمنه، فله الحمد والشكر على كلِّ حال.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 )
إن يشأ الله يهلكُّم أيها الناس, ويأت بقوم آخرين يطيعونه ويعبدونه وحده.
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 )
وما إهلاككم والإتيان بخلق سواكم على الله بممتنع, بل ذلك على الله سهل يسير.
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 )
ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى, وإن تَسْأل نفسٌ مثقَلَة بالخطايا مَن يحمل عنها من ذنوبها لم تجد من يَحمل عنها شيئًا, ولو كان الذي سألتْه ذا قرابة منها من أب أو أخ ونحوهما. إنما تحذِّر - أيها الرسول- الذين يخافون عذاب ربهم بالغيب, وأدَّوا الصلاة حق أدائها. ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي فإنما يتطهر لنفسه. وإلى الله سبحانه مآل الخلائق ومصيرهم, فيجازي كلا بما يستحق.
وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 )
وما يستوي الأعمى عن دين الله, والبصير الذي أبصر طريق الحق واتبعه, وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان, ولا الظل ولا الريح الحارة, وما يستوي أحياء القلوب بالإيمان, وأموات القلوب بالكفر. إن الله يسمع مَن يشاء سماع فَهْم وقَبول, وما أنت - أيها الرسول- بمسمع مَن في القبور, فكما لا تُسمع الموتى في قبورهم فكذلك لا تُسمع هؤلاء الكفار لموت قلوبهم, إن أنت إلا نذير لهم غضب الله وعقابه. إنا أرسلناك بالحق, وهو الإيمان بالله وشرائع الدين, مبشرًا بالجنة مَن صدَّقك وعمل بهديك, ومحذرًا مَن كذَّبك وعصاك النار. وما من أمة من الأمم إلا جاءها نذير يحذرها عاقبة كفرها وضلالها.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 )
وإن يكذبك هؤلاء المشركون فقد كذَّب الذين مِن قبلهم رسلهم الذين جاؤوهم بالمعجزات الواضحات الدالة على نبوتهم, وجاؤوهم بالكتب المجموع فيها كثير من الأحكام, وبالكتاب المنير الموضح لطريق الخير والشر.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 )
ثم أخَذْت الذين كفروا بأنواع العذاب, فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وحلول عقوبتي بهم؟
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 )
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء, فسقينا به أشجارًا في الأرض, فأخرجنا من تلك الأشجار ثمرات مختلفًا ألوانها, منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر وغير ذلك؟ وخَلَقْنا من الجبال طرائق بيضًا وحمرًا مختلفًا ألوانها, وخلقنا من الجبال جبالا شديدة السواد.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 )
وخلقنا من الناس والدواب والإبل والبقر والغنم ما هو مختلف ألوانه كذلك, فمن ذلك الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك كاختلاف ألوان الثمار والجبال. إنما يخشى اللهَ ويتقي عقابه بطاعته واجتناب معصيته العلماءُ به سبحانه, وبصفاته, وبشرعه, وقدرته على كل شيء, ومنها اختلاف هذه المخلوقات مع اتحاد سببها, ويتدبرون ما فيها من عظات وعبر. إن الله عزيز قويٌّ لا يغالَب, غفور يثيب أهل الطاعة, ويعفو عنهم.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 )
إن الذين يقرؤون القرآن, ويعملون به, وداوموا على الصلاة في أوقاتها, وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا, هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك, ألا وهي رضا ربهم, والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص, ويضاعف لهم الحسنات من فضله, إن الله غفور لسيئاتهم, شكور لحسناتهم, يثيبهم عليها الجزيل من الثواب.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 )
والذي أنزلناه إليك - أيها الرسول- من القرآن هو الحق المصدِّق للكتب التي أنزلها الله على رسله قبلك. إن الله لخبير بشؤون عباده، بصير بأعمالهم، وسيجازيهم عليها.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 )
ثم أعطينا - بعد هلاك الأمم- القرآن مَن اخترناهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فمنهم ظالم لنفسه بفعل بعض المعاصي, ومنهم مقتصد, وهو المؤدي للواجبات المجتنب للمحرمات, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, أي مسارع مجتهد في الأعمال الصالحة, فَرْضِها ونفلها, ذلك الإعطاء للكتاب واصطفاء هذه الأمة هو الفضل الكبير.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 )
جنات إقامة دائمة للذين أورثهم الله كتابه يُحلَّون فيها الأساور من الذهب واللؤلؤ, ولباسهم المعتاد في الجنة حرير أي: ثياب رقيقة. وقالوا حين دخلوا الجنة: الحمد لله الذي أذهب عنا كل حَزَن, إن ربنا لغفور; حيث غفر لنا الزلات, شكور; حيث قبل منا الحسنات وضاعفها. وهو الذي أنزلَنا دار الجنة من فضله, لا يمسنا فيها تعب ولا إعياء.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 )
والذين كفروا بالله ورسوله لهم نار جهنم الموقدة, لا يُقْضى عليهم بالموت, فيموتوا ويستريحوا, ولا يُخَفَّف عنهم مِن عذابها, ومثل ذلك الجزاء يجزي الله كلَّ متمادٍ في الكفر مُصِرٍّ عليه.
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 )
وهؤلاء الكفار يَصْرُخون من شدة العذاب في نار جهنم مستغيثين: ربنا أخرجنا من نار جهنم, وردَّنا إلى الدنيا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمله في حياتنا الدنيا, فنؤمن بدل الكفر, فيقول لهم: أولم نُمْهلكم في الحياة قَدْرًا وافيًا من العُمُر, يتعظ فيه من اتعظ, وجاءكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم تتذكروا ولم تتعظوا؟ فذوقوا عذاب جهنم, فليس للكافرين من ناصر ينصرهم من عذاب الله.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )
إن الله مطَّلع على كل غائب في السماوات والأرض, وإنه عليم بخفايا الصدور, فاتقوه أن يطَّلع عليكم, وأنتم تُضْمِرون الشك أو الشرك في وحدانيته, أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن تَعْصوه بما دون ذلك.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 )
الله هو الذي جعلكم - أيها الناس- يَخْلُف بعضكم بعضًا في الأرض, فمن جحد وحدانية الله منكم فعلى نفسه ضرره وكفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بغضًا وغضبًا, ولا يزيدهم كفرهم بالله إلا ضلالا وهلاكًا.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ( 40 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: أخبروني أيَّ شيء خَلَق شركاؤكم من الأرض, أم أن لشركائكم الذين تعبدونهم من دون الله شركًا مع الله في خلق السماوات, أم أعطيناهم كتابًا فهم على حجة منه؟ بل ما يَعِدُ الكافرون بعضهم بعضًا إلا غرورًا وخداعًا.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 )
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا عن مكانهما, ولئن زالت السماوات والأرض عن مكانهما ما يمسكهما من أحد من بعده. إن الله كان حليمًا في تأخير العقوبة عن الكافرين والعصاة, غفورًا لمن تاب من ذنبه ورجع إليه.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 )
وأقسم كفار قريش بالله أشد الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم, فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه.
اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 )
ليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق, وإنما هو استكبار في الأرض على الخلق, يريدون به المكر السيِّئ والخداع والباطل, ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله, فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم, فلن تجد لطريقة الله تبديلا ولا تحويلا فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل, ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه أو غيره.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 )
أولم يَسِرْ كفار « مكة » في الأرض, فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كعاد وثمود وأمثالهم, وما حلَّ بهم من الدمار, وبديارهم من الخراب, حين كذبوا الرسل, وكان أولئك الكفرة أشد قوة وبطشًا من كفار « مكة » ؟ وما كان الله تعالى ليعجزه ويفوته من شيء في السماوات ولا في الأرض, إنه كان عليمًا بأفعالهم, قديرًا على إهلاكهم.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 )
ولو يعاقب الله الناس بما عملوا من الذنوب والمعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة تَدِبُّ عليها, ولكن يُمْهلهم ويؤخر عقابهم إلى وقت معلوم عنده, فإذا جاء وقت عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا, لا يخفى عليه أحد منهم, ولا يعزب عنه علم شيء من أمورهم, وسيجازيهم بما عملوا من خير أو شر.
=====
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 )
الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، خالق السماوات والأرض ومبدعهما, جاعل الملائكة رسلا إلى مَن يشاء من عباده, وفيما شاء من أمره ونهيه, ومِن عظيم قدرة الله أن جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع تطير بها؛ لتبليغ ما أمر الله به, يزيد الله في خلقه ما يشاء. إن الله على كل شيء قدير, لا يستعصي عليه شيء.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2 )
ما يفتح الله للناس من رزق ومطر وصحة وعلم وغير ذلك من النعم, فلا أحد يقدر أن يمسك هذه الرحمة, وما يمسك منها فلا أحد يستطيع أن يرسلها بعده سبحانه وتعالى. وهو العزيز القاهر لكل شيء, الحكيم الذي يرسل الرحمة ويمسكها وَفْق حكمته.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 3 )
يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم, فلا خالق لكم غير الله يرزقكم من السماء بالمطر, ومن الأرض بالماء والمعادن وغير ذلك. لا إله إلا هو وحده لا شريك له, فكيف تُصْرَفون عن توحيده وعبادته؟
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 4 )
وإن يكذبك قومك - أيها الرسول- فقد كُذِّب رسل مِن قبلك, وإلى الله تصير الأمور في الآخرة, فيجازي كلا بما يستحق. وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 5 ) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( 6 )
يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق ثابت, فلا تخدعنَّكم الحياة الدنيا بشهواتها ومطالبها, ولا يخدعنَّكم بالله الشيطان. إن الشيطان لبني آدم عدو, فاتخذوه عدوًّا ولا تطيعوه, إنما يدعو أتباعه إلى الضلال؛ ليكونوا من أصحاب النار الموقدة.
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
الذين جحدوا أن الله هو وحده الإله الحق وجحدوا ما جاءت به رسله لهم عذاب شديد في الآخرة, والذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات لهم عفو من ربهم وتجاوز عن ذنوبهم بعد سترها عليهم، ولهم أجر كبير, وهو الجنة.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 8 )
أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان فرآه حسنًا جميلا كمَن هداه الله تعالى, فرأى الحسن حسنًا والسيئ سيئًا؟ فإن الله يضل من يشاء من عباده, ويهدي من يشاء, فلا تُهْلك نفسك حزنًا على كفر هؤلاء الضالين, إن الله عليم بقبائحهم وسيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( 9 )
واللهُ هو الذي أرسل الرياح فتحرك سحابًا, فسقناه إلى بلد جدب, فينزل الماء فأحيينا به الأرض بعد يُبْسها فتخضر بالنبات, مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ( 10 )
من كان يطلب عزة في الدنيا أو الآخرة فليطلبها من الله, ولا تُنال إلا بطاعته, فلله العزة جميعًا, فمن اعتز بالمخلوق أذلَّه الله, ومن اعتز بالخالق أعزه الله, إليه سبحانه يصعد ذكره والعمل الصالح يرفعه. والذين يكتسبون السيئات لهم عذاب شديد, ومكر أولئك يَهْلك ويَفْسُد, ولا يفيدهم شيئًا.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 11 )
واللهُ خلق أباكم آدم من تراب, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين, ثم جعلكم رجالا ونساءً. وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه, وما يعمَّر من مُعَمَّر, فيطول عمره, ولا يُنْقَص من عمره إلا في كتاب عنده, وهو اللوح المحفوظ, قبل أن تحمل به أمُّه وقبل أن تضعه. قد أحصى الله ذلك كله, وعلمه قبل أن يخلقه, لا يُزاد فيما كتب له ولا يُنْقَص. إن خَلْقكم وعِلْم أحوالكم وكتابتها في اللوح المحفوظ سهل يسير على الله.
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )
وما يستوي البحران: هذا عذب شديد العذوبة, سَهْلٌ مروره في الحلق يزيل العطش, وهذا ملح شديد الملوحة, ومن كل من البحرين تأكلون سمكًا طريًّا شهيَّ الطَّعم, وتستخرجون زينة هي اللؤلؤ والمَرْجان تَلْبَسونها, وترى السفن فيه شاقات المياه؛ لتبتغوا من فضله من التجارة وغيرها. وفي هذا دلالة على قدرة الله ووحدانيته; ولعلكم تشكرون لله على هذه النعم التي أنعم بها عليكم.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ( 13 )
واللهُ يدخل من ساعات الليل في النهار, فيزيد النهار بقَدْر ما نقص من الليل, ويُدخل من ساعات النهار في الليل, فيزيد الليل بقَدْر ما نقص من النهار, وذلل الشمس والقمر, يجريان لوقت معلوم, ذلكم الذي فعل هذا هو الله ربكم له الملك كله, والذين تعبدون من دون الله ما يملكون مِن قطمير, وهي القشرة الرقيقة البيضاء تكون على النَّواة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 14 )
إن تدعوا - أيها الناس- هذه المعبودات من دون الله لا يسمعوا دعاءكم, ولو سمعوا على سبيل الفرض ما أجابوكم, ويوم القيامة يتبرؤون منكم, ولا أحد يخبرك - أيها الرسول- أصدق من الله العليم الخبير.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 )
يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله في كل شيء, لا تستغنون عنه طرفة عين, وهو سبحانه الغنيُّ عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته, الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، المحمود على نعمه؛ فإن كل نعمة بالناس فمنه، فله الحمد والشكر على كلِّ حال.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 )
إن يشأ الله يهلكُّم أيها الناس, ويأت بقوم آخرين يطيعونه ويعبدونه وحده.
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 17 )
وما إهلاككم والإتيان بخلق سواكم على الله بممتنع, بل ذلك على الله سهل يسير.
وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( 18 )
ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى, وإن تَسْأل نفسٌ مثقَلَة بالخطايا مَن يحمل عنها من ذنوبها لم تجد من يَحمل عنها شيئًا, ولو كان الذي سألتْه ذا قرابة منها من أب أو أخ ونحوهما. إنما تحذِّر - أيها الرسول- الذين يخافون عذاب ربهم بالغيب, وأدَّوا الصلاة حق أدائها. ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي فإنما يتطهر لنفسه. وإلى الله سبحانه مآل الخلائق ومصيرهم, فيجازي كلا بما يستحق.
وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ( 20 ) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ ( 23 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 )
وما يستوي الأعمى عن دين الله, والبصير الذي أبصر طريق الحق واتبعه, وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان, ولا الظل ولا الريح الحارة, وما يستوي أحياء القلوب بالإيمان, وأموات القلوب بالكفر. إن الله يسمع مَن يشاء سماع فَهْم وقَبول, وما أنت - أيها الرسول- بمسمع مَن في القبور, فكما لا تُسمع الموتى في قبورهم فكذلك لا تُسمع هؤلاء الكفار لموت قلوبهم, إن أنت إلا نذير لهم غضب الله وعقابه. إنا أرسلناك بالحق, وهو الإيمان بالله وشرائع الدين, مبشرًا بالجنة مَن صدَّقك وعمل بهديك, ومحذرًا مَن كذَّبك وعصاك النار. وما من أمة من الأمم إلا جاءها نذير يحذرها عاقبة كفرها وضلالها.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 )
وإن يكذبك هؤلاء المشركون فقد كذَّب الذين مِن قبلهم رسلهم الذين جاؤوهم بالمعجزات الواضحات الدالة على نبوتهم, وجاؤوهم بالكتب المجموع فيها كثير من الأحكام, وبالكتاب المنير الموضح لطريق الخير والشر.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 )
ثم أخَذْت الذين كفروا بأنواع العذاب, فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وحلول عقوبتي بهم؟
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 )
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء, فسقينا به أشجارًا في الأرض, فأخرجنا من تلك الأشجار ثمرات مختلفًا ألوانها, منها الأحمر ومنها الأسود والأصفر وغير ذلك؟ وخَلَقْنا من الجبال طرائق بيضًا وحمرًا مختلفًا ألوانها, وخلقنا من الجبال جبالا شديدة السواد.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 )
وخلقنا من الناس والدواب والإبل والبقر والغنم ما هو مختلف ألوانه كذلك, فمن ذلك الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك كاختلاف ألوان الثمار والجبال. إنما يخشى اللهَ ويتقي عقابه بطاعته واجتناب معصيته العلماءُ به سبحانه, وبصفاته, وبشرعه, وقدرته على كل شيء, ومنها اختلاف هذه المخلوقات مع اتحاد سببها, ويتدبرون ما فيها من عظات وعبر. إن الله عزيز قويٌّ لا يغالَب, غفور يثيب أهل الطاعة, ويعفو عنهم.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 )
إن الذين يقرؤون القرآن, ويعملون به, وداوموا على الصلاة في أوقاتها, وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا, هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك, ألا وهي رضا ربهم, والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص, ويضاعف لهم الحسنات من فضله, إن الله غفور لسيئاتهم, شكور لحسناتهم, يثيبهم عليها الجزيل من الثواب.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 )
والذي أنزلناه إليك - أيها الرسول- من القرآن هو الحق المصدِّق للكتب التي أنزلها الله على رسله قبلك. إن الله لخبير بشؤون عباده، بصير بأعمالهم، وسيجازيهم عليها.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 )
ثم أعطينا - بعد هلاك الأمم- القرآن مَن اخترناهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فمنهم ظالم لنفسه بفعل بعض المعاصي, ومنهم مقتصد, وهو المؤدي للواجبات المجتنب للمحرمات, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله, أي مسارع مجتهد في الأعمال الصالحة, فَرْضِها ونفلها, ذلك الإعطاء للكتاب واصطفاء هذه الأمة هو الفضل الكبير.
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 )
جنات إقامة دائمة للذين أورثهم الله كتابه يُحلَّون فيها الأساور من الذهب واللؤلؤ, ولباسهم المعتاد في الجنة حرير أي: ثياب رقيقة. وقالوا حين دخلوا الجنة: الحمد لله الذي أذهب عنا كل حَزَن, إن ربنا لغفور; حيث غفر لنا الزلات, شكور; حيث قبل منا الحسنات وضاعفها. وهو الذي أنزلَنا دار الجنة من فضله, لا يمسنا فيها تعب ولا إعياء.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 )
والذين كفروا بالله ورسوله لهم نار جهنم الموقدة, لا يُقْضى عليهم بالموت, فيموتوا ويستريحوا, ولا يُخَفَّف عنهم مِن عذابها, ومثل ذلك الجزاء يجزي الله كلَّ متمادٍ في الكفر مُصِرٍّ عليه.
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 37 )
وهؤلاء الكفار يَصْرُخون من شدة العذاب في نار جهنم مستغيثين: ربنا أخرجنا من نار جهنم, وردَّنا إلى الدنيا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمله في حياتنا الدنيا, فنؤمن بدل الكفر, فيقول لهم: أولم نُمْهلكم في الحياة قَدْرًا وافيًا من العُمُر, يتعظ فيه من اتعظ, وجاءكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم تتذكروا ولم تتعظوا؟ فذوقوا عذاب جهنم, فليس للكافرين من ناصر ينصرهم من عذاب الله.
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 38 )
إن الله مطَّلع على كل غائب في السماوات والأرض, وإنه عليم بخفايا الصدور, فاتقوه أن يطَّلع عليكم, وأنتم تُضْمِرون الشك أو الشرك في وحدانيته, أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن تَعْصوه بما دون ذلك.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا ( 39 )
الله هو الذي جعلكم - أيها الناس- يَخْلُف بعضكم بعضًا في الأرض, فمن جحد وحدانية الله منكم فعلى نفسه ضرره وكفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا بغضًا وغضبًا, ولا يزيدهم كفرهم بالله إلا ضلالا وهلاكًا.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا ( 40 )
قل - أيها الرسول- للمشركين: أخبروني أيَّ شيء خَلَق شركاؤكم من الأرض, أم أن لشركائكم الذين تعبدونهم من دون الله شركًا مع الله في خلق السماوات, أم أعطيناهم كتابًا فهم على حجة منه؟ بل ما يَعِدُ الكافرون بعضهم بعضًا إلا غرورًا وخداعًا.
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( 41 )
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا عن مكانهما, ولئن زالت السماوات والأرض عن مكانهما ما يمسكهما من أحد من بعده. إن الله كان حليمًا في تأخير العقوبة عن الكافرين والعصاة, غفورًا لمن تاب من ذنبه ورجع إليه.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا ( 42 )
وأقسم كفار قريش بالله أشد الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم, فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه.
اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا ( 43 )
ليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق, وإنما هو استكبار في الأرض على الخلق, يريدون به المكر السيِّئ والخداع والباطل, ولا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله, فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم, فلن تجد لطريقة الله تبديلا ولا تحويلا فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل, ولا أن يُحَوِّل العذاب عن نفسه أو غيره.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ( 44 )
أولم يَسِرْ كفار « مكة » في الأرض, فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كعاد وثمود وأمثالهم, وما حلَّ بهم من الدمار, وبديارهم من الخراب, حين كذبوا الرسل, وكان أولئك الكفرة أشد قوة وبطشًا من كفار « مكة » ؟ وما كان الله تعالى ليعجزه ويفوته من شيء في السماوات ولا في الأرض, إنه كان عليمًا بأفعالهم, قديرًا على إهلاكهم.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( 45 )
ولو يعاقب الله الناس بما عملوا من الذنوب والمعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة تَدِبُّ عليها, ولكن يُمْهلهم ويؤخر عقابهم إلى وقت معلوم عنده, فإذا جاء وقت عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا, لا يخفى عليه أحد منهم, ولا يعزب عنه علم شيء من أمورهم, وسيجازيهم بما عملوا من خير أو شر.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة يس .. بن كثير
=====
يس ( 1 )
( يس ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 )
يقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بما فيه من الأحكام والحكم والحجج, إنك - أيها الرسول- لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده, على طريق مستقيم معتدل, وهو الإسلام.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 )
هذا القرآن تنزيل العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي, الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحًا.
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 )
أنزلناه عليك - أيها الرسول- لتحذر به قومًا لم يُنْذَرْ آباؤهم من قبلك, وهم العرب, فهؤلاء القوم ساهون عن الإيمان والاستقامة على العمل الصالح. وكل أمة ينقطع عنها الإنذار تقع في الغفلة, وفي هذا دليل على وجوب الدعوة والتذكير على العلماء بالله وشرعه; لإيقاظ المسلمين من غفلتهم.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 7 )
لقد وجب العذاب على أكثر هؤلاء الكافرين, بعد أن عُرِض عليهم الحق فرفضوه, فهم لا يصدقون بالله ولا برسوله, ولا يعملون بشرعه.
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( 8 )
إنا جعلنا هؤلاء الكفار الذين عُرض عليهم الحق فردُّوه, وأصرُّوا على الكفر وعدم الإيمان, كمن جُعِل في أعناقهم أغلال, فجمعت أيديهم مع أعناقهم تحت أذقانهم, فاضطروا إلى رفع رؤوسهم إلى السماء, فهم مغلولون عن كل خير, لا يبصرون الحق ولا يهتدون إليه.
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 9 )
وجعلنا من أمام الكافرين سدًّا ومن ورائهم سدًّا, فهم بمنزلة من سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلفه, فأعمينا أبصارهم; بسبب كفرهم واستكبارهم, فهم لا يبصرون رشدًا, ولا يهتدون. وكل من قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد, فهو حقيق بهذا العقاب.
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 10 )
يستوي عند هؤلاء الكفار المعاندين تحذيرك لهم - أيها الرسول- وعدم تحذيرك, فهم لا يصدِّقون ولا يعملون.
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( 11 )
إنما ينفع تحذيرك مَن آمن بالقرآن, واتبع ما فيه من أحكام الله, وخاف الرحمن, حيث لا يراه أحد إلا الله, فبشِّره بمغفرة من الله لذنوبه, وثواب منه في الآخرة على أعماله الصالحة, وهو دخوله الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( 12 )
إنا نحن نحيي الأموات جميعًا ببعثهم يوم القيامة, ونكتب ما عملوا من الخير والشر, وآثارهم التي كانوا سببًا فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير, كالولد الصالح, والعلم النافع, والصدقة الجارية, ومن شر, كالشرك والعصيان, وكلَّ شيء أحصيناه في كتاب واضح هو أمُّ الكتب, وإليه مرجعها, وهو اللوح المحفوظ. فعلى العاقل محاسبة نفسه; ليكون قدوة في الخير في حياته وبعد مماته.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( 13 ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( 14 )
واضرب - أيها الرسول- لمشركي قومك الرادِّين لدعوتك مثلا يعتبرون به, وهو قصة أهل القرية, حين ذهب إليهم المرسلون, إذ أرسلنا إليهم رسولين لدعوتهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة غيره, فكذَّب أهل القرية الرسولين, فعزَّزناهما وقويناهما برسول ثالث, فقال الثلاثة لأهل القرية: إنا إليكم - أيها القوم- مرسلون.
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ( 15 )
قال أهل القرية للمرسلين: ما أنتم إلا أناس مثلنا، وما أنزل الرحمن شيئًا من الوحي, وما أنتم - أيها الرسل- إلا تكذبون.
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( 16 ) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 17 )
قال المرسلون مؤكدين: ربُّنا الذي أرسلنا يعلم إنا إليكم لمرسلون, وما علينا إلا تبليغ الرسالة بوضوح, ولا نملك هدايتكم, فالهداية بيد الله وحده.
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 18 )
قال أهل القرية: إنا تَشَاءَمْنا بكم, لئن لم تكُفُّوا عن دعوتكم لنا لنقتلنكم رميًا بالحجارة, وليصيبنكم منَّا عذاب أليم موجع.
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 19 )
قال المرسلون: شؤمكم وأعمالكم من الشرك والشر معكم ومردودة عليكم, أإن وُعظتم بما فيه خيركم تشاءمتم وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتكذيب.
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( 20 ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 21 )
وجاء من مكان بعيد في المدينة رجل مسرع ( وذلك حين علم أن أهل القرية هَمُّوا بقتل الرسل أو تعذيبهم ) , قال: يا قوم اتبعوا المرسلين إليكم من الله, اتبعوا الذين لا يطلبون منكم أموالا على إبلاغ الرسالة, وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده. وفي هذا بيان فضل مَن سعى إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 22 )
وأيُّ شيء يمنعني مِن أن أعبد الله الذي خلقني, وإليه تصيرون جميعًا؟
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( 23 ) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 ) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 )
أأعبد من دون الله آلهة أخرى لا تملك من الأمر شيئًا, إن يردني الرحمن بسوء فهذه الآلهة لا تملك دفع ذلك ولا منعه, ولا تستطيع إنقاذي مما أنا فيه؟ إني إن فعلت ذلك لفي خطأ واضح ظاهر. إني آمنت بربكم فاستمعوا إلى ما قُلْته لكم, وأطيعوني بالإيمان. فلما قال ذلك وثب إليه قومه وقتلوه, فأدخله الله الجنة.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 )
قيل له بعد قتله: ادخل الجنة, إكرامًا له.
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27 )
قال وهو في النعيم والكرامة: يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي; بسبب إيماني بالله وصبري على طاعته, واتباع رسله حتى قُتِلت, فيؤمنوا بالله فيدخلوا الجنة مثلي.
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( 28 )
وما احتاج الأمر إلى إنزال جند من السماء لعذابهم بعد قتلهم الرجل الناصح لهم وتكذيبهم رسلهم, فهم أضعف من ذلك وأهون, وما كنا منزلين الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم, بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم.
إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 )
ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة, فإذا هم ميتون لم تَبْقَ منهم باقية.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 )
يا حسرة العباد وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب, ما يأتيهم من رسول من الله تعالى إلا كانوا به يستهزئون ويسخرون.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( 31 )
ألم ير هؤلاء المستهزئون ويعتبروا بمن قبلهم من القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى هذه الدينا؟
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 )
وما كل هذه القرون التي أهلكناها وغيرهم, إلا محضرون جميعًا عندنا يوم القيامة للحساب والجزاء.
وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 )
ودلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله على البعث والنشور: هذه الأرض الميتة التي لا نبات فيها, أحييناها بإنزال الماء, وأخرجنا منها أنواع النبات مما يأكل الناس والأنعام, ومن أحيا الأرض بالنبات أحيا الخلق بعد الممات.
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 )
وجعلنا في هذه الأرض بساتين من نخيل وأعناب, وفجَّرنا فيها من عيون المياه ما يسقيها.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 35 )
كل ذلك; ليأكل العباد من ثمره, وما ذلك إلا من رحمة الله بهم لا بسعيهم ولا بكدِّهم, ولا بحولهم وبقوتهم, أفلا يشكرون الله على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعدُّ ولا تحصى؟
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ( 36 )
تنزَّه الله العظيم الذي خلق الأصناف جميعها من أنواع نبات الأرض, ومن أنفسهم ذكورًا وإناثًا, ومما لا يعلمون من مخلوقات الله الأخرى. قد انفرد سبحانه بالخلق, فلا ينبغي أن يُشْرَك به غيره.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( 37 )
وعلامة لهم دالة على توحيد الله وكمال قدرته: هذا الليل ننزع منه النهار, فإذا الناس مظلمون.
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 )
وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها, قدَّره الله لها لا تتعداه ولا تقصر عنه, ذلك تقدير العزيز الذي لا يغالَب, العليم الذي لا يغيب عن علمه شيء.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 )
والقمرَ آية في خلقه, قدَّرناه منازل كل ليلة, يبدأ هلالا ضئيلا حتى يكمل قمرًا مستديرًا, ثم يرجع ضئيلا مثل عِذْق النخلة المتقوس في الرقة والانحناء والصفرة؛ لقدمه ويُبْسه.
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 )
لكل من الشمس والقمر والليل والنهار وقت قدَّره الله له لا يتعدَّاه, فلا يمكن للشمس أن تلحق القمر فتمحو نوره, أو تغير مجراه, ولا يمكن للَّيل أن يسبق النهار, فيدخل عليه قبل انقضاء وقته, وكل من الشمس والقمر والكواكب في فلك يَجْرون.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 )
ودليل لهم وبرهان على أن الله وحده المستحق للعبادة, المنعم بالنعم, أنَّا حملنا مَن نجا مِن ولد آدم في سفينة نوح المملوءة بأجناس المخلوقات; لاستمرار الحياة بعد الطوفان.
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 )
وخلقنا لهؤلاء المشركين وغيرهم مثل سفينة نوح من السفن وغيرها من المراكب التي يركبونها وتبلِّغهم أوطانهم.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( 43 )
وإن نشأ نغرقهم, فلا يجدون مغيثًا لهم مِن غرقهم, ولا هم يخلصون من الغرق.
إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 44 )
إلا أن نرحمهم فننجيهم ونمتعهم إلى أجل؛ لعلهم يرجعون ويستدركون ما فرَّطوا فيه.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 )
وإذا قيل للمشركين: احذروا أمر الآخرة وأهوالها وأحوال الدنيا وعقابها; رجاء رحمة الله لكم, أعرضوا, ولم يجيبوا إلى ذلك.
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 )
وما تجيء هؤلاء المشركين من علامة واضحة من عند ربهم؛ لتهديهم للحق, وتبيِّن لهم صدق الرسول, إلا أعرضوا عنها, ولم ينتفعوا بها.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 47 )
وإذا قيل للكافرين: أنفقوا من الرزق الذي مَنَّ به الله عليكم, قالوا للمؤمنين مُحْتجِّين: أنطعم من لو شاء الله أطعمه؟ ما أنتم - أيها المؤمنون- إلا في بُعْدٍ واضح عن الحق, إذ تأمروننا بذلك.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 )
ويقول هؤلاء الكفار على وجه التكذيب والاستعجال: متى يكون البعث إن كنتم صادقين فيما تقولونه عنه؟
مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 )
ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم إلا نفخة الفَزَع عند قيام الساعة, تأخذهم فجأة, وهم يختصمون في شؤون حياتهم.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 )
فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في « القرن » أن يوصوا أحدًا بشيء, ولا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم, بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( 51 )
ونُفِخ في « القرن » النفخةُ الثانية, فتُرَدُّ أرواحهم إلى أجسادهم, فإذا هم من قبورهم يخرجون إلى ربهم سراعًا.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 )
قال المكذبون بالبعث نادمين: يا هلاكنا مَن أخرجنا مِن قبورنا؟ فيجابون ويقال لهم: هذا ما وعد به الرحمن, وأخبر عنه المرسلون الصادقون.
إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 )
ما كان البعث من القبور إلا نتيجة نفخة واحدة في « القرن » , فإذا جميع الخلق لدينا ماثلون للحساب والجزاء.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 )
في ذلك اليوم يتم الحساب بالعدل, فلا تُظْلم نفس شيئًا بنقص حسناتها أو زيادة سيئاتها, ولا تُجْزون إلا بما كنتم تعملونه في الدنيا.
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 )
إن أهل الجنة في ذلك اليوم مشغولون عن غيرهم بأنواع النعيم التي يتفكهون بها.
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 )
هم وأزواجهم متنعمون بالجلوس على الأسرَّة المزيَّنة, تحت الظلال الوارفة.
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 )
لهم في الجنة أنواع الفواكه اللذيذة, ولهم كل ما يطلبون من أنواع النعيم.
سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 )
ولهم نعيم آخر أكبر حين يكلمهم ربهم, الرحيم بهم بالسلام عليهم. وعند ذلك تحصل لهم السلامة التامة من جميع الوجوه.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 )
ويقال للكفار في ذلك اليوم: تميَّزوا عن المؤمنين, وانفصلوا عنهم.
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 )
ويقول الله لهم توبيخًا وتذكيرًا: ألم أوصكم على ألسنة رسلي أن لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه؟ إنه لكم عدو ظاهر العداوة.
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 )
وأمرتكم بعبادتي وحدي, فعبادتي وطاعتي ومعصية الشيطان هي الدين القويم الموصل لمرضاتي وجنَّاتي.
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 )
ولقد أضلَّ الشيطان عن الحق منكم خلقًا كثيرًا, أفما كان لكم عقل - أيها المشركون- ينهاكم عن اتباعه؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 )
هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله وتكذيبكم رسله.
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 )
ادخلوها اليوم وقاسوا حرَّها; بسبب كفركم.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 )
اليوم نطبع على أفواه المشركين فلا ينطقون, وتُكلِّمنا أيديهم بما بطشت به, وتشهد أرجلهم بما سعت إليه في الدنيا، وكسبت من الآثام.
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 )
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم بأن نُذْهب أبصارهم, كما ختمنا على أفواههم, فبادَروا إلى الصراط ليجوزوه, فكيف يتحقق لهم ذلك وقد طُمِست أبصارهم؟
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 )
ولو شئنا لَغَيَّرنا خلقهم وأقعدناهم في أماكنهم, فلا يستطيعون أن يَمْضوا أمامهم, ولا يرجعوا وراءهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 )
ومن نُطِلْ عمره حتى يهرم نُعِدْه إلى الحالة التي ابتدأ منها حالة ضعف العقل وضعف الجسد, أفلا يعقلون أنَّ مَن فعل مثل هذا بهم قادر على بعثهم؟
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 )
وما علَّمنا رسولنا محمدًا الشعر, وما ينبغي له أن يكون شاعرًا, ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب, وقرآن بيِّن الدلالة على الحق والباطل، واضحة أحكامه وحِكَمه ومواعظه; لينذر مَن كان حيَّ القلب مستنير البصيرة, ويحق العذاب على الكافرين بالله; لأنهم قامت عليهم بالقرآن حجة الله البالغة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 )
أولم ير الخلق أنا خلقنا لأجلهم أنعامًا ذللناها لهم, فهم مالكون أمرها؟
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 )
وسخَّرناها لهم, فمنها ما يركبون في الأسفار, ويحملون عليها الأثقال, ومنها ما يأكلون.
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 73 )
ولهم فيها منافع أخرى ينتفعون بها, كالانتفاع بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ولباسًا, وغير ذلك, ويشربون ألبانها, أفلا يشكرون الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم, ويخلصون له العبادة؟
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( 74 )
واتخذ المشركون من دون الله آلهة يعبدونها; طمعًا في نصرها لهم وإنقاذهم من عذاب الله.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( 75 )
لا تستطيع تلك الآلهة نصر عابديها ولا أنفسهم ينصرون, والمشركون وآلهتهم جميعًا محضرون في العذاب, متبرئ بعضهم من بعض.
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 )
فلا يَحْزُنك - أيها الرسول- كفرهم بالله وتكذيبهم لك واستهزاؤهم بك; إنا نعلم ما يخفون, وما يظهرون, وسنجازيهم على ذلك.
أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 77 )
أولم ير الإنسان المنكر للبعث ابتداء خلقه فيستدل به على معاده, أنا خلقناه من نطفة مرَّت بأطوار حتى كَبِر, فإذا هو كثير الخصام واضح الجدال؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 )
وضرب لنا المنكر للبعث مثلا لا ينبغي ضربه, وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق, ونسي ابتداء خلقه, قال: مَن يحيي العظام البالية المتفتتة؟
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 )
قل له: يحييها الذي خلقها أول مرة, وهو بجميع خلقه عليم, لا يخفى عليه شيء.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 )
الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر الرطب نارًا محرقة, فإذا أنتم من الشجر توقدون النار, فهو القادر على إخراج الضد من الضد. وفي ذلك دليل على وحدانية الله وكمال قدرته, ومن ذلك إخراج الموتى من قبورهم أحياء.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 81 )
أوليس الذي خلق السموات والأرض وما فيهما بقادر على أن يخلق مثلهم, فيعيدهم كما بدأهم؟ بلى, إنه قادر على ذلك, وهو الخلاق لجميع المخلوقات, العليم بكل ما خلق ويَخْلُقُ, لا يخفى عليه شيء.
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 )
إنما أمره سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا أن يقول له: « كن » فيكون, ومن ذلك الإماتة والإحياء, والبعث والنشور.
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )
فتنزه الله تعالى وتقدس عن العجز والشرك, فهو المالك لكل شيء, المتصرف في شؤون خلقه بلا منازع أو ممانع, وقد ظهرت دلائل قدرته, وتمام نعمته, وإليه تُرجعون للحساب والجزاء.
=====
يس ( 1 )
( يس ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 )
يقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بما فيه من الأحكام والحكم والحجج, إنك - أيها الرسول- لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده, على طريق مستقيم معتدل, وهو الإسلام.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 )
هذا القرآن تنزيل العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي, الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحًا.
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 )
أنزلناه عليك - أيها الرسول- لتحذر به قومًا لم يُنْذَرْ آباؤهم من قبلك, وهم العرب, فهؤلاء القوم ساهون عن الإيمان والاستقامة على العمل الصالح. وكل أمة ينقطع عنها الإنذار تقع في الغفلة, وفي هذا دليل على وجوب الدعوة والتذكير على العلماء بالله وشرعه; لإيقاظ المسلمين من غفلتهم.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 7 )
لقد وجب العذاب على أكثر هؤلاء الكافرين, بعد أن عُرِض عليهم الحق فرفضوه, فهم لا يصدقون بالله ولا برسوله, ولا يعملون بشرعه.
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( 8 )
إنا جعلنا هؤلاء الكفار الذين عُرض عليهم الحق فردُّوه, وأصرُّوا على الكفر وعدم الإيمان, كمن جُعِل في أعناقهم أغلال, فجمعت أيديهم مع أعناقهم تحت أذقانهم, فاضطروا إلى رفع رؤوسهم إلى السماء, فهم مغلولون عن كل خير, لا يبصرون الحق ولا يهتدون إليه.
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 9 )
وجعلنا من أمام الكافرين سدًّا ومن ورائهم سدًّا, فهم بمنزلة من سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلفه, فأعمينا أبصارهم; بسبب كفرهم واستكبارهم, فهم لا يبصرون رشدًا, ولا يهتدون. وكل من قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد, فهو حقيق بهذا العقاب.
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 10 )
يستوي عند هؤلاء الكفار المعاندين تحذيرك لهم - أيها الرسول- وعدم تحذيرك, فهم لا يصدِّقون ولا يعملون.
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( 11 )
إنما ينفع تحذيرك مَن آمن بالقرآن, واتبع ما فيه من أحكام الله, وخاف الرحمن, حيث لا يراه أحد إلا الله, فبشِّره بمغفرة من الله لذنوبه, وثواب منه في الآخرة على أعماله الصالحة, وهو دخوله الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( 12 )
إنا نحن نحيي الأموات جميعًا ببعثهم يوم القيامة, ونكتب ما عملوا من الخير والشر, وآثارهم التي كانوا سببًا فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير, كالولد الصالح, والعلم النافع, والصدقة الجارية, ومن شر, كالشرك والعصيان, وكلَّ شيء أحصيناه في كتاب واضح هو أمُّ الكتب, وإليه مرجعها, وهو اللوح المحفوظ. فعلى العاقل محاسبة نفسه; ليكون قدوة في الخير في حياته وبعد مماته.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( 13 ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( 14 )
واضرب - أيها الرسول- لمشركي قومك الرادِّين لدعوتك مثلا يعتبرون به, وهو قصة أهل القرية, حين ذهب إليهم المرسلون, إذ أرسلنا إليهم رسولين لدعوتهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة غيره, فكذَّب أهل القرية الرسولين, فعزَّزناهما وقويناهما برسول ثالث, فقال الثلاثة لأهل القرية: إنا إليكم - أيها القوم- مرسلون.
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ( 15 )
قال أهل القرية للمرسلين: ما أنتم إلا أناس مثلنا، وما أنزل الرحمن شيئًا من الوحي, وما أنتم - أيها الرسل- إلا تكذبون.
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( 16 ) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 17 )
قال المرسلون مؤكدين: ربُّنا الذي أرسلنا يعلم إنا إليكم لمرسلون, وما علينا إلا تبليغ الرسالة بوضوح, ولا نملك هدايتكم, فالهداية بيد الله وحده.
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 18 )
قال أهل القرية: إنا تَشَاءَمْنا بكم, لئن لم تكُفُّوا عن دعوتكم لنا لنقتلنكم رميًا بالحجارة, وليصيبنكم منَّا عذاب أليم موجع.
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 19 )
قال المرسلون: شؤمكم وأعمالكم من الشرك والشر معكم ومردودة عليكم, أإن وُعظتم بما فيه خيركم تشاءمتم وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتكذيب.
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( 20 ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 21 )
وجاء من مكان بعيد في المدينة رجل مسرع ( وذلك حين علم أن أهل القرية هَمُّوا بقتل الرسل أو تعذيبهم ) , قال: يا قوم اتبعوا المرسلين إليكم من الله, اتبعوا الذين لا يطلبون منكم أموالا على إبلاغ الرسالة, وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده. وفي هذا بيان فضل مَن سعى إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 22 )
وأيُّ شيء يمنعني مِن أن أعبد الله الذي خلقني, وإليه تصيرون جميعًا؟
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( 23 ) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 ) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 )
أأعبد من دون الله آلهة أخرى لا تملك من الأمر شيئًا, إن يردني الرحمن بسوء فهذه الآلهة لا تملك دفع ذلك ولا منعه, ولا تستطيع إنقاذي مما أنا فيه؟ إني إن فعلت ذلك لفي خطأ واضح ظاهر. إني آمنت بربكم فاستمعوا إلى ما قُلْته لكم, وأطيعوني بالإيمان. فلما قال ذلك وثب إليه قومه وقتلوه, فأدخله الله الجنة.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 )
قيل له بعد قتله: ادخل الجنة, إكرامًا له.
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27 )
قال وهو في النعيم والكرامة: يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي; بسبب إيماني بالله وصبري على طاعته, واتباع رسله حتى قُتِلت, فيؤمنوا بالله فيدخلوا الجنة مثلي.
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( 28 )
وما احتاج الأمر إلى إنزال جند من السماء لعذابهم بعد قتلهم الرجل الناصح لهم وتكذيبهم رسلهم, فهم أضعف من ذلك وأهون, وما كنا منزلين الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم, بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم.
إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 )
ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة, فإذا هم ميتون لم تَبْقَ منهم باقية.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 )
يا حسرة العباد وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب, ما يأتيهم من رسول من الله تعالى إلا كانوا به يستهزئون ويسخرون.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( 31 )
ألم ير هؤلاء المستهزئون ويعتبروا بمن قبلهم من القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى هذه الدينا؟
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 )
وما كل هذه القرون التي أهلكناها وغيرهم, إلا محضرون جميعًا عندنا يوم القيامة للحساب والجزاء.
وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 )
ودلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله على البعث والنشور: هذه الأرض الميتة التي لا نبات فيها, أحييناها بإنزال الماء, وأخرجنا منها أنواع النبات مما يأكل الناس والأنعام, ومن أحيا الأرض بالنبات أحيا الخلق بعد الممات.
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 )
وجعلنا في هذه الأرض بساتين من نخيل وأعناب, وفجَّرنا فيها من عيون المياه ما يسقيها.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 35 )
كل ذلك; ليأكل العباد من ثمره, وما ذلك إلا من رحمة الله بهم لا بسعيهم ولا بكدِّهم, ولا بحولهم وبقوتهم, أفلا يشكرون الله على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعدُّ ولا تحصى؟
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ( 36 )
تنزَّه الله العظيم الذي خلق الأصناف جميعها من أنواع نبات الأرض, ومن أنفسهم ذكورًا وإناثًا, ومما لا يعلمون من مخلوقات الله الأخرى. قد انفرد سبحانه بالخلق, فلا ينبغي أن يُشْرَك به غيره.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( 37 )
وعلامة لهم دالة على توحيد الله وكمال قدرته: هذا الليل ننزع منه النهار, فإذا الناس مظلمون.
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 )
وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها, قدَّره الله لها لا تتعداه ولا تقصر عنه, ذلك تقدير العزيز الذي لا يغالَب, العليم الذي لا يغيب عن علمه شيء.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 )
والقمرَ آية في خلقه, قدَّرناه منازل كل ليلة, يبدأ هلالا ضئيلا حتى يكمل قمرًا مستديرًا, ثم يرجع ضئيلا مثل عِذْق النخلة المتقوس في الرقة والانحناء والصفرة؛ لقدمه ويُبْسه.
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 )
لكل من الشمس والقمر والليل والنهار وقت قدَّره الله له لا يتعدَّاه, فلا يمكن للشمس أن تلحق القمر فتمحو نوره, أو تغير مجراه, ولا يمكن للَّيل أن يسبق النهار, فيدخل عليه قبل انقضاء وقته, وكل من الشمس والقمر والكواكب في فلك يَجْرون.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 )
ودليل لهم وبرهان على أن الله وحده المستحق للعبادة, المنعم بالنعم, أنَّا حملنا مَن نجا مِن ولد آدم في سفينة نوح المملوءة بأجناس المخلوقات; لاستمرار الحياة بعد الطوفان.
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 )
وخلقنا لهؤلاء المشركين وغيرهم مثل سفينة نوح من السفن وغيرها من المراكب التي يركبونها وتبلِّغهم أوطانهم.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( 43 )
وإن نشأ نغرقهم, فلا يجدون مغيثًا لهم مِن غرقهم, ولا هم يخلصون من الغرق.
إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 44 )
إلا أن نرحمهم فننجيهم ونمتعهم إلى أجل؛ لعلهم يرجعون ويستدركون ما فرَّطوا فيه.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 )
وإذا قيل للمشركين: احذروا أمر الآخرة وأهوالها وأحوال الدنيا وعقابها; رجاء رحمة الله لكم, أعرضوا, ولم يجيبوا إلى ذلك.
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 )
وما تجيء هؤلاء المشركين من علامة واضحة من عند ربهم؛ لتهديهم للحق, وتبيِّن لهم صدق الرسول, إلا أعرضوا عنها, ولم ينتفعوا بها.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 47 )
وإذا قيل للكافرين: أنفقوا من الرزق الذي مَنَّ به الله عليكم, قالوا للمؤمنين مُحْتجِّين: أنطعم من لو شاء الله أطعمه؟ ما أنتم - أيها المؤمنون- إلا في بُعْدٍ واضح عن الحق, إذ تأمروننا بذلك.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 )
ويقول هؤلاء الكفار على وجه التكذيب والاستعجال: متى يكون البعث إن كنتم صادقين فيما تقولونه عنه؟
مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 )
ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم إلا نفخة الفَزَع عند قيام الساعة, تأخذهم فجأة, وهم يختصمون في شؤون حياتهم.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 )
فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في « القرن » أن يوصوا أحدًا بشيء, ولا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم, بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( 51 )
ونُفِخ في « القرن » النفخةُ الثانية, فتُرَدُّ أرواحهم إلى أجسادهم, فإذا هم من قبورهم يخرجون إلى ربهم سراعًا.
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 )
قال المكذبون بالبعث نادمين: يا هلاكنا مَن أخرجنا مِن قبورنا؟ فيجابون ويقال لهم: هذا ما وعد به الرحمن, وأخبر عنه المرسلون الصادقون.
إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 )
ما كان البعث من القبور إلا نتيجة نفخة واحدة في « القرن » , فإذا جميع الخلق لدينا ماثلون للحساب والجزاء.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 )
في ذلك اليوم يتم الحساب بالعدل, فلا تُظْلم نفس شيئًا بنقص حسناتها أو زيادة سيئاتها, ولا تُجْزون إلا بما كنتم تعملونه في الدنيا.
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 )
إن أهل الجنة في ذلك اليوم مشغولون عن غيرهم بأنواع النعيم التي يتفكهون بها.
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 )
هم وأزواجهم متنعمون بالجلوس على الأسرَّة المزيَّنة, تحت الظلال الوارفة.
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 )
لهم في الجنة أنواع الفواكه اللذيذة, ولهم كل ما يطلبون من أنواع النعيم.
سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 )
ولهم نعيم آخر أكبر حين يكلمهم ربهم, الرحيم بهم بالسلام عليهم. وعند ذلك تحصل لهم السلامة التامة من جميع الوجوه.
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 )
ويقال للكفار في ذلك اليوم: تميَّزوا عن المؤمنين, وانفصلوا عنهم.
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 )
ويقول الله لهم توبيخًا وتذكيرًا: ألم أوصكم على ألسنة رسلي أن لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه؟ إنه لكم عدو ظاهر العداوة.
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 )
وأمرتكم بعبادتي وحدي, فعبادتي وطاعتي ومعصية الشيطان هي الدين القويم الموصل لمرضاتي وجنَّاتي.
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 )
ولقد أضلَّ الشيطان عن الحق منكم خلقًا كثيرًا, أفما كان لكم عقل - أيها المشركون- ينهاكم عن اتباعه؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 )
هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله وتكذيبكم رسله.
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 )
ادخلوها اليوم وقاسوا حرَّها; بسبب كفركم.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 )
اليوم نطبع على أفواه المشركين فلا ينطقون, وتُكلِّمنا أيديهم بما بطشت به, وتشهد أرجلهم بما سعت إليه في الدنيا، وكسبت من الآثام.
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 )
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم بأن نُذْهب أبصارهم, كما ختمنا على أفواههم, فبادَروا إلى الصراط ليجوزوه, فكيف يتحقق لهم ذلك وقد طُمِست أبصارهم؟
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 )
ولو شئنا لَغَيَّرنا خلقهم وأقعدناهم في أماكنهم, فلا يستطيعون أن يَمْضوا أمامهم, ولا يرجعوا وراءهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 )
ومن نُطِلْ عمره حتى يهرم نُعِدْه إلى الحالة التي ابتدأ منها حالة ضعف العقل وضعف الجسد, أفلا يعقلون أنَّ مَن فعل مثل هذا بهم قادر على بعثهم؟
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 )
وما علَّمنا رسولنا محمدًا الشعر, وما ينبغي له أن يكون شاعرًا, ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب, وقرآن بيِّن الدلالة على الحق والباطل، واضحة أحكامه وحِكَمه ومواعظه; لينذر مَن كان حيَّ القلب مستنير البصيرة, ويحق العذاب على الكافرين بالله; لأنهم قامت عليهم بالقرآن حجة الله البالغة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 )
أولم ير الخلق أنا خلقنا لأجلهم أنعامًا ذللناها لهم, فهم مالكون أمرها؟
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 )
وسخَّرناها لهم, فمنها ما يركبون في الأسفار, ويحملون عليها الأثقال, ومنها ما يأكلون.
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 73 )
ولهم فيها منافع أخرى ينتفعون بها, كالانتفاع بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ولباسًا, وغير ذلك, ويشربون ألبانها, أفلا يشكرون الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم, ويخلصون له العبادة؟
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( 74 )
واتخذ المشركون من دون الله آلهة يعبدونها; طمعًا في نصرها لهم وإنقاذهم من عذاب الله.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( 75 )
لا تستطيع تلك الآلهة نصر عابديها ولا أنفسهم ينصرون, والمشركون وآلهتهم جميعًا محضرون في العذاب, متبرئ بعضهم من بعض.
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 )
فلا يَحْزُنك - أيها الرسول- كفرهم بالله وتكذيبهم لك واستهزاؤهم بك; إنا نعلم ما يخفون, وما يظهرون, وسنجازيهم على ذلك.
أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 77 )
أولم ير الإنسان المنكر للبعث ابتداء خلقه فيستدل به على معاده, أنا خلقناه من نطفة مرَّت بأطوار حتى كَبِر, فإذا هو كثير الخصام واضح الجدال؟
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 )
وضرب لنا المنكر للبعث مثلا لا ينبغي ضربه, وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق, ونسي ابتداء خلقه, قال: مَن يحيي العظام البالية المتفتتة؟
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 )
قل له: يحييها الذي خلقها أول مرة, وهو بجميع خلقه عليم, لا يخفى عليه شيء.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 )
الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر الرطب نارًا محرقة, فإذا أنتم من الشجر توقدون النار, فهو القادر على إخراج الضد من الضد. وفي ذلك دليل على وحدانية الله وكمال قدرته, ومن ذلك إخراج الموتى من قبورهم أحياء.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 81 )
أوليس الذي خلق السموات والأرض وما فيهما بقادر على أن يخلق مثلهم, فيعيدهم كما بدأهم؟ بلى, إنه قادر على ذلك, وهو الخلاق لجميع المخلوقات, العليم بكل ما خلق ويَخْلُقُ, لا يخفى عليه شيء.
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 )
إنما أمره سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا أن يقول له: « كن » فيكون, ومن ذلك الإماتة والإحياء, والبعث والنشور.
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )
فتنزه الله تعالى وتقدس عن العجز والشرك, فهو المالك لكل شيء, المتصرف في شؤون خلقه بلا منازع أو ممانع, وقد ظهرت دلائل قدرته, وتمام نعمته, وإليه تُرجعون للحساب والجزاء.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الصافات .. بن كثير
====
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 ) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 ) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 )
أقسم الله تعالى بالملائكة تصف في عبادتها صفوفًا متراصة, وبالملائكة تزجر السحاب وتسوقه بأمر الله, وبالملائكة تتلو ذكر الله وكلامه تعالى. إن معبودكم - أيها الناس- لواحد لا شريك له, فأخلصوا له العبادة والطاعة. ويقسم الله بما شاء مِن خلقه, أما المخلوق فلا يجوز له القسم إلا بالله, فالحلف بغير الله شرك.
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 )
هو خالق السموات والأرض وما بينهما, ومدبِّر الشمس في مطالعها ومغاربها.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 )
إنَّا زينَّا السماء الدنيا بزينة هي النجوم.
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 )
وحفظنا السماء بالنجوم مِن كل شيطان متمرِّد عاتٍ رجيم.
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 )
لا تستطيع الشياطين أن تصل إلى الملأ الأعلى, وهي السموات ومَن فيها مِن الملائكة, فتستمع إليهم إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مِن شرعه وقدره, ويُرْجَمون بالشهب من كل جهة; طردًا لهم عن الاستماع, ولهم في الدار الآخرة عذاب دائم موجع.
إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 )
إلا مَنِ اختطف من الشياطين الخطفة, وهي الكلمة يسمعها من السماء بسرعة, فيلقيها إلى الذي تحته, ويلقيها الآخر إلى الذي تحته, فربما أدركه الشهاب المضيء قبل أن يلقيها, وربما ألقاها بقَدَر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب, فيحرقه فيذهب بها الآخر إلى الكهنة, فيكذبون معها مائة كذبة.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ( 11 )
فاسأل - أيها الرسول- منكري البعث أَهُم أشد خلقًا أم من خلقنا من هذه المخلوقات؟ إنا خلقنا أباهم آدم من طين لزج, يلتصق بعضه ببعض.
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ( 12 )
بل عجبتَ - أيها الرسول- من تكذيبهم وإنكارهم البعث, وأعجب من إنكارهم وأبلغ أنهم يستهزئون بك, ويسخرون من قولك.
وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ( 13 )
وإذا ذكِّروا بما نسوه أو غَفَلوا عنه لا ينتفعون بهذا الذكر ولا يتدبَّرون.
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ( 14 )
وإذا رأوا معجزة دالَّة على نبوَّتك يسخرون منها ويعجبون.
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 16 ) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 17 )
وقالوا: ما هذا الذي جئت به إلا سحر ظاهر بيِّن. أإذا متنا وصِرْنا ترابًا وعظامًا بالية أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء, أو يُبعث آباؤنا الذين مضوا من قبلنا؟
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ( 18 )
قل لهم - أيها الرسول- : نعم سوف تُبعثون, وأنتم أذلاء صاغرون.
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ( 19 )
فإنما هي نفخة واحدة, فإذا هم قائمون من قبورهم ينظرون أهوال يوم القيامة.
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ( 20 )
وقالوا: يا هلاكنا هذا يوم الحساب والجزاء.
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 21 )
فيقال لهم: هذا يوم القضاء بين الخلق بالعدل الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرونه.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 22 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 23 )
ويقال للملائكة: اجمَعُوا الذين كفروا بالله ونظراءهم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله, فسوقوهم سوقًا عنيفًا إلى جهنم.
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ( 24 )
واحبسوهم قبل أن يصلوا إلى جهنم؛ إنهم مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدنيا, مساءلة إنكار عليهم وتبكيت لهم.
مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ( 25 )
ويقال لهم توبيخًا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا؟
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( 26 )
بل هم اليوم منقادون لأمر الله, لا يخالفونه ولا يحيدون عنه, غير منتصرين لأنفسهم.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 27 )
وأقبل بعض الكفار على بعض يتلاومون ويتخاصمون.
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( 28 )
قال الأتباع للمتبوعين: إنكم كنتم تأتوننا من قِبَل الدين والحق, فتهوِّنون علينا أمر الشريعة, وتُنَفِّروننا عنها, وتزينون لنا الضلال.
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 29 )
قال المتبوعون للتابعين: ما الأمر كما تزعمون, بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان, قابلة للكفر والعصيان.
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ( 30 )
وما كان لنا عليكم من حجة أو قوَّة, فنصدكم بها عن الإيمان, بل كنتم - أيها المشركون- قومًا طاغين متجاوزين للحق.
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 )
فلزِمَنا جميعًا وعيد ربنا, إنا لذائقو العذاب, نحن وأنتم, بما قدمنا من ذنوبنا ومعاصينا في الدنيا.
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( 32 )
فأضللناكم عن سبيل الله والإيمان به, إنا كنا ضالين من قبلكم, فهلكنا; بسبب كفرنا, وأهلكناكم معنا.
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 33 )
فإن الأتباع والمتبوعين مشتركون يوم القيامة في العذاب, كما اشتركوا في الدنيا في معصية الله.
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 34 )
إنا هكذا نفعل بالذين اختاروا معاصي الله في الدنيا على طاعته, فنذيقهم العذاب الأليم.
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( 35 )
إن أولئك المشركين كانوا في الدنيا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله, ودعوا إليها, وأُمروا بترك ما ينافيها, يستكبرون عنها وعلى من جاء بها.
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ( 36 )
ويقولون: أنترك عبادة آلهتنا لقول رجل شاعر مجنون؟ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( 37 )
كذَبوا, ما محمد كما وصفوه به, بل جاء بالقرآن والتوحيد, وصدَّق المرسلين فيما أخبروا به عنه من شرع الله وتوحيده.
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ( 38 )
إنكم - أيها المشركون- بقولكم وكفركم وتكذيبكم لذائقو العذاب الأليم الموجع.
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 39 )
وما تجزون في الآخرة إلا بما كنتم تعملونه في الدنيا من المعاصي.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 40 )
إلا عباد الله تعالى الذين أخلصوا له في عبادته, فأخلصهم واختصهم برحمته؛ فإنهم ناجون من العذاب الأليم.
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ( 41 )
أولئك المخلصون لهم في الجنة رزق معلوم لا ينقطع.
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ( 42 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 43 )
ذلك الرزق فواكه متنوعة, وهم مكرمون بكرامة الله لهم في جنات النعيم الدائم.
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 44 )
ومن كرامتهم عند ربهم وإكرام بعضهم بعضًا أنهم على سرر متقابلين فيما بينهم.
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 45 ) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ( 46 ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ( 47 )
يدار عليهم في مجالسهم بكؤوس خمر من أنهار جارية, لا يخافون انقطاعها, بيضاء في لونها, لذيذة في شربها, ليس فيها أذى للجسم ولا للعقل.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( 48 ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( 49 )
وعندهم في مجالسهم نساء عفيفات, لا ينظرن إلى غير أزواجهن حسان الأعين, كأنهن بَيْض مصون لم تمسه الأيدي.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 50 )
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أحوالهم في الدنيا وما كانوا يعانون فيها, وما أنعم الله به عليهم في الجنة, وهذا من تمام الأنس.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( 51 )
قال قائل من أهل الجنة: لقد كان لي في الدنيا صاحب ملازم لي.
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ( 52 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( 53 )
يقول: كيف تصدِّق بالبعث الذي هو في غاية الاستغراب؟ أإذا متنا وتمزقنا وصرنا ترابًا وعظامًا, نُبعث ونُحاسب ونُجازى بأعمالنا؟
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ( 54 ) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 55 )
قال هذا المؤمن الذي أُدخل الجنة لأصحابه: هل أنتم مُطَّلعون لنرى مصير ذلك القرين؟ فاطلع فرأى قرينه في وسط النار.
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ( 56 ) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 57 )
قال المؤمن لقرينه المنكر للبعث: لقد قاربت أن تهلكني بصدك إياي عن الإيمان لو أطعتك. ولولا فضل ربي بهدايتي إلى الإيمان وتثبيتي عليه, لكنت من المحضرين في العذاب معك.
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ( 58 ) إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 59 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 60 )
أحقًا أننا مخلَّدون منعَّمون, فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى في الدنيا, وما نحن بمعذَّبين بعد دخولنا الجنة؟ إنَّ ما نحن فيه من نعيم لهُوَ الظَّفَر العظيم.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( 61 )
لمثل هذا النعيم الكامل, والخلود الدائم, والفوز العظيم, فليعمل العاملون في الدنيا; ليصيروا إليه في الآخرة.
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( 62 )
أذلك الذي سبق وصفه مِن نعيم الجنة خير ضيافة وعطاء من الله, أم شجرة الزقوم الخبيثة الملعونة, طعام أهل النار؟
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ( 63 )
إنا جعلناها فتنة افتتن بها الظالمون لأنفسهم بالكفر والمعاصي, وقالوا مستنكرين: إن صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة, والنار تأكل الشجر.
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ( 64 ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ( 65 ) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 66 ) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ( 67 ) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ( 68 )
إنها شجرة تنبت في قعر جهنم, ثمرها قبيح المنظر كأنه رؤوس الشياطين, فإذا كانت كذلك فلا تَسْألْ بعد هذا عن طعمها, فإن المشركين لآكلون من تلك الشجرة فمالئون منها بطونهم. ثم إنهم بعد الأكل منها لشاربون شرابًا خليطًا قبيحًا حارًّا, ثم إن مردَّهم بعد هذا العذاب إلى عذاب النار.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ( 69 ) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ( 70 )
إنهم وجدوا آباءهم على الشرك والضلال, فسارعوا إلى متابعتهم على ذلك.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ( 71 )
ولقد ضلَّ عن الحق قبل قومك - أيها الرسول- أكثر الأمم السابقة.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ( 72 )
ولقد أرسلنا في تلك الأمم مرسلين أنذروهم بالعذاب فكفروا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 )
فتأمَّل كيف كانت نهاية تلك الأمم التي أنذرت, فكفرت؟ فقد عُذِّبت, وصارت للناس عبرة.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 74 )
إلا عباد الله الذين أخلصهم الله, وخصَّهم برحمته لإخلاصهم له.
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( 75 )
ولقد نادانا نبينا نوح; لننصره على قومه, فلنعم المجيبون له نحن.
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 )
ونجيناه وأهله والمؤمنين معه مِن أذى المشركين, ومن الغرق بالطوفان العظيم.
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( 77 )
وجعلنا ذرية نوح هم الباقين بعد غرق قومه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 78 )
وأبقينا له ذِكْرًا جميلا وثناءً حسنًا فيمن جاء بعده من الناس يذكرونه به.
سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ( 79 )
أمان لنوح وسلامة له من أن يُذْكر بسوء في الآخِرين, بل تُثني عليه الأجيال من بعده.
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 80 )
مثل جزاء نوح نجزي كلَّ مَن أحسن من العباد في طاعة الله.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 81 )
إن نوحًا من عبادنا المصدقين المخلصين العاملين بأوامر الله.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 82 )
ثم أغرقنا الآخرين المكذبين من قومه بالطوفان, فلم تبق منهم عين تَطْرِف.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 ) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 87 )
وإنَّ من أشياع نوح على منهاجه وملَّته نبيَّ الله إبراهيم, حين جاء ربه بقلب بريء من كل اعتقاد باطل وخُلُق ذميم, حين قال لأبيه وقومه منكرًا عليهم: ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أتريدون آلهة مختلَقَة تعبدونها, وتتركون عبادة الله المستحق للعبادة وحده؟ فما ظنكم برب العالمين أنه فاعل بكم إذا أشركتم به وعبدتم معه غيره؟
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ( 88 ) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ( 89 ) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( 90 )
فنظر إبراهيم نظرة في النجوم متفكرًا فيما يعتذر به عن الخروج معهم إلى أعيادهم, فقال لهم: إني مريض. وهذا تعريض منه. فتركوه وراء ظهورهم.
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 91 ) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ( 92 )
فمال مسرعًا إلى أصنام قومه فقال مستهزئًا بها: ألا تاكلون هذا الطعام الذي يقدمه لكم سدنتكم؟ ما لكم لا تنطقون ولا تجيبون مَن يسألكم؟
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ( 93 )
فأقبل على آلهتهم يضربها ويكسِّرها بيده اليمني; ليثبت لقومه خطأ عبادتهم لها.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( 94 )
فأقبلوا إليه يَعْدُون مسرعين غاضبين.
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( 96 )
فلقيهم إبراهيم بثبات قائلا كيف تعبدون أصنامًا تنحتونها أنتم, وتصنعونها بأيديكم, وتتركون عبادة ربكم الذي خلقكم, وخلق عملكم؟
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ( 97 )
( فلما قامت عليهم الحجة لجؤوا إلى القوة ) وقالوا: ابنوا له بنيانًا واملؤوه حطبًا, ثم ألقوه فيه.
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ( 98 )
فأراد قوم إبراهيم به كيدًا لإهلاكه, فجعلناهم المقهورين المغلوبين، وردَّ الله كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 )
وقال إبراهيم: إني مهاجر إلى ربي من بلد قومي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي; فإنه سيدلني على الخير في ديني ودنياي. رب أعطني ولدًا صالحًا.
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 )
فأجبنا له دعوته, وبشَّرناه بغلام حليم, أي: يكون حليمًا في كبره, وهو إسماعيل.
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 )
فلما كَبِر إسماعيل ومشى مع أبيه قال له أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك, فما رأيك؟ ( ورؤيا الأنبياء حق ) فقال إسماعيل مُرْضيًا ربه, بارًّا بوالده, معينًا له على طاعة الله: أمض ما أمرك الله به مِن ذبحي, ستجدني - إن شاء الله- صابرًا طائعًا محتسبًا.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( 103 )
فلما استسلما لأمر الله وانقادا له, وألقى إبراهيم ابنه على جبينه - وهو جانب الجبهة- على الأرض؛ ليذبحه.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 105 )
ونادينا إبراهيم في تلك الحالة العصيبة: أن يا إبراهيم, قد فعلتَ ما أُمرت به وصَدَّقْتَ رؤياك, إنا كما جزيناك على تصديقك نجزي الذين أحسنوا مثلك, فنخلِّصهم من الشدائد في الدنيا والآخرة.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ( 106 )
إن الأمر بذبح ابنك هو الابتلاء الشاق الذي أبان عن صدق إيمانك.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( 107 )
واستنقذنا إسماعيل, فجعلنا بديلا عنه كبشًا عظيمًا.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 108 )
وأبقينا لإبراهيم ثناءً حسنًا في الأمم بعده.
سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( 109 )
تحيةٌ لإبراهيم من عند الله, ودعاءٌ له بالسلامة من كل آفة.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 110 )
كما جزينا إبراهيم على طاعته لنا وامتثاله أمرنا, نجزي المحسنين من عبادنا.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 111 )
إنه من عبادنا المؤمنين الذين أعطَوا العبودية حقها.
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 112 )
وبشَّرنا إبراهيم بولده إسحاق نبيًّا من الصالحين; جزاء له على صبره ورضاه بأمر ربه, وطاعته له.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ( 113 )
وأنزلنا عليهما البركة. ومِن ذريتهما من هو مطيع لربه, محسن لنفسه, ومَن هو ظالم لها ظلمًا بيِّنًا بكفره ومعصيته.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 114 ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 115 )
ولقد مننَّا على موسى وهارون بالنبوة والرسالة, ونجيناهما وقومهما من الغرق, وما كانوا فيه من عبودية ومَذلَّة.
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 116 )
ونصرناهم, فكانت لهم العزة والنصرة والغلبة على فرعون وآله.
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( 117 ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 118 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ( 119 )
وآتيناهما التوراة البينة, وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه, وهو الإسلام دين الله الذي ابتعث به أنبياءه, وأبقينا لهما ثناءً حسنًا وذكرًا جميلا فيمن بعدهما.
سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 120 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 121 ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 122 )
تحيةٌ لموسى وهارون من عند الله, وثناءٌ ودعاءٌ لهما بالسلامة من كل آفة, كما جزيناهما الجزاء الحسن نجزي المحسنين من عبادنا المخلصين لنا بالصدق والإيمان والعمل. إنهما من عبادنا الراسخين في الإيمان.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 126 )
وإن عبدنا إلياس لمن الذين أكرمناهم بالنبوة والرسالة, إذ قال لقومه من بني إسرائيل: اتقوا الله وحده وخافوه, ولا تشركوا معه غيره, كيف تعبدون صنمًا, وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين, وهو ربكم الذي خلقكم, وخلق آباءكم الماضين قبلكم؟
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 127 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 128 )
فكذب قوم إلياس نبيهم, فليجمعنهم الله يوم القيامة للحساب والعقاب, إلا عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله, فإنهم ناجون من عذابه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 129 ) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ( 130 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 131 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 132 )
وجعلنا لإلياس ثناءً جميلا في الأمم بعده. تحية من الله, وثناءٌ على إلياس. وكما جزينا إلياس الجزاء الحسن على طاعته, نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين. إنه من عباد الله المؤمنين المخلصين له العاملين بأوامره.
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 133 ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( 134 ) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( 135 )
وإن عبدنا لوطًا اصطفيناه, فجعلناه من المرسلين, إذ نجيناه وأهله أجمعين من العذاب, إلا عجوزًا هَرِمة, هي زوجته, هلكت مع الذين هلكوا من قومها لكفرها.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ( 136 )
ثم أهلكنا الباقين المكذبين من قومه.
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ( 137 ) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 138 )
وإنكم - يا أهل « مكة » - لتمرون فى أسفاركم على منازل قوم لوط وآثارهم وقت الصباح, وتمرون عليها ليلا. أفلا تعقلون, فتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 139 ) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 140 )
وإن عبدنا يونس اصطفيناه وجعلناه من المرسلين, إذ هرب من بلده غاضبًا على قومه, وركب سفينة مملوءة ركابًا وأمتعة.
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( 141 )
وأحاطت بها الأمواج العظيمة, فاقترع ركاب السفينة لتخفيف الحمولة خوف الغرق, فكان يونس من المغلوبين.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 142 )
فأُلقي في البحر, فابتلعه الحوت, ويونس عليه السلام آتٍ بما يُلام عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( 143 ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 144 )
فلولا ما تقدَّم له من كثرة العبادة والعمل الصالح قبل وقوعه في بطن الحوت, وتسبيحه, وهو في بطن الحوت بقوله: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، لمكث في بطن الحوت, وصار له قبرًا إلى يوم القيامة.
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( 145 )
فطرحناه من بطن الحوت, وألقيناه في أرض خالية عارية من الشجر والبناء, وهو ضعيف البدن.
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ( 146 )
وأنبتنا عليه شجرة من القَرْع تظلُّه, وينتفع بها.
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( 147 ) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 148 )
وأرسلناه إلى مائة ألف من قومه بل يزيدون, فصدَّقوا وعملوا بما جاء به, فمتعناهم بحياتهم إلى وقت بلوغ آجالهم.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( 149 )
فاسأل - أيها الرسول- قومك: كيف جعلوا لله البنات اللاتي يكرهونهنَّ, ولأنفسهم البنين الذين يريدونهم؟
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( 150 )
واسألهم أخَلَقْنا الملائكة إناثًا, وهم حاضرون؟
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( 151 ) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 152 )
وإنَّ مِن كذبهم قولهم: ولَد الله, وإنهم لكاذبون; لأنهم يقولون ما لا يعلمون.
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( 153 )
لأي شيء يختار الله البنات دون البنين؟
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 154 )
بئس الحكم ما تحكمونه - أيها القوم- أن يكون لله البنات ولكم البنون, وأنتم لا ترضون البنات لأنفسكم.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 155 )
أفلا تذكرون أنه لا يجوز ولا ينبغي أن يكون له ولد؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ( 156 )
بل ألكم حجة بيِّنة على قولكم وافترائكم؟
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 157 )
إن كانت لكم حجة في كتاب من عند الله فأتوا بها, إن كنتم صادقين في قولكم؟
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 158 )
وجعل المشركون بين الله والملائكة قرابة ونسبًا, ولقد علمت الملائكة أن المشركين محضرون للعذاب يوم القيامة.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 159 )
تنزَّه الله عن كل ما لا يليق به ممَّا يصفه به الكافرون.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 160 )
لكن عباد الله المخلصين له في عبادته لا يصفونه إلا بما يليق بجلاله سبحانه.
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( 161 ) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( 162 ) إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( 163 )
فإنكم - أيها المشركون بالله- وما تعبدون من دون الله من آلهة, ما أنتم بمضلِّين أحدًا إلا مَن قدَّر الله عز وجل عليه أن يَصْلَى الجحيم؛ لكفره وظلمه.
وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ( 164 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( 165 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( 166 )
قالت الملائكة: وما منا أحدٌ إلا له مقام في السماء معلوم, وإنا لنحن الواقفون صفوفًا في عبادة الله وطاعته, وإنا لنحن المنزِّهون الله عن كل ما لا يليق به.
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ( 167 ) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ ( 168 ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 169 )
وإن كفار « مكة » ليقولون قبل بعثتك - أيها الرسول- : لو جاءنا من الكتب والأنبياء ما جاء الأولين قبلنا, لكنا عباد الله الصادقين في الإيمان, المخلَصين في العبادة.
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 170 )
فلما جاءهم ذكر الأولين, وعلم الآخرين, وأكمل الكتب, وأفضل الرسل, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, كفروا به, فسوف يعلمون ما لهم من العذاب في الآخرة.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( 172 ) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 173 )
ولقد سبقت كلمتنا - التي لا مردَّ لها- لعبادنا المرسلين, أن لهم النصرة على أعدائهم بالحجة والقوة, وأن جندنا المجاهدين في سبيلنا لهم الغالبون لأعدائهم في كل مقام باعتبار العاقبة والمآل.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 174 ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 175 )
فأعرض - أيها الرسول- عَمَّن عاند, ولم يقبل الحق حتى تنقضي المدة التي أمهلهم فيها, ويأتي أمر الله بعذابهم, وأنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب بمخالفتك؟ فسوف يرون ما يحل بهم من عذاب الله.
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 176 ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ( 177 )
أفبنزول عذابنا بهم يستعجلونك أيها الرسول؟ فإذا نزل عذابنا بهم, فبئس الصباح صباحهم.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 178 ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 179 )
وأعرض عنهم حتى يأذن الله بعذابهم, وأنظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من العذاب والنكال.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 180 )
تنزَّه الله وتعالى رب العزة عما يصفه هؤلاء المفترون عليه.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( 181 )
وتحية الله الدائمة وثناؤه وأمانه لجميع المرسلين.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 182 )
والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة, فهو المستحق لذلك وحده لا شريك له.
====
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ( 1 ) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ( 2 ) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ( 3 ) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( 4 )
أقسم الله تعالى بالملائكة تصف في عبادتها صفوفًا متراصة, وبالملائكة تزجر السحاب وتسوقه بأمر الله, وبالملائكة تتلو ذكر الله وكلامه تعالى. إن معبودكم - أيها الناس- لواحد لا شريك له, فأخلصوا له العبادة والطاعة. ويقسم الله بما شاء مِن خلقه, أما المخلوق فلا يجوز له القسم إلا بالله, فالحلف بغير الله شرك.
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ( 5 )
هو خالق السموات والأرض وما بينهما, ومدبِّر الشمس في مطالعها ومغاربها.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( 6 )
إنَّا زينَّا السماء الدنيا بزينة هي النجوم.
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ( 7 )
وحفظنا السماء بالنجوم مِن كل شيطان متمرِّد عاتٍ رجيم.
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ( 8 ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ( 9 )
لا تستطيع الشياطين أن تصل إلى الملأ الأعلى, وهي السموات ومَن فيها مِن الملائكة, فتستمع إليهم إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مِن شرعه وقدره, ويُرْجَمون بالشهب من كل جهة; طردًا لهم عن الاستماع, ولهم في الدار الآخرة عذاب دائم موجع.
إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( 10 )
إلا مَنِ اختطف من الشياطين الخطفة, وهي الكلمة يسمعها من السماء بسرعة, فيلقيها إلى الذي تحته, ويلقيها الآخر إلى الذي تحته, فربما أدركه الشهاب المضيء قبل أن يلقيها, وربما ألقاها بقَدَر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب, فيحرقه فيذهب بها الآخر إلى الكهنة, فيكذبون معها مائة كذبة.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ( 11 )
فاسأل - أيها الرسول- منكري البعث أَهُم أشد خلقًا أم من خلقنا من هذه المخلوقات؟ إنا خلقنا أباهم آدم من طين لزج, يلتصق بعضه ببعض.
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ( 12 )
بل عجبتَ - أيها الرسول- من تكذيبهم وإنكارهم البعث, وأعجب من إنكارهم وأبلغ أنهم يستهزئون بك, ويسخرون من قولك.
وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ( 13 )
وإذا ذكِّروا بما نسوه أو غَفَلوا عنه لا ينتفعون بهذا الذكر ولا يتدبَّرون.
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ( 14 )
وإذا رأوا معجزة دالَّة على نبوَّتك يسخرون منها ويعجبون.
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 16 ) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 17 )
وقالوا: ما هذا الذي جئت به إلا سحر ظاهر بيِّن. أإذا متنا وصِرْنا ترابًا وعظامًا بالية أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء, أو يُبعث آباؤنا الذين مضوا من قبلنا؟
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ( 18 )
قل لهم - أيها الرسول- : نعم سوف تُبعثون, وأنتم أذلاء صاغرون.
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ( 19 )
فإنما هي نفخة واحدة, فإذا هم قائمون من قبورهم ينظرون أهوال يوم القيامة.
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ( 20 )
وقالوا: يا هلاكنا هذا يوم الحساب والجزاء.
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 21 )
فيقال لهم: هذا يوم القضاء بين الخلق بالعدل الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرونه.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ( 22 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 23 )
ويقال للملائكة: اجمَعُوا الذين كفروا بالله ونظراءهم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله, فسوقوهم سوقًا عنيفًا إلى جهنم.
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ( 24 )
واحبسوهم قبل أن يصلوا إلى جهنم؛ إنهم مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدنيا, مساءلة إنكار عليهم وتبكيت لهم.
مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ( 25 )
ويقال لهم توبيخًا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا؟
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ( 26 )
بل هم اليوم منقادون لأمر الله, لا يخالفونه ولا يحيدون عنه, غير منتصرين لأنفسهم.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 27 )
وأقبل بعض الكفار على بعض يتلاومون ويتخاصمون.
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ( 28 )
قال الأتباع للمتبوعين: إنكم كنتم تأتوننا من قِبَل الدين والحق, فتهوِّنون علينا أمر الشريعة, وتُنَفِّروننا عنها, وتزينون لنا الضلال.
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 29 )
قال المتبوعون للتابعين: ما الأمر كما تزعمون, بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان, قابلة للكفر والعصيان.
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ( 30 )
وما كان لنا عليكم من حجة أو قوَّة, فنصدكم بها عن الإيمان, بل كنتم - أيها المشركون- قومًا طاغين متجاوزين للحق.
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ( 31 )
فلزِمَنا جميعًا وعيد ربنا, إنا لذائقو العذاب, نحن وأنتم, بما قدمنا من ذنوبنا ومعاصينا في الدنيا.
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ( 32 )
فأضللناكم عن سبيل الله والإيمان به, إنا كنا ضالين من قبلكم, فهلكنا; بسبب كفرنا, وأهلكناكم معنا.
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 33 )
فإن الأتباع والمتبوعين مشتركون يوم القيامة في العذاب, كما اشتركوا في الدنيا في معصية الله.
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ( 34 )
إنا هكذا نفعل بالذين اختاروا معاصي الله في الدنيا على طاعته, فنذيقهم العذاب الأليم.
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( 35 )
إن أولئك المشركين كانوا في الدنيا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله, ودعوا إليها, وأُمروا بترك ما ينافيها, يستكبرون عنها وعلى من جاء بها.
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ( 36 )
ويقولون: أنترك عبادة آلهتنا لقول رجل شاعر مجنون؟ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( 37 )
كذَبوا, ما محمد كما وصفوه به, بل جاء بالقرآن والتوحيد, وصدَّق المرسلين فيما أخبروا به عنه من شرع الله وتوحيده.
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ( 38 )
إنكم - أيها المشركون- بقولكم وكفركم وتكذيبكم لذائقو العذاب الأليم الموجع.
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 39 )
وما تجزون في الآخرة إلا بما كنتم تعملونه في الدنيا من المعاصي.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 40 )
إلا عباد الله تعالى الذين أخلصوا له في عبادته, فأخلصهم واختصهم برحمته؛ فإنهم ناجون من العذاب الأليم.
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ( 41 )
أولئك المخلصون لهم في الجنة رزق معلوم لا ينقطع.
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ( 42 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 43 )
ذلك الرزق فواكه متنوعة, وهم مكرمون بكرامة الله لهم في جنات النعيم الدائم.
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ( 44 )
ومن كرامتهم عند ربهم وإكرام بعضهم بعضًا أنهم على سرر متقابلين فيما بينهم.
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 45 ) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ( 46 ) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ( 47 )
يدار عليهم في مجالسهم بكؤوس خمر من أنهار جارية, لا يخافون انقطاعها, بيضاء في لونها, لذيذة في شربها, ليس فيها أذى للجسم ولا للعقل.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ( 48 ) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( 49 )
وعندهم في مجالسهم نساء عفيفات, لا ينظرن إلى غير أزواجهن حسان الأعين, كأنهن بَيْض مصون لم تمسه الأيدي.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 50 )
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أحوالهم في الدنيا وما كانوا يعانون فيها, وما أنعم الله به عليهم في الجنة, وهذا من تمام الأنس.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ( 51 )
قال قائل من أهل الجنة: لقد كان لي في الدنيا صاحب ملازم لي.
يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ( 52 ) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ( 53 )
يقول: كيف تصدِّق بالبعث الذي هو في غاية الاستغراب؟ أإذا متنا وتمزقنا وصرنا ترابًا وعظامًا, نُبعث ونُحاسب ونُجازى بأعمالنا؟
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ( 54 ) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 55 )
قال هذا المؤمن الذي أُدخل الجنة لأصحابه: هل أنتم مُطَّلعون لنرى مصير ذلك القرين؟ فاطلع فرأى قرينه في وسط النار.
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ( 56 ) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 57 )
قال المؤمن لقرينه المنكر للبعث: لقد قاربت أن تهلكني بصدك إياي عن الإيمان لو أطعتك. ولولا فضل ربي بهدايتي إلى الإيمان وتثبيتي عليه, لكنت من المحضرين في العذاب معك.
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ( 58 ) إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( 59 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 60 )
أحقًا أننا مخلَّدون منعَّمون, فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى في الدنيا, وما نحن بمعذَّبين بعد دخولنا الجنة؟ إنَّ ما نحن فيه من نعيم لهُوَ الظَّفَر العظيم.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( 61 )
لمثل هذا النعيم الكامل, والخلود الدائم, والفوز العظيم, فليعمل العاملون في الدنيا; ليصيروا إليه في الآخرة.
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( 62 )
أذلك الذي سبق وصفه مِن نعيم الجنة خير ضيافة وعطاء من الله, أم شجرة الزقوم الخبيثة الملعونة, طعام أهل النار؟
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ( 63 )
إنا جعلناها فتنة افتتن بها الظالمون لأنفسهم بالكفر والمعاصي, وقالوا مستنكرين: إن صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة, والنار تأكل الشجر.
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ( 64 ) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ( 65 ) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 66 ) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ( 67 ) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ( 68 )
إنها شجرة تنبت في قعر جهنم, ثمرها قبيح المنظر كأنه رؤوس الشياطين, فإذا كانت كذلك فلا تَسْألْ بعد هذا عن طعمها, فإن المشركين لآكلون من تلك الشجرة فمالئون منها بطونهم. ثم إنهم بعد الأكل منها لشاربون شرابًا خليطًا قبيحًا حارًّا, ثم إن مردَّهم بعد هذا العذاب إلى عذاب النار.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ( 69 ) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ( 70 )
إنهم وجدوا آباءهم على الشرك والضلال, فسارعوا إلى متابعتهم على ذلك.
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ( 71 )
ولقد ضلَّ عن الحق قبل قومك - أيها الرسول- أكثر الأمم السابقة.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ( 72 )
ولقد أرسلنا في تلك الأمم مرسلين أنذروهم بالعذاب فكفروا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 )
فتأمَّل كيف كانت نهاية تلك الأمم التي أنذرت, فكفرت؟ فقد عُذِّبت, وصارت للناس عبرة.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 74 )
إلا عباد الله الذين أخلصهم الله, وخصَّهم برحمته لإخلاصهم له.
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( 75 )
ولقد نادانا نبينا نوح; لننصره على قومه, فلنعم المجيبون له نحن.
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 )
ونجيناه وأهله والمؤمنين معه مِن أذى المشركين, ومن الغرق بالطوفان العظيم.
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( 77 )
وجعلنا ذرية نوح هم الباقين بعد غرق قومه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 78 )
وأبقينا له ذِكْرًا جميلا وثناءً حسنًا فيمن جاء بعده من الناس يذكرونه به.
سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ( 79 )
أمان لنوح وسلامة له من أن يُذْكر بسوء في الآخِرين, بل تُثني عليه الأجيال من بعده.
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 80 )
مثل جزاء نوح نجزي كلَّ مَن أحسن من العباد في طاعة الله.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 81 )
إن نوحًا من عبادنا المصدقين المخلصين العاملين بأوامر الله.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 82 )
ثم أغرقنا الآخرين المكذبين من قومه بالطوفان, فلم تبق منهم عين تَطْرِف.
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 ) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 87 )
وإنَّ من أشياع نوح على منهاجه وملَّته نبيَّ الله إبراهيم, حين جاء ربه بقلب بريء من كل اعتقاد باطل وخُلُق ذميم, حين قال لأبيه وقومه منكرًا عليهم: ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أتريدون آلهة مختلَقَة تعبدونها, وتتركون عبادة الله المستحق للعبادة وحده؟ فما ظنكم برب العالمين أنه فاعل بكم إذا أشركتم به وعبدتم معه غيره؟
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ( 88 ) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ( 89 ) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( 90 )
فنظر إبراهيم نظرة في النجوم متفكرًا فيما يعتذر به عن الخروج معهم إلى أعيادهم, فقال لهم: إني مريض. وهذا تعريض منه. فتركوه وراء ظهورهم.
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 91 ) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ( 92 )
فمال مسرعًا إلى أصنام قومه فقال مستهزئًا بها: ألا تاكلون هذا الطعام الذي يقدمه لكم سدنتكم؟ ما لكم لا تنطقون ولا تجيبون مَن يسألكم؟
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ( 93 )
فأقبل على آلهتهم يضربها ويكسِّرها بيده اليمني; ليثبت لقومه خطأ عبادتهم لها.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ( 94 )
فأقبلوا إليه يَعْدُون مسرعين غاضبين.
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ( 95 ) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ( 96 )
فلقيهم إبراهيم بثبات قائلا كيف تعبدون أصنامًا تنحتونها أنتم, وتصنعونها بأيديكم, وتتركون عبادة ربكم الذي خلقكم, وخلق عملكم؟
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ( 97 )
( فلما قامت عليهم الحجة لجؤوا إلى القوة ) وقالوا: ابنوا له بنيانًا واملؤوه حطبًا, ثم ألقوه فيه.
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ( 98 )
فأراد قوم إبراهيم به كيدًا لإهلاكه, فجعلناهم المقهورين المغلوبين، وردَّ الله كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 99 ) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ( 100 )
وقال إبراهيم: إني مهاجر إلى ربي من بلد قومي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي; فإنه سيدلني على الخير في ديني ودنياي. رب أعطني ولدًا صالحًا.
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ( 101 )
فأجبنا له دعوته, وبشَّرناه بغلام حليم, أي: يكون حليمًا في كبره, وهو إسماعيل.
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 102 )
فلما كَبِر إسماعيل ومشى مع أبيه قال له أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك, فما رأيك؟ ( ورؤيا الأنبياء حق ) فقال إسماعيل مُرْضيًا ربه, بارًّا بوالده, معينًا له على طاعة الله: أمض ما أمرك الله به مِن ذبحي, ستجدني - إن شاء الله- صابرًا طائعًا محتسبًا.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( 103 )
فلما استسلما لأمر الله وانقادا له, وألقى إبراهيم ابنه على جبينه - وهو جانب الجبهة- على الأرض؛ ليذبحه.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 105 )
ونادينا إبراهيم في تلك الحالة العصيبة: أن يا إبراهيم, قد فعلتَ ما أُمرت به وصَدَّقْتَ رؤياك, إنا كما جزيناك على تصديقك نجزي الذين أحسنوا مثلك, فنخلِّصهم من الشدائد في الدنيا والآخرة.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ( 106 )
إن الأمر بذبح ابنك هو الابتلاء الشاق الذي أبان عن صدق إيمانك.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( 107 )
واستنقذنا إسماعيل, فجعلنا بديلا عنه كبشًا عظيمًا.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 108 )
وأبقينا لإبراهيم ثناءً حسنًا في الأمم بعده.
سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( 109 )
تحيةٌ لإبراهيم من عند الله, ودعاءٌ له بالسلامة من كل آفة.
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 110 )
كما جزينا إبراهيم على طاعته لنا وامتثاله أمرنا, نجزي المحسنين من عبادنا.
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 111 )
إنه من عبادنا المؤمنين الذين أعطَوا العبودية حقها.
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 112 )
وبشَّرنا إبراهيم بولده إسحاق نبيًّا من الصالحين; جزاء له على صبره ورضاه بأمر ربه, وطاعته له.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ( 113 )
وأنزلنا عليهما البركة. ومِن ذريتهما من هو مطيع لربه, محسن لنفسه, ومَن هو ظالم لها ظلمًا بيِّنًا بكفره ومعصيته.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 114 ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 115 )
ولقد مننَّا على موسى وهارون بالنبوة والرسالة, ونجيناهما وقومهما من الغرق, وما كانوا فيه من عبودية ومَذلَّة.
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 116 )
ونصرناهم, فكانت لهم العزة والنصرة والغلبة على فرعون وآله.
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( 117 ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 118 ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ( 119 )
وآتيناهما التوراة البينة, وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه, وهو الإسلام دين الله الذي ابتعث به أنبياءه, وأبقينا لهما ثناءً حسنًا وذكرًا جميلا فيمن بعدهما.
سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ( 120 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 121 ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 122 )
تحيةٌ لموسى وهارون من عند الله, وثناءٌ ودعاءٌ لهما بالسلامة من كل آفة, كما جزيناهما الجزاء الحسن نجزي المحسنين من عبادنا المخلصين لنا بالصدق والإيمان والعمل. إنهما من عبادنا الراسخين في الإيمان.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( 125 ) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 126 )
وإن عبدنا إلياس لمن الذين أكرمناهم بالنبوة والرسالة, إذ قال لقومه من بني إسرائيل: اتقوا الله وحده وخافوه, ولا تشركوا معه غيره, كيف تعبدون صنمًا, وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين, وهو ربكم الذي خلقكم, وخلق آباءكم الماضين قبلكم؟
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 127 ) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 128 )
فكذب قوم إلياس نبيهم, فليجمعنهم الله يوم القيامة للحساب والعقاب, إلا عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله, فإنهم ناجون من عذابه.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ( 129 ) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ( 130 ) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 131 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 132 )
وجعلنا لإلياس ثناءً جميلا في الأمم بعده. تحية من الله, وثناءٌ على إلياس. وكما جزينا إلياس الجزاء الحسن على طاعته, نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين. إنه من عباد الله المؤمنين المخلصين له العاملين بأوامره.
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 133 ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( 134 ) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( 135 )
وإن عبدنا لوطًا اصطفيناه, فجعلناه من المرسلين, إذ نجيناه وأهله أجمعين من العذاب, إلا عجوزًا هَرِمة, هي زوجته, هلكت مع الذين هلكوا من قومها لكفرها.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ( 136 )
ثم أهلكنا الباقين المكذبين من قومه.
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ( 137 ) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 138 )
وإنكم - يا أهل « مكة » - لتمرون فى أسفاركم على منازل قوم لوط وآثارهم وقت الصباح, وتمرون عليها ليلا. أفلا تعقلون, فتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 139 ) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 140 )
وإن عبدنا يونس اصطفيناه وجعلناه من المرسلين, إذ هرب من بلده غاضبًا على قومه, وركب سفينة مملوءة ركابًا وأمتعة.
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( 141 )
وأحاطت بها الأمواج العظيمة, فاقترع ركاب السفينة لتخفيف الحمولة خوف الغرق, فكان يونس من المغلوبين.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 142 )
فأُلقي في البحر, فابتلعه الحوت, ويونس عليه السلام آتٍ بما يُلام عليه.
فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( 143 ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 144 )
فلولا ما تقدَّم له من كثرة العبادة والعمل الصالح قبل وقوعه في بطن الحوت, وتسبيحه, وهو في بطن الحوت بقوله: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، لمكث في بطن الحوت, وصار له قبرًا إلى يوم القيامة.
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( 145 )
فطرحناه من بطن الحوت, وألقيناه في أرض خالية عارية من الشجر والبناء, وهو ضعيف البدن.
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ( 146 )
وأنبتنا عليه شجرة من القَرْع تظلُّه, وينتفع بها.
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( 147 ) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 148 )
وأرسلناه إلى مائة ألف من قومه بل يزيدون, فصدَّقوا وعملوا بما جاء به, فمتعناهم بحياتهم إلى وقت بلوغ آجالهم.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( 149 )
فاسأل - أيها الرسول- قومك: كيف جعلوا لله البنات اللاتي يكرهونهنَّ, ولأنفسهم البنين الذين يريدونهم؟
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( 150 )
واسألهم أخَلَقْنا الملائكة إناثًا, وهم حاضرون؟
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( 151 ) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 152 )
وإنَّ مِن كذبهم قولهم: ولَد الله, وإنهم لكاذبون; لأنهم يقولون ما لا يعلمون.
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( 153 )
لأي شيء يختار الله البنات دون البنين؟
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 154 )
بئس الحكم ما تحكمونه - أيها القوم- أن يكون لله البنات ولكم البنون, وأنتم لا ترضون البنات لأنفسكم.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 155 )
أفلا تذكرون أنه لا يجوز ولا ينبغي أن يكون له ولد؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ( 156 )
بل ألكم حجة بيِّنة على قولكم وافترائكم؟
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 157 )
إن كانت لكم حجة في كتاب من عند الله فأتوا بها, إن كنتم صادقين في قولكم؟
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( 158 )
وجعل المشركون بين الله والملائكة قرابة ونسبًا, ولقد علمت الملائكة أن المشركين محضرون للعذاب يوم القيامة.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 159 )
تنزَّه الله عن كل ما لا يليق به ممَّا يصفه به الكافرون.
إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 160 )
لكن عباد الله المخلصين له في عبادته لا يصفونه إلا بما يليق بجلاله سبحانه.
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( 161 ) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( 162 ) إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( 163 )
فإنكم - أيها المشركون بالله- وما تعبدون من دون الله من آلهة, ما أنتم بمضلِّين أحدًا إلا مَن قدَّر الله عز وجل عليه أن يَصْلَى الجحيم؛ لكفره وظلمه.
وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ( 164 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( 165 ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( 166 )
قالت الملائكة: وما منا أحدٌ إلا له مقام في السماء معلوم, وإنا لنحن الواقفون صفوفًا في عبادة الله وطاعته, وإنا لنحن المنزِّهون الله عن كل ما لا يليق به.
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ( 167 ) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ ( 168 ) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( 169 )
وإن كفار « مكة » ليقولون قبل بعثتك - أيها الرسول- : لو جاءنا من الكتب والأنبياء ما جاء الأولين قبلنا, لكنا عباد الله الصادقين في الإيمان, المخلَصين في العبادة.
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 170 )
فلما جاءهم ذكر الأولين, وعلم الآخرين, وأكمل الكتب, وأفضل الرسل, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, كفروا به, فسوف يعلمون ما لهم من العذاب في الآخرة.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( 171 ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ( 172 ) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 173 )
ولقد سبقت كلمتنا - التي لا مردَّ لها- لعبادنا المرسلين, أن لهم النصرة على أعدائهم بالحجة والقوة, وأن جندنا المجاهدين في سبيلنا لهم الغالبون لأعدائهم في كل مقام باعتبار العاقبة والمآل.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 174 ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 175 )
فأعرض - أيها الرسول- عَمَّن عاند, ولم يقبل الحق حتى تنقضي المدة التي أمهلهم فيها, ويأتي أمر الله بعذابهم, وأنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب بمخالفتك؟ فسوف يرون ما يحل بهم من عذاب الله.
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 176 ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ( 177 )
أفبنزول عذابنا بهم يستعجلونك أيها الرسول؟ فإذا نزل عذابنا بهم, فبئس الصباح صباحهم.
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ( 178 ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( 179 )
وأعرض عنهم حتى يأذن الله بعذابهم, وأنظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من العذاب والنكال.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 180 )
تنزَّه الله وتعالى رب العزة عما يصفه هؤلاء المفترون عليه.
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( 181 )
وتحية الله الدائمة وثناؤه وأمانه لجميع المرسلين.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 182 )
والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة, فهو المستحق لذلك وحده لا شريك له.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة ص .. بن كثير
=====
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 )
( ص ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
يقسم الله سبحانه بالقرآن المشتمل على تذكير الناس بما هم عنه غافلون. ولكن الكافرين متكبرون على الحق مخالفون له.
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )
كثيرًا من الأمم أهلكناها قبل هؤلاء المشركين، فاستغاثوا حين جاءهم العذاب ونادوا بالتوبة, وليس الوقت وقت قَبول توبة, ولا وقت فرار وخلاص مما أصابهم.
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 )
وعجِب هؤلاء الكفار مِن بعث الله إليهم بشرا منهم؛ ليدعوهم إلى الله ويخوَّفهم عذابه, وقالوا: إنه ليس رسولا بل هو كاذب في قوله, ساحر لقومه، كيف يصيِّر الآلهة الكثيرة إلهًا واحدًا؟ إنَّ هذا الذي جاء به ودعا إليه لَشيء عجيب.
وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 )
وانطلق رؤساء القوم وكبراؤهم يحرِّضون قومهم على الاستمرار على الشرك والصبر على تعدد الآلهة, ويقولون إن ما جاء به هذا الرسول شيء مدبَّر يقصد منه الرئاسة والسيادة, ما سمعنا بما يدعو إليه في دين آبائنا من قريش، ولا في النصرانية، ما هذا إلا كذب وافتراء.
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 )
أخُص محمد بنزول القرآن عليه من دوننا؟ بل هم في ريب من وحيي إليك - أيها الرسول- وإرسالي لك، بل قالوا ذلك؛ لأنهم لم يذوقوا عذاب الله، فلو ذاقوا عذابه لما تجرؤوا على ما قالوا.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 )
أم هم يملكون خزائن فضل ربك العزيز في سلطانه, الوهاب ما يشاء من رزقه وفضله لمن يشاء من خلقه؟
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ( 10 )
أم لهؤلاء المشركين مُلْك السموات والأرض وما بينهما، فيُعْطوا ويَمْنعوا؟ فليأخذوا بالأسباب الموصلة لهم إلى السماء, حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع.
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 )
هؤلاء الجند المكذِّبون جند مهزومون، كما هُزم غيرهم من الأحزاب قبلهم، كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون صاحب القوة العظيمة, وثمود وقوم لوط وأصحاب الأشجار والبساتين وهم قوم شعيب. أولئك الأمم الذين تحزَّبوا على الكفر والتكذيب واجتمعوا عليه. إنْ كلٌّ مِن هؤلاء إلا كذَّب الرسل, فاستحقوا عذاب الله, وحلَّ بهم عقابه.
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 )
وما ينتظر هؤلاء المشركون لحلول العذاب عليهم إن بقوا على شركهم, إلا نفخة واحدة ما لها من رجوع.
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )
وقالوا: ربنا عجِّل لنا نصيبنا من العذاب في الدينا قبل يوم القيامة, وكان هذا استهزاءً منهم.
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 )
اصبر - أيها الرسول- على ما يقولونه مما تكره، واذكر عبدنا داود صاحب القوة على أعداء الله والصبر على طاعته, إنه توَّاب كثير الرجوع إلى ما يرضي الله. ( وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ) .
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 )
إنا سخَّرنا الجبال مع داود يسبِّحن بتسبيحه أول النهار وآخره، وسخرنا الطير معه مجموعة تسبِّح، وتطيع تبعًا له.
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )
وقوَّينا له ملكه بالهيبة والقوة والنصر, وآتيناه النبوة, والفصل في الكلام والحكم.
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 )
وهل جاءك - أيها الرسول- خبر المتخاصِمَين اللذَين تسوَّرا على داود في مكان عبادته, فارتاع من دخولهما عليه؟ قالوا له: لا تَخَفْ، فنحن خصمان ظلم أحدنا الآخر، فاقض بيننا بالعدل، ولا تَجُرْ علينا في الحكم, وأرشِدنا إلى سواء السبيل.
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 )
قال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون من النعاج, وليس عندي إلا نعجة واحدة, فطمع فيها، وقال: أعطنيها, وغلبني بحجته.
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 )
قال داود: لقد ظلمك أخوك بسؤاله ضم نعجتك إلى نعاجه, وإن كثيرًا من الشركاء ليعتدي بعضهم على بعض، ويظلمه بأخذ حقه وعدم إنصافه مِن نفسه إلا المؤمنين الصالحين, فلا يبغي بعضهم على بعض، وهم قليل. وأيقن داود أننا فتنَّاه بهذه الخصومة, فاستغفر ربه, وسجد تقربًا لله، ورجع إليه وتاب.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 )
فغفرنا له ذلك، وجعلناه من المقرَّبين عندنا, وأعددنا له حسن المصير في الآخرة.
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 )
يا داود إنا استخلفناك في الأرض وملَّكناك فيها, فاحكم بين الناس بالعدل والإنصاف، ولا تتبع الهوى في الأحكام، فيُضلك ذلك عن دين الله وشرعه, إن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله لهم عذاب أليم في النار ؛ بغفلتهم عن يوم الجزاء والحساب. وفي هذا توصية لولاة الأمر أن يحكموا بالحق المنزل من الله، تبارك وتعالى, ولا يعدلوا عنه، فيضلوا عن سبيله.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 )
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما عبثًا ولهوًا، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويل لهم من النار يوم القيامة؛ لظنهم الباطل, وكفرهم بالله.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 )
أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض, أم نجعل أهل التقوى المؤمنين كأصحاب الفجور الكافرين؟ هذه التسوية غير لائقة بحكمة الله وحُكْمه, فلا يستوون عند الله، بل يثيب الله المؤمنين الأتقياء، ويعاقب المفسدين الأشقياء.
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 )
هذا الموحى به إليك - أيها الرسول- كتاب أنزلناه إليك مبارك؛ ليتفكروا في آياته, ويعملوا بهداياته ودلالاته, وليتذكر أصحاب العقول السليمة ما كلفهم الله به.
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 )
ووهبنا لداود ابنه سليمان, فأنعمنا به عليه, وأقررنا به عينه, نِعْم العبد سليمان, إنه كان كثير الرجوع إلى الله والإنابة إليه.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 )
اذكر حين عُرِضت عليه عصرًا الخيول الأصيلة السريعة، تقف على ثلاث قوائم وترفع الرابعة؛ لنجابتها وخفتها, فما زالت تُعرض عليه حتى غابت الشمس.
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )
فقال: إنني آثرت حب المال عن ذكر ربي حتى غابت الشمس عن عينيه, رُدُّوا عليَّ الخيل التي عُرضت من قبل، فشرع يمسح سوقها وأعناقها.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 )
ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه شق وَلَد, وُلِد له حين أقسم ليطوفنَّ على نسائه, وكلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعًا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد, ثم رجع سليمان إلى ربه وتاب، قال: رب اغفر لي ذنبي, وأعطني ملكًا عظيمًا خاصًا لا يكون مثله لأحد من البشر بعدي، إنك- سبحانك- كثير الجود والعطاء. فاستجبنا له, وذللنا الريح تجري بأمره طيِّعة مع قوتها وشدتها حيث أراد.
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 )
وسخَّرنا له الشياطين يستعملهم في أعماله: فمنهم البناؤون والغوَّاصون في البحار، وآخرون, وهم مردة الشياطين, موثوقون في الأغلال. هذا المُلْك العظيم والتسخير الخاص عطاؤنا لك يا سليمان, فأعط مَن شئت وامنع مَن شئت, لا حساب عليك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )
وإن لسليمان عندنا في الدار الآخرة لَقربةً وحسن مرجع.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 )
واذكر - أيها الرسول- عبدنا أيوب، حين دعا ربه أن الشيطان تسبب لي بتعب ومشقة، وألم في جسدي ومالي وأهلي.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )
فقلنا له: اضرب برجلك الأرض ينبع لك منها ماء بارد، فاشرب منه, واغتسِلْ فيذهب عنك الضر والأذى.
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 )
فكشفنا عنه ضره وأكرمناه ووهبنا له أهله من زوجة وولد, وزدناه مثلهم بنين وحفدة, كل ذلك رحمة منَّا به وإكرامًا له على صبره، وعبرة وذكرى لأصحاب العقول السليمة؛ ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج وكشف الضر.
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )
وقلنا له: خذ بيدك حُزمة شماريخ، فاضرب بها زوجك إبرارًا بيمينك، فلا تحنث؛ إذ أقسم ليضربنَّها مائة جلدة إذا شفاه الله، لـمَّا غضب عليها من أمر يسير أثناء مرضه، وكانت امرأة صالحة، فرحمها الله ورحمه بهذه الفتوى. إنا وجدنا أيوب صابرًا على البلاء، نِعم العبد هو، إنه رجَّاع إلى طاعة الله.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 )
واذكر - أيها الرسول- عبادنا وأنبياءنا: إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فإنهم أصحاب قوة في طاعة الله, وبصيرة في دينه.
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 )
إنا خصصناهم بخاصة عظيمة, حيث جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، فعملوا لها بطاعتنا, ودعوا الناس إليها, وذكَّروهم بها. وإنهم عندنا لمن الذين اخترناهم لطاعتنا, واصطفيناهم لرسالتنا.
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 )
واذكر - أيها الرسول- عبادنا: إسماعيل, واليسع، وذا الكفل، بأحسن الذكر; إن كلا منهم من الأخيار الذين اختارهم الله من الخلق, واختار لهم أكمل الأحوال والصفات.
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 )
هذا القرآن ذِكْر وشرف لك - أيها الرسول- ولقومك. وإن لأهل تقوى الله وطاعته لَحسنَ مصير عندنا في جنات إقامة، مفتَّحة لهم أبوابها, متكئين فيها على الأرائك المزيَّنات, يطلبون ما يشتهون من أنواع الفواكه الكثيرة والشراب، من كل ما تشتهيه نفوسهم, وتلذه أعينهم.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 )
وعندهم نساء قاصرات أبصارهن على أزواجهن متساويات في السن.
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )
هذا النعيم هو ما توعدون به- أيها المتقون- يوم القيامة, إنه لَرزقنا لكم، ليس له فناء ولا انقطاع.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 )
هذا الذي سبق وصفه للمتقين. وأما المتجاوزون الحدَّ في الكفر والمعاصي، فلهم شر مرجع ومصير, وهو النار يُعذَّبون فيها, تغمرهم من جميع جوانبهم, فبئس الفراش فراشهم.
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 )
هذا العذاب ماء شديد الحرارة, وصديد سائل من أجساد أهل النار فليشربوه, ولهم عذاب آخر من هذا القبيل أصناف وألوان.
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 )
وعند توارد الطاغين على النار يَشْتم بعضهم بعضًا, ويقول بعضهم لبعض: هذه جماعة من أهل النار داخلة معكم, فيجيبون: لا مرحبًا بهم، ولا اتسعت منازلهم في النار, إنهم مقاسون حرَّ النار كما قاسيناها.
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )
قال فوج الأتباع للطاغين: بل أنتم لا مرحبًا بكم؛ لأنكم قدَّمتم لنا سكنى النار لإضلالكم لنا في الدنيا, فبئس دار الاستقرار جهنم.
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )
قال فوج الأتباع: ربنا مَن أضلَّنا في الدنيا عن الهدى فضاعِف عذابه في النار.
وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 )
وقال الطاغون: ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار الأشقياء؟ هل تحقيرنا لهم واستهزاؤنا بهم خطأ, أو أنهم معنا في النار, لكن لم تقع عليهم الأبصار؟
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )
إن ذلك من جدال أهل النار وخصامهم حق واقع لا مرية فيه.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 )
قل - أيها الرسول- لقومك: إنما أنا منذر لكم من عذاب الله أن يحل بكم; بسبب كفركم به, ليس هناك إله مستحق للعبادة إلا الله وحده, فهو المتفردُ بعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله, القهَّارُ الذي قهر كل شيء وغلبه.
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 )
مالك السموات والأرض وما بينهما العزيز في انتقامه, الغفار لذنوب مَن تاب وأناب إلى مرضاته.
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 )
قل - أيها الرسول- لقومك: إن هذا القرآن خبر عظيم النفع. أنتم عنه غافلون منصرفون, لا تعملون به.
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 )
ليس لي علم باختصام ملائكة السماء في شأن خلق آدم, لولا تعليم الله إياي، وإيحاؤه إليَّ.
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )
ما يوحي الله إليَّ مِن عِلْم ما لا علم لي به إلا لأني نذير لكم من عذابه، مبيِّن لكم شرعه.
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 )
اذكر لهم - أيها الرسول- : حين قال ربك للملائكة: إني خالق بشرًا من طين. فإذا سوَّيت جسده وخلقه ونفخت فيه الروح، فدبت فيه الحياة, فاسجدوا له سجود تحية وإكرام, لا سجود عبادة وتعظيم؛ فالعبادة لا تكون إلا لله وحده. وقد حرَّم الله في شريعة الإسلام السجود للتحية.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 )
فسجد الملائكة كلهم أجمعون طاعة وامتثالا غير إبليس; فإنه لم يسجد أنَفَةً وتكبرًا، وكان من الكافرين في علم الله تعالى.
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 )
قال الله لإبليس: ما الذي منعك من السجود لمن أكرمتُه فخلقتُه بيديَّ؟ أستكبرت على آدم، أم كنت من المتكبرين على ربك؟ وفي الآية إثبات صفة اليدين لله تبارك وتعالى, على الوجه اللائق به سبحانه.
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 )
قال إبليس معارضًا لربه: لم أسجد له؛ لأنني أفضل منه, حيث خلقتني من نارٍ، وخلقته من طين. ( والنار خير من الطين ) .
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 )
قال الله له: فاخرج من الجنة فإنك مرجوم بالقول، مدحور ملعون, وإن عليك طردي وإبعادي إلى يوم القيامة.
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 )
قال إبليس: ربِّ فأخِّر أجلي، ولا تهلكني إلى حين تَبعث الخلق من قبورهم.
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 )
قال الله له: فإنك من المؤخَّرين إلى يوم الوقت المعلوم, وهو يوم النفخة الأولى عندما تموت الخلائق.
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )
قال إبليس: فبعزتك- يا رب- وعظمتك لأضلنَّ بني آدم أجمعين, إلا مَن أخلصتَه منهم لعبادتك، وعصمتَه من إضلالي, فلم تجعل لي عليهم سبيلا.
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 )
قال الله: فالحقُّ مني، ولا أقول إلا الحق, لأملان جهنم منك ومن ذريتك وممن تبعك من بني آدم أجمعين.
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين من قومك: لا أطلب منكم أجرًا أو جزاءً على دعوتكم وهدايتكم, ولا أدَّعي أمرًا ليس لي, بل أتبع ما يوحى إليَّ، ولا أتكلف تخرُّصًا وافتراءً.
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 )
ما هذا القرآن إلا تذكير للعالمين من الجن والإنس، يتذكرون به ما ينفعهم من مصالح دينهم ودنياهم.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )
ولتعلمن- أيها المشركون- خبر هذا القرآن وصدقه، حين يَغْلب الإسلام، ويدخل الناس فيه أفواجًا, وكذلك حين يقع عليكم العذاب, وتنقطع عنكم الأسباب.
=====
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 )
( ص ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
يقسم الله سبحانه بالقرآن المشتمل على تذكير الناس بما هم عنه غافلون. ولكن الكافرين متكبرون على الحق مخالفون له.
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 )
كثيرًا من الأمم أهلكناها قبل هؤلاء المشركين، فاستغاثوا حين جاءهم العذاب ونادوا بالتوبة, وليس الوقت وقت قَبول توبة, ولا وقت فرار وخلاص مما أصابهم.
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 )
وعجِب هؤلاء الكفار مِن بعث الله إليهم بشرا منهم؛ ليدعوهم إلى الله ويخوَّفهم عذابه, وقالوا: إنه ليس رسولا بل هو كاذب في قوله, ساحر لقومه، كيف يصيِّر الآلهة الكثيرة إلهًا واحدًا؟ إنَّ هذا الذي جاء به ودعا إليه لَشيء عجيب.
وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ( 7 )
وانطلق رؤساء القوم وكبراؤهم يحرِّضون قومهم على الاستمرار على الشرك والصبر على تعدد الآلهة, ويقولون إن ما جاء به هذا الرسول شيء مدبَّر يقصد منه الرئاسة والسيادة, ما سمعنا بما يدعو إليه في دين آبائنا من قريش، ولا في النصرانية، ما هذا إلا كذب وافتراء.
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 )
أخُص محمد بنزول القرآن عليه من دوننا؟ بل هم في ريب من وحيي إليك - أيها الرسول- وإرسالي لك، بل قالوا ذلك؛ لأنهم لم يذوقوا عذاب الله، فلو ذاقوا عذابه لما تجرؤوا على ما قالوا.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 )
أم هم يملكون خزائن فضل ربك العزيز في سلطانه, الوهاب ما يشاء من رزقه وفضله لمن يشاء من خلقه؟
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ ( 10 )
أم لهؤلاء المشركين مُلْك السموات والأرض وما بينهما، فيُعْطوا ويَمْنعوا؟ فليأخذوا بالأسباب الموصلة لهم إلى السماء, حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع.
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ ( 13 ) إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 )
هؤلاء الجند المكذِّبون جند مهزومون، كما هُزم غيرهم من الأحزاب قبلهم، كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون صاحب القوة العظيمة, وثمود وقوم لوط وأصحاب الأشجار والبساتين وهم قوم شعيب. أولئك الأمم الذين تحزَّبوا على الكفر والتكذيب واجتمعوا عليه. إنْ كلٌّ مِن هؤلاء إلا كذَّب الرسل, فاستحقوا عذاب الله, وحلَّ بهم عقابه.
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ( 15 )
وما ينتظر هؤلاء المشركون لحلول العذاب عليهم إن بقوا على شركهم, إلا نفخة واحدة ما لها من رجوع.
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )
وقالوا: ربنا عجِّل لنا نصيبنا من العذاب في الدينا قبل يوم القيامة, وكان هذا استهزاءً منهم.
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 )
اصبر - أيها الرسول- على ما يقولونه مما تكره، واذكر عبدنا داود صاحب القوة على أعداء الله والصبر على طاعته, إنه توَّاب كثير الرجوع إلى ما يرضي الله. ( وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ) .
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19 )
إنا سخَّرنا الجبال مع داود يسبِّحن بتسبيحه أول النهار وآخره، وسخرنا الطير معه مجموعة تسبِّح، وتطيع تبعًا له.
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 )
وقوَّينا له ملكه بالهيبة والقوة والنصر, وآتيناه النبوة, والفصل في الكلام والحكم.
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 )
وهل جاءك - أيها الرسول- خبر المتخاصِمَين اللذَين تسوَّرا على داود في مكان عبادته, فارتاع من دخولهما عليه؟ قالوا له: لا تَخَفْ، فنحن خصمان ظلم أحدنا الآخر، فاقض بيننا بالعدل، ولا تَجُرْ علينا في الحكم, وأرشِدنا إلى سواء السبيل.
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 )
قال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون من النعاج, وليس عندي إلا نعجة واحدة, فطمع فيها، وقال: أعطنيها, وغلبني بحجته.
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( 24 )
قال داود: لقد ظلمك أخوك بسؤاله ضم نعجتك إلى نعاجه, وإن كثيرًا من الشركاء ليعتدي بعضهم على بعض، ويظلمه بأخذ حقه وعدم إنصافه مِن نفسه إلا المؤمنين الصالحين, فلا يبغي بعضهم على بعض، وهم قليل. وأيقن داود أننا فتنَّاه بهذه الخصومة, فاستغفر ربه, وسجد تقربًا لله، ورجع إليه وتاب.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 )
فغفرنا له ذلك، وجعلناه من المقرَّبين عندنا, وأعددنا له حسن المصير في الآخرة.
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 )
يا داود إنا استخلفناك في الأرض وملَّكناك فيها, فاحكم بين الناس بالعدل والإنصاف، ولا تتبع الهوى في الأحكام، فيُضلك ذلك عن دين الله وشرعه, إن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله لهم عذاب أليم في النار ؛ بغفلتهم عن يوم الجزاء والحساب. وفي هذا توصية لولاة الأمر أن يحكموا بالحق المنزل من الله، تبارك وتعالى, ولا يعدلوا عنه، فيضلوا عن سبيله.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 )
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما عبثًا ولهوًا، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويل لهم من النار يوم القيامة؛ لظنهم الباطل, وكفرهم بالله.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 )
أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض, أم نجعل أهل التقوى المؤمنين كأصحاب الفجور الكافرين؟ هذه التسوية غير لائقة بحكمة الله وحُكْمه, فلا يستوون عند الله، بل يثيب الله المؤمنين الأتقياء، ويعاقب المفسدين الأشقياء.
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 29 )
هذا الموحى به إليك - أيها الرسول- كتاب أنزلناه إليك مبارك؛ ليتفكروا في آياته, ويعملوا بهداياته ودلالاته, وليتذكر أصحاب العقول السليمة ما كلفهم الله به.
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 )
ووهبنا لداود ابنه سليمان, فأنعمنا به عليه, وأقررنا به عينه, نِعْم العبد سليمان, إنه كان كثير الرجوع إلى الله والإنابة إليه.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 )
اذكر حين عُرِضت عليه عصرًا الخيول الأصيلة السريعة، تقف على ثلاث قوائم وترفع الرابعة؛ لنجابتها وخفتها, فما زالت تُعرض عليه حتى غابت الشمس.
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ( 33 )
فقال: إنني آثرت حب المال عن ذكر ربي حتى غابت الشمس عن عينيه, رُدُّوا عليَّ الخيل التي عُرضت من قبل، فشرع يمسح سوقها وأعناقها.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ( 35 ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 )
ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه شق وَلَد, وُلِد له حين أقسم ليطوفنَّ على نسائه, وكلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعًا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد, ثم رجع سليمان إلى ربه وتاب، قال: رب اغفر لي ذنبي, وأعطني ملكًا عظيمًا خاصًا لا يكون مثله لأحد من البشر بعدي، إنك- سبحانك- كثير الجود والعطاء. فاستجبنا له, وذللنا الريح تجري بأمره طيِّعة مع قوتها وشدتها حيث أراد.
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 )
وسخَّرنا له الشياطين يستعملهم في أعماله: فمنهم البناؤون والغوَّاصون في البحار، وآخرون, وهم مردة الشياطين, موثوقون في الأغلال. هذا المُلْك العظيم والتسخير الخاص عطاؤنا لك يا سليمان, فأعط مَن شئت وامنع مَن شئت, لا حساب عليك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )
وإن لسليمان عندنا في الدار الآخرة لَقربةً وحسن مرجع.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 )
واذكر - أيها الرسول- عبدنا أيوب، حين دعا ربه أن الشيطان تسبب لي بتعب ومشقة، وألم في جسدي ومالي وأهلي.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 )
فقلنا له: اضرب برجلك الأرض ينبع لك منها ماء بارد، فاشرب منه, واغتسِلْ فيذهب عنك الضر والأذى.
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 43 )
فكشفنا عنه ضره وأكرمناه ووهبنا له أهله من زوجة وولد, وزدناه مثلهم بنين وحفدة, كل ذلك رحمة منَّا به وإكرامًا له على صبره، وعبرة وذكرى لأصحاب العقول السليمة؛ ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج وكشف الضر.
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 )
وقلنا له: خذ بيدك حُزمة شماريخ، فاضرب بها زوجك إبرارًا بيمينك، فلا تحنث؛ إذ أقسم ليضربنَّها مائة جلدة إذا شفاه الله، لـمَّا غضب عليها من أمر يسير أثناء مرضه، وكانت امرأة صالحة، فرحمها الله ورحمه بهذه الفتوى. إنا وجدنا أيوب صابرًا على البلاء، نِعم العبد هو، إنه رجَّاع إلى طاعة الله.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ( 45 )
واذكر - أيها الرسول- عبادنا وأنبياءنا: إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فإنهم أصحاب قوة في طاعة الله, وبصيرة في دينه.
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ( 47 )
إنا خصصناهم بخاصة عظيمة, حيث جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، فعملوا لها بطاعتنا, ودعوا الناس إليها, وذكَّروهم بها. وإنهم عندنا لمن الذين اخترناهم لطاعتنا, واصطفيناهم لرسالتنا.
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ ( 48 )
واذكر - أيها الرسول- عبادنا: إسماعيل, واليسع، وذا الكفل، بأحسن الذكر; إن كلا منهم من الأخيار الذين اختارهم الله من الخلق, واختار لهم أكمل الأحوال والصفات.
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 )
هذا القرآن ذِكْر وشرف لك - أيها الرسول- ولقومك. وإن لأهل تقوى الله وطاعته لَحسنَ مصير عندنا في جنات إقامة، مفتَّحة لهم أبوابها, متكئين فيها على الأرائك المزيَّنات, يطلبون ما يشتهون من أنواع الفواكه الكثيرة والشراب، من كل ما تشتهيه نفوسهم, وتلذه أعينهم.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 )
وعندهم نساء قاصرات أبصارهن على أزواجهن متساويات في السن.
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ( 54 )
هذا النعيم هو ما توعدون به- أيها المتقون- يوم القيامة, إنه لَرزقنا لكم، ليس له فناء ولا انقطاع.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 )
هذا الذي سبق وصفه للمتقين. وأما المتجاوزون الحدَّ في الكفر والمعاصي، فلهم شر مرجع ومصير, وهو النار يُعذَّبون فيها, تغمرهم من جميع جوانبهم, فبئس الفراش فراشهم.
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 )
هذا العذاب ماء شديد الحرارة, وصديد سائل من أجساد أهل النار فليشربوه, ولهم عذاب آخر من هذا القبيل أصناف وألوان.
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ( 59 )
وعند توارد الطاغين على النار يَشْتم بعضهم بعضًا, ويقول بعضهم لبعض: هذه جماعة من أهل النار داخلة معكم, فيجيبون: لا مرحبًا بهم، ولا اتسعت منازلهم في النار, إنهم مقاسون حرَّ النار كما قاسيناها.
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 )
قال فوج الأتباع للطاغين: بل أنتم لا مرحبًا بكم؛ لأنكم قدَّمتم لنا سكنى النار لإضلالكم لنا في الدنيا, فبئس دار الاستقرار جهنم.
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 )
قال فوج الأتباع: ربنا مَن أضلَّنا في الدنيا عن الهدى فضاعِف عذابه في النار.
وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ( 62 ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ( 63 )
وقال الطاغون: ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار الأشقياء؟ هل تحقيرنا لهم واستهزاؤنا بهم خطأ, أو أنهم معنا في النار, لكن لم تقع عليهم الأبصار؟
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )
إن ذلك من جدال أهل النار وخصامهم حق واقع لا مرية فيه.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 )
قل - أيها الرسول- لقومك: إنما أنا منذر لكم من عذاب الله أن يحل بكم; بسبب كفركم به, ليس هناك إله مستحق للعبادة إلا الله وحده, فهو المتفردُ بعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله, القهَّارُ الذي قهر كل شيء وغلبه.
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 )
مالك السموات والأرض وما بينهما العزيز في انتقامه, الغفار لذنوب مَن تاب وأناب إلى مرضاته.
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 )
قل - أيها الرسول- لقومك: إن هذا القرآن خبر عظيم النفع. أنتم عنه غافلون منصرفون, لا تعملون به.
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 )
ليس لي علم باختصام ملائكة السماء في شأن خلق آدم, لولا تعليم الله إياي، وإيحاؤه إليَّ.
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 70 )
ما يوحي الله إليَّ مِن عِلْم ما لا علم لي به إلا لأني نذير لكم من عذابه، مبيِّن لكم شرعه.
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 )
اذكر لهم - أيها الرسول- : حين قال ربك للملائكة: إني خالق بشرًا من طين. فإذا سوَّيت جسده وخلقه ونفخت فيه الروح، فدبت فيه الحياة, فاسجدوا له سجود تحية وإكرام, لا سجود عبادة وتعظيم؛ فالعبادة لا تكون إلا لله وحده. وقد حرَّم الله في شريعة الإسلام السجود للتحية.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 )
فسجد الملائكة كلهم أجمعون طاعة وامتثالا غير إبليس; فإنه لم يسجد أنَفَةً وتكبرًا، وكان من الكافرين في علم الله تعالى.
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 )
قال الله لإبليس: ما الذي منعك من السجود لمن أكرمتُه فخلقتُه بيديَّ؟ أستكبرت على آدم، أم كنت من المتكبرين على ربك؟ وفي الآية إثبات صفة اليدين لله تبارك وتعالى, على الوجه اللائق به سبحانه.
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 76 )
قال إبليس معارضًا لربه: لم أسجد له؛ لأنني أفضل منه, حيث خلقتني من نارٍ، وخلقته من طين. ( والنار خير من الطين ) .
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ( 78 )
قال الله له: فاخرج من الجنة فإنك مرجوم بالقول، مدحور ملعون, وإن عليك طردي وإبعادي إلى يوم القيامة.
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 )
قال إبليس: ربِّ فأخِّر أجلي، ولا تهلكني إلى حين تَبعث الخلق من قبورهم.
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 80 ) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 )
قال الله له: فإنك من المؤخَّرين إلى يوم الوقت المعلوم, وهو يوم النفخة الأولى عندما تموت الخلائق.
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 )
قال إبليس: فبعزتك- يا رب- وعظمتك لأضلنَّ بني آدم أجمعين, إلا مَن أخلصتَه منهم لعبادتك، وعصمتَه من إضلالي, فلم تجعل لي عليهم سبيلا.
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 )
قال الله: فالحقُّ مني، ولا أقول إلا الحق, لأملان جهنم منك ومن ذريتك وممن تبعك من بني آدم أجمعين.
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين من قومك: لا أطلب منكم أجرًا أو جزاءً على دعوتكم وهدايتكم, ولا أدَّعي أمرًا ليس لي, بل أتبع ما يوحى إليَّ، ولا أتكلف تخرُّصًا وافتراءً.
إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 87 )
ما هذا القرآن إلا تذكير للعالمين من الجن والإنس، يتذكرون به ما ينفعهم من مصالح دينهم ودنياهم.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )
ولتعلمن- أيها المشركون- خبر هذا القرآن وصدقه، حين يَغْلب الإسلام، ويدخل الناس فيه أفواجًا, وكذلك حين يقع عليكم العذاب, وتنقطع عنكم الأسباب.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الزمر.. بن كثير
====
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 )
تنزيل القرآن إنما هو من الله العزيز في قدرته وانتقامه, الحكيم في تدبيره وأحكامه.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 2 )
إنا أنزلنا إليك - أيها الرسول- القرآن يأمر بالحق والعدل, فاعبد الله وحده, وأخلص له جميع دينك.
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 )
ألا لله وحده الطاعة التامة السالمة من الشرك, والذين أشركوا مع الله غيره واتخذوا من دونه أولياء, قالوا: ما نعبد تلك الآلهة مع الله إلا لتشفع لنا عند الله, وتقربنا عنده منزلة, فكفروا بذلك؛ لأن العبادة والشفاعة لله وحده, إن الله يفصل بين المؤمنين المخلصين والمشركين مع الله غيره يوم القيامة فيما يختلفون فيه من عبادتهم, فيجازي كلا بما يستحق. إن الله لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم من هو مفترٍ على الله, كَفَّار بآياته وحججه.
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 )
لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاختار من مخلوقاته ما يشاء, تنزَّه الله وتقدَّس عن أن يكون له ولد, فإنه الواحد الأحد, الفرد الصمد, القهَّار الذي قهر خلقه بقدرته, فكل شيء له متذلل خاضع.
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 )
خلق الله السموات والأرض وما فيهما بالحق, يجيء بالليل ويذهب بالنهار, ويجيء بالنهار ويذهب بالليل, وذلَّل الشمس والقمر بانتظام لمنافع العباد, كل منهما يجري في مداره إلى حين قيام الساعة. ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال, وأنعم على خلقه بهذه النعم هو العزيز على خلقه, الغفار لذنوب عباده التائبين.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )
خلقكم ربكم- أيها الناس- من آدم, وخلق منه زوجه, وخلق لكم من الأنعام ثمانية أنواع ذكرًا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز، يخلقكم في بطون أمهاتكم طورًا بعد طور من الخلق في ظلمات البطن, والرحم, والمَشِيمَة, ذلكم الله الذي خلق هذه الأشياء, ربكم المتفرد بالملك المتوحد بالألوهية المستحق للعبادة وحده, فكيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره مِن خلقه؟
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 )
إن تكفروا- أيها الناس- بربكم ولم تؤمنوا به, ولم تتبعوا رسله, فإنه غنيٌّ عنكم, ليس بحاجة إليكم, وأنتم الفقراء إليه, ولا يرضى لعباده الكفر, ولا يأمرهم به, وإنما يرضى لهم شكر نعمه عليهم. ولا تحمل نفس إثم نفس أخرى, ثم إلى ربكم مصيركم, فيخبركم بعملكم, ويحاسبكم عليه. إنه عليم بأسرار النفوس وما تخفي الصدور.
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )
وإذا أصاب الإنسانَ بلاءٌ وشدة ومرض تَذكَّر ربه, فاستغاث به ودعاه, ثم إذا أجابه وكشف عنه ضرَّه, ومنحه نِعَمه, نسي دعاءه لربه عند حاجته إليه, وأشرك معه غيره؛ ليُضل غيره عن الإيمان بالله وطاعته, قل له - أيها الرسول- متوعدًا: تمتع بكفرك قليلا حتى موتك وانتهاء أجلك, إنك من أهل النار المخلَّدين فيها.
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )
أهذا الكافر المتمتع بكفره خير, أم من هو عابد لربه طائع له, يقضي ساعات الليل في القيام والسجود لله, يخاف عذاب الآخرة, ويأمُل رحمة ربه؟ قل - أيها الرسول- : هل يستوي الذين يعلمون ربهم ودينهم الحق والذين لا يعلمون شيئًا من ذلك؟ لا يستوون. إنما يتذكر ويعرف الفرق أصحاب العقول السليمة.
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )
قل - أيها النبي- لعبادي المؤمنين بالله ورسوله: اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معصيته. للذين أحسنوا في هذه الدينا بعبادة ربهم وطاعته حسنة في الآخرة, وهي الجنة, وحسنة في الدنيا من صحة ورزق ونصر وغير ذلك. وأرض الله واسعة, فهاجِروا فيها إلى حيث تعبدون ربكم, وتتمكنون من إقامة دينكم. إنما يُعطَى الصابرون ثوابهم في الآخرة بغير حدّ ولا عدّ ولا مقدار، وهذا تعظيم لجزاء الصابرين وثوابهم.
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 11 ) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 )
قل - أيها الرسول- للناس: إن الله أمرني ومن تبعني بإخلاص العبادة له وحده دون سواه, وأمرني بأن أكون أول من أسلم من أمتي, فخضع له بالتوحيد, وأخلص له العبادة, وبرئ مِن كل ما دونه من الآلهة.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 )
قل - أيها الرسول- للناس: إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته والإخلاص في طاعته عذاب يوم القيامة, ذلك اليوم الذي يعظم هوله.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 )
قل - أيها الرسول- : إني أعبد الله وحده لا شريك له مخلصًا له عبادتي وطاعتي, فاعبدوا أنتم- أيها المشركون- ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام وغير ذلك من مخلوقاته, فلا يضرني ذلك شيئًا. وهذا تهديد ووعيد لمن عبد غير الله, وأشرك معه غيره. قل - أيها الرسول- : إن الخاسرين- حقًا- هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة, وذلك بإغوائهم في الدنيا وإضلالهم عن الإيمان. ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة هو الخسران البيِّن الواضح.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 )
أولئك الخاسرون لهم يوم القيامة في جهنم مِن فوقهم قطع عذاب من النار كهيئة الظُّلل المبنية, ومن تحتهم كذلك. ذلك العذاب الموصوف يخوِّف الله به عباده; ليحْذَروه. يا عباد فاتقوني بامتثال أوامري واجتناب معاصيَّ.
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ( 18 )
والذين اجتنبوا طاعة الشيطان وعبادة غير الله, وتابوا إلى الله بعبادته وإخلاص الدين له, لهم البشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن والتوفيق من الله, وفي الآخرة رضوان الله والنعيم الدائم في الجنة. فبشِّر - أيها النبي- عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده. وأحسن الكلام وأرشده كلام الله ثم كلام رسوله. أولئك هم الذين وفقهم الله للرشاد والسداد, وهداهم لأحسن الأخلاق والأعمال, وأولئك هم أصحاب العقول السليمة.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ( 19 )
أفمن وجبت عليه كلمة العذاب؛ باستمراره على غيِّه وعناده, فإنه لا حيلة لك - أيها الرسول- في هدايته, أفتقدر أن تنقذ مَن في النار؟ لست بقادر على ذلك.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ( 20 )
لكن الذين اتقوا ربهم- بطاعته وإخلاص عبادته- لهم في الجنة غرف مبنية بعضها فوق بعض, تجري مِن تحت أشجارها الأنهار, وعدها الله عباده المتقين وعدًا متحققًا, لا يخلف الله الميعاد.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 21 )
ألم تر - أيها الرسول- أن الله أنزل من السحاب مطرًا فأدخله في الأرض, وجعله عيونًا نابعة ومياهًا جارية, ثم يُخْرج بهذا الماء زرعًا مختلفًا ألوانه وأنواعه, ثم ييبس بعد خضرته ونضارته, فتراه مصفرًا لونه, ثم يجعله حطامًا متكسِّرًا متفتتًا؟ إن في فِعْل الله ذلك لَذكرى وموعظة لأصحاب العقول السليمة.
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 22 )
أفمن وسَّع الله صدره, فسعد بقبول الإسلام والانقياد له والإيمان به, فهو على بصيرة من أمره وهدى من ربه, كمن ليس كذلك؟ لا يستوون. فويل وهلاك للذين قَسَتْ قلوبهم, وأعرضت عن ذكر الله, أولئك في ضلال بيِّن عن الحق.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 )
الله تعالى هو الذي نزل أحسن الحديث, وهو القرآن العظيم, متشابهًا في حسنه وإحكامه وعدم اختلافه, تثنى فيه القصص والأحكام, والحجج والبينات, تقشعر من سماعه, وتضطرب جلود الذين يخافون ربهم؛ تأئرًا بما فيه مِن ترهيب ووعيد, ثم تلين جلودهم وقلوبهم; استبشارًا بما فيه من وعد وترغيب, ذلك التأثر بالقرآن هداية من الله لعباده. والله يهدي بالقرآن من يشاء مِن عباده. ومن يضلله الله عن الإيمان بهذا القرآن؛ لكفره وعناده, فما له مِن هاد يهديه ويوفقه.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 )
أفمن يُلْقى في النار مغلولا- فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه؛ لكفره وضلاله- خير أم من ينعم في الجنة؛ لأن الله هداه؟ وقيل يومئذ للظالمين: ذوقوا وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 )
كذَّب الذين مِن قبل قومك - أيها الرسول- رسلهم, فجاءهم العذاب من حيث لا يشعرون بمجيئه, فأذاق الله الأمم المكذبة العذاب والهوان في الدنيا, وأعد لهم عذابًا أشد وأشق في الآخرة، لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن ما حلَّ بهم؛ بسبب كفرهم وتكذيبهم لاتَّعظوا.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 27 ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )
ولقد ضربنا لهؤلاء المشركين بالله في هذا القرآن من كل مثل من أمثال القرون الخالية تخويفًا وتحذيرًا; ليتذكروا فينزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله. وجعلنا هذا القرآن عربيًا واضح الألفاظ سهل المعاني, لا لَبْس فيه ولا انحراف; لعلهم يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 29 )
ضرب الله مثلا عبدًا مملوكًا لشركاء متنازعين, فهو حيران في إرضائهم, وعبدًا خالصًا لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه, هل يستويان مثلا؟ لا يستويان, كذلك المشرك هو في حَيْرة وشك, والمؤمن في راحة واطمئنان. فالثناء الكامل التام لله وحده, بل المشركون لا يعلمون الحق فيتبعونه.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )
إنك - أيها الرسول- ميت وإنهم ميتون, ثم إنكم جميعًا- أيها الناس- يوم القيامة عند ربكم تتنازعون, فيحكم بينكم بالعدل والإنصاف.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 32 )
لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب: بأن نسب إليه ما لا يليق به كالشريك والولد, أو قال: أوحي إليَّ, ولم يوحَ إليه شيء, ولا أحد أظلم ممن كذَّب بالحق الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله, ولم يصدق محمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بما جاء به؟ بَلَى.
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 33 )
والذي جاء بالصدق في قوله وعمله من الأنبياء وأتباعهم, وصدَّق به إيمانًا وعملا أولئك هم الذين جمعوا خصال التقوى, وفي مقدمة هؤلاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به, العاملون بشريعته من الصحابة, رضي الله عنهم, فمَن بعدهم إلى يوم الدين.
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 34 )
لهم ما يشاؤون عند ربهم من أصناف اللذات المشتهيات؛ ذلك جزاء مَن أطاع ربه حق الطاعة, وعبده حق العبادة.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 35 )
ليكفِّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال؛ بسبب ما كان منهم مِن توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها, ويثيبهم الله على طاعتهم في الدنيا بأحسن ما كانوا يعملون, وهو الجنة.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 36 )
أليس الله بكاف عبده محمدًا وعيد المشركين وكيدهم من أن ينالوه بسوء؟ بلى إنه سيكفيه في أمر دينه ودنياه, ويدفع عنه مَن أراده بسوء, ويخوِّفونك - أيها الرسول- بآلهتهم التي زعموا أنها ستؤذيك. ومن يخذله الله فيضله عن طريق الحق, فما له مِن هاد يهديه إليه.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ( 37 )
ومن يوفقه الله للإيمان به والعمل بكتابه واتباع رسوله فما له مِن مضل عن الحق الذي هو عليه. أليس الله بعزيز في انتقامه مِن كفرة خلقه, وممن عصاه؟
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 38 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: مَن خلق هذه السموات والأرض؟ ليقولُنَّ: خلقهنَّ الله, فهم يُقِرُّون بالخالق. قل لهم: هل تستطيع هذه الآلهة التي تشركونها مع الله أن تُبْعِدَ عني أذى قدَّره الله عليَّ, أو تزيلَ مكروهًا لَحِق بي؟ وهل تستطيع أن تمنع نفعَا يسَّره الله لي, أو تحبس رحمة الله عني؟ إنهم سيقولون : لا تستطيع ذلك. قل لهم: حسبي الله وكافِيَّ, عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم ودفع مضارهم, فالذي بيده وحده الكفاية هو حسبي, وسيكفيني كل ما أهمني.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 39 ) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 40 )
قل - أيها الرسول- لقومك المعاندين: اعملوا على حالتكم التي رضيتموها لأنفسكم, حيث عبدتم مَن لا يستحق العبادة, وليس له من الأمر شيء, إني عامل على ما أُمرت به من التوجه لله وحده في أقوالي وأفعالي, فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يهينه في الحياة الدنيا, ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم؟ لا يحول عنه ولا يزول.
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 41 )
إنا أنزلنا عليك - أيها الرسول- القرآن بالحق هداية للعالمين, إلى طريق الرشاد, فمن اهتدى بنوره, وعمل بما فيه, واستقام على منهجه, فنفعُ ذلك يعود على نفسه, ومَن ضلَّ بعد ما تبين له الهدى, فإنما يعود ضرره على نفسه, ولن يضرَّ الله شيئا, وما أنت - أيها الرسول- عليهم بوكيل تحفظ أعمالهم, وتحاسبهم عليها, وتجبرهم على ما تشاء, ما عليك إلا البلاغ.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 42 )
الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يقبض الأنفس حين موتها, وهذه الوفاة الكبرى, وفاة الموت بانقضاء الأجل, ويقبض التي لم تمت في منامها, وهي الموتة الصغرى, فيحبس من هاتين النفسين النفس التي قضى عليها الموت, وهي نفس مَن مات, ويرسل النفس الأخرى إلى استكمال أجلها ورزقها, وذلك بإعادتها إلى جسم صاحبها, إن في قبض الله نفس الميت والنائم وإرساله نفس النائم, وحبسه نفس الميت لَدلائل واضحة على قدرة الله لمن تفكر وتدبر.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ( 43 )
أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء, تشفع لهم عند الله في حاجاتهم؟ قل - أيها الرسول- لهم: أتتخذونها شفعاء كما تزعمون, ولو كانت الآلهة لا تملك شيئا, ولا تعقل عبادتكم لها؟
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 44 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: لله الشفاعة جميعًا, له ملك السموات والأرض وما فيهما, فالأمر كله لله وحده, ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه, فهو الذي يملك السموات والأرض ويتصرف فيهما, فالواجب أن تُطلب الشفاعة ممن يملكها, وأن تُخلص له العبادة, ولا تُطلب من هذه الآلهة التي لا تضر ولا تنفع, ثم إليه تُرجَعون بعد مماتكم للحساب والجزاء.
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 45 )
وإذا ذُكِر الله وحده نفرت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات, وإذا ذُكِر الذين مِن دونه من الأصنام والأوثان والأولياء إذا هم يفرحون؛ لكون الشرك موافقًا لأهوائهم.
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 46 )
قل: اللهم يا خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق, عالم السر والعلانية, أنت تفصل بين عبادك يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون من القول فيك, وفي عظمتك وسلطانك والإيمان بك وبرسولك, اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم. وكان هذا مِن دعائه صلى الله عليه وسلم، وهو تعليم للعباد بالالتجاء إلى الله تعالى, ودعائه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( 47 )
ولو أن لهؤلاء المشركين بالله ما في الأرض جميعا مِن مال وذخائر, ومثله معه مضاعفًا, لَبذلوه يوم القيامة؛ ليفتدوا به من سوء العذاب, ولو بذلوا وافتدوا به ما قُبِل منهم, ولا أغنى عنهم من عذاب الله شيئًا, وظهر لهم يومئذٍ من أمر الله وعذابه ما لم يكونوا يحتسبون في الدنيا أنه نازل بهم.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 48 )
وظهر لهؤلاء المكذبين يوم الحساب جزاء سيئاتهم التي اقترفوها, حيث نسبوا إلى الله ما لا يليق به, وارتكبوا المعاصي في حياتهم, وأحاط بهم من كل جانب عذاب أليم؛ عقابًا لهم على استهزائهم بالإنذار بالعذاب الذي كان الرسول يَعِدُهم به, ولا يأبهون له.
فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 49 )
فإذا أصاب الإنسان شدة وضُرٌّ, طلب من ربه أن يُفرِّج عنه, فإذا كشفنا عنه ما أصابه وأعطيناه نعمة منا عاد بربه كافرًا, ولفضله منكرًا, وقال: إن الذي أوتيتُه إنما هو على علم من الله أني له أهل ومستحق, بل ذلك فتنة يبتلي الله بها عباده؛ لينظر مَن يشكره ممن يكفره, ولكن أكثرهم- لجهلهم وسوء ظنهم وقولهم- لا يعلمون؛ فلذلك يعدُّون الفتنة منحة.
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 50 )
قد قال مقالتهم هذه مَن قبلهم من الأمم الخالية المكذبة، فما أغنى عنهم حين جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من الأموال والأولاد.
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 51 )
فأصاب الذين قالوا هذه المقالة من الأمم الخالية وبال سيئات ما كسبوا من الأعمال, فعوجلوا بالخزي في الحياة الدنيا, والذين ظلموا أنفسهم من قومك - أيها الرسول- ، وقالوا هذه المقالة, سيصيبهم أيضًا وبال سيئات ما كسبوا, كما أصاب الذين من قبلهم, وما هم بفائتين الله ولا سابقيه.
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 )
أولم يعلم هؤلاء أن رزق الله للإنسان لا يدل على حسن حال صاحبه, فإن الله لبالغ حكمته يوسِّع الرزق لمن يشاء مِن عباده, صالحًا كان أو طالحًا, ويضيِّقه على مَن يشاء منهم؟ إن في ذلك التوسيع والتضييق في الرزق لَدلالات واضحات لقوم يُصدِّقون أمر الله ويعملون به.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 )
قل - أيها الرسول- لعبادي الذين تمادَوا في المعاصي, وأسرفوا على أنفسهم بإتيان ما تدعوهم إليه نفوسهم من الذنوب: لا تَيْئسوا من رحمة الله؛ لكثرة ذنوبكم, إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت, إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده, الرحيم بهم.
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 54 )
وارجعوا إلى ربكم- أيها الناس- بالطاعة والتوبة, واخضعوا له من قبل أن يقع بكم عقابه, ثم لا ينصركم أحد من دون الله.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 55 )
واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم, وهو القرآن العظيم, وكله حسن, فامتثلوا أوامره, واجتنبوا نواهية من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة, وأنتم لا تعلمون به.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( 56 )
وأطيعوا ربكم وتوبوا إليه حتى لا تندم نفس وتقول: يا حسرتى على ما ضيَّعت في الدنيا من العمل بما أمر الله به, وقصَّرت في طاعته وحقه, وإن كنت في الدنيا لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 57 )
أو تقول: لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت من المتقين الشرك والمعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
أو تقول حين ترى عقاب الله قد أحاط بها يوم الحساب: ليت لي رجعة إلى الحياة الدنيا، فأكون فيها من الذين أحسنوا بطاعة ربهم، والعمل بما أمَرَتْهم به الرسل.
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 59 )
ما القول كما تقول, قد جاءتك آياتي الواضحة الدالة على الحق, فكذَّبت بها, واستكبرت عن قَبولها واتباعها, وكنت من الكافرين بالله ورسله.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60 )
ويوم القيامة ترى هؤلاء المكذبين الذين وصفوا ربهم بما لا يليق به, ونسبوا إليه الشريك والولد وجوههم مسودة. أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله, فامتنع من توحيده وطاعته؟ بلى.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 61 )
وينجي الله من جهنم وعذابها الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه بفوزهم وتحقق أمنيتهم, وهي الظَّفَر بالجنة, لا يمسهم من عذاب جهنم شيء, ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 62 )
الله تعالى هو خالق الأشياء كلها, وربها ومليكها والمتصرف فيها, وهو على كل شيء حفيظ يدَبِّر جميع شؤون خلقه.
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 63 )
لله مفاتيح خزائن السموات والأرض, يعطي منها خَلْقَه كيف يشاء. والذين جحدوا بآيات القرآن وما فيها من الدلائل الواضحة, أولئك هم الخاسرون في الدنيا بخِذْلانهم عن الإيمان, وفي الآخرة بخلودهم في النار.
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( 64 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: أفغير الله أيها الجاهلون بالله تأمرونِّي أن أعبد, ولا تصلح العبادة لشيء سواه؟
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 )
ولقد أوحي إليك - أيها الرسول- وإلى من قبلك من الرسل: لئن أشركت بالله غيره ليبطلنَّ عملك, ولتكوننَّ من الهالكين الخاسرين دينك وآخرتك؛ لأنه لا يُقبل مع الشرك عمل صالح.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 66 )
بل الله فاعبد - أيها النبي- مخلصًا له العبادة وحده لا شريك له, وكن من الشاكرين لله نعمه.
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 67 )
وما عظَّم هؤلاء المشركون اللهَ حق تعظيمه; إذ عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر, فسوَّوا المخلوق مع عجزه بالخالق العظيم, الذي من عظيم قدرته أن جميع الأرض في قبضته يوم القيامة, والسموات مطويات بيمينه, تنزه وتعاظم سبحانه وتعالى عما يشرك به هؤلاء المشركون، وفي الآية دليل على إثبات القبضة, واليمين, والطيِّ, لله كما يليق بجلاله وعظمته, من غير تكييف ولا تشبيه.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( 68 )
ونُفِخ في « القرن » فمات كلُّ مَن في السموات والأرض, إلا مَن شاء الله عدم موته, ثم نفخ المَلَك فيه نفخة ثانية مؤذنًا بإحياء جميع الخلائق للحساب أمام ربهم, فإذا هم قيام من قبورهم ينظرون ماذا يفعل الله بهم؟
وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 69 )
وأضاءت الأرض يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء, ونشرت الملائكة صحيفة كل فرد, وجيء بالنبيين والشهود على الأمم؛ ليسأل الله النبيين عن التبليغ وعما أجابتهم به أممهم, كما تأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتشهد بتبليغ الرسل السابقين لأممهم إذا أنكرت هذا التبليغ, فتقوم الحجة على الأمم, وقضى ربُّ العالمين بين العباد بالعدل التام, وهم لا يُظلمون شيئًا بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 70 )
ووفَّى الله كلَّ نفس جزاء عملها من خير وشر, وهو سبحانه وتعالى أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة أو معصية.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 71 )
وسيق الذين كفروا بالله ورسله إلى جهنم جماعات, حتى إذا جاؤوها فتح الخزنة الموكَّلون بها أبوابها السبعة, وزجروهم قائلين: كيف تعصون الله وتجحدون أنه الإله الحق وحده؟ ألم يرسل إليكم رسلا منكم يتلون عليكم آيات ربكم, ويحذِّرونكم أهوال هذا اليوم؟ قالوا مقرين بذنبهم: بلى قد جاءت رسل ربنا بالحق, وحذَّرونا هذا اليوم, ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 72 )
قيل للجاحدين أن الله هو الإله الحق إهانة لهم وإذلالا: ادخلوا أبواب جهنم ماكثين فيها أبدًا, فقَبُح مصير المتعالين على الإيمان بالله والعمل بشرعه.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( 73 )
وسيق الذين اتقوا ربهم بتوحيده والعمل بطاعته إلى الجنة جماعات, حتى إذا جاؤوها وشُفع لهم بدخولها، فتحت أبوابها, فترحِّب بهم الملائكة الموكَّلون بالجنة, ويُحَيُّونهم بالبِشر والسرور; لطهارتهم من آثار المعاصي قائلين لهم: سلام عليكم من كل آفة, طابت أحوالكم, فادخلوا الجنة خالدين فيها.
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 74 )
وقال المؤمنون: الحمد لله الذي صدَقنا وعده الذي وعدَنا إياه على ألسنة رسله, وأورثَنا أرض الجنة نَنْزِل منها في أيِّ مكان شئنا, فنِعم ثواب المحسنين الذين اجتهدوا في طاعة ربهم.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 75 )
وترى- أيها النبي- الملائكة محيطين بعرش الرحمن, ينزهون ربهم عن كل ما لا يليق به, وقضى الله سبحانه وتعالى بين الخلائق بالحق والعدل, فأسكن أهل الإيمان الجنة, وأهل الكفر النار, وقيل: الحمد لله رب العالمين على ما قضى به بين أهل الجنة وأهل النار, حَمْدَ فضل وإحسان, وحَمْدَ عدل وحكمة.
====
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 )
تنزيل القرآن إنما هو من الله العزيز في قدرته وانتقامه, الحكيم في تدبيره وأحكامه.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 2 )
إنا أنزلنا إليك - أيها الرسول- القرآن يأمر بالحق والعدل, فاعبد الله وحده, وأخلص له جميع دينك.
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( 3 )
ألا لله وحده الطاعة التامة السالمة من الشرك, والذين أشركوا مع الله غيره واتخذوا من دونه أولياء, قالوا: ما نعبد تلك الآلهة مع الله إلا لتشفع لنا عند الله, وتقربنا عنده منزلة, فكفروا بذلك؛ لأن العبادة والشفاعة لله وحده, إن الله يفصل بين المؤمنين المخلصين والمشركين مع الله غيره يوم القيامة فيما يختلفون فيه من عبادتهم, فيجازي كلا بما يستحق. إن الله لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم من هو مفترٍ على الله, كَفَّار بآياته وحججه.
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 4 )
لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاختار من مخلوقاته ما يشاء, تنزَّه الله وتقدَّس عن أن يكون له ولد, فإنه الواحد الأحد, الفرد الصمد, القهَّار الذي قهر خلقه بقدرته, فكل شيء له متذلل خاضع.
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 5 )
خلق الله السموات والأرض وما فيهما بالحق, يجيء بالليل ويذهب بالنهار, ويجيء بالنهار ويذهب بالليل, وذلَّل الشمس والقمر بانتظام لمنافع العباد, كل منهما يجري في مداره إلى حين قيام الساعة. ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال, وأنعم على خلقه بهذه النعم هو العزيز على خلقه, الغفار لذنوب عباده التائبين.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 6 )
خلقكم ربكم- أيها الناس- من آدم, وخلق منه زوجه, وخلق لكم من الأنعام ثمانية أنواع ذكرًا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز، يخلقكم في بطون أمهاتكم طورًا بعد طور من الخلق في ظلمات البطن, والرحم, والمَشِيمَة, ذلكم الله الذي خلق هذه الأشياء, ربكم المتفرد بالملك المتوحد بالألوهية المستحق للعبادة وحده, فكيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره مِن خلقه؟
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 )
إن تكفروا- أيها الناس- بربكم ولم تؤمنوا به, ولم تتبعوا رسله, فإنه غنيٌّ عنكم, ليس بحاجة إليكم, وأنتم الفقراء إليه, ولا يرضى لعباده الكفر, ولا يأمرهم به, وإنما يرضى لهم شكر نعمه عليهم. ولا تحمل نفس إثم نفس أخرى, ثم إلى ربكم مصيركم, فيخبركم بعملكم, ويحاسبكم عليه. إنه عليم بأسرار النفوس وما تخفي الصدور.
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( 8 )
وإذا أصاب الإنسانَ بلاءٌ وشدة ومرض تَذكَّر ربه, فاستغاث به ودعاه, ثم إذا أجابه وكشف عنه ضرَّه, ومنحه نِعَمه, نسي دعاءه لربه عند حاجته إليه, وأشرك معه غيره؛ ليُضل غيره عن الإيمان بالله وطاعته, قل له - أيها الرسول- متوعدًا: تمتع بكفرك قليلا حتى موتك وانتهاء أجلك, إنك من أهل النار المخلَّدين فيها.
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 9 )
أهذا الكافر المتمتع بكفره خير, أم من هو عابد لربه طائع له, يقضي ساعات الليل في القيام والسجود لله, يخاف عذاب الآخرة, ويأمُل رحمة ربه؟ قل - أيها الرسول- : هل يستوي الذين يعلمون ربهم ودينهم الحق والذين لا يعلمون شيئًا من ذلك؟ لا يستوون. إنما يتذكر ويعرف الفرق أصحاب العقول السليمة.
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 10 )
قل - أيها النبي- لعبادي المؤمنين بالله ورسوله: اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معصيته. للذين أحسنوا في هذه الدينا بعبادة ربهم وطاعته حسنة في الآخرة, وهي الجنة, وحسنة في الدنيا من صحة ورزق ونصر وغير ذلك. وأرض الله واسعة, فهاجِروا فيها إلى حيث تعبدون ربكم, وتتمكنون من إقامة دينكم. إنما يُعطَى الصابرون ثوابهم في الآخرة بغير حدّ ولا عدّ ولا مقدار، وهذا تعظيم لجزاء الصابرين وثوابهم.
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( 11 ) وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ( 12 )
قل - أيها الرسول- للناس: إن الله أمرني ومن تبعني بإخلاص العبادة له وحده دون سواه, وأمرني بأن أكون أول من أسلم من أمتي, فخضع له بالتوحيد, وأخلص له العبادة, وبرئ مِن كل ما دونه من الآلهة.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 13 )
قل - أيها الرسول- للناس: إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته والإخلاص في طاعته عذاب يوم القيامة, ذلك اليوم الذي يعظم هوله.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ( 14 ) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 15 )
قل - أيها الرسول- : إني أعبد الله وحده لا شريك له مخلصًا له عبادتي وطاعتي, فاعبدوا أنتم- أيها المشركون- ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام وغير ذلك من مخلوقاته, فلا يضرني ذلك شيئًا. وهذا تهديد ووعيد لمن عبد غير الله, وأشرك معه غيره. قل - أيها الرسول- : إن الخاسرين- حقًا- هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة, وذلك بإغوائهم في الدنيا وإضلالهم عن الإيمان. ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة هو الخسران البيِّن الواضح.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( 16 )
أولئك الخاسرون لهم يوم القيامة في جهنم مِن فوقهم قطع عذاب من النار كهيئة الظُّلل المبنية, ومن تحتهم كذلك. ذلك العذاب الموصوف يخوِّف الله به عباده; ليحْذَروه. يا عباد فاتقوني بامتثال أوامري واجتناب معاصيَّ.
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17 ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ( 18 )
والذين اجتنبوا طاعة الشيطان وعبادة غير الله, وتابوا إلى الله بعبادته وإخلاص الدين له, لهم البشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن والتوفيق من الله, وفي الآخرة رضوان الله والنعيم الدائم في الجنة. فبشِّر - أيها النبي- عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده. وأحسن الكلام وأرشده كلام الله ثم كلام رسوله. أولئك هم الذين وفقهم الله للرشاد والسداد, وهداهم لأحسن الأخلاق والأعمال, وأولئك هم أصحاب العقول السليمة.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ( 19 )
أفمن وجبت عليه كلمة العذاب؛ باستمراره على غيِّه وعناده, فإنه لا حيلة لك - أيها الرسول- في هدايته, أفتقدر أن تنقذ مَن في النار؟ لست بقادر على ذلك.
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ( 20 )
لكن الذين اتقوا ربهم- بطاعته وإخلاص عبادته- لهم في الجنة غرف مبنية بعضها فوق بعض, تجري مِن تحت أشجارها الأنهار, وعدها الله عباده المتقين وعدًا متحققًا, لا يخلف الله الميعاد.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ( 21 )
ألم تر - أيها الرسول- أن الله أنزل من السحاب مطرًا فأدخله في الأرض, وجعله عيونًا نابعة ومياهًا جارية, ثم يُخْرج بهذا الماء زرعًا مختلفًا ألوانه وأنواعه, ثم ييبس بعد خضرته ونضارته, فتراه مصفرًا لونه, ثم يجعله حطامًا متكسِّرًا متفتتًا؟ إن في فِعْل الله ذلك لَذكرى وموعظة لأصحاب العقول السليمة.
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 22 )
أفمن وسَّع الله صدره, فسعد بقبول الإسلام والانقياد له والإيمان به, فهو على بصيرة من أمره وهدى من ربه, كمن ليس كذلك؟ لا يستوون. فويل وهلاك للذين قَسَتْ قلوبهم, وأعرضت عن ذكر الله, أولئك في ضلال بيِّن عن الحق.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 23 )
الله تعالى هو الذي نزل أحسن الحديث, وهو القرآن العظيم, متشابهًا في حسنه وإحكامه وعدم اختلافه, تثنى فيه القصص والأحكام, والحجج والبينات, تقشعر من سماعه, وتضطرب جلود الذين يخافون ربهم؛ تأئرًا بما فيه مِن ترهيب ووعيد, ثم تلين جلودهم وقلوبهم; استبشارًا بما فيه من وعد وترغيب, ذلك التأثر بالقرآن هداية من الله لعباده. والله يهدي بالقرآن من يشاء مِن عباده. ومن يضلله الله عن الإيمان بهذا القرآن؛ لكفره وعناده, فما له مِن هاد يهديه ويوفقه.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 24 )
أفمن يُلْقى في النار مغلولا- فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه؛ لكفره وضلاله- خير أم من ينعم في الجنة؛ لأن الله هداه؟ وقيل يومئذ للظالمين: ذوقوا وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 26 )
كذَّب الذين مِن قبل قومك - أيها الرسول- رسلهم, فجاءهم العذاب من حيث لا يشعرون بمجيئه, فأذاق الله الأمم المكذبة العذاب والهوان في الدنيا, وأعد لهم عذابًا أشد وأشق في الآخرة، لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن ما حلَّ بهم؛ بسبب كفرهم وتكذيبهم لاتَّعظوا.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 27 ) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )
ولقد ضربنا لهؤلاء المشركين بالله في هذا القرآن من كل مثل من أمثال القرون الخالية تخويفًا وتحذيرًا; ليتذكروا فينزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله. وجعلنا هذا القرآن عربيًا واضح الألفاظ سهل المعاني, لا لَبْس فيه ولا انحراف; لعلهم يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 29 )
ضرب الله مثلا عبدًا مملوكًا لشركاء متنازعين, فهو حيران في إرضائهم, وعبدًا خالصًا لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه, هل يستويان مثلا؟ لا يستويان, كذلك المشرك هو في حَيْرة وشك, والمؤمن في راحة واطمئنان. فالثناء الكامل التام لله وحده, بل المشركون لا يعلمون الحق فيتبعونه.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( 31 )
إنك - أيها الرسول- ميت وإنهم ميتون, ثم إنكم جميعًا- أيها الناس- يوم القيامة عند ربكم تتنازعون, فيحكم بينكم بالعدل والإنصاف.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ( 32 )
لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب: بأن نسب إليه ما لا يليق به كالشريك والولد, أو قال: أوحي إليَّ, ولم يوحَ إليه شيء, ولا أحد أظلم ممن كذَّب بالحق الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله, ولم يصدق محمدًا صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بما جاء به؟ بَلَى.
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 33 )
والذي جاء بالصدق في قوله وعمله من الأنبياء وأتباعهم, وصدَّق به إيمانًا وعملا أولئك هم الذين جمعوا خصال التقوى, وفي مقدمة هؤلاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به, العاملون بشريعته من الصحابة, رضي الله عنهم, فمَن بعدهم إلى يوم الدين.
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 34 )
لهم ما يشاؤون عند ربهم من أصناف اللذات المشتهيات؛ ذلك جزاء مَن أطاع ربه حق الطاعة, وعبده حق العبادة.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 35 )
ليكفِّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال؛ بسبب ما كان منهم مِن توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها, ويثيبهم الله على طاعتهم في الدنيا بأحسن ما كانوا يعملون, وهو الجنة.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 36 )
أليس الله بكاف عبده محمدًا وعيد المشركين وكيدهم من أن ينالوه بسوء؟ بلى إنه سيكفيه في أمر دينه ودنياه, ويدفع عنه مَن أراده بسوء, ويخوِّفونك - أيها الرسول- بآلهتهم التي زعموا أنها ستؤذيك. ومن يخذله الله فيضله عن طريق الحق, فما له مِن هاد يهديه إليه.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ( 37 )
ومن يوفقه الله للإيمان به والعمل بكتابه واتباع رسوله فما له مِن مضل عن الحق الذي هو عليه. أليس الله بعزيز في انتقامه مِن كفرة خلقه, وممن عصاه؟
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 38 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: مَن خلق هذه السموات والأرض؟ ليقولُنَّ: خلقهنَّ الله, فهم يُقِرُّون بالخالق. قل لهم: هل تستطيع هذه الآلهة التي تشركونها مع الله أن تُبْعِدَ عني أذى قدَّره الله عليَّ, أو تزيلَ مكروهًا لَحِق بي؟ وهل تستطيع أن تمنع نفعَا يسَّره الله لي, أو تحبس رحمة الله عني؟ إنهم سيقولون : لا تستطيع ذلك. قل لهم: حسبي الله وكافِيَّ, عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم ودفع مضارهم, فالذي بيده وحده الكفاية هو حسبي, وسيكفيني كل ما أهمني.
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 39 ) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 40 )
قل - أيها الرسول- لقومك المعاندين: اعملوا على حالتكم التي رضيتموها لأنفسكم, حيث عبدتم مَن لا يستحق العبادة, وليس له من الأمر شيء, إني عامل على ما أُمرت به من التوجه لله وحده في أقوالي وأفعالي, فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يهينه في الحياة الدنيا, ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم؟ لا يحول عنه ولا يزول.
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 41 )
إنا أنزلنا عليك - أيها الرسول- القرآن بالحق هداية للعالمين, إلى طريق الرشاد, فمن اهتدى بنوره, وعمل بما فيه, واستقام على منهجه, فنفعُ ذلك يعود على نفسه, ومَن ضلَّ بعد ما تبين له الهدى, فإنما يعود ضرره على نفسه, ولن يضرَّ الله شيئا, وما أنت - أيها الرسول- عليهم بوكيل تحفظ أعمالهم, وتحاسبهم عليها, وتجبرهم على ما تشاء, ما عليك إلا البلاغ.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 42 )
الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يقبض الأنفس حين موتها, وهذه الوفاة الكبرى, وفاة الموت بانقضاء الأجل, ويقبض التي لم تمت في منامها, وهي الموتة الصغرى, فيحبس من هاتين النفسين النفس التي قضى عليها الموت, وهي نفس مَن مات, ويرسل النفس الأخرى إلى استكمال أجلها ورزقها, وذلك بإعادتها إلى جسم صاحبها, إن في قبض الله نفس الميت والنائم وإرساله نفس النائم, وحبسه نفس الميت لَدلائل واضحة على قدرة الله لمن تفكر وتدبر.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ( 43 )
أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء, تشفع لهم عند الله في حاجاتهم؟ قل - أيها الرسول- لهم: أتتخذونها شفعاء كما تزعمون, ولو كانت الآلهة لا تملك شيئا, ولا تعقل عبادتكم لها؟
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 44 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: لله الشفاعة جميعًا, له ملك السموات والأرض وما فيهما, فالأمر كله لله وحده, ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه, فهو الذي يملك السموات والأرض ويتصرف فيهما, فالواجب أن تُطلب الشفاعة ممن يملكها, وأن تُخلص له العبادة, ولا تُطلب من هذه الآلهة التي لا تضر ولا تنفع, ثم إليه تُرجَعون بعد مماتكم للحساب والجزاء.
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 45 )
وإذا ذُكِر الله وحده نفرت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات, وإذا ذُكِر الذين مِن دونه من الأصنام والأوثان والأولياء إذا هم يفرحون؛ لكون الشرك موافقًا لأهوائهم.
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 46 )
قل: اللهم يا خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق, عالم السر والعلانية, أنت تفصل بين عبادك يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون من القول فيك, وفي عظمتك وسلطانك والإيمان بك وبرسولك, اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم. وكان هذا مِن دعائه صلى الله عليه وسلم، وهو تعليم للعباد بالالتجاء إلى الله تعالى, ودعائه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( 47 )
ولو أن لهؤلاء المشركين بالله ما في الأرض جميعا مِن مال وذخائر, ومثله معه مضاعفًا, لَبذلوه يوم القيامة؛ ليفتدوا به من سوء العذاب, ولو بذلوا وافتدوا به ما قُبِل منهم, ولا أغنى عنهم من عذاب الله شيئًا, وظهر لهم يومئذٍ من أمر الله وعذابه ما لم يكونوا يحتسبون في الدنيا أنه نازل بهم.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 48 )
وظهر لهؤلاء المكذبين يوم الحساب جزاء سيئاتهم التي اقترفوها, حيث نسبوا إلى الله ما لا يليق به, وارتكبوا المعاصي في حياتهم, وأحاط بهم من كل جانب عذاب أليم؛ عقابًا لهم على استهزائهم بالإنذار بالعذاب الذي كان الرسول يَعِدُهم به, ولا يأبهون له.
فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 49 )
فإذا أصاب الإنسان شدة وضُرٌّ, طلب من ربه أن يُفرِّج عنه, فإذا كشفنا عنه ما أصابه وأعطيناه نعمة منا عاد بربه كافرًا, ولفضله منكرًا, وقال: إن الذي أوتيتُه إنما هو على علم من الله أني له أهل ومستحق, بل ذلك فتنة يبتلي الله بها عباده؛ لينظر مَن يشكره ممن يكفره, ولكن أكثرهم- لجهلهم وسوء ظنهم وقولهم- لا يعلمون؛ فلذلك يعدُّون الفتنة منحة.
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 50 )
قد قال مقالتهم هذه مَن قبلهم من الأمم الخالية المكذبة، فما أغنى عنهم حين جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من الأموال والأولاد.
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 51 )
فأصاب الذين قالوا هذه المقالة من الأمم الخالية وبال سيئات ما كسبوا من الأعمال, فعوجلوا بالخزي في الحياة الدنيا, والذين ظلموا أنفسهم من قومك - أيها الرسول- ، وقالوا هذه المقالة, سيصيبهم أيضًا وبال سيئات ما كسبوا, كما أصاب الذين من قبلهم, وما هم بفائتين الله ولا سابقيه.
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 )
أولم يعلم هؤلاء أن رزق الله للإنسان لا يدل على حسن حال صاحبه, فإن الله لبالغ حكمته يوسِّع الرزق لمن يشاء مِن عباده, صالحًا كان أو طالحًا, ويضيِّقه على مَن يشاء منهم؟ إن في ذلك التوسيع والتضييق في الرزق لَدلالات واضحات لقوم يُصدِّقون أمر الله ويعملون به.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 )
قل - أيها الرسول- لعبادي الذين تمادَوا في المعاصي, وأسرفوا على أنفسهم بإتيان ما تدعوهم إليه نفوسهم من الذنوب: لا تَيْئسوا من رحمة الله؛ لكثرة ذنوبكم, إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت, إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده, الرحيم بهم.
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 54 )
وارجعوا إلى ربكم- أيها الناس- بالطاعة والتوبة, واخضعوا له من قبل أن يقع بكم عقابه, ثم لا ينصركم أحد من دون الله.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 55 )
واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم, وهو القرآن العظيم, وكله حسن, فامتثلوا أوامره, واجتنبوا نواهية من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة, وأنتم لا تعلمون به.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( 56 )
وأطيعوا ربكم وتوبوا إليه حتى لا تندم نفس وتقول: يا حسرتى على ما ضيَّعت في الدنيا من العمل بما أمر الله به, وقصَّرت في طاعته وحقه, وإن كنت في الدنيا لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 57 )
أو تقول: لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت من المتقين الشرك والمعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )
أو تقول حين ترى عقاب الله قد أحاط بها يوم الحساب: ليت لي رجعة إلى الحياة الدنيا، فأكون فيها من الذين أحسنوا بطاعة ربهم، والعمل بما أمَرَتْهم به الرسل.
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 59 )
ما القول كما تقول, قد جاءتك آياتي الواضحة الدالة على الحق, فكذَّبت بها, واستكبرت عن قَبولها واتباعها, وكنت من الكافرين بالله ورسله.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60 )
ويوم القيامة ترى هؤلاء المكذبين الذين وصفوا ربهم بما لا يليق به, ونسبوا إليه الشريك والولد وجوههم مسودة. أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله, فامتنع من توحيده وطاعته؟ بلى.
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 61 )
وينجي الله من جهنم وعذابها الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه بفوزهم وتحقق أمنيتهم, وهي الظَّفَر بالجنة, لا يمسهم من عذاب جهنم شيء, ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 62 )
الله تعالى هو خالق الأشياء كلها, وربها ومليكها والمتصرف فيها, وهو على كل شيء حفيظ يدَبِّر جميع شؤون خلقه.
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 63 )
لله مفاتيح خزائن السموات والأرض, يعطي منها خَلْقَه كيف يشاء. والذين جحدوا بآيات القرآن وما فيها من الدلائل الواضحة, أولئك هم الخاسرون في الدنيا بخِذْلانهم عن الإيمان, وفي الآخرة بخلودهم في النار.
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ( 64 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: أفغير الله أيها الجاهلون بالله تأمرونِّي أن أعبد, ولا تصلح العبادة لشيء سواه؟
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 65 )
ولقد أوحي إليك - أيها الرسول- وإلى من قبلك من الرسل: لئن أشركت بالله غيره ليبطلنَّ عملك, ولتكوننَّ من الهالكين الخاسرين دينك وآخرتك؛ لأنه لا يُقبل مع الشرك عمل صالح.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 66 )
بل الله فاعبد - أيها النبي- مخلصًا له العبادة وحده لا شريك له, وكن من الشاكرين لله نعمه.
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 67 )
وما عظَّم هؤلاء المشركون اللهَ حق تعظيمه; إذ عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر, فسوَّوا المخلوق مع عجزه بالخالق العظيم, الذي من عظيم قدرته أن جميع الأرض في قبضته يوم القيامة, والسموات مطويات بيمينه, تنزه وتعاظم سبحانه وتعالى عما يشرك به هؤلاء المشركون، وفي الآية دليل على إثبات القبضة, واليمين, والطيِّ, لله كما يليق بجلاله وعظمته, من غير تكييف ولا تشبيه.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( 68 )
ونُفِخ في « القرن » فمات كلُّ مَن في السموات والأرض, إلا مَن شاء الله عدم موته, ثم نفخ المَلَك فيه نفخة ثانية مؤذنًا بإحياء جميع الخلائق للحساب أمام ربهم, فإذا هم قيام من قبورهم ينظرون ماذا يفعل الله بهم؟
وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 69 )
وأضاءت الأرض يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء, ونشرت الملائكة صحيفة كل فرد, وجيء بالنبيين والشهود على الأمم؛ ليسأل الله النبيين عن التبليغ وعما أجابتهم به أممهم, كما تأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتشهد بتبليغ الرسل السابقين لأممهم إذا أنكرت هذا التبليغ, فتقوم الحجة على الأمم, وقضى ربُّ العالمين بين العباد بالعدل التام, وهم لا يُظلمون شيئًا بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 70 )
ووفَّى الله كلَّ نفس جزاء عملها من خير وشر, وهو سبحانه وتعالى أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة أو معصية.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 71 )
وسيق الذين كفروا بالله ورسله إلى جهنم جماعات, حتى إذا جاؤوها فتح الخزنة الموكَّلون بها أبوابها السبعة, وزجروهم قائلين: كيف تعصون الله وتجحدون أنه الإله الحق وحده؟ ألم يرسل إليكم رسلا منكم يتلون عليكم آيات ربكم, ويحذِّرونكم أهوال هذا اليوم؟ قالوا مقرين بذنبهم: بلى قد جاءت رسل ربنا بالحق, وحذَّرونا هذا اليوم, ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به.
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 72 )
قيل للجاحدين أن الله هو الإله الحق إهانة لهم وإذلالا: ادخلوا أبواب جهنم ماكثين فيها أبدًا, فقَبُح مصير المتعالين على الإيمان بالله والعمل بشرعه.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( 73 )
وسيق الذين اتقوا ربهم بتوحيده والعمل بطاعته إلى الجنة جماعات, حتى إذا جاؤوها وشُفع لهم بدخولها، فتحت أبوابها, فترحِّب بهم الملائكة الموكَّلون بالجنة, ويُحَيُّونهم بالبِشر والسرور; لطهارتهم من آثار المعاصي قائلين لهم: سلام عليكم من كل آفة, طابت أحوالكم, فادخلوا الجنة خالدين فيها.
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 74 )
وقال المؤمنون: الحمد لله الذي صدَقنا وعده الذي وعدَنا إياه على ألسنة رسله, وأورثَنا أرض الجنة نَنْزِل منها في أيِّ مكان شئنا, فنِعم ثواب المحسنين الذين اجتهدوا في طاعة ربهم.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 75 )
وترى- أيها النبي- الملائكة محيطين بعرش الرحمن, ينزهون ربهم عن كل ما لا يليق به, وقضى الله سبحانه وتعالى بين الخلائق بالحق والعدل, فأسكن أهل الإيمان الجنة, وأهل الكفر النار, وقيل: الحمد لله رب العالمين على ما قضى به بين أهل الجنة وأهل النار, حَمْدَ فضل وإحسان, وحَمْدَ عدل وحكمة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة غافر .. بن كثير
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 )
تنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله- عزَّ وجل- العزيز الذي قهر بعزته كل مخلوق, العليم بكل شيء.
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 )
غافر الذنب للمذنبين, وقابل التوب من التائبين, شديد العقاب على مَن تجرَّأَ على الذنوب, ولم يتب منها, وهو سبحانه وتعالى صاحب الإنعام والتفضُّل على عباده الطائعين, لا معبود تصلح العبادة له سواه, إليه مصير جميع الخلائق يوم الحساب, فيجازي كلا بما يستحق.
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ( 4 )
ما يخاصم في آيات القرآن وأدلته على وحدانية الله, ويقابلها بالباطل إلا الجاحدون الذين جحدوا أنه الإله الحق المستحق للعبادة وحده, فلا يغررك - أيها الرسول- ترددهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب, ونعيم الدنيا وزهرتها.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 )
كذَّبت قبل هؤلاء الكفار قومُ نوح ومَن تلاهم من الأمم التي أعلنت حربها على الرسل كعاد وثمود, حيث عزموا على إيذائهم وتجمَّعوا عليهم بالتعذيب أو القتل, وهمَّت كل أمة من هذه الأمم المكذبة برسولهم ليقتلوه, وخاصموا بالباطل؛ ليبطلوا بجدالهم الحق فعاقَبْتُهم, فكيف كان عقابي إياهم عبرة للخلق, وعظة لمن يأتي بعدهم؟
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )
وكما حق العقاب على الأمم السابقة التي كذَّبت رسلها, حق على الذين كفروا أنهم أصحاب النار.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 )
الذين يحملون عرش الرحمن من الملائكة ومَن حول العرش ممن يحف به منهم, ينزِّهون الله عن كل نقص, ويحمَدونه بما هو أهل له, ويؤمنون به حق الإيمان, ويطلبون منه أن يعفو عن المؤمنين, قائلين: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا, فاغفر للذين تابوا من الشرك والمعاصي, وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام, وجَنِّبْهم عذاب النار وأهوالها.
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 8 )
ربنا وأدخل المؤمنين جنات عدن التي وعدتهم, ومَن صلح بالإيمان والعمل الصالح من آبائهم وأزواجهم وأولادهم. إنك أنت العزيز القاهر لكل شيء, الحكيم في تدبيره وصنعه.
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )
واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم, فلا تؤاخذهم بها, ومن تصْرِف عنه السيئات يوم الحساب فقد رحمته, وأنعمت عليه بالنجاة من عذابك, وذلك هو الظَّفَر العظيم الذي لا فوز مثله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( 10 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وصرفوا العبادة لغيره عندما يعاينون أهوال النار بأنفسهم, يَمْقُتون أنفسهم أشد المقت, وعند ذلك يناديهم خزنة جهنم: لَمقت الله لكم في الدنيا- حين طلب منكم الإيمان به واتباع رسله, فأبيتم- أكبر من بغضكم لأنفسكم الآن, بعد أن أدركتم أنكم تستحقون سخط الله وعذابه.
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ( 11 )
قال الكافرون: ربنا أمتَّنا مرتين: حين كنا في بطون أمهاتنا نُطَفًا قبل نفخ الروح, وحين انقضى أجلُنا في الحياة الدنيا, وأحييتنا مرتين: في دار الدنيا, يوم وُلِدْنا, ويوم بُعِثنا من قبورنا, فنحن الآن نُقِرُّ بأخطائنا السابقة، فهل لنا من طريق نخرج به من النار, وتعيدنا به إلى الدنيا؛ لنعمل بطاعتك؟ ولكن هيهات أن ينفعهم هذا الاعتراف.
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ( 12 )
ذلكم العذاب الذي لكم- أيها الكافرون- بسبب أنكم كنتم إذا دُعيتم لتوحيد الله وإخلاص العمل له كفرتم به, وإن يُجْعل لله شريك تُصَدِّقوا به وتتبعوه. فالله سبحانه وتعالى هو الحاكم في خلقه, العادل الذي لا يجور, يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم مَن يشاء ويعذب مَن يشاء, لا إله إلا هو الذي له علو الذات والقَدْر والقهر, وله الكبرياء والعظمة.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ( 13 )
هو الذي يُظْهِر لكم- أيها الناس- قدرته بما تشاهدونه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها, ويُنَزِّل لكم من السماء مطرًا تُرزَقون به, وما يتذكر بهذه الآيات إلا مَن يرجع إلى طاعة الله, ويخلص له العبادة.
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 14 )
فأخلصوا- أيها المؤمنون- لله وحده العبادة والدعاء, وخالفوا المشركين في مسلكهم, ولو أغضبهم ذلك, فلا تبالوا بهم.
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ( 15 )
إن الله هو العليُّ الأعلى الذي ارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته, وارتفع به قَدْره, وهو صاحب العرش العظيم, ومن رحمته بعباده أن يرسل إليهم رسلا يلقي إليهم الوحي الذي يحيون به, فيكونون على بصيرة من أمرهم؛ لتخوِّف الرسل عباد الله, وتنذرهم يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون.
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 16 )
يوم القيامة تظهر الخلائق أمام ربهم, لا يخفى على الله منهم ولا مِن أعمالهم التي عملوها في الدنيا شيء, يقول الله سبحانه: لمن الملك والتصرف في هذا اليوم؟ فيجيب نفسه: لله المتفرد بأسمائه وصفاته وأفعاله, القهَّار الذي قهر جميع الخلائق بقدرته وعزته.
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 17 )
اليوم تثاب كل نفس بما كسبت في الدنيا من خير وشر, لا ظلم لأحد اليوم بزيادة في سيئاته أو نقص من حسناته. إن الله سبحانه وتعالى سريع الحساب, فلا تستبطئوا ذلك اليوم؛ فإنه قريب.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 )
وحذِّر - أيها الرسول- الناس من يوم القيامة القريب, وإن استبعدوه, إذ قلوب العباد مِن مخافة عقاب الله قد ارتفعت من صدورهم, فتعلقت بحلوقهم, وهم ممتلئون غمًّا وحزنًا. ما للظالمين من قريب ولا صاحب, ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم, فيستجاب له.
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 )
يعلم الله سبحانه ما تختلسه العيون من نظرات, وما يضمره الإنسان في نفسه من خير أو شر.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )
والله سبحانه يقضي بين الناس بالعدل فيما يستحقونه, والذين يُعبدون من دون الله من الآلهة لا يقضون بشيء؛ لعجزهم عن ذلك. إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم, البصير بأفعالكم وأعمالكم، وسيجازيكم عليها.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 21 )
أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون برسالتك - أيها الرسول- في الأرض، فينظروا كيف كان خاتمة الأمم السابقة قبلهم؟ كانوا أشد منهم بطشًا, وأبقى في الأرض آثارًا, فلم تنفعهم شدة قواهم وعِظَم أجسامهم, فأخذهم الله بعقوبته؛ بسبب كفرهم واكتسابهم الآثام, وما كان لهم من عذاب الله من واق يقيهم منه, فيدفعه عنهم.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 22 )
ذلك العذاب الذي حلَّ بالمكذبين السابقين, كان بسبب موقفهم من رسل الله الذين جاؤوا بالدلائل القاطعة على صدق دعواهم, فكفروا بهم, وكذَّبوهم, فأخذهم الله بعقابه, إنه سبحانه قوي لا يغلبه أحد, شديد العقاب لمن كفر به وعصاه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 23 )
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا العظيمة الدالة على حقيقة ما أُرسل به, وحجة واضحة بيِّنة على صدقه في دعوته, وبطلان ما كان عليه مَن أُرسل إليهم.
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 24 )
إلى فرعون ملك « مصر » , وهامان وزيره, وقارون صاحب الأموال والكنوز, فأنكروا رسالته واستكبروا, وقالوا عنه: إنه ساحر كذاب, فكيف يزعم أنه أُرسِل للناس رسولا؟
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 25 )
فلما جاء موسى فرعون وهامان وقارون بالمعجزات الظاهرة مِن عندنا, لم يكتفوا بمعارضتها وإنكارها, بل قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه, واستبقوا نساءهم للخدمة والاسترقاق. وما تدبير أهل الكفر إلا في ذَهاب وهلاك.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ( 26 )
وقال فرعون لأشراف قومه: اتركوني أقتل موسى, وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا, فيمنعه منا, إني أخاف أن يُبَدِّل دينكم الذي أنتم عليه, أو أن يُظْهِر في أرض « مصر » الفساد.
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 27 )
وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت بربي وربكم- أيها القوم- من كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته, لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه.
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 28 )
وقال رجل مؤمن بالله من آل فرعون, يكتم إيمانه منكرًا على قومه: كيف تستحلون قَتْلَ رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة مِن ربكم على صِدْق ما يقول؟ فإن يك موسى كاذبًا فإنَّ وبالَ كذبه عائد عليه وحده, وإن يك صادقًا لحقكم بعض الذي يتوعَّدكم به, إن الله لا يوفق للحق مَن هو متجاوز للحد, بترك الحق والإقبال على الباطل, كذَّاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 29 )
يا قوم لكم السلطان اليوم ظاهرين في أرض « مصر » على رعيتكم من بني إسرائيل وغيرهم, فمَن يدفع عنا عذاب الله إن حلَّ بنا؟ قال فرعون لقومه مجيبًا: ما أريكم- أيها الناس- من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحًا وصوابًا, وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ ( 30 )
وقال الرجل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه واعظًا ومحذرًا: إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى, مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على أنبيائهم.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( 31 )
مثلَ عادة قوم نوح وعاد وثمود ومَن جاء بعدهم في الكفر والتكذيب, أهلكهم الله بسبب ذلك. وما الله سبحانه يريد ظلمًا للعباد, فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه. تعالى الله عن الظلم والنقص علوًا كبيرًا.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( 32 )
ويا قوم إني أخاف عليكم عقاب يوم القيامة، يوم ينادي فيه بعض الناس بعضًا; من هول الموقف ذلك اليوم.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 )
يوم تولون ذاهبين هاربين, ما لكم من الله من مانع يمنعكم وناصر ينصركم. ومَن يخذله الله ولم يوفقه إلى رشده, فما له من هاد يهديه إلى الحق والصواب.
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( 34 )
ولقد أرسل الله إليكم النبيَّ الكريم يوسف بن يعقوب عليهما السلام من قبل موسى, بالدلائل الواضحة على صدقه, وأمركم بعبادة الله وحده لا شريك له, فما زلتم مرتابين مما جاءكم به في حياته, حتى إذا مات ازداد شككم وشرككم, وقلتم : إن الله لن يرسل من بعده رسولا ، مثل ذلك الضلال يُضِلُّ الله كل متجاوز للحق, شاكٍّ في وحدانية الله تعالى, فلا يوفقه إلى الهدى والرشاد.
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ( 35 )
الذين يخاصمون في آيات الله وحججه لدفعها من غير أن يكون لديهم حجة مقبولة, كَبُر ذلك الجدال مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا, كما خَتَم بالضلال وحَجَبَ عن الهدى قلوب هؤلاء المخاصمين, يختم الله على قلب كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته, جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ( 36 ) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ( 37 )
وقال فرعون مكذِّبًا لموسى في دعوته إلى الإقرار برب العالمين والتسليم له: يا هامان ابْنِ لي بنًاء عظيمًا; لعلي أبلغ أبواب السماوات وما يوصلني إليها, فأنظر إلى إله موسى بنفسي, وإني لأظن موسى كاذبًا في دعواه أن لنا ربًا, وأنه فوق السماوات, وهكذا زُيَّن لفرعون عمله السيِّئ فرآه حسنًا, وصُدَّ عن سبيل الحق؛ بسبب الباطل الذي زُيِّن له, وما احتيال فرعون وتدبيره لإيهام الناس أنه محق, وموسى مبطل إلا في خسار وبوار, لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 38 )
وقال الذي آمن معيدًا نصيحته لقومه : يا قوم اتبعون أهدكم طريق الرشد والصواب.
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( 39 )
يا قوم إن هذه الحياة الدنيا حياة يتنعَّم الناس فيها قليلا ثم تنقطع وتزول, فينبغي ألا تَرْكَنوا إليها, وإن الدار الآخرة بما فيها من النعيم المقيم هي محل الإقامة التي تستقرون فيها, فينبغي لكم أن تؤثروها, وتعملوا لها العمل الصالح الذي يُسعِدكم فيها.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 40 )
من عصى الله في حياته وانحرف عن طريق الهدى, فلا يُجْزى في الآخرة إلا عقابًا يساوي معصيته, ومَن أطاع الله وعمل صالحًا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, ذكرًا كان أو أنثى, وهو مؤمن بالله موحد له, فأولئك يدخلون الجنة, يرزقهم الله فيها من ثمارها ونعيمها ولذاتها بغير حساب.
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ( 41 )
ويا قوم كيف أدعوكم إلى الإيمان بالله واتباع رسوله موسى, وهي دعوة تنتهي بكم إلى الجنة والبعد عن أهوال النار, وأنتم تدعونني إلى عمل يؤدي إلى عذاب الله وعقوبته في النار؟
تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ( 42 )
تدعونني لأكفر بالله, وأشرك به ما ليس لي به علم أنه يستحق العبادة من دونه- وهذا من أكبر الذنوب وأقبحها- وأنا أدعوكم إلى الطريق الموصل إلى الله العزيز في انتقامه, الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته.
لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 43 )
حقًا أن ما تدعونني إلى الاعتقاد به لا يستحق الدعوة إليه, ولا يُلجأ إليه في الدنيا ولا في الآخرة لعجزه ونقصه, واعلموا أن مصير الخلائق كلها إلى الله سبحانه, وهو يجازي كل عامل بعمله, وأن الذين تعدَّوا حدوده بالمعاصي وسفك الدماء والكفر هم أهل النار.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 44 )
فلما نصحهم ولم يطيعوه قال لهم: فستذكرون أني نصحت لكم وذكَّرتكم, وسوف تندمون حيث لا ينفع الندم, وألجأ إلى الله, وأعتصم به, وأتوكل عليه. إن الله سبحانه وتعالى بصير بأحوال العباد, وما يستحقونه من جزاء, لا يخفى عليه شيء منها.
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ( 45 )
فوقى الله سبحانه ذلك الرجل المؤمن الموفَّق عقوبات مكر فرعون وآله, وحلَّ بهم سوء العذاب حيث أغرقهم الله عن آخرهم.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( 46 )
لقد أصابهم الغرق أولا وهلكوا, ثم يُعذَّبون في قبورهم حيث النار, يُعرضون عليها صباحًا ومساء إلى وقت الحساب, ويوم تقوم الساعة يقال: أدخلوا آل فرعون النار؛ جزاء ما اقترفوه من أعمال السوء. وهذه الآية أصل في إثبات عذاب القبر.
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ( 47 )
وإذ يتخاصم أهل النار, ويعاتب بعضهم بعضًا, فيحتجُّ الأتباع المقلدون على رؤسائهم المستكبرين الذين أضلُّوهم, وزيَّنوا لهم طريق الشقاء, قائلين لهم: هل أنتم مغنون عنا نصيبًا من النار بتحملكم قسطًا من عذابنا؟
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ( 48 )
قال الرؤساء المستكبرون مبيِّنين عجزهم: لا نتحمل عنكم شيئًا من عذاب النار, وكلُّنا فيها, لا خلاصَ لنا منها, إن الله قد قسم بيننا العذاب بقَدْر ما يستحق كلٌّ منا بقضائه العادل.
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( 49 )
وقال الذين في النار من المستكبرين والضعفاء لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يُخَفِّفْ عنا يومًا واحدًا من العذاب؛ كي تحصل لنا بعض الراحة.
قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 50 )
قال خزنة جهنم لهم توبيخًا: هذا الدعاء لا ينفعكم في شيء, أولم تأتكم رسلكم بالحجج الواضحة من الله فكذبتموهم؟ فاعترف الجاحدون بذلك وقالوا: بلى. فتبرأ خزنة جهنم منهم وقالوا: نحن لا ندعو لكم, ولا نشفع فيكم, فادعوا أنتم, ولكن هذا الدعاء لا يغني شيئًا؛ لأنكم كافرون. وما دعاء الكافرين إلا في ضياع لا يُقبل, ولا يُستجاب.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ( 51 )
إنَّا لننصر رسلنا ومَن تبعهم من المؤمنين, ونؤيدهم على مَن آذاهم في حياتهم الدنيا, ويوم القيامة, يوم تشهد فيه الملائكة والأنبياء والمؤمنون على الأمم التي كذَّبت رسلها, فتشهد بأن الرسل قد بلَّغوا رسالات ربهم, وأن الأمم كذَّبتهم.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 52 )
يوم الحساب لا ينتفع الكافرون الذين تعدَّوا حدود الله بما يقدِّمونه من عذر لتكذيبهم رسل الله, ولهم الطرد من رحمة الله, ولهم الدار السيئة في الآخرة, وهي النار.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ( 53 ) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ( 54 )
ولقد آتينا موسى ما يهدي إلى الحق من التوراة والمعجزات, وجعلنا بني إسرائيل يتوارثون التوراة خلفًا عن سلف, هادية إلى سبيل الرشاد, وموعظة لأصحاب العقول السليمة.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ( 55 )
فاصبر - أيها الرسول- على أذى المشركين, فقد وعدناك بإعلاء كلمتك, ووعْدُنا حق لا يتخلف, واستغفر لذنبك, ودُمْ على تنزيه ربك عمَّا لا يليق به, في آخر النهار وأوله.
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 56 )
إن الذين يدفعون الحق بالباطل، ويردُّون الحجج الصحيحة بالشُّبَه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ليس في صدور هؤلاء إلا تكبر عن الحق؛ حسدًا منهم على الفضل الذي آتاه الله نبيه، وكرامة النبوة التي أكرمه بها، وهو أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه, فاعتصم بالله من شرهم؛ إنه هو السميع لأقوالهم, البصير بأفعالهم، وسيجازيهم عليها.
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 57 )
لَخَلْق الله السموات والأرض أكبر من خَلْق الناس وإعادتهم بعد موتهم, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هيِّن على الله.
وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
وما يستوي الأعمى والبصير, وكذلك لا يستوي المؤمنون الذين يُقِرُّون بأن الله هو الإله الحق لا شريك له، ويستجيبون لرسله ويعملون بشرعه, والجاحدون الذين ينكرون أن الله هو الإله الحق، ويكذبون رسله ولا يعملون بشرعه. قليلا ما تتذكرون - أيها الناس- حجج الله, فتعتبرون, وتتعظون بها.
إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 59 )
إن الساعة لآتية لا شك فيها, فأيقنوا بمجيئها, كما أخبرتْ بذلك الرسل, ولكن أكثر الناس لا يُصَدِّقون بمجيئها, ولا يعملون لها.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( 60 )
وقال ربكم- أيها العباد- : ادعوني وحدي وخصُّوني بالعبادة أستجب لكم, إن الذين يتكبرون عن إفرادي بالعبودية والألوهية, سيدخلون جهنم صاغرين حقيرين.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 61 )
الله وحده هو الذي جعل لكم الليل؛ لتسكنوا فيه, وتحققوا راحتكم, والنهار مضيئًا؛ لتُصَرِّفوا فيه أمور معاشكم. إن الله لذو فضل عظيم على الناس, ولكن أكثرهم لا يشكرون له بالطاعة وإخلاص العبادة.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 62 )
الذي أنعم عليكم بهذه النعم إنما هو ربكم خالق الأشياء كلها, لا إله يستحق العبادة غيره, فكيف تعدلون عن الإيمان به, وتعبدون غيره من الأوثان, بعد أن تبينت لكم دلائله؟
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 63 )
كما كذَّبتم بالحق - يا كفار قريش- وأعرضتم عنه إلى الباطل، يُصرف عن الحق والإيمان به الذين كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 64 )
الله الذي جعل لكم الأرض؛ لتستقروا فيها, ويسَّر لكم الإقامة عليها, وجعل السماء سقفًا للأرض, وبثَّ فيها من العلامات الهادية, وخلقكم في أكمل هيئة وأحسن تقويم, وأنعم عليكم بحلال الرزق ولذيذ المطاعم والمشارب, ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم هو ربكم, فتكاثر خيره وفضله وبركته, وتنزَّه عمَّا لا يليق به, وهو ربُّ الخلائق أجمعين.
هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 65 )
هو الله سبحانه الحي الذي له الحياة الكاملة التامة لا إله غيره, فاسألوه واصرفوا عبادتكم له وحده, مخلصين له دينكم وطاعتكم. فالحمد لله والثناء الكامل له رب الخلائق أجمعين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 66 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله, لـمَّا جاءني الآيات الواضحات من عند ربي, وأمرني أن أخضع وأنقاد بالطاعة التامة له, سبحانه رب العالمين.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 67 )
هو الله الذي خلق أباكم آدم من تراب, ثم أوجدكم من المنيِّ بقدرته, وبعد ذلك تنتقلون إلى طور الدم الغليظ الأحمر, ثم تجري عليكم أطوار متعددة في الأرحام, إلى أن تولدوا أطفالا صغارًا, ثم تقوى بِنْيَتُكم إلى أن تصيروا شيوخًا, ومنكم من يموت قبل ذلك, ولتبلغوا بهذه الأطوار المقدَّرة أجلا مسمى تنتهي عنده أعماركم, ولعلكم تعقلون حجج الله عليكم بذلك, وتتدبرون آياته, فتعرفون أنه لا إله غيره يفعل ذلك, وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 68 )
هو سبحانه المتفرد بالإحياء والإماتة, فإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: « كن » , فيكون, لا رادَّ لقضائه.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ( 69 )
ألا تعجب - أيها الرسول- من هؤلاء المكذِّبين بآيات الله يخاصمون فيها, وهي واضحة الدلالة على توحيد الله وقدرته, كيف يعدلون عنها مع صحتها؟ وإلى أيِّ شيء يذهبون بعد البيان التام؟
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 70 ) إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ( 71 ) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( 72 )
هؤلاء المشركون الذين كذَّبوا بالقرآن والكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله لهداية الناس, فسوف يعلم هؤلاء المكذبون عاقبة تكذيبهم حين تُجعل الأغلال في أعناقهم, والسلاسل في أرجلهم, وتسحبهم زبانية العذاب في الماء الحار الذي اشتدَّ غليانه وحرُّه, ثم في نار جهنم يوقد بهم.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 73 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 74 )
ثم قيل لهم توبيخًا, وهم في هذه الحال التعيسة: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ هل ينصرونكم اليوم؟ فادعوهم؛ لينقذوكم من هذا البلاء الذي حلَّ بكم إن استطاعوا, قال المكذبون: غابوا عن عيوننا, فلم ينفعونا بشيء, ويعترفون بأنهم كانوا في جهالة من أمرهم, وأن عبادتهم لهم كانت باطلة لا تساوي شيئًا, كما أضل الله هؤلاء الذين ضلَّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله, يضل الله الكافرين به.
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( 75 )
ذلكم العذاب الذي أصابكم إنما هو بسبب ما كنتم عليه في حياتكم الدنيا من غفلة, حيث كنتم تفرحون بما تقترفونه من المعاصي والآثام, وبما أنتم عليه من الأشَر والبَطَر والبغي على عباد الله.
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 76 )
ادخلوا أبواب جهنم عقوبة لكم على كفركم بالله ومعصيتكم له خالدين فيها, فبئست جهنم نزلا للمتكبرين في الدنيا على الله.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( 77 )
فاصبر أيها الرسول, وامض في طريق الدعوة, إن وعد الله حق, وسيُنْجِز لك ما وعدك, فإما نرينَّك في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب, أو نتوفينَّك قبل أن يحلَّ ذلك بهم, فإلينا مصيرهم يوم القيامة, وسنذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ( 78 )
ولقد أرسلنا مِن قبلك - أيها الرسول- رسلا كثيرين إلى قومهم يدعونهم, ويصبرون على أذاهم: منهم مَن قصصنا عليك خبرهم, ومنهم مَن لم نقصص عليك, وكلهم مأمورون بتبليغ وحي الله إليهم. وما كان لأحد منهم أن يأتي بآية من الآيات الحسية أو العقلية إلا بإذن الله ومشيئته, فإذا جاء أمر الله بعذاب المكذبين قُضِي بالعدل بين الرسل ومكذبيهم, وخسر هنالك المبطلون؛ لافترائهم على الله الكذب, وعبادتهم غيره.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 79 ) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 80 )
الله سبحانه هو الذي جعل لكم الأنعام؛ لتنتفعوا بها: من منافع الركوب والأكل وغيرها من أنواع المنافع, ولتبلغوا بالحمولة على بعضها حاجةً في صدوركم من الوصول إلى الأقطار البعيدة, وعلى هذه الأنعام تُحْمَلون في البرية, وعلى الفلك في البحر تُحْمَلون كذلك.
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ( 81 )
ويريكم الله تعالى دلائله الكثيرة الواضحة الدالة على قدرته وتدبيره في خلقه, فأي آية من آياته تنكرونها, ولا تعترفون بها؟
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )
أفلم يَسِرْ هؤلاء المكذبون في الأرض ويتفكروا في مصارع الأمم المكذبة من قبلهم, كيف كانت عاقبتهم؟ وكانت هذه الأمم السابقة أكثر منهم عددًا وعدة وآثارًا في الأرض من الأبنية والمصانع والغراس وغير ذلك, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبونه حين حلَّ بهم بأس الله.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 83 )
فلما جاءت هؤلاء الأمم المكذبة رسلُها بالدلائل الواضحات, فرحوا جهلا منهم بما عندهم من العلم المناقض لما جاءت به الرسل, وحلَّ بهم من العذاب ما كانوا يستعجلون به رسلَهم على سبيل السخرية والاستهزاء. وفي الآية دليل على أن كل علم يناقض الإسلام, أو يقدح فيه, أو يشكك في صحته, فإنه مذموم ممقوت, ومعتقده ليس من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( 84 )
فلما رأوا عذابنا أقرُّوا حين لا ينفع الإقرار, وقالوا: آمنا بالله وحده, وكفرنا بما كنا به مشركين في عبادة الله.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( 85 )
فلم يك ينفعهم إيمانهم هذا حين رأوا عذابنا; وذلك لأنه إيمان قد اضطروا إليه, لا إيمان اختيار ورغبة, سنة الله وطريقته التي سنَّها في الأمم كلها أن لا ينفعها الإيمان إذا رأوا العذاب, وهلك عند مجيء بأس الله الكافرون بربهم, الجاحدون توحيده وطاعته.
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 2 )
تنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله- عزَّ وجل- العزيز الذي قهر بعزته كل مخلوق, العليم بكل شيء.
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 )
غافر الذنب للمذنبين, وقابل التوب من التائبين, شديد العقاب على مَن تجرَّأَ على الذنوب, ولم يتب منها, وهو سبحانه وتعالى صاحب الإنعام والتفضُّل على عباده الطائعين, لا معبود تصلح العبادة له سواه, إليه مصير جميع الخلائق يوم الحساب, فيجازي كلا بما يستحق.
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ( 4 )
ما يخاصم في آيات القرآن وأدلته على وحدانية الله, ويقابلها بالباطل إلا الجاحدون الذين جحدوا أنه الإله الحق المستحق للعبادة وحده, فلا يغررك - أيها الرسول- ترددهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب, ونعيم الدنيا وزهرتها.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 5 )
كذَّبت قبل هؤلاء الكفار قومُ نوح ومَن تلاهم من الأمم التي أعلنت حربها على الرسل كعاد وثمود, حيث عزموا على إيذائهم وتجمَّعوا عليهم بالتعذيب أو القتل, وهمَّت كل أمة من هذه الأمم المكذبة برسولهم ليقتلوه, وخاصموا بالباطل؛ ليبطلوا بجدالهم الحق فعاقَبْتُهم, فكيف كان عقابي إياهم عبرة للخلق, وعظة لمن يأتي بعدهم؟
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 6 )
وكما حق العقاب على الأمم السابقة التي كذَّبت رسلها, حق على الذين كفروا أنهم أصحاب النار.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 )
الذين يحملون عرش الرحمن من الملائكة ومَن حول العرش ممن يحف به منهم, ينزِّهون الله عن كل نقص, ويحمَدونه بما هو أهل له, ويؤمنون به حق الإيمان, ويطلبون منه أن يعفو عن المؤمنين, قائلين: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا, فاغفر للذين تابوا من الشرك والمعاصي, وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام, وجَنِّبْهم عذاب النار وأهوالها.
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 8 )
ربنا وأدخل المؤمنين جنات عدن التي وعدتهم, ومَن صلح بالإيمان والعمل الصالح من آبائهم وأزواجهم وأولادهم. إنك أنت العزيز القاهر لكل شيء, الحكيم في تدبيره وصنعه.
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 )
واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم, فلا تؤاخذهم بها, ومن تصْرِف عنه السيئات يوم الحساب فقد رحمته, وأنعمت عليه بالنجاة من عذابك, وذلك هو الظَّفَر العظيم الذي لا فوز مثله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( 10 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وصرفوا العبادة لغيره عندما يعاينون أهوال النار بأنفسهم, يَمْقُتون أنفسهم أشد المقت, وعند ذلك يناديهم خزنة جهنم: لَمقت الله لكم في الدنيا- حين طلب منكم الإيمان به واتباع رسله, فأبيتم- أكبر من بغضكم لأنفسكم الآن, بعد أن أدركتم أنكم تستحقون سخط الله وعذابه.
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ( 11 )
قال الكافرون: ربنا أمتَّنا مرتين: حين كنا في بطون أمهاتنا نُطَفًا قبل نفخ الروح, وحين انقضى أجلُنا في الحياة الدنيا, وأحييتنا مرتين: في دار الدنيا, يوم وُلِدْنا, ويوم بُعِثنا من قبورنا, فنحن الآن نُقِرُّ بأخطائنا السابقة، فهل لنا من طريق نخرج به من النار, وتعيدنا به إلى الدنيا؛ لنعمل بطاعتك؟ ولكن هيهات أن ينفعهم هذا الاعتراف.
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ( 12 )
ذلكم العذاب الذي لكم- أيها الكافرون- بسبب أنكم كنتم إذا دُعيتم لتوحيد الله وإخلاص العمل له كفرتم به, وإن يُجْعل لله شريك تُصَدِّقوا به وتتبعوه. فالله سبحانه وتعالى هو الحاكم في خلقه, العادل الذي لا يجور, يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم مَن يشاء ويعذب مَن يشاء, لا إله إلا هو الذي له علو الذات والقَدْر والقهر, وله الكبرياء والعظمة.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ ( 13 )
هو الذي يُظْهِر لكم- أيها الناس- قدرته بما تشاهدونه من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها, ويُنَزِّل لكم من السماء مطرًا تُرزَقون به, وما يتذكر بهذه الآيات إلا مَن يرجع إلى طاعة الله, ويخلص له العبادة.
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 14 )
فأخلصوا- أيها المؤمنون- لله وحده العبادة والدعاء, وخالفوا المشركين في مسلكهم, ولو أغضبهم ذلك, فلا تبالوا بهم.
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ( 15 )
إن الله هو العليُّ الأعلى الذي ارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته, وارتفع به قَدْره, وهو صاحب العرش العظيم, ومن رحمته بعباده أن يرسل إليهم رسلا يلقي إليهم الوحي الذي يحيون به, فيكونون على بصيرة من أمرهم؛ لتخوِّف الرسل عباد الله, وتنذرهم يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون.
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 16 )
يوم القيامة تظهر الخلائق أمام ربهم, لا يخفى على الله منهم ولا مِن أعمالهم التي عملوها في الدنيا شيء, يقول الله سبحانه: لمن الملك والتصرف في هذا اليوم؟ فيجيب نفسه: لله المتفرد بأسمائه وصفاته وأفعاله, القهَّار الذي قهر جميع الخلائق بقدرته وعزته.
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 17 )
اليوم تثاب كل نفس بما كسبت في الدنيا من خير وشر, لا ظلم لأحد اليوم بزيادة في سيئاته أو نقص من حسناته. إن الله سبحانه وتعالى سريع الحساب, فلا تستبطئوا ذلك اليوم؛ فإنه قريب.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 )
وحذِّر - أيها الرسول- الناس من يوم القيامة القريب, وإن استبعدوه, إذ قلوب العباد مِن مخافة عقاب الله قد ارتفعت من صدورهم, فتعلقت بحلوقهم, وهم ممتلئون غمًّا وحزنًا. ما للظالمين من قريب ولا صاحب, ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم, فيستجاب له.
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 )
يعلم الله سبحانه ما تختلسه العيون من نظرات, وما يضمره الإنسان في نفسه من خير أو شر.
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )
والله سبحانه يقضي بين الناس بالعدل فيما يستحقونه, والذين يُعبدون من دون الله من الآلهة لا يقضون بشيء؛ لعجزهم عن ذلك. إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم, البصير بأفعالكم وأعمالكم، وسيجازيكم عليها.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 21 )
أولم يَسِرْ هؤلاء المكذبون برسالتك - أيها الرسول- في الأرض، فينظروا كيف كان خاتمة الأمم السابقة قبلهم؟ كانوا أشد منهم بطشًا, وأبقى في الأرض آثارًا, فلم تنفعهم شدة قواهم وعِظَم أجسامهم, فأخذهم الله بعقوبته؛ بسبب كفرهم واكتسابهم الآثام, وما كان لهم من عذاب الله من واق يقيهم منه, فيدفعه عنهم.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 22 )
ذلك العذاب الذي حلَّ بالمكذبين السابقين, كان بسبب موقفهم من رسل الله الذين جاؤوا بالدلائل القاطعة على صدق دعواهم, فكفروا بهم, وكذَّبوهم, فأخذهم الله بعقابه, إنه سبحانه قوي لا يغلبه أحد, شديد العقاب لمن كفر به وعصاه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 23 )
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا العظيمة الدالة على حقيقة ما أُرسل به, وحجة واضحة بيِّنة على صدقه في دعوته, وبطلان ما كان عليه مَن أُرسل إليهم.
إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 24 )
إلى فرعون ملك « مصر » , وهامان وزيره, وقارون صاحب الأموال والكنوز, فأنكروا رسالته واستكبروا, وقالوا عنه: إنه ساحر كذاب, فكيف يزعم أنه أُرسِل للناس رسولا؟
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 25 )
فلما جاء موسى فرعون وهامان وقارون بالمعجزات الظاهرة مِن عندنا, لم يكتفوا بمعارضتها وإنكارها, بل قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه, واستبقوا نساءهم للخدمة والاسترقاق. وما تدبير أهل الكفر إلا في ذَهاب وهلاك.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ( 26 )
وقال فرعون لأشراف قومه: اتركوني أقتل موسى, وليدع ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا, فيمنعه منا, إني أخاف أن يُبَدِّل دينكم الذي أنتم عليه, أو أن يُظْهِر في أرض « مصر » الفساد.
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 27 )
وقال موسى لفرعون وملئه: إني استجرت بربي وربكم- أيها القوم- من كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته, لا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه خلقه.
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 28 )
وقال رجل مؤمن بالله من آل فرعون, يكتم إيمانه منكرًا على قومه: كيف تستحلون قَتْلَ رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة مِن ربكم على صِدْق ما يقول؟ فإن يك موسى كاذبًا فإنَّ وبالَ كذبه عائد عليه وحده, وإن يك صادقًا لحقكم بعض الذي يتوعَّدكم به, إن الله لا يوفق للحق مَن هو متجاوز للحد, بترك الحق والإقبال على الباطل, كذَّاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 29 )
يا قوم لكم السلطان اليوم ظاهرين في أرض « مصر » على رعيتكم من بني إسرائيل وغيرهم, فمَن يدفع عنا عذاب الله إن حلَّ بنا؟ قال فرعون لقومه مجيبًا: ما أريكم- أيها الناس- من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحًا وصوابًا, وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ ( 30 )
وقال الرجل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه واعظًا ومحذرًا: إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى, مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على أنبيائهم.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ( 31 )
مثلَ عادة قوم نوح وعاد وثمود ومَن جاء بعدهم في الكفر والتكذيب, أهلكهم الله بسبب ذلك. وما الله سبحانه يريد ظلمًا للعباد, فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه. تعالى الله عن الظلم والنقص علوًا كبيرًا.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ( 32 )
ويا قوم إني أخاف عليكم عقاب يوم القيامة، يوم ينادي فيه بعض الناس بعضًا; من هول الموقف ذلك اليوم.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 )
يوم تولون ذاهبين هاربين, ما لكم من الله من مانع يمنعكم وناصر ينصركم. ومَن يخذله الله ولم يوفقه إلى رشده, فما له من هاد يهديه إلى الحق والصواب.
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ( 34 )
ولقد أرسل الله إليكم النبيَّ الكريم يوسف بن يعقوب عليهما السلام من قبل موسى, بالدلائل الواضحة على صدقه, وأمركم بعبادة الله وحده لا شريك له, فما زلتم مرتابين مما جاءكم به في حياته, حتى إذا مات ازداد شككم وشرككم, وقلتم : إن الله لن يرسل من بعده رسولا ، مثل ذلك الضلال يُضِلُّ الله كل متجاوز للحق, شاكٍّ في وحدانية الله تعالى, فلا يوفقه إلى الهدى والرشاد.
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ( 35 )
الذين يخاصمون في آيات الله وحججه لدفعها من غير أن يكون لديهم حجة مقبولة, كَبُر ذلك الجدال مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا, كما خَتَم بالضلال وحَجَبَ عن الهدى قلوب هؤلاء المخاصمين, يختم الله على قلب كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته, جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ( 36 ) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ( 37 )
وقال فرعون مكذِّبًا لموسى في دعوته إلى الإقرار برب العالمين والتسليم له: يا هامان ابْنِ لي بنًاء عظيمًا; لعلي أبلغ أبواب السماوات وما يوصلني إليها, فأنظر إلى إله موسى بنفسي, وإني لأظن موسى كاذبًا في دعواه أن لنا ربًا, وأنه فوق السماوات, وهكذا زُيَّن لفرعون عمله السيِّئ فرآه حسنًا, وصُدَّ عن سبيل الحق؛ بسبب الباطل الذي زُيِّن له, وما احتيال فرعون وتدبيره لإيهام الناس أنه محق, وموسى مبطل إلا في خسار وبوار, لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( 38 )
وقال الذي آمن معيدًا نصيحته لقومه : يا قوم اتبعون أهدكم طريق الرشد والصواب.
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ( 39 )
يا قوم إن هذه الحياة الدنيا حياة يتنعَّم الناس فيها قليلا ثم تنقطع وتزول, فينبغي ألا تَرْكَنوا إليها, وإن الدار الآخرة بما فيها من النعيم المقيم هي محل الإقامة التي تستقرون فيها, فينبغي لكم أن تؤثروها, وتعملوا لها العمل الصالح الذي يُسعِدكم فيها.
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 40 )
من عصى الله في حياته وانحرف عن طريق الهدى, فلا يُجْزى في الآخرة إلا عقابًا يساوي معصيته, ومَن أطاع الله وعمل صالحًا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, ذكرًا كان أو أنثى, وهو مؤمن بالله موحد له, فأولئك يدخلون الجنة, يرزقهم الله فيها من ثمارها ونعيمها ولذاتها بغير حساب.
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ( 41 )
ويا قوم كيف أدعوكم إلى الإيمان بالله واتباع رسوله موسى, وهي دعوة تنتهي بكم إلى الجنة والبعد عن أهوال النار, وأنتم تدعونني إلى عمل يؤدي إلى عذاب الله وعقوبته في النار؟
تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ( 42 )
تدعونني لأكفر بالله, وأشرك به ما ليس لي به علم أنه يستحق العبادة من دونه- وهذا من أكبر الذنوب وأقبحها- وأنا أدعوكم إلى الطريق الموصل إلى الله العزيز في انتقامه, الغفار لمن تاب إليه بعد معصيته.
لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( 43 )
حقًا أن ما تدعونني إلى الاعتقاد به لا يستحق الدعوة إليه, ولا يُلجأ إليه في الدنيا ولا في الآخرة لعجزه ونقصه, واعلموا أن مصير الخلائق كلها إلى الله سبحانه, وهو يجازي كل عامل بعمله, وأن الذين تعدَّوا حدوده بالمعاصي وسفك الدماء والكفر هم أهل النار.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 44 )
فلما نصحهم ولم يطيعوه قال لهم: فستذكرون أني نصحت لكم وذكَّرتكم, وسوف تندمون حيث لا ينفع الندم, وألجأ إلى الله, وأعتصم به, وأتوكل عليه. إن الله سبحانه وتعالى بصير بأحوال العباد, وما يستحقونه من جزاء, لا يخفى عليه شيء منها.
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ( 45 )
فوقى الله سبحانه ذلك الرجل المؤمن الموفَّق عقوبات مكر فرعون وآله, وحلَّ بهم سوء العذاب حيث أغرقهم الله عن آخرهم.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( 46 )
لقد أصابهم الغرق أولا وهلكوا, ثم يُعذَّبون في قبورهم حيث النار, يُعرضون عليها صباحًا ومساء إلى وقت الحساب, ويوم تقوم الساعة يقال: أدخلوا آل فرعون النار؛ جزاء ما اقترفوه من أعمال السوء. وهذه الآية أصل في إثبات عذاب القبر.
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ( 47 )
وإذ يتخاصم أهل النار, ويعاتب بعضهم بعضًا, فيحتجُّ الأتباع المقلدون على رؤسائهم المستكبرين الذين أضلُّوهم, وزيَّنوا لهم طريق الشقاء, قائلين لهم: هل أنتم مغنون عنا نصيبًا من النار بتحملكم قسطًا من عذابنا؟
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ( 48 )
قال الرؤساء المستكبرون مبيِّنين عجزهم: لا نتحمل عنكم شيئًا من عذاب النار, وكلُّنا فيها, لا خلاصَ لنا منها, إن الله قد قسم بيننا العذاب بقَدْر ما يستحق كلٌّ منا بقضائه العادل.
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( 49 )
وقال الذين في النار من المستكبرين والضعفاء لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يُخَفِّفْ عنا يومًا واحدًا من العذاب؛ كي تحصل لنا بعض الراحة.
قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 50 )
قال خزنة جهنم لهم توبيخًا: هذا الدعاء لا ينفعكم في شيء, أولم تأتكم رسلكم بالحجج الواضحة من الله فكذبتموهم؟ فاعترف الجاحدون بذلك وقالوا: بلى. فتبرأ خزنة جهنم منهم وقالوا: نحن لا ندعو لكم, ولا نشفع فيكم, فادعوا أنتم, ولكن هذا الدعاء لا يغني شيئًا؛ لأنكم كافرون. وما دعاء الكافرين إلا في ضياع لا يُقبل, ولا يُستجاب.
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ( 51 )
إنَّا لننصر رسلنا ومَن تبعهم من المؤمنين, ونؤيدهم على مَن آذاهم في حياتهم الدنيا, ويوم القيامة, يوم تشهد فيه الملائكة والأنبياء والمؤمنون على الأمم التي كذَّبت رسلها, فتشهد بأن الرسل قد بلَّغوا رسالات ربهم, وأن الأمم كذَّبتهم.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 52 )
يوم الحساب لا ينتفع الكافرون الذين تعدَّوا حدود الله بما يقدِّمونه من عذر لتكذيبهم رسل الله, ولهم الطرد من رحمة الله, ولهم الدار السيئة في الآخرة, وهي النار.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ( 53 ) هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ( 54 )
ولقد آتينا موسى ما يهدي إلى الحق من التوراة والمعجزات, وجعلنا بني إسرائيل يتوارثون التوراة خلفًا عن سلف, هادية إلى سبيل الرشاد, وموعظة لأصحاب العقول السليمة.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ( 55 )
فاصبر - أيها الرسول- على أذى المشركين, فقد وعدناك بإعلاء كلمتك, ووعْدُنا حق لا يتخلف, واستغفر لذنبك, ودُمْ على تنزيه ربك عمَّا لا يليق به, في آخر النهار وأوله.
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 56 )
إن الذين يدفعون الحق بالباطل، ويردُّون الحجج الصحيحة بالشُّبَه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ليس في صدور هؤلاء إلا تكبر عن الحق؛ حسدًا منهم على الفضل الذي آتاه الله نبيه، وكرامة النبوة التي أكرمه بها، وهو أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه, فاعتصم بالله من شرهم؛ إنه هو السميع لأقوالهم, البصير بأفعالهم، وسيجازيهم عليها.
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 57 )
لَخَلْق الله السموات والأرض أكبر من خَلْق الناس وإعادتهم بعد موتهم, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هيِّن على الله.
وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
وما يستوي الأعمى والبصير, وكذلك لا يستوي المؤمنون الذين يُقِرُّون بأن الله هو الإله الحق لا شريك له، ويستجيبون لرسله ويعملون بشرعه, والجاحدون الذين ينكرون أن الله هو الإله الحق، ويكذبون رسله ولا يعملون بشرعه. قليلا ما تتذكرون - أيها الناس- حجج الله, فتعتبرون, وتتعظون بها.
إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 59 )
إن الساعة لآتية لا شك فيها, فأيقنوا بمجيئها, كما أخبرتْ بذلك الرسل, ولكن أكثر الناس لا يُصَدِّقون بمجيئها, ولا يعملون لها.
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( 60 )
وقال ربكم- أيها العباد- : ادعوني وحدي وخصُّوني بالعبادة أستجب لكم, إن الذين يتكبرون عن إفرادي بالعبودية والألوهية, سيدخلون جهنم صاغرين حقيرين.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 61 )
الله وحده هو الذي جعل لكم الليل؛ لتسكنوا فيه, وتحققوا راحتكم, والنهار مضيئًا؛ لتُصَرِّفوا فيه أمور معاشكم. إن الله لذو فضل عظيم على الناس, ولكن أكثرهم لا يشكرون له بالطاعة وإخلاص العبادة.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 62 )
الذي أنعم عليكم بهذه النعم إنما هو ربكم خالق الأشياء كلها, لا إله يستحق العبادة غيره, فكيف تعدلون عن الإيمان به, وتعبدون غيره من الأوثان, بعد أن تبينت لكم دلائله؟
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 63 )
كما كذَّبتم بالحق - يا كفار قريش- وأعرضتم عنه إلى الباطل، يُصرف عن الحق والإيمان به الذين كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 64 )
الله الذي جعل لكم الأرض؛ لتستقروا فيها, ويسَّر لكم الإقامة عليها, وجعل السماء سقفًا للأرض, وبثَّ فيها من العلامات الهادية, وخلقكم في أكمل هيئة وأحسن تقويم, وأنعم عليكم بحلال الرزق ولذيذ المطاعم والمشارب, ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم هو ربكم, فتكاثر خيره وفضله وبركته, وتنزَّه عمَّا لا يليق به, وهو ربُّ الخلائق أجمعين.
هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 65 )
هو الله سبحانه الحي الذي له الحياة الكاملة التامة لا إله غيره, فاسألوه واصرفوا عبادتكم له وحده, مخلصين له دينكم وطاعتكم. فالحمد لله والثناء الكامل له رب الخلائق أجمعين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 66 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: إني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله, لـمَّا جاءني الآيات الواضحات من عند ربي, وأمرني أن أخضع وأنقاد بالطاعة التامة له, سبحانه رب العالمين.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 67 )
هو الله الذي خلق أباكم آدم من تراب, ثم أوجدكم من المنيِّ بقدرته, وبعد ذلك تنتقلون إلى طور الدم الغليظ الأحمر, ثم تجري عليكم أطوار متعددة في الأرحام, إلى أن تولدوا أطفالا صغارًا, ثم تقوى بِنْيَتُكم إلى أن تصيروا شيوخًا, ومنكم من يموت قبل ذلك, ولتبلغوا بهذه الأطوار المقدَّرة أجلا مسمى تنتهي عنده أعماركم, ولعلكم تعقلون حجج الله عليكم بذلك, وتتدبرون آياته, فتعرفون أنه لا إله غيره يفعل ذلك, وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 68 )
هو سبحانه المتفرد بالإحياء والإماتة, فإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: « كن » , فيكون, لا رادَّ لقضائه.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ( 69 )
ألا تعجب - أيها الرسول- من هؤلاء المكذِّبين بآيات الله يخاصمون فيها, وهي واضحة الدلالة على توحيد الله وقدرته, كيف يعدلون عنها مع صحتها؟ وإلى أيِّ شيء يذهبون بعد البيان التام؟
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 70 ) إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ( 71 ) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ( 72 )
هؤلاء المشركون الذين كذَّبوا بالقرآن والكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله لهداية الناس, فسوف يعلم هؤلاء المكذبون عاقبة تكذيبهم حين تُجعل الأغلال في أعناقهم, والسلاسل في أرجلهم, وتسحبهم زبانية العذاب في الماء الحار الذي اشتدَّ غليانه وحرُّه, ثم في نار جهنم يوقد بهم.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 73 ) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ( 74 )
ثم قيل لهم توبيخًا, وهم في هذه الحال التعيسة: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؟ هل ينصرونكم اليوم؟ فادعوهم؛ لينقذوكم من هذا البلاء الذي حلَّ بكم إن استطاعوا, قال المكذبون: غابوا عن عيوننا, فلم ينفعونا بشيء, ويعترفون بأنهم كانوا في جهالة من أمرهم, وأن عبادتهم لهم كانت باطلة لا تساوي شيئًا, كما أضل الله هؤلاء الذين ضلَّ عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله, يضل الله الكافرين به.
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ( 75 )
ذلكم العذاب الذي أصابكم إنما هو بسبب ما كنتم عليه في حياتكم الدنيا من غفلة, حيث كنتم تفرحون بما تقترفونه من المعاصي والآثام, وبما أنتم عليه من الأشَر والبَطَر والبغي على عباد الله.
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 76 )
ادخلوا أبواب جهنم عقوبة لكم على كفركم بالله ومعصيتكم له خالدين فيها, فبئست جهنم نزلا للمتكبرين في الدنيا على الله.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( 77 )
فاصبر أيها الرسول, وامض في طريق الدعوة, إن وعد الله حق, وسيُنْجِز لك ما وعدك, فإما نرينَّك في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب, أو نتوفينَّك قبل أن يحلَّ ذلك بهم, فإلينا مصيرهم يوم القيامة, وسنذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ( 78 )
ولقد أرسلنا مِن قبلك - أيها الرسول- رسلا كثيرين إلى قومهم يدعونهم, ويصبرون على أذاهم: منهم مَن قصصنا عليك خبرهم, ومنهم مَن لم نقصص عليك, وكلهم مأمورون بتبليغ وحي الله إليهم. وما كان لأحد منهم أن يأتي بآية من الآيات الحسية أو العقلية إلا بإذن الله ومشيئته, فإذا جاء أمر الله بعذاب المكذبين قُضِي بالعدل بين الرسل ومكذبيهم, وخسر هنالك المبطلون؛ لافترائهم على الله الكذب, وعبادتهم غيره.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 79 ) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 80 )
الله سبحانه هو الذي جعل لكم الأنعام؛ لتنتفعوا بها: من منافع الركوب والأكل وغيرها من أنواع المنافع, ولتبلغوا بالحمولة على بعضها حاجةً في صدوركم من الوصول إلى الأقطار البعيدة, وعلى هذه الأنعام تُحْمَلون في البرية, وعلى الفلك في البحر تُحْمَلون كذلك.
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ( 81 )
ويريكم الله تعالى دلائله الكثيرة الواضحة الدالة على قدرته وتدبيره في خلقه, فأي آية من آياته تنكرونها, ولا تعترفون بها؟
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )
أفلم يَسِرْ هؤلاء المكذبون في الأرض ويتفكروا في مصارع الأمم المكذبة من قبلهم, كيف كانت عاقبتهم؟ وكانت هذه الأمم السابقة أكثر منهم عددًا وعدة وآثارًا في الأرض من الأبنية والمصانع والغراس وغير ذلك, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبونه حين حلَّ بهم بأس الله.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 83 )
فلما جاءت هؤلاء الأمم المكذبة رسلُها بالدلائل الواضحات, فرحوا جهلا منهم بما عندهم من العلم المناقض لما جاءت به الرسل, وحلَّ بهم من العذاب ما كانوا يستعجلون به رسلَهم على سبيل السخرية والاستهزاء. وفي الآية دليل على أن كل علم يناقض الإسلام, أو يقدح فيه, أو يشكك في صحته, فإنه مذموم ممقوت, ومعتقده ليس من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( 84 )
فلما رأوا عذابنا أقرُّوا حين لا ينفع الإقرار, وقالوا: آمنا بالله وحده, وكفرنا بما كنا به مشركين في عبادة الله.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ( 85 )
فلم يك ينفعهم إيمانهم هذا حين رأوا عذابنا; وذلك لأنه إيمان قد اضطروا إليه, لا إيمان اختيار ورغبة, سنة الله وطريقته التي سنَّها في الأمم كلها أن لا ينفعها الإيمان إذا رأوا العذاب, وهلك عند مجيء بأس الله الكافرون بربهم, الجاحدون توحيده وطاعته.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة فصلت .. بن كثير
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 )
هذا القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم, نزَّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 )
كتاب بُيِّنت آياته تمام البيان، وَوُضِّحت معانيه وأحكامه, قرآنًا عربيًا ميسَّرًا فهمه لقوم يعلمون اللسان العربي.
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 4 )
بشيرًا بالثواب العاجل والآجل لمن آمن به وعمل بمقتضاه, ونذيرًا بالعقاب العاجل والآجل لمن كفر به, فأعرض عنه أكثر الناس, فهم لا يسمعون له سماع قَبول وإجابة.
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( 5 )
وقال هؤلاء المعرضون الكافرون للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: قلوبنا في أغطية مانعة لنا من فهم ما تدعونا إليه, وفي آذاننا صمم فلا نسمع, ومن بيننا وبينك- يا محمد- ساتر يحجبنا عن إجابة دعوتك, فاعمل على وَفْق دينك, كما أننا عاملون على وَفْق ديننا.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ( 6 ) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 7 )
قل لهم - أيها الرسول- : إنما أنا بشر مثلكم يوحي الله إليَّ أنما إلهكم الذي يستحق العبادة، إله واحد لا شريك له, فاسلكوا الطريق الموصل إليه, واطلبوا مغفرته. وعذاب للمشركين الذين عبدوا من دون الله أوثانًا لا تنفع ولا تضر, والذين لم يطهروا أنفسهم بتوحيد ربهم, والإخلاص له, ولم يصلُّوا ولم يزكَّوا, فلا إخلاص منهم للخالق ولا نفع فيهم للخلق, وهم لا يؤمنون بالبعث, ولا بالجنة والنار, ولا ينفقون في طاعة الله.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 8 )
إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه وعملوا الأعمال الصالحة مخلصين لله فيها, لهم ثواب عظيم غير مقطوع ولا ممنوع.
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين موبخًا لهم ومتعجبًا من فعلهم: أإنكم لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين اثنين, وتجعلون له نظراء وشركاء تعبدونهم معه؟ ذلك الخالق هو رب العالمين كلهم.
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( 10 )
وجعل سبحانه في الأرض جبالا ثوابت من فوقها, وبارك فيها فجعلها دائمة الخير لأهلها, وقدَّر فيها أرزاق أهلها من الغذاء, وما يصلحهم من المعاش في تمام أربعة أيام: يومان خلق فيهما الأرض, ويومان جعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها, سواء للسائلين أي: لمن أراد السؤال عن ذلك؛ ليعلمه.
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( 11 )
ثم استوى سبحانه وتعالى, أي قصد إلى السماء وكانت دخانًا من قبلُ, فقال للسماء وللأرض: انقادا لأمري مختارتين أو مجبرتين. قالتا: أتينا مذعنين لك, ليس لنا إرادة تخالف إرادتك.
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 12 )
فقضى الله خلق السماوات السبع وتسويتهن في يومين, فتم بذلك خلق السماوات والأرض في ستة أيام, لحكمة يعلمها الله, مع قدرته سبحانه على خلقهما في لحظة واحدة, وأوحى في كل سماء ما أراده وما أمر به فيها, وزيَّنا السماء الدنيا بالنجوم المضيئة, وحفظًا لها من الشياطين الذين يسترقون السمع, ذلك الخلق البديع تقدير العزيز في ملكه, العليم الذي أحاط علمه بكل شيء.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( 13 )
فإن أعرض هؤلاء المكذبون بعدما بُيَّن لهم من أوصاف القرآن الحميدة, ومن صفات الله العظيم, فقل لهم: قد أنذرتكم عذابًا يستأصلكم مثل عذاب عاد وثمود حين كفروا بربهم وعصوا رسله.
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 14 )
حين جاءت الرسل عادًا وثمود, يتبع بعضهم بعضًا متوالين, يأمرونهم بعبادة الله وحده لا شريك له, قالوا لرسلهم: لو شاء ربنا أن نوحده ولا نعبد من دونه شيئًا غيره, لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا إليه, ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا, فإنا بما أرسلكم الله به إلينا من الإيمان بالله وحده جاحدون.
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 15 )
فأما عاد قوم هود فقد استعلَوا في الأرض على العباد بغير حق, وقالوا في غرور: مَن أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله تعالى الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوة وبطشًا؟ وكانوا بأدلتنا وحججنا يجحدون.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ( 16 )
فأرسلنا عليهم ريحًا شديدة البرودة عالية الصوت في أيام مشؤومات عليهم؛ لنذيقهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا, ولَعذاب الآخرة أشد ذلا وهوانًا, وهم لا يُنْصَرون بمنع العذاب عنهم.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 17 )
وأما ثمود قوم صالح فقد بينَّا لهم سبيل الحق وطريق الرشد, فاختاروا العمى على الهدى, فأهلكتهم صاعقة العذاب المهين؛ بسبب ما كانوا يقترفون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 18 )
ونجَّينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذ عادًا وثمود, وكان هؤلاء الناجون يخافون الله ويتقونه.
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 19 ) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 20 )
ويوم يُحشر أعداء الله إلى نار جهنم, تَرُدُّ زبانية العذاب أولَهم على آخرهم, حتى إذا ما جاؤوا النار, وأنكروا جرائمهم شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا من الذنوب والآثام.
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 21 )
وقال هؤلاء الذين يُحْشرون إلى النار من أعداء الله لجلودهم معاتبين: لِمَ شهدتم علينا؟ فأجابتهم جلودهم: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء, وهو الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئًا, وإليه مصيركم بعد الموت للحساب والجزاء.
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 22 ) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )
وما كنتم تَسْتَخْفون عند ارتكابكم المعاصي؛ خوفًا من أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم يوم القيامة, ولكن ظننتم بارتكابكم المعاصي أن الله لا يعلم كثيرًا من أعمالكم التي تعصون الله بها. وذلكم ظنكم السيِّئ الذي ظننتموه بربكم أهلككم, فأوردكم النار, فأصبحتم اليوم من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ( 24 )
فإن يصبروا على العذاب فالنار مأواهم, وإن يسألوا الرجوع إلى الدنيا؛ ليستأنفوا العمل الصالح لا يُجابوا إلى ذلك, ولا تُقبل لهم أعذار.
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 25 )
وهيأنا لهؤلاء الظالمين الجاحدين قرناء فاسدين من شياطين الإنس والجن, فزينوا لهم قبائح أعمالهم في الدنيا, ودعَوهم إلى لذاتها وشهواتها المحرمة, وزَيَّنوا لهم ما خَلْفهم من أمور الآخرة, فأنسوهم ذِكرها, ودعَوهم إلى التكذيب بالمعاد, وبذلك استحقوا دخول النار في جملة أمم سابقة من كفرة الجن والإنس, إنهم كانوا خاسرين أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( 26 )
وقال الكافرون بعضهم لبعض متواصين فيما بينهم: لا تسمعوا لهذا القرآن, ولا تطيعوه، ولا تنقادوا لأوامره, وارفعوا أصواتكم بالصياح والصفير والتخليط على محمد إذا قرأ القرآن؛ لعلكم تغلبونه, فيترك القراءة, وننتصر عليه.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 27 )
فلنذيقن الذين قالوا هذا القول عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة, ولنجزينهم أسوأ ما كانوا يعملون من السيئات.
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 28 )
هذا الجزاء الذي يُجزى به هؤلاء الذين كفروا جزاء أعداء الله النار, لهم فيها دار الخلود الدائم؛ جزاء بما كانوا بحججنا وأدلتنا يجحدون في الدنيا. والآية دالة على عظم جريمة من صرف الناس عن القرآن العظيم, وصدهم عن تدبره وهدايته بأيِّ وسيلة كانت.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ( 29 )
وقال الذين كفروا بالله ورسوله, وهم في النار: ربنا أرنا اللذَين أضلانا من خلقك من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا؛ ليكونا في الدرك الأسفل من النار.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 )
إن الذين قالوا ربنا الله تعالى وحده لا شريك له, ثم استقاموا على شريعته, تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قائلين لهم: لا تخافوا من الموت وما بعده, ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من أمور الدنيا, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31 ) نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ( 32 )
وتقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم في الحياة الدنيا، نسددكم ونحفظكم بأمر الله, وكذلك نكون معكم في الآخرة, ولكم في الجنة كل ما تشتهيه أنفسكم مما تختارونه, وتَقَرُّ به أعينكم, ومهما طلبتم من شيء وجدتموه بين أيديكم ضيافة وإنعامًا لكم مِن غفور لذنوبكم, رحيم بكم.
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 )
لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه, وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة, وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 )
ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله, واستقاموا على شرعه, وأحسنوا إلى خلقه, وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره, وأساؤوا إلى خلقه. ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك, وقابل إساءته لك بالإحسان إليه, فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك. وما يُوفَّق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره, وأجبروها على ما يحبه الله, وما يُوفَّق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 36 )
وإما يلقينَّ الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس لحملك على مجازاة المسيء بالإساءة, فاستجر بالله واعتصم به, إن الله هو السميع لاستعاذتك به, العليم بأمور خلقه جميعها.
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 37 )
ومِن حجج الله على خلقه, ودلائله على وحدانيته وكمال قدرته اختلاف الليل والنهار, وتعاقبهما, واختلاف الشمس والقمر وتعاقبهما, كل ذلك تحت تسخيره وقهره. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر- فإنهما مدَبَّران مخلوقان- واسجدوا لله الذي خلقهن, إن كنتم حقًّا منقادين لأمره سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ( 38 )
فإن استكبر هؤلاء المشركون عن السجود لله, فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك, بل يسبحون له, وينزِّهونه عن كل نقص بالليل والنهار, وهم لا يَفْتُرون عن ذلك, ولا يملون.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )
ومن علامات وحدانية الله وقدرته: أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها المطر دبَّت فيها الحياة, وتحركت بالنبات, وانتفخت وعلت, إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها, قادر على إحياء الخلق بعد موتهم, إنه على كل شيء قدير, فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها, فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 )
إن الذين يميلون عن الحق, فيكفرون بالقرآن ويحرفونه, لا يَخْفَون علينا, بل نحن مُطَّلعون عليهم. أفهذا الملحد في آيات الله الذي يُلقى في النار خير, أم الذي يأتي يوم القيامة آمنًا من عذاب الله, مستحقًا لثوابه; لإيمانه به وتصديقه بآياته؟ اعملوا- أيها الملحدون- ما شئتم, فإن الله تعالى بأعمالكم بصير, لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازيكم على ذلك. وفي هذا وعيد وتهديد لهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 )
إن الذين جحدوا بهذا القرآن وكذَّبوا به حين جاءهم هالكون ومعذَّبون, وإن هذا القرآن لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه وحفظه له من كل تغيير أو تبديل, لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه ولا يبطله شيء, فهو محفوظ من أن يُنقص منه, أو يزاد فيه, تنزيل من حكيم بتدبير أمور عباده, محمود على ما له من صفات الكمال.
مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 )
ما يقول لك هؤلاء المشركون - أيها الرسول- إلا ما قد قاله مَن قبلهم مِنَ الأمم لرسلهم, فاصبر على ما ينالك في سبيل الدعوة إلى الله. إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين, وذو عقاب لمن أصرَّ على كفره وتكذيبه.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 )
ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه عليك - أيها الرسول- أعجميًا, لقال المشركون: هلا بُيِّنتْ آياته, فنفقهه ونعلمه, أأعجمي هذا القرآن, ولسان الذي أنزل عليه عربي؟ هذا لا يكون. قل لهم - أيها الرسول- : هذا القرآن للذين آمنوا بالله ورسوله هدى من الضلالة, وشفاء لما في الصدور من الشكوك والأمراض, والذين لا يؤمنون بالقرآن في آذانهم صمم من سماعه وتدبره, وهو على قلوبهم عَمًى, فلا يهتدون به, أولئك المشركون كمن يُنادى, وهو في مكان بعيد لا يسمع داعيًا, ولا يجيب مناديًا.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 45 )
ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك - أيها الرسول- القرآن فاختلف فيها قومه: فمنهم مَن آمن, ومنهم مَن كذَّب. ولولا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العذاب عن قومك لفُصِل بينهم بإهلاك الكافرين في الحال, وإن المشركين لفي شك من القرآن شديد الريبة.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 )
من عمل صالحًا فأطاع الله ورسوله فلنفسه ثواب عمله, ومن أساء فعصى الله ورسوله فعلى نفسه وزر عمله. وما ربك بظلام للعبيد, بنقص حسنة أو زيادة سيِّئة.
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ( 47 )
إلى الله تعالى وحده لا شريك له يُرْجَع علم الساعة, فإنه لا يعلم أحد متى قيامها غيره, وما تخرج من ثمرات من أوعيتها, وما تحمل مِن أنثى ولا تضع حَمْلها إلا بعلم من الله, لا يخفى عليه شيء من ذلك. ويوم ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة توبيخًا لهم وإظهارًا لكذبهم: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟ قالوا: أعلمناك الآن ما منا من أحد يشهد اليوم أن معك شريكًا.
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 48 )
وذهب عن هؤلاء المشركين شركاؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله, فلم ينفعوهم, وأيقنوا أن لا ملجأ لهم من عذاب الله, ولا محيد عنه.
لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( 49 )
لا يملُّ الإنسان من دعاء ربه طالبًا الخير الدنيوي, وإن أصابه فقر وشدة فهو يؤوس من رحمة الله, قنوط بسوء الظن بربه.
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 50 )
ولئن أذقنا الإنسان نعمة منا من بعد شدة وبلاء لم يشكر الله تعالى, بل يطغى ويقول: أتاني هذا؛ لأني مستحق له, وما أعتقد أن الساعة آتية, وذلك إنكار منه للبعث, وعلى تقدير إتيان الساعة وأني سأرجع إلى ربي, فإن لي عنده الجنة, فلنخبرن الذين كفروا يوم القيامة بما عملوا من سيئات, ولنذيقنهم من العذاب الشديد.
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ( 51 )
وإذا أنعمنا على الإنسان بصحة أو رزق أو غيرهما أعرض وترفَّع عن الانقياد إلى الحق، فإن أصابه ضر فهو ذو دعاء كثير بأن يكشف الله ضرَّه, فهو يعرف ربه في الشدة, ولا يعرفه في الرخاء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 52 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم جحدتم وكذَّبتم به, لا أحد أضل منكم؛ لأنكم في خلاف بعيد عن الحق بكفركم بالقرآن وتكذيبكم به.
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 53 )
سَنُري هؤلاء المكذبين آياتنا من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، وفي أقطار السماوات والأرض, وما يحدثه الله فيهما من الحوادث العظيمة, وفي أنفسهم وما اشتملت عليه من بديع آيات الله وعجائب صنعه, حتى يتبين لهم من تلك الآيات بيان لا يقبل الشك أن القرآن الكريم هو الحق الموحَى به من رب العالمين. أولم يكفهم دليلا على أن القرآن حق, ومَن جاء به صادق, شهادة الله تعالى؟ فإنه قد شهد له بالتصديق, وهو على كل شيء شهيد, ولا شيء أكبر شهادة من شهادته سبحانه وتعالى.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ( 54 )
ألا إن هؤلاء الكافرين في شك عظيم من البعث بعد الممات. ألا إن الله- جلَّ وعلا- بكل شيء محيط علمًا وقدرة وعزةً, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 2 )
هذا القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم, نزَّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 3 )
كتاب بُيِّنت آياته تمام البيان، وَوُضِّحت معانيه وأحكامه, قرآنًا عربيًا ميسَّرًا فهمه لقوم يعلمون اللسان العربي.
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 4 )
بشيرًا بالثواب العاجل والآجل لمن آمن به وعمل بمقتضاه, ونذيرًا بالعقاب العاجل والآجل لمن كفر به, فأعرض عنه أكثر الناس, فهم لا يسمعون له سماع قَبول وإجابة.
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( 5 )
وقال هؤلاء المعرضون الكافرون للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: قلوبنا في أغطية مانعة لنا من فهم ما تدعونا إليه, وفي آذاننا صمم فلا نسمع, ومن بيننا وبينك- يا محمد- ساتر يحجبنا عن إجابة دعوتك, فاعمل على وَفْق دينك, كما أننا عاملون على وَفْق ديننا.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ( 6 ) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 7 )
قل لهم - أيها الرسول- : إنما أنا بشر مثلكم يوحي الله إليَّ أنما إلهكم الذي يستحق العبادة، إله واحد لا شريك له, فاسلكوا الطريق الموصل إليه, واطلبوا مغفرته. وعذاب للمشركين الذين عبدوا من دون الله أوثانًا لا تنفع ولا تضر, والذين لم يطهروا أنفسهم بتوحيد ربهم, والإخلاص له, ولم يصلُّوا ولم يزكَّوا, فلا إخلاص منهم للخالق ولا نفع فيهم للخلق, وهم لا يؤمنون بالبعث, ولا بالجنة والنار, ولا ينفقون في طاعة الله.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 8 )
إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه وعملوا الأعمال الصالحة مخلصين لله فيها, لهم ثواب عظيم غير مقطوع ولا ممنوع.
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 9 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين موبخًا لهم ومتعجبًا من فعلهم: أإنكم لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين اثنين, وتجعلون له نظراء وشركاء تعبدونهم معه؟ ذلك الخالق هو رب العالمين كلهم.
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ( 10 )
وجعل سبحانه في الأرض جبالا ثوابت من فوقها, وبارك فيها فجعلها دائمة الخير لأهلها, وقدَّر فيها أرزاق أهلها من الغذاء, وما يصلحهم من المعاش في تمام أربعة أيام: يومان خلق فيهما الأرض, ويومان جعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها, سواء للسائلين أي: لمن أراد السؤال عن ذلك؛ ليعلمه.
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( 11 )
ثم استوى سبحانه وتعالى, أي قصد إلى السماء وكانت دخانًا من قبلُ, فقال للسماء وللأرض: انقادا لأمري مختارتين أو مجبرتين. قالتا: أتينا مذعنين لك, ليس لنا إرادة تخالف إرادتك.
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 12 )
فقضى الله خلق السماوات السبع وتسويتهن في يومين, فتم بذلك خلق السماوات والأرض في ستة أيام, لحكمة يعلمها الله, مع قدرته سبحانه على خلقهما في لحظة واحدة, وأوحى في كل سماء ما أراده وما أمر به فيها, وزيَّنا السماء الدنيا بالنجوم المضيئة, وحفظًا لها من الشياطين الذين يسترقون السمع, ذلك الخلق البديع تقدير العزيز في ملكه, العليم الذي أحاط علمه بكل شيء.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( 13 )
فإن أعرض هؤلاء المكذبون بعدما بُيَّن لهم من أوصاف القرآن الحميدة, ومن صفات الله العظيم, فقل لهم: قد أنذرتكم عذابًا يستأصلكم مثل عذاب عاد وثمود حين كفروا بربهم وعصوا رسله.
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 14 )
حين جاءت الرسل عادًا وثمود, يتبع بعضهم بعضًا متوالين, يأمرونهم بعبادة الله وحده لا شريك له, قالوا لرسلهم: لو شاء ربنا أن نوحده ولا نعبد من دونه شيئًا غيره, لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا إليه, ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا, فإنا بما أرسلكم الله به إلينا من الإيمان بالله وحده جاحدون.
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 15 )
فأما عاد قوم هود فقد استعلَوا في الأرض على العباد بغير حق, وقالوا في غرور: مَن أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله تعالى الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوة وبطشًا؟ وكانوا بأدلتنا وحججنا يجحدون.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ( 16 )
فأرسلنا عليهم ريحًا شديدة البرودة عالية الصوت في أيام مشؤومات عليهم؛ لنذيقهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا, ولَعذاب الآخرة أشد ذلا وهوانًا, وهم لا يُنْصَرون بمنع العذاب عنهم.
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 17 )
وأما ثمود قوم صالح فقد بينَّا لهم سبيل الحق وطريق الرشد, فاختاروا العمى على الهدى, فأهلكتهم صاعقة العذاب المهين؛ بسبب ما كانوا يقترفون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 18 )
ونجَّينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذ عادًا وثمود, وكان هؤلاء الناجون يخافون الله ويتقونه.
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 19 ) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 20 )
ويوم يُحشر أعداء الله إلى نار جهنم, تَرُدُّ زبانية العذاب أولَهم على آخرهم, حتى إذا ما جاؤوا النار, وأنكروا جرائمهم شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا من الذنوب والآثام.
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 21 )
وقال هؤلاء الذين يُحْشرون إلى النار من أعداء الله لجلودهم معاتبين: لِمَ شهدتم علينا؟ فأجابتهم جلودهم: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء, وهو الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئًا, وإليه مصيركم بعد الموت للحساب والجزاء.
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 22 ) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )
وما كنتم تَسْتَخْفون عند ارتكابكم المعاصي؛ خوفًا من أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم يوم القيامة, ولكن ظننتم بارتكابكم المعاصي أن الله لا يعلم كثيرًا من أعمالكم التي تعصون الله بها. وذلكم ظنكم السيِّئ الذي ظننتموه بربكم أهلككم, فأوردكم النار, فأصبحتم اليوم من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ( 24 )
فإن يصبروا على العذاب فالنار مأواهم, وإن يسألوا الرجوع إلى الدنيا؛ ليستأنفوا العمل الصالح لا يُجابوا إلى ذلك, ولا تُقبل لهم أعذار.
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 25 )
وهيأنا لهؤلاء الظالمين الجاحدين قرناء فاسدين من شياطين الإنس والجن, فزينوا لهم قبائح أعمالهم في الدنيا, ودعَوهم إلى لذاتها وشهواتها المحرمة, وزَيَّنوا لهم ما خَلْفهم من أمور الآخرة, فأنسوهم ذِكرها, ودعَوهم إلى التكذيب بالمعاد, وبذلك استحقوا دخول النار في جملة أمم سابقة من كفرة الجن والإنس, إنهم كانوا خاسرين أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( 26 )
وقال الكافرون بعضهم لبعض متواصين فيما بينهم: لا تسمعوا لهذا القرآن, ولا تطيعوه، ولا تنقادوا لأوامره, وارفعوا أصواتكم بالصياح والصفير والتخليط على محمد إذا قرأ القرآن؛ لعلكم تغلبونه, فيترك القراءة, وننتصر عليه.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 27 )
فلنذيقن الذين قالوا هذا القول عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة, ولنجزينهم أسوأ ما كانوا يعملون من السيئات.
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 28 )
هذا الجزاء الذي يُجزى به هؤلاء الذين كفروا جزاء أعداء الله النار, لهم فيها دار الخلود الدائم؛ جزاء بما كانوا بحججنا وأدلتنا يجحدون في الدنيا. والآية دالة على عظم جريمة من صرف الناس عن القرآن العظيم, وصدهم عن تدبره وهدايته بأيِّ وسيلة كانت.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ ( 29 )
وقال الذين كفروا بالله ورسوله, وهم في النار: ربنا أرنا اللذَين أضلانا من خلقك من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا؛ ليكونا في الدرك الأسفل من النار.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 )
إن الذين قالوا ربنا الله تعالى وحده لا شريك له, ثم استقاموا على شريعته, تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قائلين لهم: لا تخافوا من الموت وما بعده, ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم من أمور الدنيا, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31 ) نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ( 32 )
وتقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم في الحياة الدنيا، نسددكم ونحفظكم بأمر الله, وكذلك نكون معكم في الآخرة, ولكم في الجنة كل ما تشتهيه أنفسكم مما تختارونه, وتَقَرُّ به أعينكم, ومهما طلبتم من شيء وجدتموه بين أيديكم ضيافة وإنعامًا لكم مِن غفور لذنوبكم, رحيم بكم.
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 )
لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه, وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة, وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 )
ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله, واستقاموا على شرعه, وأحسنوا إلى خلقه, وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره, وأساؤوا إلى خلقه. ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك, وقابل إساءته لك بالإحسان إليه, فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك. وما يُوفَّق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره, وأجبروها على ما يحبه الله, وما يُوفَّق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 36 )
وإما يلقينَّ الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس لحملك على مجازاة المسيء بالإساءة, فاستجر بالله واعتصم به, إن الله هو السميع لاستعاذتك به, العليم بأمور خلقه جميعها.
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 37 )
ومِن حجج الله على خلقه, ودلائله على وحدانيته وكمال قدرته اختلاف الليل والنهار, وتعاقبهما, واختلاف الشمس والقمر وتعاقبهما, كل ذلك تحت تسخيره وقهره. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر- فإنهما مدَبَّران مخلوقان- واسجدوا لله الذي خلقهن, إن كنتم حقًّا منقادين لأمره سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ( 38 )
فإن استكبر هؤلاء المشركون عن السجود لله, فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك, بل يسبحون له, وينزِّهونه عن كل نقص بالليل والنهار, وهم لا يَفْتُرون عن ذلك, ولا يملون.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )
ومن علامات وحدانية الله وقدرته: أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها المطر دبَّت فيها الحياة, وتحركت بالنبات, وانتفخت وعلت, إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها, قادر على إحياء الخلق بعد موتهم, إنه على كل شيء قدير, فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها, فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 )
إن الذين يميلون عن الحق, فيكفرون بالقرآن ويحرفونه, لا يَخْفَون علينا, بل نحن مُطَّلعون عليهم. أفهذا الملحد في آيات الله الذي يُلقى في النار خير, أم الذي يأتي يوم القيامة آمنًا من عذاب الله, مستحقًا لثوابه; لإيمانه به وتصديقه بآياته؟ اعملوا- أيها الملحدون- ما شئتم, فإن الله تعالى بأعمالكم بصير, لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازيكم على ذلك. وفي هذا وعيد وتهديد لهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 )
إن الذين جحدوا بهذا القرآن وكذَّبوا به حين جاءهم هالكون ومعذَّبون, وإن هذا القرآن لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه وحفظه له من كل تغيير أو تبديل, لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه ولا يبطله شيء, فهو محفوظ من أن يُنقص منه, أو يزاد فيه, تنزيل من حكيم بتدبير أمور عباده, محمود على ما له من صفات الكمال.
مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ( 43 )
ما يقول لك هؤلاء المشركون - أيها الرسول- إلا ما قد قاله مَن قبلهم مِنَ الأمم لرسلهم, فاصبر على ما ينالك في سبيل الدعوة إلى الله. إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين, وذو عقاب لمن أصرَّ على كفره وتكذيبه.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 )
ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه عليك - أيها الرسول- أعجميًا, لقال المشركون: هلا بُيِّنتْ آياته, فنفقهه ونعلمه, أأعجمي هذا القرآن, ولسان الذي أنزل عليه عربي؟ هذا لا يكون. قل لهم - أيها الرسول- : هذا القرآن للذين آمنوا بالله ورسوله هدى من الضلالة, وشفاء لما في الصدور من الشكوك والأمراض, والذين لا يؤمنون بالقرآن في آذانهم صمم من سماعه وتدبره, وهو على قلوبهم عَمًى, فلا يهتدون به, أولئك المشركون كمن يُنادى, وهو في مكان بعيد لا يسمع داعيًا, ولا يجيب مناديًا.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 45 )
ولقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك - أيها الرسول- القرآن فاختلف فيها قومه: فمنهم مَن آمن, ومنهم مَن كذَّب. ولولا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العذاب عن قومك لفُصِل بينهم بإهلاك الكافرين في الحال, وإن المشركين لفي شك من القرآن شديد الريبة.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 46 )
من عمل صالحًا فأطاع الله ورسوله فلنفسه ثواب عمله, ومن أساء فعصى الله ورسوله فعلى نفسه وزر عمله. وما ربك بظلام للعبيد, بنقص حسنة أو زيادة سيِّئة.
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ( 47 )
إلى الله تعالى وحده لا شريك له يُرْجَع علم الساعة, فإنه لا يعلم أحد متى قيامها غيره, وما تخرج من ثمرات من أوعيتها, وما تحمل مِن أنثى ولا تضع حَمْلها إلا بعلم من الله, لا يخفى عليه شيء من ذلك. ويوم ينادي الله تعالى المشركين يوم القيامة توبيخًا لهم وإظهارًا لكذبهم: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟ قالوا: أعلمناك الآن ما منا من أحد يشهد اليوم أن معك شريكًا.
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 48 )
وذهب عن هؤلاء المشركين شركاؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله, فلم ينفعوهم, وأيقنوا أن لا ملجأ لهم من عذاب الله, ولا محيد عنه.
لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ( 49 )
لا يملُّ الإنسان من دعاء ربه طالبًا الخير الدنيوي, وإن أصابه فقر وشدة فهو يؤوس من رحمة الله, قنوط بسوء الظن بربه.
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 50 )
ولئن أذقنا الإنسان نعمة منا من بعد شدة وبلاء لم يشكر الله تعالى, بل يطغى ويقول: أتاني هذا؛ لأني مستحق له, وما أعتقد أن الساعة آتية, وذلك إنكار منه للبعث, وعلى تقدير إتيان الساعة وأني سأرجع إلى ربي, فإن لي عنده الجنة, فلنخبرن الذين كفروا يوم القيامة بما عملوا من سيئات, ولنذيقنهم من العذاب الشديد.
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ( 51 )
وإذا أنعمنا على الإنسان بصحة أو رزق أو غيرهما أعرض وترفَّع عن الانقياد إلى الحق، فإن أصابه ضر فهو ذو دعاء كثير بأن يكشف الله ضرَّه, فهو يعرف ربه في الشدة, ولا يعرفه في الرخاء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 52 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المكذبين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم جحدتم وكذَّبتم به, لا أحد أضل منكم؛ لأنكم في خلاف بعيد عن الحق بكفركم بالقرآن وتكذيبكم به.
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 53 )
سَنُري هؤلاء المكذبين آياتنا من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، وفي أقطار السماوات والأرض, وما يحدثه الله فيهما من الحوادث العظيمة, وفي أنفسهم وما اشتملت عليه من بديع آيات الله وعجائب صنعه, حتى يتبين لهم من تلك الآيات بيان لا يقبل الشك أن القرآن الكريم هو الحق الموحَى به من رب العالمين. أولم يكفهم دليلا على أن القرآن حق, ومَن جاء به صادق, شهادة الله تعالى؟ فإنه قد شهد له بالتصديق, وهو على كل شيء شهيد, ولا شيء أكبر شهادة من شهادته سبحانه وتعالى.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ( 54 )
ألا إن هؤلاء الكافرين في شك عظيم من البعث بعد الممات. ألا إن الله- جلَّ وعلا- بكل شيء محيط علمًا وقدرة وعزةً, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الشورى .. بن كثير
=====
حم ( 1 ) عسق ( 2 )
( حم * عسق ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 )
كما أنزل الله إليك - أيها النبي- هذا القرآن أنزل الكتب والصحف على الأنبياء من قبلك، وهو العزيز في انتقامه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 )
لله وحده ما في السماوات وما في الأرض، وهو العليُّ بذاته وقدره وقهره، العظيم الذي له العظمة والكبرياء.
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 5 )
تكاد السماوات يتشقَّقْنَ، كل واحدة فوق التي تليها؛ من عظمة الرحمن وجلاله تبارك وتعالى, والملائكة يسبحون بحمد ربهم, وينزهونه عما لا يليق به، ويسألون ربهم المغفرة لذنوب مَن في الأرض مِن أهل الإيمان به. ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده, الرحيم بهم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 6 )
والذين اتخذوا غير الله آلهة مِن دونه يتولَّونها, ويعبدونها، الله تعالى يحفظ عليهم أفعالهم؛ ليجازيهم بها يوم القيامة، وما أنت - أيها الرسول- بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم, إنما أنت منذر, فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ( 7 )
وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحَيْنا إليك قرآنا عربيًّا؛ لتنذر أهل « مكة » ومَن حولها مِن سائر الناس، وتنذر عذاب يوم الجمع، وهو يوم القيامة, لا شك في مجيئه. الناس فيه فريقان: فريق في الجنة, وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم فريق في النار المستعرة, وهم الذين كفروا بالله, وخالفوا ما جاءهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 8 )
ولو شاء الله أن يجمع خَلْقَه على الهدى ويجعلهم على ملة واحدة مهتدية لفعل, ولكنه أراد أن يُدخل في رحمته مَن يشاء مِن خواص خلقه. والظالمون أنفسهم بالشرك ما لهم من وليٍّ يتولى أمورهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله تعالى.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 9 )
بل اتخذ هؤلاء المشركون أولياء من دون الله يتولونهم, فالله وحده هو الوليُّ يتولاه عَبْدُه بالعبادة والطاعة، ويتولَّى عباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور وإعانتهم في جميع أمورهم, وهو يحيي الموتى عند البعث، وهو على كل شيء قدير, لا يعجزه شيء .
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 10 )
وما اختلفتم فيه- أيها الناس- من شيء من أمور دينكم, فالحكم فيه مردُّه إلى الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ذلكم الله ربي وربكم، عليه وحده توكلت في أموري، وإليه أرجع في جميع شؤوني.
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 11 )
الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما بقدرته ومشيئته وحكمته, جعل لكم من أنفسكم أزواجًا؛ لتسكنوا إليها, وجعل لكم من الأنعام أزواجًا ذكورًا وإناثًا, يكثركم بسببه بالتوالد, ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته, لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ لأن أسماءه كلَّها حسنى, وصفاتِه صفات كمال وعظمة, وأفعالَه تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، وهو السميع البصير, لا يخفى عليه مِن أعمال خلقه وأقوالهم شيء, وسيجازيهم على ذلك.
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 12 )
له سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، يوسِّع رزقه على مَن يشاء مِن عباده ويضيِّقه على مَن يشاء, إنه تبارك وتعالى بكل شيء عليم, لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ( 13 )
شرع الله لكم- أيها الناس- من الدِّين الذي أوحيناه إليك - أيها الرسول، وهو الإسلام- ما وصَّى به نوحًا أن يعمله ويبلغه, وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ( هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل على المشهور ) أن أقيموا الدين بالتوحيد وطاعة الله وعبادته دون مَن سواه، ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتكم به, عَظُمَ على المشركين ما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له, الله يصطفي للتوحيد مَن يشاء مِن خلقه، ويوفِّق للعمل بطاعته مَن يرجع إليه.
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 14 )
وما تفرَّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا شيعًا وأحزابًا إلا مِن بعد ما جاءهم العلم وقامت الحجة عليهم, وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد, ولولا كلمة سبقت من ربك - أيها الرسول- بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة, لقضي بينهم بتعجيل عذاب الكافرين منهم. وإن الذين أورثوا التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك من الدين والإيمان موقعٍ في الريبة والاختلاف المذموم.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 )
فإلى ذلك الدين القيِّم الذي شرعه الله للأنبياء ووصَّاهم به, فادع - أيها الرسول- عباد الله, واستقم كما أمرك الله، ولا تتبع أهواء الذين شكُّوا في الحق وانحرفوا عن الدين, وقل: صدَّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء, وأمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم, الله ربنا وربكم، لنا ثواب أعمالنا الصالحة, ولكم جزاء أعمالكم السيئة, لا خصومة ولا جدال بيننا وبينكم بعدما تبين الحق, الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه, وإليه المرجع والمآب, فيجازي كلا بما يستحق.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 16 )
والذين يجادلون في دين الله الذي أرسلتُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم، مِن بعد ما استجاب الناس له وأسلموا, حجتهم ومجادلتهم باطلة ذاهبة عند ربهم, وعليهم من الله غضب في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب شديد, وهو النار.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( 17 )
الله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنزلة بالصدق, وأنزل الميزان وهو العدل؛ ليحكم بين الناس بالإنصاف. وأي شيء يدريك ويُعْلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب؟
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 18 )
يستعجل بمجيء الساعة الذين لا يؤمنون بها؛ تهكمًا واستهزاءً، والذين آمنوا بها خائفون من قيامها, ويعلمون أنها الحق الذي لا شك فيه. ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 19 )
الله لطيف بعباده، يوسِّع الرزق على مَن يشاء, ويضيِّقه على مَن يشاء وَفْق حكمته سبحانه, وهو القوي الذي له القوة كلها, العزيز في انتقامه من أهل معاصيه.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( 20 )
من كان يريد بعمله ثواب الآخرة فأدى حقوق الله وأنفق في الدعوة إلى الدين، نزد له في عمله الحسن، فنضاعف له ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها إلى ما شاء الله من الزيادة, ومن كان يريد بعمله الدنيا وحدها، نؤته منها ما قسمناه له, وليس له في الآخرة شيء من الثواب.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 21 )
بل ألهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم, ابتدعوا لهم من الدين والشرك ما لم يأذن به الله؟ ولولا قضاء الله وقدره بإمهالهم, وأن لا يعجل لهم العذاب في الدنيا, لقضي بينهم بتعجيل العذاب لهم. وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 22 )
ترى - أيها الرسول- الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمال خبيثة، والعذاب نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة، والذين آمنوا بالله وأطاعوه في بساتين الجنات وقصورها ونعيم الآخرة، لهم ما تشتهيه أنفسهم عند ربهم, ذلك الذي أعطاه الله لهم من الفضل والكرامة هو الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي إليه العقول.
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 23 )
ذلك الذي أخبرتكم به- أيها الناس- من النعيم والكرامة في الآخرة هو البشرى التي يبشر الله بها عباده الذين آمنوا به في الدنيا وأطاعوه. قل - أيها الرسول- للذين يشكون في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به عوضًا من أموالكم, إلا أن تَوَدُّوني في قرابتي منكم, وتَصِلوا الرحم التي بيني وبينكم. ومن يكتسب حسنة نضاعفها له بعشر فصاعدًا. إن الله غفور لذنوب عباده, شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 24 )
بل أيقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد الكذب على الله, فجاء بالذي يتلوه علينا اختلاقًا من عند نفسه؟ فإن يشأ الله يطبع على قلبك - أيها الرسول- لو فعلت ذلك. ويُذْهِبُ الله الباطل فيمحقه، ويحق الحق بكلماته التي لا تتبدل ولا تتغيَّر، وبوعده الصادق الذي لا يتخلف. إن الله عليم بما في قلوب العباد، لا يخفى عليه شيء منه.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( 25 )
والله سبحانه وتعالى هو الذي يقبل التوبة عن عباده إذا رجعوا إلى توحيد الله وطاعته، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تصنعون من خير وشر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو مجازيكم به.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 26 )
ويستجيب الذين آمنوا بالله ورسوله لربهم لِمَا دعاهم إليه وينقادون له، ويزيدهم من فضله توفيقًا ومضاعفة في الأجر والثواب. والكافرون بالله ورسوله لهم يوم القيامة عذاب شديد موجع مؤلم.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 27 )
ولو بسط الله الرزق لعباده فوسَّعه عليهم، لبغوا في الأرض أشَرًا وبطرًا، ولطغى بعضهم على بعض، ولكن الله ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم. إنه بعباده خبير بما يصلحهم, بصير بتدبيرهم وتصريف أحوالهم.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ( 28 )
والله وحده هو الذي ينزل المطر من السماء، فيغيثهم به من بعد ما يئسوا من نزوله، وينشر رحمته في خلقه, فيعمهم بالغيث، وهو الوليُّ الذي يتولى عباده بإحسانه وفضله, الحميد في ولايته وتدبيره.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ( 29 )
ومن آياته الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه, خَلْقُ السموات والأرض على غير مثال سابق، وما نشر فيهما من أصناف الدواب، وهو على جَمْع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة إذا يشاء قدير, لا يتعذر عليه شيء.
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ( 30 )
وما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في دينكم ودنياكم فبما كسبتم من الذنوب والآثام، ويعفو لكم ربكم عن كثير من السيئات، فلا يؤاخذكم بها.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 31 )
وما أنتم- أيها الناس- بمعجزين قدرة الله عليكم، ولا فائتيه, وما لكم من دون الله مِن وليٍّ يتولى أموركم، فيوصل لكم المنافع، ولا نصير يدفع عنكم المضارَّ.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ( 32 ) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 33 )
ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه القاهر السفن العظيمة كالجبال تجري في البحر. إن يشأ الله الذي أجرى هذه السفن في البحر يُسكن الريح, فتَبْقَ السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري، إن في جَرْي هذه السفن ووقوفها في البحر بقدرة الله لَعظات وحججًا بيِّنة على قدرة الله لكل صبار على طاعة الله, شكور لنعمه وأفضاله.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ( 34 )
أو يهلكِ السفن بالغرق بسبب ذنوب أهلها، ويعفُ عن كثير من الذنوب فلا يعاقب عليها.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 35 )
ويَعْلَم الذين يجادلون بالباطل في آياتنا الدالة على توحيدنا, ما لهم من محيد ولا ملجأ من عقاب الله, إذا عاقبهم على ذنوبهم وكفرهم به.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 36 )
فما أوتيتم- أيها الناس- من شيء من المال أو البنين وغير ذلك فهو متاع لكم في الحياة الدنيا, سُرعان ما يزول، وما عند الله تعالى من نعيم الجنة المقيم خير وأبقى للذين آمنوا بالله ورسله, وعلى ربهم يتوكلون.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ( 37 )
والذين يجتنبون كبائر ما نهى الله عنه، وما فَحُش وقَبُح من أنواع المعاصي، وإذا ما غضبوا على مَن أساء إليهم هم يغفرون الإساءة، ويصفحون عن عقوبة المسيء؛ طلبًا لثواب الله تعالى وعفوه، وهذا من محاسن الأخلاق.
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 38 )
والذين استجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده وطاعته, وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها, وإذا أرادوا أمرًا تشاوروا فيه، ومما أعطيناهم من الأموال يتصدقون في سبيل الله, ويؤدون ما فرض الله عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة وغير ذلك من وجوه الإنفاق.
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ( 39 )
والذين إذا أصابهم الظلم هم ينتصرون ممن بغى عليهم مِن غير أن يعتدوا, وإن صبروا ففي عاقبة صبرهم خير كثير.
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 40 )
وجزاء سيئة المسيء عقوبته بسيئة مثلها من غير زيادة, فمن عفا عن المسيء, وترك عقابه, وأصلح الودَّ بينه وبين المعفو عنه ابتغاء وجه الله، فأَجْرُ عفوه ذلك على الله. إن الله لا يحب الظالمين الذين يبدؤون بالعدوان على الناس، ويسيئون إليهم.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( 41 )
ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه له فأولئك ما عليهم من مؤاخذة.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 42 )
إنما المؤاخذة على الذين يتعدَّون على الناس ظلمًا وعدوانًا, ويتجاوزون الحدَّ الذي أباحه لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون في الأرض بغير الحق, أولئك لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 43 )
ولمن صبر على الأذى، وقابل الإساءة بالعفو والصفح والسَّتر, إن ذلك من عزائم الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها، ورتَّب لها ثوابًا جريلا وثناءً حميدًا.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ( 44 )
ومن يضلله الله عن الرشاد بسبب ظلمه فليس له من ناصر يهديه سبيل الرشاد. وترى - أيها الرسول- الكافرين بالله يوم القيامة - حين رأوا العذاب- يقولون لربهم: هل لنا من سبيل إلى الرجوع إلى الدنيا؛ لنعمل بطاعتك؟ فلا يجابون إلى ذلك.
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ( 45 )
وترى - أيها الرسول- هؤلاء الظالمين يُعْرَضون على النار خاضعين متذللين ينظرون إلى النار مِن طرْف ذليل ضعيف من الخوف والهوان. وقال الذين آمنوا بالله ورسوله في الجنة, لما عاينوا ما حلَّ بالكفار من خسران: إن الخاسرين حقًا هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بدخول النار. ألا إن الظالمين- يوم القيامة- في عذاب دائم, لا ينقطع عنهم, ولا يزول.
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ( 46 )
وما كان لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله. ومن يضلله الله بسبب كفره وظلمه, فما له من طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة؛ لأنه قد سدَّت عليه طرق النجاة, فالهداية والإضلال بيده سبحانه وتعالى دون سواه.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ( 47 )
استجيبوا لربكم- أيها الكافرون- بالإيمان والطاعة من قبل أن يأتي يوم القيامة, الذي لا يمكن رده, ما لكم من ملجأ يومئذ ينجيكم من العذاب، ولا مكان يستركم، وتتنكرون فيه. وفي الآية دليل على ذم التسويف، وفيها الأمر بالمبادرة إلى كل عمل صالح يعرض للعبد, فإن للتأخير آفات وموانع.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ ( 48 )
فإن أعرض هؤلاء المشركون - أيها الرسول- عن الإيمان بالله فما أرسلناك عليهم حافظًا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها، ما عليك إلا البلاغ. وإنَّا إذا أعطينا الإنسان منا رحمة مِن غنى وسَعَة في المال وغير ذلك، فَرِح وسُرَّ، وإن تصبهم مصيبة مِن فقر ومرض وغير ذلك بسبب ما قدمته أيديهم من معاصي الله, فإن الإنسان جحود يعدِّد المصائب, وينسى النعم.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 50 )
لله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض وما فيهما, يخلق ما يشاء من الخلق, يهب لمن يشاء من عباده إناثًا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء الذكور لا إناث معهم، ويعطي سبحانه وتعالى لمن يشاء من الناس الذكر والأنثى, ويجعل مَن يشاء عقيمًا لا يولد له, إنه عليم بما يَخْلُق, قدير على خَلْق ما يشاء, لا يعجزه شيء أراد خلقه.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 51 )
وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيًا يوحيه الله إليه، أو يكلمه من وراء حجاب، كما كلَّم سبحانه موسى عليه السلام, أو يرسل رسولا كما ينزل جبريل عليه السلام إلى المرسل إليه, فيوحي بإذن ربه لا بمجرد هواه ما يشاء الله إيحاءه، إنه تعالى عليٌّ بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله, قد قهر كل شيء ودانت له المخلوقات، حكيم في تدبير أمور خلقه. وفي الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظيم سلطانه.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 52 ) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ( 53 )
وكما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك - أيها النبي- أوحينا إليك قرآنًا من عندنا، ما كنت تدري قبله ما الكتب السابقة ولا الإيمان ولا الشرائع الإلهية؟ ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس نهدي به مَن نشاء مِن عبادنا إلى الصراط المستقيم. وإنك - أيها الرسول- لَتَدُلُّ وَتُرْشِدُ بإذن الله إلى صراط مستقيم- وهو الإسلام- صراط الله الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض، لا شريك له في ذلك. ألا إلى الله- أيها الناس- ترجع جميع أموركم من الخير والشر, فيجازي كلا بعمله: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
=====
حم ( 1 ) عسق ( 2 )
( حم * عسق ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 )
كما أنزل الله إليك - أيها النبي- هذا القرآن أنزل الكتب والصحف على الأنبياء من قبلك، وهو العزيز في انتقامه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 4 )
لله وحده ما في السماوات وما في الأرض، وهو العليُّ بذاته وقدره وقهره، العظيم الذي له العظمة والكبرياء.
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 5 )
تكاد السماوات يتشقَّقْنَ، كل واحدة فوق التي تليها؛ من عظمة الرحمن وجلاله تبارك وتعالى, والملائكة يسبحون بحمد ربهم, وينزهونه عما لا يليق به، ويسألون ربهم المغفرة لذنوب مَن في الأرض مِن أهل الإيمان به. ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده, الرحيم بهم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 6 )
والذين اتخذوا غير الله آلهة مِن دونه يتولَّونها, ويعبدونها، الله تعالى يحفظ عليهم أفعالهم؛ ليجازيهم بها يوم القيامة، وما أنت - أيها الرسول- بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم, إنما أنت منذر, فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ( 7 )
وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحَيْنا إليك قرآنا عربيًّا؛ لتنذر أهل « مكة » ومَن حولها مِن سائر الناس، وتنذر عذاب يوم الجمع، وهو يوم القيامة, لا شك في مجيئه. الناس فيه فريقان: فريق في الجنة, وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم فريق في النار المستعرة, وهم الذين كفروا بالله, وخالفوا ما جاءهم به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 8 )
ولو شاء الله أن يجمع خَلْقَه على الهدى ويجعلهم على ملة واحدة مهتدية لفعل, ولكنه أراد أن يُدخل في رحمته مَن يشاء مِن خواص خلقه. والظالمون أنفسهم بالشرك ما لهم من وليٍّ يتولى أمورهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله تعالى.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 9 )
بل اتخذ هؤلاء المشركون أولياء من دون الله يتولونهم, فالله وحده هو الوليُّ يتولاه عَبْدُه بالعبادة والطاعة، ويتولَّى عباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور وإعانتهم في جميع أمورهم, وهو يحيي الموتى عند البعث، وهو على كل شيء قدير, لا يعجزه شيء .
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 10 )
وما اختلفتم فيه- أيها الناس- من شيء من أمور دينكم, فالحكم فيه مردُّه إلى الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ذلكم الله ربي وربكم، عليه وحده توكلت في أموري، وإليه أرجع في جميع شؤوني.
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 11 )
الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما بقدرته ومشيئته وحكمته, جعل لكم من أنفسكم أزواجًا؛ لتسكنوا إليها, وجعل لكم من الأنعام أزواجًا ذكورًا وإناثًا, يكثركم بسببه بالتوالد, ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته, لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ لأن أسماءه كلَّها حسنى, وصفاتِه صفات كمال وعظمة, وأفعالَه تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، وهو السميع البصير, لا يخفى عليه مِن أعمال خلقه وأقوالهم شيء, وسيجازيهم على ذلك.
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 12 )
له سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق، يوسِّع رزقه على مَن يشاء مِن عباده ويضيِّقه على مَن يشاء, إنه تبارك وتعالى بكل شيء عليم, لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ( 13 )
شرع الله لكم- أيها الناس- من الدِّين الذي أوحيناه إليك - أيها الرسول، وهو الإسلام- ما وصَّى به نوحًا أن يعمله ويبلغه, وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ( هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل على المشهور ) أن أقيموا الدين بالتوحيد وطاعة الله وعبادته دون مَن سواه، ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتكم به, عَظُمَ على المشركين ما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له, الله يصطفي للتوحيد مَن يشاء مِن خلقه، ويوفِّق للعمل بطاعته مَن يرجع إليه.
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 14 )
وما تفرَّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا شيعًا وأحزابًا إلا مِن بعد ما جاءهم العلم وقامت الحجة عليهم, وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد, ولولا كلمة سبقت من ربك - أيها الرسول- بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة, لقضي بينهم بتعجيل عذاب الكافرين منهم. وإن الذين أورثوا التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك من الدين والإيمان موقعٍ في الريبة والاختلاف المذموم.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 )
فإلى ذلك الدين القيِّم الذي شرعه الله للأنبياء ووصَّاهم به, فادع - أيها الرسول- عباد الله, واستقم كما أمرك الله، ولا تتبع أهواء الذين شكُّوا في الحق وانحرفوا عن الدين, وقل: صدَّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء, وأمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم, الله ربنا وربكم، لنا ثواب أعمالنا الصالحة, ولكم جزاء أعمالكم السيئة, لا خصومة ولا جدال بيننا وبينكم بعدما تبين الحق, الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه, وإليه المرجع والمآب, فيجازي كلا بما يستحق.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 16 )
والذين يجادلون في دين الله الذي أرسلتُ به محمدًا صلى الله عليه وسلم، مِن بعد ما استجاب الناس له وأسلموا, حجتهم ومجادلتهم باطلة ذاهبة عند ربهم, وعليهم من الله غضب في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب شديد, وهو النار.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( 17 )
الله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنزلة بالصدق, وأنزل الميزان وهو العدل؛ ليحكم بين الناس بالإنصاف. وأي شيء يدريك ويُعْلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب؟
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 18 )
يستعجل بمجيء الساعة الذين لا يؤمنون بها؛ تهكمًا واستهزاءً، والذين آمنوا بها خائفون من قيامها, ويعلمون أنها الحق الذي لا شك فيه. ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 19 )
الله لطيف بعباده، يوسِّع الرزق على مَن يشاء, ويضيِّقه على مَن يشاء وَفْق حكمته سبحانه, وهو القوي الذي له القوة كلها, العزيز في انتقامه من أهل معاصيه.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ( 20 )
من كان يريد بعمله ثواب الآخرة فأدى حقوق الله وأنفق في الدعوة إلى الدين، نزد له في عمله الحسن، فنضاعف له ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها إلى ما شاء الله من الزيادة, ومن كان يريد بعمله الدنيا وحدها، نؤته منها ما قسمناه له, وليس له في الآخرة شيء من الثواب.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 21 )
بل ألهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم, ابتدعوا لهم من الدين والشرك ما لم يأذن به الله؟ ولولا قضاء الله وقدره بإمهالهم, وأن لا يعجل لهم العذاب في الدنيا, لقضي بينهم بتعجيل العذاب لهم. وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 22 )
ترى - أيها الرسول- الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمال خبيثة، والعذاب نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة، والذين آمنوا بالله وأطاعوه في بساتين الجنات وقصورها ونعيم الآخرة، لهم ما تشتهيه أنفسهم عند ربهم, ذلك الذي أعطاه الله لهم من الفضل والكرامة هو الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي إليه العقول.
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 23 )
ذلك الذي أخبرتكم به- أيها الناس- من النعيم والكرامة في الآخرة هو البشرى التي يبشر الله بها عباده الذين آمنوا به في الدنيا وأطاعوه. قل - أيها الرسول- للذين يشكون في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به عوضًا من أموالكم, إلا أن تَوَدُّوني في قرابتي منكم, وتَصِلوا الرحم التي بيني وبينكم. ومن يكتسب حسنة نضاعفها له بعشر فصاعدًا. إن الله غفور لذنوب عباده, شكور لحسناتهم وطاعتهم إياه.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 24 )
بل أيقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد الكذب على الله, فجاء بالذي يتلوه علينا اختلاقًا من عند نفسه؟ فإن يشأ الله يطبع على قلبك - أيها الرسول- لو فعلت ذلك. ويُذْهِبُ الله الباطل فيمحقه، ويحق الحق بكلماته التي لا تتبدل ولا تتغيَّر، وبوعده الصادق الذي لا يتخلف. إن الله عليم بما في قلوب العباد، لا يخفى عليه شيء منه.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( 25 )
والله سبحانه وتعالى هو الذي يقبل التوبة عن عباده إذا رجعوا إلى توحيد الله وطاعته، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تصنعون من خير وشر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو مجازيكم به.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 26 )
ويستجيب الذين آمنوا بالله ورسوله لربهم لِمَا دعاهم إليه وينقادون له، ويزيدهم من فضله توفيقًا ومضاعفة في الأجر والثواب. والكافرون بالله ورسوله لهم يوم القيامة عذاب شديد موجع مؤلم.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 27 )
ولو بسط الله الرزق لعباده فوسَّعه عليهم، لبغوا في الأرض أشَرًا وبطرًا، ولطغى بعضهم على بعض، ولكن الله ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم. إنه بعباده خبير بما يصلحهم, بصير بتدبيرهم وتصريف أحوالهم.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ( 28 )
والله وحده هو الذي ينزل المطر من السماء، فيغيثهم به من بعد ما يئسوا من نزوله، وينشر رحمته في خلقه, فيعمهم بالغيث، وهو الوليُّ الذي يتولى عباده بإحسانه وفضله, الحميد في ولايته وتدبيره.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ( 29 )
ومن آياته الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه, خَلْقُ السموات والأرض على غير مثال سابق، وما نشر فيهما من أصناف الدواب، وهو على جَمْع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة إذا يشاء قدير, لا يتعذر عليه شيء.
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ( 30 )
وما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في دينكم ودنياكم فبما كسبتم من الذنوب والآثام، ويعفو لكم ربكم عن كثير من السيئات، فلا يؤاخذكم بها.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 31 )
وما أنتم- أيها الناس- بمعجزين قدرة الله عليكم، ولا فائتيه, وما لكم من دون الله مِن وليٍّ يتولى أموركم، فيوصل لكم المنافع، ولا نصير يدفع عنكم المضارَّ.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ ( 32 ) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 33 )
ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه القاهر السفن العظيمة كالجبال تجري في البحر. إن يشأ الله الذي أجرى هذه السفن في البحر يُسكن الريح, فتَبْقَ السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري، إن في جَرْي هذه السفن ووقوفها في البحر بقدرة الله لَعظات وحججًا بيِّنة على قدرة الله لكل صبار على طاعة الله, شكور لنعمه وأفضاله.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ( 34 )
أو يهلكِ السفن بالغرق بسبب ذنوب أهلها، ويعفُ عن كثير من الذنوب فلا يعاقب عليها.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ( 35 )
ويَعْلَم الذين يجادلون بالباطل في آياتنا الدالة على توحيدنا, ما لهم من محيد ولا ملجأ من عقاب الله, إذا عاقبهم على ذنوبهم وكفرهم به.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 36 )
فما أوتيتم- أيها الناس- من شيء من المال أو البنين وغير ذلك فهو متاع لكم في الحياة الدنيا, سُرعان ما يزول، وما عند الله تعالى من نعيم الجنة المقيم خير وأبقى للذين آمنوا بالله ورسله, وعلى ربهم يتوكلون.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ( 37 )
والذين يجتنبون كبائر ما نهى الله عنه، وما فَحُش وقَبُح من أنواع المعاصي، وإذا ما غضبوا على مَن أساء إليهم هم يغفرون الإساءة، ويصفحون عن عقوبة المسيء؛ طلبًا لثواب الله تعالى وعفوه، وهذا من محاسن الأخلاق.
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 38 )
والذين استجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده وطاعته, وأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها, وإذا أرادوا أمرًا تشاوروا فيه، ومما أعطيناهم من الأموال يتصدقون في سبيل الله, ويؤدون ما فرض الله عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة وغير ذلك من وجوه الإنفاق.
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ( 39 )
والذين إذا أصابهم الظلم هم ينتصرون ممن بغى عليهم مِن غير أن يعتدوا, وإن صبروا ففي عاقبة صبرهم خير كثير.
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 40 )
وجزاء سيئة المسيء عقوبته بسيئة مثلها من غير زيادة, فمن عفا عن المسيء, وترك عقابه, وأصلح الودَّ بينه وبين المعفو عنه ابتغاء وجه الله، فأَجْرُ عفوه ذلك على الله. إن الله لا يحب الظالمين الذين يبدؤون بالعدوان على الناس، ويسيئون إليهم.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( 41 )
ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه له فأولئك ما عليهم من مؤاخذة.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 42 )
إنما المؤاخذة على الذين يتعدَّون على الناس ظلمًا وعدوانًا, ويتجاوزون الحدَّ الذي أباحه لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه، فيفسدون في الأرض بغير الحق, أولئك لهم يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( 43 )
ولمن صبر على الأذى، وقابل الإساءة بالعفو والصفح والسَّتر, إن ذلك من عزائم الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها، ورتَّب لها ثوابًا جريلا وثناءً حميدًا.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ( 44 )
ومن يضلله الله عن الرشاد بسبب ظلمه فليس له من ناصر يهديه سبيل الرشاد. وترى - أيها الرسول- الكافرين بالله يوم القيامة - حين رأوا العذاب- يقولون لربهم: هل لنا من سبيل إلى الرجوع إلى الدنيا؛ لنعمل بطاعتك؟ فلا يجابون إلى ذلك.
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ( 45 )
وترى - أيها الرسول- هؤلاء الظالمين يُعْرَضون على النار خاضعين متذللين ينظرون إلى النار مِن طرْف ذليل ضعيف من الخوف والهوان. وقال الذين آمنوا بالله ورسوله في الجنة, لما عاينوا ما حلَّ بالكفار من خسران: إن الخاسرين حقًا هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بدخول النار. ألا إن الظالمين- يوم القيامة- في عذاب دائم, لا ينقطع عنهم, ولا يزول.
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ( 46 )
وما كان لهؤلاء الكافرين حين يعذبهم الله يوم القيامة من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله. ومن يضلله الله بسبب كفره وظلمه, فما له من طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة؛ لأنه قد سدَّت عليه طرق النجاة, فالهداية والإضلال بيده سبحانه وتعالى دون سواه.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ( 47 )
استجيبوا لربكم- أيها الكافرون- بالإيمان والطاعة من قبل أن يأتي يوم القيامة, الذي لا يمكن رده, ما لكم من ملجأ يومئذ ينجيكم من العذاب، ولا مكان يستركم، وتتنكرون فيه. وفي الآية دليل على ذم التسويف، وفيها الأمر بالمبادرة إلى كل عمل صالح يعرض للعبد, فإن للتأخير آفات وموانع.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ ( 48 )
فإن أعرض هؤلاء المشركون - أيها الرسول- عن الإيمان بالله فما أرسلناك عليهم حافظًا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها، ما عليك إلا البلاغ. وإنَّا إذا أعطينا الإنسان منا رحمة مِن غنى وسَعَة في المال وغير ذلك، فَرِح وسُرَّ، وإن تصبهم مصيبة مِن فقر ومرض وغير ذلك بسبب ما قدمته أيديهم من معاصي الله, فإن الإنسان جحود يعدِّد المصائب, وينسى النعم.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ( 49 ) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 50 )
لله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض وما فيهما, يخلق ما يشاء من الخلق, يهب لمن يشاء من عباده إناثًا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء الذكور لا إناث معهم، ويعطي سبحانه وتعالى لمن يشاء من الناس الذكر والأنثى, ويجعل مَن يشاء عقيمًا لا يولد له, إنه عليم بما يَخْلُق, قدير على خَلْق ما يشاء, لا يعجزه شيء أراد خلقه.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 51 )
وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيًا يوحيه الله إليه، أو يكلمه من وراء حجاب، كما كلَّم سبحانه موسى عليه السلام, أو يرسل رسولا كما ينزل جبريل عليه السلام إلى المرسل إليه, فيوحي بإذن ربه لا بمجرد هواه ما يشاء الله إيحاءه، إنه تعالى عليٌّ بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله, قد قهر كل شيء ودانت له المخلوقات، حكيم في تدبير أمور خلقه. وفي الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظيم سلطانه.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 52 ) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ( 53 )
وكما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك - أيها النبي- أوحينا إليك قرآنًا من عندنا، ما كنت تدري قبله ما الكتب السابقة ولا الإيمان ولا الشرائع الإلهية؟ ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس نهدي به مَن نشاء مِن عبادنا إلى الصراط المستقيم. وإنك - أيها الرسول- لَتَدُلُّ وَتُرْشِدُ بإذن الله إلى صراط مستقيم- وهو الإسلام- صراط الله الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض، لا شريك له في ذلك. ألا إلى الله- أيها الناس- ترجع جميع أموركم من الخير والشر, فيجازي كلا بعمله: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الزخرف .. بن كثير
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 )
أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظًا ومعنى.
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 )
إنَّا أنزلنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان العرب؛ لعلكم تفهمون, وتتدبرون معانيه وحججه. وإنه في اللوح المحفوظ لدينا لعليٌّ في قَدْره وشرفه, محكم لا اختلاف فيه ولا تناقض.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ( 5 )
أفنُعْرِض عنكم, ونترك إنزال القرآن إليكم لأجل إعراضكم وعدم انقيادكم, وإسرافكم في عدم الإيمان به؟
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ( 8 )
كثيرًا من الأنبياء أرسلنا في القرون الأولى التي مضت قبل قومك أيها النبي. وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون كاستهزاء قومك بك, فأهلكنا مَن كذَّبوا رسلنا, وكانوا أشد قوة وبأسًا من قومك يا محمد, ومضت عقوبة الأولين بأن أهلِكوا؛ بسبب كفرهم وطغيانهم واستهزائهم بأنبيائهم. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك مَن خلق السموات والأرض؟ ليقولُنَّ: خلقهنَّ العزيز في سلطانه, العليم بهن وما فيهن من الأشياء, لا يخفى عليه شيء.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 10 )
الذي جعل لكم الأرض فراشًا وبساطًا, وسهَّل لكم فيها طرقًا لمعاشكم ومتاجركم ; لكي تهتدوا بتلك السبل إلى مصالحكم الدينية والدنيوية.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 11 )
والذي نزل من السماء مطرًا بقدر, ليس طوفانًا مغرقًا ولا قاصرًا عن الحاجة؛ حتى يكون معاشًا لكم ولأنعامكم, فأحيينا بالماء بلدة مُقْفِرَة من النبات، كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزلناه من السماء من هذه البلدة الميتة النبات والزرع, تُخْرَجون- أيها الناس- من قبوركم بعد فنائكم.
وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( 12 )
والذي خلق الأصناف كلها من حيوان ونبات, وجعل لكم من السفن ما تركبون في البحر, ومن البهائم كالإبل والخيل والبغال والحمير ما تركبون في البر.
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( 13 ) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ( 14 )
لكي تستووا على ظهور ما تركبون, ثم تذكروا نعمة ربكم إذا ركبتم عليه, وتقولوا: الحمد لله الذي سخر لنا هذا, وما كنا له مطيقين, ولتقولوا أيضًا: وإنا إلى ربنا بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون. وفي هذا بيان أن الله المنعم على عباده بشتَّى النعم, هو المستحق للعبادة في كل حال .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 )
وجعل هؤلاء المشركون لله مِن خلقه نصيًبا, وذلك قولهم للملائكة: بنات الله. إن الإنسان لجحود لنعم ربه التي أنعم بها عليه, مظهر لجحوده وكفره يعدِّد المصائب, وينسى النعم.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 )
بل أتزعمون- أيها الجاهلون- أن ربكم اتخذ مما يخلق بنات وأنتم لا ترضون ذلك لأنفسكم, وخصَّكم بالبنين فجعلهم لكم؟ وفي هذا توبيخ لهم.
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 )
وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى التي نسبها للرحمن حين زعم أن الملائكة بنات الله صار وجهه مُسْوَدَّا من سوء البشارة بالأنثى, وهو حزين مملوء من الهم والكرب. ( فكيف يرضون لله ما لا يرضونه لأنفسهم؟ تعالى الله وتقدَّس عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا ) .
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 )
أتجترئون وتنسبون إلى الله تعالى مَن يُرَبَّى في الزينة, وهو في الجدال غير مبين لحجته; لأنوثته؟
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 )
وجعل هؤلاء المشركون بالله الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا, أحَضَروا حالة خَلْقهم حتى يحكموا بأنهم إناث؟ ستُكتب شهادتهم, ويُسألون عنها في الآخرة.
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 20 )
وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أحدًا من دونه, وهذه حجة باطلة, فقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب, فاحتجاجهم بالقضاء والقَدَر مِن أبطل الباطل مِن بعد إنذار الرسل لهم. ما لهم بحقيقة ما يقولون مِن ذلك مِن علم, وإنما يقولونه تخرُّصًا وكذبًا؛ لأنه لا خبر عندهم من الله بذلك ولا برهان.
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( 21 )
أَحَضَروا خَلْق الملائكة, أم أعطيناهم كتابًا من قبل القرآن الذي أنزلناه, فهم به مستمسكون يعملون بما فيه, ويحتجون به عليك أيها الرسول؟
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ( 22 )
بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على طريقة ومذهب ودين, وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه متبعون لهم, ومقتدون بهم.
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 )
وكذلك ما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول- في قرية مِن نذير ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا, فأنذروهم وحذَّروهم سخَطنا وحلول عقوبتنا, إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء: إنَّا وجدنا آباءنا على ملة ودين, وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون.
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 )
قال محمد صلى الله عليه وسلم ومَن سبقه من الرسل لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: أتتبعون آباءكم, ولو جئتكم مِن عند ربكم بأهدى إلى طريق الحق وأدلَّ على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟ قالوا في عناد: إنا بما أرسلتم به جاحدون كافرون.
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 )
فانتقمنا من هذه الأمم المكذبة رسلها بإحلالنا العقوبة بهم خَسْفًا وغرقًا وغير ذلك, فانظر - أيها الرسول- كيف كان عاقبة أمرهم إذ كذبوا بآيات الله ورسله؟ وليحْذَر قومك أن يستمروا على تكذيبهم, فيصيبهم مثل ما أصابهم.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( 26 )
واذكر - أيها الرسول- إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون ما يعبده قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله.
إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( 27 )
إلا الذي خلقني, فإنه سيوفقني لاتباع سبيل الرشاد.
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 )
وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) باقية في مَن بعده؛ لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم وتوحيده, ويتوبون من كفرهم وذنوبهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( 29 )
بل متعتُ - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك وآباءهم مِن قبلهم بالحياة, فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم, حتى جاءهم القرآن ورسول يبيِّن لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم.
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( 30 )
ولما جاءهم القرآن من عند الله قالوا: هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحرٌ يسحرنا به, وليس بوحي مِن عند الله, وإنا به مكذِّبون.
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( 31 )
وقال هؤلاء المشركون مِن قريش: إنْ كان هذا القرآن مِن عند الله حقًا, فهلا نُزِّل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين « مكة » أو « الطائف » .
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 32 )
أهم يقسمون النبوة فيضعونها حيث شاؤوا؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات, ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات: هذا غنيٌّ وهذا فقير, وهذا قويٌّ وهذا ضعيف؛ ليكون بعضهم مُسَخَّرًا لبعض في المعاش. ورحمة ربك - أيها الرسول- بإدخالهم الجنة خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( 33 )
ولولا أن يكون الناس جماعة واحدة على الكفر, لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفا من فضة وسلالم عليها يصعدون.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( 34 ) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( 35 )
وجعلنا لبيوتهم أبوابًا من فضة, وجعلنا لهم سررًا عليها يتكئون, وجعلنا لهم ذهبًا, وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا, وهو متاع قليل زائل, ونعيم الآخرة مدَّخر عند ربك للمتقين ليس لغيرهم.
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( 36 )
ومن يُعْرِض عن ذكر الرحمن, وهو القرآن, فلم يَخَفْ عقابه, ولم يهتد بهدايته, نجعل له شيطانًا في الدنيا يغويه; جزاء له على إعراضه عن ذكر الله, فهو له ملازم ومصاحب يمنعه الحلال, ويبعثه على الحرام.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 37 )
وإن الشياطين ليصدون عن سبيل الحق هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله, فيزيِّنون لهم الضلالة, ويكرِّهون لهم الإيمان بالله والعمل بطاعته, ويظن هؤلاء المعرضون بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلال أنهم على الحق والهدى.
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( 38 )
حتى إذا جاءنا الذي أعرض عن ذكر الرحمن وقرينُه من الشياطين للحساب والجزاء, قال المعرض عن ذكر الله لقرينه: وددت أن بيني وبينك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب, فبئس القرين لي حيث أغويتني.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 39 )
ولن ينفعكم اليوم- أيها المعرضون- عن ذكر الله إذ أشركتم في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أنتم وقرناؤكم, فلكل واحد نصيبه الأوفر من العذاب, كما اشتركتم في الكفر.
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 40 )
أفأنت - أيها الرسول- تُسمع مَن أصمَّه الله عن سماع الحق, أو تهدي إلى طريق الهدى مَن أعمى قلبه عن إبصاره, أو تهدي مَن كان في ضلال عن الحق بيِّن واضح؟ ليس ذلك إليك, إنما عليك البلاغ, وليس عليك هداهم, ولكن الله يهدي مَن يشاء, ويضلُّ مَن يشاء.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ( 41 ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ( 42 )
فإن توفيناك - أيها الرسول- قبل نصرك على المكذبين من قومك, فإنَّا منهم منتقمون في الآخرة, أو نرينك الذي وعدناهم من العذاب النازل بهم كيوم « بدر » , فإنا عليهم مقتدرون نُظهِرك عليهم, ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 43 )
فاستمسك - أيها الرسول- بما يأمرك به الله في هذا القرآن الذي أوحاه إليك؛ إنك على صراط مستقيم, وذلك هو دين الله الذي أمر به, وهو الإسلام. وفي هذا تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم، وثناء عليه.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( 44 )
وإن هذا القرآن لَشرف لك ولقومك من قريش؛ حيث أُنزل بلغتهم, فهم أفهم الناس له, فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به, وأعملهم بمقتضاه, وسوف تُسألون أنت ومَن معك عن الشكر لله عليه والعمل به.
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( 45 )
واسأل - أيها الرسول- أتباع مَن أرسلنا مِن قبلك من رسلنا وحملة شرائعهم: أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع; فإن جميع الرسل دَعَوْا إلى ما دعوتَ الناس إليه من عبادة الله وحده, لا شريك له, ونهَوْا عن عبادة ما سوى الله.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 )
ولقد أرسلنا موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه, كما أرسلناك - أيها الرسول- إلى هؤلاء المشركين من قومك, فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين, فلما جاءهم بالبينات الواضحات الدالة على صدقه في دعوته, إذا فرعون وملؤه مما جاءهم به موسى من الآيات والعبر يضحكون.
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 )
وما نُري فرعون وملأه من حجة إلا هي أعظم من التي قبلها, وأدل على صحة ما يدعوهم موسى عليه, وأخذناهم بصنوف العذاب كالجراد والقُمَّل والضفادع والطوفان, وغير ذلك; لعلهم يرجعون عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 )
وقال فرعون وملؤه لموسى: يا أيها العالم ( وكان الساحر فيهم عظيمًا يُوَقِّرونه ولم يكن السحر صفة ذم ) ادع لنا ربك بعهده الذي عهد إليك وما خصَّك به من الفضائل أن يكشف عنا العذاب, فإن كشف عنا العذاب فإننا لمهتدون مؤمنون بما جئتنا به.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 50 )
فلما دعا موسى برفع العذاب عنهم, ورفعناه عنهم إذا هم يغدرون, ويصرُّون على ضلالهم.
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 51 )
ونادى فرعون في عظماء قومه متبجحًا مفتخرًا بمُلْك « مصر » : أليس لي مُلْك « مصر » وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتي وقوتي, وضعف موسى وفقره؟
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 )
بل أنا خير من هذا الذي لا عزَّ معه, فهو يمتهن نفسه في حاجاته لضعفه وحقارته, ولا يكاد يُبين الكلام لعِيِّ لسانه, وقد حمل فرعونَ على هذا القول الكفرُ والعنادُ والصدُّ عن سبيل الله.
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 )
فهلا أُلقِي على موسى- إن كان صادقًا أنه رسول رب العالمين- أسْوِرَة من ذهب, أو جاء معه الملائكة قد اقترن بعضهم ببعض, فتتابعوا يشهدون له بأنه رسول الله إلينا.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 )
فاسْتَخَفَّ فرعون عقول قومه فدعاهم إلى الضلالة, فأطاعوه وكذبوا موسى, إنهم كانوا قومًا خارجين عن طاعة الله وصراطه المستقيم.
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 )
فلما أغضبونا- بعصياننا, وتكذيب موسى وما جاء به من الآيات- انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عَجَّلناه لهم, فأغرقناهم أجمعين في البحر.
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ( 56 )
فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم في البحر سلفًا لمن يعمل مثل عملهم ممن يأتي بعدهم في استحقاق العذاب, وعبرة وعظة للآخرين.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 )
ولما ضرب المشركون عيسى ابن مريم مثلا حين خاصموا محمدا صلى الله عليه وسلم، وحاجُّوه بعبادة النصارى إياه, إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جَلَبة وضجيج فرحًا وسرورًا, وذلك عندما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ , وقال المشركون: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى, فأنزل الله قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ , فالذي يُلْقى في النار من آلهة المشركين من رضي بعبادتهم إياه.
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 )
وقال مشركو قومك - أيها الرسول- : أآلهتنا التي نعبدها خير أم عيسى الذي يعبده قومه؟ فإذا كان عيسى في النار, فلنكن نحن وآلهتنا معه, ما ضربوا لك هذا المثل إلا جدلا بل هم قوم مخاصمون بالباطل.
إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 )
ما عيسى ابن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة, وجعلناه آية وعبرة لبني إسرائيل يُستدل بها على قدرتا.
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 )
ولو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يَخْلُف بعضهم بعضًا بدلا من بني آدم.
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 )
وإن نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة لدليل على قُرْبِ, وقوع الساعة, فلا تشُكُّوا أنها واقعة لا محالة, واتبعون فيما أخبركم به عن الله تعالى, هذا طريق قويم إلى الجنة, لا اعوجاج فيه.
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 62 )
ولا يصدَّنكم الشيطان بوساوسه عن طاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه, إنه لكم عدو بيِّن العداوة.
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 )
ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات الواضحات من الأدلة قال: قد جئتكم بالنبوة, ولأبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه من أمور الدين, فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, وأطيعون فيما أمرتكم به من تقوى الله وطاعته.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 64 )
إن الله سبحانه وتعالى هو ربي وربكم جميعًا فاعبدوه وحده, ولا تشركوا به شيئًا, هذا الذي أمرتكم به من تقوى الله وإفراده بالألوهية هو الطريق المستقيم, وهو دين الله الحق الذي لا يقبل من أحد سواه.
فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )
فاختلفت الفرق في أمر عيسى عليه السلام, وصاروا فيه شيعًا: منهم مَن يُقِرُّ بأنه عبد الله ورسوله, وهو الحق, ومنهم مَن يزعم أنه ابن الله, ومنهم مَن يقول: إنه الله, تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا, فهلاك ودمار وعذاب أليم يوم القيامة لمن وصفوا عيسى بغير ما وصفه الله به.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 66 )
هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم إلا الساعة أن تأتيهم فجأة, وهم لا يشعرون ولا يفطنون؟
الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ( 67 )
الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة, لكن الذين تصادقوا على تقوى الله, فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة.
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 68 )
يقال لهؤلاء المتقين: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي, ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم مِن حظوظ الدنيا.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ( 69 ) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ( 70 )
الذين آمنوا بآياتنا وعملوا بما جاءتهم به رسلهم, وكانوا منقادين لله ربِّ العالمين بقلوبهم وجوارحهم, يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وقرناؤكم المؤمنون تُنَعَّمون وتُسَرُّون.
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 71 )
يطاف على هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله في الجنة بالطعام في أوانٍ من ذهب, وبالشراب في أكواب من ذهب, وفيها لهم ما تشتهي أنفسهم وتلذه أعينهم, وهم ماكثون فيها أبدًا.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 72 )
وهذه الجنة التي أورثكم الله إياها؛ بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الخيرات والأعمال الصالحات, وجعلها مِن فضله ورحمته جزاء لكم.
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 73 )
لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كل نوع منها تأكلون.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 74 ) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ( 76 )
إن الذين اكتسبوا الذنوب بكفرهم, في عذاب جهنم ماكثون, لا يخفف عنهم, وهم فيه آيسون من رحمة الله, وما ظلمْنا هؤلاء المجرمين بالعذاب, ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم بشركهم وجحودهم أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وترك اتباعهم لرسل ربهم.
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( 78 )
ونادى هؤلاء المجرمون بعد أن أدخلهم الله جهنم « مالكًا » خازن جهنم: يا مالك لِيُمِتنا ربك, فنستريح ممَّا نحن فيه, فأجابهم مالكٌ: إنكم ماكثون, لا خروج لكم منها, ولا محيد لكم عنها, لقد جئناكم بالحق ووضحناه لكم, ولكن أكثركم لما جاء به الرسل من الحق كارهون.
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( 79 )
بل أأحْكمَ هؤلاء المشركون أمرًا يكيدون به الحق الذي جئناهم به؟ فإنا مدبِّرون لهم ما يجزيهم من العذاب والنكال.
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ( 80 )
أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنَّا لا نسمع ما يسرونه في أنفسهم, ويتناجون به بينهم؟ بلى نسمع ونعلم, ورسلنا الملائكة الكرام الحفظة يكتبون عليهم كل ما عملوا.
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ( 81 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون, فأنا أول العابدين لهذا الولد الذي تزعمونه, ولكن هذا لم يكن ولا يكون، فتقدَّس الله عن الصاحبة والولد.
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 82 )
تنزيهًا وتقديسًا لرب السموات والأرض رب العرش العظيم عما يصفون من الكذب والافتراء من نسبة المشركين الولد إلى الله, وغير ذلك مما يزعمون من الباطل.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 83 )
فاترك - أيها الرسول- هؤلاء المفترين على الله يخوضوا في باطلهم, ويلعبوا في دنياهم, حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يوعدون بالعذاب: إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معًا.
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 84 )
وهو الله وحده المعبود بحق في السماء وفي الأرض, وهو الحكيم الذي أحكم خَلْقَه, وأتقن شرعه, العليم بكل شيء من أحوال خلقه, لا يخفى عليه شيء منها.
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 85 )
وتكاثرت بركة الله, وكَثُر خيره, وعَظُم ملكه, الذي له وحده سلطان السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأشياء كلها, وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة, ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب, وإليه تُرَدُّون - أيها الناس- بعد مماتكم, فيجازي كلا بما يستحق.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 86 )
ولا يملك الذين يعبدهم المشركون الشفاعة عنده لأحد إلا مَن شهد بالحق, وأقر بتوحيد الله وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون حقيقة ما أقروا وشهدوا به.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 87 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك مَن خلقهم؟ ليقولُنَّ: الله خلقنا, فكيف ينقلبون وينصرفون عن عبادة الله, ويشركون به غيره؟
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ( 88 )
وقال محمد صلى الله عليه وسلم شاكيًا إلى ربه قومه الذين كذَّبوه: يا ربِّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون بك وبما أرسلتني به إليهم.
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 89 )
فاصفح - أيها الرسول- عنهم, وأعرض عن أذاهم, ولا يَبْدُر منك إلا السلام لهم الذي يقوله أولو الألباب والبصائر للجاهلين, فهم لا يسافهونهم ولا يعاملونهم بمثل أعمالهم السيئة, فسوف يعلمون ما يلقَوْنه من البلاء والنكال. وفي هذا تهديد ووعيد شديد لهؤلاء الكافرين المعاندين وأمثالهم.
====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 )
أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظًا ومعنى.
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 )
إنَّا أنزلنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان العرب؛ لعلكم تفهمون, وتتدبرون معانيه وحججه. وإنه في اللوح المحفوظ لدينا لعليٌّ في قَدْره وشرفه, محكم لا اختلاف فيه ولا تناقض.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ( 5 )
أفنُعْرِض عنكم, ونترك إنزال القرآن إليكم لأجل إعراضكم وعدم انقيادكم, وإسرافكم في عدم الإيمان به؟
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ( 8 )
كثيرًا من الأنبياء أرسلنا في القرون الأولى التي مضت قبل قومك أيها النبي. وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون كاستهزاء قومك بك, فأهلكنا مَن كذَّبوا رسلنا, وكانوا أشد قوة وبأسًا من قومك يا محمد, ومضت عقوبة الأولين بأن أهلِكوا؛ بسبب كفرهم وطغيانهم واستهزائهم بأنبيائهم. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك مَن خلق السموات والأرض؟ ليقولُنَّ: خلقهنَّ العزيز في سلطانه, العليم بهن وما فيهن من الأشياء, لا يخفى عليه شيء.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 10 )
الذي جعل لكم الأرض فراشًا وبساطًا, وسهَّل لكم فيها طرقًا لمعاشكم ومتاجركم ; لكي تهتدوا بتلك السبل إلى مصالحكم الدينية والدنيوية.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ( 11 )
والذي نزل من السماء مطرًا بقدر, ليس طوفانًا مغرقًا ولا قاصرًا عن الحاجة؛ حتى يكون معاشًا لكم ولأنعامكم, فأحيينا بالماء بلدة مُقْفِرَة من النبات، كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزلناه من السماء من هذه البلدة الميتة النبات والزرع, تُخْرَجون- أيها الناس- من قبوركم بعد فنائكم.
وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( 12 )
والذي خلق الأصناف كلها من حيوان ونبات, وجعل لكم من السفن ما تركبون في البحر, ومن البهائم كالإبل والخيل والبغال والحمير ما تركبون في البر.
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( 13 ) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ( 14 )
لكي تستووا على ظهور ما تركبون, ثم تذكروا نعمة ربكم إذا ركبتم عليه, وتقولوا: الحمد لله الذي سخر لنا هذا, وما كنا له مطيقين, ولتقولوا أيضًا: وإنا إلى ربنا بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون. وفي هذا بيان أن الله المنعم على عباده بشتَّى النعم, هو المستحق للعبادة في كل حال .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 )
وجعل هؤلاء المشركون لله مِن خلقه نصيًبا, وذلك قولهم للملائكة: بنات الله. إن الإنسان لجحود لنعم ربه التي أنعم بها عليه, مظهر لجحوده وكفره يعدِّد المصائب, وينسى النعم.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 )
بل أتزعمون- أيها الجاهلون- أن ربكم اتخذ مما يخلق بنات وأنتم لا ترضون ذلك لأنفسكم, وخصَّكم بالبنين فجعلهم لكم؟ وفي هذا توبيخ لهم.
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 )
وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى التي نسبها للرحمن حين زعم أن الملائكة بنات الله صار وجهه مُسْوَدَّا من سوء البشارة بالأنثى, وهو حزين مملوء من الهم والكرب. ( فكيف يرضون لله ما لا يرضونه لأنفسهم؟ تعالى الله وتقدَّس عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا ) .
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 )
أتجترئون وتنسبون إلى الله تعالى مَن يُرَبَّى في الزينة, وهو في الجدال غير مبين لحجته; لأنوثته؟
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 )
وجعل هؤلاء المشركون بالله الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا, أحَضَروا حالة خَلْقهم حتى يحكموا بأنهم إناث؟ ستُكتب شهادتهم, ويُسألون عنها في الآخرة.
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 20 )
وقال هؤلاء المشركون من قريش: لو شاء الرحمن ما عبدنا أحدًا من دونه, وهذه حجة باطلة, فقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب, فاحتجاجهم بالقضاء والقَدَر مِن أبطل الباطل مِن بعد إنذار الرسل لهم. ما لهم بحقيقة ما يقولون مِن ذلك مِن علم, وإنما يقولونه تخرُّصًا وكذبًا؛ لأنه لا خبر عندهم من الله بذلك ولا برهان.
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( 21 )
أَحَضَروا خَلْق الملائكة, أم أعطيناهم كتابًا من قبل القرآن الذي أنزلناه, فهم به مستمسكون يعملون بما فيه, ويحتجون به عليك أيها الرسول؟
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ( 22 )
بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على طريقة ومذهب ودين, وإنا على آثار آبائنا فيما كانوا عليه متبعون لهم, ومقتدون بهم.
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 )
وكذلك ما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول- في قرية مِن نذير ينذرهم عقابنا على كفرهم بنا, فأنذروهم وحذَّروهم سخَطنا وحلول عقوبتنا, إلا قال الذين أبطرتهم النعمة من الرؤساء والكبراء: إنَّا وجدنا آباءنا على ملة ودين, وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون.
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 )
قال محمد صلى الله عليه وسلم ومَن سبقه من الرسل لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة: أتتبعون آباءكم, ولو جئتكم مِن عند ربكم بأهدى إلى طريق الحق وأدلَّ على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟ قالوا في عناد: إنا بما أرسلتم به جاحدون كافرون.
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 )
فانتقمنا من هذه الأمم المكذبة رسلها بإحلالنا العقوبة بهم خَسْفًا وغرقًا وغير ذلك, فانظر - أيها الرسول- كيف كان عاقبة أمرهم إذ كذبوا بآيات الله ورسله؟ وليحْذَر قومك أن يستمروا على تكذيبهم, فيصيبهم مثل ما أصابهم.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ( 26 )
واذكر - أيها الرسول- إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه الذين كانوا يعبدون ما يعبده قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله.
إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( 27 )
إلا الذي خلقني, فإنه سيوفقني لاتباع سبيل الرشاد.
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 )
وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) باقية في مَن بعده؛ لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم وتوحيده, ويتوبون من كفرهم وذنوبهم.
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ( 29 )
بل متعتُ - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك وآباءهم مِن قبلهم بالحياة, فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم, حتى جاءهم القرآن ورسول يبيِّن لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم.
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( 30 )
ولما جاءهم القرآن من عند الله قالوا: هذا الذي جاءنا به هذا الرسول سحرٌ يسحرنا به, وليس بوحي مِن عند الله, وإنا به مكذِّبون.
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( 31 )
وقال هؤلاء المشركون مِن قريش: إنْ كان هذا القرآن مِن عند الله حقًا, فهلا نُزِّل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين « مكة » أو « الطائف » .
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 32 )
أهم يقسمون النبوة فيضعونها حيث شاؤوا؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات, ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات: هذا غنيٌّ وهذا فقير, وهذا قويٌّ وهذا ضعيف؛ ليكون بعضهم مُسَخَّرًا لبعض في المعاش. ورحمة ربك - أيها الرسول- بإدخالهم الجنة خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( 33 )
ولولا أن يكون الناس جماعة واحدة على الكفر, لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفا من فضة وسلالم عليها يصعدون.
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( 34 ) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( 35 )
وجعلنا لبيوتهم أبوابًا من فضة, وجعلنا لهم سررًا عليها يتكئون, وجعلنا لهم ذهبًا, وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا, وهو متاع قليل زائل, ونعيم الآخرة مدَّخر عند ربك للمتقين ليس لغيرهم.
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( 36 )
ومن يُعْرِض عن ذكر الرحمن, وهو القرآن, فلم يَخَفْ عقابه, ولم يهتد بهدايته, نجعل له شيطانًا في الدنيا يغويه; جزاء له على إعراضه عن ذكر الله, فهو له ملازم ومصاحب يمنعه الحلال, ويبعثه على الحرام.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 37 )
وإن الشياطين ليصدون عن سبيل الحق هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله, فيزيِّنون لهم الضلالة, ويكرِّهون لهم الإيمان بالله والعمل بطاعته, ويظن هؤلاء المعرضون بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلال أنهم على الحق والهدى.
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( 38 )
حتى إذا جاءنا الذي أعرض عن ذكر الرحمن وقرينُه من الشياطين للحساب والجزاء, قال المعرض عن ذكر الله لقرينه: وددت أن بيني وبينك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب, فبئس القرين لي حيث أغويتني.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 39 )
ولن ينفعكم اليوم- أيها المعرضون- عن ذكر الله إذ أشركتم في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أنتم وقرناؤكم, فلكل واحد نصيبه الأوفر من العذاب, كما اشتركتم في الكفر.
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 40 )
أفأنت - أيها الرسول- تُسمع مَن أصمَّه الله عن سماع الحق, أو تهدي إلى طريق الهدى مَن أعمى قلبه عن إبصاره, أو تهدي مَن كان في ضلال عن الحق بيِّن واضح؟ ليس ذلك إليك, إنما عليك البلاغ, وليس عليك هداهم, ولكن الله يهدي مَن يشاء, ويضلُّ مَن يشاء.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ( 41 ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ( 42 )
فإن توفيناك - أيها الرسول- قبل نصرك على المكذبين من قومك, فإنَّا منهم منتقمون في الآخرة, أو نرينك الذي وعدناهم من العذاب النازل بهم كيوم « بدر » , فإنا عليهم مقتدرون نُظهِرك عليهم, ونخزيهم بيدك وأيدي المؤمنين بك.
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 43 )
فاستمسك - أيها الرسول- بما يأمرك به الله في هذا القرآن الذي أوحاه إليك؛ إنك على صراط مستقيم, وذلك هو دين الله الذي أمر به, وهو الإسلام. وفي هذا تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم، وثناء عليه.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( 44 )
وإن هذا القرآن لَشرف لك ولقومك من قريش؛ حيث أُنزل بلغتهم, فهم أفهم الناس له, فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به, وأعملهم بمقتضاه, وسوف تُسألون أنت ومَن معك عن الشكر لله عليه والعمل به.
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( 45 )
واسأل - أيها الرسول- أتباع مَن أرسلنا مِن قبلك من رسلنا وحملة شرائعهم: أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع; فإن جميع الرسل دَعَوْا إلى ما دعوتَ الناس إليه من عبادة الله وحده, لا شريك له, ونهَوْا عن عبادة ما سوى الله.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 )
ولقد أرسلنا موسى بحججنا إلى فرعون وأشراف قومه, كما أرسلناك - أيها الرسول- إلى هؤلاء المشركين من قومك, فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين, فلما جاءهم بالبينات الواضحات الدالة على صدقه في دعوته, إذا فرعون وملؤه مما جاءهم به موسى من الآيات والعبر يضحكون.
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 )
وما نُري فرعون وملأه من حجة إلا هي أعظم من التي قبلها, وأدل على صحة ما يدعوهم موسى عليه, وأخذناهم بصنوف العذاب كالجراد والقُمَّل والضفادع والطوفان, وغير ذلك; لعلهم يرجعون عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته.
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 )
وقال فرعون وملؤه لموسى: يا أيها العالم ( وكان الساحر فيهم عظيمًا يُوَقِّرونه ولم يكن السحر صفة ذم ) ادع لنا ربك بعهده الذي عهد إليك وما خصَّك به من الفضائل أن يكشف عنا العذاب, فإن كشف عنا العذاب فإننا لمهتدون مؤمنون بما جئتنا به.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 50 )
فلما دعا موسى برفع العذاب عنهم, ورفعناه عنهم إذا هم يغدرون, ويصرُّون على ضلالهم.
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 51 )
ونادى فرعون في عظماء قومه متبجحًا مفتخرًا بمُلْك « مصر » : أليس لي مُلْك « مصر » وهذه الأنهار تجري مِن تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتي وقوتي, وضعف موسى وفقره؟
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 )
بل أنا خير من هذا الذي لا عزَّ معه, فهو يمتهن نفسه في حاجاته لضعفه وحقارته, ولا يكاد يُبين الكلام لعِيِّ لسانه, وقد حمل فرعونَ على هذا القول الكفرُ والعنادُ والصدُّ عن سبيل الله.
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 )
فهلا أُلقِي على موسى- إن كان صادقًا أنه رسول رب العالمين- أسْوِرَة من ذهب, أو جاء معه الملائكة قد اقترن بعضهم ببعض, فتتابعوا يشهدون له بأنه رسول الله إلينا.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 )
فاسْتَخَفَّ فرعون عقول قومه فدعاهم إلى الضلالة, فأطاعوه وكذبوا موسى, إنهم كانوا قومًا خارجين عن طاعة الله وصراطه المستقيم.
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 )
فلما أغضبونا- بعصياننا, وتكذيب موسى وما جاء به من الآيات- انتقمنا منهم بعاجل العذاب الذي عَجَّلناه لهم, فأغرقناهم أجمعين في البحر.
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ( 56 )
فجعلنا هؤلاء الذين أغرقناهم في البحر سلفًا لمن يعمل مثل عملهم ممن يأتي بعدهم في استحقاق العذاب, وعبرة وعظة للآخرين.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 )
ولما ضرب المشركون عيسى ابن مريم مثلا حين خاصموا محمدا صلى الله عليه وسلم، وحاجُّوه بعبادة النصارى إياه, إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جَلَبة وضجيج فرحًا وسرورًا, وذلك عندما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ , وقال المشركون: رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى, فأنزل الله قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ , فالذي يُلْقى في النار من آلهة المشركين من رضي بعبادتهم إياه.
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 )
وقال مشركو قومك - أيها الرسول- : أآلهتنا التي نعبدها خير أم عيسى الذي يعبده قومه؟ فإذا كان عيسى في النار, فلنكن نحن وآلهتنا معه, ما ضربوا لك هذا المثل إلا جدلا بل هم قوم مخاصمون بالباطل.
إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 )
ما عيسى ابن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة, وجعلناه آية وعبرة لبني إسرائيل يُستدل بها على قدرتا.
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 )
ولو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يَخْلُف بعضهم بعضًا بدلا من بني آدم.
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 )
وإن نزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة لدليل على قُرْبِ, وقوع الساعة, فلا تشُكُّوا أنها واقعة لا محالة, واتبعون فيما أخبركم به عن الله تعالى, هذا طريق قويم إلى الجنة, لا اعوجاج فيه.
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 62 )
ولا يصدَّنكم الشيطان بوساوسه عن طاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه, إنه لكم عدو بيِّن العداوة.
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 )
ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبينات الواضحات من الأدلة قال: قد جئتكم بالنبوة, ولأبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه من أمور الدين, فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, وأطيعون فيما أمرتكم به من تقوى الله وطاعته.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 64 )
إن الله سبحانه وتعالى هو ربي وربكم جميعًا فاعبدوه وحده, ولا تشركوا به شيئًا, هذا الذي أمرتكم به من تقوى الله وإفراده بالألوهية هو الطريق المستقيم, وهو دين الله الحق الذي لا يقبل من أحد سواه.
فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )
فاختلفت الفرق في أمر عيسى عليه السلام, وصاروا فيه شيعًا: منهم مَن يُقِرُّ بأنه عبد الله ورسوله, وهو الحق, ومنهم مَن يزعم أنه ابن الله, ومنهم مَن يقول: إنه الله, تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا, فهلاك ودمار وعذاب أليم يوم القيامة لمن وصفوا عيسى بغير ما وصفه الله به.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 66 )
هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى ابن مريم إلا الساعة أن تأتيهم فجأة, وهم لا يشعرون ولا يفطنون؟
الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ( 67 )
الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة, لكن الذين تصادقوا على تقوى الله, فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة.
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 68 )
يقال لهؤلاء المتقين: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم من عقابي, ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم مِن حظوظ الدنيا.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ( 69 ) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ( 70 )
الذين آمنوا بآياتنا وعملوا بما جاءتهم به رسلهم, وكانوا منقادين لله ربِّ العالمين بقلوبهم وجوارحهم, يقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وقرناؤكم المؤمنون تُنَعَّمون وتُسَرُّون.
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 71 )
يطاف على هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله في الجنة بالطعام في أوانٍ من ذهب, وبالشراب في أكواب من ذهب, وفيها لهم ما تشتهي أنفسهم وتلذه أعينهم, وهم ماكثون فيها أبدًا.
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 72 )
وهذه الجنة التي أورثكم الله إياها؛ بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الخيرات والأعمال الصالحات, وجعلها مِن فضله ورحمته جزاء لكم.
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 73 )
لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كل نوع منها تأكلون.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 74 ) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ( 76 )
إن الذين اكتسبوا الذنوب بكفرهم, في عذاب جهنم ماكثون, لا يخفف عنهم, وهم فيه آيسون من رحمة الله, وما ظلمْنا هؤلاء المجرمين بالعذاب, ولكن كانوا هم الظالمين أنفسهم بشركهم وجحودهم أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وترك اتباعهم لرسل ربهم.
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( 78 )
ونادى هؤلاء المجرمون بعد أن أدخلهم الله جهنم « مالكًا » خازن جهنم: يا مالك لِيُمِتنا ربك, فنستريح ممَّا نحن فيه, فأجابهم مالكٌ: إنكم ماكثون, لا خروج لكم منها, ولا محيد لكم عنها, لقد جئناكم بالحق ووضحناه لكم, ولكن أكثركم لما جاء به الرسل من الحق كارهون.
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( 79 )
بل أأحْكمَ هؤلاء المشركون أمرًا يكيدون به الحق الذي جئناهم به؟ فإنا مدبِّرون لهم ما يجزيهم من العذاب والنكال.
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ( 80 )
أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنَّا لا نسمع ما يسرونه في أنفسهم, ويتناجون به بينهم؟ بلى نسمع ونعلم, ورسلنا الملائكة الكرام الحفظة يكتبون عليهم كل ما عملوا.
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ( 81 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون, فأنا أول العابدين لهذا الولد الذي تزعمونه, ولكن هذا لم يكن ولا يكون، فتقدَّس الله عن الصاحبة والولد.
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 82 )
تنزيهًا وتقديسًا لرب السموات والأرض رب العرش العظيم عما يصفون من الكذب والافتراء من نسبة المشركين الولد إلى الله, وغير ذلك مما يزعمون من الباطل.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 83 )
فاترك - أيها الرسول- هؤلاء المفترين على الله يخوضوا في باطلهم, ويلعبوا في دنياهم, حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يوعدون بالعذاب: إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معًا.
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 84 )
وهو الله وحده المعبود بحق في السماء وفي الأرض, وهو الحكيم الذي أحكم خَلْقَه, وأتقن شرعه, العليم بكل شيء من أحوال خلقه, لا يخفى عليه شيء منها.
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 85 )
وتكاثرت بركة الله, وكَثُر خيره, وعَظُم ملكه, الذي له وحده سلطان السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأشياء كلها, وعنده علم الساعة التي تقوم فيها القيامة, ويُحشر فيها الخلق من قبورهم لموقف الحساب, وإليه تُرَدُّون - أيها الناس- بعد مماتكم, فيجازي كلا بما يستحق.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 86 )
ولا يملك الذين يعبدهم المشركون الشفاعة عنده لأحد إلا مَن شهد بالحق, وأقر بتوحيد الله وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون حقيقة ما أقروا وشهدوا به.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 87 )
ولئن سألت - أيها الرسول- هؤلاء المشركين من قومك مَن خلقهم؟ ليقولُنَّ: الله خلقنا, فكيف ينقلبون وينصرفون عن عبادة الله, ويشركون به غيره؟
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ( 88 )
وقال محمد صلى الله عليه وسلم شاكيًا إلى ربه قومه الذين كذَّبوه: يا ربِّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون بك وبما أرسلتني به إليهم.
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 89 )
فاصفح - أيها الرسول- عنهم, وأعرض عن أذاهم, ولا يَبْدُر منك إلا السلام لهم الذي يقوله أولو الألباب والبصائر للجاهلين, فهم لا يسافهونهم ولا يعاملونهم بمثل أعمالهم السيئة, فسوف يعلمون ما يلقَوْنه من البلاء والنكال. وفي هذا تهديد ووعيد شديد لهؤلاء الكافرين المعاندين وأمثالهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الدخان .. بن كثير
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 7 ) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 8 )
أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظًا ومعنى . إنا أنزلناه في ليلة القدر المباركة كثيرة الخيرات, وهي في رمضان. إنا كنا منذرين الناس بما ينفعهم ويضرهم, وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لتقوم حجة الله على عباده. فيها يُقضى ويُفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من الملائكة كلُّ أمر محكم من الآجال والأرزاق في تلك السنة, وغير ذلك مما يكون فيها إلى آخرها, لا يبدَّل ولا يغيَّر. هذا الأمر الحكيم أمر مِن عندنا, فجميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه. إنا كنا مرسلين إلى الناس الرسل محمدًا ومن قبله؛ رحمة من ربك - أيها الرسول- بالمرسل إليهم. إنه هو السميع يسمع جميع الأصوات, العليم بجميع أمور خلقه الظاهرة والباطنة. خالق السموات والأرض وما بينهما من الأشياء كلها, إن كنتم موقنين بذلك فاعلموا أن رب المخلوقات هو إلهها الحق . لا إله يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له, يحيي ويميت, ربكم ورب آبائكم الأولين, فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 )
بل هؤلاء المشركون في شك من الحق, فهم يلهون ويلعبون, ولا يصدقون به.
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 )
فانتظر - أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس, ويقال لهم: هذا عذاب مؤلم موجع, ثم يقولون سائلين رفعه وكشفه عنهم: ربنا اكشف عنا العذاب, فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ( 14 )
كيف يكون لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول العذاب بهم, وقد جاءهم رسول مبين, وهو محمد عليه الصلاة والسلام, ثم أعرضوا عنه وقالوا: علَّمه بشر أو الكهنة أو الشياطين, هو مجنون وليس برسول؟
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ( 15 )
سنرفع عنكم العذاب قليلا، وسترون أنكم تعودون إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلال والتكذيب، وأننا سنعاقبكم على ذلك.
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ( 16 )
يوم نعذب جميع الكفار العذاب الأكبر يوم القيامة وهو يوم انتقامنا منهم.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 )
ولقد اختبرنا وابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون, وجاءهم رسول كريم, وهو موسى عليه السلام, فكذبوه فهلكوا, فهكذا نفعل بأعدائك أيها الرسول, إن لم يؤمنوا.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
وقال لهم موسى: أن سلِّموا إليَّ عباد الله من بني إسرائيل وأرسلوهم معي؛ ليعبدوا الله وحده لا شريك له, إني لكم رسول أمين على وحيه ورسالته.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 19 ) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ( 20 ) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ( 21 )
وألا تتكبروا على الله بتكذيب رسله, إني آتيكم ببرهان واضح على صدق رسالتي, إني استجرت بالله ربي وربكم أن تقتلوني رجمًا بالحجارة, وإن لم تصدقوني على ما جئتكم به فخلُّوا سبيلي, وكفُّوا عن أذاي.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ( 22 )
فدعا موسى ربه- حين كذبه فرعون وقومه ولم يؤمنوا به- قائلا إن هؤلاء قوم مشركون بالله كافرون.
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ( 23 )
فأَسْر- يا موسى- بعبادي- الذين صَدَّقوك, وآمنوا بك, واتبعوك, دون الذين كذبوك منهم- ليلا إنكم متبعون من فرعون وجنوده فتنجون, ويغرق فرعون وجنوده.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ( 24 )
واترك البحر كما هو على حالته التي كان عليها حين سلكته, ساكنًا غير مضطرب, إن فرعون وجنوده مغرقون في البحر.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 25 ) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( 26 ) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( 27 )
كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم وإغراق الله إياهم من بساتين وجنات ناضرة, وعيون من الماء جارية, وزروع ومنازل جميلة, وعيشة كانوا فيها متنعمين مترفين.
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( 28 )
مثل ذلك العقاب يعاقب الله مَن كذَّب وبدَّل نعمة الله كفرًا, وأورثنا تلك النعم من بعد فرعون وقومه قومًا آخرين خلفوهم من بني إسرائيل.
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ( 29 )
فما بكت السماء والأرض حزنًا على فرعون وقومه, وما كانوا مؤخَّرين عن العقوبة التي حلَّت بهم.
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 30 )
ولقد نجَّينا بني إسرائيل من العذاب المُذلِّ لهم بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم.
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )
من فرعون, إنه كان جبارًا من المشركين, مسرفًا في العلو والتكبر على عباد الله.
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 32 )
ولقد اصطفينا بني إسرائيل على عِلْم منا بهم على عالمي زمانهم.
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ( 33 )
وآتيناهم من المعجزات على يد موسى ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم رخاء وشدة.
إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ( 34 ) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ( 35 )
إن هؤلاء المشركين مِن قومك - أيها الرسول- ليقولون: ما هي إلا موتتنا التي نموتها, وهي الموتة الأولى والأخيرة, وما نحن بعد مماتنا بمبعوثين للحساب والثواب والعقاب.
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 36 )
ويقولون أيضًا: فَأْتِ- يا محمد أنت ومَن معك- بآبائنا الذين قد ماتوا, إن كنتم صادقين في أن الله يبعث مَن في القبور أحياء.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( 37 )
أهؤلاء المشركون خير أم قوم تُبَّع الحِمْيَري والذين مِن قبلهم من الأمم الكافرة بربها؟ أهلكناهم لإجرامهم وكفرهم, ليس هؤلاء المشركون بخير مِن أولئكم فنصفح عنهم, ولا نهلكهم, وهم بالله كافرون.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 38 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 39 )
وما خلقنا السماوات والأرض وبينهما لعبًا, ما خلقناهما إلا بالحق الذي هو سنة الله في خَلْقِه وتدبيرُه, ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك, فلهذا لم يتفكروا فيهما; لأنهم لا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ( 40 )
إن يوم القضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم من خير أو شر هو ميقاتهم أجمعين.
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 41 ) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 42 )
يوم لا يدفع صاحب عن صاحبه شيئًا، ولا ينصر بعضهم بعضًا, إلا مَن رحم الله من المؤمنين, فإنه قد يشفع له عند ربه بعد إذن الله له. إن الله هو العزيز في انتقامه مِن أعدائه, الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ( 43 ) طَعَامُ الأَثِيمِ ( 44 )
إن شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم, ثمرها طعام صاحب الآثام الكثيرة, وأكبر الآثام الشرك بالله.
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ( 45 ) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ( 46 )
ثمر شجرة الزقوم كالمَعْدِن المذاب يغلي في بطون المشركين, كغلي الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة.
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 47 )
خذوا هذا الأثيم الفاجر فادفعوه, وسوقوه بعنف إلى وسط الجحيم يوم القيامة.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ( 48 )
ثم صبُّوا فوق رأس هذا الأثيم الماء الذي تناهت شدة حرارته, فلا يفارقه العذاب.
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( 49 )
يقال لهذا الأثيم الشقيِّ: ذق هذا العذاب الذي تعذَّب به اليوم, إنك أنت العزيز في قومك, الكريم عليهم. وفي هذا تهكم به وتوبيخ له.
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ( 50 )
إن هذا العذاب الذي تعذَّبون به اليوم هو العذاب الذي كنتم تشكُّون فيه في الدنيا, ولا توقنون به.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ( 51 )
إن الذين اتقوا الله بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه في الدنيا في موضع إقامة آمنين من الآفات والأحزان وغير ذلك.
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 52 )
في جنات وعيون جارية.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ( 53 )
يَلْبَسون ما رَقَّ من الديباج وما غَلُظَ منه, يقابل بعضهم بعضًا بالوجوه, ولا ينظر بعضهم في قفا بعض, يدور بهم مجلسهم حيث داروا.
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 54 )
كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالهم الجنات وإلباسهم فيها السندس والإستبرق, كذلك أكرمناهم بأن زوَّجناهم بالحسان من النساء واسعات الأعين جميلاتها.
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ( 55 )
يطلب هؤلاء المتقون في الجنة كل نوع من فواكه الجنة اشتهوه, آمنين من انقطاع ذلك عنهم وفنائه.
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 56 ) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 57 ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا, ووقى الله هؤلاء التقين عذاب الجحيم؛ تفضلا وإحسانًا منه سبحانه وتعالى, هذا الذي أعطيناه المتقين في الآخرة من الكرامات هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده. فإنما سهَّلنا لفظ القرآن ومعناه بلغتك أيها الرسول; لعلهم يتعظون وينزجرون.
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ( 59 )
فانتظر - أيها الرسول- ما وعدتك من النصر على هؤلاء المشركين بالله, وما يحلُّ بهم من العقاب, إنهم منتظرون موتك وقهرك, سيعلمون لمن تكون النصرة والظَّفَر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة, إنها لك - أيها الرسول- ولمن اتبعك من المؤمنين.
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 7 ) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 8 )
أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح لفظًا ومعنى . إنا أنزلناه في ليلة القدر المباركة كثيرة الخيرات, وهي في رمضان. إنا كنا منذرين الناس بما ينفعهم ويضرهم, وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لتقوم حجة الله على عباده. فيها يُقضى ويُفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من الملائكة كلُّ أمر محكم من الآجال والأرزاق في تلك السنة, وغير ذلك مما يكون فيها إلى آخرها, لا يبدَّل ولا يغيَّر. هذا الأمر الحكيم أمر مِن عندنا, فجميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه. إنا كنا مرسلين إلى الناس الرسل محمدًا ومن قبله؛ رحمة من ربك - أيها الرسول- بالمرسل إليهم. إنه هو السميع يسمع جميع الأصوات, العليم بجميع أمور خلقه الظاهرة والباطنة. خالق السموات والأرض وما بينهما من الأشياء كلها, إن كنتم موقنين بذلك فاعلموا أن رب المخلوقات هو إلهها الحق . لا إله يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له, يحيي ويميت, ربكم ورب آبائكم الأولين, فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 )
بل هؤلاء المشركون في شك من الحق, فهم يلهون ويلعبون, ولا يصدقون به.
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 )
فانتظر - أيها الرسول- بهؤلاء المشركين يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس, ويقال لهم: هذا عذاب مؤلم موجع, ثم يقولون سائلين رفعه وكشفه عنهم: ربنا اكشف عنا العذاب, فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ( 14 )
كيف يكون لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول العذاب بهم, وقد جاءهم رسول مبين, وهو محمد عليه الصلاة والسلام, ثم أعرضوا عنه وقالوا: علَّمه بشر أو الكهنة أو الشياطين, هو مجنون وليس برسول؟
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ( 15 )
سنرفع عنكم العذاب قليلا، وسترون أنكم تعودون إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلال والتكذيب، وأننا سنعاقبكم على ذلك.
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ( 16 )
يوم نعذب جميع الكفار العذاب الأكبر يوم القيامة وهو يوم انتقامنا منهم.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 )
ولقد اختبرنا وابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون, وجاءهم رسول كريم, وهو موسى عليه السلام, فكذبوه فهلكوا, فهكذا نفعل بأعدائك أيها الرسول, إن لم يؤمنوا.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
وقال لهم موسى: أن سلِّموا إليَّ عباد الله من بني إسرائيل وأرسلوهم معي؛ ليعبدوا الله وحده لا شريك له, إني لكم رسول أمين على وحيه ورسالته.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 19 ) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ( 20 ) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ( 21 )
وألا تتكبروا على الله بتكذيب رسله, إني آتيكم ببرهان واضح على صدق رسالتي, إني استجرت بالله ربي وربكم أن تقتلوني رجمًا بالحجارة, وإن لم تصدقوني على ما جئتكم به فخلُّوا سبيلي, وكفُّوا عن أذاي.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ( 22 )
فدعا موسى ربه- حين كذبه فرعون وقومه ولم يؤمنوا به- قائلا إن هؤلاء قوم مشركون بالله كافرون.
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ( 23 )
فأَسْر- يا موسى- بعبادي- الذين صَدَّقوك, وآمنوا بك, واتبعوك, دون الذين كذبوك منهم- ليلا إنكم متبعون من فرعون وجنوده فتنجون, ويغرق فرعون وجنوده.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ( 24 )
واترك البحر كما هو على حالته التي كان عليها حين سلكته, ساكنًا غير مضطرب, إن فرعون وجنوده مغرقون في البحر.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 25 ) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( 26 ) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( 27 )
كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم وإغراق الله إياهم من بساتين وجنات ناضرة, وعيون من الماء جارية, وزروع ومنازل جميلة, وعيشة كانوا فيها متنعمين مترفين.
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( 28 )
مثل ذلك العقاب يعاقب الله مَن كذَّب وبدَّل نعمة الله كفرًا, وأورثنا تلك النعم من بعد فرعون وقومه قومًا آخرين خلفوهم من بني إسرائيل.
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ( 29 )
فما بكت السماء والأرض حزنًا على فرعون وقومه, وما كانوا مؤخَّرين عن العقوبة التي حلَّت بهم.
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 30 )
ولقد نجَّينا بني إسرائيل من العذاب المُذلِّ لهم بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم.
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )
من فرعون, إنه كان جبارًا من المشركين, مسرفًا في العلو والتكبر على عباد الله.
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 32 )
ولقد اصطفينا بني إسرائيل على عِلْم منا بهم على عالمي زمانهم.
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ ( 33 )
وآتيناهم من المعجزات على يد موسى ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم رخاء وشدة.
إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ( 34 ) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ( 35 )
إن هؤلاء المشركين مِن قومك - أيها الرسول- ليقولون: ما هي إلا موتتنا التي نموتها, وهي الموتة الأولى والأخيرة, وما نحن بعد مماتنا بمبعوثين للحساب والثواب والعقاب.
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 36 )
ويقولون أيضًا: فَأْتِ- يا محمد أنت ومَن معك- بآبائنا الذين قد ماتوا, إن كنتم صادقين في أن الله يبعث مَن في القبور أحياء.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( 37 )
أهؤلاء المشركون خير أم قوم تُبَّع الحِمْيَري والذين مِن قبلهم من الأمم الكافرة بربها؟ أهلكناهم لإجرامهم وكفرهم, ليس هؤلاء المشركون بخير مِن أولئكم فنصفح عنهم, ولا نهلكهم, وهم بالله كافرون.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 38 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 39 )
وما خلقنا السماوات والأرض وبينهما لعبًا, ما خلقناهما إلا بالحق الذي هو سنة الله في خَلْقِه وتدبيرُه, ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك, فلهذا لم يتفكروا فيهما; لأنهم لا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ( 40 )
إن يوم القضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم من خير أو شر هو ميقاتهم أجمعين.
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 41 ) إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 42 )
يوم لا يدفع صاحب عن صاحبه شيئًا، ولا ينصر بعضهم بعضًا, إلا مَن رحم الله من المؤمنين, فإنه قد يشفع له عند ربه بعد إذن الله له. إن الله هو العزيز في انتقامه مِن أعدائه, الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ( 43 ) طَعَامُ الأَثِيمِ ( 44 )
إن شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم, ثمرها طعام صاحب الآثام الكثيرة, وأكبر الآثام الشرك بالله.
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ( 45 ) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ( 46 )
ثمر شجرة الزقوم كالمَعْدِن المذاب يغلي في بطون المشركين, كغلي الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة.
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( 47 )
خذوا هذا الأثيم الفاجر فادفعوه, وسوقوه بعنف إلى وسط الجحيم يوم القيامة.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ( 48 )
ثم صبُّوا فوق رأس هذا الأثيم الماء الذي تناهت شدة حرارته, فلا يفارقه العذاب.
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( 49 )
يقال لهذا الأثيم الشقيِّ: ذق هذا العذاب الذي تعذَّب به اليوم, إنك أنت العزيز في قومك, الكريم عليهم. وفي هذا تهكم به وتوبيخ له.
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ( 50 )
إن هذا العذاب الذي تعذَّبون به اليوم هو العذاب الذي كنتم تشكُّون فيه في الدنيا, ولا توقنون به.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ( 51 )
إن الذين اتقوا الله بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه في الدنيا في موضع إقامة آمنين من الآفات والأحزان وغير ذلك.
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 52 )
في جنات وعيون جارية.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ( 53 )
يَلْبَسون ما رَقَّ من الديباج وما غَلُظَ منه, يقابل بعضهم بعضًا بالوجوه, ولا ينظر بعضهم في قفا بعض, يدور بهم مجلسهم حيث داروا.
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 54 )
كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالهم الجنات وإلباسهم فيها السندس والإستبرق, كذلك أكرمناهم بأن زوَّجناهم بالحسان من النساء واسعات الأعين جميلاتها.
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ( 55 )
يطلب هؤلاء المتقون في الجنة كل نوع من فواكه الجنة اشتهوه, آمنين من انقطاع ذلك عنهم وفنائه.
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 56 ) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 57 ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 58 )
لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا, ووقى الله هؤلاء التقين عذاب الجحيم؛ تفضلا وإحسانًا منه سبحانه وتعالى, هذا الذي أعطيناه المتقين في الآخرة من الكرامات هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده. فإنما سهَّلنا لفظ القرآن ومعناه بلغتك أيها الرسول; لعلهم يتعظون وينزجرون.
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ( 59 )
فانتظر - أيها الرسول- ما وعدتك من النصر على هؤلاء المشركين بالله, وما يحلُّ بهم من العقاب, إنهم منتظرون موتك وقهرك, سيعلمون لمن تكون النصرة والظَّفَر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة, إنها لك - أيها الرسول- ولمن اتبعك من المؤمنين.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الجاثية .. بن كثير
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 )
هذا القرآن منزل من الله العزيز في انتقامه من أعدائه, الحكيم في تدبير أمور خلقه.
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 )
إن في السموات السبع, والأرض التي منها خروج الخلق, وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع، لأدلة وحججًا للمؤمنين بها.
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 )
وفي خَلْقكم - أيها الناس- وخلق ما تفرق في الأرض من دابة تَدِبُّ عليها, حجج وأدلة لقوم يوقنون بالله وشرعه.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 )
وفي اختلاف الليل والنار وتعاقبهما عليكم وما أنزل الله من السماء من مطر, فأحيا به الأرض بعد يُبْسها, فاهتزت بالنبات والزرع, وفي تصريف الرياح لكم من جميع الجهات وتصريفها لمنافعكم, أدلةٌ وحججٌ لقوم يعقلون عن الله حججه وأدلته.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( 6 )
هذه الآيات والحجج نتلوها عليك - أيها الرسول- بالحق, فبأي حديث بعد الله وآياته وأدلته على أنه الإله الحق وحده لا شريك له يؤمنون ويصدقون ويعملون؟
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 7 )
هلاك شديد ودمار لكل كذاب كثير الآثام.
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 8 )
يسمع آيات كتاب الله تُقْرأ عليه, ثم يتمادى في كفره متعاليًا في نفسه عن الانقياد لله ورسوله, كأنه لم يسمع ما تُلي عليه من آيات الله, فبشر - أيها الرسول- هذا الأفاك الأثيم بعذاب مؤلم موجع في نار جهنم يوم القيامة.
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 9 )
وإذا علم هذا الأفاك الأثيم من آياتا شيئًا اتخذها هزوًا وسُخْرية, أولئك لهم عذاب يهينهم, ويخزيهم يوم القيامة؛ جزاء استهزائهم بالقرآن.
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 10 )
مِن أمام هؤلاء المستهزئين بآيات الله جهنم, ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئًا من المال والولد, ولا آلهتُهم التي عبدوها مِن دون الله, ولهم عذاب عظيم مؤلم.
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( 11 )
هذا القرآن الذي أنزلناه عليك - أيها الرسول- هدى من الضلالة, ودليل على الحق, يهدي إلى طريق مستقيم مَن اتبعه وعمل به, والذين جحدوا بما في القرآن من الآيات الدالة على الحق ولم يُصَدِّقوا بها, لهم عذابٌ مِن أسوأ أنواع العذاب يوم القيامة, مؤلم موجع.
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )
الله سبحانه وتعالى هو الذي سخَّر لكم البحر; لتجري السفن فيه بأمره, ولتبتغوا من فضله بأنواع التجارات والمكاسب, ولعلكم تشكرون ربكم على تسخيره ذلك لكم, فتعبدوه وحده, وتطيعوه فيما يأمركم به, وينهاكم عنه.
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 13 )
وسخَّر لكم كل ما في السموات من شمس وقمر ونجوم, وكل ما في الأرض من دابة وشجر وسفن وغير ذلك لمنافعكم, جميع هذه النعم منة من الله وحده أنعم بها عليكم, وفضل منه تَفضَّل به, فإياه فاعبدوا, ولا تجعلوا له شريكًا. إنَّ فيما سخره الله لكم لعلامات ودلالات على وحدانية الله لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته, فيعتبرون بها.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 14 )
قل - أيها الرسول- للذين صدَّقوا بالله واتَّبَعوا رسله يعفوا, ويتجاوزوا عن الذين لا يرجون ثواب الله, ولا يخافون بأسه إذا هم نالوا الذين آمنوا بالأذى والمكروه; ليجزي الله هؤلاء المشركين بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام وإيذاء المؤمنين.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 15 )
من عمل مِن عباد الله بطاعته فلنفسه عمل, ومن أساء عمله في الدنيا بمعصية الله فعلى نفسه جنى, ثم إنكم - أيها الناس - إلى ربكم تصيرون بعد موتكم, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 16 )
ولقد آتينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل والحكم بما فيهما, وجعلنا أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام فيهم, ورزقناهم من الطيبات من الأقوات والثمار والأطعمة, وفضَّلناهم على عالمي زمانهم.
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 17 )
وآتينا بني إسرائيل شرائع واضحات في الحلال والحرام, ودلالات تبين الحق من الباطل, فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم, وقامت الحجة عليهم, وإنما حَمَلهم على ذلك بَغْيُ بعضهم على بعض؛ طلبًا للرفعة والرئاسة, إن ربك - أيها الرسول- يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا. وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم.
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 18 )
ثم جعلناك - أيها الرسول- على منهاج واضح من أمر الدين, فاتبع الشريعة التي جعلناك عليها, ولا تتبع أهواء الجاهلين بشرع الله الذين لا يعلمون الحق. وفي الآية دلالة عظيمة على كمال هذا الدين وشرفه, ووجوب الانقياد لحكمه, وعدم الميل إلى أهواء الكفرة والملحدين.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ( 19 )
إن هؤلاء المشركين بربهم الذين يدعونك إلى اتباع أهوائهم لن يغنوا عنك - أيها الرسول- من عقاب الله شيئًا إن اتبعت أهواءهم, وإن الظالمين المتجاوزين حدود الله من المنافقين واليهود وغيرهم بعضهم أنصار بعض على المؤمنين بالله وأهل طاعته, والله ناصر المتقين ربَّهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 20 )
هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول بصائر يبصر به الناس الحق من الباطل, ويعرفون به سبيل الرشاد, وهدى ورحمةٌ لقوم يوقنون بحقيقة صحته, وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 21 )
بل أظنَّ الذين اكتسبوا السيئات, وكذَّبوا رسل الله, وخالفوا أمر ربهم, وعبدوا غيره, أن نجعلهم كالذين آمنوا بالله, وصدقوا رسله وعملوا الصالحات, وأخلصوا له العبادة دون سواه, ونساويَهم بهم في الدنيا والآخرة؟ ساء حكمهم بالمساواة بين الفجار والأبرار في الآخرة.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 22 )
وخَلَق الله السموات والأرض بالحق والعدل والحكمة; ولكي تجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت مِن خير أو شر, وهم لا يُظْلمون جزاء أعمالهم.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 23 )
أفرأيت - أيها الرسول- من اتخذ هواه إلهًا له, فلا يهوى شيئًا إلا فَعَله, وأضلَّه الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه, فلا يسمع مواعظ الله, ولا يعتبر بها, وطبع على قلبه, فلا يعقل به شيئًا, وجعل على بصره غطاء, فلا يبصر به حجج الله؟ فمن يوفقه لإصابة الحق والرشد بعد إضلال الله إياه؟ أفلا تذكرون - أيها الناس- فتعلموا أنَّ مَن فَعَل الله به ذلك فلن يهتدي أبدًا, ولن يجد لنفسه وليًا مرشدًا؟ والآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى هو الباعث للمؤمنين على أعمالهم.
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 24 )
وقال هؤلاء المشركون: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها, لا حياة سواها; تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات, وما يهلكنا إلا مرُّ الليالي والأيام وطول العمر؛ إنكارًا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم, وما لهؤلاء المشركين من علم بذلك, ما هم إلا يتكلمون بالظن والوهم والخيال.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 )
إذا تتلى على هؤلاء المشركين المكذبين بالبعث آياتنا واضحات, لم يكن لهم حجة إلا قولهم للرسول محمد: أحْي أنت والمؤمنون معك آباءنا الذين قد هلكوا, إن كنتم صادقين فيما تقولون.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 26 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث: الله سبحانه وتعالى يحييكم في الدنيا ما شاء لكم الحياة, ثم يميتكم فيها, ثم يجمعكم جميعا أحياء إلى يوم القيامة لا شك فيه, ولكن أكثر الناس لا يعلمون قدرة الله على إماتتهم ثم بعثهم يوم القيامة.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 )
ولله سبحانه سلطان السموات السبع والأرض خَلْقًا ومُلْكًا وعبودية. ويوم تجيء الساعة التي يبعث فيها الموتى من قبورهم ويحاسبون, يخسر الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسوله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 )
وترى - أيها الرسول- يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثمين على رُكَبهم, كل أمة تُدْعى إلى كتاب أعمالها, ويقال لهم: اليوم تُجزون ما كنتم تعملون من خير أو شر .
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 29 )
هذا كتابنا ينطق عليكم بجميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص, إنَّا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 30 )
فأما الذين آمنوا بالله ورسوله في الدنيا, وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه, فيدخلهم ربهم في جنته برحمته, ذلك الدخول هو الفوز المبين الذي لا فوز بعده.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 31 )
وأما الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وكذَّبوا رسله ولم يعملوا بشرعه, فيقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: أفلم تكن آياتي في الدنيا تتلى عليكم, فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها, وكنتم قومًا مشركين تكسِبون المعاصي ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب؟
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( 32 )
وإذا قيل لكم: إن وعد الله ببعث الناس من قبورهم حق, والساعة لا شك فيها, قلتم: ما ندري ما الساعة؟ وما نتوقع وقوعها إلا توهمًا, وما نحن بمتحققين أن الساعة آتية.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 33 )
وظهر لهؤلاء الذين كانوا يكذِّبون بآيات الله ما عملوا في الدنيا من الأعمال القبيحة, ونزل بهم من عذاب الله جزاء ما كانوا به يستهزئون.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 34 )
وقيل لهؤلاء الكفرة: اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم الإيمان بربكم والعمل للقاء يومكم هذا, ومسكنكم نار جهنم, وما لكم من ناصرين ينصرونكم من عذاب الله.
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 35 )
هذا الذي حلَّ بكم مِن عذاب الله ; بسبب أنكم اتخذتم آيات الله وحججه هزوًا ولعبًا, وخدعتكم زينة الحياة الدنيا, فاليوم لا يُخرجون من النار, ولا هم يُرَدُّون إلى الدنيا؛ ليتوبوا ويعملوا صالحًا.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 36 )
فلله سبحانه وتعالى وحده الحمد على نعمه التي لا تحصى على خلقه, رب السموات والأرض وخالقهما ومدبرهما, رب الخلائق أجمعين.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 37 )
وله وحده سبحانه العظمة والجلال والكبرياء والسُّلْطان والقدرة والكمال في السموات والأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه, تعالى وتقدَّس, لا إله إلا هو.
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 )
هذا القرآن منزل من الله العزيز في انتقامه من أعدائه, الحكيم في تدبير أمور خلقه.
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 3 )
إن في السموات السبع, والأرض التي منها خروج الخلق, وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع، لأدلة وحججًا للمؤمنين بها.
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 4 )
وفي خَلْقكم - أيها الناس- وخلق ما تفرق في الأرض من دابة تَدِبُّ عليها, حجج وأدلة لقوم يوقنون بالله وشرعه.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 5 )
وفي اختلاف الليل والنار وتعاقبهما عليكم وما أنزل الله من السماء من مطر, فأحيا به الأرض بعد يُبْسها, فاهتزت بالنبات والزرع, وفي تصريف الرياح لكم من جميع الجهات وتصريفها لمنافعكم, أدلةٌ وحججٌ لقوم يعقلون عن الله حججه وأدلته.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ( 6 )
هذه الآيات والحجج نتلوها عليك - أيها الرسول- بالحق, فبأي حديث بعد الله وآياته وأدلته على أنه الإله الحق وحده لا شريك له يؤمنون ويصدقون ويعملون؟
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 7 )
هلاك شديد ودمار لكل كذاب كثير الآثام.
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 8 )
يسمع آيات كتاب الله تُقْرأ عليه, ثم يتمادى في كفره متعاليًا في نفسه عن الانقياد لله ورسوله, كأنه لم يسمع ما تُلي عليه من آيات الله, فبشر - أيها الرسول- هذا الأفاك الأثيم بعذاب مؤلم موجع في نار جهنم يوم القيامة.
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 9 )
وإذا علم هذا الأفاك الأثيم من آياتا شيئًا اتخذها هزوًا وسُخْرية, أولئك لهم عذاب يهينهم, ويخزيهم يوم القيامة؛ جزاء استهزائهم بالقرآن.
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 10 )
مِن أمام هؤلاء المستهزئين بآيات الله جهنم, ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئًا من المال والولد, ولا آلهتُهم التي عبدوها مِن دون الله, ولهم عذاب عظيم مؤلم.
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ( 11 )
هذا القرآن الذي أنزلناه عليك - أيها الرسول- هدى من الضلالة, ودليل على الحق, يهدي إلى طريق مستقيم مَن اتبعه وعمل به, والذين جحدوا بما في القرآن من الآيات الدالة على الحق ولم يُصَدِّقوا بها, لهم عذابٌ مِن أسوأ أنواع العذاب يوم القيامة, مؤلم موجع.
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 12 )
الله سبحانه وتعالى هو الذي سخَّر لكم البحر; لتجري السفن فيه بأمره, ولتبتغوا من فضله بأنواع التجارات والمكاسب, ولعلكم تشكرون ربكم على تسخيره ذلك لكم, فتعبدوه وحده, وتطيعوه فيما يأمركم به, وينهاكم عنه.
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 13 )
وسخَّر لكم كل ما في السموات من شمس وقمر ونجوم, وكل ما في الأرض من دابة وشجر وسفن وغير ذلك لمنافعكم, جميع هذه النعم منة من الله وحده أنعم بها عليكم, وفضل منه تَفضَّل به, فإياه فاعبدوا, ولا تجعلوا له شريكًا. إنَّ فيما سخره الله لكم لعلامات ودلالات على وحدانية الله لقوم يتفكرون في آيات الله وحججه وأدلته, فيعتبرون بها.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 14 )
قل - أيها الرسول- للذين صدَّقوا بالله واتَّبَعوا رسله يعفوا, ويتجاوزوا عن الذين لا يرجون ثواب الله, ولا يخافون بأسه إذا هم نالوا الذين آمنوا بالأذى والمكروه; ليجزي الله هؤلاء المشركين بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام وإيذاء المؤمنين.
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 15 )
من عمل مِن عباد الله بطاعته فلنفسه عمل, ومن أساء عمله في الدنيا بمعصية الله فعلى نفسه جنى, ثم إنكم - أيها الناس - إلى ربكم تصيرون بعد موتكم, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 16 )
ولقد آتينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل والحكم بما فيهما, وجعلنا أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام فيهم, ورزقناهم من الطيبات من الأقوات والثمار والأطعمة, وفضَّلناهم على عالمي زمانهم.
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 17 )
وآتينا بني إسرائيل شرائع واضحات في الحلال والحرام, ودلالات تبين الحق من الباطل, فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم, وقامت الحجة عليهم, وإنما حَمَلهم على ذلك بَغْيُ بعضهم على بعض؛ طلبًا للرفعة والرئاسة, إن ربك - أيها الرسول- يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا. وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم.
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 18 )
ثم جعلناك - أيها الرسول- على منهاج واضح من أمر الدين, فاتبع الشريعة التي جعلناك عليها, ولا تتبع أهواء الجاهلين بشرع الله الذين لا يعلمون الحق. وفي الآية دلالة عظيمة على كمال هذا الدين وشرفه, ووجوب الانقياد لحكمه, وعدم الميل إلى أهواء الكفرة والملحدين.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ( 19 )
إن هؤلاء المشركين بربهم الذين يدعونك إلى اتباع أهوائهم لن يغنوا عنك - أيها الرسول- من عقاب الله شيئًا إن اتبعت أهواءهم, وإن الظالمين المتجاوزين حدود الله من المنافقين واليهود وغيرهم بعضهم أنصار بعض على المؤمنين بالله وأهل طاعته, والله ناصر المتقين ربَّهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 20 )
هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول بصائر يبصر به الناس الحق من الباطل, ويعرفون به سبيل الرشاد, وهدى ورحمةٌ لقوم يوقنون بحقيقة صحته, وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 21 )
بل أظنَّ الذين اكتسبوا السيئات, وكذَّبوا رسل الله, وخالفوا أمر ربهم, وعبدوا غيره, أن نجعلهم كالذين آمنوا بالله, وصدقوا رسله وعملوا الصالحات, وأخلصوا له العبادة دون سواه, ونساويَهم بهم في الدنيا والآخرة؟ ساء حكمهم بالمساواة بين الفجار والأبرار في الآخرة.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 22 )
وخَلَق الله السموات والأرض بالحق والعدل والحكمة; ولكي تجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت مِن خير أو شر, وهم لا يُظْلمون جزاء أعمالهم.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 23 )
أفرأيت - أيها الرسول- من اتخذ هواه إلهًا له, فلا يهوى شيئًا إلا فَعَله, وأضلَّه الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه, فلا يسمع مواعظ الله, ولا يعتبر بها, وطبع على قلبه, فلا يعقل به شيئًا, وجعل على بصره غطاء, فلا يبصر به حجج الله؟ فمن يوفقه لإصابة الحق والرشد بعد إضلال الله إياه؟ أفلا تذكرون - أيها الناس- فتعلموا أنَّ مَن فَعَل الله به ذلك فلن يهتدي أبدًا, ولن يجد لنفسه وليًا مرشدًا؟ والآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى هو الباعث للمؤمنين على أعمالهم.
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 24 )
وقال هؤلاء المشركون: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها, لا حياة سواها; تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات, وما يهلكنا إلا مرُّ الليالي والأيام وطول العمر؛ إنكارًا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم, وما لهؤلاء المشركين من علم بذلك, ما هم إلا يتكلمون بالظن والوهم والخيال.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 25 )
إذا تتلى على هؤلاء المشركين المكذبين بالبعث آياتنا واضحات, لم يكن لهم حجة إلا قولهم للرسول محمد: أحْي أنت والمؤمنون معك آباءنا الذين قد هلكوا, إن كنتم صادقين فيما تقولون.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 26 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث: الله سبحانه وتعالى يحييكم في الدنيا ما شاء لكم الحياة, ثم يميتكم فيها, ثم يجمعكم جميعا أحياء إلى يوم القيامة لا شك فيه, ولكن أكثر الناس لا يعلمون قدرة الله على إماتتهم ثم بعثهم يوم القيامة.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 )
ولله سبحانه سلطان السموات السبع والأرض خَلْقًا ومُلْكًا وعبودية. ويوم تجيء الساعة التي يبعث فيها الموتى من قبورهم ويحاسبون, يخسر الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسوله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 )
وترى - أيها الرسول- يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثمين على رُكَبهم, كل أمة تُدْعى إلى كتاب أعمالها, ويقال لهم: اليوم تُجزون ما كنتم تعملون من خير أو شر .
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 29 )
هذا كتابنا ينطق عليكم بجميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص, إنَّا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 30 )
فأما الذين آمنوا بالله ورسوله في الدنيا, وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه, فيدخلهم ربهم في جنته برحمته, ذلك الدخول هو الفوز المبين الذي لا فوز بعده.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 31 )
وأما الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وكذَّبوا رسله ولم يعملوا بشرعه, فيقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: أفلم تكن آياتي في الدنيا تتلى عليكم, فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها, وكنتم قومًا مشركين تكسِبون المعاصي ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب؟
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( 32 )
وإذا قيل لكم: إن وعد الله ببعث الناس من قبورهم حق, والساعة لا شك فيها, قلتم: ما ندري ما الساعة؟ وما نتوقع وقوعها إلا توهمًا, وما نحن بمتحققين أن الساعة آتية.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 33 )
وظهر لهؤلاء الذين كانوا يكذِّبون بآيات الله ما عملوا في الدنيا من الأعمال القبيحة, ونزل بهم من عذاب الله جزاء ما كانوا به يستهزئون.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 34 )
وقيل لهؤلاء الكفرة: اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم الإيمان بربكم والعمل للقاء يومكم هذا, ومسكنكم نار جهنم, وما لكم من ناصرين ينصرونكم من عذاب الله.
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 35 )
هذا الذي حلَّ بكم مِن عذاب الله ; بسبب أنكم اتخذتم آيات الله وحججه هزوًا ولعبًا, وخدعتكم زينة الحياة الدنيا, فاليوم لا يُخرجون من النار, ولا هم يُرَدُّون إلى الدنيا؛ ليتوبوا ويعملوا صالحًا.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 36 )
فلله سبحانه وتعالى وحده الحمد على نعمه التي لا تحصى على خلقه, رب السموات والأرض وخالقهما ومدبرهما, رب الخلائق أجمعين.
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 37 )
وله وحده سبحانه العظمة والجلال والكبرياء والسُّلْطان والقدرة والكمال في السموات والأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه, تعالى وتقدَّس, لا إله إلا هو.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الأحقاف .. بن كثير
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 )
هذا القرآن تنزيل من الله العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في تدبيره وصنعه.
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 )
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق, لا عبثًا ولا سدى؛ بل ليعرف العباد عظمة خالقهما فيعبدوه وحده, ويعلموا أنه قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم, وليقيموا الحق والعدل فيما بينهم وإلى أجل معلوم عنده. والذين جحدوا أن الله هو الإله الحق, عما أنذرهم به القرآن معرضون, لا يتعظون ولا يتفكرون.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 4 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء الكفار: أرأيتم الآلهة, والأوثان التي تعبدونها من دون الله, أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض, أم لهم مع الله نصيب من خلق السموات؟ ائتوني بكتاب من عند الله من قبل هذا القرآن أو ببقيَّة من علم, إن كنتم صادقين فيما تزعمون.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 )
لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب دعاءه أبدًا؛ لأنها من الأموات أو الأحجار والأشجار ونحوها, وهي غافلة عن دعاء مَن يعبدها, عاجزة عن نفعه أو ضره.
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( 6 )
وإذا حُشر الناس يوم القيامة للحساب والجزاء كانت الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء, تلعنهم وتتبرأ منهم, وتنكر علمها بعبادتهم إياها.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتنا واضحات, قال الذين كفروا حين جاءهم القرآن: هذا سحر ظاهر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 8 )
بل أيقول هؤلاء المشركون: إن محمدًا اختلق هذا القرآن؟ قل لهم - أيها الرسول- : إن اختلقته على الله فإنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني من عقاب الله شيئًا, إن عاقبني على ذلك. هو سبحانه أعلم من كل شيء سواه بما تقولون في هذا القرآن, كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم, وهو الغفور لمن تاب إليه, الرحيم بعباده المؤمنين.
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 9 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: ما كنتُ أول رسل الله إلى خلقه, وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم في الدنيا, ما أتبع فيما آمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ, وما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به, وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن, وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن, وجحدتم ذلك استكبارًا, فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( 11 )
وقال الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاء به خيرًا ما سبقتمونا إلى التصديق به, وإذ لم يهتدوا بالقرآن ولم ينتفعوا بما فيه من الحق فسيقولون: هذا كذب, مأثور عن الناس الأقدمين.
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( 12 )
ومن قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة إمامًا لبني إسرائيل يقتدون بها, ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها, وهذا القرآن مصدق لما قبله من الكتب, أنزلناه بلسان عربي؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية, وبشرى للذين أطاعوا الله, فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم في الدنيا.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 13 )
إن الذين قالوا: ربنا الله, ثم استقاموا على الإيمان به, فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله, ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 14 )
أولئك أهل الجنة ماكثين فيها أبدًا برحمة الله تعالى لهم, وبما قدَّموا من عمل صالح في دنياهم.
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 )
ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما, فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب, وولدته على مشقة وتعب أيضًا, ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب, دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب. حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية, وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ, واجعلني أعمل صالحًا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي, إني تبت إليك من ذنوبي, وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 16 )
أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال, ونصفح عن سيئاتهم, في جملة أصحاب الجنة, هذا الوعد الذي وعدناهم به هو وعد الصدق الحق الذي لا شك فيه.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 17 )
والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث: قبحًا لكما أتعِدانني أن أُخْرج من قبري حيًا, وقد مضت القرون من الأمم من قبلي, فهلكوا فلم يُبعث منهم أحد؟ ووالداه يسألان الله هدايته قائلَين له: ويلك, آمن وصدِّق واعمل صالحًا, إن وعد الله بالبعث حق لا شك فيه, فيقول لهما: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطَّره الأولون من الأباطيل, منقول من كتبهم.
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 18 )
أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله, وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب, إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال, والنعيم بالعذاب.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 19 )
ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيمة; بأعمالهم التي عملوها في الدنيا, كل على وَفْق مرتبته؛ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم, وهم لا يُظلمون بزيادة في سيئاتهم, ولا بنقص من حسناتهم.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( 20 )
ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب, فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها, فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق, وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 )
واذكر - أيها الرسول- نبيَّ الله هودًا أخا عاد في النَّسب لا في الدين, حين أنذر قومه أن يحل بهم عقاب الله, وهم في منازلهم المعروفة بـ « الأحقاف » , وهي الرمال الكثيرة جنوب الجزيرة العربية, وقد مضت الرسل بإنذار قومها قبل هود وبعده: بأن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم له, إني أخاف عليكم عذاب الله في يوم يَعْظُم هوله, وهو يوم القيامة.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 )
قالوا: أجئتنا بدعوتك ؛ لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا به من العذاب, إن كنت من أهل الصدق في قولك ووعدك.
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 )
قال هود عليه السلام: إنما العلم بوقت مجيء ما وُعدتم به من العذاب عند الله, وإنما أنا رسول الله إليكم, أبلغكم عنه ما أرسلني به, ولكني أراكم قومًا تجهلون في استعجالكم العذاب, وجرأتكم على الله.
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 )
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا: هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام: ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع.
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 )
تدمِّر كل شيء تمر به مما أُرسلت بهلاكه بأمر ربها ومشيئته, فأصبحوا لا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها, مثل هذا الجزاء نجزي القوم المجرمين؛ بسبب جرمهم وطغيانهم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 )
ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش, وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 )
ولقد أهلكنا ما حولكم يا أهل « مكة » من القرى كعاد وثمود, فجعلناها خاوية على عروشها, وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )
فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية آلهتُهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها إلى ربهم; لتشفع لهم عنده, بل ضلَّت عنهم آلهتهم, فلم يجيبوهم, ولا دافعوا عنهم, وذلك كذبهم وما كانوا يَفْتَرون في اتخاذهم إياهم آلهة.
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( 29 )
واذكر - أيها الرسول- حين بعثنا إليك, طائفة من الجن يستمعون منك القرآن, فلما حضروا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن, فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن, وقد وعَوه وأثَّر فيهم, رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله, إن لم يؤمنوا به.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( 30 )
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى, مصدقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله, يهدي إلى الحق والصواب, وإلى طريق صحيح مستقيم.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 )
يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه, وصدِّقوه واعملوا بما جاءكم به, يغفر الله لكم من ذنوبكم وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 32 )
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته, وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه, أولئك في ذَهاب واضح عن الحق.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 )
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق, ولم يعجز عن خلقهن, قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى, ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء, إنه على كل شيء قدير.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 )
ويوم القيامة يُعْرَض الذين كفروا على نار جهنم للعذاب فيقال لهم: أليس هذا العذاب بالحق؟ فيجيبون قائلين: بلى وربنا هو الحق, فيقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون عذاب النار وتنكرونه في الدنيا.
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى قومك المكذبين لك, كما صبر أولو العزم من الرسل من قبلك- وهم، على المشهور: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنت منهم- ولا تستعجل لقومك العذاب; فحين يقع ويرونه كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, هذا بلاغ لهم ولغيرهم. ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
=====
حم ( 1 )
( حم ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 )
هذا القرآن تنزيل من الله العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في تدبيره وصنعه.
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 )
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق, لا عبثًا ولا سدى؛ بل ليعرف العباد عظمة خالقهما فيعبدوه وحده, ويعلموا أنه قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم, وليقيموا الحق والعدل فيما بينهم وإلى أجل معلوم عنده. والذين جحدوا أن الله هو الإله الحق, عما أنذرهم به القرآن معرضون, لا يتعظون ولا يتفكرون.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 4 )
قل - أيها الرسول- لهؤلاء الكفار: أرأيتم الآلهة, والأوثان التي تعبدونها من دون الله, أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض, أم لهم مع الله نصيب من خلق السموات؟ ائتوني بكتاب من عند الله من قبل هذا القرآن أو ببقيَّة من علم, إن كنتم صادقين فيما تزعمون.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 )
لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة لا تستجيب دعاءه أبدًا؛ لأنها من الأموات أو الأحجار والأشجار ونحوها, وهي غافلة عن دعاء مَن يعبدها, عاجزة عن نفعه أو ضره.
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( 6 )
وإذا حُشر الناس يوم القيامة للحساب والجزاء كانت الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء, تلعنهم وتتبرأ منهم, وتنكر علمها بعبادتهم إياها.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )
وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آياتنا واضحات, قال الذين كفروا حين جاءهم القرآن: هذا سحر ظاهر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 8 )
بل أيقول هؤلاء المشركون: إن محمدًا اختلق هذا القرآن؟ قل لهم - أيها الرسول- : إن اختلقته على الله فإنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني من عقاب الله شيئًا, إن عاقبني على ذلك. هو سبحانه أعلم من كل شيء سواه بما تقولون في هذا القرآن, كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم, وهو الغفور لمن تاب إليه, الرحيم بعباده المؤمنين.
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 9 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: ما كنتُ أول رسل الله إلى خلقه, وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم في الدنيا, ما أتبع فيما آمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ, وما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 )
قل - أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به, وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن, وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن, وجحدتم ذلك استكبارًا, فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( 11 )
وقال الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاء به خيرًا ما سبقتمونا إلى التصديق به, وإذ لم يهتدوا بالقرآن ولم ينتفعوا بما فيه من الحق فسيقولون: هذا كذب, مأثور عن الناس الأقدمين.
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ( 12 )
ومن قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة إمامًا لبني إسرائيل يقتدون بها, ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها, وهذا القرآن مصدق لما قبله من الكتب, أنزلناه بلسان عربي؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية, وبشرى للذين أطاعوا الله, فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم في الدنيا.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 13 )
إن الذين قالوا: ربنا الله, ثم استقاموا على الإيمان به, فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله, ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 14 )
أولئك أهل الجنة ماكثين فيها أبدًا برحمة الله تعالى لهم, وبما قدَّموا من عمل صالح في دنياهم.
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 )
ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما, فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب, وولدته على مشقة وتعب أيضًا, ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب, دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب. حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية, وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ, واجعلني أعمل صالحًا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي, إني تبت إليك من ذنوبي, وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 16 )
أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال, ونصفح عن سيئاتهم, في جملة أصحاب الجنة, هذا الوعد الذي وعدناهم به هو وعد الصدق الحق الذي لا شك فيه.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 17 )
والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث: قبحًا لكما أتعِدانني أن أُخْرج من قبري حيًا, وقد مضت القرون من الأمم من قبلي, فهلكوا فلم يُبعث منهم أحد؟ ووالداه يسألان الله هدايته قائلَين له: ويلك, آمن وصدِّق واعمل صالحًا, إن وعد الله بالبعث حق لا شك فيه, فيقول لهما: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطَّره الأولون من الأباطيل, منقول من كتبهم.
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 18 )
أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله, وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب, إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال, والنعيم بالعذاب.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 19 )
ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيمة; بأعمالهم التي عملوها في الدنيا, كل على وَفْق مرتبته؛ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم, وهم لا يُظلمون بزيادة في سيئاتهم, ولا بنقص من حسناتهم.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ( 20 )
ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب, فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها, فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق, وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 21 )
واذكر - أيها الرسول- نبيَّ الله هودًا أخا عاد في النَّسب لا في الدين, حين أنذر قومه أن يحل بهم عقاب الله, وهم في منازلهم المعروفة بـ « الأحقاف » , وهي الرمال الكثيرة جنوب الجزيرة العربية, وقد مضت الرسل بإنذار قومها قبل هود وبعده: بأن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم له, إني أخاف عليكم عذاب الله في يوم يَعْظُم هوله, وهو يوم القيامة.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 22 )
قالوا: أجئتنا بدعوتك ؛ لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بما تعدنا به من العذاب, إن كنت من أهل الصدق في قولك ووعدك.
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 23 )
قال هود عليه السلام: إنما العلم بوقت مجيء ما وُعدتم به من العذاب عند الله, وإنما أنا رسول الله إليكم, أبلغكم عنه ما أرسلني به, ولكني أراكم قومًا تجهلون في استعجالكم العذاب, وجرأتكم على الله.
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 )
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا: هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام: ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع.
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 )
تدمِّر كل شيء تمر به مما أُرسلت بهلاكه بأمر ربها ومشيئته, فأصبحوا لا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها, مثل هذا الجزاء نجزي القوم المجرمين؛ بسبب جرمهم وطغيانهم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 26 )
ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش, وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 27 )
ولقد أهلكنا ما حولكم يا أهل « مكة » من القرى كعاد وثمود, فجعلناها خاوية على عروشها, وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 28 )
فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية آلهتُهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها إلى ربهم; لتشفع لهم عنده, بل ضلَّت عنهم آلهتهم, فلم يجيبوهم, ولا دافعوا عنهم, وذلك كذبهم وما كانوا يَفْتَرون في اتخاذهم إياهم آلهة.
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ( 29 )
واذكر - أيها الرسول- حين بعثنا إليك, طائفة من الجن يستمعون منك القرآن, فلما حضروا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن, فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن, وقد وعَوه وأثَّر فيهم, رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله, إن لم يؤمنوا به.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ( 30 )
قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى, مصدقًا لما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله, يهدي إلى الحق والصواب, وإلى طريق صحيح مستقيم.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 31 )
يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا إلى ما يدعوكم إليه, وصدِّقوه واعملوا بما جاءكم به, يغفر الله لكم من ذنوبكم وينقذكم من عذاب مؤلم موجع.
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 32 )
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته, وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه, أولئك في ذَهاب واضح عن الحق.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 33 )
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق, ولم يعجز عن خلقهن, قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى, ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء, إنه على كل شيء قدير.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 34 )
ويوم القيامة يُعْرَض الذين كفروا على نار جهنم للعذاب فيقال لهم: أليس هذا العذاب بالحق؟ فيجيبون قائلين: بلى وربنا هو الحق, فيقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون عذاب النار وتنكرونه في الدنيا.
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( 35 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى قومك المكذبين لك, كما صبر أولو العزم من الرسل من قبلك- وهم، على المشهور: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنت منهم- ولا تستعجل لقومك العذاب; فحين يقع ويرونه كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, هذا بلاغ لهم ولغيرهم. ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة محمد .. بن كثير
=====
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 )
الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, أَذْهَبَ الله أعمالهم, وأبطلها, وأشقاهم بسببها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 )
والذين صدَّقوا الله واتَّبَعوا شرعه وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا شك فيه من ربهم, عفا عنهم وستر عليهم ما عملوا من السيئات, فلم يعاقبهم عليها, وأصلح شأنهم في الدينا والآخرة.
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 )
ذلك الإضلال والهدى سببه أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه, وأن الذين آمنوا اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور والهدى, كما بيَّن الله تعالى فِعْلَه بالفريقين أهل الكفر وأهل الإيمان بما يستحقان يضرب سبحانه للناس أمثالهم, فيلحق بكل قوم من الأمثال والأشكال ما يناسبه.
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 ) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )
فإذا لقيتم- أيها المؤمنون- الذين كفروا في ساحات الحرب فاصدقوهم القتال, واضربوا منهم الأعناق, حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل, وكسرتم شوكتهم, فأحكموا قيد الأسرى: فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسرهم بغير عوض, وإما أن يفادوا أنفسهم بالمال أو غيره, وإما أن يُسْتَرَقُّوا أو يُقْتَلوا, واستمِرُّوا على ذلك حتى تنتهي الحرب. ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ومداولة الأيام بينهم, ولو يشاء الله لانتصر للمؤمنين من الكافرين بغير قتال, ولكن جعل عقوبتهم على أيديكم, فشرع الجهاد؛ ليختبركم بهم, ولينصر بكم دينه. والذين قُتلوا في سبيل الله من المؤمنين فلن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم, سيوفقهم أيام حياتهم في الدنيا إلى طاعته ومرضاته, ويُصْلح حالهم وأمورهم وثوابهم في الدنيا والآخرة, ويدخلهم الجنة, عرَّفهم بها ونعتها لهم، ووفقهم للقيام بما أمرهم به - ومن جملته الشهادة في سبيله- ، ثم عرَّفهم إذا دخلوا الجنة منازلهم بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( 7 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله, والحكم بكتابه, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, ينصركم الله على أعدائكم, ويثبت أقدامكم عند القتال.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 8 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 9 )
والذين كفروا فهلاكًا لهم, وأذهب الله ثواب أعمالهم؛ ذلك بسبب أنهم كرهوا كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذبوا به, فأبطل أعمالهم; لأنها كانت في طاعة الشيطان.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( 10 )
أفلم يَسِرْ هؤلاء الكفار في أرض الله معتبرين بما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من العقاب؟ دمَّر الله عليهم ديارهم, وللكافرين أمثال تلك العاقبة التي حلت بتلك الأمم.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ( 11 )
ذلك الذي فعلناه بالفريقين فريق الإيمان وفريق الكفر; بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم, وأن الكافرين لا وليَّ لهم ولا نصير.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ( 12 )
إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار تَكْرِمَةً لهم, ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا, كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره, ونار جهنم مسكن لهم ومأوى.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ( 13 )
وكثير من أهل قرى كانوا أشد بأسًا من أهل قريتك - أيها الرسول, وهي « مكة » - التي أخرجتك, دمَّرناهم بأنواع من العذاب, فلم يكن لهم نصير ينصرهم من عذاب الله.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 14 )
أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته, كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله, واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة ولا برهان؟ لا يستوون.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 )
صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر, وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه, وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون, وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى, ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها, وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم, هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها, وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 16 )
ومن هؤلاء المنافقين مَن يستمع إليك - أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا, حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم, فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه, واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 )
والذين اهتدوا لاتِّباع الحق زادهم الله هدى, فقوي بذلك هداهم, ووفقهم للتقوى, ويسَّرها لهم.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( 18 )
ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا الساعة التي وُعدوا بها أن تجيئهم فجأةً, فقد ظهرت علاماتها ولم ينتفعوا بذلك, فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( 19 )
فاعلم - أيها النبي- أنه لا معبود بحق إلا الله, واستغفر لذنبك, واستغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله يعلم تصرفكم في يقظتكم نهارًا, ومستقركم في نومكم ليلا.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ( 21 )
ينظرون إليك - أيها النبي- نظر الذي قد غُشِيَ عليه خوفَ الموت, فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا الله, وأن يقولوا قولا موافقًا للشرع. فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بِفَرْضه كره هؤلاء المنافقون ذلك, فلو صدقوا الله في الإيمان والعمل لكان خيرًا لهم من المعصية والمخالفة.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 )
فلعلكم إن أعرضتم عن كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به وتسفكوا الدماء وتُقَطِّعوا أرحامكم.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 23 )
أولئك الذين أبعدهم الله من رحمته, فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه, فلم يتبينوا حجج الله مع كثرتها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 )
أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن, فلا تتدبر مواعظ الله وعبره.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 )
إن الذين ارتدُّوا عن الهدى والإيمان, ورجعوا على أعقابهم كفارًا بالله من بعد ما وَضَح لهم الحق, الشيطان زيَّن لهم خطاياهم, ومدَّ لهم في الأمل.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 )
ذلك الإمداد لهم حتى يتمادوا في الكفر ; بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر الذي هو خلاف لأمر الله وأمر رسوله, والله تعالى يعلم ما يخفيه هؤلاء ويسرونه, فليحذر المسلم من طاعة غير الله فيما يخالف أمر الله سبحانه, وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 )
فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 )
ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من طاعة الشيطان, وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح, ومنه قتال الكفار بعدما افترضه عليهم, فأبطل الله ثواب أعمالهم من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 )
بل أظنَّ المنافقون أن الله لن يُخْرِج ما في قلوبهم من الحسد والحقد للإسلام وأهله؟ بلى فإن الله يميز الصادق من الكاذب.
وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 )
ولو نشاء - أيها النبي- لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 )
ولنختبرنكم- أيها المؤمنون- بالقتال والجهاد لأعداء الله حتى يظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم والصبر على قتال أعداء الله, ونختبر أقوالكم وأفعالكم, فيظهر الصادق منكم من الكاذب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربوه من بعد ما جاءتهم الحجج والآيات أنه نبي من عند الله, لن يضروا دين الله شيئًا, وسيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما, ولا تبطلوا ثواب أعمالكم بالكفر والمعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له وصدُّوا الناس عن دينه, ثم ماتوا على ذلك, فلن يغفر الله لهم, وسيعذبهم عقابًا لهم على كفرهم, ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 )
فلا تضعفوا - أيها المؤمنون بالله ورسوله- عن جهاد المشركين, وتجْبُنوا عن قتالهم, وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم, والله تعالى معكم بنصره وتأييده. وفي ذلك بشارة عظيمة بالنصر والظَّفَر على الأعداء. ولن يُنْقصكم الله ثواب أعمالكم.
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 ) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 )
إنما الحياة الدنيا لعب وغرور. وإن تؤمنوا بالله ورسوله, وتتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, يؤتكم ثواب أعمالكم, ولا يسألْكم إخراج أموالكم جميعها في الزكاة, بل يسألكم إخراج بعضها. إن يسألكم أموالكم, فيُلِحَّ عليكم ويجهدكم, تبخلوا بها وتمنعوه إياها, ويظهر ما في قلوبكم من الحقد إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 )
ها أنتم - أيها المؤمنون- تُدْعَون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه, فمنكم مَن يَبْخَلُ بالنفقة في سبيل الله, ومَن يَبْخَلْ فإنما يبخل عن نفسه, والله تعالى هو الغنيُّ عنكم وأنتم الفقراء إليه, وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
=====
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 )
الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, أَذْهَبَ الله أعمالهم, وأبطلها, وأشقاهم بسببها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 )
والذين صدَّقوا الله واتَّبَعوا شرعه وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا شك فيه من ربهم, عفا عنهم وستر عليهم ما عملوا من السيئات, فلم يعاقبهم عليها, وأصلح شأنهم في الدينا والآخرة.
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 )
ذلك الإضلال والهدى سببه أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه, وأن الذين آمنوا اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور والهدى, كما بيَّن الله تعالى فِعْلَه بالفريقين أهل الكفر وأهل الإيمان بما يستحقان يضرب سبحانه للناس أمثالهم, فيلحق بكل قوم من الأمثال والأشكال ما يناسبه.
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 ) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )
فإذا لقيتم- أيها المؤمنون- الذين كفروا في ساحات الحرب فاصدقوهم القتال, واضربوا منهم الأعناق, حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل, وكسرتم شوكتهم, فأحكموا قيد الأسرى: فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسرهم بغير عوض, وإما أن يفادوا أنفسهم بالمال أو غيره, وإما أن يُسْتَرَقُّوا أو يُقْتَلوا, واستمِرُّوا على ذلك حتى تنتهي الحرب. ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ومداولة الأيام بينهم, ولو يشاء الله لانتصر للمؤمنين من الكافرين بغير قتال, ولكن جعل عقوبتهم على أيديكم, فشرع الجهاد؛ ليختبركم بهم, ولينصر بكم دينه. والذين قُتلوا في سبيل الله من المؤمنين فلن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم, سيوفقهم أيام حياتهم في الدنيا إلى طاعته ومرضاته, ويُصْلح حالهم وأمورهم وثوابهم في الدنيا والآخرة, ويدخلهم الجنة, عرَّفهم بها ونعتها لهم، ووفقهم للقيام بما أمرهم به - ومن جملته الشهادة في سبيله- ، ثم عرَّفهم إذا دخلوا الجنة منازلهم بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( 7 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله, والحكم بكتابه, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, ينصركم الله على أعدائكم, ويثبت أقدامكم عند القتال.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 8 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 9 )
والذين كفروا فهلاكًا لهم, وأذهب الله ثواب أعمالهم؛ ذلك بسبب أنهم كرهوا كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذبوا به, فأبطل أعمالهم; لأنها كانت في طاعة الشيطان.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( 10 )
أفلم يَسِرْ هؤلاء الكفار في أرض الله معتبرين بما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من العقاب؟ دمَّر الله عليهم ديارهم, وللكافرين أمثال تلك العاقبة التي حلت بتلك الأمم.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ( 11 )
ذلك الذي فعلناه بالفريقين فريق الإيمان وفريق الكفر; بسبب أن الله وليُّ المؤمنين ونصيرهم, وأن الكافرين لا وليَّ لهم ولا نصير.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ( 12 )
إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار تَكْرِمَةً لهم, ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا, كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره, ونار جهنم مسكن لهم ومأوى.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ( 13 )
وكثير من أهل قرى كانوا أشد بأسًا من أهل قريتك - أيها الرسول, وهي « مكة » - التي أخرجتك, دمَّرناهم بأنواع من العذاب, فلم يكن لهم نصير ينصرهم من عذاب الله.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 14 )
أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته, كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله, واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة ولا برهان؟ لا يستوون.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 )
صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر, وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه, وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون, وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى, ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها, وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم, هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها, وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 16 )
ومن هؤلاء المنافقين مَن يستمع إليك - أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا, حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم, فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه, واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 )
والذين اهتدوا لاتِّباع الحق زادهم الله هدى, فقوي بذلك هداهم, ووفقهم للتقوى, ويسَّرها لهم.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( 18 )
ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا الساعة التي وُعدوا بها أن تجيئهم فجأةً, فقد ظهرت علاماتها ولم ينتفعوا بذلك, فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( 19 )
فاعلم - أيها النبي- أنه لا معبود بحق إلا الله, واستغفر لذنبك, واستغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله يعلم تصرفكم في يقظتكم نهارًا, ومستقركم في نومكم ليلا.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ( 21 )
ينظرون إليك - أيها النبي- نظر الذي قد غُشِيَ عليه خوفَ الموت, فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا الله, وأن يقولوا قولا موافقًا للشرع. فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بِفَرْضه كره هؤلاء المنافقون ذلك, فلو صدقوا الله في الإيمان والعمل لكان خيرًا لهم من المعصية والمخالفة.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 )
فلعلكم إن أعرضتم عن كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن تعصوا الله في الأرض, فتكفروا به وتسفكوا الدماء وتُقَطِّعوا أرحامكم.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 23 )
أولئك الذين أبعدهم الله من رحمته, فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه, فلم يتبينوا حجج الله مع كثرتها.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 )
أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ القرآن ويتفكرون في حججه؟ بل هذه القلوب مغلَقة لا يصل إليها شيء من هذا القرآن, فلا تتدبر مواعظ الله وعبره.
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 )
إن الذين ارتدُّوا عن الهدى والإيمان, ورجعوا على أعقابهم كفارًا بالله من بعد ما وَضَح لهم الحق, الشيطان زيَّن لهم خطاياهم, ومدَّ لهم في الأمل.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 )
ذلك الإمداد لهم حتى يتمادوا في الكفر ; بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر الذي هو خلاف لأمر الله وأمر رسوله, والله تعالى يعلم ما يخفيه هؤلاء ويسرونه, فليحذر المسلم من طاعة غير الله فيما يخالف أمر الله سبحانه, وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 )
فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم؟
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 )
ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله عليهم من طاعة الشيطان, وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح, ومنه قتال الكفار بعدما افترضه عليهم, فأبطل الله ثواب أعمالهم من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 )
بل أظنَّ المنافقون أن الله لن يُخْرِج ما في قلوبهم من الحسد والحقد للإسلام وأهله؟ بلى فإن الله يميز الصادق من الكاذب.
وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 )
ولو نشاء - أيها النبي- لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 )
ولنختبرنكم- أيها المؤمنون- بالقتال والجهاد لأعداء الله حتى يظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم والصبر على قتال أعداء الله, ونختبر أقوالكم وأفعالكم, فيظهر الصادق منكم من الكاذب.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربوه من بعد ما جاءتهم الحجج والآيات أنه نبي من عند الله, لن يضروا دين الله شيئًا, وسيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في أمرهما ونهيهما, ولا تبطلوا ثواب أعمالكم بالكفر والمعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 )
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له وصدُّوا الناس عن دينه, ثم ماتوا على ذلك, فلن يغفر الله لهم, وسيعذبهم عقابًا لهم على كفرهم, ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 )
فلا تضعفوا - أيها المؤمنون بالله ورسوله- عن جهاد المشركين, وتجْبُنوا عن قتالهم, وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم, والله تعالى معكم بنصره وتأييده. وفي ذلك بشارة عظيمة بالنصر والظَّفَر على الأعداء. ولن يُنْقصكم الله ثواب أعمالكم.
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 ) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 )
إنما الحياة الدنيا لعب وغرور. وإن تؤمنوا بالله ورسوله, وتتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, يؤتكم ثواب أعمالكم, ولا يسألْكم إخراج أموالكم جميعها في الزكاة, بل يسألكم إخراج بعضها. إن يسألكم أموالكم, فيُلِحَّ عليكم ويجهدكم, تبخلوا بها وتمنعوه إياها, ويظهر ما في قلوبكم من الحقد إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 )
ها أنتم - أيها المؤمنون- تُدْعَون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه, فمنكم مَن يَبْخَلُ بالنفقة في سبيل الله, ومَن يَبْخَلْ فإنما يبخل عن نفسه, والله تعالى هو الغنيُّ عنكم وأنتم الفقراء إليه, وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الفتح .. بن كثير
====
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( 1 )
إنا فتحنا لك - أيها الرسول- فتحًا مبينًا, يظهر الله فيه دينك, وينصرك على عدوك, وهو هدنة « الحديبية » التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا, فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله, وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته, فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 2 ) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( 3 )
فتحنا لك ذلك الفتح, ويسَّرناه لك؛ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات, ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك, ويرشدك طريقًا مستقيمًا من الدين لا عوج فيه، وينصرك الله نصرًا قويًّا لا يَضْعُف فيه الإسلام.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 4 )
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم « الحديبية » فسكنت, ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم. ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين. وكان الله عليمًا بمصالح خلقه, حكيمًا في تدبيره وصنعه.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( 5 )
ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, ويمحو عنهم سيِّئ ما عملوا, فلا يعاقبهم عليه, وكان ذلك الجزاء عند الله نجاة من كل غم, وظَفَرًا بكل مطلوب.
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 6 )
ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون ظنًا سيئًا بالله أنه لن ينصر نبيه والمؤمنين معه على أعدائهم, ولن يُظهر دينه, فعلى هؤلاء تدور دائرة العذاب وكل ما يسوءهم, وغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وأعدَّ لهم نار جهنم, وساءت منزلا يصيرون إليه.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 7 )
ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض يؤيد بهم عباده المؤمنين. وكان الله عزيزًا على خلقه, حكيمًا في تدبير أمورهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 8 ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 9 )
إنا أرسلناك - أيها الرسول- شاهدًا على أمتك بالبلاغ, مبينًا لهم ما أرسلناك به إليهم, ومبشرًا لمن أطاعك بالجنة, ونذيرًا لمن عصاك بالعقاب العاجل والآجل؛ لتؤمنوا بالله ورسوله, وتنصروا الله بنصر دينه, وتعظموه, وتسبحوه أول النهار وآخره.
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 10 )
إن الذين يبايعونك - أيها النبي- بـ « الحديبية » على القتال إنما يبايعون الله, ويعقدون العقد معه ابتغاء جنته ورضوانه, يد الله فوق أيديهم, فهو معهم يسمع أقوالهم, ويرى مكانهم, ويعلم ضمائرهم وظواهرهم, فمن نقض بيعته فإنما يعود وبال ذلك على نفسه, ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فسيعطيه الله ثوابًا جزيلا وهو الجنة. وفي الآية إثبات صفة اليد لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 11 )
سيقول لك - أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى « مكة » إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( 12 )
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل, بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون, ولا يَرْجعون إليكم أبدًا, وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم, وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم, وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( 13 )
ومن لم يصدِّق بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويعمل بشرعه, فإنه كافر مستحق للعقاب, فإنا أعددنا للكافرين عذاب السعير في النار.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 14 )
ولله ملك السموات والأرض وما فيهما, يتجاوز برحمته عمن يشاء فيستر ذنبه, ويعذِّب بعدله من يشاء. وكان الله سبحانه وتعالى غفورًا لمن تاب إليه, رحيمًا به.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ( 15 )
سيقول المخلَّفون, إذا انطلقت - أيها النبي- أنت وأصحابك إلى غنائم « خيبر » التي وعدكم الله بها, اتركونا نذهب معكم إلى « خيبر » , يريدون أن يغيِّروا بذلك وعد الله لكم. قل لهم: لن تخرجوا معنا إلى « خيبر » ؛ لأن الله تعالى قال لنا من قبل رجوعنا إلى « المدينة » : إن غنائم « خيبر » هي لمن شهد « الحديبية » معنا, فسيقولون: ليس الأمر كما تقولون, إن الله لم يأمركم بهذا, إنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لئلا نصيب معكم الغنيمة, وليس الأمر كما زعموا, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وما عليهم من أمر الدين إلا يسيرًا.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 16 )
قل للذين تخلَّفوا من الأعراب ( وهم البدو ) عن القتال: ستُدْعون إلى قتال قوم أصحاب بأس شديد في القتال, تقاتلونهم أو يسلمون من غير قتال, فإن تطيعوا الله فيما دعاكم إليه مِن قتال هؤلاء القوم يؤتكم الجنة, وإن تعصوه كما فعلتم حين تخلفتم عن السير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « مكة » , يعذبكم عذابًا موجعًا.
لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( 17 )
ليس على الأعمى منكم- أيها الناس- إثم, ولا على الأعرج إثم, ولا على المريض إثم, في أن يتخلَّفوا عن الجهاد مع المؤمنين؛ لعدم استطاعتهم. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ومن يعص الله ورسوله, فيتخلَّف عن الجهاد مع المؤمنين, يعذبه عذابًا مؤلمًا موجعًا.
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( 18 ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 19 )
لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك - أيها النبي- تحت الشجرة ( وهذه هي بيعة الرضوان في « الحديبية » ) فعلم الله ما في قلوب هؤلاء المؤمنين من الإيمان والصدق والوفاء, فأنزل الله الطمأنينة عليهم وثبَّت قلوبهم, وعوَّضهم عمَّا فاتهم بصلح « الحديبية » فتحًا قريبًا, وهو فتح « خيبر » , ومغانم كثيرة تأخذونها من أموال يهود « خيبر » . وكان الله عزيزًا في انتقامه من أعدائه, حكيمًا في تدبير أمور خلقه.
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 20 ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 21 ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 22 )
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها في أوقاتها التي قدَّرها الله لكم فعجَّل لكم غنائم « خيبر » , وكفَّ أيدي الناس عنكم, فلم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال, ومن أن ينالوا ممن تركتموهم وراءكم في « المدينة » , ولتكون هزيمتهم وسلامتكم وغنيمتكم علامة تعتبرون بها, وتستدلون على أن الله حافظكم وناصركم, ويرشدكم طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه. وقد وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها, الله سبحانه وتعالى قادر عليها, وهي تحت تدبيره وملكه, وقد وعدكموها, ولا بد مِن وقوع ما وعد به. وكان الله على كل شيء قديرًا لا يعجزه شيء. ولو قاتلكم كفار قريش بـ « مكة » لانهزموا عنكم وولوكم ظهورهم, كما يفعل المنهزم في القتال, ثم لا يجدون لهم من دون الله وليًا يواليهم على حربكم, ولا نصيرًا يعينهم على قتالكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 23 )
سنة الله التي سنَّها في خلقه من قبل بنصر جنده وهزيمة أعدائه, ولن تجد - أيها النبي- لسنة الله تغييرًا.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 24 )
وهو الذي كفَّ أيدي المشركين عنكم, وأيديكم عنهم ببطن « مكة » من بعد ما قَدَرْتم عليهم, فصاروا تحت سلطانكم ( وهؤلاء المشركون هم الذين خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ « الحديبية » , فأمسكهم المسلمون ثم تركوهم ولم يقتلوهم, وكانوا نحو ثمانين رجلا ) وكان الله بأعمالكم بصيرًا, لا تخفى عليه خافية.
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 25 )
كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدُّوكم يوم « الحديبية » عن دخول المسجد الحرام, ومنعوا الهدي, وحبسوه أن يبلغ محل نحره, وهو الحرم. ولولا رجال مؤمنون مستضعفون ونساء مؤمنات بين أظهر هؤلاء الكافرين بـ « مكة » , يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم لم تعرفوهم؛ خشية أن تطؤوهم بجيشكم فتقتلوهم, فيصيبكم بذلك القتل إثم وعيب وغرامة بغير علم, لكنَّا سلَّطناكم عليهم؛ ليدخل الله في رحمته من يشاء فيَمُنَّ عليهم بالإيمان بعد الكفر, لو تميَّز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات عن مشركي « مكة » وخرجوا من بينهم, لعذَّبنا الذين كفروا وكذَّبوا منهم عذابًا مؤلمًا موجعًا.
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 26 )
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الأنَفَة أنَفَة الجاهلية؛ لئلا يقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك امتناعهم أن يكتبوا في صلح « الحديبية » « بسم الله الرحمن الرحيم » وأبوا أن يكتبوا « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله » , فأنزل الله الطمأنينة على رسوله وعلى المؤمنين معه, وألزمهم قول « لا إله إلا الله » التي هي رأس كل تقوى, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه أحق بكلمة التقوى من المشركين, وكانوا كذلك أهل هذه الكلمة دون المشركين. وكان الله بكل شيء عليمًا لا يخفى عليه شيء.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( 27 )
لقد صدق الله رسوله محمدًا رؤياه التي أراها إياه بالحق أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين, لا تخافون أهل الشرك, محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين, فعلم الله من الخير والمصلحة ( في صرفكم عن « مكة » عامكم ذلك ودخولكم إليها فيما بعد ) ما لم تعلموا أنتم, فجعل مِن دون دخولكم « مكة » الذي وعدتم به, فتحًا قريبًا, وهو هدنة « الحديبية » وفتح « خيبر » .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 28 )
هو الذي أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بالبيان الواضح ودين الإسلام؛ ليُعْليه على الملل كلها, وحسبك - أيها الرسول- بالله شاهدًا على أنه ناصرك ومظهر دينك على كل دين.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )
محمد رسول الله, والذين معه على دينه أشداء على الكفار, رحماء فيما بينهم, تراهم ركعًا سُجَّدًا لله في صلاتهم, يرجون ربهم أن يتفضل عليهم, فيدخلهم الجنة, ويرضى عنهم, علامة طاعتهم لله ظاهرة في وجههم من أثر السجود والعبادة, هذه صفتهم في التوراة. وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه, ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك, وشدت الزرع, فقوي واستوى قائمًا على سيقانه جميلا منظره, يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين في كثرتهم وجمال منظرهم الكفار. وفي هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة - رضي الله عنهم- ; لأن من غاظه الله بالصحابة, فقد وُجد في حقه موجِب ذاك, وهو الكفر. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به, واجتنبوا ما نهاهم عنه, مغفرة لذنوبهم, وثوابًا جزيلا لا ينقطع, وهو الجنة. ( ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم في استحقاق المغفرة والأجر العظيم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم ) .
====
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( 1 )
إنا فتحنا لك - أيها الرسول- فتحًا مبينًا, يظهر الله فيه دينك, وينصرك على عدوك, وهو هدنة « الحديبية » التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا, فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله, وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته, فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 2 ) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( 3 )
فتحنا لك ذلك الفتح, ويسَّرناه لك؛ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات, ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك, ويرشدك طريقًا مستقيمًا من الدين لا عوج فيه، وينصرك الله نصرًا قويًّا لا يَضْعُف فيه الإسلام.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 4 )
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم « الحديبية » فسكنت, ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم. ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين. وكان الله عليمًا بمصالح خلقه, حكيمًا في تدبيره وصنعه.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( 5 )
ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, ويمحو عنهم سيِّئ ما عملوا, فلا يعاقبهم عليه, وكان ذلك الجزاء عند الله نجاة من كل غم, وظَفَرًا بكل مطلوب.
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 6 )
ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون ظنًا سيئًا بالله أنه لن ينصر نبيه والمؤمنين معه على أعدائهم, ولن يُظهر دينه, فعلى هؤلاء تدور دائرة العذاب وكل ما يسوءهم, وغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وأعدَّ لهم نار جهنم, وساءت منزلا يصيرون إليه.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 7 )
ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض يؤيد بهم عباده المؤمنين. وكان الله عزيزًا على خلقه, حكيمًا في تدبير أمورهم.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 8 ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 9 )
إنا أرسلناك - أيها الرسول- شاهدًا على أمتك بالبلاغ, مبينًا لهم ما أرسلناك به إليهم, ومبشرًا لمن أطاعك بالجنة, ونذيرًا لمن عصاك بالعقاب العاجل والآجل؛ لتؤمنوا بالله ورسوله, وتنصروا الله بنصر دينه, وتعظموه, وتسبحوه أول النهار وآخره.
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 10 )
إن الذين يبايعونك - أيها النبي- بـ « الحديبية » على القتال إنما يبايعون الله, ويعقدون العقد معه ابتغاء جنته ورضوانه, يد الله فوق أيديهم, فهو معهم يسمع أقوالهم, ويرى مكانهم, ويعلم ضمائرهم وظواهرهم, فمن نقض بيعته فإنما يعود وبال ذلك على نفسه, ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فسيعطيه الله ثوابًا جزيلا وهو الجنة. وفي الآية إثبات صفة اليد لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 11 )
سيقول لك - أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى « مكة » إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( 12 )
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل, بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون, ولا يَرْجعون إليكم أبدًا, وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم, وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم, وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( 13 )
ومن لم يصدِّق بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويعمل بشرعه, فإنه كافر مستحق للعقاب, فإنا أعددنا للكافرين عذاب السعير في النار.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 14 )
ولله ملك السموات والأرض وما فيهما, يتجاوز برحمته عمن يشاء فيستر ذنبه, ويعذِّب بعدله من يشاء. وكان الله سبحانه وتعالى غفورًا لمن تاب إليه, رحيمًا به.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ( 15 )
سيقول المخلَّفون, إذا انطلقت - أيها النبي- أنت وأصحابك إلى غنائم « خيبر » التي وعدكم الله بها, اتركونا نذهب معكم إلى « خيبر » , يريدون أن يغيِّروا بذلك وعد الله لكم. قل لهم: لن تخرجوا معنا إلى « خيبر » ؛ لأن الله تعالى قال لنا من قبل رجوعنا إلى « المدينة » : إن غنائم « خيبر » هي لمن شهد « الحديبية » معنا, فسيقولون: ليس الأمر كما تقولون, إن الله لم يأمركم بهذا, إنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لئلا نصيب معكم الغنيمة, وليس الأمر كما زعموا, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وما عليهم من أمر الدين إلا يسيرًا.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 16 )
قل للذين تخلَّفوا من الأعراب ( وهم البدو ) عن القتال: ستُدْعون إلى قتال قوم أصحاب بأس شديد في القتال, تقاتلونهم أو يسلمون من غير قتال, فإن تطيعوا الله فيما دعاكم إليه مِن قتال هؤلاء القوم يؤتكم الجنة, وإن تعصوه كما فعلتم حين تخلفتم عن السير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « مكة » , يعذبكم عذابًا موجعًا.
لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( 17 )
ليس على الأعمى منكم- أيها الناس- إثم, ولا على الأعرج إثم, ولا على المريض إثم, في أن يتخلَّفوا عن الجهاد مع المؤمنين؛ لعدم استطاعتهم. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ومن يعص الله ورسوله, فيتخلَّف عن الجهاد مع المؤمنين, يعذبه عذابًا مؤلمًا موجعًا.
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( 18 ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 19 )
لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك - أيها النبي- تحت الشجرة ( وهذه هي بيعة الرضوان في « الحديبية » ) فعلم الله ما في قلوب هؤلاء المؤمنين من الإيمان والصدق والوفاء, فأنزل الله الطمأنينة عليهم وثبَّت قلوبهم, وعوَّضهم عمَّا فاتهم بصلح « الحديبية » فتحًا قريبًا, وهو فتح « خيبر » , ومغانم كثيرة تأخذونها من أموال يهود « خيبر » . وكان الله عزيزًا في انتقامه من أعدائه, حكيمًا في تدبير أمور خلقه.
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 20 ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 21 ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 22 )
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها في أوقاتها التي قدَّرها الله لكم فعجَّل لكم غنائم « خيبر » , وكفَّ أيدي الناس عنكم, فلم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال, ومن أن ينالوا ممن تركتموهم وراءكم في « المدينة » , ولتكون هزيمتهم وسلامتكم وغنيمتكم علامة تعتبرون بها, وتستدلون على أن الله حافظكم وناصركم, ويرشدكم طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه. وقد وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها, الله سبحانه وتعالى قادر عليها, وهي تحت تدبيره وملكه, وقد وعدكموها, ولا بد مِن وقوع ما وعد به. وكان الله على كل شيء قديرًا لا يعجزه شيء. ولو قاتلكم كفار قريش بـ « مكة » لانهزموا عنكم وولوكم ظهورهم, كما يفعل المنهزم في القتال, ثم لا يجدون لهم من دون الله وليًا يواليهم على حربكم, ولا نصيرًا يعينهم على قتالكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 23 )
سنة الله التي سنَّها في خلقه من قبل بنصر جنده وهزيمة أعدائه, ولن تجد - أيها النبي- لسنة الله تغييرًا.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 24 )
وهو الذي كفَّ أيدي المشركين عنكم, وأيديكم عنهم ببطن « مكة » من بعد ما قَدَرْتم عليهم, فصاروا تحت سلطانكم ( وهؤلاء المشركون هم الذين خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ « الحديبية » , فأمسكهم المسلمون ثم تركوهم ولم يقتلوهم, وكانوا نحو ثمانين رجلا ) وكان الله بأعمالكم بصيرًا, لا تخفى عليه خافية.
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 25 )
كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدُّوكم يوم « الحديبية » عن دخول المسجد الحرام, ومنعوا الهدي, وحبسوه أن يبلغ محل نحره, وهو الحرم. ولولا رجال مؤمنون مستضعفون ونساء مؤمنات بين أظهر هؤلاء الكافرين بـ « مكة » , يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم لم تعرفوهم؛ خشية أن تطؤوهم بجيشكم فتقتلوهم, فيصيبكم بذلك القتل إثم وعيب وغرامة بغير علم, لكنَّا سلَّطناكم عليهم؛ ليدخل الله في رحمته من يشاء فيَمُنَّ عليهم بالإيمان بعد الكفر, لو تميَّز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات عن مشركي « مكة » وخرجوا من بينهم, لعذَّبنا الذين كفروا وكذَّبوا منهم عذابًا مؤلمًا موجعًا.
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 26 )
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الأنَفَة أنَفَة الجاهلية؛ لئلا يقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك امتناعهم أن يكتبوا في صلح « الحديبية » « بسم الله الرحمن الرحيم » وأبوا أن يكتبوا « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله » , فأنزل الله الطمأنينة على رسوله وعلى المؤمنين معه, وألزمهم قول « لا إله إلا الله » التي هي رأس كل تقوى, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه أحق بكلمة التقوى من المشركين, وكانوا كذلك أهل هذه الكلمة دون المشركين. وكان الله بكل شيء عليمًا لا يخفى عليه شيء.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( 27 )
لقد صدق الله رسوله محمدًا رؤياه التي أراها إياه بالحق أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين, لا تخافون أهل الشرك, محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين, فعلم الله من الخير والمصلحة ( في صرفكم عن « مكة » عامكم ذلك ودخولكم إليها فيما بعد ) ما لم تعلموا أنتم, فجعل مِن دون دخولكم « مكة » الذي وعدتم به, فتحًا قريبًا, وهو هدنة « الحديبية » وفتح « خيبر » .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 28 )
هو الذي أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بالبيان الواضح ودين الإسلام؛ ليُعْليه على الملل كلها, وحسبك - أيها الرسول- بالله شاهدًا على أنه ناصرك ومظهر دينك على كل دين.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 )
محمد رسول الله, والذين معه على دينه أشداء على الكفار, رحماء فيما بينهم, تراهم ركعًا سُجَّدًا لله في صلاتهم, يرجون ربهم أن يتفضل عليهم, فيدخلهم الجنة, ويرضى عنهم, علامة طاعتهم لله ظاهرة في وجههم من أثر السجود والعبادة, هذه صفتهم في التوراة. وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه, ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك, وشدت الزرع, فقوي واستوى قائمًا على سيقانه جميلا منظره, يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين في كثرتهم وجمال منظرهم الكفار. وفي هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة - رضي الله عنهم- ; لأن من غاظه الله بالصحابة, فقد وُجد في حقه موجِب ذاك, وهو الكفر. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به, واجتنبوا ما نهاهم عنه, مغفرة لذنوبهم, وثوابًا جزيلا لا ينقطع, وهو الجنة. ( ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم في استحقاق المغفرة والأجر العظيم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم ) .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الحجرات.. بن كثير
====
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 )
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تقضوا أمرًا دون أمر الله ورسوله من شرائع دينكم فتبتدعوا, وخافوا الله في قولكم وفعلكم أن يخالَف أمر الله ورسوله, إن الله سميع لأقوالكم, عليم بنياتكم وأفعالكم. وفي هذا تحذير للمؤمنين أن يبتدعوا في الدين, أو يشرعوا ما لم يأذن به الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 2 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي عند مخاطبتكم له, ولا تجهروا بمناداته كما يجهر بعضكم لبعض, وميِّزوه في خطابه كما تميَّز عن غيره في اصطفائه لحمل رسالة ربه, ووجوب الإيمان به, ومحبته وطاعته والاقتداء به؛ خشية أن تبطل أعمالكم, وأنتم لا تشعرون, ولا تُحِسُّون بذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 )
إن الذين يَخْفِضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين اختبر الله قلوبهم, وأخلصها لتقواه, لهم من الله مغفرة لذنوبهم وثواب جزيل, وهو الجنة.
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 4 )
إن الذين ينادونك - أيها النبي- من وراء حجراتك بصوت مرتفع, أكثرهم ليس لهم من العقل ما يحملهم على حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وتوقيره.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم عند الله; لأن الله قد أمرهم بتوقيرك, والله غفور لما صدر عنهم جهلا منهم من الذنوب والإخلال بالآداب, رحيم بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن جاءكم فاسق بخبر فتثبَّتوا من خبره قبل تصديقه ونقله حتى تعرفوا صحته؛ خشية أن تصيبوا قومًا برآء بجناية منكم, فتندموا على ذلك.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 )
واعلموا أن بين أظهركم رسولَ الله فتأدبوا معه؛ فإنه أعلم منكم بما يصلح لكم, يريد بكم الخير, وقد تريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول عليه, لو يطيعكم في كثير من الأمر مما تختارونه لأدى ذلك إلى مشقتكم, ولكن الله حبب إليكم الإيمان وحسَّنه في قلوبكم, فآمنتم, وكرَّه إليكم الكفرَ بالله والخروجَ عن طاعته, ومعصيتَه, أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الراشدون السالكون طريق الحق.
فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 )
وهذا الخير الذي حصل لهم فضل من الله عليهم ونعمة. والله عليم بمن يشكر نعمه, حكيم في تدبير أمور خلقه.
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 9 )
وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا - أيها المؤمنون- بينهما بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمهما, فإن اعتدت إحدى الطائفتين وأبت الإجابة إلى ذلك, فقاتلوها حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله, فإن رجعت فأصلحوا بينهما بالإنصاف, واعدلوا في حكمكم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله, إن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وفي الآية إثبات صفة المحبة لله على الحقيقة, كما يليق بجلاله سبحانه.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 10 )
إنما المؤمنون إخوة في الدين, فأصلحوا بين أخويكم إذا اقتتلا وخافوا الله في جميع أموركم؛ رجاء أن تُرحموا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 11 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين, ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات, ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا, ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب, بئس الصفة والاسم الفسوق, وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب, بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه, ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اجتنبوا كثيرًا من ظن السوء بالمؤمنين; إن بعض ذلك الظن إثم, ولا تُفَتِّشوا عن عورات المسلمين, ولا يقل بعضكم في بعضٍ بظهر الغيب ما يكره. أيحب أحدكم أكل لحم أخيه وهو ميت؟ فأنتم تكرهون ذلك, فاكرهوا اغتيابه. وخافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله تواب على عباده المؤمنين, رحيم بهم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 )
يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم, وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب, وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا, إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له. إن الله عليم بالمتقين, خبير بهم.
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 )
قالت الأعراب ( وهم البدو ) : آمنا بالله ورسوله إيمانًا كاملا قل لهم - أيها النبي- : لا تدَّعوا لأنفسكم الإيمان الكامل, ولكن قولوا: أسلمنا, ولم يدخل بعدُ الإيمان في قلوبكم, وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. إن الله غفور لمن تاب مِن ذنوبه, رحيم به. وفي الآية زجر لمن يُظهر الإيمان, ومتابعة السنة, وأعماله تشهد بخلاف ذلك.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 15 )
إنما المؤمنون الذين صدَّقوا بالله وبرسوله وعملوا بشرعه, ثم لم يرتابوا في إيمانهم, وبذلوا نفائس أموالهم وأرواحهم في الجهاد في سبيل الله وطاعته ورضوانه, أولئك هم الصادقون في إيمانهم.
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 16 )
قل - أيها النبي- لهؤلاء الأعراب: أتُخَبِّرون الله بدينكم وبما في ضمائركم, والله يعلم ما في السموات وما في الأرض؟ والله بكل شيء عليم, لا يخفى عليه ما في قلوبكم من الإيمان أو الكفر, والبر أو الفجور.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 17 )
يَمُنُّ هؤلاء الأعراب عليك - أيها النبي- بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم لك, قل لهم: لا تَمُنُّوا عليَّ دخولكم في الإسلام ; فإنَّ نفع ذلك إنما يعود عليكم, ولله المنة عليكم فيه أنْ وفقكم للإيمان به وبرسوله, إن كنتم صادقين في إيمانكم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )
إن الله يعلم غيب السموات والأرض, لا يخفى عليه شيء من ذلك, والله بصير بأعمالكم وسيجازيكم عليها, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر.
====
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 )
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تقضوا أمرًا دون أمر الله ورسوله من شرائع دينكم فتبتدعوا, وخافوا الله في قولكم وفعلكم أن يخالَف أمر الله ورسوله, إن الله سميع لأقوالكم, عليم بنياتكم وأفعالكم. وفي هذا تحذير للمؤمنين أن يبتدعوا في الدين, أو يشرعوا ما لم يأذن به الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 2 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي عند مخاطبتكم له, ولا تجهروا بمناداته كما يجهر بعضكم لبعض, وميِّزوه في خطابه كما تميَّز عن غيره في اصطفائه لحمل رسالة ربه, ووجوب الإيمان به, ومحبته وطاعته والاقتداء به؛ خشية أن تبطل أعمالكم, وأنتم لا تشعرون, ولا تُحِسُّون بذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 )
إن الذين يَخْفِضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين اختبر الله قلوبهم, وأخلصها لتقواه, لهم من الله مغفرة لذنوبهم وثواب جزيل, وهو الجنة.
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 4 )
إن الذين ينادونك - أيها النبي- من وراء حجراتك بصوت مرتفع, أكثرهم ليس لهم من العقل ما يحملهم على حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وتوقيره.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم عند الله; لأن الله قد أمرهم بتوقيرك, والله غفور لما صدر عنهم جهلا منهم من الذنوب والإخلال بالآداب, رحيم بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن جاءكم فاسق بخبر فتثبَّتوا من خبره قبل تصديقه ونقله حتى تعرفوا صحته؛ خشية أن تصيبوا قومًا برآء بجناية منكم, فتندموا على ذلك.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 )
واعلموا أن بين أظهركم رسولَ الله فتأدبوا معه؛ فإنه أعلم منكم بما يصلح لكم, يريد بكم الخير, وقد تريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول عليه, لو يطيعكم في كثير من الأمر مما تختارونه لأدى ذلك إلى مشقتكم, ولكن الله حبب إليكم الإيمان وحسَّنه في قلوبكم, فآمنتم, وكرَّه إليكم الكفرَ بالله والخروجَ عن طاعته, ومعصيتَه, أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الراشدون السالكون طريق الحق.
فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 )
وهذا الخير الذي حصل لهم فضل من الله عليهم ونعمة. والله عليم بمن يشكر نعمه, حكيم في تدبير أمور خلقه.
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 9 )
وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا - أيها المؤمنون- بينهما بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمهما, فإن اعتدت إحدى الطائفتين وأبت الإجابة إلى ذلك, فقاتلوها حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله, فإن رجعت فأصلحوا بينهما بالإنصاف, واعدلوا في حكمكم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله, إن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وفي الآية إثبات صفة المحبة لله على الحقيقة, كما يليق بجلاله سبحانه.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 10 )
إنما المؤمنون إخوة في الدين, فأصلحوا بين أخويكم إذا اقتتلا وخافوا الله في جميع أموركم؛ رجاء أن تُرحموا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 11 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين, ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات, ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا, ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب, بئس الصفة والاسم الفسوق, وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب, بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه, ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اجتنبوا كثيرًا من ظن السوء بالمؤمنين; إن بعض ذلك الظن إثم, ولا تُفَتِّشوا عن عورات المسلمين, ولا يقل بعضكم في بعضٍ بظهر الغيب ما يكره. أيحب أحدكم أكل لحم أخيه وهو ميت؟ فأنتم تكرهون ذلك, فاكرهوا اغتيابه. وخافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله تواب على عباده المؤمنين, رحيم بهم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 )
يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم, وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب, وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا, إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له. إن الله عليم بالمتقين, خبير بهم.
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 )
قالت الأعراب ( وهم البدو ) : آمنا بالله ورسوله إيمانًا كاملا قل لهم - أيها النبي- : لا تدَّعوا لأنفسكم الإيمان الكامل, ولكن قولوا: أسلمنا, ولم يدخل بعدُ الإيمان في قلوبكم, وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. إن الله غفور لمن تاب مِن ذنوبه, رحيم به. وفي الآية زجر لمن يُظهر الإيمان, ومتابعة السنة, وأعماله تشهد بخلاف ذلك.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 15 )
إنما المؤمنون الذين صدَّقوا بالله وبرسوله وعملوا بشرعه, ثم لم يرتابوا في إيمانهم, وبذلوا نفائس أموالهم وأرواحهم في الجهاد في سبيل الله وطاعته ورضوانه, أولئك هم الصادقون في إيمانهم.
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 16 )
قل - أيها النبي- لهؤلاء الأعراب: أتُخَبِّرون الله بدينكم وبما في ضمائركم, والله يعلم ما في السموات وما في الأرض؟ والله بكل شيء عليم, لا يخفى عليه ما في قلوبكم من الإيمان أو الكفر, والبر أو الفجور.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 17 )
يَمُنُّ هؤلاء الأعراب عليك - أيها النبي- بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم لك, قل لهم: لا تَمُنُّوا عليَّ دخولكم في الإسلام ; فإنَّ نفع ذلك إنما يعود عليكم, ولله المنة عليكم فيه أنْ وفقكم للإيمان به وبرسوله, إن كنتم صادقين في إيمانكم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )
إن الله يعلم غيب السموات والأرض, لا يخفى عليه شيء من ذلك, والله بصير بأعمالكم وسيجازيكم عليها, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة ق .. بن كثير
====
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 )
( ق ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
أقسم الله تعالى بالقرآن الكريم ذي المجد والشرف.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( 2 )
بل عجب المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم أن جاءهم منذر منهم ينذرهم عقاب الله, فقال الكافرون بالله ورسوله: هذا شيء مستغرب يتعجب منه.
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( 3 )
أإذا متنا وصِرْنا ترابًا, كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى ما كنا عليه؟ ذلك رجع بعيد الوقوع.
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( 4 )
قد علمنا ما تنقص الأرض وتُفني من أجسامهم, وعندنا كتاب محفوظ من التغيير والتبديل, بكل ما يجري عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ( 5 )
بل كذَّب هؤلاء المشركون بالقرآن حين جاءهم, فهم في أمر مضطرب مختلط, لا يثبتون على شيء, ولا يستقر لهم قرار.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( 6 )
أغَفَلوا حين كفروا بالبعث, فلم ينظروا إلى السماء فوقهم, كيف بنيناها مستوية الأرجاء, ثابتة البناء, وزيناها بالنجوم, وما لها من شقوق وفتوق, فهي سليمة من التفاوت والعيوب؟
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 7 )
والأرض وسَّعْناها وفرشناها, وجعلنا فيها جبالا ثوابت; لئلا تميل بأهلها, وأنبتنا فيها من كل نوع حسن المنظر نافع, يَسُرُّ ويبهج الناظر إليه.
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 8 )
خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الآيات العظيمة عبرة يُتبصر بها مِن عمى الجهل, وذكرى لكل عبد خاضع خائف وَجِل, رجَّاع إلى الله عز وجل.
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( 9 )
ونزَّلنا من السماء مطرًا كثير المنافع, فأنبتنا به بساتين كثيرة الأشجار, وحب الزرع المحصود.
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ( 10 )
وأنبتنا النخل طِوالا لها طلع متراكب بعضه فوق بعضٍ.
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 )
أنبتنا ذلك رزقًا للعباد يقتاتون به حسب حاجاتهم, وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة قد أجدبت وقحطت, فلا زرع فيها ولا نبات, كما أحيينا بذلك الماء الأرض الميتة نخرجكم يوم القيامة أحياء بعد الموت.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ( 13 ) وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 )
كذَّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش قومُ نوح وأصحاب البئر وثمود, وعاد وفرعون وقوم لوط, وأصحاب الأيكة قومُ شعيب, وقوم تُبَّع الحِمْيَري, كل هؤلاء الأقوام كذَّبوا رسلهم, فحق عليهم الوعيد الذي توعدهم الله به على كفرهم.
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 15 )
أفَعَجَزْنا عن ابتداع الخلق الأول الذي خلقناه ولم يكن شيئًا, فنعجز عن إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم؟ لا يعجزنا ذلك, بل نحن عليه قادرون, ولكنهم في حَيْرة وشك من أمر البعث والنشور.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 )
ولقد خلقنا الإنسان, ونعلم ما تُحَدِّث به نفسه, ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( وهو عِرْق في العنق متصل بالقلب ) .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 )
حين يكتب المَلَكان المترصدان عن يمينه وعن شماله أعماله. فالذي عن اليمين يكتب الحسنات, والذي عن الشمال يكتب السيئات.
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 )
ما يلفظ من قول فيتكلم به إلا لديه مَلَك يرقب قوله, ويكتبه, وهو مَلَك حاضر مُعَدٌّ لذلك.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 )
وجاءت شدة الموت وغَمْرته بالحق الذي لا مردَّ له ولا مناص, ذلك ما كنت منه - أيها الإنسان - تهرب وتروغ.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 )
ونُفخ في « القرن » نفخة البعث الثانية, ذلك النفخ في يوم وقوع الوعيد الذي توعَّد الله به الكفار.
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 )
وجاءت كل نفس معها مَلَكان, أحدهما يسوقها إلى المحشر, والآخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 )
لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان, فكشفنا عنك غطاءك الذي غطَّى قلبك, فزالت الغفلة عنك, فبصرك اليوم فيما تشهد قوي شديد.
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( 23 )
وقال المَلَك الكاتب الشهيد عليه: هذا ما عندي من ديوان عمله, وهو لديَّ مُعَدٌّ محفوظ حاضر.
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( 24 ) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ( 25 ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 26 )
يقول الله للمَلَكين السائق والشهيد بعد أن يفصل بين الخلائق: ألقيا في جهنم كل جاحد أن الله هو الإلهُ الحقُّ، كثيرِ الكفر والتكذيب معاند للحق, منَّاع لأداء ما عليه من الحقوق في ماله, مُعْتدٍ على عباد الله وعلى حدوده, شاكٍّ في وعده ووعيده, الذي أشرك بالله, فعبد معه معبودًا آخر مِن خلقه, فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 27 )
قال شيطانه الذي كان معه في الدنيا: ربنا ما أضللته, ولكن كان في طريق بعيد عن سبيل الهدى.
قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ( 28 )
قال الله تعالى: لا تختصموا لديَّ اليوم في موقف الجزاء والحساب; إذ لا فائدة من ذلك, وقد قَدَّمْتُ إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني.
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 29 )
ما يُغيَّر القول لديَّ, ولست أعذِّب أحدًا بذنب أحد, فلا أعذِّب أحدًا إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ( 30 )
اذكر - أيها الرسول- لقومك يوم نقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وتقول جهنم: هل من زيادة من الجن والإنس؟ فيضع الرب - جل جلاله- قدمه فيها, فينزوي بعضها على بعض, وتقول: قط, قط.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( 31 )
وقُرِّبت الجنة للمتقين مكانًا غير بعيد منهم, فهم يشاهدونها زيادة في المسرَّة لهم.
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( 32 ) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ( 33 )
يقال لهم: هذا الذي كنتم توعدون به - أيها المتقون - لكل تائب مِن ذنوبه, حافظ لكل ما قَرَّبه إلى ربه, من الفرائض والطاعات, مَن خاف الله في الدنيا ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه.
ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 )
ويقال لهؤلاء المؤمنين: ادخلوا الجنة دخولا مقرونًا بالسلامة من الآفات والشرور, مأمونًا فيه جميع المكاره, ذلك هو يوم الخلود بلا انقطاع.
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 )
لهؤلاء المؤمنين في الجنة ما يريدون, ولدينا على ما أعطيناهم زيادة نعيم, أعظَمُه النظر إلى وجه الله الكريم.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ( 36 )
وأهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش أممًا كثيرة, كانوا أشد منهم قوة وسطوة, فطوَّفوا في البلاد وعمَّروا ودمَّروا فيها, هل من مهرب من عذاب الله حين جاءهم؟
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 )
إن في إهلاك القرون الماضية لعبرة لمن كان له قلب يعقل به, أو أصغى السمع, وهو حاضر بقلبه, غير غافل ولا ساهٍ.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ( 38 )
ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات في ستة أيام, وما أصابنا من ذلك الخلق تعب ولا نَصَب. وفي هذه القدرة العظيمة دليل على قدرته - سبحانه - على إحياء الموتى من باب أولى.
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( 40 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما يقوله المكذبون, فإن الله لهم بالمرصاد, وصلِّ لربك حامدًا له صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب, وصلِّ من الليل, وسبِّحْ بحمد ربك عقب الصلوات.
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 41 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 42 )
واستمع - أيها الرسول- يوم ينادي المَلَك بنفخه في « القرن » من مكان قريب, يوم يسمعون صيحة البعث بالحق الذي لا شك فيه ولا امتراء, ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 )
إنَّا نحن نحيي الخلق ونميتهم في الدنيا, وإلينا مصيرهم جميعًا يوم القيامة للحساب والجزاء, يوم تتصدع الأرض عن الموتى المقبورين بها, فيخرجون مسرعين إلى الداعي, ذلك الجمع في موقف الحساب علينا سهل يسير.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )
نحن أعلم بما يقول هؤلاء المشركون مِن افتراء على الله وتكذيب بآياته, وما أنت - أيها الرسول- عليهم بمسلَّط; لتجبرهم على الإسلام, وإنما بُعِثْتَ مبلِّغًا, فذكِّر بالقرآن من يخشى وعيدي; لأن مَن لا يخاف الوعيد لا يذَّكر.
====
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 )
( ق ) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.
أقسم الله تعالى بالقرآن الكريم ذي المجد والشرف.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ( 2 )
بل عجب المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم أن جاءهم منذر منهم ينذرهم عقاب الله, فقال الكافرون بالله ورسوله: هذا شيء مستغرب يتعجب منه.
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ( 3 )
أإذا متنا وصِرْنا ترابًا, كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى ما كنا عليه؟ ذلك رجع بعيد الوقوع.
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( 4 )
قد علمنا ما تنقص الأرض وتُفني من أجسامهم, وعندنا كتاب محفوظ من التغيير والتبديل, بكل ما يجري عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ( 5 )
بل كذَّب هؤلاء المشركون بالقرآن حين جاءهم, فهم في أمر مضطرب مختلط, لا يثبتون على شيء, ولا يستقر لهم قرار.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( 6 )
أغَفَلوا حين كفروا بالبعث, فلم ينظروا إلى السماء فوقهم, كيف بنيناها مستوية الأرجاء, ثابتة البناء, وزيناها بالنجوم, وما لها من شقوق وفتوق, فهي سليمة من التفاوت والعيوب؟
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 7 )
والأرض وسَّعْناها وفرشناها, وجعلنا فيها جبالا ثوابت; لئلا تميل بأهلها, وأنبتنا فيها من كل نوع حسن المنظر نافع, يَسُرُّ ويبهج الناظر إليه.
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ( 8 )
خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الآيات العظيمة عبرة يُتبصر بها مِن عمى الجهل, وذكرى لكل عبد خاضع خائف وَجِل, رجَّاع إلى الله عز وجل.
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ( 9 )
ونزَّلنا من السماء مطرًا كثير المنافع, فأنبتنا به بساتين كثيرة الأشجار, وحب الزرع المحصود.
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ( 10 )
وأنبتنا النخل طِوالا لها طلع متراكب بعضه فوق بعضٍ.
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 )
أنبتنا ذلك رزقًا للعباد يقتاتون به حسب حاجاتهم, وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة قد أجدبت وقحطت, فلا زرع فيها ولا نبات, كما أحيينا بذلك الماء الأرض الميتة نخرجكم يوم القيامة أحياء بعد الموت.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ( 13 ) وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 )
كذَّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش قومُ نوح وأصحاب البئر وثمود, وعاد وفرعون وقوم لوط, وأصحاب الأيكة قومُ شعيب, وقوم تُبَّع الحِمْيَري, كل هؤلاء الأقوام كذَّبوا رسلهم, فحق عليهم الوعيد الذي توعدهم الله به على كفرهم.
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 15 )
أفَعَجَزْنا عن ابتداع الخلق الأول الذي خلقناه ولم يكن شيئًا, فنعجز عن إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم؟ لا يعجزنا ذلك, بل نحن عليه قادرون, ولكنهم في حَيْرة وشك من أمر البعث والنشور.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 )
ولقد خلقنا الإنسان, ونعلم ما تُحَدِّث به نفسه, ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( وهو عِرْق في العنق متصل بالقلب ) .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 )
حين يكتب المَلَكان المترصدان عن يمينه وعن شماله أعماله. فالذي عن اليمين يكتب الحسنات, والذي عن الشمال يكتب السيئات.
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( 18 )
ما يلفظ من قول فيتكلم به إلا لديه مَلَك يرقب قوله, ويكتبه, وهو مَلَك حاضر مُعَدٌّ لذلك.
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 )
وجاءت شدة الموت وغَمْرته بالحق الذي لا مردَّ له ولا مناص, ذلك ما كنت منه - أيها الإنسان - تهرب وتروغ.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 )
ونُفخ في « القرن » نفخة البعث الثانية, ذلك النفخ في يوم وقوع الوعيد الذي توعَّد الله به الكفار.
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 )
وجاءت كل نفس معها مَلَكان, أحدهما يسوقها إلى المحشر, والآخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 )
لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان, فكشفنا عنك غطاءك الذي غطَّى قلبك, فزالت الغفلة عنك, فبصرك اليوم فيما تشهد قوي شديد.
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ( 23 )
وقال المَلَك الكاتب الشهيد عليه: هذا ما عندي من ديوان عمله, وهو لديَّ مُعَدٌّ محفوظ حاضر.
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( 24 ) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ( 25 ) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 26 )
يقول الله للمَلَكين السائق والشهيد بعد أن يفصل بين الخلائق: ألقيا في جهنم كل جاحد أن الله هو الإلهُ الحقُّ، كثيرِ الكفر والتكذيب معاند للحق, منَّاع لأداء ما عليه من الحقوق في ماله, مُعْتدٍ على عباد الله وعلى حدوده, شاكٍّ في وعده ووعيده, الذي أشرك بالله, فعبد معه معبودًا آخر مِن خلقه, فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 27 )
قال شيطانه الذي كان معه في الدنيا: ربنا ما أضللته, ولكن كان في طريق بعيد عن سبيل الهدى.
قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ( 28 )
قال الله تعالى: لا تختصموا لديَّ اليوم في موقف الجزاء والحساب; إذ لا فائدة من ذلك, وقد قَدَّمْتُ إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني.
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 29 )
ما يُغيَّر القول لديَّ, ولست أعذِّب أحدًا بذنب أحد, فلا أعذِّب أحدًا إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ( 30 )
اذكر - أيها الرسول- لقومك يوم نقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وتقول جهنم: هل من زيادة من الجن والإنس؟ فيضع الرب - جل جلاله- قدمه فيها, فينزوي بعضها على بعض, وتقول: قط, قط.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( 31 )
وقُرِّبت الجنة للمتقين مكانًا غير بعيد منهم, فهم يشاهدونها زيادة في المسرَّة لهم.
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( 32 ) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ( 33 )
يقال لهم: هذا الذي كنتم توعدون به - أيها المتقون - لكل تائب مِن ذنوبه, حافظ لكل ما قَرَّبه إلى ربه, من الفرائض والطاعات, مَن خاف الله في الدنيا ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه.
ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 )
ويقال لهؤلاء المؤمنين: ادخلوا الجنة دخولا مقرونًا بالسلامة من الآفات والشرور, مأمونًا فيه جميع المكاره, ذلك هو يوم الخلود بلا انقطاع.
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 )
لهؤلاء المؤمنين في الجنة ما يريدون, ولدينا على ما أعطيناهم زيادة نعيم, أعظَمُه النظر إلى وجه الله الكريم.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ( 36 )
وأهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش أممًا كثيرة, كانوا أشد منهم قوة وسطوة, فطوَّفوا في البلاد وعمَّروا ودمَّروا فيها, هل من مهرب من عذاب الله حين جاءهم؟
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 )
إن في إهلاك القرون الماضية لعبرة لمن كان له قلب يعقل به, أو أصغى السمع, وهو حاضر بقلبه, غير غافل ولا ساهٍ.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ( 38 )
ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات في ستة أيام, وما أصابنا من ذلك الخلق تعب ولا نَصَب. وفي هذه القدرة العظيمة دليل على قدرته - سبحانه - على إحياء الموتى من باب أولى.
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( 40 )
فاصبر - أيها الرسول- على ما يقوله المكذبون, فإن الله لهم بالمرصاد, وصلِّ لربك حامدًا له صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب, وصلِّ من الليل, وسبِّحْ بحمد ربك عقب الصلوات.
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ( 41 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 42 )
واستمع - أيها الرسول- يوم ينادي المَلَك بنفخه في « القرن » من مكان قريب, يوم يسمعون صيحة البعث بالحق الذي لا شك فيه ولا امتراء, ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 )
إنَّا نحن نحيي الخلق ونميتهم في الدنيا, وإلينا مصيرهم جميعًا يوم القيامة للحساب والجزاء, يوم تتصدع الأرض عن الموتى المقبورين بها, فيخرجون مسرعين إلى الداعي, ذلك الجمع في موقف الحساب علينا سهل يسير.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )
نحن أعلم بما يقول هؤلاء المشركون مِن افتراء على الله وتكذيب بآياته, وما أنت - أيها الرسول- عليهم بمسلَّط; لتجبرهم على الإسلام, وإنما بُعِثْتَ مبلِّغًا, فذكِّر بالقرآن من يخشى وعيدي; لأن مَن لا يخاف الوعيد لا يذَّكر.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الذاريات .. بن كثير
====
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 )
أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب, فالسحب الحاملات ثقلا عظيمًا من الماء, فالسفن التي تجري في البحار جريًا ذا يسر وسهولة, فالملائكة التي تُقَسِّم أمر الله في خلقه. إن الذي توعدون به- أيها الناس- من البعث والحساب لكائن حق يقين, وإن الحساب والثواب على الأعمال لكائن لا محالة.
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 )
وأقسم الله تعالى بالسماء ذات الخَلْق الحسن, إنكم- أيها المكذبون- لفي قول مضطرب في هذا القرآن, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. يُصرف عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم مَن صُرف عن الإيمان بهما؛ لإعراضه عن أدلة الله وبراهينه اليقينية فلم يوفَّق إلى الخير.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 )
لُعِن الكذابون الظانون غير الحق, الذين هم في لُـجَّة من الكفر والضلالة غافلون متمادون.
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 )
يسأل هؤلاء الكذابون سؤال استبعاد وتكذيب: متى يوم الحساب والجزاء؟
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 )
يوم الجزاء, يوم يُعذَّبون بالإحراق بالنار, ويقال لهم: ذوقوا عذابكم الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 )
إن الذين اتقوا الله في جنات عظيمة, وعيون ماء جارية, أعطاهم الله جميع مُناهم من أصناف النعيم, فأخذوا ذلك راضين به, فَرِحة به نفوسهم, إنهم كانوا قبل ذلك النعيم محسنين في الدنيا بأعمالهم الصالحة.
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 ) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 )
كان هؤلاء المحسنون قليلا من الليل ما ينامون, يُصَلُّون لربهم قانتين له, وفي أواخر الليل قبيل الفجر يستغفرون الله من ذنوبهم.
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 )
وفي أموالهم حق واجب ومستحب للمحتاجين الذين يسألون الناس, والذين لا يسألونهم حياء.
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 )
وفي الأرض عبر ودلائل واضحة على قدرة خلقها لأهل اليقين بأن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، والمصدِّقين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 21 )
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 )
وفي السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب, وغير ذلك كله مكتوب مقدَّر.
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ( 23 )
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنَّ ما وعدكم به حق, فلا تَشُكُّوا فيه كما لا تَشُكُّون في نطقكم.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 25 )
هل أتاك - أيها الرسول- حديث ضيف إبراهيم الذين أكرمهم- وكانوا من الملائكة الكرام- حين دخلوا عليه في بيته, فحيَّوه قائلين له: سلامًا, فردَّ عليهم التحية قائلا سلام عليكم, أنتم قوم غرباء لا نعرفكم.
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 27 )
فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله, فعمد إلى عجل سمين فذبحه, وشواه بالنار، ثم وضعه أمامهم, وتلَّطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا ألا تأكلون؟
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 28 )
فلما رآهم لا يأكلون أحسَّ في نفسه خوفًا منهم, قالوا له: لا تَخَفْ إنا رسل الله, وبشروه بأن زوجته « سَارَةَ » ستلد له ولدًا, سيكون من أهل العلم بالله وبدينه, وهو إسحاق عليه السلام.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 )
فلما سمعت زوجة إبراهيم مقالة هؤلاء الملائكة بالبشارة أقبلت نحوهم في صيحة, فلطمت وجهها تعجبًا من هذا الأمر, وقالت: كيف ألد وأنا عجوز عقيم لا ألد؟
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 )
قالت لها ملائكة الله: هكذا قال ربك كما أخبرناك, وهو القادر على ذلك, فلا عجب من قدرته. إنه سبحانه وتعالى هو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها, العليم بمصالح عباده.
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( 33 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 )
قال إبراهيم عليه السلام, لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟ قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله; لنهلكهم بحجارة من طين متحجِّر, معلَّمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحدَّ في الفجور والعصيان.
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )
فأخرجنا مَن كان في قرية قوم لوط من أهل الإيمان.
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 )
فما وجدنا في تلك القرية غير بيت من المسلمين, وهو بيت لوط عليه السلام.
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 37 )
وتركنا في القرية المذكورة أثرًا من العذاب باقيًا علامة على قدرة الله تعالى وانتقامه من الكفرة, وذلك عبرة لمن يخافون عذاب الله المؤلم الموجع.
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 ) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 )
وفي إرسالنا موسى إلى فرعون وملئه بالآيات والمعجزات الظاهرة آية للذين يخافون العذاب الأليم. فأعْرَضَ فرعون مغترًّا بقوته وجانبه, وقال عن موسى: إنه ساحر أو مجنون.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 )
فأخذنا فرعون وجنوده, فطرحناهم في البحر, وهو آتٍ ما يلام عليه; بسبب كفره وجحوده وفجوره.
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 )
وفي شأن عاد وإهلاكهم آيات وعبر لمن تأمل, إذ أرسلنا عليهم الريح التي لا بركة فيها ولا تأتي بخير, ما تَدَعُ شيئًا مرَّت عليه إلا صيَّرته كالشيء البالي.
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 44 )
وفي شأن ثمود وإهلاكهم آيات وعبر, إذ قيل لهم: انتفعوا بحياتكم حتى تنتهي آجالكم. فعصوا أمر ربهم, فأخذتهم صاعقة العذاب, وهم ينظرون إلى عقوبتهم بأعينهم.
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ( 45 )
فما أمكنهم الهرب ولا النهوض مما هم فيه من العذاب, وما كانوا منتصرين لأنفسهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 46 )
وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء, إنهم كانوا قومًا مخالفين لأمر الله, خارجين عن طاعته.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 )
والسماء خلقناها وأتقناها, وجعلناها سَقْفًا للأرض بقوة وقدرة عظيمة, وإنا لموسعون لأرجائها وأنحائها.
وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 )
والأرض جعناها فراشًا للخلق للاستقرار عليها, فنعم الماهدون نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 49 )
ومن كل شيء من أجناس الموجودات خلقنا نوعين مختلفين; لكي تتذكروا قدرة الله, وتعتبروا.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 )
ففروا- أيها الناس- من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به وبرسوله, واتباع أمره والعمل بطاعته, إني لكم نذير بيِّن الإنذار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر, فزع إلى الصلاة, وهذا فرار إلى الله.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 51 )
ولا تجعلوا مع الله معبودًا آخر, إني لكم من الله نذير بيِّن الإنذار.
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 )
كما كذبت قريش نبيَّها محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو شاعر أو ساحر أو مجنون, فعلت الأمم المكذبة رسلها من قبل قريش, فأحلَّ الله بهم نقمته.
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 )
أتواصى الأولون والآخرون بالتكذيب بالرسول حين قالوا ذلك جميعًا؟ بل هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان, فقال متأخروهم ذلك, كما قاله متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ( 54 )
فأعرضْ - أيها الرسول- عن المشركين حتى يأتيك فيهم أمر الله, فما أنت بملوم من أحد, فقد بلَّغت ما أُرسلت به.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )
ومع إعراضك - أيها الرسول- عنهم, وعدم الالتفات إلى تخذيلهم, داوم على الدعوة إلى الله, وعلى وعظ من أُرسلتَ إليهم; فإن التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة, وفيهما إقامة الحجة على المعرضين.
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )
وما خلقت الجن والإنس وبعثت جميع الرسل إلا لغاية سامية, هي عبادتي وحدي دون مَن سواي.
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( 57 )
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون, فأنا الرزاق المعطي. فهو سبحانه غير محتاج إلى الخلق, بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم, فهو خالقهم ورازقهم والغني عنهم.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 )
إن الله وحده هو الرزاق لخلقه, المتكفل بأقواتهم, ذو القوة المتين, لا يُقْهَر ولا يغالَب, فله القدرة والقوة كلها.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ( 59 )
فإن للذين ظلموا بتكذيبهم الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم نصيبًا من عذاب الله نازلا بهم مثل نصيب أصحابهم الذين مضَوْا من قبلهم, فلا يستعجلون بالعذاب, فهو آتيهم لا محالة.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 60 )
فهلاك وشقاء للذين كفروا بالله ورسوله من يومهم الذي يوعدون فيه بنزول العذاب بهم, وهو يوم القيامة.
====
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 )
أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب, فالسحب الحاملات ثقلا عظيمًا من الماء, فالسفن التي تجري في البحار جريًا ذا يسر وسهولة, فالملائكة التي تُقَسِّم أمر الله في خلقه. إن الذي توعدون به- أيها الناس- من البعث والحساب لكائن حق يقين, وإن الحساب والثواب على الأعمال لكائن لا محالة.
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 )
وأقسم الله تعالى بالسماء ذات الخَلْق الحسن, إنكم- أيها المكذبون- لفي قول مضطرب في هذا القرآن, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. يُصرف عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم مَن صُرف عن الإيمان بهما؛ لإعراضه عن أدلة الله وبراهينه اليقينية فلم يوفَّق إلى الخير.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ( 10 ) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ( 11 )
لُعِن الكذابون الظانون غير الحق, الذين هم في لُـجَّة من الكفر والضلالة غافلون متمادون.
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ( 12 )
يسأل هؤلاء الكذابون سؤال استبعاد وتكذيب: متى يوم الحساب والجزاء؟
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( 13 ) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 14 )
يوم الجزاء, يوم يُعذَّبون بالإحراق بالنار, ويقال لهم: ذوقوا عذابكم الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 15 ) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ( 16 )
إن الذين اتقوا الله في جنات عظيمة, وعيون ماء جارية, أعطاهم الله جميع مُناهم من أصناف النعيم, فأخذوا ذلك راضين به, فَرِحة به نفوسهم, إنهم كانوا قبل ذلك النعيم محسنين في الدنيا بأعمالهم الصالحة.
كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( 17 ) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 18 )
كان هؤلاء المحسنون قليلا من الليل ما ينامون, يُصَلُّون لربهم قانتين له, وفي أواخر الليل قبيل الفجر يستغفرون الله من ذنوبهم.
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 19 )
وفي أموالهم حق واجب ومستحب للمحتاجين الذين يسألون الناس, والذين لا يسألونهم حياء.
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 )
وفي الأرض عبر ودلائل واضحة على قدرة خلقها لأهل اليقين بأن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، والمصدِّقين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 21 )
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 )
وفي السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب, وغير ذلك كله مكتوب مقدَّر.
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ( 23 )
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنَّ ما وعدكم به حق, فلا تَشُكُّوا فيه كما لا تَشُكُّون في نطقكم.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( 25 )
هل أتاك - أيها الرسول- حديث ضيف إبراهيم الذين أكرمهم- وكانوا من الملائكة الكرام- حين دخلوا عليه في بيته, فحيَّوه قائلين له: سلامًا, فردَّ عليهم التحية قائلا سلام عليكم, أنتم قوم غرباء لا نعرفكم.
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ( 27 )
فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله, فعمد إلى عجل سمين فذبحه, وشواه بالنار، ثم وضعه أمامهم, وتلَّطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا ألا تأكلون؟
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ( 28 )
فلما رآهم لا يأكلون أحسَّ في نفسه خوفًا منهم, قالوا له: لا تَخَفْ إنا رسل الله, وبشروه بأن زوجته « سَارَةَ » ستلد له ولدًا, سيكون من أهل العلم بالله وبدينه, وهو إسحاق عليه السلام.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 )
فلما سمعت زوجة إبراهيم مقالة هؤلاء الملائكة بالبشارة أقبلت نحوهم في صيحة, فلطمت وجهها تعجبًا من هذا الأمر, وقالت: كيف ألد وأنا عجوز عقيم لا ألد؟
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 30 )
قالت لها ملائكة الله: هكذا قال ربك كما أخبرناك, وهو القادر على ذلك, فلا عجب من قدرته. إنه سبحانه وتعالى هو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها, العليم بمصالح عباده.
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( 33 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 )
قال إبراهيم عليه السلام, لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟ قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله; لنهلكهم بحجارة من طين متحجِّر, معلَّمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحدَّ في الفجور والعصيان.
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )
فأخرجنا مَن كان في قرية قوم لوط من أهل الإيمان.
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 )
فما وجدنا في تلك القرية غير بيت من المسلمين, وهو بيت لوط عليه السلام.
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 37 )
وتركنا في القرية المذكورة أثرًا من العذاب باقيًا علامة على قدرة الله تعالى وانتقامه من الكفرة, وذلك عبرة لمن يخافون عذاب الله المؤلم الموجع.
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 ) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 )
وفي إرسالنا موسى إلى فرعون وملئه بالآيات والمعجزات الظاهرة آية للذين يخافون العذاب الأليم. فأعْرَضَ فرعون مغترًّا بقوته وجانبه, وقال عن موسى: إنه ساحر أو مجنون.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 )
فأخذنا فرعون وجنوده, فطرحناهم في البحر, وهو آتٍ ما يلام عليه; بسبب كفره وجحوده وفجوره.
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 )
وفي شأن عاد وإهلاكهم آيات وعبر لمن تأمل, إذ أرسلنا عليهم الريح التي لا بركة فيها ولا تأتي بخير, ما تَدَعُ شيئًا مرَّت عليه إلا صيَّرته كالشيء البالي.
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 44 )
وفي شأن ثمود وإهلاكهم آيات وعبر, إذ قيل لهم: انتفعوا بحياتكم حتى تنتهي آجالكم. فعصوا أمر ربهم, فأخذتهم صاعقة العذاب, وهم ينظرون إلى عقوبتهم بأعينهم.
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ( 45 )
فما أمكنهم الهرب ولا النهوض مما هم فيه من العذاب, وما كانوا منتصرين لأنفسهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 46 )
وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء, إنهم كانوا قومًا مخالفين لأمر الله, خارجين عن طاعته.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 )
والسماء خلقناها وأتقناها, وجعلناها سَقْفًا للأرض بقوة وقدرة عظيمة, وإنا لموسعون لأرجائها وأنحائها.
وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 )
والأرض جعناها فراشًا للخلق للاستقرار عليها, فنعم الماهدون نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 49 )
ومن كل شيء من أجناس الموجودات خلقنا نوعين مختلفين; لكي تتذكروا قدرة الله, وتعتبروا.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 )
ففروا- أيها الناس- من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به وبرسوله, واتباع أمره والعمل بطاعته, إني لكم نذير بيِّن الإنذار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر, فزع إلى الصلاة, وهذا فرار إلى الله.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 51 )
ولا تجعلوا مع الله معبودًا آخر, إني لكم من الله نذير بيِّن الإنذار.
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 )
كما كذبت قريش نبيَّها محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو شاعر أو ساحر أو مجنون, فعلت الأمم المكذبة رسلها من قبل قريش, فأحلَّ الله بهم نقمته.
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 )
أتواصى الأولون والآخرون بالتكذيب بالرسول حين قالوا ذلك جميعًا؟ بل هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان, فقال متأخروهم ذلك, كما قاله متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ( 54 )
فأعرضْ - أيها الرسول- عن المشركين حتى يأتيك فيهم أمر الله, فما أنت بملوم من أحد, فقد بلَّغت ما أُرسلت به.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )
ومع إعراضك - أيها الرسول- عنهم, وعدم الالتفات إلى تخذيلهم, داوم على الدعوة إلى الله, وعلى وعظ من أُرسلتَ إليهم; فإن التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة, وفيهما إقامة الحجة على المعرضين.
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )
وما خلقت الجن والإنس وبعثت جميع الرسل إلا لغاية سامية, هي عبادتي وحدي دون مَن سواي.
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( 57 )
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون, فأنا الرزاق المعطي. فهو سبحانه غير محتاج إلى الخلق, بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم, فهو خالقهم ورازقهم والغني عنهم.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 )
إن الله وحده هو الرزاق لخلقه, المتكفل بأقواتهم, ذو القوة المتين, لا يُقْهَر ولا يغالَب, فله القدرة والقوة كلها.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ( 59 )
فإن للذين ظلموا بتكذيبهم الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم نصيبًا من عذاب الله نازلا بهم مثل نصيب أصحابهم الذين مضَوْا من قبلهم, فلا يستعجلون بالعذاب, فهو آتيهم لا محالة.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 60 )
فهلاك وشقاء للذين كفروا بالله ورسوله من يومهم الذي يوعدون فيه بنزول العذاب بهم, وهو يوم القيامة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الطور .. بن كثير
====
وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 )
أقسم الله بالطور, وهو الجبل الذي كلَّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه, وبكتاب مكتوب, وهو القرآن في صحف منشورة، وبالبيت المعمور في السماء بالملائكة الكرام الذين يطوفون به دائمًا, وبالسقف المرفوع وهو السماء الدنيا, وبالبحر المسجور المملوء بالمياه.
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 )
إن عذاب ربك - أيها الرسول- بالكفار لَواقع، ليس له مِن مانع يمنعه حين وقوعه, يوم تتحرك السماء فيختلُّ نظامها وتضطرب أجزاؤها, وذلك عند نهاية الحياة الدنيا, وتزول الجبال عن أماكنها, وتسير كسير السحاب.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 )
فهلاك في هذا اليوم واقع بالمكذبين الذين هم في خوض بالباطل يلعبون به, ويتخذون دينهم هزوًا ولعبًا.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 )
يوم يُدْفَع هؤلاء المكذبون دفعًا بعنف ومَهانة إلى نار جهنم، ويقال توبيخًا لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذِّبون.
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 )
أفسحر ما تشاهدونه من العذاب أم أنتم لا تنظرون؟ ذوقوا حرَّ هذه النار, فاصبروا على ألمها وشدتها, أو لا تصبروا على ذلك، فلن يُخَفَّف عنكم العذاب، ولن تخرجوا منها, سواء عليكم صبرتم أم لم تصبروا, إنما تُجزون ما كنتم تعملون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 )
إن المتقين في جنات ونعيم عظيم, يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذِّ المختلفة, ونجَّاهم الله من عذاب النار.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 20 )
كلوا طعامًا هنيئًا, واشربوا شرابًا سائغًا؛ جزاء بما عملتم من أعمال صالحة في الدنيا. وهم متكئون على سرر متقابلة, وزوَّجناهم بنساء بيض واسعات العيون حسانهنَّ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 )
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان, وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة, وإن لم يبلغوا عمل آبائهم; لتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيُجْمَع بينهم على أحسن الأحوال, وما نقصناهم شيئًا من ثواب أعمالهم. كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس.
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( 23 )
وزدناهم على ما ذُكر من النعيم فواكه ولحومًا مما يستطاب ويُشتهى، ومن هذا النعيم أنهم يتعاطَوْن في الجنة كأسًا من الخمر, يناول أحدهم صاحبه؛ ليتم بذلك سرورهم، وهذا الشراب مخالف لخمر الدنيا، فلا يزول به عقل صاحبه, ولا يحصل بسببه لغو، ولا كلام فيه إثم أو معصية.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ( 24 )
ويطوف عليهم غلمان مُعَدُّون لخدمتهم, كأنهم في الصفاء والبياض والتناسق لؤلؤ مصون في أصدافه.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 )
وأقبل أهل الجنة, يسأل بعضهم بعضًا عن عظيم ما هم فيه وسببه, قالوا: إنا كنا قبل في الدنيا- ونحن بين أهلينا- خائفين ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه يوم القيامة. فمنَّ الله علينا بالهداية والتوفيق، ووقانا عذاب سموم جهنم, وهو نارها وحرارتها. إنا كنا من قبلُ نضرع إليه وحده لا نشرك معه غيره أن يقينا عذاب السَّموم ويوصلنا إلى النعيم، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا, إنه هو البَرُّ الرحيم. فمن بِره ورحمته إيانا أنالنا رضاه والجنة, ووقانا مِن سخطه والنار.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( 29 )
فذكِّر - أيها الرسول- مَن أُرسلت إليهم بالقرآن، فما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم، ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يَدَّعون.
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 )
أم يقول المشركون لك - أيها الرسول- : هو شاعر ننتظر به نزول الموت؟ قل لهم: انتظروا موتي فإني معكم من المنتظرين بكم العذاب، وسترون لمن تكون العاقبة.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 32 )
بل أتأمر هؤلاء المكذبين عقولهم بهذا القول المتناقض ( ذلك أن صفات الكهانة والشعر والجنون لا يمكن اجتماعها في آن واحد ) ، بل هم قوم متجاوزون الحدَّ في الطغيان.
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 )
بل أيقول هؤلاء المشركون, اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه؟ بل هم لا يؤمنون, فلو آمنوا لم يقولوا ما قالوه.
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 34 )
فليأتوا بكلام مثل القرآن، إن كانوا صادقين- في زعمهم- أن محمدًا اختلقه.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 )
أخُلِق هؤلاء المشركون من غير خالق لهم وموجد, أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وكلا الأمرين باطل ومستحيل. وبهذا يتعيَّن أن الله سبحانه هو الذي خلقهم، وهو وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له.
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ( 36 )
أم خَلَقوا السموات والأرض على هذا الصنع البديع؟ بل هم لا يوقنون بعذاب الله, فهم مشركون.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( 37 )
أم عندهم خزائن ربك يتصرفون فيها, أم هم الجبارون المتسلطون على خلق الله بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الضعفاء.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 )
أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون فيه الوحي بأن الذي هم عليه حق؟ فليأت مَن يزعم أنه استمع ذلك بحجة بينة تصدِّق دعواه.
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 )
ألِلهِ سبحانه البنات ولكم البنون كما تزعمون افتراء وكذبًا؟
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 40 )
أتسأل - أيها الرسول- هؤلاء المشركون أجرًا على تبليغ الرسالة, فهم في جهد ومشقة من التزام غرامة تطلبها منهم؟
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 )
أم عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ويخبرونهم به؟ ليس الأمر كذلك; فإنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 )
بل يريدون برسول الله وبالمؤمنين مكرًا، فالذين كفروا يرجع كيدهم ومكرهم على أنفسهم.
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 43 )
أم لهم معبود يستحق العبادة غير الله؟ تنزَّه وتعالى عما يشركون، فليس له شريك فى الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ( 44 )
وإن ير هؤلاء المشركون قطعًا من السماء ساقطًا عليهم عذابًا لهم لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب, ولقالوا: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض.
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 )
فدع - أيها الرسول- هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يُهْلكون، وهو يوم القيامة.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 46 )
وفي ذلك اليوم لا يَدْفع عنهم كيدهم من عذاب الله شيئًا، ولا ينصرهم ناصر من عذاب الله.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 47 )
وإن لهؤلاء الظلمة عذابًا يلقونه في الدنيا قبل عذاب يوم القيامة من القتل والسبي وعذاب البرزخ وغير ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( 49 )
واصبر - أيها الرسول- لحكم ربك وأمره فيما حَمَّلك من الرسالة، وعلى ما يلحقك من أذى قومك، فإنك بمرأى منا وحفظ واعتناء، وسبِّح بحمد ربك حين تقوم إلى الصلاة، وحين تقوم من نومك، ومن الليل فسبِّح بحمد ربك وعظِّمه, وصلِّ له، وافعل ذلك عند صلاة الصبح وقت إدبار النجوم. وفي هذه الآية إثبات لصفة العينين لله تعالى بما يليق به، دون تشبيه بخلقه أو تكييف لذاته, سبحانه وبحمده, كما ثبت ذلك بالسنة, وأجمع عليه سلف الأمة، واللفظ ورد هنا بصيغة الجمع للتعظيم.
====
وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 )
أقسم الله بالطور, وهو الجبل الذي كلَّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه, وبكتاب مكتوب, وهو القرآن في صحف منشورة، وبالبيت المعمور في السماء بالملائكة الكرام الذين يطوفون به دائمًا, وبالسقف المرفوع وهو السماء الدنيا, وبالبحر المسجور المملوء بالمياه.
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 )
إن عذاب ربك - أيها الرسول- بالكفار لَواقع، ليس له مِن مانع يمنعه حين وقوعه, يوم تتحرك السماء فيختلُّ نظامها وتضطرب أجزاؤها, وذلك عند نهاية الحياة الدنيا, وتزول الجبال عن أماكنها, وتسير كسير السحاب.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 )
فهلاك في هذا اليوم واقع بالمكذبين الذين هم في خوض بالباطل يلعبون به, ويتخذون دينهم هزوًا ولعبًا.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 )
يوم يُدْفَع هؤلاء المكذبون دفعًا بعنف ومَهانة إلى نار جهنم، ويقال توبيخًا لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذِّبون.
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 )
أفسحر ما تشاهدونه من العذاب أم أنتم لا تنظرون؟ ذوقوا حرَّ هذه النار, فاصبروا على ألمها وشدتها, أو لا تصبروا على ذلك، فلن يُخَفَّف عنكم العذاب، ولن تخرجوا منها, سواء عليكم صبرتم أم لم تصبروا, إنما تُجزون ما كنتم تعملون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 )
إن المتقين في جنات ونعيم عظيم, يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذِّ المختلفة, ونجَّاهم الله من عذاب النار.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 20 )
كلوا طعامًا هنيئًا, واشربوا شرابًا سائغًا؛ جزاء بما عملتم من أعمال صالحة في الدنيا. وهم متكئون على سرر متقابلة, وزوَّجناهم بنساء بيض واسعات العيون حسانهنَّ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 )
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان, وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة, وإن لم يبلغوا عمل آبائهم; لتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيُجْمَع بينهم على أحسن الأحوال, وما نقصناهم شيئًا من ثواب أعمالهم. كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس.
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( 23 )
وزدناهم على ما ذُكر من النعيم فواكه ولحومًا مما يستطاب ويُشتهى، ومن هذا النعيم أنهم يتعاطَوْن في الجنة كأسًا من الخمر, يناول أحدهم صاحبه؛ ليتم بذلك سرورهم، وهذا الشراب مخالف لخمر الدنيا، فلا يزول به عقل صاحبه, ولا يحصل بسببه لغو، ولا كلام فيه إثم أو معصية.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ( 24 )
ويطوف عليهم غلمان مُعَدُّون لخدمتهم, كأنهم في الصفاء والبياض والتناسق لؤلؤ مصون في أصدافه.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 )
وأقبل أهل الجنة, يسأل بعضهم بعضًا عن عظيم ما هم فيه وسببه, قالوا: إنا كنا قبل في الدنيا- ونحن بين أهلينا- خائفين ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه يوم القيامة. فمنَّ الله علينا بالهداية والتوفيق، ووقانا عذاب سموم جهنم, وهو نارها وحرارتها. إنا كنا من قبلُ نضرع إليه وحده لا نشرك معه غيره أن يقينا عذاب السَّموم ويوصلنا إلى النعيم، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا, إنه هو البَرُّ الرحيم. فمن بِره ورحمته إيانا أنالنا رضاه والجنة, ووقانا مِن سخطه والنار.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( 29 )
فذكِّر - أيها الرسول- مَن أُرسلت إليهم بالقرآن، فما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم، ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يَدَّعون.
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 )
أم يقول المشركون لك - أيها الرسول- : هو شاعر ننتظر به نزول الموت؟ قل لهم: انتظروا موتي فإني معكم من المنتظرين بكم العذاب، وسترون لمن تكون العاقبة.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 32 )
بل أتأمر هؤلاء المكذبين عقولهم بهذا القول المتناقض ( ذلك أن صفات الكهانة والشعر والجنون لا يمكن اجتماعها في آن واحد ) ، بل هم قوم متجاوزون الحدَّ في الطغيان.
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 )
بل أيقول هؤلاء المشركون, اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه؟ بل هم لا يؤمنون, فلو آمنوا لم يقولوا ما قالوه.
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 34 )
فليأتوا بكلام مثل القرآن، إن كانوا صادقين- في زعمهم- أن محمدًا اختلقه.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 )
أخُلِق هؤلاء المشركون من غير خالق لهم وموجد, أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وكلا الأمرين باطل ومستحيل. وبهذا يتعيَّن أن الله سبحانه هو الذي خلقهم، وهو وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له.
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ( 36 )
أم خَلَقوا السموات والأرض على هذا الصنع البديع؟ بل هم لا يوقنون بعذاب الله, فهم مشركون.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( 37 )
أم عندهم خزائن ربك يتصرفون فيها, أم هم الجبارون المتسلطون على خلق الله بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الضعفاء.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 )
أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون فيه الوحي بأن الذي هم عليه حق؟ فليأت مَن يزعم أنه استمع ذلك بحجة بينة تصدِّق دعواه.
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 )
ألِلهِ سبحانه البنات ولكم البنون كما تزعمون افتراء وكذبًا؟
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 40 )
أتسأل - أيها الرسول- هؤلاء المشركون أجرًا على تبليغ الرسالة, فهم في جهد ومشقة من التزام غرامة تطلبها منهم؟
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 )
أم عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ويخبرونهم به؟ ليس الأمر كذلك; فإنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 )
بل يريدون برسول الله وبالمؤمنين مكرًا، فالذين كفروا يرجع كيدهم ومكرهم على أنفسهم.
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 43 )
أم لهم معبود يستحق العبادة غير الله؟ تنزَّه وتعالى عما يشركون، فليس له شريك فى الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ( 44 )
وإن ير هؤلاء المشركون قطعًا من السماء ساقطًا عليهم عذابًا لهم لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب, ولقالوا: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض.
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 )
فدع - أيها الرسول- هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يُهْلكون، وهو يوم القيامة.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 46 )
وفي ذلك اليوم لا يَدْفع عنهم كيدهم من عذاب الله شيئًا، ولا ينصرهم ناصر من عذاب الله.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 47 )
وإن لهؤلاء الظلمة عذابًا يلقونه في الدنيا قبل عذاب يوم القيامة من القتل والسبي وعذاب البرزخ وغير ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( 49 )
واصبر - أيها الرسول- لحكم ربك وأمره فيما حَمَّلك من الرسالة، وعلى ما يلحقك من أذى قومك، فإنك بمرأى منا وحفظ واعتناء، وسبِّح بحمد ربك حين تقوم إلى الصلاة، وحين تقوم من نومك، ومن الليل فسبِّح بحمد ربك وعظِّمه, وصلِّ له، وافعل ذلك عند صلاة الصبح وقت إدبار النجوم. وفي هذه الآية إثبات لصفة العينين لله تعالى بما يليق به، دون تشبيه بخلقه أو تكييف لذاته, سبحانه وبحمده, كما ثبت ذلك بالسنة, وأجمع عليه سلف الأمة، واللفظ ورد هنا بصيغة الجمع للتعظيم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة النجم .. بن كثير
====
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 )
أقسم الله تعالى بالنجوم إذا غابت, ما حاد محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية والحق, وما خرج عن الرشاد, بل هو في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد, وليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه. ما القرآن وما السنة إلا وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 )
علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم مَلَك شديد القوة, ذو منظر حسن, وهو جبريل عليه السلام, الذي ظهر واستوى على صورته الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم في الأفق الأعلى, وهو أفق الشمس عند مطلعها, ثم دنا جبريل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب, فكان دنوُّه مقدار قوسين أو أقرب من ذلك. فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى بواسطة جبريل عليه السلام. ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره.
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 ) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 )
أتُكذِّبون محمدًا صلى الله عليه وسلم, فتجادلونه على ما يراه ويشاهده من آيات ربه؟ ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى عند سدرة المنتهى- شجرة نَبْق- وهي في السماء السابعة, ينتهي إليها ما يُعْرَج به من الأرض, وينتهي إليها ما يُهْبَط به من فوقها, عندها جنة المأوى التي وُعِد بها المتقون. إذ يغشى السدرة من أمر الله شيء عظيم, لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم على صفة عظيمة من الثبات والطاعة, فما مال بصره يمينًا ولا شمالا ولا جاوز ما أُمِر برؤيته. لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من آيات ربه الكبرى الدالة على قدرة الله وعظمته من الجنة والنار وغير ذلك.
أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ( 20 )
أفرأيتم- أيها المشركون- هذه الآلهة التي تعبدونها: اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى, هل نفعت أو ضرَّت حتى تكون شركاء لله؟
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )
أتجعلون لكم الذَّكر الذي ترضونه, وتجعلون لله بزعمكم الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم؟ تلك إذًا قسمة جائرة. ما هذه الأوثان إلا أسماء ليس لها من أوصاف الكمال شيء, إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى أهوائكم الباطلة, ما أنزل الله بها مِن حجة تصدق دعواكم فيها. ما يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن, وهوى أنفسهم المنحرفة عن الفطرة السليمة, ولقد جاءهم من ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم, ما فيه هدايتهم, فما انتفعوا به.
أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى ( 25 )
ليس للإنسان ما تمناه من شفاعة هذه المعبودات أو غيرها مما تهواه نفسه, فلله أمر الدنيا والآخرة.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )
وكثير من الملائكة في السموات مع علوِّ منزلتهم, لا تنفع شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لهم بالشفاعة, ويرضى عن المشفوع له.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 )
إن الذين لا يصدِّقون بالحياة الآخرة من كفار العرب ولا يعملون لها ليسمُّون الملائكة تسمية الإناث؛ لاعتقادهم جهلا أن الملائكة إناث, وأنهم بنات الله. وما لهم بذلك من علم صحيح يصدِّق ما قالوه, ما يتبعون إلا الظن الذي لا يجدي شيئًا, ولا يقوم أبدًا مقام الحق.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )
فأعْرِضْ عمَّن تولى عن ذكرنا, وهو القرآن, ولم يُرِدْ إلا الحياة الدنيا. ذلك الذي هم عليه هو منتهى علمهم وغايتهم. إن ربك هو أعلم بمن حادَ عن طريق الهدى, وهو أعلم بمن اهتدى وسلك طريق الإسلام. وفي هذا إنذار شديد للعصاة المعرضين عن العمل بكتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المؤثرين لهوى النفس وحظوظ الدنيا على الآخرة.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 32 )
والله سبحانه وتعالى ملك ما في السموات وما في الأرض؛ ليجزي الذين أساءوا بعقابهم على ما عملوا من السوء, ويجزي الذي أحسنوا بالجنة, وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم, وهي الذنوب الصغار التي لا يُصِرُّ صاحبها عليها, أو يلمُّ بها العبد على وجه الندرة, فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات, يغفرها الله لهم ويسترها عليهم, إن ربك واسع المغفرة, هو أعلم بأحوالكم حين خلق أباكم آدم من تراب, وحين أنتم أجنَّة في بطون أمهاتكم, فلا تزكُّوا أنفسكم فتمدحوها وتَصِفُوها بالتقوى, هو أعلم بمن اتقى عقابه فاجتنب معاصيه من عباده.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 )
أفرأيت - أيها الرسول- الذي أعرض عن طاعة الله وأعطى قليلا مِن ماله, ثم توقف عن العطاء وقطع معروفه؟
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 )
أعند هذا الذي قطع عطاءه علم الغيب أنه سينفَد ما في يده حتى أمسك معروفه, فهو يرى ذلك عِيانًا؟ ليس الأمر كذلك, وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة; بخلا وشُحًّا.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 )
أم لم يُخَبَّر بما جاء في أسفار التوراة وصحف إبراهيم الذي وفَّى ما أُمر به وبلَّغه؟
أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ( 39 )
أنه لا تؤخذ نفس بمأثم غيرها، ووزرها لا يحمله عنها أحد, وأنه لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه بسعيه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 )
وأن سعيه سوف يُرى في الآخرة, فيميَّز حَسَنه من سيئه؛ تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسيء.
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 )
ثم يُجزى الإنسان على سعيه الجزاء المستكمل لجميع عمله, وأنَّ إلى ربك - أيها الرسول- انتهاء جميع خلقه يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 )
وأنه سبحانه وتعالى أضحك مَن شاء في الدنيا بأن سرَّه, وأبكى من شاء بأن غَمَّه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 )
وأنه سبحانه أمات مَن أراد موته مِن خلقه, وأحيا مَن أراد حياته منهم, فهو المتفرِّد سبحانه بالإحياء والإماتة.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 )
وأنه خلق الزوجين: الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان, من نطفة تُصَبُّ في الرحم.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ( 47 )
وأن على ربك - أيها الرسول- إعادة خلقهم بعد مماتهم, وهي النشأة الأخرى يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 )
وأنه هو أغنى مَن شاء مِن خلقه بالمال, وملَّكه لهم وأرضاهم به.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 )
وأنه سبحانه وتعالى هو رب الشِّعْرى, وهو نجم مضيء, كان بعض أهل الجاهلية يعبدونه من دون الله.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ( 50 ) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 )
وأنه سبحانه وتعالى أهلك عادًا الأولى, وهم قوم هود, وأهلك ثمود, وهم قوم صالح, فلم يُبْقِ منهم أحدًا, وأهلك قوم نوح قبلُ. هؤلاء كانوا أشد تمردًا وأعظم كفرًا من الذين جاؤوا من بعدهم. ومدائن قوم لوط قلبها الله عليهم, وجعل عاليها سافلها, فألبسها ما ألبسها من الحجارة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 )
فبأيِّ نعم ربك عليك- أيها الإنسان المكذب- تَشُك؟
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ( 56 )
هذا محمد صلى الله عليه وسلم, نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله, فليس ببدع من الرسل.
أَزِفَتِ الآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 )
قربت القيامة ودنا وقتها, لا يدفعها إذًا من دون الله أحد, ولا يَطَّلِع على وقت وقوعها إلا الله.
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )
أفمِن هذا القرآن تعجبون - أيها المشركون- من أن يكون صحيحًا, وتضحكون منه سخرية واستهزاءً, ولا تبكون خوفًا من وعيده, وأنتم لاهون معرضون عنه؟ فاسجدوا لله وأخلصوا العبادة له وحده, وسلِّموا له أموركم.
====
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 )
أقسم الله تعالى بالنجوم إذا غابت, ما حاد محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية والحق, وما خرج عن الرشاد, بل هو في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد, وليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه. ما القرآن وما السنة إلا وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 )
علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم مَلَك شديد القوة, ذو منظر حسن, وهو جبريل عليه السلام, الذي ظهر واستوى على صورته الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم في الأفق الأعلى, وهو أفق الشمس عند مطلعها, ثم دنا جبريل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب, فكان دنوُّه مقدار قوسين أو أقرب من ذلك. فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى بواسطة جبريل عليه السلام. ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره.
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 ) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 )
أتُكذِّبون محمدًا صلى الله عليه وسلم, فتجادلونه على ما يراه ويشاهده من آيات ربه؟ ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى عند سدرة المنتهى- شجرة نَبْق- وهي في السماء السابعة, ينتهي إليها ما يُعْرَج به من الأرض, وينتهي إليها ما يُهْبَط به من فوقها, عندها جنة المأوى التي وُعِد بها المتقون. إذ يغشى السدرة من أمر الله شيء عظيم, لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم على صفة عظيمة من الثبات والطاعة, فما مال بصره يمينًا ولا شمالا ولا جاوز ما أُمِر برؤيته. لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من آيات ربه الكبرى الدالة على قدرة الله وعظمته من الجنة والنار وغير ذلك.
أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ( 20 )
أفرأيتم- أيها المشركون- هذه الآلهة التي تعبدونها: اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى, هل نفعت أو ضرَّت حتى تكون شركاء لله؟
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )
أتجعلون لكم الذَّكر الذي ترضونه, وتجعلون لله بزعمكم الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم؟ تلك إذًا قسمة جائرة. ما هذه الأوثان إلا أسماء ليس لها من أوصاف الكمال شيء, إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى أهوائكم الباطلة, ما أنزل الله بها مِن حجة تصدق دعواكم فيها. ما يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن, وهوى أنفسهم المنحرفة عن الفطرة السليمة, ولقد جاءهم من ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم, ما فيه هدايتهم, فما انتفعوا به.
أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى ( 25 )
ليس للإنسان ما تمناه من شفاعة هذه المعبودات أو غيرها مما تهواه نفسه, فلله أمر الدنيا والآخرة.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )
وكثير من الملائكة في السموات مع علوِّ منزلتهم, لا تنفع شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لهم بالشفاعة, ويرضى عن المشفوع له.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 )
إن الذين لا يصدِّقون بالحياة الآخرة من كفار العرب ولا يعملون لها ليسمُّون الملائكة تسمية الإناث؛ لاعتقادهم جهلا أن الملائكة إناث, وأنهم بنات الله. وما لهم بذلك من علم صحيح يصدِّق ما قالوه, ما يتبعون إلا الظن الذي لا يجدي شيئًا, ولا يقوم أبدًا مقام الحق.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )
فأعْرِضْ عمَّن تولى عن ذكرنا, وهو القرآن, ولم يُرِدْ إلا الحياة الدنيا. ذلك الذي هم عليه هو منتهى علمهم وغايتهم. إن ربك هو أعلم بمن حادَ عن طريق الهدى, وهو أعلم بمن اهتدى وسلك طريق الإسلام. وفي هذا إنذار شديد للعصاة المعرضين عن العمل بكتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المؤثرين لهوى النفس وحظوظ الدنيا على الآخرة.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 32 )
والله سبحانه وتعالى ملك ما في السموات وما في الأرض؛ ليجزي الذين أساءوا بعقابهم على ما عملوا من السوء, ويجزي الذي أحسنوا بالجنة, وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم, وهي الذنوب الصغار التي لا يُصِرُّ صاحبها عليها, أو يلمُّ بها العبد على وجه الندرة, فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات, يغفرها الله لهم ويسترها عليهم, إن ربك واسع المغفرة, هو أعلم بأحوالكم حين خلق أباكم آدم من تراب, وحين أنتم أجنَّة في بطون أمهاتكم, فلا تزكُّوا أنفسكم فتمدحوها وتَصِفُوها بالتقوى, هو أعلم بمن اتقى عقابه فاجتنب معاصيه من عباده.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 )
أفرأيت - أيها الرسول- الذي أعرض عن طاعة الله وأعطى قليلا مِن ماله, ثم توقف عن العطاء وقطع معروفه؟
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 )
أعند هذا الذي قطع عطاءه علم الغيب أنه سينفَد ما في يده حتى أمسك معروفه, فهو يرى ذلك عِيانًا؟ ليس الأمر كذلك, وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة; بخلا وشُحًّا.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 )
أم لم يُخَبَّر بما جاء في أسفار التوراة وصحف إبراهيم الذي وفَّى ما أُمر به وبلَّغه؟
أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ( 39 )
أنه لا تؤخذ نفس بمأثم غيرها، ووزرها لا يحمله عنها أحد, وأنه لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه بسعيه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 )
وأن سعيه سوف يُرى في الآخرة, فيميَّز حَسَنه من سيئه؛ تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسيء.
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 )
ثم يُجزى الإنسان على سعيه الجزاء المستكمل لجميع عمله, وأنَّ إلى ربك - أيها الرسول- انتهاء جميع خلقه يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 )
وأنه سبحانه وتعالى أضحك مَن شاء في الدنيا بأن سرَّه, وأبكى من شاء بأن غَمَّه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 )
وأنه سبحانه أمات مَن أراد موته مِن خلقه, وأحيا مَن أراد حياته منهم, فهو المتفرِّد سبحانه بالإحياء والإماتة.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 )
وأنه خلق الزوجين: الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان, من نطفة تُصَبُّ في الرحم.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ( 47 )
وأن على ربك - أيها الرسول- إعادة خلقهم بعد مماتهم, وهي النشأة الأخرى يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 )
وأنه هو أغنى مَن شاء مِن خلقه بالمال, وملَّكه لهم وأرضاهم به.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 )
وأنه سبحانه وتعالى هو رب الشِّعْرى, وهو نجم مضيء, كان بعض أهل الجاهلية يعبدونه من دون الله.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ( 50 ) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 )
وأنه سبحانه وتعالى أهلك عادًا الأولى, وهم قوم هود, وأهلك ثمود, وهم قوم صالح, فلم يُبْقِ منهم أحدًا, وأهلك قوم نوح قبلُ. هؤلاء كانوا أشد تمردًا وأعظم كفرًا من الذين جاؤوا من بعدهم. ومدائن قوم لوط قلبها الله عليهم, وجعل عاليها سافلها, فألبسها ما ألبسها من الحجارة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 )
فبأيِّ نعم ربك عليك- أيها الإنسان المكذب- تَشُك؟
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ( 56 )
هذا محمد صلى الله عليه وسلم, نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله, فليس ببدع من الرسل.
أَزِفَتِ الآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 )
قربت القيامة ودنا وقتها, لا يدفعها إذًا من دون الله أحد, ولا يَطَّلِع على وقت وقوعها إلا الله.
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )
أفمِن هذا القرآن تعجبون - أيها المشركون- من أن يكون صحيحًا, وتضحكون منه سخرية واستهزاءً, ولا تبكون خوفًا من وعيده, وأنتم لاهون معرضون عنه؟ فاسجدوا لله وأخلصوا العبادة له وحده, وسلِّموا له أموركم.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة القمر.. بن كثير
=====
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 )
دنت القيامة, وانفلق القمر فلقتين, حين سأل كفار « مكة » النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فدعا الله, فأراهم تلك الآية.
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ( 2 )
وإن ير المشركون دليلا وبرهانًا على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يُعرضوا عن الإيمان به وتصديقه مكذبين منكرين, ويقولوا بعد ظهور الدليل: هذا سحر باطل ذاهب مضمحل لا دوام له.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ( 3 )
وكذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ضلالتهم وما دعتهم إليه أهواؤهم من التكذيب, وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب.
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 )
ولقد جاء كفار قريش من أنباء الأمم المكذبة برسلها, وما حلَّ بها من العذاب, ما فيه كفاية لردعهم عن كفرهم وضلالهم.
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 )
هذا القرآن الذي جاءهم حكمة عظيمة بالغة غايتها, فأي شيء تغني النذر عن قوم أعرضوا وكذَّبوا بها؟
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ( 6 )
فأعرض - أيها الرسول- عنهم, وانتظر بهم يومًا عظيمًا. يوم يدعو الملك بنفخه في « القرن » إلى أمر فظيع منكر, وهو موقف الحساب.
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )
ذليلة أبصارهم يخرجون من القبور كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم للحساب جرادٌ منتشر في الآفاق, مسرعين إلى ما دُعُوا إليه, يقول الكافرون: هذا يوم عسر شديد الهول.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ( 9 )
كذَّبت قبل قومك - أيها الرسول- قوم نوح فكذَّبوا عبدنا نوحًا, وقالوا: هو مجنون, وانتهروه متوعدين إياه بأنواع الأذى, إن لم ينته عن دعوته.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ( 10 )
فدعا نوح ربه أنِّي ضعيف عن مقاومة هؤلاء, فانتصر لي بعقاب من عندك على كفرهم بك.
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ( 11 ) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( 12 )
فأجبنا دعاءه, ففتحنا أبواب السماء بماء كثير متدفق, وشققنا الأرض عيونًا متفجرة بالماء, فالتقى ماء السماء وماء الأرض على إهلاكهم الذي قدَّره الله لهم؛ جزاء شركهم.
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ( 13 ) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ( 14 )
وحملنا نوحًا ومَن معه على سفينة ذات ألواح ومسامير شُدَّت بها, تجري بمرأى منا وحفظ, وأغرقنا المكذبين؛ جزاء لهم على كفرهم وانتصارًا لنوح عليه السلام. وفي هذا دليل على إثبات صفة العينين لله سبحانه وتعالى, كما يليق به.
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 15 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 16 )
ولقد أبقينا قصة نوح مع قومه عبرة ودليلا على قدرتنا لمن بعد نوح ؛ ليعتبروا ويتعظوا بما حلَّ بهذه الأمة التي كفرت بربها, فهل من متعظ يتعظ؟ فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي وكذب رسلي, ولم يتعظ بما جاءت به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 17 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 18 )
كذبت عاد هودًا فعاقبناهم, فكيف كان عذابي لهم على كفرهم, ونذري على تكذيب رسولهم, وعدم الإيمان به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ( 19 ) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ( 20 )
إنَّا أرسلنا عليهم ريحًا شديدة البرد, في يوم شؤم مستمر عليهم بالعذاب والهلاك, تقتلع الناس من مواضعهم على الأرض فترمي بهم على رؤوسهم, فتدق أعناقهم, ويفصل رؤوسهم عن أجسادهم, فتتركهم كالنخل المنقلع من أصله.
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 21 )
فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي, وكذَّب رسلي ولم يؤمن بهم؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 22 )
ولقد سَهَّلنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم وللتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟ وفي هذا حثٌّ على الاستكثار من تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( 23 ) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 24 )
كذبت ثمود - وهم قوم صالح- بالآيات التي أُنذرِوا بها, فقالوا: أبشرًا منا واحدًا نتبعه نحن الجماعة الكثيرة وهو واحد؟ إنا إذا لفي بُعْدٍ عن الصواب وجنون.
أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ( 25 ) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ( 26 )
أأُنزل عليه الوحي وخُصَّ بالنبوة مِن بيننا, وهو واحد منا؟ بل هو كثير الكذب والتجبر. سَيَرون عند نزول العذاب بهم في الدنيا ويوم القيامة مَنِ الكذاب المتجبر؟
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 )
إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الصخرة؛ اختبارًا لهم, فانتظر- يا صالح- ما يحلُّ بهم من العذاب, واصطبر على دعوتك إياهم وأذاهم لك.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ( 28 )
وأخبرهم أن الماء مقسوم بين قومك والناقة: للناقة يوم, ولهم يوم, كل شِرْب يحضره مَن كانت قسمته, ويُحظر على من ليس بقسمة له.
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ( 29 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 30 )
فنادوا صاحبهم بالحض على عقرها, فتناول الناقة بيده, فنحرها فعاقَبْتُهم, فكيف كان عقابي لهم على كفرهم, وإنذاري لمن عصى رسلي؟
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( 31 )
إنا أرسلنا عليهم جبريل, فصاح بهم صيحة واحدة, فبادوا عن آخرهم, فكانوا كالزرع اليابس الذي يُجْعل حِظارًا على الإبل والمواشي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 32 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل مِن متعظ به؟
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( 33 )
كذَّبت قوم لوط بآيات الله التي أنذِروا بها.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ( 34 ) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ( 35 )
إنا أرسلنا عليهم حجارةً إلا آل لوط, نجَّيناهم من العذاب في آخر الليل, نعمة من عندنا عليهم, كما أثبنا لوطًا وآله وأنعمنا عليهم, فأنجيناهم مِن عذابنا, نُثيب مَن آمن بنا وشكرنا.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 )
ولقد خوَّف لوط قومه بأس الله وعذابه, فلم يسمعوا له, بل شكُّوا في ذلك, وكذَّبوه.
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 37 )
ولقد طلبوا منه أن يفعلوا الفاحشة بضيوفه من الملائكة, فطمسنا أعينهم فلم يُبصروا شيئًا, فقيل لهم: ذوقوا عذابي وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ( 38 ) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 39 )
ولقد جاءهم وقت الصباح عذاب دائم استقر فيهم حتى يُفضي بهم إلى عذاب الآخرة, وذلك العذاب هو رجمهم بالحجارة وقلب قُراهم وجعل أعلاها أسفلها, فقيل لهم: ذوقوا عذابي الذي أنزلته بكم ؛ لكفركم وتكذيبكم, وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 40 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر, فهل مِن متعظ به؟
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 )
ولقد جاء أتباعَ فرعون وقومَه إنذارُنا بالعقوبة لهم على كفرهم.
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ( 42 )
كذَّبوا بأدلتنا كلها الدالة على وحدانيتنا ونبوة أنبيائنا, فعاقبناهم بالعذاب عقوبة عزيز لا يغالَب, مقتدر على ما يشاء.
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 )
أكفاركم- يا معشر قريش- خير مِنَ الذين تقدَّم ذكرهم ممن هلكوا بسبب تكذيبهم, أم لكم براءة مِن عقاب الله في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة؟
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( 44 )
بل أيقول كفار « مكة » : نحن أولو حزم ورأي وأمرنا مجتمع, فنحن جماعة منتصرة لا يغلبنا من أرادنا بسوء؟
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 )
سيهزم جمع كفار « مكة » أمام المؤمنين, ويولُّون الأدبار, وقد حدث هذا يوم « بدر » .
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( 46 )
والساعة موعدهم الذي يُجازون فيه بما يستحقون, والساعة أعظم وأقسى مما لحقهم من العذاب يوم « بدر » .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 47 ) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ( 48 )
إن المجرمين في تيه عن الحق وعناء وعذاب. يوم يُجرُّون في النار على وجوههم, ويقال لهم: ذوقوا شدة عذاب جهنم.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 49 )
إنَّا كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه, وسبق علمنا به، وكتابتنا له في اللوح المحفوظ.
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 )
وما أمرنا للشيء إذا أردناه إلا أن نقول قولة واحدة وهي « كن » , فيكون كلمح البصر, لا يتأخر طرفة عين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 51 )
ولقد أهلكنا أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية, فهل من متعظ بما حلَّ بهم من النَّكال والعذاب؟
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 )
وكل شيء فعله أشباهكم الماضون من خير أو شرٍّ مكتوب في الكتب التي كتبتها الحفظة.
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ( 53 )
وكل صغير وكبير من أعمالهم مُسَطَّر في صحائفهم, وسيجازون به.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 )
إن المتقين في بساتين عظيمة, وأنهار واسعة يوم القيامة.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( 55 )
في مجلس حق, لا لغو فيه ولا تأثيم عند الله المَلِك العظيم, الخالق للأشياء كلها, المقتدر على كل شيء تبارك وتعالى.
=====
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 )
دنت القيامة, وانفلق القمر فلقتين, حين سأل كفار « مكة » النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فدعا الله, فأراهم تلك الآية.
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ( 2 )
وإن ير المشركون دليلا وبرهانًا على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يُعرضوا عن الإيمان به وتصديقه مكذبين منكرين, ويقولوا بعد ظهور الدليل: هذا سحر باطل ذاهب مضمحل لا دوام له.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ( 3 )
وكذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ضلالتهم وما دعتهم إليه أهواؤهم من التكذيب, وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب.
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 )
ولقد جاء كفار قريش من أنباء الأمم المكذبة برسلها, وما حلَّ بها من العذاب, ما فيه كفاية لردعهم عن كفرهم وضلالهم.
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 )
هذا القرآن الذي جاءهم حكمة عظيمة بالغة غايتها, فأي شيء تغني النذر عن قوم أعرضوا وكذَّبوا بها؟
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ( 6 )
فأعرض - أيها الرسول- عنهم, وانتظر بهم يومًا عظيمًا. يوم يدعو الملك بنفخه في « القرن » إلى أمر فظيع منكر, وهو موقف الحساب.
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )
ذليلة أبصارهم يخرجون من القبور كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم للحساب جرادٌ منتشر في الآفاق, مسرعين إلى ما دُعُوا إليه, يقول الكافرون: هذا يوم عسر شديد الهول.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ( 9 )
كذَّبت قبل قومك - أيها الرسول- قوم نوح فكذَّبوا عبدنا نوحًا, وقالوا: هو مجنون, وانتهروه متوعدين إياه بأنواع الأذى, إن لم ينته عن دعوته.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ( 10 )
فدعا نوح ربه أنِّي ضعيف عن مقاومة هؤلاء, فانتصر لي بعقاب من عندك على كفرهم بك.
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ( 11 ) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( 12 )
فأجبنا دعاءه, ففتحنا أبواب السماء بماء كثير متدفق, وشققنا الأرض عيونًا متفجرة بالماء, فالتقى ماء السماء وماء الأرض على إهلاكهم الذي قدَّره الله لهم؛ جزاء شركهم.
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ( 13 ) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ( 14 )
وحملنا نوحًا ومَن معه على سفينة ذات ألواح ومسامير شُدَّت بها, تجري بمرأى منا وحفظ, وأغرقنا المكذبين؛ جزاء لهم على كفرهم وانتصارًا لنوح عليه السلام. وفي هذا دليل على إثبات صفة العينين لله سبحانه وتعالى, كما يليق به.
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 15 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 16 )
ولقد أبقينا قصة نوح مع قومه عبرة ودليلا على قدرتنا لمن بعد نوح ؛ ليعتبروا ويتعظوا بما حلَّ بهذه الأمة التي كفرت بربها, فهل من متعظ يتعظ؟ فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي وكذب رسلي, ولم يتعظ بما جاءت به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 17 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 18 )
كذبت عاد هودًا فعاقبناهم, فكيف كان عذابي لهم على كفرهم, ونذري على تكذيب رسولهم, وعدم الإيمان به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ( 19 ) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ( 20 )
إنَّا أرسلنا عليهم ريحًا شديدة البرد, في يوم شؤم مستمر عليهم بالعذاب والهلاك, تقتلع الناس من مواضعهم على الأرض فترمي بهم على رؤوسهم, فتدق أعناقهم, ويفصل رؤوسهم عن أجسادهم, فتتركهم كالنخل المنقلع من أصله.
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 21 )
فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي, وكذَّب رسلي ولم يؤمن بهم؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 22 )
ولقد سَهَّلنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم وللتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟ وفي هذا حثٌّ على الاستكثار من تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( 23 ) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 24 )
كذبت ثمود - وهم قوم صالح- بالآيات التي أُنذرِوا بها, فقالوا: أبشرًا منا واحدًا نتبعه نحن الجماعة الكثيرة وهو واحد؟ إنا إذا لفي بُعْدٍ عن الصواب وجنون.
أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ( 25 ) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ( 26 )
أأُنزل عليه الوحي وخُصَّ بالنبوة مِن بيننا, وهو واحد منا؟ بل هو كثير الكذب والتجبر. سَيَرون عند نزول العذاب بهم في الدنيا ويوم القيامة مَنِ الكذاب المتجبر؟
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 )
إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الصخرة؛ اختبارًا لهم, فانتظر- يا صالح- ما يحلُّ بهم من العذاب, واصطبر على دعوتك إياهم وأذاهم لك.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ( 28 )
وأخبرهم أن الماء مقسوم بين قومك والناقة: للناقة يوم, ولهم يوم, كل شِرْب يحضره مَن كانت قسمته, ويُحظر على من ليس بقسمة له.
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ( 29 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 30 )
فنادوا صاحبهم بالحض على عقرها, فتناول الناقة بيده, فنحرها فعاقَبْتُهم, فكيف كان عقابي لهم على كفرهم, وإنذاري لمن عصى رسلي؟
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( 31 )
إنا أرسلنا عليهم جبريل, فصاح بهم صيحة واحدة, فبادوا عن آخرهم, فكانوا كالزرع اليابس الذي يُجْعل حِظارًا على الإبل والمواشي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 32 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل مِن متعظ به؟
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( 33 )
كذَّبت قوم لوط بآيات الله التي أنذِروا بها.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ( 34 ) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ( 35 )
إنا أرسلنا عليهم حجارةً إلا آل لوط, نجَّيناهم من العذاب في آخر الليل, نعمة من عندنا عليهم, كما أثبنا لوطًا وآله وأنعمنا عليهم, فأنجيناهم مِن عذابنا, نُثيب مَن آمن بنا وشكرنا.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 )
ولقد خوَّف لوط قومه بأس الله وعذابه, فلم يسمعوا له, بل شكُّوا في ذلك, وكذَّبوه.
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 37 )
ولقد طلبوا منه أن يفعلوا الفاحشة بضيوفه من الملائكة, فطمسنا أعينهم فلم يُبصروا شيئًا, فقيل لهم: ذوقوا عذابي وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ( 38 ) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 39 )
ولقد جاءهم وقت الصباح عذاب دائم استقر فيهم حتى يُفضي بهم إلى عذاب الآخرة, وذلك العذاب هو رجمهم بالحجارة وقلب قُراهم وجعل أعلاها أسفلها, فقيل لهم: ذوقوا عذابي الذي أنزلته بكم ؛ لكفركم وتكذيبكم, وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 40 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر, فهل مِن متعظ به؟
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 )
ولقد جاء أتباعَ فرعون وقومَه إنذارُنا بالعقوبة لهم على كفرهم.
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ( 42 )
كذَّبوا بأدلتنا كلها الدالة على وحدانيتنا ونبوة أنبيائنا, فعاقبناهم بالعذاب عقوبة عزيز لا يغالَب, مقتدر على ما يشاء.
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 )
أكفاركم- يا معشر قريش- خير مِنَ الذين تقدَّم ذكرهم ممن هلكوا بسبب تكذيبهم, أم لكم براءة مِن عقاب الله في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة؟
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( 44 )
بل أيقول كفار « مكة » : نحن أولو حزم ورأي وأمرنا مجتمع, فنحن جماعة منتصرة لا يغلبنا من أرادنا بسوء؟
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 )
سيهزم جمع كفار « مكة » أمام المؤمنين, ويولُّون الأدبار, وقد حدث هذا يوم « بدر » .
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( 46 )
والساعة موعدهم الذي يُجازون فيه بما يستحقون, والساعة أعظم وأقسى مما لحقهم من العذاب يوم « بدر » .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 47 ) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ( 48 )
إن المجرمين في تيه عن الحق وعناء وعذاب. يوم يُجرُّون في النار على وجوههم, ويقال لهم: ذوقوا شدة عذاب جهنم.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 49 )
إنَّا كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه, وسبق علمنا به، وكتابتنا له في اللوح المحفوظ.
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 )
وما أمرنا للشيء إذا أردناه إلا أن نقول قولة واحدة وهي « كن » , فيكون كلمح البصر, لا يتأخر طرفة عين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 51 )
ولقد أهلكنا أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية, فهل من متعظ بما حلَّ بهم من النَّكال والعذاب؟
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 )
وكل شيء فعله أشباهكم الماضون من خير أو شرٍّ مكتوب في الكتب التي كتبتها الحفظة.
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ( 53 )
وكل صغير وكبير من أعمالهم مُسَطَّر في صحائفهم, وسيجازون به.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 )
إن المتقين في بساتين عظيمة, وأنهار واسعة يوم القيامة.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( 55 )
في مجلس حق, لا لغو فيه ولا تأثيم عند الله المَلِك العظيم, الخالق للأشياء كلها, المقتدر على كل شيء تبارك وتعالى.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الرحمن .. بن كثير
====
الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 )
الرحمن علَّم الإنسان القرآن؛ بتيسير تلاوته وحفظه وفهم معانيه.
خَلَقَ الإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 )
خلق الإنسان, علَّمه البيان عمَّا في نفسه تمييزًا له عن غيره.
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 )
الشمس والقمر يجريان متعاقبَين بحساب متقن, لا يختلف ولا يضطرب.
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 )
والنجم الذي في السماء وأشجار الأرض, تعرف ربها وتسجد له, وتنقاد لما سخرَّها له مِن مصالح عباده ومنافعهم.
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 )
والسماء رفعها فوق الأرض, ووضع في الأرض العدل الذي أمر به وشرعه لعباده.
أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 )
لئلا تعتدوا وتخونوا مَن وَزَنتم له, وأقيموا الوزن بالعدل, ولا تُنْقِصوا الميزان إذا وَزَنتم للناس.
وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ( 11 ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 )
والأرض وضعها ومهَّدها؛ ليستقر عليها الخلق. فيها فاكهة النخل ذات الأوعية التي يكون منها الثمر, وفيها الحب ذو القشر؛ رزقًا لكم ولأنعامكم, وفيها كل نبت طيب الرائحة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 )
فبأي نِعَم ربكما الدينية والدنيوية- يا معشر الجن والإنس- تكذِّبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة, فكلما مر بهذه الآية, قالوا: « ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب, فلك الحمد » , وهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه, أن يُقرَّ بها, ويشكر الله ويحمده عليها.
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( 15 )
خلق أبا الإنسان, وهو آدم من طين يابس كالفَخَّار, وخلق إبليس, وهو من الجن من لهب النار المختلط بعضه ببعض.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 )
فبأي نِعَم ربكما- يا معشر الإنس والجن- تكذِّبان؟
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 )
هو سبحانه وتعالى ربُّ مشرقَي الشمس في الشتاء والصيف، ورب مغربَيها فيهما, فالجميع تحت تدبيره وربوبيته.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ( 20 )
خلط الله ماء البحرين - العذب والملح- يلتقيان. بينهما حاجز, فلا يطغى أحدهما على الآخر, ويذهب بخصائصه, بل يبقى العذب عذبًا, والملح ملحًا مع تلاقيهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 )
يخرج من البحرين بقدرة الله اللؤلؤ والمَرْجان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( 24 )
وله سبحانه وتعالى السفن الضخمة التي تجري في البحر بمنافع الناس, رافعة قلاعها وأشرعتها كالجبال.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 27 )
كل مَن على وجه الأرض مِن الخلق هالك, ويبقى وجه ربك ذو العظمة والكبرياء والفضل والجود. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 )
يسأله مَن في السموات والأرض حاجاتهم, فلا غنى لأحد منهم عنه سبحانه. كل يوم هو في شأن : يُعِزُّ ويُذِلُّ, ويعطي ويَمْنع.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 )
سنفرُغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكما التي عملتموهما في الدنيا, أيها الثقلان- الإنس والجن- , فنعاقب أهل المعاصي, ونُثيب أهل الطاعة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 )
فبأيِّ نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 )
يا معشر الجن والإنس, إن قَدَرْتم على النفاذ من أمر الله وحكمه هاربين من أطراف السموات والأرض فافعلوا, ولستم قادرين على ذلك إلا بقوة وحجة, وأمر من الله تعالى ( وأنَّى لكم ذلك وأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا؟ ) . فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 )
يُرْسَل عليكم لهب من نار, ونحاس مذاب يُصَبُّ على رؤوسكم, فلا ينصر بعضكم بعضًا يا معشر الجن والإنس. فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 )
فإذا انشقت السماء وتفطرت يوم القيامة, فكانت حمراء كلون الورد, وكالزيت المغلي والرصاص المذاب؛ من شدة الأمر وهول يوم القيامة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ( 39 )
ففي ذلك اليوم لا تسأل الملائكة المجرمين من الإنس والجن عن ذنوبهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ( 41 )
تَعرِف الملائكة المجرمين بعلاماتهم, فتأخذهم بمقدمة رؤوسهم وبأقدامهم, فترميهم في النار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( 44 )
يقال لهؤلاء المجرمين - توبيخًا وتحقيرًا لهم- : هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون في الدنيا: تارة يُعذَّبون في الجحيم, وتارة يُسقون من الحميم, وهو شراب بلغ منتهى الحرارة, يقطِّع الأمعاء والأحشاء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 )
ولمن اتقى الله من عباده من الإنس والجن, فخاف مقامه بين يديه, فأطاعه, وترك معاصيه, جنتان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 )
الجنتان ذواتا أغصان نضرة من الفواكه والثمار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 )
في هاتين الجنتين عينان من الماء تجريان خلالهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 )
في هاتين الجنتين من كل نوع من الفواكه صنفان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 )
وللذين خافوا مقام ربهم جنتان يتنعمون فيهما, متكئين على فرش مبطَّنة من غليظ الديباج, وثمر الجنتين قريب إليهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 56 )
في هذه الفرش زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن, لا ينظرن إلى غيرهم متعلقات بهم, لم يطأهن إنس قبلهم ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 )
كأن هؤلاء الزوجاتِ من الحور الياقوتُ والمَرْجانُ في صفائهن وجمالهن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 )
هل جزاء مَن أحسن بعمله في الدنيا إلا الإحسان إليه بالجنة في الآخرة؟ فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 )
ومن دون الجنتين السابقتين جنتان أخريان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 )
هاتان الجنتان خضراوان, قد اشتدَّت خضرتهما حتى مالت إلى السواد. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 )
فيهما عينان فوَّارتان بالماء لا تنقطعان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 )
في هاتين الجنتين أنواع الفواكه ونخل ورمان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 )
في هذه الجنان الأربع زوجات طيبات الأخلاق حسان الوجوه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 )
حور مستورات مصونات في الخيام.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 74 )
لم يطأ هؤلاء الحور إنس قبل أزواجهن ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 )
متكئين على وسائد ذوات أغطية خضر وفرش حسان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 78 )
تكاثرت بركة اسم ربك وكثر خيره, ذي الجلال الباهر, والمجد الكامل, والإكرام لأوليائه.
====
الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 )
الرحمن علَّم الإنسان القرآن؛ بتيسير تلاوته وحفظه وفهم معانيه.
خَلَقَ الإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 )
خلق الإنسان, علَّمه البيان عمَّا في نفسه تمييزًا له عن غيره.
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 )
الشمس والقمر يجريان متعاقبَين بحساب متقن, لا يختلف ولا يضطرب.
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 )
والنجم الذي في السماء وأشجار الأرض, تعرف ربها وتسجد له, وتنقاد لما سخرَّها له مِن مصالح عباده ومنافعهم.
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 )
والسماء رفعها فوق الأرض, ووضع في الأرض العدل الذي أمر به وشرعه لعباده.
أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 )
لئلا تعتدوا وتخونوا مَن وَزَنتم له, وأقيموا الوزن بالعدل, ولا تُنْقِصوا الميزان إذا وَزَنتم للناس.
وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ( 11 ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 )
والأرض وضعها ومهَّدها؛ ليستقر عليها الخلق. فيها فاكهة النخل ذات الأوعية التي يكون منها الثمر, وفيها الحب ذو القشر؛ رزقًا لكم ولأنعامكم, وفيها كل نبت طيب الرائحة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 )
فبأي نِعَم ربكما الدينية والدنيوية- يا معشر الجن والإنس- تكذِّبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة, فكلما مر بهذه الآية, قالوا: « ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب, فلك الحمد » , وهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه, أن يُقرَّ بها, ويشكر الله ويحمده عليها.
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( 15 )
خلق أبا الإنسان, وهو آدم من طين يابس كالفَخَّار, وخلق إبليس, وهو من الجن من لهب النار المختلط بعضه ببعض.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 )
فبأي نِعَم ربكما- يا معشر الإنس والجن- تكذِّبان؟
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 )
هو سبحانه وتعالى ربُّ مشرقَي الشمس في الشتاء والصيف، ورب مغربَيها فيهما, فالجميع تحت تدبيره وربوبيته.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ( 20 )
خلط الله ماء البحرين - العذب والملح- يلتقيان. بينهما حاجز, فلا يطغى أحدهما على الآخر, ويذهب بخصائصه, بل يبقى العذب عذبًا, والملح ملحًا مع تلاقيهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 )
يخرج من البحرين بقدرة الله اللؤلؤ والمَرْجان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( 24 )
وله سبحانه وتعالى السفن الضخمة التي تجري في البحر بمنافع الناس, رافعة قلاعها وأشرعتها كالجبال.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 27 )
كل مَن على وجه الأرض مِن الخلق هالك, ويبقى وجه ربك ذو العظمة والكبرياء والفضل والجود. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 )
يسأله مَن في السموات والأرض حاجاتهم, فلا غنى لأحد منهم عنه سبحانه. كل يوم هو في شأن : يُعِزُّ ويُذِلُّ, ويعطي ويَمْنع.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 )
سنفرُغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكما التي عملتموهما في الدنيا, أيها الثقلان- الإنس والجن- , فنعاقب أهل المعاصي, ونُثيب أهل الطاعة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 )
فبأيِّ نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 )
يا معشر الجن والإنس, إن قَدَرْتم على النفاذ من أمر الله وحكمه هاربين من أطراف السموات والأرض فافعلوا, ولستم قادرين على ذلك إلا بقوة وحجة, وأمر من الله تعالى ( وأنَّى لكم ذلك وأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا؟ ) . فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 )
يُرْسَل عليكم لهب من نار, ونحاس مذاب يُصَبُّ على رؤوسكم, فلا ينصر بعضكم بعضًا يا معشر الجن والإنس. فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 )
فإذا انشقت السماء وتفطرت يوم القيامة, فكانت حمراء كلون الورد, وكالزيت المغلي والرصاص المذاب؛ من شدة الأمر وهول يوم القيامة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ( 39 )
ففي ذلك اليوم لا تسأل الملائكة المجرمين من الإنس والجن عن ذنوبهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ( 41 )
تَعرِف الملائكة المجرمين بعلاماتهم, فتأخذهم بمقدمة رؤوسهم وبأقدامهم, فترميهم في النار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( 44 )
يقال لهؤلاء المجرمين - توبيخًا وتحقيرًا لهم- : هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون في الدنيا: تارة يُعذَّبون في الجحيم, وتارة يُسقون من الحميم, وهو شراب بلغ منتهى الحرارة, يقطِّع الأمعاء والأحشاء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 )
ولمن اتقى الله من عباده من الإنس والجن, فخاف مقامه بين يديه, فأطاعه, وترك معاصيه, جنتان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 )
الجنتان ذواتا أغصان نضرة من الفواكه والثمار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 )
في هاتين الجنتين عينان من الماء تجريان خلالهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 )
في هاتين الجنتين من كل نوع من الفواكه صنفان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 )
وللذين خافوا مقام ربهم جنتان يتنعمون فيهما, متكئين على فرش مبطَّنة من غليظ الديباج, وثمر الجنتين قريب إليهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 56 )
في هذه الفرش زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن, لا ينظرن إلى غيرهم متعلقات بهم, لم يطأهن إنس قبلهم ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 )
كأن هؤلاء الزوجاتِ من الحور الياقوتُ والمَرْجانُ في صفائهن وجمالهن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 )
هل جزاء مَن أحسن بعمله في الدنيا إلا الإحسان إليه بالجنة في الآخرة؟ فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 )
ومن دون الجنتين السابقتين جنتان أخريان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 )
هاتان الجنتان خضراوان, قد اشتدَّت خضرتهما حتى مالت إلى السواد. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 )
فيهما عينان فوَّارتان بالماء لا تنقطعان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 )
في هاتين الجنتين أنواع الفواكه ونخل ورمان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 )
في هذه الجنان الأربع زوجات طيبات الأخلاق حسان الوجوه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 )
حور مستورات مصونات في الخيام.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 74 )
لم يطأ هؤلاء الحور إنس قبل أزواجهن ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 )
متكئين على وسائد ذوات أغطية خضر وفرش حسان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 78 )
تكاثرت بركة اسم ربك وكثر خيره, ذي الجلال الباهر, والمجد الكامل, والإكرام لأوليائه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الواقعة .. بن كثير
====
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 )
إذا قامت القيامة, ليس لقيامها أحد يكذِّب به, هي خافضة لأعداء الله في النار, رافعة لأوليائه في الجنة.
إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ( 6 )
إذا حُرِّكت الأرض تحريكًا شديدًا, وفُتِّتت الجبال تفتيتًا دقيقًا, فصارت غبارًا متطايرًا في الجو قد ذَرَتْه الريح.
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( 7 )
وكنتم- أيها الخلق- أصنافًا ثلاثة:
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 9 )
فأصحاب اليمين, أهل المنزلة العالية, ما أعظم مكانتهم !! وأصحاب الشمال, أهل المنزلة الدنيئة, ما أسوأ حالهم !!
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 12 )
والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة, أولئك هم المقربون عند الله, يُدْخلهم ربهم في جنات النعيم.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 14 ) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ( 15 ) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ( 16 )
يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة, وغيرهم من الأمم الأخرى, وقليل من آخر هذه الأمة على سرر منسوجة بالذهب, متكئين عليها يقابل بعضهم بعضًا.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ( 17 ) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 18 ) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ ( 19 )
يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون, بأقداح وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة, لا تُصَدَّعُ منها رؤوسهم, ولا تذهب بعقولهم.
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( 20 ) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 21 ) وَحُورٌ عِينٌ ( 22 ) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( 23 ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 )
ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه, وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة, كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ( 25 ) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا ( 26 )
لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه, إلا قولا سالمًا من هذه العيوب, وتسليم بعضهم على بعض.
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ( 27 ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ( 28 ) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( 29 ) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( 30 ) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ( 31 ) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( 32 ) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( 33 ) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ( 34 )
وأصحاب اليمين, ما أعظم مكانتهم وجزاءهم!! هم في سِدْر لا شوك فيه, وموز متراكب بعضه على بعض, وظلٍّ دائم لا يزول, وماء جار لا ينقطع, وفاكهة كثيرة لا تنفَد ولا تنقطع عنهم, ولا يمنعهم منها مانع, وفرشٍ مرفوعة على السرر.
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ( 35 ) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ( 36 ) عُرُبًا أَتْرَابًا ( 37 ) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 38 )
إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا, نشأة كاملة لا تقبل الفناء, فجعلناهن أبكارًا, متحببات إلى أزواجهن, في سنٍّ واحدة, خلقناهن لأصحاب اليمين.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 40 )
وهم جماعة كثيرة من الأولين, وجماعة كثيرة من الآخرين.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ( 41 ) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ( 42 ) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ( 43 ) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ( 44 )
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم !! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم, وماء حار يغلي, وظلٍّ من دخان شديد السواد, لا بارد المنزل, ولا كريم المنظر.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 )
إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام, معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ( 46 )
وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته, ولا ينوون التوبة من ذلك.
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 47 )
وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.
أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 48 )
أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا, قد تفرَّق في الأرض؟
قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ( 49 ) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 50 )
قل لهم - أيها الرسول- : إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد, وهو يوم القيامة.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ( 51 ) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ( 52 ) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 53 ) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ( 54 ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( 55 )
ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده, لآكلون من شجر من زقوم, وهو من أقبح الشجر, فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع, فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ, فشاربون منه بكثرة, كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ( 56 )
هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أُعدَّ لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكُّم بهم.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ( 57 )
نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئًا, فهلا تصدِّقون بالبعث.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ( 58 ) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( 59 )
أفرأيتم النُّطَف التي تقذفونها في أرحام نسائكم, هل أنتم تخلقون ذلك بشرًا أم نحن الخالقون؟
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 60 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ( 61 )
نحن قَدَّرنا بينكم الموت, وما نحن بعاجزين عن أن نغيِّر خلقكم يوم القيامة, وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ ( 62 )
ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئًا, فهلا تذكَّرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ( 63 ) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ( 64 ) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( 65 ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 67 )
أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه هل أنتم تُنبتونه في الأرض؟ بل نحن نُقِرُّ قراره وننبته في الأرض. لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيمًا, لا يُنتفع به في مطعم, فأصبحتم تتعجبون مما نزل بزرعكم, وتقولون: إنا لخاسرون معذَّبون, بل نحن محرومون من الرزق.
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ( 68 ) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ( 69 )
أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به, أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض, أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ( 70 )
لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة, لا يُنتفع به في شرب ولا زرع, فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( 71 ) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ( 72 )
أفرأيتم النار التي توقدون, أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ( 73 )
نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 74 )
فنزِّه - أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات, كثير الإحسان والخيرات.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 )
أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء, وإنه لَقَسم لو تعلمون قَدَره عظيم.
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 )
إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع, كثير الخير, غزير العلم, في كتاب مَصُون مستور عن أعين الخلق, وهو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. لا يَمَسُّ القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب, ولا يَمَسُّه أيضًا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )
وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين, فهو الحق الذي لا مرية فيه.
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ( 81 )
أفبهذا القرآن أنتم - أيها المشركون- مكذِّبون؟
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 )
وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذِّبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ( 85 )
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع, وأنتم حضور تنظرون إليه, أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك, ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا, ولكنكم لا ترونهم.
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 87 )
وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم أن تعيدوا الروح إلى الجسد, إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ( 89 )
فأما إن كان الميت من السابقين المقربين, فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه, وله جنة النعيم في الآخرة.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 90 ) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 91 )
وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين, فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 )
وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث, الضالين عن الهدى, فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة, والنار يحرق بها, ويقاسي عذابها الشديد.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )
إن هذا الذي قصصناه عليك - أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه, فسبِّح باسم ربك العظيم, ونزِّهه عما يقول الظالمون والجاحدون, تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
====
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 )
إذا قامت القيامة, ليس لقيامها أحد يكذِّب به, هي خافضة لأعداء الله في النار, رافعة لأوليائه في الجنة.
إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ( 6 )
إذا حُرِّكت الأرض تحريكًا شديدًا, وفُتِّتت الجبال تفتيتًا دقيقًا, فصارت غبارًا متطايرًا في الجو قد ذَرَتْه الريح.
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( 7 )
وكنتم- أيها الخلق- أصنافًا ثلاثة:
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 9 )
فأصحاب اليمين, أهل المنزلة العالية, ما أعظم مكانتهم !! وأصحاب الشمال, أهل المنزلة الدنيئة, ما أسوأ حالهم !!
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 12 )
والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة, أولئك هم المقربون عند الله, يُدْخلهم ربهم في جنات النعيم.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 14 ) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ( 15 ) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ( 16 )
يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة, وغيرهم من الأمم الأخرى, وقليل من آخر هذه الأمة على سرر منسوجة بالذهب, متكئين عليها يقابل بعضهم بعضًا.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ( 17 ) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 18 ) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ ( 19 )
يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون, بأقداح وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة, لا تُصَدَّعُ منها رؤوسهم, ولا تذهب بعقولهم.
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( 20 ) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 21 ) وَحُورٌ عِينٌ ( 22 ) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( 23 ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 )
ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه, وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة, كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ( 25 ) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا ( 26 )
لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه, إلا قولا سالمًا من هذه العيوب, وتسليم بعضهم على بعض.
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ( 27 ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ( 28 ) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( 29 ) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( 30 ) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ( 31 ) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( 32 ) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( 33 ) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ( 34 )
وأصحاب اليمين, ما أعظم مكانتهم وجزاءهم!! هم في سِدْر لا شوك فيه, وموز متراكب بعضه على بعض, وظلٍّ دائم لا يزول, وماء جار لا ينقطع, وفاكهة كثيرة لا تنفَد ولا تنقطع عنهم, ولا يمنعهم منها مانع, وفرشٍ مرفوعة على السرر.
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ( 35 ) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ( 36 ) عُرُبًا أَتْرَابًا ( 37 ) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 38 )
إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا, نشأة كاملة لا تقبل الفناء, فجعلناهن أبكارًا, متحببات إلى أزواجهن, في سنٍّ واحدة, خلقناهن لأصحاب اليمين.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 40 )
وهم جماعة كثيرة من الأولين, وجماعة كثيرة من الآخرين.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ( 41 ) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ( 42 ) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ( 43 ) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ( 44 )
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم !! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم, وماء حار يغلي, وظلٍّ من دخان شديد السواد, لا بارد المنزل, ولا كريم المنظر.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 )
إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام, معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ( 46 )
وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته, ولا ينوون التوبة من ذلك.
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 47 )
وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.
أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 48 )
أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا, قد تفرَّق في الأرض؟
قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ( 49 ) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 50 )
قل لهم - أيها الرسول- : إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد, وهو يوم القيامة.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ( 51 ) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ( 52 ) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 53 ) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ( 54 ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( 55 )
ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده, لآكلون من شجر من زقوم, وهو من أقبح الشجر, فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع, فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ, فشاربون منه بكثرة, كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ( 56 )
هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أُعدَّ لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكُّم بهم.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ( 57 )
نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئًا, فهلا تصدِّقون بالبعث.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ( 58 ) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( 59 )
أفرأيتم النُّطَف التي تقذفونها في أرحام نسائكم, هل أنتم تخلقون ذلك بشرًا أم نحن الخالقون؟
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 60 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ( 61 )
نحن قَدَّرنا بينكم الموت, وما نحن بعاجزين عن أن نغيِّر خلقكم يوم القيامة, وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ ( 62 )
ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئًا, فهلا تذكَّرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ( 63 ) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ( 64 ) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( 65 ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 67 )
أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه هل أنتم تُنبتونه في الأرض؟ بل نحن نُقِرُّ قراره وننبته في الأرض. لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيمًا, لا يُنتفع به في مطعم, فأصبحتم تتعجبون مما نزل بزرعكم, وتقولون: إنا لخاسرون معذَّبون, بل نحن محرومون من الرزق.
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ( 68 ) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ( 69 )
أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به, أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض, أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ( 70 )
لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة, لا يُنتفع به في شرب ولا زرع, فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( 71 ) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ( 72 )
أفرأيتم النار التي توقدون, أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ( 73 )
نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 74 )
فنزِّه - أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات, كثير الإحسان والخيرات.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 )
أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء, وإنه لَقَسم لو تعلمون قَدَره عظيم.
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 )
إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع, كثير الخير, غزير العلم, في كتاب مَصُون مستور عن أعين الخلق, وهو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. لا يَمَسُّ القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب, ولا يَمَسُّه أيضًا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )
وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين, فهو الحق الذي لا مرية فيه.
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ( 81 )
أفبهذا القرآن أنتم - أيها المشركون- مكذِّبون؟
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 )
وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذِّبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ( 85 )
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع, وأنتم حضور تنظرون إليه, أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك, ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا, ولكنكم لا ترونهم.
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 87 )
وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم أن تعيدوا الروح إلى الجسد, إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ( 89 )
فأما إن كان الميت من السابقين المقربين, فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه, وله جنة النعيم في الآخرة.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 90 ) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 91 )
وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين, فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 )
وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث, الضالين عن الهدى, فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة, والنار يحرق بها, ويقاسي عذابها الشديد.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )
إن هذا الذي قصصناه عليك - أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه, فسبِّح باسم ربك العظيم, ونزِّهه عما يقول الظالمون والجاحدون, تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الحديد.. بن كثير
====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن السوء كلُّ ما في السموات والأرض من جميع مخلوفاته, وهو العزيز على خلقه, الحكيم في تدبير أمورهم.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 )
له ملك السموات والأرض وما فيهما, فهو المالك المتصرف في خلقه, يحيي ويميت, وهو على كل شيء قدير, لا يتعذَّر عليه شيء أراده, فما شاءه كان, وما لم يشأ لم يكن.
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 )
هو الأول الذي ليس قبله شيء, والآخر الذي ليس بعده شيء, والظاهر الذي ليس فوقه شيء, والباطن الذي ليس دونه شيء, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وهو بكل شيء عليم.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 )
هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى - أي علا وارتفع- على عرشه فوق جميع خلقه استواء يليق بجلاله, يعلم ما يدخل في الأرض من حب ومطر وغير ذلك, وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار, وما ينزل من السماء من مطر وغيره, وما يعرج فيها من الملائكة والأعمال, وهو سبحانه معكم بعلمه أينما كنتم, والله بصير بأعمالكم التي تعملونها, وسيجازيكم عليها.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 5 )
له ملك السموات والأرض, وإلى الله مصير أمور الخلائق في الآخرة, وسيجازيهم على أعمالهم.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 )
يُدْخِل ما نقص من ساعات الليل في النهار فيزيد النهار, ويُدْخِل ما نقص من ساعات النهار في الليل فيزيد الليل, وهو سبحانه عليم بما في صدور خلقه.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأنفقوا مما رزقكم الله من المال واستخلفكم فيه, فالذين آمنوا منكم أيها الناس, وأنفقوا من مالهم, لهم ثواب عظيم.
وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 )
وأيُّ عذر لكم في أن لا تصدقوا بوحدانية الله وتعملوا بشرعه, والرسول يدعوكم إلى ذلك, وقد أخذ الله ميثاقكم على ذلك, إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم؟
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 9 )
هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات مفصلات واضحات من القرآن؛ ليخرجكم بذلك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان, إن الله بكم في إخراجكم من الظلمات إلى النور لَيَرْحمكم رحمة واسعة في عاجلكم وآجلكم، فيجازيكم أحسن الجزاء.
وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 )
وأيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ ولله ميراث السموات والأرض يرث كلَّ ما فيهما, ولا يبقى أحد مالكًا لشيء فيهما. لا يستوي في الأجر والمثوبة منكم مَن أنفق من قبل فتح « مكة » وقاتل الكفار, أولئك أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفار, وكلا من الفريقين وعد الله الجنة, والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازيكم عليها.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 11 )
من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسبًا من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى, فيضاعف له ربه الأجر والثواب, وله جزاء كريم, وهو الجنة؟
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 )
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم على الصراط بين أيديهم وعن أيمانهم, بقدر أعمالهم, ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات واسعة تجري من تحت أشجارها الأنهار, لا تخرجون منها أبدًا, ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لكم في الآخرة.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 )
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا, وهم على الصراط: انتظرونا نستضئْ من نوركم, فتقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم فاطلبوا نورًا ( سخرية منهم ) , فَفُصِل بينهم بسور له باب, باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة, وظاهره مما يلي المنافقين من جهته العذاب.
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 14 )
ينادي المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم في الدنيا, نؤدي شعائر الدين مثلكم؟ قال المؤمنون لهم: بلى قد كنتم معنا في الظاهر, ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق والمعاصي, وتربصتم بالنبي الموت وبالمؤمنين الدوائر, وشككتم في البعث بعد الموت, وخدعتكم أمانيكم الباطلة, وبقيتم على ذلك حتى جاءكم الموت وخدعكم بالله الشيطان.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 )
فاليوم لا يُقبل من أحد منكم أيها المنافقون عوض؛ ليفتدي به من عذاب الله, ولا من الذين كفروا بالله ورسوله, مصيركم جميعًا النار, هي أولى بكم من كل منزل, وبئس المصير هي.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 16 )
ألم يحن الوقت للذين صدَّقوا الله ورسوله واتَّبَعوا هديه, أن تلين قلوبهم عند ذكر الله وسماع القرآن, ولا يكونوا في قسوة القلوب كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم- من اليهود والنصارى- الذين طال عليهم الزمان فبدَّلوا كلام الله, فقست قلوبهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله؟ وفي الآية الحث على الرقة والخشوع لله سبحانه عند سماع ما أنزله من الكتاب والحكمة, والحذر من التشبه باليهود والنصارى, في قسوة قلوبهم, وخروجهم عن طاعة الله.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 17 )
اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يحيي الأرض بالمطر بعد موتها, فتُخرِج النبات, فكذلك الله قادر على إحياء الموتى يوم القيامة, وهو القادر على تليين القلوب بعد قسوتها. قد بينَّا لكم دلائل قدرتنا؛ لعلكم تعقلونها فتتعظوا.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 18 )
إن المتصدتقين من أموالهم والمتصدقات, وأنفقوا في سبيل الله نفقات طيبة بها نفوسهم؛ ابتغاء وجه الله تعالى, يضاعف لهم ثواب ذلك, ولهم فوق ذلك ثواب جزيل, وهو الجنة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 19 )
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرِّقوا بين أحد منهم, أولئك هم الصديقون الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل، اعتقادًا وقولا وعملا، والشهداء عند ربهم لهم ثوابهم الجزيل عند الله, ونورهم العظيم يوم القيامة, والذين كفروا وكذَّبوا بأدلتنا وحججنا أولئك أصحاب الجحيم, فلا أجر لهم, ولا نور.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 )
اعلموا - أيها الناس- أنما الحياة الدنيا لعب ولهو, تلعب بها الأبدان وتلهو بها القلوب, وزينة تتزينون بها, وتفاخر بينكم بمتاعها, وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد, مثلها كمثل مطر أعجب الزُّرَّاع نباته, ثم يهيج هذا النبات فييبس, فتراه مصفرًا بعد خضرته, ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا, وفي الآخرة عذاب شديد للكفار ومغفرة من الله ورضوان لأهل الإيمان. وما الحياة الدنيا لمن عمل لها ناسيًا آخرته إلا متاع الغرور.
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 )
سابقوا - أيها الناس- في السعي إلى أسباب المغفرة من التوبة النصوح والابتعاد عن المعاصي؛ لِتُجْزَوْا مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض, وهي مُعَدَّة للذين وحَّدوا الله واتَّبَعوا رسله, ذلك فضل الله الذي يؤتيه مَن يشاء مِن خلقه, فالجنة لا تُنال إلا برحمة الله وفضله, والعمل الصالح. والله ذو الفضل العظيم على عباده المؤمنين.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 22 )
ما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم من الأمراض والجوع والأسقام إلا هو مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن تُخْلَق الخليقة. إن ذلك على الله تعالى يسير.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 )
لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا, ولا تفرحوا بما آتاكم فرحَ بطر وأشر. والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور به على غيره. هؤلاء المتكبرون هم الذين يبخلون بمالهم, ولا ينفقونه في سبيل الله, ويأمرون الناس بالبخل بتحسينه لهم. ومن يتولَّ عن طاعة الله لا يضر إلا نفسه, ولن يضر الله شيئًا, فإن الله هو الغني عن خلقه, الحميد الذي له كل وصف حسن كامل, وفعل جميل يستحق أن يحمد عليه.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 )
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل, وأنزلنا لهم الحديد, فيه قوة شديدة, ومنافع للناس متعددة, وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب. إن الله قوي لا يُقْهَر, عزيز لا يغالَب.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 26 )
ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم إلى قومهما, وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب المنزلة, فمِن ذريتهما مهتدٍ إلى الحق, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله.
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 )
ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات, وقفَّينا بعيسى ابن مريم, وآتيناه الإنجيل, وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه لينًا وشفقة, فكانوا متوادِّين فيما بينهم, وابتدعوا رهبانية بالغلوِّ في العبادة ما فرضناها عليهم, بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم, قَصْدُهم بذلك رضا الله, فما قاموا بها حق القيام، فآتينا الذين آمنوا منهم بالله ورسله أجرهم حسب إيمانهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله مكذبون بنيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 28 )
يا أيها الذين آمنوا, امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه وآمنوا برسوله, يؤتكم ضعفين من رحمته, ويجعل لكم نورًا تهتدون به, ويغفر لكم ذنوبكم, والله غفور لعباده, رحيم بهم.
لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 29 )
أعطاكم الله تعالى ذلك كله؛ ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يقدرون على شيء مِن فضل الله يكسبونه لأنفسهم أو يمنحونه لغيرهم, وأن الفضل كله بيد الله وحده يؤتيه مَن يشاء من عباده, والله ذو الفضل العظيم على خلقه.
====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن السوء كلُّ ما في السموات والأرض من جميع مخلوفاته, وهو العزيز على خلقه, الحكيم في تدبير أمورهم.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 )
له ملك السموات والأرض وما فيهما, فهو المالك المتصرف في خلقه, يحيي ويميت, وهو على كل شيء قدير, لا يتعذَّر عليه شيء أراده, فما شاءه كان, وما لم يشأ لم يكن.
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 )
هو الأول الذي ليس قبله شيء, والآخر الذي ليس بعده شيء, والظاهر الذي ليس فوقه شيء, والباطن الذي ليس دونه شيء, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وهو بكل شيء عليم.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 )
هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى - أي علا وارتفع- على عرشه فوق جميع خلقه استواء يليق بجلاله, يعلم ما يدخل في الأرض من حب ومطر وغير ذلك, وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار, وما ينزل من السماء من مطر وغيره, وما يعرج فيها من الملائكة والأعمال, وهو سبحانه معكم بعلمه أينما كنتم, والله بصير بأعمالكم التي تعملونها, وسيجازيكم عليها.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 5 )
له ملك السموات والأرض, وإلى الله مصير أمور الخلائق في الآخرة, وسيجازيهم على أعمالهم.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 )
يُدْخِل ما نقص من ساعات الليل في النهار فيزيد النهار, ويُدْخِل ما نقص من ساعات النهار في الليل فيزيد الليل, وهو سبحانه عليم بما في صدور خلقه.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأنفقوا مما رزقكم الله من المال واستخلفكم فيه, فالذين آمنوا منكم أيها الناس, وأنفقوا من مالهم, لهم ثواب عظيم.
وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 )
وأيُّ عذر لكم في أن لا تصدقوا بوحدانية الله وتعملوا بشرعه, والرسول يدعوكم إلى ذلك, وقد أخذ الله ميثاقكم على ذلك, إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم؟
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 9 )
هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات مفصلات واضحات من القرآن؛ ليخرجكم بذلك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان, إن الله بكم في إخراجكم من الظلمات إلى النور لَيَرْحمكم رحمة واسعة في عاجلكم وآجلكم، فيجازيكم أحسن الجزاء.
وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 )
وأيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ ولله ميراث السموات والأرض يرث كلَّ ما فيهما, ولا يبقى أحد مالكًا لشيء فيهما. لا يستوي في الأجر والمثوبة منكم مَن أنفق من قبل فتح « مكة » وقاتل الكفار, أولئك أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفار, وكلا من الفريقين وعد الله الجنة, والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازيكم عليها.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 11 )
من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسبًا من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى, فيضاعف له ربه الأجر والثواب, وله جزاء كريم, وهو الجنة؟
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 )
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم على الصراط بين أيديهم وعن أيمانهم, بقدر أعمالهم, ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات واسعة تجري من تحت أشجارها الأنهار, لا تخرجون منها أبدًا, ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لكم في الآخرة.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 )
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا, وهم على الصراط: انتظرونا نستضئْ من نوركم, فتقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم فاطلبوا نورًا ( سخرية منهم ) , فَفُصِل بينهم بسور له باب, باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة, وظاهره مما يلي المنافقين من جهته العذاب.
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 14 )
ينادي المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم في الدنيا, نؤدي شعائر الدين مثلكم؟ قال المؤمنون لهم: بلى قد كنتم معنا في الظاهر, ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق والمعاصي, وتربصتم بالنبي الموت وبالمؤمنين الدوائر, وشككتم في البعث بعد الموت, وخدعتكم أمانيكم الباطلة, وبقيتم على ذلك حتى جاءكم الموت وخدعكم بالله الشيطان.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 )
فاليوم لا يُقبل من أحد منكم أيها المنافقون عوض؛ ليفتدي به من عذاب الله, ولا من الذين كفروا بالله ورسوله, مصيركم جميعًا النار, هي أولى بكم من كل منزل, وبئس المصير هي.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 16 )
ألم يحن الوقت للذين صدَّقوا الله ورسوله واتَّبَعوا هديه, أن تلين قلوبهم عند ذكر الله وسماع القرآن, ولا يكونوا في قسوة القلوب كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم- من اليهود والنصارى- الذين طال عليهم الزمان فبدَّلوا كلام الله, فقست قلوبهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله؟ وفي الآية الحث على الرقة والخشوع لله سبحانه عند سماع ما أنزله من الكتاب والحكمة, والحذر من التشبه باليهود والنصارى, في قسوة قلوبهم, وخروجهم عن طاعة الله.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 17 )
اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يحيي الأرض بالمطر بعد موتها, فتُخرِج النبات, فكذلك الله قادر على إحياء الموتى يوم القيامة, وهو القادر على تليين القلوب بعد قسوتها. قد بينَّا لكم دلائل قدرتنا؛ لعلكم تعقلونها فتتعظوا.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 18 )
إن المتصدتقين من أموالهم والمتصدقات, وأنفقوا في سبيل الله نفقات طيبة بها نفوسهم؛ ابتغاء وجه الله تعالى, يضاعف لهم ثواب ذلك, ولهم فوق ذلك ثواب جزيل, وهو الجنة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 19 )
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرِّقوا بين أحد منهم, أولئك هم الصديقون الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل، اعتقادًا وقولا وعملا، والشهداء عند ربهم لهم ثوابهم الجزيل عند الله, ونورهم العظيم يوم القيامة, والذين كفروا وكذَّبوا بأدلتنا وحججنا أولئك أصحاب الجحيم, فلا أجر لهم, ولا نور.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 )
اعلموا - أيها الناس- أنما الحياة الدنيا لعب ولهو, تلعب بها الأبدان وتلهو بها القلوب, وزينة تتزينون بها, وتفاخر بينكم بمتاعها, وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد, مثلها كمثل مطر أعجب الزُّرَّاع نباته, ثم يهيج هذا النبات فييبس, فتراه مصفرًا بعد خضرته, ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا, وفي الآخرة عذاب شديد للكفار ومغفرة من الله ورضوان لأهل الإيمان. وما الحياة الدنيا لمن عمل لها ناسيًا آخرته إلا متاع الغرور.
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 )
سابقوا - أيها الناس- في السعي إلى أسباب المغفرة من التوبة النصوح والابتعاد عن المعاصي؛ لِتُجْزَوْا مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض, وهي مُعَدَّة للذين وحَّدوا الله واتَّبَعوا رسله, ذلك فضل الله الذي يؤتيه مَن يشاء مِن خلقه, فالجنة لا تُنال إلا برحمة الله وفضله, والعمل الصالح. والله ذو الفضل العظيم على عباده المؤمنين.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 22 )
ما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم من الأمراض والجوع والأسقام إلا هو مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن تُخْلَق الخليقة. إن ذلك على الله تعالى يسير.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 )
لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا, ولا تفرحوا بما آتاكم فرحَ بطر وأشر. والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور به على غيره. هؤلاء المتكبرون هم الذين يبخلون بمالهم, ولا ينفقونه في سبيل الله, ويأمرون الناس بالبخل بتحسينه لهم. ومن يتولَّ عن طاعة الله لا يضر إلا نفسه, ولن يضر الله شيئًا, فإن الله هو الغني عن خلقه, الحميد الذي له كل وصف حسن كامل, وفعل جميل يستحق أن يحمد عليه.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 )
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل, وأنزلنا لهم الحديد, فيه قوة شديدة, ومنافع للناس متعددة, وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب. إن الله قوي لا يُقْهَر, عزيز لا يغالَب.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 26 )
ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم إلى قومهما, وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب المنزلة, فمِن ذريتهما مهتدٍ إلى الحق, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله.
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 )
ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات, وقفَّينا بعيسى ابن مريم, وآتيناه الإنجيل, وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه لينًا وشفقة, فكانوا متوادِّين فيما بينهم, وابتدعوا رهبانية بالغلوِّ في العبادة ما فرضناها عليهم, بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم, قَصْدُهم بذلك رضا الله, فما قاموا بها حق القيام، فآتينا الذين آمنوا منهم بالله ورسله أجرهم حسب إيمانهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله مكذبون بنيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 28 )
يا أيها الذين آمنوا, امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه وآمنوا برسوله, يؤتكم ضعفين من رحمته, ويجعل لكم نورًا تهتدون به, ويغفر لكم ذنوبكم, والله غفور لعباده, رحيم بهم.
لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 29 )
أعطاكم الله تعالى ذلك كله؛ ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يقدرون على شيء مِن فضل الله يكسبونه لأنفسهم أو يمنحونه لغيرهم, وأن الفضل كله بيد الله وحده يؤتيه مَن يشاء من عباده, والله ذو الفضل العظيم على خلقه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة المجادلة .. بن كثير
=====
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 )
قد سمع الله قول خولة بنت ثعلبة التي تراجعت في شأن زوجها أوس بن الصامت, وفيما صدر عنه في حقها من الظِّهار، وهو قوله لها: « أنت عليَّ كظهر أمي » ، أي: في حرمة النكاح، وهي تتضرع إلى الله تعالى; لتفريج كربتها، والله يسمع تخاطبكما ومراجعتكما. إن الله سميع لكل قول، بصير بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 )
الذين يُظاهرون منكم من نسائهم، فيقول الرجل منهم لزوجته: « أنت عليَّ كظهر أمي » - أي في حرمة النكاح- قد عصوا الله وخالفوا الشرع، ونساؤهم لَسْنَ في الحقيقة أمهاتهم, إنما هن زوجاتهم, ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. وإن هؤلاء المظاهِرين ليقولون قولا كاذبًا فظيعًا لا تُعرف صحته. وإن الله لعفو غفور عمَّن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح.
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 )
والذين يحرِّمون نساءهم على أنفسهم بالمظاهَرة منهن, ثم يرجعون عن قولهم ويعزمون على وطء نسائهم، فعلى الزوج المظاهِر- والحالة هذه- كفارة التحريم، وهي عتق رقبة مؤمنة عبد أو أمة قبل أن يطأ زوجته التي ظاهر منها، ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر مِن زوجته توعظون به، أيها المؤمنون; لكي لا تقعوا في الظهار وقول الزور، وتُكَفِّروا إن وقعتم فيه، ولكي لا تعودوا إليه، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو مجازيكم عليها.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 )
فمن لم يجد رقبة يُعتقها، فالواجب عليه صيام شهرين متتاليين من قبل أن يطأ زوجه, فمن لم يستطع صيام الشهرين لعذر شرعي, فعليه أن يطعم ستين مسكينًا ما يشبعهم، ذلك الذي بينَّاه لكم من أحكام الظهار; من أجل أن تصدِّقوا بالله وتتبعوا رسوله وتعملوا بما شرعه الله, وتتركوا ما كنتم عليه في جاهليتكم, وتلك الأحكام المذكورة هي أوامر الله وحدوده فلا تتجاوزوها, وللجاحدين بها عذاب موجع.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 )
إن الذين يشاقون الله ورسوله ويخالفون أمرهما خُذِلوا وأُهينوا، كما خُذِل الذين من قبلهم من الأمم الذين حادُّوا الله ورسله, وقد أنزلنا آيات واضحات الحُجَّة تدل على أن شرع الله وحدوده حق، ولجاحدي تلك الآيات عذاب مُذلٌّ في جهنم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 )
واذكر - أيها الرسول- يوم القيامة, يوم يحيي الله الموتى جميعًا, ويجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيخبرهم بما عملوا من خير وشر، أحصاه الله وكتبه في اللوح المحفوظ، وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، وهم قد نسوه. والله على كل شيء شهيد، لا يخفى عليه شيء.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 )
ألم تعلم أن الله تعالى يعلم كل شيء في السموات والأرض؟ ما يتناجى ثلاثة مِن خلقه بحديث سرٍّ إلا هو رابعهم بعلمه وإحاطته, ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أقلُّ من هذه الأعداد المذكورة ولا أكثرُ منها إلا هو معهم بعلمه في أيِّ مكان كانوا, لا يخفى عليه شيء من أمرهم, ثم يخبرهم تعالى يوم القيامة بما عملوا من خير وشر ويجازيهم عليه. إن الله بكل شيء عليم.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 )
ألم تر - أيها الرسول- إلى اليهود الذين نُهوا عن الحديث سرًّا بما يثير الشك في نفوس المؤمنين, ثم يرجعون إلى ما نُهوا عنه، ويتحدثون سرًّا بما هو إثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول؟ وإذا جاءك - أيها الرسول- هؤلاء اليهود لأمر من الأمور حيَّوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية، فقالوا: ( السام عليك ) أي: الموت لك, ويقولون فيما بينهم: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد إن كان رسولا حقًا, تكفيهم جهنم يدخلونها, ويقاسون حرها، فبئس المرجع هي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا تحدثتم فيما بينكم سرًا، فلا تتحدثوا بما فيه إثم من القول، أو بما هو عدوان على غيركم, أو مخالفة لأمر الرسول، وتحدثوا بما فيه خير وطاعة وإحسان، وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، فإليه وحده مرجعكم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم, وسيجازيكم بها.
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 10 )
إنما التحدث خفية بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان، فهو المزيِّن لها, والحامل عليها; ليُدْخِل الحزن على قلوب المؤمنين، وليس ذلك بمؤذي المؤمنين شيئًا إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته. وعلى الله وحده فليعتمد المؤمنون به.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا طُلب منكم أن يوسع بعضكم لبعض المجالس فأوسعوا، يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة، وإذا طلب منكم- أيها المؤمنون- أن تقوموا من مجالسكم لأمر من الأمور التي يكون فيها خير لكم فقوموا، يرفع الله مكانة المؤمنين المخلصين منكم، ويرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان, والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها, وهو مجازيكم عليها. وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم، ورفع درجاتهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا أردتم أن تُكلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا بينكم وبينه، فقدِّموا قبل ذلك صدقة لأهل الحاجة, ذلك خير لكم لما فيه من الثواب, وأزكى لقلوبكم من المآثم، فإن لم تجدوا ما تتصدقون به فلا حرج عليكم؛ فإن الله غفور لعباده المؤمنين, رحيم بهم.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 )
أخشيتم الفقر إذا قدَّمتم صدقة قبل مناجاتكم رسول الله؟ فإذْ لم تفعلوا ما أُمرتم به، وتاب الله عليكم, ورخَّص لكم في ألا تفعلوه، فاثبتوا وداوموا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كل ما أُمرتم به, والله سبحانه خبير بأعمالكم, ومجازيكم عليها.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 )
ألم تر إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أصدقاء ووالوهم؟ والمنافقون في الحقيقة ليسوا من المسلمين ولا من اليهود، ويحلفون كذبًا أنهم مسلمون، وأنك رسول الله, وهم يعلمون أنهم كاذبون فيما حلفوا عليه.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 )
أعدَّ الله لهؤلاء المنافقين عذابًا بالغ الشدة والألم, إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق والحلف على الكذب.
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 16 )
اتخذ المنافقون أيمانهم الكاذبة وقاية لهم من القتل بسبب كفرهم, ولمنع المسلمين عن قتالهم وأخذ أموالهم, فبسبب ذلك صدُّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الإسلام، فلهم عذاب مُذلٌّ في النار؛ لاستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله وصدِّهم عن سبيله.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 )
لن تدفع عن المنافقين أموالهم ولا أولادهم مِن عذاب الله شيئًا، أولئك أهل النار يدخلونها فيبقون فيها أبدا, لا يخرجون منها. وهذا الجزاء يعم كلَّ من صدَّ عن دين الله بقوله أو فعله.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 )
يوم القيامة يبعث الله المنافقين جميعًا من قبورهم أحياء, فيحلفون له أنهم كانوا مؤمنين، كما كانوا يحلفون لكم- أيها المؤمنون- في الدنيا, ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم في الدنيا عند المسلمين, ألا إنهم هم البالغون في الكذب حدًا لم يبلغه غيرهم.
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 )
غلب عليهم الشيطان، واستولى عليهم, حتى تركوا أوامر الله والعمل بطاعته, أولئك حزب الشيطان وأتباعه. ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( 20 )
إن الذين يخالفون أمر الله ورسوله، أولئك من جملة الأذلاء المغلوبين المهانين في الدنيا والآخرة.
كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 )
كتب الله في اللوح المحفوظ وحَكَم بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين. إن الله سبحانه قوي لا يعجزه شيء, عزيز على خلقه.
لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )
لا تجد - أيها الرسول- قومًا يصدِّقون بالله واليوم الآخر، ويعملون بما شرع الله لهم, يحبون ويوالون مَن عادى الله ورسوله وخالف أمرهما, ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أقرباءهم، أولئك الموالون في الله والمعادون فيه ثَبَّتَ في قلوبهم الإيمان, وقوَّاهم بنصر منه وتأييد على عدوهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ماكثين فيها زمانًا ممتدًا لا ينقطع، أحلَّ الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم, ورضوا عن ربهم بما أعطاهم من الكرامات ورفيع الدرجات, أولئك حزب الله وأولياؤه, وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.
=====
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 )
قد سمع الله قول خولة بنت ثعلبة التي تراجعت في شأن زوجها أوس بن الصامت, وفيما صدر عنه في حقها من الظِّهار، وهو قوله لها: « أنت عليَّ كظهر أمي » ، أي: في حرمة النكاح، وهي تتضرع إلى الله تعالى; لتفريج كربتها، والله يسمع تخاطبكما ومراجعتكما. إن الله سميع لكل قول، بصير بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 )
الذين يُظاهرون منكم من نسائهم، فيقول الرجل منهم لزوجته: « أنت عليَّ كظهر أمي » - أي في حرمة النكاح- قد عصوا الله وخالفوا الشرع، ونساؤهم لَسْنَ في الحقيقة أمهاتهم, إنما هن زوجاتهم, ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. وإن هؤلاء المظاهِرين ليقولون قولا كاذبًا فظيعًا لا تُعرف صحته. وإن الله لعفو غفور عمَّن صدر منه بعض المخالفات، فتداركها بالتوبة النصوح.
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 )
والذين يحرِّمون نساءهم على أنفسهم بالمظاهَرة منهن, ثم يرجعون عن قولهم ويعزمون على وطء نسائهم، فعلى الزوج المظاهِر- والحالة هذه- كفارة التحريم، وهي عتق رقبة مؤمنة عبد أو أمة قبل أن يطأ زوجته التي ظاهر منها، ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر مِن زوجته توعظون به، أيها المؤمنون; لكي لا تقعوا في الظهار وقول الزور، وتُكَفِّروا إن وقعتم فيه، ولكي لا تعودوا إليه، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وهو مجازيكم عليها.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 )
فمن لم يجد رقبة يُعتقها، فالواجب عليه صيام شهرين متتاليين من قبل أن يطأ زوجه, فمن لم يستطع صيام الشهرين لعذر شرعي, فعليه أن يطعم ستين مسكينًا ما يشبعهم، ذلك الذي بينَّاه لكم من أحكام الظهار; من أجل أن تصدِّقوا بالله وتتبعوا رسوله وتعملوا بما شرعه الله, وتتركوا ما كنتم عليه في جاهليتكم, وتلك الأحكام المذكورة هي أوامر الله وحدوده فلا تتجاوزوها, وللجاحدين بها عذاب موجع.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 )
إن الذين يشاقون الله ورسوله ويخالفون أمرهما خُذِلوا وأُهينوا، كما خُذِل الذين من قبلهم من الأمم الذين حادُّوا الله ورسله, وقد أنزلنا آيات واضحات الحُجَّة تدل على أن شرع الله وحدوده حق، ولجاحدي تلك الآيات عذاب مُذلٌّ في جهنم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 )
واذكر - أيها الرسول- يوم القيامة, يوم يحيي الله الموتى جميعًا, ويجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيخبرهم بما عملوا من خير وشر، أحصاه الله وكتبه في اللوح المحفوظ، وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، وهم قد نسوه. والله على كل شيء شهيد، لا يخفى عليه شيء.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 )
ألم تعلم أن الله تعالى يعلم كل شيء في السموات والأرض؟ ما يتناجى ثلاثة مِن خلقه بحديث سرٍّ إلا هو رابعهم بعلمه وإحاطته, ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أقلُّ من هذه الأعداد المذكورة ولا أكثرُ منها إلا هو معهم بعلمه في أيِّ مكان كانوا, لا يخفى عليه شيء من أمرهم, ثم يخبرهم تعالى يوم القيامة بما عملوا من خير وشر ويجازيهم عليه. إن الله بكل شيء عليم.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 8 )
ألم تر - أيها الرسول- إلى اليهود الذين نُهوا عن الحديث سرًّا بما يثير الشك في نفوس المؤمنين, ثم يرجعون إلى ما نُهوا عنه، ويتحدثون سرًّا بما هو إثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول؟ وإذا جاءك - أيها الرسول- هؤلاء اليهود لأمر من الأمور حيَّوك بغير التحية التي جعلها الله لك تحية، فقالوا: ( السام عليك ) أي: الموت لك, ويقولون فيما بينهم: هلا يعاقبنا الله بما نقول لمحمد إن كان رسولا حقًا, تكفيهم جهنم يدخلونها, ويقاسون حرها، فبئس المرجع هي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 9 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا تحدثتم فيما بينكم سرًا، فلا تتحدثوا بما فيه إثم من القول، أو بما هو عدوان على غيركم, أو مخالفة لأمر الرسول، وتحدثوا بما فيه خير وطاعة وإحسان، وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، فإليه وحده مرجعكم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم, وسيجازيكم بها.
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 10 )
إنما التحدث خفية بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان، فهو المزيِّن لها, والحامل عليها; ليُدْخِل الحزن على قلوب المؤمنين، وليس ذلك بمؤذي المؤمنين شيئًا إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته. وعلى الله وحده فليعتمد المؤمنون به.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 11 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا طُلب منكم أن يوسع بعضكم لبعض المجالس فأوسعوا، يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة، وإذا طلب منكم- أيها المؤمنون- أن تقوموا من مجالسكم لأمر من الأمور التي يكون فيها خير لكم فقوموا، يرفع الله مكانة المؤمنين المخلصين منكم، ويرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان, والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها, وهو مجازيكم عليها. وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم، ورفع درجاتهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا أردتم أن تُكلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا بينكم وبينه، فقدِّموا قبل ذلك صدقة لأهل الحاجة, ذلك خير لكم لما فيه من الثواب, وأزكى لقلوبكم من المآثم، فإن لم تجدوا ما تتصدقون به فلا حرج عليكم؛ فإن الله غفور لعباده المؤمنين, رحيم بهم.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 )
أخشيتم الفقر إذا قدَّمتم صدقة قبل مناجاتكم رسول الله؟ فإذْ لم تفعلوا ما أُمرتم به، وتاب الله عليكم, ورخَّص لكم في ألا تفعلوه، فاثبتوا وداوموا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كل ما أُمرتم به, والله سبحانه خبير بأعمالكم, ومجازيكم عليها.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 )
ألم تر إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أصدقاء ووالوهم؟ والمنافقون في الحقيقة ليسوا من المسلمين ولا من اليهود، ويحلفون كذبًا أنهم مسلمون، وأنك رسول الله, وهم يعلمون أنهم كاذبون فيما حلفوا عليه.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 )
أعدَّ الله لهؤلاء المنافقين عذابًا بالغ الشدة والألم, إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق والحلف على الكذب.
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 16 )
اتخذ المنافقون أيمانهم الكاذبة وقاية لهم من القتل بسبب كفرهم, ولمنع المسلمين عن قتالهم وأخذ أموالهم, فبسبب ذلك صدُّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الإسلام، فلهم عذاب مُذلٌّ في النار؛ لاستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله وصدِّهم عن سبيله.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 )
لن تدفع عن المنافقين أموالهم ولا أولادهم مِن عذاب الله شيئًا، أولئك أهل النار يدخلونها فيبقون فيها أبدا, لا يخرجون منها. وهذا الجزاء يعم كلَّ من صدَّ عن دين الله بقوله أو فعله.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 )
يوم القيامة يبعث الله المنافقين جميعًا من قبورهم أحياء, فيحلفون له أنهم كانوا مؤمنين، كما كانوا يحلفون لكم- أيها المؤمنون- في الدنيا, ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم في الدنيا عند المسلمين, ألا إنهم هم البالغون في الكذب حدًا لم يبلغه غيرهم.
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 )
غلب عليهم الشيطان، واستولى عليهم, حتى تركوا أوامر الله والعمل بطاعته, أولئك حزب الشيطان وأتباعه. ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ( 20 )
إن الذين يخالفون أمر الله ورسوله، أولئك من جملة الأذلاء المغلوبين المهانين في الدنيا والآخرة.
كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 )
كتب الله في اللوح المحفوظ وحَكَم بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين. إن الله سبحانه قوي لا يعجزه شيء, عزيز على خلقه.
لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )
لا تجد - أيها الرسول- قومًا يصدِّقون بالله واليوم الآخر، ويعملون بما شرع الله لهم, يحبون ويوالون مَن عادى الله ورسوله وخالف أمرهما, ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أقرباءهم، أولئك الموالون في الله والمعادون فيه ثَبَّتَ في قلوبهم الإيمان, وقوَّاهم بنصر منه وتأييد على عدوهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ماكثين فيها زمانًا ممتدًا لا ينقطع، أحلَّ الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم, ورضوا عن ربهم بما أعطاهم من الكرامات ورفيع الدرجات, أولئك حزب الله وأولياؤه, وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الحشر.. بن كثير
=====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السموات وما في الأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في قَدَره وتدبيره وصنعه وتشريعه, يضع الأمور في مواضعها.
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ( 2 )
هو- سبحانه- الذي أخرج الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل الكتاب, وهم يهود بني النضير, من مساكنهم التي جاوروا بها المسلمين حول « المدينة » , وذلك أول إخراج لهم من « جزيرة العرب » إلى « الشام » , ما ظننتم- أيها المسلمون - أن يخرجوا من ديارهم بهذا الذل والهوان; لشدة بأسهم وقوة منعتهم, وظن اليهود أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله ولا يقدر عليها أحد, فأتاهم الله من حيث لم يخطر لهم ببال, وألقى في قلوبهم الخوف والفزع الشديد, يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين, فاتعظوا يا أصحاب البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهم.
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 )
ولولا أن كتب الله عليهم الخروج مِن ديارهم وقضاه, لَعذَّبهم في الدنيا بالقتل والسبي, ولهم في الآخرة عذاب النار.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 )
ذلك- الذي أصاب اليهود في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة- لأنهم خالفوا أمر الله وأمر رسوله أشدَّ المخالفة, وحاربوهما وسعَوا في معصيتهما, ومن يخالف الله ورسوله فإن الله شديد العقاب له.
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )
ما قطعتم - أيها المؤمنون- من نخلة أو تركتموها قائمة على ساقها, من غير أن تتعرضوا لها, فبإذن الله وأمره؛ وليُذلَّ بذلك الخارجين عن طاعته المخالفين أمره ونهيه, حيث سلَّطكم على قطع نخيلهم وتحريقها.
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 )
وما أفاءه الله على رسوله من أموال يهود بني النضير, فلم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ولكن الله يسلِّط رسله على مَن يشاء مِن أعدائه, فيستسلمون لهم بلا قتال, والفيء ما أُخذ من أموال الكفار بحق من غير قتال. والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 )
ما أفاءه الله على رسوله من أموال مشركي أهل القرى من غير ركوب خيل ولا إبل فلله ولرسوله, يُصْرف في مصالح المسلمين العامة, ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليتامى, وهم الأطفال الفقراء الذين مات آباؤهم, والمساكين, وهم أهل الحاجة والفقر, وابن السبيل, وهو الغريب المسافر الذي نَفِدت نفقته وانقطع عنه ماله؛ وذلك حتى لا يكون المال ملكًا متداولا بين الأغنياء وحدهم, ويحرم منه الفقراء والمساكين. وما أعطاكم الرسول من مال, أو شرعه لكم مِن شرع, فخذوه, وما نهاكم عن أَخْذه أو فِعْله فانتهوا عنه, واتقوا الله بامتثال أوامره وترك نواهيه. إن الله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ونهيه. والآية أصل في وجوب العمل بالسنة: قولا أو فعلا أو تقريرًا.
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 )
وكذلك يُعطى من المال الذي أفاءه الله على رسوله الفقراء المهاجرون, الذين اضطرهم كفار « مكة » إلى الخروج من ديارهم وأموالهم يطلبون من الله أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا والرضوان في الآخرة, وينصرون دين الله ورسوله بالجهاد في سبيل الله, أولئك هم الصادقون الذين صدَّقوا قولهم بفعلهم.
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 )
والذين استوطنوا « المدينة » , وآمنوا من قبل هجرة المهاجرين - وهم الأنصار- يحبون المهاجرين, ويواسونهم بأموالهم, ولا يجدون في أنفسهم حسدًا لهم مما أُعْطوا من مال الفيء وغيره, ويُقَدِّمون المهاجرين وذوي الحاجة على أنفسهم, ولو كان بهم حاجة وفقر, ومن سَلِم من البخل ومَنْعِ الفضل من المال فأولئك هم الفائزون الذين فازوا بمطلوبهم.
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 10 )
والذين جاؤوا من المؤمنين من بعد الأنصار والمهاجرين الأولين يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا, واغفر لإخواننا في الدين الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا حسدًا وحقدًا لأحد من أهل الإيمان, ربنا إنك رؤوف بعبادك, رحيم بهم. وفي الآية دلالة على أنه ينبغي للمسلم أن يذكر سلفه بخير, ويدعو لهم, وأن يحب صحابة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بخير, ويترضى عنهم.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 )
ألم تنظر إلى المنافقين, يقولون لإخوانهم في الكفر من يهود بني النضير: لئن أخرجكم محمد ومَن معه مِن منازلكم لنخرجن معكم, ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا سألَنا خِذْلانكم أو ترك الخروج معكم, ولئن قاتلوكم لنعاوننكم عليهم؟ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به يهود بني النضير.
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 12 )
لئن أُخرج اليهود من « المدينة » لا يخرج المنافقون معهم, ولئن قوتلوا لا يقاتلون معهم كما وَعَدوا, ولئن قاتلوا معهم ليولُنَّ الأدبار فرارًا منهزمين, ثم لا ينصرهم الله, بل يخذلهم, ويُذِلُّهم.
لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 13 )
لَخوفُ المنافقين وخشيتهم إياكم- أيها المؤمنون- أعظم وأشد في صدورهم من خوفهم وخشيتهم من الله؛ وذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون عظمة الله والإيمان به, ولا يرهبون عقابه.
لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 14 )
لا يواجهكم اليهود بقتال مجتمعين إلا في قرى محصنة بالأسوار والخنادق, أو من خلف الحيطان, عداوتهم فيما بينهم شديدة, تظن أنهم مجتمعون على كلمة واحدة, ولكن قلوبهم متفرقة؛ وذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون أمر الله ولا يتدبرون آياته.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 )
مثل هؤلاء اليهود فيما حلَّ بهم من عقوبة الله كمثل كفار قريش يوم « بدر » , ويهود بني قينقاع, حيث ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع.
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 )
ومثل هؤلاء المنافقين في إغراء اليهود على القتال ووَعْدهم بالنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمثل الشيطان حين زيَّن للإنسان الكفر ودعاه إليه, فلما كفر قال: إني بريء منك, إني أخاف الله رب الخلق أجمعين.
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 )
فكان عاقبة أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه فكفر, أنهما في النار, ماكثَيْن فيها أبدًا, وذلك جزاء المعتدين المتجاوزين حدود الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, خافوا الله, واحذروا عقابه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه, ولتتدبر كل نفس ما قدمت من الأعمال ليوم القيامة, وخافوا الله في كل ما تأتون وما تَذَرون, إن الله سبحانه خبير بما تعملون, لا يخفى عليه شيء من أعمالكم, وهو مجازيكم عليها.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 19 )
ولا تكونوا- أيها المؤمنون- كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم, فأنساهم بسبب ذلك حظوظ أنفسهم من الخيرات التي تنجيهم من عذاب يوم القيامة, أولئك هم الموصوفون بالفسق, الخارجون عن طاعة الله طاعة ورسوله.
لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )
لا يستوي أصحاب النار المعذَّبون, وأصحاب الجنة المنعَّمون, أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب, الناجون من كل مكروه.
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 )
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل من الجبال, ففهم ما فيه مِن وعد ووعيد, لأبصَرْته على قوته وشدة صلابته وضخامته، خاضعًا ذليلا متشققًا من خشية الله تعالى. وتلك الأمثال نضربها, ونوضحها للناس ؛ لعلهم يتفكرون في قدرة الله وعظمته. وفي الآية حث على تدبر القرآن, وتفهم معانيه, والعمل به.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 )
هو الله سبحانه وتعالى المعبود بحق الذي لا إله سواه, عالم السر والعلن, يعلم ما غاب وما حضر, هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء, الرحيم بأهل الإيمان به.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 )
هو الله المعبود بحق, الذي لا إله إلا هو, الملك لجميع الأشياء, المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة, المنزَّه عن كل نقص, الذي سلِم من كل عيب, المصدِّق رسله وأنبياءه بما ترسلهم به من الآيات البينات, الرقيب على كل خلقه في أعمالهم, العزيز الذي لا يغالَب, الجبار الذي قهر جميع العباد, وأذعن له سائر الخلق, المتكبِّر الذي له الكبرياء والعظمة. تنزَّه الله تعالى عن كل ما يشركونه به في عبادته.
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 )
هو الله سبحانه وتعالى الخالق المقدر للخلق، البارئ المنشئ الموجد لهم على مقتضى حكمته, المصوِّر خلقه كيف يشاء, له سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلى, يسبِّح له جميع ما في السموات والأرض, وهو العزيز شديد الانتقام مِن أعدائه, الحكيم في تدبيره أمور خلقه.
=====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السموات وما في الأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في قَدَره وتدبيره وصنعه وتشريعه, يضع الأمور في مواضعها.
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ( 2 )
هو- سبحانه- الذي أخرج الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل الكتاب, وهم يهود بني النضير, من مساكنهم التي جاوروا بها المسلمين حول « المدينة » , وذلك أول إخراج لهم من « جزيرة العرب » إلى « الشام » , ما ظننتم- أيها المسلمون - أن يخرجوا من ديارهم بهذا الذل والهوان; لشدة بأسهم وقوة منعتهم, وظن اليهود أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله ولا يقدر عليها أحد, فأتاهم الله من حيث لم يخطر لهم ببال, وألقى في قلوبهم الخوف والفزع الشديد, يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين, فاتعظوا يا أصحاب البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهم.
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 )
ولولا أن كتب الله عليهم الخروج مِن ديارهم وقضاه, لَعذَّبهم في الدنيا بالقتل والسبي, ولهم في الآخرة عذاب النار.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 )
ذلك- الذي أصاب اليهود في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة- لأنهم خالفوا أمر الله وأمر رسوله أشدَّ المخالفة, وحاربوهما وسعَوا في معصيتهما, ومن يخالف الله ورسوله فإن الله شديد العقاب له.
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )
ما قطعتم - أيها المؤمنون- من نخلة أو تركتموها قائمة على ساقها, من غير أن تتعرضوا لها, فبإذن الله وأمره؛ وليُذلَّ بذلك الخارجين عن طاعته المخالفين أمره ونهيه, حيث سلَّطكم على قطع نخيلهم وتحريقها.
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 )
وما أفاءه الله على رسوله من أموال يهود بني النضير, فلم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ولكن الله يسلِّط رسله على مَن يشاء مِن أعدائه, فيستسلمون لهم بلا قتال, والفيء ما أُخذ من أموال الكفار بحق من غير قتال. والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 )
ما أفاءه الله على رسوله من أموال مشركي أهل القرى من غير ركوب خيل ولا إبل فلله ولرسوله, يُصْرف في مصالح المسلمين العامة, ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليتامى, وهم الأطفال الفقراء الذين مات آباؤهم, والمساكين, وهم أهل الحاجة والفقر, وابن السبيل, وهو الغريب المسافر الذي نَفِدت نفقته وانقطع عنه ماله؛ وذلك حتى لا يكون المال ملكًا متداولا بين الأغنياء وحدهم, ويحرم منه الفقراء والمساكين. وما أعطاكم الرسول من مال, أو شرعه لكم مِن شرع, فخذوه, وما نهاكم عن أَخْذه أو فِعْله فانتهوا عنه, واتقوا الله بامتثال أوامره وترك نواهيه. إن الله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ونهيه. والآية أصل في وجوب العمل بالسنة: قولا أو فعلا أو تقريرًا.
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 )
وكذلك يُعطى من المال الذي أفاءه الله على رسوله الفقراء المهاجرون, الذين اضطرهم كفار « مكة » إلى الخروج من ديارهم وأموالهم يطلبون من الله أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا والرضوان في الآخرة, وينصرون دين الله ورسوله بالجهاد في سبيل الله, أولئك هم الصادقون الذين صدَّقوا قولهم بفعلهم.
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 )
والذين استوطنوا « المدينة » , وآمنوا من قبل هجرة المهاجرين - وهم الأنصار- يحبون المهاجرين, ويواسونهم بأموالهم, ولا يجدون في أنفسهم حسدًا لهم مما أُعْطوا من مال الفيء وغيره, ويُقَدِّمون المهاجرين وذوي الحاجة على أنفسهم, ولو كان بهم حاجة وفقر, ومن سَلِم من البخل ومَنْعِ الفضل من المال فأولئك هم الفائزون الذين فازوا بمطلوبهم.
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 10 )
والذين جاؤوا من المؤمنين من بعد الأنصار والمهاجرين الأولين يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا, واغفر لإخواننا في الدين الذين سبقونا بالإيمان, ولا تجعل في قلوبنا حسدًا وحقدًا لأحد من أهل الإيمان, ربنا إنك رؤوف بعبادك, رحيم بهم. وفي الآية دلالة على أنه ينبغي للمسلم أن يذكر سلفه بخير, ويدعو لهم, وأن يحب صحابة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بخير, ويترضى عنهم.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 )
ألم تنظر إلى المنافقين, يقولون لإخوانهم في الكفر من يهود بني النضير: لئن أخرجكم محمد ومَن معه مِن منازلكم لنخرجن معكم, ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا سألَنا خِذْلانكم أو ترك الخروج معكم, ولئن قاتلوكم لنعاوننكم عليهم؟ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به يهود بني النضير.
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ( 12 )
لئن أُخرج اليهود من « المدينة » لا يخرج المنافقون معهم, ولئن قوتلوا لا يقاتلون معهم كما وَعَدوا, ولئن قاتلوا معهم ليولُنَّ الأدبار فرارًا منهزمين, ثم لا ينصرهم الله, بل يخذلهم, ويُذِلُّهم.
لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 13 )
لَخوفُ المنافقين وخشيتهم إياكم- أيها المؤمنون- أعظم وأشد في صدورهم من خوفهم وخشيتهم من الله؛ وذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون عظمة الله والإيمان به, ولا يرهبون عقابه.
لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 14 )
لا يواجهكم اليهود بقتال مجتمعين إلا في قرى محصنة بالأسوار والخنادق, أو من خلف الحيطان, عداوتهم فيما بينهم شديدة, تظن أنهم مجتمعون على كلمة واحدة, ولكن قلوبهم متفرقة؛ وذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون أمر الله ولا يتدبرون آياته.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 )
مثل هؤلاء اليهود فيما حلَّ بهم من عقوبة الله كمثل كفار قريش يوم « بدر » , ويهود بني قينقاع, حيث ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع.
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 )
ومثل هؤلاء المنافقين في إغراء اليهود على القتال ووَعْدهم بالنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمثل الشيطان حين زيَّن للإنسان الكفر ودعاه إليه, فلما كفر قال: إني بريء منك, إني أخاف الله رب الخلق أجمعين.
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 )
فكان عاقبة أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه فكفر, أنهما في النار, ماكثَيْن فيها أبدًا, وذلك جزاء المعتدين المتجاوزين حدود الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, خافوا الله, واحذروا عقابه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه, ولتتدبر كل نفس ما قدمت من الأعمال ليوم القيامة, وخافوا الله في كل ما تأتون وما تَذَرون, إن الله سبحانه خبير بما تعملون, لا يخفى عليه شيء من أعمالكم, وهو مجازيكم عليها.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 19 )
ولا تكونوا- أيها المؤمنون- كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم, فأنساهم بسبب ذلك حظوظ أنفسهم من الخيرات التي تنجيهم من عذاب يوم القيامة, أولئك هم الموصوفون بالفسق, الخارجون عن طاعة الله طاعة ورسوله.
لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )
لا يستوي أصحاب النار المعذَّبون, وأصحاب الجنة المنعَّمون, أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب, الناجون من كل مكروه.
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 )
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل من الجبال, ففهم ما فيه مِن وعد ووعيد, لأبصَرْته على قوته وشدة صلابته وضخامته، خاضعًا ذليلا متشققًا من خشية الله تعالى. وتلك الأمثال نضربها, ونوضحها للناس ؛ لعلهم يتفكرون في قدرة الله وعظمته. وفي الآية حث على تدبر القرآن, وتفهم معانيه, والعمل به.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 )
هو الله سبحانه وتعالى المعبود بحق الذي لا إله سواه, عالم السر والعلن, يعلم ما غاب وما حضر, هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء, الرحيم بأهل الإيمان به.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 )
هو الله المعبود بحق, الذي لا إله إلا هو, الملك لجميع الأشياء, المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة, المنزَّه عن كل نقص, الذي سلِم من كل عيب, المصدِّق رسله وأنبياءه بما ترسلهم به من الآيات البينات, الرقيب على كل خلقه في أعمالهم, العزيز الذي لا يغالَب, الجبار الذي قهر جميع العباد, وأذعن له سائر الخلق, المتكبِّر الذي له الكبرياء والعظمة. تنزَّه الله تعالى عن كل ما يشركونه به في عبادته.
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 )
هو الله سبحانه وتعالى الخالق المقدر للخلق، البارئ المنشئ الموجد لهم على مقتضى حكمته, المصوِّر خلقه كيف يشاء, له سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلى, يسبِّح له جميع ما في السموات والأرض, وهو العزيز شديد الانتقام مِن أعدائه, الحكيم في تدبيره أمور خلقه.
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الممتحنة .. بن كثير
====
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا تتخذوا عدوي وعدوكم خلصاء وأحباء, تُفْضون إليهم بالمودة, فتخبرونهم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر المسلمين, وهم قد كفروا بما جاءكم من الحق من الإيمان بالله ورسوله وما نزل عليه من القرآن, يخرجون الرسول ويخرجونكم- أيها المؤمنون- من « مكة » ؛ لأنكم تصدقون بالله ربكم, وتوحدونه, إن كنتم- أيها المؤمنون- هاجرتم مجاهدين في سبيلي, طالبين مرضاتي عنكم, فلا توالوا أعدائي وأعداءكم, تُفْضون إليهم بالمودة سرًّا, وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم, ومن يفعل ذلك منكم فقد أخطأ طريق الحق والصواب, وضلَّ عن قصد السبيل.
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 )
إن يظفر بكم هؤلاء الذين تُسرُّون إليهم بالمودة يكونوا حربًا عليكم, ويمدوا إليكم أيديهم بالقتل والسبي, وألسنتهم بالسب والشتم, وهم قد تمنَّوْا- على كل حال- لو تكفرون مثلهم.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 )
لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم شيئًا حين توالون الكفار مِن أجلهم, يوم القيامة يفرق الله بينكم, فيُدْخل أهل طاعته الجنة, وأهل معصيته النار. والله بما تعملون بصير, لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأعمالكم.
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 )
قد كانت لكم- أيها المؤمنون- قدوة حسنة في إبراهيم عليه السلام والذين معه من المؤمنين, حين قالوا لقومهم الكافرين بالله: إنا بريئون منكم وممَّا تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد, كفرنا بكم, وأنكرنا ما أنتم عليه من الكفر, وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا ما دمتم على كفركم, حتى تؤمنوا بالله وحده, لكن لا يدخل في الاقتداء استغفار إبراهيم لأبيه; فإن ذلك إنما كان قبل أن يتبين لإبراهيم أن أباه عدو لله, فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه, ربنا عليك اعتمدنا, وإليك رجعنا بالتوبة, وإليك المرجع يوم القيامة.
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 )
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا بعذابك لنا أو تسلط الكافرين علينا فيفتنونا عن ديننا، أو يظهروا علينا فيُفتنوا بذلك، ويقولوا: لو كان هؤلاء على حق, ما أصابهم هذا العذاب, فيزدادوا كفرًا, واستر علينا ذنوبنا بعفوك عنها ربنا, إنك أنت العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 )
لقد كان لكم- أيها المؤمنون- في إبراهيم عليه السلام والذين معه قدوة حميدة لمن يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة, ومن يُعْرِض عما ندبه الله إليه من التأسي بأنبيائه, ويوال أعداء الله, فإن الله هو الغنيُّ عن عباده, الحميد في ذاته وصفاته, المحمود على كل حال.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 7 )
عسى الله أن يجعل بينكم- أيها المؤمنون- وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم من المشركين محبة بعد البغضاء, وألفة بعد الشحناء بانشراح صدورهم للإسلام, والله قدير على كل شيء, والله غفور لعباده, رحيم بهم.
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 )
لا ينهاكم الله - أيها المؤمنون- عن الذين550 لم يقاتلوكم من الكفار بسبب الدين, ولم يخرجوكم من دياركم أن تكرموهم بالخير, وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم وبرِّكم بهم. إن الله يحب الذين يعدلون في أقوالهم وأفعالهم.
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 )
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم بسبب الدين وأخرجوكم من دياركم, وعاونوا الكفار على إخراجكم أن تولوهم بالنصرة والمودة, ومن يتخذهم أنصارًا على المؤمنين وأحبابًا, فأولئك هم الظالمون لأنفسهم, الخارجون عن حدود الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا جاءكم النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام, فاختبروهن؛ لتعلموا صدق إيمانهن, الله أعلم بحقيقة إيمانهن, فإن علمتموهن مؤمنات بحسب ما يظهر لكم من العلامات والبينات, فلا تردُّوهن إلى أزواجهن الكافرين, فالنساء المؤمنات لا يحلُّ لهن أن يتزوجن الكفار, ولا يحلُّ للكفار أن يتزوجوا المؤمنات, وأعطوا أزواج اللاتي أسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور, ولا إثم عليكم أن تتزوجوهن إذا دفعتم لهنَّ مهورهن. ولا تمسكوا بنكاح أزواجكم الكافرات, واطلبوا من المشركين ما أنفقتم من مهور نسائكم اللاتي ارتددن عن الإسلام ولحقن بهم, وليطلبوا هم ما أنفقوا من مهور نسائهم المسلمات اللاتي أسلمن ولحقن بكم, ذلكم الحكم المذكور في الآية هو حكم الله يحكم به بينكم فلا تخالفوه. والله عليم لا يخفى عليه شيء, حكيم في أقواله وأفعاله.
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 )
وإن لحقت بعض زوجاتكم مرتدات إلى الكفار, ولم يعطكم الكفار مهورهن التي دفعتموها لهن, ثم ظَفِرتم بهؤلاء الكفار أو غيرهم وانتصرتم عليهم, فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين من الغنائم أو غيرها مثل ما أعطوهن من المهور قبل ذلك, وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك على ألا يجعلن مع الله شريكًا في عبادته, ولا يسرقن شيئًا, ولا يزنين, ولا يقتلن أولادهن بعد الولادة أو قبلها, ولا يُلحقن بأزواجهن أولادًا ليسوا منهم, ولا يخالفنك في معروف تأمرهن به, فعاهدهن على ذلك, واطلب لهن المغفرة من الله. إن الله غفور لذنوب عباده التائبين, رحيم بهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, لا تتخذوا الذين غضب الله عليهم; لكفرهم أصدقاء وأخلاء, قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة, كما يئس الكفار المقبورون, من رحمة الله في الآخرة؛ حين شاهدوا حقيقة الأمر, وعلموا علم اليقين أنهم لا نصيب لهم منها، أو كما يئس الكفار مِن بَعْث موتاهم - أصحاب القبور- ؛ لاعتقادهم عدم البعث .
====
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا تتخذوا عدوي وعدوكم خلصاء وأحباء, تُفْضون إليهم بالمودة, فتخبرونهم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر المسلمين, وهم قد كفروا بما جاءكم من الحق من الإيمان بالله ورسوله وما نزل عليه من القرآن, يخرجون الرسول ويخرجونكم- أيها المؤمنون- من « مكة » ؛ لأنكم تصدقون بالله ربكم, وتوحدونه, إن كنتم- أيها المؤمنون- هاجرتم مجاهدين في سبيلي, طالبين مرضاتي عنكم, فلا توالوا أعدائي وأعداءكم, تُفْضون إليهم بالمودة سرًّا, وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم, ومن يفعل ذلك منكم فقد أخطأ طريق الحق والصواب, وضلَّ عن قصد السبيل.
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 )
إن يظفر بكم هؤلاء الذين تُسرُّون إليهم بالمودة يكونوا حربًا عليكم, ويمدوا إليكم أيديهم بالقتل والسبي, وألسنتهم بالسب والشتم, وهم قد تمنَّوْا- على كل حال- لو تكفرون مثلهم.
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 )
لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم شيئًا حين توالون الكفار مِن أجلهم, يوم القيامة يفرق الله بينكم, فيُدْخل أهل طاعته الجنة, وأهل معصيته النار. والله بما تعملون بصير, لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأعمالكم.
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 )
قد كانت لكم- أيها المؤمنون- قدوة حسنة في إبراهيم عليه السلام والذين معه من المؤمنين, حين قالوا لقومهم الكافرين بالله: إنا بريئون منكم وممَّا تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد, كفرنا بكم, وأنكرنا ما أنتم عليه من الكفر, وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا ما دمتم على كفركم, حتى تؤمنوا بالله وحده, لكن لا يدخل في الاقتداء استغفار إبراهيم لأبيه; فإن ذلك إنما كان قبل أن يتبين لإبراهيم أن أباه عدو لله, فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه, ربنا عليك اعتمدنا, وإليك رجعنا بالتوبة, وإليك المرجع يوم القيامة.
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 )
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا بعذابك لنا أو تسلط الكافرين علينا فيفتنونا عن ديننا، أو يظهروا علينا فيُفتنوا بذلك، ويقولوا: لو كان هؤلاء على حق, ما أصابهم هذا العذاب, فيزدادوا كفرًا, واستر علينا ذنوبنا بعفوك عنها ربنا, إنك أنت العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 )
لقد كان لكم- أيها المؤمنون- في إبراهيم عليه السلام والذين معه قدوة حميدة لمن يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة, ومن يُعْرِض عما ندبه الله إليه من التأسي بأنبيائه, ويوال أعداء الله, فإن الله هو الغنيُّ عن عباده, الحميد في ذاته وصفاته, المحمود على كل حال.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 7 )
عسى الله أن يجعل بينكم- أيها المؤمنون- وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم من المشركين محبة بعد البغضاء, وألفة بعد الشحناء بانشراح صدورهم للإسلام, والله قدير على كل شيء, والله غفور لعباده, رحيم بهم.
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 )
لا ينهاكم الله - أيها المؤمنون- عن الذين550 لم يقاتلوكم من الكفار بسبب الدين, ولم يخرجوكم من دياركم أن تكرموهم بالخير, وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم وبرِّكم بهم. إن الله يحب الذين يعدلون في أقوالهم وأفعالهم.
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 )
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم بسبب الدين وأخرجوكم من دياركم, وعاونوا الكفار على إخراجكم أن تولوهم بالنصرة والمودة, ومن يتخذهم أنصارًا على المؤمنين وأحبابًا, فأولئك هم الظالمون لأنفسهم, الخارجون عن حدود الله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا جاءكم النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام, فاختبروهن؛ لتعلموا صدق إيمانهن, الله أعلم بحقيقة إيمانهن, فإن علمتموهن مؤمنات بحسب ما يظهر لكم من العلامات والبينات, فلا تردُّوهن إلى أزواجهن الكافرين, فالنساء المؤمنات لا يحلُّ لهن أن يتزوجن الكفار, ولا يحلُّ للكفار أن يتزوجوا المؤمنات, وأعطوا أزواج اللاتي أسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور, ولا إثم عليكم أن تتزوجوهن إذا دفعتم لهنَّ مهورهن. ولا تمسكوا بنكاح أزواجكم الكافرات, واطلبوا من المشركين ما أنفقتم من مهور نسائكم اللاتي ارتددن عن الإسلام ولحقن بهم, وليطلبوا هم ما أنفقوا من مهور نسائهم المسلمات اللاتي أسلمن ولحقن بكم, ذلكم الحكم المذكور في الآية هو حكم الله يحكم به بينكم فلا تخالفوه. والله عليم لا يخفى عليه شيء, حكيم في أقواله وأفعاله.
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 )
وإن لحقت بعض زوجاتكم مرتدات إلى الكفار, ولم يعطكم الكفار مهورهن التي دفعتموها لهن, ثم ظَفِرتم بهؤلاء الكفار أو غيرهم وانتصرتم عليهم, فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين من الغنائم أو غيرها مثل ما أعطوهن من المهور قبل ذلك, وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 )
يا أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك على ألا يجعلن مع الله شريكًا في عبادته, ولا يسرقن شيئًا, ولا يزنين, ولا يقتلن أولادهن بعد الولادة أو قبلها, ولا يُلحقن بأزواجهن أولادًا ليسوا منهم, ولا يخالفنك في معروف تأمرهن به, فعاهدهن على ذلك, واطلب لهن المغفرة من الله. إن الله غفور لذنوب عباده التائبين, رحيم بهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, لا تتخذوا الذين غضب الله عليهم; لكفرهم أصدقاء وأخلاء, قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة, كما يئس الكفار المقبورون, من رحمة الله في الآخرة؛ حين شاهدوا حقيقة الأمر, وعلموا علم اليقين أنهم لا نصيب لهم منها، أو كما يئس الكفار مِن بَعْث موتاهم - أصحاب القبور- ؛ لاعتقادهم عدم البعث .
رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير بن كثير
تفسير سورة الصف.. بن كثير
====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السموات وما في الأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لِمَ تَعِدون وعدًا, أو تقولون قولا ولا تفون به؟! وهذا إنكار على مَن يخالف فعلُه قولَه.
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 )
عَظُم بغضًا عند الله أن تقولوا بألسنتكم ما لا تفعلونه.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 )
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان متراص محكم لا ينفذ منه العدو. وفي الآية بيان فضل الجهاد والمجاهدين؛ لمحبة الله سبحانه لعباده المؤمنين إذا صفُّوا مواجهين لأعداء الله, يقاتلونهم في سبيله.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )
واذكر لقومك - أيها الرسول- حين قال نبي الله موسى عليه السلام لقومه: لِمَ تؤذونني بالقول والفعل, وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ فلما عدلوا عن الحق مع علمهم به, وأصرُّوا على ذلك، صرف الله قلوبهم عن قَبول الهداية؛ عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم. والله لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق.
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 6 )
واذكر - أيها الرسول لقومك- حين قال عيسى ابن مريم لقومه: إني رسول الله إليكم, مصدِّقًا لما جاء قبلي من التوراة, وشاهدًا بصدق رسول يأتي من بعدي اسمه « أحمد » , وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وداعيًا إلى التصديق به, فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات الواضحات, قالوا: هـذا الذي جئتنا به سحر بيِّن.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 )
ولا أحد أشد ظلمًا وعدوانًا ممن اختلق على الله الكذب, وجعل له شركاء في عبادته, وهو يُدعى إلى الدخول في الإسلام وإخلاص العبادة لله وحده. والله لا يوفِّق الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك, إلى ما فيه فلاحهم.
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 )
يريد هؤلاء الظالمون أن يبطلوا الحق الذي بُعِثَ به محمد صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن- بأقوالهم الكاذبة, والله مظهر الحق بإتمام دينه ولو كره الجاحدون المكذِّبون.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 )
الله هو الذي أرسل رسوله محمدًا بالقرآن ودين الإسلام؛ ليعليه على كل الأديان المخالفة له, ولو كره المشركون ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, هل أُرشِدكم إلى تجارة عظيمة الشأن تنجيكم من عذاب موجع؟
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 )
تداومون على إيمانكم بالله ورسوله, وتجاهدون في سبيل الله؛ لنصرة دينه بما تملكون من الأموال والأنفس, ذلك خير لكم من تجارة الدنيا, إن كنتم تعلمون مضارَّ الأشياء ومنافعها, فامتثلوا ذلك.
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 )
إن فعلتم - أيها المؤمنون- ما أمركم الله به يستر عليكم ذنوبكم, ويدخلكم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ومساكن طاهرة زكية في جنات إقامة دائمة لا تنقطع, ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده. ونعمة أخرى لكم- أيها المؤمنون- تحبونها هي نصر من الله يأتيكم, وفتح عاجل يتم على أيديكم. وبشِّر المؤمنين - أيها النبي- بالنصر والفتح في الدنيا, والجنة في الآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, كونوا أنصارًا لدين الله, كما كان أصفياء عيسى أنصارًا لدين الله حين قال لهم عيسى: مَن يتولى منكم نصري وإعانتي فيما يُقرِّب إلى الله؟ قالوا: نحن أنصار دين الله, فاهتدت طائفة من بني إسرائيل, وضلَّت طائفة, فأيدنا الذين آمنوا بالله ورسوله, ونصرناهم على مَن عاداهم مِن فرق النصارى, فأصبحوا ظاهرين عليهم؛ وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
====
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السموات وما في الأرض, وهو العزيز الذي لا يغالَب, الحكيم في أقواله وأفعاله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ( 2 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لِمَ تَعِدون وعدًا, أو تقولون قولا ولا تفون به؟! وهذا إنكار على مَن يخالف فعلُه قولَه.
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( 3 )
عَظُم بغضًا عند الله أن تقولوا بألسنتكم ما لا تفعلونه.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 )
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان متراص محكم لا ينفذ منه العدو. وفي الآية بيان فضل الجهاد والمجاهدين؛ لمحبة الله سبحانه لعباده المؤمنين إذا صفُّوا مواجهين لأعداء الله, يقاتلونهم في سبيله.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 5 )
واذكر لقومك - أيها الرسول- حين قال نبي الله موسى عليه السلام لقومه: لِمَ تؤذونني بالقول والفعل, وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ فلما عدلوا عن الحق مع علمهم به, وأصرُّوا على ذلك، صرف الله قلوبهم عن قَبول الهداية؛ عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم. والله لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق.
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 6 )
واذكر - أيها الرسول لقومك- حين قال عيسى ابن مريم لقومه: إني رسول الله إليكم, مصدِّقًا لما جاء قبلي من التوراة, وشاهدًا بصدق رسول يأتي من بعدي اسمه « أحمد » , وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وداعيًا إلى التصديق به, فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات الواضحات, قالوا: هـذا الذي جئتنا به سحر بيِّن.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 )
ولا أحد أشد ظلمًا وعدوانًا ممن اختلق على الله الكذب, وجعل له شركاء في عبادته, وهو يُدعى إلى الدخول في الإسلام وإخلاص العبادة لله وحده. والله لا يوفِّق الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك, إلى ما فيه فلاحهم.
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 )
يريد هؤلاء الظالمون أن يبطلوا الحق الذي بُعِثَ به محمد صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن- بأقوالهم الكاذبة, والله مظهر الحق بإتمام دينه ولو كره الجاحدون المكذِّبون.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 )
الله هو الذي أرسل رسوله محمدًا بالقرآن ودين الإسلام؛ ليعليه على كل الأديان المخالفة له, ولو كره المشركون ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, هل أُرشِدكم إلى تجارة عظيمة الشأن تنجيكم من عذاب موجع؟
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 )
تداومون على إيمانكم بالله ورسوله, وتجاهدون في سبيل الله؛ لنصرة دينه بما تملكون من الأموال والأنفس, ذلك خير لكم من تجارة الدنيا, إن كنتم تعلمون مضارَّ الأشياء ومنافعها, فامتثلوا ذلك.
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13 )
إن فعلتم - أيها المؤمنون- ما أمركم الله به يستر عليكم ذنوبكم, ويدخلكم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار, ومساكن طاهرة زكية في جنات إقامة دائمة لا تنقطع, ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده. ونعمة أخرى لكم- أيها المؤمنون- تحبونها هي نصر من الله يأتيكم, وفتح عاجل يتم على أيديكم. وبشِّر المؤمنين - أيها النبي- بالنصر والفتح في الدنيا, والجنة في الآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ( 14 )
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, كونوا أنصارًا لدين الله, كما كان أصفياء عيسى أنصارًا لدين الله حين قال لهم عيسى: مَن يتولى منكم نصري وإعانتي فيما يُقرِّب إلى الله؟ قالوا: نحن أنصار دين الله, فاهتدت طائفة من بني إسرائيل, وضلَّت طائفة, فأيدنا الذين آمنوا بالله ورسوله, ونصرناهم على مَن عاداهم مِن فرق النصارى, فأصبحوا ظاهرين عليهم؛ وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
صفحة 3 من اصل 5 • 1, 2, 3, 4, 5
مواضيع مماثلة
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير الطبرى
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» قارون وفتنة المال.. تفسير بن كثير
» أنواع القلوب فى القرآن الكريم
» تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى
» تفسير القرآن الكريم الجلالين
» قارون وفتنة المال.. تفسير بن كثير
» أنواع القلوب فى القرآن الكريم
صفحة 3 من اصل 5
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola
» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
الثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله
» قصة سيدنا عزير
الإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة
» ** قصة أبيار على **
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة
» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله
» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة
» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله
» إعجاز بناء الكعبة
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز
» صفات اليهود فى القرآن الكريم
الإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله