روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
روضة البدر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 

 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المواضيع الأخيرة
» فن باعواد الكبريت
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola

» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله

» قصة سيدنا عزير
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة

» ** قصة أبيار على **
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة

» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله

» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة

» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله

» إعجاز بناء الكعبة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز

» صفات اليهود فى القرآن الكريم
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله

نوفمبر 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
    123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930 

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

صفحة 2 من اصل 20 الصفحة السابقة  1, 2, 3 ... 11 ... 20  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء سبتمبر 05, 2012 8:55 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 168 ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )



قوله تعالى: « يا أيها الناس » قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » و « الأعراف » إن شاء اللّه تعالى.



قوله تعالى: « حلالا طيبا » « حلالا » حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو عبدالله الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة اللّه عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة.



قوله تعالى: « ولا تتبعوا » نهي « خطوات الشيطان » « خطوات » جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة ( بالضم ) : ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة ( بالفتح ) : المرة الواحدة، والجمع خطوات ( بالتحريك ) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس:

لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطر

وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير « خطوات » بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش « خطؤات » بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تقفوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس: « خطوات الشيطان » أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي.

قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في « الشيطان » مستوفى.



قوله تعالى: « إنه لكم عدو مبين » أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: « ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين » ، « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » [ البقرة: 169 ] وقال: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » [ البقرة: 268 ] وقال: « ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا » [ النساء: 60 ] وقال: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] وقال: « إنه عدو مضل مبين » [ القصص:15 ] وقال: « إن الشيطان لكم عدو فاتخذه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير » [ فاطر: 6 ] . وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبدالله بن عمر: إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: ( وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه ) الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب.



الآية: 169 ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )



قوله تعالى: « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء » سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال اللّه تعالى: « سيئت وجوه الذين كفروا » [ الملك: 27 ] . وقال الشاعر:

إن يك هذا الدهر قد ساءني فطالما قد سرني الدهر

الأمر عندي فيهما واحد لذاك شكر ولذاك صبر

والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » [ البقرة: 268 ] فإنه منع الزكاة.

قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، واللّه تعالى أعلم.



قوله تعالى: « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعا. « وأن تقولوا » في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: « بالسوء والفحشاء » .



الآية: 170 ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )



قوله تعالى: « وإذا قيل لهم » يعني كفار العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في « لهم » عائد على الناس من قوله تعالى: « يا أيها الناس كلوا » . وقيل: هو عائد على « من » في قوله تعالى: « ومن الناس من يتخذ من دون الله » [ البقرة: 165 ] الآية. وقوله: « اتبعوا ما أنزل الله » أي بالقبول والعمل. « قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا » ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر:

فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا



قوله تعالى: « أولو كان آباؤهم » الألف للاستفهام، وفتحت الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم.

مسألة: قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، ونظيرها: « وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا » [ المائدة: 104 ] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن اللّه سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل اللّه على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في « لهم » عائد عليهم في الآيتين جميعا.



تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم اللّه تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.

التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم:

وقلدوا أمركم لله دركم ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا

التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.



فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » [ النحل: 43 ] ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين.



قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب « الانتصار » له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى: « إنا وجدنا آباءنا على أمة » [ الزخرف: 23 ] . فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل، كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم في دينه، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد، واللّه يهدي من يريد.

قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي اللّه عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم اللّه بقوله: « ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا » [ الأحزاب: 67 ] إلى قوله: « كبيرا » وقوله: « إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » [ الزخرف: 23 ] . ثم قال لنبيه: « قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون » [ الزخرف: 24 ] ثم قال لنبيه عليه السلام « فانتقمنا منهم » الآية. فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الأمة، من قولهم: إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل، لأن هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن اللّه سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: « إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس » [ يوسف:38 ] . فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاؤوا به ذكر الأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها.

قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الأمر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك.

فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبدالله بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم وكان من درج من المسلمين من هذه الأمة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف.

قلت: ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، واللّه أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن، وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.



الآية: 171 ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون )



شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الإيجاز. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به. والمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري: المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا، أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل:

انعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا

قال القتبي: لم يكن جرير راعي ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون: « أجهل من راعي ضأن » . قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد. وقد تضم النون في النداء والأصل الكسر. ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمي. وقد تقدم في أول السورة.



الآية: 172 ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون )



هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال « يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم » [ المؤمنون: 51 ] وقال: « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام [ ومشربه حرام ] وملبسه حرام [ وغذي بالحرام ] فأنى يستجاب لذلك ) . « واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون » تقدم معنى الشكر فلا معنى للإعادة.


هدى من الله
Admin
Admin

عدد المساهمات : 10627
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء سبتمبر 05, 2012 9:05 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 173 ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )



قوله تعالى: « إنما حرم عليكم » « إنما » كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة « إنما » الحاصرة، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة: « قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه » [ الأنعام: 145 ] إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قاله ابن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.



قوله تعالى: « الميتة » نصب بـ « حرّم » ، و « ما » كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع « الميتة والدم ولحم الخنزير » على خبر « إن » وهي قراءة ابن أبي عبلة. وفي « حرم » ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: « إنما صنعوا كيد ساحر » [ طه: 69 ] . وقرأ أبو جعفر « حرم » بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا « الميتة » بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه « ميت » بالتخفيف، دليله قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » [ الزمر: 30 ] . وقال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير « وما هو بميت » والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:

إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد

فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والأول أشهر.



الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.

هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: ( أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال ) . أخرجه الدار قطني، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى: « أحل لكم صيد البحر » [ المائدة: 96 ] ، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء اللّه تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما.



وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب اللّه تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبدالحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في « الأعراف » عند ذكره، إن شاء اللّه تعالى.



واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال: ( هلا أخذتم إهابها ) الحديث. وقال مرة: جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة » ، وأيضا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) . وفي حديث عبدالله بن عكيم؟؟ ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في « النحل » إن شاء اللّه تعالى.



فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: ( إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه ) . خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.



واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) . ووجه قوله: لا يطهر، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم. وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة « الفرقان » . والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، واللّه تعالى أعلم.



وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روي عن أم سلمة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ) . ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة « النحل » إن شاء اللّه تعالى.



وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام: ( إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه ) . واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه.

فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال: ( لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر.



واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد.



فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] . وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل. وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء.

قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بأنفحة ميته أو ذكي. قيل له: قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفخة ذبائحهم.

وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة. وفي سنن ابن ماجة « الجبن والسمن » حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء. فقال: ( الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرم اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) .



قوله تعالى: « والدم » اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لأن اللّه تعالى قال: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ، وقال في موضع آخر « قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] . فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي اللّه عنها قالت: ( كنا نطبخ البرمة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره ) لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك.

قلت: ذكر اللّه سبحانه وتعالى الدم ههنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله « مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] وحمل العلماء ههنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته.

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس أبيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية.



قوله تعالى: « ولحم الخنزير » خص اللّه تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها.

أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير. وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم اللّه تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم. وحرم اللّه تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله: « حرمنا عليهم شحومهما » [ الأنعام: 146 ] فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث واللّه تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم.



لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: ( لا بأس بذلك ) ذكره ابن خويز منداد، قال: ولأن الخرازة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه.

لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم، وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.



ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها. رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة.



قوله تعالى: « وما أهل به لغير الله » أي ذكر عليه غير اسم اللّه تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى في سورة « المائدة » . والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة:

يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة:

أو درة صدفية غواصها بهيج متى يرها يهل ويسجد

ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة « المائدة » إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير اللّه به، فتركها الناس. قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم.

قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي اللّه عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدوم عليها. قالت: ( كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم ) .



قوله تعالى: « فمن اضطر » قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرأ ابن محيصن « فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السمال « فمن اضطر » بكسر الطاء. وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء.

الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية اللّه تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه.

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجعنا إليه فقال: ( إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد اللّه أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا ) قالوا لا، فقال: ( إن هذه كذلك ) . قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: ( كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل ) . خرجه ابن ماجة رحمه اللّه، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا يا رسول اللّه، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: ( يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل ) . قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم اللّه الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة.



خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ( ح ) وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: ( ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا ) فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.

قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه اللّه، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيداللّه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة ) . قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: ( من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ) . قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي اللّه عنه: ( إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا ) . قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ( ولا يتخذ خبنة ) . يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته.

قلت: لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو الآن في بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم واللّه أعلم.

وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئه، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي سبيل اللّه، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا - رضوان اللّه عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرهم صلى اللّه عليه وسلم أنه حلال وقال: ( هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ) فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها.



فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن اللّه تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن اللّه تعالى قال في الخنزير « فإنه رجس » ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها « رجس » فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة.



روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي.



فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة. ابن العربي: « أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين اللّه تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند اللّه تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولخم ابن آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) . وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، واللّه أعلم. »



سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إليّ من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة.



روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبىّ فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: ( هل عندك غنى يغنيك ) قال لا، قال: ( فكلوها ) قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثاني: يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: ( ما طعامكم ) قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية قال: ( ذاك وأبي الجوع ) . قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشيء. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم.

وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعا. ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: ( إن اللّه لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ) ، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال: ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) . رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، واللّه أعلم.



قوله تعالى: « غير باغ » « غير » نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت « غير » يصلح في موضعه « في » فهي حال، وإذا صلح موضعها « إلا » فهي استثناء، فقس عليه. و « باغ » أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة « غير باغ » في أكله فوق حاجته، « ولا عاد » بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي: « غير باغ » في أكلها شهوة وتلذذا، « ولا عاد » باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى « غير باغ » على المسلمين « ولا عاد » عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال اللّه تعالى: « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء » [ النور: 33 ] . وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر:

لا يمنعك من بغا ء الخير تعقاد الرتائم

إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم



قوله تعالى: « ولا عاد » أصل « عاد » عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والأصل شائك وهائر ولائث، من لثت العمامة. فأباح اللّه في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم.



واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لأن اللّه سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا.

قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو اللّه عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا.

قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر أو يقال لهما: ضيعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: « وروى زياد بن عبدالرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى: » فمن اضطر غير باغ ولا عاد « فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا. والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، واللّه أعلم » .

قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، ومنظوما الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد ولا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل.



قوله تعالى: « إن الله غفور رحيم » أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.



الآية: 174 ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )



قوله تعالى: « إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب » يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته. ومعنى « أنزل » : أظهر، كما قال تعالى: « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » [ الأنعام: 93 ] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله. « ويشترون به » أي بالمكتوم « ثمنا قليلا » يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا.

قلت: وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم هذا المعنى.



قوله تعالى: « في بطونهم » ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى « إلا النار » أي إنه حرام يعذبهم اللّه عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا » [ النساء: 10 ] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم:

لدوا للموت وابنوا للخراب

قال:

فللموت ما تلد الوالدة

آخر:

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وهو في القرآن والشعر كثير.



قوله تعالى: « ولا يكلمهم الله » عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى « ولا يكلمهم » بما يحبونه. وفي التنزيل « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] . وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. « ولا يزكيهم » أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء. « أليم » بمعنى مؤلم، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى « لا ينظر إليهم » لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في « آل عمران » إن شاء اللّه تعالى.



الآية: 175 ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار )



قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة » تقدم القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي طرحوه دخلا في تجوز الشراء.



قوله تعالى: « فما أصبرهم على النار » مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن « ما » معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل: « قتل الإنسان ما أكفره » [ عبس: 17 ] و « أسمع بهم وأبصر » [ مريم: 38 ] . وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم واللّه عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على اللّه؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: « ما » استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أكثر شيء صبرهم على عمل أهل النار؟ وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.



الآية: 176 ( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )



قوله تعالى: « ذلك » في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الأمر ذلك، أو ذلك الأمر، أو ذلك العذاب لهم. قال الأخفش: وخبر « ذلك » مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم. « بأن الله نزل الكتاب » يعني القرآن في هذا الموضع « بالحق » أي بالصدق. وقيل بالحجة. « وإن الذين اختلفوا في الكتاب » يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها. وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله.



هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء سبتمبر 05, 2012 9:24 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 177 ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )



قوله تعالى: « ليس البر » اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر، فأنزل اللّه هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن باللّه.



قرأ حمزة وحفص « البر » بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد « ليس » : « البر » نصبه، وجعل « أن تولوا » الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون « البر » بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره « أن تولوا » ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: « ما كان حجتهم إلا أن قالوا » [ الجاثية: 25 ] ، « ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا » [ الروم: 10 ] « فكان عاقبتهما أنهما في النار » [ الحشر: 17 ] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » [ البقرة: 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء « ليس البر بأن تولوا » وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان.



قوله تعالى: « ولكن البر من آمن بالله » البر ههنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ البقرة: 93 ] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر:

فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: « هم درجات عند الله » [ آل عمران: 163 ] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل اللّه هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن باللّه، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون « البر » بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: « إن أصبح ماؤكم غورا » [ الملك: 30 ] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت « ولكن البر » بفتح الباء.



قوله تعالى: « وآتى المال على حبه » استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن في المال حقا سوى الزكاة ) ثم تلا هذه الآية « ليس البر أن تولوا وجوهكم » إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وقال: « هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح » .

قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: « وأقام الصلاة وآتى الزكاة » فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: « وآتى المال على حبه » ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، واللّه أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه اللّه: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.



قوله تعالى: « على حبه » الضمير في « حبه » اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطي للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب « ذوي القربى » بالحب، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى 0 وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجيء قوله « على حبه » اعتراضا بليغا أثناء القول.

قلت: ونظيره قوله الحق: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا » [ الإنسان: 8 ] فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: « ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك » [ النساء: 124 ] وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله « على حبه » وقوله: « وهو مؤمن » [ النساء: 124 ] ، ومنه قول زهير:

من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا

وقال امرؤ القيس:

على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان

فقوله: « على علاته » و « قبل سؤاله » تتميم حسن، ومنه قول عنترة:

أثني علي بما علمت فإنني سهل مخالفتي إذا لم أظلم

فقوله: « إذا لم أظلم » تتميم حسن. وقال طرفة:

فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي

وقال الربيع بن ضبع الفزاري:

فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان

فقوله: « غير مفسدها » ، و « إلا أحاديثه » تتميم واحتراس. وقال أبو هفان:

فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب

فقوله: « غير ظالم » و « غير عائب » تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم » [ آل عمران: 180 ] أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل: يعود على اسم اللّه تعالى في قوله « من آمن باللّه » . والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء.

واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا.



قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا » أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس. « والصابرين في البأساء والضراء » البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: ( يقول اللّه تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب ) قيل: يا رسول اللّه، ما لحم خير من لحمه؟ قال: ( لحم لم يذنب ) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: ( دم لم يذنب ) . والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت. « وحين البأس » أي وقت الحرب.



قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين » فقيل: يكون « الموفون » عطفا على « من » لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش. « والصابرين » نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] . وأنشد الكسائي:

وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد أبو عبيدة:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر:

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: « ملعونين أينما ثقفوا » [ الأحزاب: 61 ] الآية. وقال عروة بن الورد:

سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور

وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] ، وفي سورة المائدة « والصابئون » [ المائدة: 69 ] . والجواب ما ذكرناه. وقيل: « الموفون » رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: « والصابرين » عطف على « ذوي القربى » كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: « وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت « والصابرين » ونسقته على « ذوي القربى » دخل في صلة » من « وإذا رفعت » والموفون « على أنه نسق على » من « فقد نسقت على » من « من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف » . وقال الكسائي: وفي قراءة عبدالله « والموفين، والصابرين » . وقال النحاس: « يكونان منسوقين على « ذوي القربى » أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبدالله في النساء » والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة « [ النساء: 162 ] . وقرأ يعقوب والأعمش » والموفون والصابرون « بالرفع فيهما. وقرأ الجحدري » بعهودهم « . وقد قيل: إن » والموفون « عطف على الضمير الذي في » آمن « . وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن باللّه هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله » من آمن « تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.»



قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في « الكتاب الأسنى » - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل: الضيف - والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في موضعها إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون » وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف الكذب ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ) .



الآية: 178 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )



روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: « كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة: » كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء « فالعفو أن يقبل الدية في العمد » فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان « يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان » ذلك تخفيف من ربكم ورحمة « مما كتب على من كان قبلكم » فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم « قتل بعد قبول الدية » . هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول: وقال الشعبي في قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقبل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة.



قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص » « كتب » معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وقد قيل: إن « كتب » هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه « فارتدا على آثارهما قصصا » [ الكهف: 64 ] . وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.



صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: ( إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) . قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: [ القتل أوقى للقتل ] بالواو والقاف، ويروي [ أبقى ] بالباء والقاف، ويروى [ أنفى ] بالنون والفاء، فنهاهم اللّه عن البغي فقال: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » الآية، وقال « ولكم في القصاص حياة » [ البقرة: 179 ] . وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.


لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فإن قوله تعالى « كتب عليكم » معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى، وشبههن.



قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية « المائدة » وهو قول أهل العراق.



قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى » فعم، وقوله: « وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة.

قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: « ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض » فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء اللّه تعالى.



والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر ) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني: « لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله » .

قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى » الآية، وعموم قوله: « النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] .


روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير.

ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.



وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى، على ما تقدم.

قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل عبده قتلناه ) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: « ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل » [ الإسراء: 33 ] والولي ههنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه « . وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ( ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ) . »

فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين.

قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: ( ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) . وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واللّه أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول أصح.


روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: « هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد » . وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن.

قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الأجنبي بمثل هذا. ابن العربي: « سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يقاد الوالد بولده ) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله » . قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به.


وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » [ المائدة: 45 ] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: ( اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ) خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار ) . وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم. وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه.


روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ) ، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ) . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.



اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] . وقوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » أي ترك له دمه في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية « فاتباع بالمعروف » أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال: ( القصاص كتاب اللّه، القصاص كتاب اللّه ) ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود ) . فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول: تأخذ به نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.


قوله تعالى: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » اختلف العلماء في تأويل « من » و « عفي » على تأويلات خمس:

أحدها أن « من » يراد بها القاتل، و « عفي » تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و « شيء » هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.

الثاني: وهو قول مالك أن « من » يراد به الولي « وعفي » يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و « شيء » هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى « عفي » بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال اللّه تعالى: « خذ العفو » [ الأعراف: 199 ] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني شهد اللّه على عباده. فكأنه قال: من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة « المائدة » « فمن تصدق به فهو كفارة له » [ المائدة: 45 ] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.

وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون « عفي » بمعنى فضل.

روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال عليه السلام: ( القتل سواء ) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الآخر، فهو قوله: « كتب » إلى قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ.

وتأويل خامس: وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و « عفي » في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.



هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب « فاتباع » وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن « فاتباعا » و « أداء » بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « فاتباعا » بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] .



قوله تعالى: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا.



قوله تعالى: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم ] قاتل وليه. « فله عذاب أليم » قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية.

واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية ) . وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبدالعزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ) .



الآية: 179 ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )



قوله تعالى: « ولكم في القصاص حياة » هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.

اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.

وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام اللّه عز وجل، لقوله جل ذكره: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( تعال فاستقد ) . قال: بل عفوت يا رسول اللّه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقص من نفسه. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه.



قوله تعالى: « لعلكم تتقون » تقدم معناه. والمراد هنا « تتقون » القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللّه يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبدالله الربعي « ولكم في القصص حياة » . قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب اللّه الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 06, 2012 2:31 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 173 ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )



قوله تعالى: « إنما حرم عليكم » « إنما » كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حصرت ههنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم » فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة « إنما » الحاصرة، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة: « قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه » [ الأنعام: 145 ] إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قاله ابن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.



قوله تعالى: « الميتة » نصب بـ « حرّم » ، و « ما » كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع « الميتة والدم ولحم الخنزير » على خبر « إن » وهي قراءة ابن أبي عبلة. وفي « حرم » ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: « إنما صنعوا كيد ساحر » [ طه: 69 ] . وقرأ أبو جعفر « حرم » بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا « الميتة » بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه « ميت » بالتخفيف، دليله قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » [ الزمر: 30 ] . وقال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير « وما هو بميت » والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:

إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد

فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والأول أشهر.



الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى.

هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: ( أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال ) . أخرجه الدار قطني، وكذلك حديث جابر في العنبر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى: « أحل لكم صيد البحر » [ المائدة: 96 ] ، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء اللّه تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما.



وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب اللّه تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبدالحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن المحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتي لحكم الجراد مزيد بيان في « الأعراف » عند ذكره، إن شاء اللّه تعالى.



واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال: ( هلا أخذتم إهابها ) الحديث. وقال مرة: جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لأن المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: « حرمت عليكم الميتة » ، وأيضا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) . وفي حديث عبدالله بن عكيم؟؟ ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) . وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الأخبار والكلام عليها في « النحل » إن شاء اللّه تعالى.



فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة واستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: ( إن شئتم فكلوه لأن ذكاته ذكاة أمه ) . خرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.



واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أو لا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) . ووجه قوله: لا يطهر، بأنه جزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم. وتحمل الأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لأن الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة « الفرقان » . والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، واللّه تعالى أعلم.



وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روي عن أم سلمة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل ) . ولأنه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لأن اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة « النحل » إن شاء اللّه تعالى.



وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام: ( إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه ) . واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لأن الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه.

فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الأولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لأن ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الأشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لأن النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال: ( لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وأن اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر.



واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره فمات فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد.



فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى « حرمت عليكم الميتة » [ المائدة: 3 ] . وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل. وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لأن البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء.

قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف الإجماع، وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بأنفحة ميته أو ذكي. قيل له: قدر ما يقع من الأنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفخة ذبائحهم.

وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة. وفي سنن ابن ماجة « الجبن والسمن » حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء. فقال: ( الحلال ما أحل اللّه في كتابه والحرام ما حرم اللّه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) .



قوله تعالى: « والدم » اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لأن اللّه تعالى قال: « حرمت عليكم الميتة والدم » [ المائدة: 3 ] ، وقال في موضع آخر « قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] . فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي اللّه عنها قالت: ( كنا نطبخ البرمة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره ) لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك.

قلت: ذكر اللّه سبحانه وتعالى الدم ههنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله « مسفوحا » [ الأنعام: 145 ] وحمل العلماء ههنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته.

قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس أبيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية.



قوله تعالى: « ولحم الخنزير » خص اللّه تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها.

أجمعت الأمة على تحريم شحم الخنزير. وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لأن اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم اللّه تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم. وحرم اللّه تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله: « حرمنا عليهم شحومهما » [ الأنعام: 146 ] فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث واللّه تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم.



لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: ( لا بأس بذلك ) ذكره ابن خويز منداد، قال: ولأن الخرازة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه.

لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبى مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم تقولون خنزيرا وقد تقدم، وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء اللّه تعالى.



ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها. رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة.



قوله تعالى: « وما أهل به لغير الله » أي ذكر عليه غير اسم اللّه تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى في سورة « المائدة » . والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة:

يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة:

أو درة صدفية غواصها بهيج متى يرها يهل ويسجد

ومنه إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة « المائدة » إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير اللّه به، فتركها الناس. قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم.

قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي اللّه عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدوم عليها. قالت: ( كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم ) .



قوله تعالى: « فمن اضطر » قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرأ ابن محيصن « فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السمال « فمن اضطر » بكسر الطاء. وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء.

الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية اللّه تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه.

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجعنا إليه فقال: ( إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد اللّه أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا ) قالوا لا، فقال: ( إن هذه كذلك ) . قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: ( كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل ) . خرجه ابن ماجة رحمه اللّه، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا يا رسول اللّه، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: ( يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل ) . قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم اللّه الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ما له من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة.



خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ( ح ) وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: ( ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا ) فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.

قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه اللّه، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيداللّه عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة ) . قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: ( من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ) . قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي اللّه عنه: ( إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا ) . قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ( ولا يتخذ خبنة ) . يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته.

قلت: لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو الآن في بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم واللّه أعلم.

وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئه، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي سبيل اللّه، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا - رضوان اللّه عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرهم صلى اللّه عليه وسلم أنه حلال وقال: ( هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ) فأرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها.



فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن اللّه تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن اللّه تعالى قال في الخنزير « فإنه رجس » ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها « رجس » فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة.



روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي.



فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة. ابن العربي: « أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين اللّه تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند اللّه تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولخم ابن آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) . وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، واللّه أعلم. »



سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إليّ من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة.



روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبىّ فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: ( هل عندك غنى يغنيك ) قال لا، قال: ( فكلوها ) قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثاني: يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: ( ما طعامكم ) قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية قال: ( ذاك وأبي الجوع ) . قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشيء. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم.

وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعا. ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: ( إن اللّه لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ) ، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال: ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) . رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، واللّه أعلم.



قوله تعالى: « غير باغ » « غير » نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت « غير » يصلح في موضعه « في » فهي حال، وإذا صلح موضعها « إلا » فهي استثناء، فقس عليه. و « باغ » أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة « غير باغ » في أكله فوق حاجته، « ولا عاد » بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي: « غير باغ » في أكلها شهوة وتلذذا، « ولا عاد » باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى « غير باغ » على المسلمين « ولا عاد » عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال اللّه تعالى: « ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء » [ النور: 33 ] . وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر:

لا يمنعك من بغا ء الخير تعقاد الرتائم

إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم



قوله تعالى: « ولا عاد » أصل « عاد » عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والأصل شائك وهائر ولائث، من لثت العمامة. فأباح اللّه في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم.



واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لأن اللّه سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا.

قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو اللّه عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا.

قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر أو يقال لهما: ضيعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: « وروى زياد بن عبدالرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى: » فمن اضطر غير باغ ولا عاد « فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا. والمسافر على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الإباحة، واللّه أعلم » .

قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الأصوليين، ومنظوما الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد ولا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل.



قوله تعالى: « إن الله غفور رحيم » أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.



الآية: 174 ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )



قوله تعالى: « إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب » يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته. ومعنى « أنزل » : أظهر، كما قال تعالى: « ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله » [ الأنعام: 93 ] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله. « ويشترون به » أي بالمكتوم « ثمنا قليلا » يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا.

قلت: وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم هذا المعنى.



قوله تعالى: « في بطونهم » ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى « إلا النار » أي إنه حرام يعذبهم اللّه عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا » [ النساء: 10 ] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم:

لدوا للموت وابنوا للخراب

قال:

فللموت ما تلد الوالدة

آخر:

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وهو في القرآن والشعر كثير.



قوله تعالى: « ولا يكلمهم الله » عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى « ولا يكلمهم » بما يحبونه. وفي التنزيل « اخسؤوا فيها ولا تكلمون » [ المؤمنون: 108 ] . وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. « ولا يزكيهم » أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء. « أليم » بمعنى مؤلم، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى « لا ينظر إليهم » لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في « آل عمران » إن شاء اللّه تعالى.



الآية: 175 ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار )



قوله تعالى: « أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة » تقدم القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي طرحوه دخلا في تجوز الشراء.



قوله تعالى: « فما أصبرهم على النار » مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن « ما » معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل: « قتل الإنسان ما أكفره » [ عبس: 17 ] و « أسمع بهم وأبصر » [ مريم: 38 ] . وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم واللّه عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على اللّه؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: « ما » استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أكثر شيء صبرهم على عمل أهل النار؟ وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 06, 2012 2:37 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 176 ( ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )



قوله تعالى: « ذلك » في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الأمر ذلك، أو ذلك الأمر، أو ذلك العذاب لهم. قال الأخفش: وخبر « ذلك » مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم. « بأن الله نزل الكتاب » يعني القرآن في هذا الموضع « بالحق » أي بالصدق. وقيل بالحجة. « وإن الذين اختلفوا في الكتاب » يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها. وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله.



الآية: 177 ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )



قوله تعالى: « ليس البر » اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر، فأنزل اللّه هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن باللّه.



قرأ حمزة وحفص « البر » بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد « ليس » : « البر » نصبه، وجعل « أن تولوا » الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون « البر » بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره « أن تولوا » ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: « ما كان حجتهم إلا أن قالوا » [ الجاثية: 25 ] ، « ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا » [ الروم: 10 ] « فكان عاقبتهما أنهما في النار » [ الحشر: 17 ] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » [ البقرة: 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء « ليس البر بأن تولوا » وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان.



قوله تعالى: « ولكن البر من آمن بالله » البر ههنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ البقرة: 93 ] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر:

فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: « هم درجات عند الله » [ آل عمران: 163 ] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل اللّه هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن باللّه، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون « البر » بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: « إن أصبح ماؤكم غورا » [ الملك: 30 ] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت « ولكن البر » بفتح الباء.



قوله تعالى: « وآتى المال على حبه » استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن في المال حقا سوى الزكاة ) ثم تلا هذه الآية « ليس البر أن تولوا وجوهكم » إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وقال: « هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح » .

قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: « وأقام الصلاة وآتى الزكاة » فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: « وآتى المال على حبه » ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، واللّه أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه اللّه: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.



قوله تعالى: « على حبه » الضمير في « حبه » اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطي للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب « ذوي القربى » بالحب، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى 0 وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجيء قوله « على حبه » اعتراضا بليغا أثناء القول.

قلت: ونظيره قوله الحق: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا » [ الإنسان: 8 ] فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: « ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك » [ النساء: 124 ] وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله « على حبه » وقوله: « وهو مؤمن » [ النساء: 124 ] ، ومنه قول زهير:

من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا

وقال امرؤ القيس:

على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان

فقوله: « على علاته » و « قبل سؤاله » تتميم حسن، ومنه قول عنترة:

أثني علي بما علمت فإنني سهل مخالفتي إذا لم أظلم

فقوله: « إذا لم أظلم » تتميم حسن. وقال طرفة:

فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي

وقال الربيع بن ضبع الفزاري:

فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان

فقوله: « غير مفسدها » ، و « إلا أحاديثه » تتميم واحتراس. وقال أبو هفان:

فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب

فقوله: « غير ظالم » و « غير عائب » تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم » [ آل عمران: 180 ] أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل: يعود على اسم اللّه تعالى في قوله « من آمن باللّه » . والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء.

واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا.



قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا » أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس. « والصابرين في البأساء والضراء » البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: ( يقول اللّه تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب ) قيل: يا رسول اللّه، ما لحم خير من لحمه؟ قال: ( لحم لم يذنب ) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: ( دم لم يذنب ) . والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت. « وحين البأس » أي وقت الحرب.



قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين » فقيل: يكون « الموفون » عطفا على « من » لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش. « والصابرين » نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] . وأنشد الكسائي:

وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد أبو عبيدة:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر:

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: « ملعونين أينما ثقفوا » [ الأحزاب: 61 ] الآية. وقال عروة بن الورد:

سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور

وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] ، وفي سورة المائدة « والصابئون » [ المائدة: 69 ] . والجواب ما ذكرناه. وقيل: « الموفون » رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: « والصابرين » عطف على « ذوي القربى » كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: « وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت « والصابرين » ونسقته على « ذوي القربى » دخل في صلة » من « وإذا رفعت » والموفون « على أنه نسق على » من « فقد نسقت على » من « من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف » . وقال الكسائي: وفي قراءة عبدالله « والموفين، والصابرين » . وقال النحاس: « يكونان منسوقين على « ذوي القربى » أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبدالله في النساء » والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة « [ النساء: 162 ] . وقرأ يعقوب والأعمش » والموفون والصابرون « بالرفع فيهما. وقرأ الجحدري » بعهودهم « . وقد قيل: إن » والموفون « عطف على الضمير الذي في » آمن « . وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن باللّه هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله » من آمن « تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.»



قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في « الكتاب الأسنى » - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل: الضيف - والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في موضعها إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون » وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف الكذب ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ) .



الآية: 178 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )



روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: « كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة: » كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء « فالعفو أن يقبل الدية في العمد » فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان « يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان » ذلك تخفيف من ربكم ورحمة « مما كتب على من كان قبلكم » فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم « قتل بعد قبول الدية » . هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول: وقال الشعبي في قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقبل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة.



قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص » « كتب » معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وقد قيل: إن « كتب » هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه « فارتدا على آثارهما قصصا » [ الكهف: 64 ] . وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.



صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: ( إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) . قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: [ القتل أوقى للقتل ] بالواو والقاف، ويروي [ أبقى ] بالباء والقاف، ويروى [ أنفى ] بالنون والفاء، فنهاهم اللّه عن البغي فقال: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » الآية، وقال « ولكم في القصاص حياة » [ البقرة: 179 ] . وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.



لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فإن قوله تعالى « كتب عليكم » معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى، وشبههن.



قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية « المائدة » وهو قول أهل العراق.



قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى » فعم، وقوله: « وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة.

قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: « ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض » فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء اللّه تعالى.



والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر ) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني: « لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله » .

قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى » الآية، وعموم قوله: « النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] .



روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير.

ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.



وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى، على ما تقدم.

قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل عبده قتلناه ) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: « ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل » [ الإسراء: 33 ] والولي ههنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه « . وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ( ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ) . »

فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين.

قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: ( ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) . وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واللّه أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول أصح.



روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: « هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد » . وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن.

قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الأجنبي بمثل هذا. ابن العربي: « سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يقاد الوالد بولده ) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله » . قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به.


وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » [ المائدة: 45 ] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: ( اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ) خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار ) . وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم. وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه.


روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ) ، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ) . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.


اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] . وقوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » أي ترك له دمه في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية « فاتباع بالمعروف » أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال: ( القصاص كتاب اللّه، القصاص كتاب اللّه ) ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود ) . فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول: تأخذ به نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.



قوله تعالى: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » اختلف العلماء في تأويل « من » و « عفي » على تأويلات خمس:

أحدها أن « من » يراد بها القاتل، و « عفي » تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و « شيء » هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.

الثاني: وهو قول مالك أن « من » يراد به الولي « وعفي » يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و « شيء » هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى « عفي » بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال اللّه تعالى: « خذ العفو » [ الأعراف: 199 ] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني شهد اللّه على عباده. فكأنه قال: من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة « المائدة » « فمن تصدق به فهو كفارة له » [ المائدة: 45 ] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.

وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون « عفي » بمعنى فضل.

روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال عليه السلام: ( القتل سواء ) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الآخر، فهو قوله: « كتب » إلى قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ.

وتأويل خامس: وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و « عفي » في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.



هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب « فاتباع » وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن « فاتباعا » و « أداء » بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « فاتباعا » بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] .



قوله تعالى: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا.


قوله تعالى: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم ] قاتل وليه. « فله عذاب أليم » قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية.

واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية ) . وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبدالعزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ) .



الآية: 179 ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )


قوله تعالى: « ولكم في القصاص حياة » هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.

اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.

وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام اللّه عز وجل، لقوله جل ذكره: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( تعال فاستقد ) . قال: بل عفوت يا رسول اللّه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقص من نفسه. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه.



قوله تعالى: « لعلكم تتقون » تقدم معناه. والمراد هنا « تتقون » القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللّه يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبدالله الربعي « ولكم في القصص حياة » . قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب اللّه الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 06, 2012 2:42 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 180 ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين )



قوله تعالى: « كتب عليكم » هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي « النساء » : « من بعد وصية » [ النساء: 12 ] وفي « المائدة » : « حين الوصية » . [ المائدة: 106 ] والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال: « لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » [ الليل: 15 - 16 ] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و « كتب » معناه فرض وأثبت، كما تقدم. وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم:

يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت

وقال عنترة:

وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان

وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:

أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاء

إن قيل: لم قال « كتب » ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل.



قوله تعالى: « إن ترك خيرا » « إن » شرط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر:

من يفعل الحسنات اللّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه مثلان

والجواب الأخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل « الوصية » في « إذا » لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » : « كتب » والمعنى: توجه إيجاب اللّه إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا.



قوله تعالى: « خيرا » الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي: ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية ( بالكسر والفتح ) . وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.



اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. واكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهري وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لأن اللّه فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وفي رواية ( يبيت ثلاث ليال ) وفيها قال عبدالله بن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه.

فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: « كتب عليكم » وكتب فرض، فدل على وجوب الوصية قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى: إذا أردتم الوصية، واللّه أعلم. وقال النخعي: مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه.



لم يبين اللّه تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: « إن ترك خيرا » والخير المال، كقوله: « وما تنفقوا من خير » [ البقرة: 272 ] ، « وإنه لحب الخير » [ العاديات: 8 ] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي اللّه عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: ( لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أوصي بالثلث ) واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان اللّه عليهم أجمعين. روى بن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة. قالت: ( إن اللّه تعالى يقول: « إن ترك خيرا » وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك )



ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بمال كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) الحديث، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان:

أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي. عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبدالله: ( إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبدالله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. )

وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه اللّه: الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) . قال أبو الفرج المالكي: المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لأنه أجل آت لا محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: هو وصية، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان الثوري.



واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية، إلا أن الشافعي قال: لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة. وليس قوله: - قد رجعت - رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حتى يموت فإنه يعتق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب: هو مدبر وإن لم يرد الوصية.



اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة، فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض. وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام: ( إن اللّه قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) . رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم اللّه تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وقد تقدم هذا المعنى. ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. واللّه أعلم.

وقال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة « النساء » وثبتت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.

وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه اللّه، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال الربيع بن خثيم: لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله » [ الأنفال: 75 ] . ونحو هذا صنع ابن عمر رضي اللّه عنه.



قوله تعالى: « والأقربين » الأقربون جمع أقرب. قال قوم: الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص اللّه تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية. وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم بن عبدالله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن له ذلك ولا كرامة. وقال طاوس: إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهوية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو وقول ابن عمر وابن عباس.

قلت: القول الأول أحسن، وأما أبو العالية رضي اللّه عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى. وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، واللّه أعلم.



ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر فقالوا: لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم. قال سعد: عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول اللّه، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ( لا ) ، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ( لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) الحديث.

ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة، وهو الصحيح، لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم. وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) . وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة ) .



واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا. هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ههنا. واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء. واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات.

فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ، قال الأبهري. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهوية أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسنة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم.



واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل اللّه، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبدالرزاق يمضي في سبيل اللّه.



لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز وصية الصبي. وقال المزني: وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة. ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي اللّه عنه. وقال مالك: إنه الأمر المجمع عليه عندهم بالمدينة، وباللّه التوفيق. وقال محمد بن شريح: من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فاللّه قضاه على لسانه ليس للحق مدفع.



قوله تعالى: « بالمعروف » يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى اللّه سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه عليه السلام، فقال عليه السلام: ( الثلث والثلث كثير ) ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة ) . أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى: « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » [ المائدة: 49 ] وحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل اللّه. فمن تجاوز ما حده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عالما. وقال الشافعي: وقوله ( الثلث كثير ) يريد أنه غير قليل.



قوله تعالى: « حقا على المتقين » يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله: « على المتقين » وهذا يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص اللّه من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى. وانتصب « حقا » على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن « حق » بمعنى ذلك حق.



قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية. وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه.



روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم ( هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور. وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى اللّه حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا اللّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن اللّه أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .



الآية: 181 ( فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم )



قوله تعالى: « فمن بدله » شرط، وجوابه « فإنما إثمه على الذين يبدلونه » و « ما » كافة « لإن » عن العمل. و « إثمه » رفع بالابتداء، « على الذين يبدلونه » موضع الخبر. والضمير في « بدله » يرجع إلى الإيصاء، لأن الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك الضمير في « سمعه » ، وهو كقوله: « فمن جاءه موعظة من ربه » [ البقرة:275 ] أي وعظ، وقوله: « إذا حضر القسمة » [ النساء: 8 ] أي المال، بدليل قوله « منه » . ومثله قول الشاعر:

ما هذه الصوت

أي الصيحة. وقال امرؤ القيس:

برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر

والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة. و « سمعه » يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في « إثمه » عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي. وقيل: إن هذا الموصي إذا غير الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم.



في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: « وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه » .

ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر.



قوله تعالى: « إن الله سميع عليم » صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين.



الآية: 182 ( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )



قوله تعالى: « فمن خاف » « من » شرط، و « خاف » بمعنى خشي. وقيل: علم. والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون « خاف » ليدلوا على الكسرة من فعلت. « من موص » بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لأن أكثر النحويين يقولون « موص » للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم. « جنفا » من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس. وقيل: الجنف الميل. قال الأعشى:

تجانف عن حجر اليمامة ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا

وفي الصحاح: « الجنف » الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه قوله تعالى: « فمن خاف من موص جنفا » . قال الشاعر:

هم المولى وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور

قال أبو عبيدة: المولى ههنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: « ثم يخرجكم طفلا » . وقال لبيد:

إني امرؤ منعت أرومة عامر ضيمي وقد جنفت علي خصومي

قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ ( بالهمز ) وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لإثم، أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى ( على فعلى بضم الفاء وفتح العين « : اسم موضع، عن ابن السكيت. » ) وروي عن علي أنه قرأ حيفا « بالحاء والياء، أي ظلما. وقال مجاهد: » فمن خاف « أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. » فلا إثم عليه « أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى. » إن الله غفور « عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية. وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق.»



الخطاب بقوله: « فمن خاف » لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.



في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.



قوله تعالى: « فأصلح بينهم » عطف على « خاف » ، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط « فلا إثم عليه » .



لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح ) الحديث، أخرجه أهل الصحيح. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة ) . وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع ) .



من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى الدارقطني عن معاوية ابن قرة عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب اللّه كانت كفارة لما ترك من زكاته ) . فإن ضر في الوصية وهي: فقد روى الدار قطني أيضا عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) . وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ) . وترجم النسائي « الصلاة على من جنف في وصيته » أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي اللّه عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فغضب من ذلك وقال: ( لقد هممت ألا أصلي عليه ) [ ثم دعا مملوكيه ] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: ( لقد هممت ألا أصلي عليه ) .



الآية: 183 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )



قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام » لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج ) رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال اللّه تعالى مخبرا عن مريم: « إني نذرت للرحمن صوما » [ مريم: 26 ] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على آريها: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال:

كأن الثريا علقت في مصامها

أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله:

والبكرات شرهن الصائما

يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس:

فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا

أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر:

حتى إذا صام النهار واعتدل وسال للشمس لعاب فنزل

وقال آخر:

نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما

أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير.

والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .



فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك الآن منها في فضل الصوم أن خصه اللّه بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال مخبرا عن ربه: ( يقول اللّه تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا.



قوله تعالى: « كما كتب » الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته « بكما » إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. و « ما » في موضع خفض، وصلتها: « كتب على الذين من قبلكم » . والضمير في « كتب » يعود على « ما » . واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهي:

قال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن اللّه تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه اللّه أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه اللّه لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين ) . وقال مجاهد: كتب اللّه عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي.

قلت: ولهذا - واللّه أعلم - كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: « كما كتب على الذين من قبلكم » . وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه اللّه تعالى بقوله: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » [ البقرة: 187 ] على ما يأتي بيانه، قاله السدي وأبو العالية والربيع. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: « كتب عليكم الصيام » أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، « كما كتب على الذين من قبلكم » وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك « بأيام معدودات » ثم نسخت الأيام برمضان.



قوله تعالى: « لعلكم تتقون » « لعل » ترج في حقهم، كما تقدم. و « تتقون » قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: ( الصيام جنة ووجاء ) وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 07, 2012 7:52 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
------------------------




الآية: 184 ( أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )



قوله تعالى: « أياما معدودات » « أياما » مفعول ثان « بكتب » ، قاله الفراء. وقيل: نصب على الظرف « لكتب » ، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، واللّه أعلم.



قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » للمريض حالتان: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. قال طريف بن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرع قال: إنه وجعت أصبعي هذه. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه اللّه تعالى.

قلت: قول ابن سيربن أعدل شيء في هذا الباب إن شاء اللّه تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهوية نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبدالله؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال اللّه تعالى: « فمن كان منكم مريضا » قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر.



قوله تعالى: « أو على سفر » اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا وقال مرة ستة وثلاثون ميلا وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية.

قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.



اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لأنه متأول في فطره. وقال أشهب: ليس عليه شيء من الكفارة سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبدالملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لأن الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة.

قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: « أو على سفر » . وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء اللّه تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت، صائما، فإذا خرجت فأخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل مفطرا. وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج. وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت. وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي ولا يكفر. قال مالك: لأن السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لأن السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض، لأن المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشيء، لأن اللّه سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم لا يفطر فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة اللّه كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه اللّه ولا رسوله صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: ( يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا ) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق.

قلت: وقد ترجم البخاري رحمه اللّه على هذه المسألة [ باب من أفطر في السفر ليراه الناس ] وساق الحديث عن ابن عباس قال: ( خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة ) . وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه، وباللّه التوفيق. وفيه أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: ( من صام في السفر قضى في الحضر ) وعن عبدالرحمن بن عوف: ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( ليس من البر الصيام في السفر ) . وفيه أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبدالملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لأن المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره. وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قاله أبو عمر.



واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: ( سافرنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهما قالا: ( الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه ) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول اللّه تعالى: « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » [ البقرة:185 ]



قوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما. وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله: « فعدة » يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده.



قوله تعالى: « فعدة » ارتفع « عدة » على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة. وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام. وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. ومنه عدة المرأة. « من أيام أخر » لم ينصرف « أخر » عند سيبوبه لأنها معدولة عن الألف واللام، لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، نحو الكبر والفضل. وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف. وقيل: منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة لأيام، ولم يجيء أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة. وقيل: إن « أخر » جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر. وقيل: إن نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر.



اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدار قطني في « سننه » ، فروي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: نزلت « فعدة من أيام أخر متتابعات » فسقطت « متتابعات » قال هذا إسناد صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه ) في إسناده عبدالرحمن بن إبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان « صمه كيف شئت » . وقال ابن عمر: « صمه كما أفطرته » . وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: ( ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فاللّه أحق أن يعفو ويغفر ) . إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا. وفي موطأ مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر. قال الباجي في المنتقى: يحتمل أن يريد الإخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الإخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله: « فعدة من أيام أخر » ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه « . ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. لما قال تعالى: « فعدة من أيام أخر » دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول اللّه، أو برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. في رواية: وذلك لمكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وهذا نص وزيادة بيان للآية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض. »



من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة.

فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم. وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا.

قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر اللّه الإطعام، إنما قال: « فعدة من أيام أخر » .

قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: ( يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا ) خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: ( يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا ) . في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان.

فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر ( أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء ) وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: ( إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني ولا قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي، فإذا أفطر قضاه ) إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس: ( استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ ) فقال: بل صححت، قال: ( صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا ) وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي.

واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا. وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل يوم.



واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شيء غير قضائه، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى، لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ههنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لإفطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم. وقال قتادة: على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن وهب وعبدالملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي - واللّه أعلم - أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لأنه يوم واحد أفسده مرتين.

قلت: وهو مقتضى قوله تعالى: « فعدة من أيام أخر » فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك، واللّه أعلم.



والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شيء عليه. وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح: يطعم عنه.

واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن الشافعي. وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) . إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر - وفي رواية صوم شهر - أفأصوم عنها؟ قال: ( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها ) قالت: نعم، قال: ( فصومي عن أمك ) . احتج مالك ومن وافقه بقول سبحانه: « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] وقوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 39 ] وقوله: « ولا تكسب كل نفس إلا عليها » [ الأنعام: 164 ] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان يوم مدا من حنطة ) .

قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: ( لا يصوم أحد عن أحد ) صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: ( صومي عنها ) قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: ( حجي عنها ) . فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، واللّه أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجليّ، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلا.



استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن اللّه تعالى يقول: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار وبقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس من البر الصيام في السفر ) .

قال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر ] . والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: ( سافرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ( غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ) .



قوله تعالى: « وعلى الذين يطيقونه » قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس « يطوقونه » بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد « يطيقونه » بالياء بعد الطاء على لفظ « يكيلونه » وهي باطلة ومحال، لأن الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر الأنباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لأبي ذؤيب:

فقيل تحمل فوق طوقك إنها مطبعة من يأتها لا يضيرها

فأظهر الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس « يطيقونه » بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار « يطوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لأن الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرأ أهل المدينة والشام « فدية طعام » مضافا « مساكين » جمعا. وقرأ ابن عباس « طعام مسكين » بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم منهم في اليوم إلا من غير الآية. وتخرج قراءة الجمع في « مساكين » لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: « والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة » [ النور: 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو عليّ. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لأن هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين » أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ « فدية طعام » قال: لأن الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ « فدية طعام » بالإضافة، لأن « فدية » مبهمة تقع للطعام وغيره، قصار مثل قولك: هذا ثوب خز.



واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: « وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها » وأن تصوموا خير لكم « . وعلى هذا قراءة الجمهور » يطيقونه « أي يقدرون عليه، لأن فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هده الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله » فمن شهد منكم الشهر فليصمه « [ البقرة: 185 ] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في » يطيقونه « يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: » ،وأن تصوموا « . ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة » يطوقونه « على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس - إن كان الإسناد عنه صحيحا - » يطيقونه « بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس » وعلى الذين يطيقونه « قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا » وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين « قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال: » وعلى الذين يطيقونه فدية طعام « ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. »

قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، واللّه أعلم. وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام. وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شيء عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إليّ. وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي اللّه عن جميعهم، وقوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » ثم قال: « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين » وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر.



واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صلى اللّه عليه وسلم عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم.



قوله تعالى: « فمن تطوع خيرا فهو خير له » قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد. ابن عباس: « فمن تطوع خيرا » قال: مسكينا آخر فهو خير له. ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و « خير » الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و « خير » الأول. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي « يطوع خيرا » مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون « تطوع » بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي.



قوله تعالى: « وأن تصوموا خير لكم » أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ أبيّ، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ. وقيل: « وأن تصوموا » في السفر والمرض غير الشاق واللّه أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا.



الآية: 185 ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )



قوله تعالى: « شهر رمضان » قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. وقد تقدم قول مجاهد: كتب اللّه رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، واللّه أعلم. والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته. ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش. والرمضاء ممدودة: شدة الحر، ومنه الحديث: ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ) . خرجه مسلم. ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان - فيما ذكروا - وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء. قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت. وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني، ومنه قيل: أرمضني الأمر. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. والرمضاء: الحجارة المحماة. وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق. ومنه نصل رميض ومرموض - عن ابن السكيت - ، وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية « ناتق » وأنشد للمفضل:

وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغي وولت على الأدبار فرسان خثعما

و « شهر » بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر « الذي أنزل فيه القرآن » . أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون « شهر » مبتدأ، و « الذي أنزل فيه القرآن » صفة، والخبر « فمن شهد منكم الشهر » . وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله تعالى: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 - 2 ] . وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل، قاله أبو علي. وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب « شهر » ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و « الذي أنزل فيه القرآن » نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو « خير لكم » . الرماني: يجوز نصبه على البدل من قول « أياما معدودات » [ البقرة: 184 ] .



واختلف هل يقال « رمضان » دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال اللّه تعالى. وفي الخبر: ( لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه اللّه في القرآن فقال شهر رمضان ) . وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء اللّه. وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى. ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ) . وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ) . وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول...، فذكره. قال البستي: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( أتاكم رمضان شهر مبارك فرض اللّه عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ) . وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله ( مردة الشياطين ) تقييد لقوله: ( صفدت الشياطين وسلسلت ) . وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ( إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة ) . وروى النسائي أيضا عن عبدالرحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن اللّه تعالى فرض صيام رمضان [ عليكم ] وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) . والآثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان. قال الشاعر:

جارية في درعها الفضفاض أبيض من أخت بني إباض

جارية في رمضان الماضي تقطع الحديث بالإيماض

وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، وما كتبناه من الأحاديث.


فرض اللّه صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي الشهر، كما جاء في الحديث: ( فإن غمي عليكم الشهر ) أي الهلال، وسيأتي، وقال الشاعر:

أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفر

حتى تكامل في استدارته في أربع زادت على عشر

وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه « وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم » [ النحل: 44 ] . وروى الأئمة الإثبات عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا العدد ) في رواية ( فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين ) . وقد ذهب مطرف بن عبدالله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي، لقوله عليه السلام: ( فإن أغمي عليكم فاقدروا له ) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى ( فاقدروا له ) فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة ( فأكملوا العدة ) . وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله « فاقدروا له » : أي قدروا المنازل. وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم. وقد روى ابن نافع عن مالك في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به ولا يتبع. قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعول على الحساب، وهي عثرة لا لعاً لها.


واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان. بشهادة واحد أو شاهدين، فقال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقبل الواحد، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. روى الدارقطني « أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام، أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط. وقال الشافعي بعد: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على كل مغيب » .



واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال، فروى الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم، لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. قال ابن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل. وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم ولا يفطر. قال ابن المنذر: يصوم ويفطر.


واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وإليه أشار البخاري حيث بوب: [ لأهل كل بلد رؤيتهم ] وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي. قال ابن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي.

قلت: ذكر الكيا الطبري في كتاب أحكام القرآن له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: « ولتكملوا العدة » وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبدالله بن عباس رضي اللّه عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال علماؤنا: قول ابن عباس ( هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك، فإن حمل فلا تجوز مخالفته. وقال الكيا الطبري: قوله ( هكذا أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ) يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) . وقال ابن العربي: واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل: رده لأنه خبر واحد، وقيل: رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع، وهو الصحيح، لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بأشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من أشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع.

قلت: وأما مذهب مالك رحمه اللّه في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك.



قرأ جمهور الناس « شهر » بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان، أو الصوم أو الأيام. وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ « كتب » أي كتب عليكم شهر رمضان. و « رمضان » لا ينصرف لأن النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره « الذي أنزل في القرآن » . وقيل: خبره « فمن شهد » ، و « الذي أنزل » نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال: إن الصيام في قوله « كتب عليكم الصيام » هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء. ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب عليكم شهر رمضان. وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب « شهر » بالنصب. قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس: « لا يجوز أن ينتصب » شهر رمضان « بتصوموا، لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيعرى به » .

قلت: قوله « كتب عليكم الصيام » يدل على الشهر فجاز الإغراء، وهو اختيار أبي عبيد. وقال الأخفش: انتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين.



قوله تعالى: « الذي أنزل فيه القرآن » نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: « حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة » [ الدخان: 1 - 3 ] يعني ليلة القدر، ولقوله: « إنا أنزلناه في ليلة القدر » [ القدر: 1 ] . وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر - على ما بيناه - جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى اللّه عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم أنزل به جبريل عليه السلام نجوما - يعني الآية والآيتين - في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى: « شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن » قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة.

قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع « أن القرآن أنزل جملة واحدة » واللّه أعلم. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ) .

قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان هذا.


قوله تعالى: « القرآن » ( القرآن ) : اسم لكلام اللّه تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى. قال الشاعر:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر ( أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا ) أي قراءة. وفي التنزيل: « وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا » [ الإسراء: 78 ] أي قراءة الفجر. ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا للمشروب شربا، كما ذكرنا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام اللّه، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام اللّه قرآنا توسعا، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم: ( لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ) أراد به المصحف. وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته. وقيل: هو اسم علم لكتاب اللّه، غير مشتق كالتوراة والإنجيل، وهذا يحكى عن الشافعي. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي.



قوله تعالى: « هدى للناس » ( هدى ) في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هاديا لهم. « وبينات » عطف عليه. و « الهدى » الإرشاد والبيان، كما تقدم أي بيانا لهم وإرشادا. والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام. « وبينات » جمع بينة، من بان الشيء يبين إذا وضح. « والفرقان »
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 07, 2012 8:11 am

[color=darkblue]تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
------------------------


» ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل، وقد تقدم.

قوله تعالى: « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » قراءة العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الأمر وحقها الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما توصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله « فليصمه » « فليعبدوا » [ قريش: 3 ] . والواو كقوله: « وليوفوا » [ الحج: 29 ] . وثم كقوله: « ثم ليقضوا » [ الحج: 29 ] و « شهد » بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو يقال عام فيخصص بقوله: « فمن كان منكم مريضا أو على سفر » الآية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: ( من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ) والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه. وقال جمهور الأمة: من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة. وقد ترجم البخاري رحمه اللّه ردا على القول الأول « باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر » حدثنا عبدالله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيداللّه بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس. قال أبو عبدالله: والكديد ما بين عسفان وقديد.

قلت: قد يحتمل أن يحمل قول علي رضي اللّه عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الإخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء اللّه واللّه أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ « شهد » .


قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان الفجر استحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أولا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الإمام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إليّ أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبدالملك بن الماجشون: يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحاق مثله. وقال ابن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام - وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه - أوجب عليه الإمساك في بقية يومه. ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الإمساك في بقية يومه، وهو مقتضى قول أشهب وعبدالملك بن الماجشون، وقاله ابن القاسم.

قلت: وهو الصحيح لقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا » فخاطب المؤمنين دون غيرهم، وهذا واضح، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى. وتقدم الكلام في معنى قوله: « ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر » [ البقرة:184 ] والحمد لله.


قوله تعالى: « يريد الله بكم اليسر » قراءة جماعة « اليسر » بضم السين لغتان، وكذلك « العسر » . قال مجاهد والضحاك: « اليسر » الفطر في السفر، و « العسر » الصيام في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى: « وما جعل عليكم في الدين من حرج » [ الحج: 78 ] ، وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ( دين اللّه يسر ) ، وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( يسروا ولا تعسروا ) . واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله: « ولا يريد بكم العسر » هو بمعنى قوله « يريد اللّه بكم اليسر » فكرر تأكيدا.



دلت الآية على أن اللّه سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام. وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها، تعالى اللّه عن قول الزائغين وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه، فالعقل السليم يقضي بأن ذانك؟؟ كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الأمر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حال ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده وإبطاله. وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: « فعال لما يريد » [ هود: 107 ] وقال سبحانه: « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » [ البقرة: 185 ] وقال: « يريد الله أن يخفف عنكم » [ النساء: 28 ] ، إذا أراد أمراً فإنما يقول كن فيكون. ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والإحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شيء، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا.


قوله تعالى: « ولتكملوا العدة » فيه تأويلان: أحدهما: إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني: عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين. قال جابر ابن عبدالله قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إن الشهر يكون تسعا وعشرين ) . وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلى اللّه عليه وسلم: ( شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة ) أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داود. وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين.


ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: ( إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس ) وذكره أبو عمر من حديث عبدالرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كتب إلينا عمر...، فذكره. قال أبو عمر: وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبدالرزاق أيضا، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والليث والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف: إن رئي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية. وروي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبدالرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: كتب عمر إلى عتبة بن فرقد « إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا » ، وروي عن علي مثله. ولا يصح في هذه المسألة شيء من جهة الإسناد على علي. وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب، وبه كان يفتي بقرطبة. واختلف عن عمر بن عبدالعزيز في هذه المسألة، قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع، والمصير إلى المتصل أولى. وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال: حديث الأعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسر، فهو أولى أن يقال به.

قلت: قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صائما صبح ثلاثين يوما، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى. أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال: سألت الزهري عن هلال شوال إذا رئي باكرا، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رئي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجيء، قال أبو عبدالله: وهذا مجمع عليه.


روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم: قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم لأهلا الهلال أمس عشية، ( فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم ) قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحكي عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فمرة قال بقول مالك، واختاره المزني وقال: إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى. وقال البويطي: لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها. وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقاله أبو يوسف في الإملاء. وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى. قال أبو يوسف: وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره، لأنها ليست بفريضة فتقضى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والأضحى من الغد.

قلت: والقول بالخروج إن شاء اللّه أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس ) . صححه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك. وروي عن عمر أنه فعله.

قلت: وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز.

قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاهم من الغد.


قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - والحسن وقتادة والأعرج « ولتكملوا العدة » بالتشديد. والباقون بالتخفيف. واختار الكسائي التخفيف، كقوله عز وجل: « اليوم أكملت لكم دينكم » [ المائدة: 3 ] . قال النحاس: وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال عز وجل: « فمهل الكافرين أمهلهم رويدا » [ الطارق: 17 ] . ولا يجوز « ولتكلموا » بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير: ويريد لأن تكملوا، ولا يجوز حذف أن والكسرة، هذا قول البصريين، ونحوه قول كثير أبو صخر:

أريد لأنسى ذكرها

أي لأن أنسى، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعد، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء. قال النحاس: وهذا قول حسن، ومثله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » [ الأنعام: 75 ] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مقحمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل اللّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة، قال: ومثله ما أنشده سيبويه.

بادت وغير آيهن مع البلى إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاء

شاده يشيده شيدا جصصه، لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج أو ثم مشجج.


قوله تعالى: « ولتكبروا الله » عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام. وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى: « ولتكبروا اللّه » ولأن هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن الكبير في الخروج إليه كالأضحى. وروى الدارقطني عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى. وروي عن ابن عمر: ( أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ) وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي ثم يكبر حتى يأتي الإمام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال: وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس. وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الإمام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج. وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى ] و « الكوثر » [ الكوثر ] إن شاء اللّه تعالى.


ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبدالله. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: اللّه أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر ولله الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر: وكان مالك لا يحد فيه حدا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي: « واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل » .


قوله تعالى: « على ما هداكم » قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام.

وتقدم معنى « ولعلكم تشكرون »



الآية: 186 ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )


قوله تعالى: « وإذا سألك » المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: « إذا سألك عبادي عني فإني قريب » . وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.

قوله تعالى: « فإني قريب » أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام.



قوله تعالى: « أجيب دعوة الداعي إذا دعان » أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم ) فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: « إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » [ غافر: 60 ] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان اللّه إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان اللّه إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان اللّه إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس ) . وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الأمة في « ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: « وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات » [ البقرة: 25 ] فههنا شرط، وقوله: « وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق » [ يونس: 2 ] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: « فادعوا الله مخلصين له الدين » [ غافر: 14 ] فههنا شرط، وقوله: « ادعوني أستجب لكم » ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.

فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين « أجيب » « أستجب » لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: « ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين » [ الأعراف: 55 ] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانههنا وفي « الأعراف » إن شاء اللّه تعالى. وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في « الأنعام » إن شاء اللّه تعالى. وقيل: إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء « ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له » [ الأحقاف: 5 ] الآية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة ) . وأوحى اللّه تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن اللّه يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها ) . قالوا: إذن نكثر؟ قال: ( لله أكثر ) . خرجه أبو عمر بن عبدالبر، وصححه أبو محمد عبدالحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول اللّه تعالى « ادعوني أستجب لكم » [ غافر: 60 ] فهذا كله من الإجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له.

قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) وزاد مسلم: ( ما لم يستعجل ) . رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل: يا رسول اللّه، ما الاستعجال؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ) . وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عيه وسلم قال: ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي ) . قال علماؤنا رحمة اللّه عليهم: يحتمل قوله ( يستجاب لأحدكم ) الإخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والإخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الإخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط.

قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك ) وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا اللّه، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: ( ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبدالله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: شرائطه أربع: أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن بن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:

ينادي ربه باللحن ليث كذاك إذا دعاه لا يجيب

وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي اللّه عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لأحد منهم، ما دام لأحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: « إن شئت » نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له ) . وفي الموطأ: ( اللهم اغفر لي أن شئت، اللهم ارحمني إن شئت ) . قال علماؤنا: قوله ( فليعزم المسألة ) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة اللّه، لأنه يدعو كريما. قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل اللّه. كل هذا جاءت به الآثار، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم. قالت: فادع اللّه فإن الدعاء مستجاب عند ذلك. وقال جابر بن عبدالله: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.



قوله تعالى: « فليستجيبوا لي » قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ مثل استغنى اللّه. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إليّ فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي الطاعة والعمل ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه والسين زائدة واللام لام الأمر. وكذا « وليؤمنوا » وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل.

قوله تعالى: « وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون » اللام لام الأمر وجزمت لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير، فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده اللّه. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد. وتقول: هو لرشدة. خلاف قولك: لزنية وأم راشد كنية للفأرة وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري. وقال الهروي: الرُّشد والرَّشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: « لعلهم يرشدون » .



الآية: 187 ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون )



قوله تعالى: « أحل لكم » لفظ « أحل » يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسحن؟؟ لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » . وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » . وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللّه تعالى: « علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم » يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى اللّه فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي اللّه تعالى عنه رجع من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أعتذر إلى اللّه وإليك، فإن نفسي زينت؟؟ لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: ( لم تكن حقيقا يا عمر ) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: « علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن » الآية.



قوله تعالى: « ليلة الصيام الرفث » ( ليلة ) نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت.



قوله تعالى: « الرفث إلى نسائكم » والرفث: كناية عن الجماع لأن اللّه عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقال الأزهري أيضا. وقال ابن عرفة: الرفث ههنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به. قال الشاعر:

ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار

وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وتعدى « الرفث » بإلى في قوله تعالى جده: « الرفث إلى نسائكم » . وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: « وقد أفضى بعضكم إلى بعض » [ النساء: 21 ] . ومن هذا المعنى: « وإذا خلوا إلى شياطينهم » [ البقرة: 14 ] كما تقدم. وقوله: « يوم يحمى عليها » [ التوبة: 35 ] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي، ومنه قوله: « فليحذر الذين يخالفون عن أمره، » [ النور: 63 ] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى: « وكان بالمؤمنين رحيما » [ الأحزاب: 43 ] حمل على معنى رؤوف في نحو « بالمؤمنين رؤوف رحيم » [ التوبة: 128 ] ، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:

حملت به في ليلة مزؤودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل

عدى « حملت » بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: « حملته أمه كرها ووضعته كرها » [ الأحقاف: 15 ] ، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به.


قوله تعالى: « هن لباس لكم » ابتداء وخبر، وشددت النون من « هن » لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. « وأنتم لباس لهن » أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي:

إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا

وقال أيضا:

لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري

قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض.



قوله تعالى: « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم » يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: « تقتلون أنفسكم » [ البقرة: 85 ] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله: « فتاب عليكم » يحتمل معنيين: أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر - التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: « علم أن لن تحصوه فتاب عليكم » [ المزمل: 20 ] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ: « فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله » [ النساء: 92 ] يعني تخفيفا، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: « لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة » [ التوبة: 117 ] وإن لم يكن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يوجب التوبة منه. وقوله: « وعفا عنكم » يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى « علم اللّه » أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة « فتاب عليكم » بعد ما وقع، أي خفف عنكم « وعفا » أي سهل. و « تختانون » من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي: « وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي اللّه عنه فجعلها اللّه تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الأمة فرضي اللّه عنه وأرضاه » .



قوله تعالى: « فالآن باشروهن » كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي: وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي اللّه عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالآن كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.



قوله تعالى: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: « فالآن باشروهن » . وقال ابن عباس: ما كتب اللّه لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن. وقيل: « ابتغوا ما كتب اللّه لكم » من الإماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة « واتبعوا » من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح « ابتغوا » من الابتغاء.



قوله تعالى: « وكلوا واشربوا » هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم.

قوله تعالى: « حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » « حتى » غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ) . وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضا. وفي حديث ابن مسعود: ( إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ) . وروى الدارقطني عن عبدالرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام ) هذا مرسل وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال. وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي اللّه قال: ( كلوا وأشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر ) . قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي. وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله: ( إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) الفيصل في ذلك، وقوله « أياما معدودات » [ البقرة: 184 ] . وروى الدارقطني عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له ) . تفرد به عبدالله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) . رفعه عبدالله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: نزلت « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود » ولم ينزل « من الفجر » وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعد « من الفجر » فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول اللّه، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: ( إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار ) . أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر:

الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسود جنح الليل مكتوم

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الإيادي:

فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر:

قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره

وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب:

ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:

إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون في الأمر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:

فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر

قوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » جعل اللّه جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ( أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ) الحديث. وبهذا قال الشعبي. وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول اللّه قال: ( وما أهلكك ) قال: وقعت على امرأتي في رمضان... ) الحديث. وفيه ذكر الكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لأن مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر.



واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما على الزوج. وقال الشافعي: ليس عليها إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه.

واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شيء، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والأوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبدالملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل،

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 07, 2012 8:24 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
------------------------



لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شيء عليه.

قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطّره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه.

قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن اللّه أطعمه وسقاه ) . أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبدالله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان، قال: ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبدالله مالك: وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك. وقال ابن المنذر: لا شيء عليه، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا: ( يتم صومه ) وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل.

قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - واللّه أعلم - كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم: ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا قضاء عليه ) .

قلت: هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ) أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال.



لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا - واللّه أعلم - خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبدالله بن مسعود وعروة بن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم. وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل، ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك.

قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى « فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، واللّه أعلم » . وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي: وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة.



والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: « وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح » .

قلت: أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره. وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع: واللّه ما أنا قلته، محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض.

قلت: فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي اللّه عنها وأم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: « فالآن باشروهن » الآية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي: ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه. وقال المزني: عليه القضاء لأنه من تمام الجماع، والأول اصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا.



واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال عبدالملك: إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبدالملك. وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرطت في الاغتسال. وذكر ابن الجلاب عن عبدالملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض. وقال محمد بن مسلمة في هذه: تصوم وتقضي، مثل قول الأوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء.

وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.



روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: « أفطر الحاجم والمحجوم » . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج. وقال مالك والشافعي والثوري: لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال لا، إلا من أجل الضعف. وقال أبو عمر: حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى اللّه عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) . واحتجم هو صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان، لأنه توفي في ربيع الأول، صلى اللّه عليه وسلم.



قوله تعالى: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف. و « إلى » غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار.



ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء. وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال: ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقيل: عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون: إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا. قلت: هذا حسن.



قوله تعالى: « إلى الليل » إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي: وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) . وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى، لأنه مقتضى الكتاب والسنة.

فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت: أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء؟. قال عمر في الموطأ في هذا: الخطب يسير، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال: لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول اللّه تعالى: « إلى الليل » يرد هذا القول، واللّه أعلم.



فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري: وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه.



قوله تعالى: « إلى الليل » فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ) . خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس: ( لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) . خرجه مسلم أيضا. وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( إياكم والوصال إياكم والوصال ) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) . خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ) قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللّه؟ قال: ( لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني ) . قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال: إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: ( لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) . فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم.

قلت: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) . وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به، فكان تركه أولى. وباللّه التوفيق.



ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال: ( لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ) . وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه ) . خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني: تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجة عن عبدالله بن الزبير قال: أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال: ( أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ) . وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ) . وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد ) . قال ابن أبي مليكة: سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ) .



ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر ) هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ) . رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف.



قوله تعالى: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.



قوله تعالى: « وأنتم عاكفون » جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز:

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال الشاعر:

وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.



أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول اللّه تعالى: « في المساجد » واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي، وهو أحد قولي مالك. وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما. وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر. وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح ) . قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.



وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه، كما قال سحنون. قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن علي وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل في اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر: لا يصح إلا بصوم. وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول اللّه تعالى في كتابه: « وكلوا واشربوا » إلى قوله: « في المساجد » وقالا: فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا. واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: ( اعتكف وصم ) . أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لا اعتكاف إلا بصيام ) . قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها.



وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروي عن علي وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس. وقال الأوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له.



واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع. وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقال عبدالملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه.

قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: « وأنتم عاكفون في المساجد » فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.

المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك.



روى مسلم عن عائشة قالت: ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه... ) الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم. وقال الشافعي: إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله في الشهر. وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء. وروي مثل ذلك عن أبي يوسف، وبه قال القاضي عبدالوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل.

قلت: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته.



استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات، فيها لممن اقتصر عليها كفاية، واللّه الموفق للهداية.



قوله تعالى: « تلك حدود الله » أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها، « فتلك » إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي. والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمي الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسجان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.



قوله تعالى: « كذلك يبين الله آياته للناس » أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها. والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. و « لعلهم » ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء.



الآية: 188 ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون )



قوله تعالى: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم » قيل: إنه نزل في عبدان بن أشوع الحضرمي، ادعى مالا على امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت هذه الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه.



الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لأن الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة « النساء » . وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: « تقتلون أنفسكم » [ البقرة: 85 ] . وقال قوم: المراد بالآية « لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » [ النساء: 29 ] أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.



من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها ) . وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكي عن أبي حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: ( فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه... ) الحديث.



وهذه الآية متمسك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: « لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » [ النساء: 29 ] . فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل.



قوله تعالى: « بالباطل » الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والأباطيل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللّهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: « لا يأتيه الباطل » [ فصلت: 42 ] قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقص. وقوله: « ويمح الله الباطل » [ الشورى: 24 ] يعني الشرك. والبطلة: السحرة.



قوله تعالى: « وتدلوا بها إلى الحكام » الآية. قيل: يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له الظاهر حجة. وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلي. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: « ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق » [ البقرة: 42 ] . وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة.

قلت: ويقوي هذا قوله: « وتدلوا بها » تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أبي « ولا تدلوا » بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم « تدلوا » في قراءة الجماعة. وقيل: « تدلوا » في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه « أن » مضمرة. والهاء في قوله « بها » ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر، فقوي القول الثاني لذكر الأموال، واللّه أعلم. في الصحاح. « والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رُشى ورِشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه » .

قلت: فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.



قوله تعالى: « لتأكلوا » نصب بلام كي. « فريقا » أي قطعة وجزءا، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: لتأكلوا أموال فريق من الناس. « بالإثم » معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. « وأنتم تعلمون » أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.



اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائي حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم. وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الأمة، قال صلى اللّه عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) الحديث، متفق على صحته.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 07, 2012 8:30 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
------------------------


الآية: 189 ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون )



قوله تعالى: « يسألونك عن الأهلة » هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال معاذ: يا رسول اللّه، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.

قوله تعالى: « عن الأهلة » الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه، كما قال:

أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفر

وقيل: سمي شهرا لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله. وقيل: لثلاث من أوله. وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير:

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: « وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه » : قال أبو نصر عبدالرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا.



قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي.



قوله تعالى: « قل هي مواقيت للناس والحج » تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: « وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب » [ الإسراء: 12 ] على ما يأتي. وقوله: « هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب » [ يونس: 5 ] . وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.



وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير توقيت. وهذا لا دليل فيه، لأنه عليه السلام قال لليهود: ( أقركم فيها ما أقركم اللّه ) . وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الأمة.



قوله تعالى: « مواقيت » المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت. وقيل: الميقات منتهى الوقت. و « مواقيت » لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت « قوارير » في قوله: « قواريرا » [ الإنسان:16 ] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم.



قوله تعالى: « والحج » بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: « حج البيت » [ آل عمران: 97 ] في « آل عمران » . سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.

أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل اللّه قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء اللّه تعالى.



استدل مالك رحمه اللّه وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية، لأن اللّه تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: « الحج أشهر معلومات » [ البقرة: 197 ] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله « هي مواقيت للناس والحج » يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسألتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه.



لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لأن اللّه تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح.



إذا رئي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( إن اللّه مده للرؤية ) فهو لليلة رأيتموه.



قوله تعالى: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( لم دخلت وأنت قد أحرمت ) . فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( إني أحمس « أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقال ابن عباس وعطاء وقتادة، وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري.»)

والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج:

وكم قطعنا من قفاف حمس

أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح. وقيل: إنه النسيء وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وسيأتي بيان النسيء في سورة [ براءة ] إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه.

قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال، لما رواه البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمله. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه.

قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للإعادة.



في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.



الآية: 190 ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )



قوله تعالى: « وقاتلوا » هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: « ادفع بالتي هي أحسن » [ فصلت: 34 ] وقوله: « فاعف عنهم واصفح » [ المائدة: 13 ] وقوله: « واهجرهم هجرا جميلا » [ المزمل: 10 ] وقوله: « لست عليهم بمسيطر » [ الغاشية: 22 ] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » [ الحج: 39 ] . والأول أكثر، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] فنسخت هذه الآية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد: هي محكمة أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الأئمة. وأما النظر فإن « فاعل » لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست:

الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » ، « واقتلوهم حيث ثقفتموهم » [ البقرة: 191 ] . وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.

الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.

الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: « وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له » فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: « والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: » فذرهم وما حبسوا أنفسهم له « . »

الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.

الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية.

السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع ( الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ) . وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبدالعزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر.



روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة « براءة » بقوله: « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » [ التوبة: 123 ] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) . وقيل: غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لأن نزوله من أشراط الساعة.



قوله تعالى: « ولا تعتدوا » قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: « لا تعتدوا » أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم.



الآية: 191 ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين )



قوله تعالى: « ثقفتموهم » يقال: ثقِف يثقِف ثقْفا وثقَفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. وفي هذا دليل على قتل الأسير، وسيأتي بيان هذا في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. « وأخرجوهم من حيث أخرجوكم » أي مكة. قال الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش.



قوله تعالى: « والفتنة أشد من القتل » أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة. وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبدالله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبدالله بن جحش، على ما يأتي بيانه، قاله الطبري وغيره.



قوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة، والثاني: أنها محكمة. قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) . وقال قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: « فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: « واقتلوهم حيث ثقفتموهم » ثم نسخ هذا قوله: « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » . فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم. ومما احتجوا به أن « براءة » نزلت بعد سورة « البقرة » بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ( اقتلوه ) .

وقال ابن خويز منداد: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام » منسوخة، لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال: لأقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: ( احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا ) حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها: ( ولا يلتقط لقطتها إلا منشد ) واللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » [ البقرة: 193 ] . قال ابن العربي: حضرت في بيت المقدس - طهره الله - بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبه الشطار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » قرئ « ولا تقتلوهم، ولا تقاتلوهم » فإن قرئ « ولا تقتلوهم » فالمسألة نص، وإن قرئ « ولا تقاتلوهم » فهو تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] . فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام. قال ابن العربي: فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الآية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن.

قلت: وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل له فيها القتال. فثبت وصح أن القول الأول أصح، والله أعلم.



قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع. ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح. على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في « الحجرات » إن شاء الله تعالى.



الآية: 192 ( فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم )



قوله تعالى: « فإن انتهوا » أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » [ الأنفال: 38 ] . وسيأتي.



الآية: 193 ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين )



قوله تعالى: « وقاتلوهم » أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: « فإن قاتلوكم » والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: « ويكون الدين لله » ، وقال عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) . فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: « حتى لا تكون فتنة » أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « فإن انتهوا » أي عن الكفر، إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في « براءة » وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.



الآية: 194 ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين )



قوله تعالى: « الشهر الحرام » قد تقدم اشتقاق الشهر. وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية ) في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الآية. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام؟ قال: ( نعم ) . فأرادوا قتاله، فنزلت الآية. المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالآية مدافعتهم، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر.



قوله تعالى: « والحرمات قصاص » الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام. والحرمة: ما منعت من انتهاكه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. فـ « الحرمات قصاص » على هذا متصل بما قبله ومتعلق. به. وقيل: هو مقطوع منه، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفي له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: « إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها » [ النساء: 58 ] . وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا.

قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف ) . فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، قوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » قاطع في موضع الخلاف.



واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان، أصحهما الأخذ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك. وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم.

وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ما له عليه. وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس، وهو القياس، والله أعلم.



قوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لأن قول القائل:

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وكذلك:

امتلأ الحوض وقال قطني

وكذلك:

شكا إلي جملي طول السرى

ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال الآخر:

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج

يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج.



واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » وقوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] .

قالوا: وهذا عموم في جميع الأشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال: ( إناء بإناء وطعام بطعام ) خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: ( غارت أمكم ) . زاد ابن المثنى ( كلوا ) فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: ( كلوا ) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري - قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة - عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ قال: ( إناء مثل إناء وطعام مثل طعام ) . قال مالك وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام: ( طعام بطعام ) .



لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يعذب بالنار، إلا الله ) . والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الآية.


وأما القَوَد بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم. وفي الأخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب، وقاله عبدالملك. قال ابن العربي: « والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف » . واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة الرعاء. وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والثعبي والنخعي. واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا قود إلا بحديدة ) ، وبالنهي عن المُثْلة، وقوله: ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك! أفلان، أفلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية: فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: « وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » [ النحل: 126 ] . وقوله: « فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » . وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى عن طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك حديث أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة. وقوله: ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدا طرحه في النار حتى يموت، وذكره الوقار في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبدالحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفا بذلك - قد خنق غير واحد - فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.

قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان على عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس عنه مناص.


واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت. وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر.

قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل. وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه ) . رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا.


قوله تعالى: « فمن اعتدى » الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: « ومن يتعد حدود الله » [ البقرة: 229 ] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] . وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 08, 2012 7:29 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 195 ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )



روى البخاري عن حذيفة: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: « وأنفقوا في سبيل الله » الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.

قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: « كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد عليه ما قلنا: » وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة « . فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح » . وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي، ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم. قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء. وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: « وأنفقوا في سبيل الله » يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل. ومعنى ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا. وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقاله عبيدة السلماني. وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. « سبيل الله » هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في « بأيديكم » زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: « ألم يعلم بأن الله يرى » [ العلق: 14 ] . وقال المبرد: « بأيديكم » أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: « فبما كسبت أيديكم » ، [ الشورى: 30 ] ، « بما قدمت يداك » [ الحج: 10 ] . وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب: [ والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز ] وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: « لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » [ البقرة: 267 ] وقال الطبري: قوله « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.



اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » [ البقرة: 207 ] . وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة؟؟ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.

قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: ( فلك الجنة ) . فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) . فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أنصفنا أصحابنا ) . هكذا الرواية ( أنصفنا ) بسكون الفاء ( أصحابنا ) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم » [ التوبة: 111 ] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: « وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور » [ لقمان: 17 ] . وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله ) . وسيأتي القول في هذا في « آل عمران » إن شاء تعالى.



قوله تعالى: « وأحسنوا إن الله يحب المحسنين » أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: « أحسنوا » في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.



الآية: 196 ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب )

*4*قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }



اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: « فأتمهن » [ البقرة: 124 ] وقوله: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » [ البقرة: 187 ] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله « لله » . وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر.

قلت: أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبدالله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الأسود وعلقمة وعبدالرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) في رواية ( غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) . وخرجه أبو داود وقال: « يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة » . ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات. وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة. وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات. وقال أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل إن شاء الله. وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم. واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته.



روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق. وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته افتتحت، فغفلة منه، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر: كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع.



أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.



في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: « وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي » . وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبدالله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة. وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت ) . وكان مالك يقوله: العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها. وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبدالله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: ( نعم ) فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: ( لا وأن تعتمر خير لك ) . رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال « وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » [ المزمل: 20 ] . وابتدأ بإيجاب الحج فقال: « ولله على الناس حج البيت » [ آل عمران: 97 ] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.



قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في « العمرة » ، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة « العمرة » بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود « وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله » وروي عنه « وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » . وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي.



لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ـ والقلم جار له وعليه ـ أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: { وأتموا } ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته: ( لبيك بحجة وعمرة معا ) على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) . قال: ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية، لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت، بخلاف الصلاة.



واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد. قال: ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام، ولم يكن عليهما دم، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج: ( بم أهللت ) قال قلت: لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإني أهللت بالحج وسقت الهدي ) . قال الشافعي: ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإسلام، وكذلك العبد يعتق، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات. وقال أبو حنيفة: يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شيء عليهما في ترك الميقات.

*4*قوله تعالى: { فإن أحصرتم }



قال ابن العربي: هذه آية مشكلة، عُضْلة من العُضل.

قلت: لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، فـ « جملة » أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين: الأول: قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا. ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن « أحصر » عرض للمرض، و « حصر » نزل به العدو.

قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي: « أحصر » بالمرض، و « حصر » بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر.

قلت: وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه « أحصر » فيهما، فتأمله. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما.

قلت: ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه، هكذا قال، جعل الأول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الأخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته. قال: وأحصرني بولي، وأحصرني مرضي، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشيء وأحصرني، أي حبسني.

قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن « حصر » في العدو، و « أحصر » في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » [ البقرة: 273 ] . وقال ابن ميادة:

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول

وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الأول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره.



ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا، قالوا: وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض، قال صلى الله عليه وسلم: ( الزكام أمان من الجذام ) ، وقال: ( من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص ) . الشوص: وجع السن. واللوص: وجع الأذن. والعلوص: وجع البطن. أخرجه ابن ماجة في سننه. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو، لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة. قال ابن عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى: « فإذا أمنتم » . ولم يقل: برأتم، والله أعلم.



جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة: دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله، وخالفه صاحباه فقالا: يتوقف على يوم النحر، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان.



الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي، وهو قول الشافعي، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول: ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر، لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي. واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » . وقد قيل: يحل ويهدي إذا قدر عليه، والقولان للشافعي، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه، قولان.



قال عطاء وغيره: المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك: وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق. قال: وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه، فإذا برىء من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد: إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم: فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها: لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدالله بن بكير المالكي فقال: قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب، لقول الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » . قال: والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق، لقوله تعالى: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » الآية.



قال مالك وأصحابه: لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني من الأرض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور: لا بأس أن يشترط وله شرطه، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أردت الحج، أأشترط؟ قال: ( نعم ) . قالت: فكيف أقول؟ قال: ( قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني ) . أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي: لو ثبت حديث ضباعة لم أعده، وكان محله حيث حبسه الله.

قلت: قد صححه غير واحد، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير: ( حجي واشترطي ) . وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أن أهل؟ قال: ( أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني ) . قال: فأدركت. وهذا إسناد صحيح.



واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر، فقال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي: إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة، لأن إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام: ( من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى ) . رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى ) . قالوا: فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، قالوا: ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا: وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل، فسميت بذلك عمرة القضية.



لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر، ولكن اختلفوا فيما به يحل، فقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به، على ما تقدم من مذهبه.



لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين: لا إحصار في العمرة، لأنها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر، وفي ذلك نزلت الآية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية.



الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموضعه، لقوله تعالى: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام » كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز، لأن ذلك وهن في الإسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما، ولأن الحج مما ينفق فيه المال، فيعد هذا من النفقة.



والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم: أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب، فجاز له أن يحل فيه، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به فكان ذلك عليه.



قوله تعالى: « فما استيسر من الهدي » « ما » في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا. و « ما استيسر » عند جمهور أهل العلم شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: « ما استيسر » جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما. وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء، لقوله: « فما استيسر من الهدي » ولم يذكر قضاء. والله أعلم.



قوله تعالى: « من الهدي » الهَدْي والهَدِيّ لغتان. وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها. والعرب تقول: كم هدي بني فلان، أي كم إبلهم. وقال أبو بكر: سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله، فسميت بما يلحق بعضها، كما قال تعالى: « فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب » [ النساء: 25 ] . أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار، لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن. والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الأمة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج. وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدي، قال: وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون: هدي. قال الشاعر:

حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات

قال: وواحد الهدي هدية. ويقال في جمع الهدي: أهداء.

*4*قوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }



قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى. ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي. والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، قال الله تعالى: « والهدي معكوفا أن يبلغ محله » [ الفتح: 25 ] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار: الحرم، لقوله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » [ الحج: 33 ] . وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت. فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم. واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم. قال: ( فكيف تصنع به ) قال: أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهدي تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه، فالمهدى أيضا يحل معه.



واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي، فقال مالك: السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه، قال الله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » . وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم، ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه. وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه. قالوا: وأقل ما يهديه شاة، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين، وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر: قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض، لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه، وحملوه على الإحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم: لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه. وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي: فيه قولان: لا يحل أبدا إلا بهدي. والقول الآخر: أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه. قال الشافعي: ومن قال هذا قال: يحل مكانه ويذبح إذا قدر، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال لا يجزيه إلا هدي. ويقال: إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. وقال في العبد: لا يجزيه إلا الصوم، تقوم له الشاة دراهم ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما.



واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا، فقالت طائفة: ليس عليه أن يحلق رأسه، لأنه قد ذهب عنه النسك. واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر. وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال أبو يوسف: يحلق المقصر، فإن لم يحلق فلا شيء عليه. وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق، والتقصير لا بد له منه. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك. والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة. والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه. وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه، وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » ، وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة. وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة،، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه. والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض.



روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ( اللهم ارحم المحلقين ) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ( اللهم ارحم المحلقين ) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: ( والمقصرين ) . قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم » الآية، ولم يقل تقصروا. وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان.



لم تدخل النساء في الحلق، وأن سنتهن التقصير، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير ) . خرجه أبو داود عن ابن عباس. وأجمع أهل العلم على القول به. ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: تقصر من كل قرن مثل الأنملة. وقال عطاء: قدر ثلاث أصابع مقبوضة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع. وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل. وقال مالك: تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا. قال ابن المنذر: يجزي ما وقع عليه اسم تقصير، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة.



لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق. والأصل في ذلك قوله تعالى: « ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله » وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا، فإن كان الأول فلا شيء عليه، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وهو المشهور من مذهب مالك. وقال ابن الماجشون: عليه الهدي، وبه قال أبو حنيفة. وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر، وبه قال الشافعي. والظاهر من المذهب المنع، والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: ( لا حرج ) رواه مسلم. وخرج ابن ماجة عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق، أو حلق قبل أن يذبح فقال: ( لا حرج ) .



لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز، خلافا لمن قال: إنه مثلة، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة، وقد حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه. قال ابن عبدالبر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق. وكفى بهذا حجة، وبالله التوفيق.

*4*قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }



قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض، وهذا لا يلزم، فإن معنى قوله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » فحلق « ففدية » أي فعليه فدية، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه. ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدارقطني: عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: ( أيؤذيك هوامك ) قال نعم. ( فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام ) . خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا. فقوله: ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض، والله أعلم.

قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق.

قلت: فعلى هذا يكون المعنى « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » إن أراد أن يحلق، ومن قدر فحلق ففدية، فلا يفتدي حتى يحلق، والله أعلم.



قال ابن عبدالبر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة. وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث. وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبدالرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له، فقال له
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 08, 2012 7:36 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
============


( كأنك يؤذيك هوام رأسك ) . فقال أجل. قال: ( احلق واهد هديا ) . فقال: ما أجد هديا. قال: ( فأطعم ستة مساكين ) . فقال: ما أجد. قال: ( صم ثلاثة أيام ) . قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وبالله التوفيق.



اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي ثور وداود. وروي عن الثوري أنه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر. قال ابن المنذر: وهذا غلط، لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ) . وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال: إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع.

ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.



أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن. وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة، واختلفوا فيما على من فعل ذلك، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا، فقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخير فيها، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور: ليس بمخير إلا في الضرورة، لأن الله تعالى قال: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير.



واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا، فقال مالك رحمه الله: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا فدية عليه، وهو قول داود وإسحاق. والثاني: عليه الفدية. وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المحيط وتغطية الرأس أو بعضه، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى، أو حلق مواضع المحاجم. والمرأة كالرجل في ذلك، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب. وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه. وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.



واختلف العلماء في موضع الفدية المذكورة، فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي. وعن الحسن أن الدم بمكة. وقال طاوس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم، وقد قال الله سبحانه « هديا بالغ الكعبة » [ المائدة: 95 ] رفقا لمساكين جيران بيته، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد. والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه، وفيه: فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا. قال مالك قال يحيى بن سعيد: وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة. ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم، لأن البغية في إطعام مساكين المسلمين. قال مالك: ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم، ثم إن قوله تعالى: « فمن كان منكم مريضا » الآية، أوضح الدلالة على ما قلناه، فإنه تعالى لما قال: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه. وقال: « أو نسك » فسقى ما يذبح نسكا، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد.



قوله تعالى: « أو نسك » النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله تعالى: « وأرنا مناسكنا » [ البقرة: 128 ] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها.

*4*قوله تعالى: { فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي }



قوله تعالى: « فإذا أمنتم » قيل: معناه برأتم من المرض. وقيل: من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة. وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، كما تقدم، والله أعلم.



قوله تعالى: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » اختلف العلماء من المخاطب بهذا؟ فقال عبدالله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم. وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء. وصورة المتمتع المحصر عند غيره: أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه. وقال ابن عباس وجماعة: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله.



لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلى الله عليه وسلم. وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك، فقال قائلون منهم مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا، والإفراد أفضل من القران. قال: والقران أفضل من التمتع. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) قالت عائشة: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقال بعضهم فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأما أنا فأهل بالحج ) وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله. وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. واستجب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج، قالوا: وذلك أفضل. وهو مذهب عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي. قال الدارقطني قال الشافعي: اخترت الإفراد، والتمتع حسن لا نكرهه. احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء. وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه، هذا حديث صحيح.

وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: ( حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟ قم عني. ) أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم. وروي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية ) حديث حسن. قال أبو عمر: حديث ليث هذا حديث منكر، وهو ليث بن أبي سليم ضعيف. والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في العمرة. فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم: « فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم » [ إبراهيم: 37 ] . وقال آخرون: إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي صلى الله عليه وسلم. واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) . أخرجه الأئمة. وقال آخرون: القران أفضل، منهم أبو حنيفة والثوري، وبه قال المزني قال: لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وهو قول علي بن أبي طالب. واحتج من استحب القران وفضله بما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ) . وروى الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لبيك بعمرة وحجة ) . وقال: حديث حسن صحيح. قال أبو عمر: والإفراد إن شاء الله أفضل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا، فلذلك قلنا إنه أفضل، لأن الآثار أصح عنه في إفراده صلى الله عليه وسلم، ولأن الإفراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر. وذلك كله طاعة والأكثر منها أفضل. وقال أبو جعفر النحاس: المفرد أكثر تعبا من المتمتع، لإقامته على الإحرام وذلك أعظم لثوابه. والوجه في اتفاق الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالتمتع والقران جاز أن يقال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن، كما قال جل وعز: « ونادى فرعون في قومه » [ الزخرف: 51 ] . وقال عمر بن الخطاب: رجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالرجم.

قلت: الأظهر في حجته عليه السلام القران، وأنه كان قارنا، لحديث عمر وأنس المذكورين. وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة معا ) . قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لبيك عمرة وحجا ) . وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم. قال بعض أهل العلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر، واتفقت الأحاديث. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة، فقال من رآه: تمتع ثم أهل بحجة. فقال من رآه: أفرد ثم قال: ( لبيك بحجة وعمرة ) . فقال من سمعه: قرن. فاتفقت الأحاديث. والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفردت الحج ولا تمتعت. وصح عنه أنه قال: ( قرنت ) كما رواه النسائي عن علي أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ( كيف صنعت ) قلت: أهللت بإهلالك. قال ( فإني سقت الهدي وقرنت ) . قال وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت ) . وثبت عن حفصة قالت قلت: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت؟ قال: ( إني لبدت رأسي وسقت هدي فلا أحل حتى أنحر ) . وهذا يبين أنه كان قارنا، لأنه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدي.

قلت: ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفردت الحج ) فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال: ( وأما أنا فأهل بالحج ) . وهذا معناه: فأنا أفرد الحج، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة، ثم قال: فأنا أهل بالحج. ومما يبين هذا ما رواه مسلم عن ابن عمر، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فلم يبق في قوله: ( فأنا أهل بالحج ) دليل على الإفراد. وبقي قوله عليه السلام: ( فإني قرنت ) . وقول أنس خادمه أنه سمعه يقول: ( لبيك بحجة وعمرة معا ) نص صريح في القران لا يحتمل التأويل. وروى الدارقطني عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها.



وإذا مضى القول في الإفراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والثلاثة مختلف فيها. فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جل وعز: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الآفاق، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع، وذلك ما استيسر من الهدي، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين. واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي.

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة، ورابطها ثمانية شروط: الأول: أن يجمع بين الحج والعمرة. الثاني: في سفر واحد. الثالث: في عام واحد. الرابع: في أشهر الحج. الخامس: تقديم العمرة. السادس: ألا يمزجها، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة. السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد. الثامن: أن يكون من غير أهل مكة. وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها.

والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج: القران، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا، عند من رأى ذلك، وهم مالك والشافعي وأصحابهما وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة... ) الحديث. وفيه: ( وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ) أخرجه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النفر ولم تكن طافت بالبيت وحاضت: ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) في رواية: ( يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ) . أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين، عند من رأى ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وروي عن علي وابن مسعود، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد. واحتجوا بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها، وإنما جعل القران من باب التمتع، لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قول الله عز وجل: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » . وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه. وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها. ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر: إنما جعل القران لأهل الآفاق، وتلا قول الله جل وعز: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. قال مالك: وما سمعت أن مكيا قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. وقال عبدالملك بن الماجشون: إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع.

والوجه الثالث من التمتع: هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال: ( متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج ) وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية. فهذا هو الوجه الذي تواردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة ) وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها، لأنها عندهم خصوص خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك. قال أبو ذر: ( كانت المتعة لنا في الحج خاصة ) أخرجه مسلم. وفي رواية عنه أنه قال: ( لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج ) والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: ( الحل كله ) ) . أخرجه مسلم. وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال: ( والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم ) ففي هذا دليل علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها. وكان ذلك له ولمن معه خاصة، لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيها أمرا مطلقا، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة. واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: ( بل لنا خاصة ) . وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام، إلا شيء يروى عن ابن عباس والحسن والسدي، وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد: لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر. قال: ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر، ولو أجمعوا كان حجة، قال: وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا. واحتج أحمد بالحديث الصحيح، حديث جابر الطويل في الحج، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: ( دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد ) لفظ مسلم. وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم [ باب من لبى بالحج وسماه ] وساق حديث جابر بن عبدالله: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة. وقال قوم: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر. وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به، وكذلك أهل علي باليمن. وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله عليه السلام: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلتها عمرة ) فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر؟؟ أصحابه بذلك، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: ( أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة ) .

والوجه الرابع من المتعة: متعة المحصر ومن صد عن البيت، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبدالله بن الزبير وهو يخطب يقول: أيها الناس، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي.

وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا، والحمد لله.

فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة. والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » بعد قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل، وأمرهم بالإحلال.

واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا، فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج. وقال غيره: سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، والوجه الأول أعم، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله، وسقط عنه السفر بحجه من بلده، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج. وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود، وقالا أو قال أحدهما: يأتي أحدكم مني وذكره يقطر منيا، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا. وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة في الحج، ومرة في العمرة. ورأى الإفراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابا، ولذلك قال: ( افصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج )



اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه، فقال الجمهور من العلماء: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه ولا صيام. وقال الحسن البصري: هو متمتع وإن رجع إلى أهله، حج أو لم يحج. قال لأنه كان يقال: عمرة في أشهر الحج متعة، رواه هشيم عن يونس عن الحسن. وقد روي عن يونس عن الحسن: ليس عليه هدي. والصحيح القول الأول، هكذا ذكر أبو عمر حج أو لم يحج ولم يذكره ابن المنذر. قال ابن المنذر: وحجته ظاهر الكتاب قوله عز وجل: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » ولم يستثن: راجعا إلى أهله وغير راجع، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن. قال أبو عمر: وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم. وذلك أنه قال: من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة. وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن، أحدهما: أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج، ثم حج من عامه أنه متمتع. هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار. وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة، لأن العمرة جائزة في السنة كلها، والحج إنما موضعه شهور معلومة، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها، رحمة منه، وجمل فيه ما استيسر من الهدي. والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي، وهذا لم يعرج عليه، لظاهر قوله تعالى: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها، وبالله توفيقنا.



أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع، عليه ما على المتمتع. وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها. وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع.



واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وعليه بعد أيضا طواف آخر بحجة وسعي بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، والأول المشهور، وهو الذي عليه الجمهور، وأما طواف القارن فقد تقدم.



واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه. وقال الشافعي: إذا طاف بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت، وإنما ينظر إلى كمالها، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري. وقال قتادة وأحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبدالله. وقال طاوس: عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال أصحاب الرأي: إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع. وإن طاف في رمضان أربعة أشواط، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا. وقال أبو ثور: إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا. وهو معنى قول أحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه.



أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، ويكون قارنا بذلك، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا. واختلقوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم يتم طوافه، وروي مثله عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف، وقد قيل: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف. وكل ذلك قول مالك وأصحابه. فإذا طاف المعتمر شوطا واحد لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران. وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه. وقال بعضهم: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة. قال أبو عمر: وهذا كله شذوذ عند أهل العلم. وقال أشهب: إذا طاف لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج، وهذا قول الشافعي وعطاء، وبه قال أبو ثور.



واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق: لا تدخل العمرة على الحج، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء، قاله مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم: يصير قارنا، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا، فإن طاف لم يلزمه، لأنه قد عمل في الحج. قال ابن المنذر: وبقول مالك أقول في هذه المسألة.



قال مالك: من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك، وعليه هدي آخر لمتعته، لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته، وحينئذ يجب على الهدي. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق: لا ينحر هديه إلا يوم النحر. وقال أحمد: إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر، وقاله عطاء. وقال الشافعي: يحل من عمرته إذا طاف وسعى، ساق هديا أو لم يسقه.



واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت، فقال الشافعي: إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك، حكاه الزعفراني عنه. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي. قيل له: من رأس المال أو من الثلث؟ قال: بل من رأس المال.

*4*قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }



قوله تعالى: « فمن لم يجد » يعني الهدي، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الأيام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الأيام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لأن الله تعالى قال: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئه، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والأوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة.

وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: « الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى » . وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لأنه وقت الأداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقول أصحاب الشافعي، وإما لأن في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والأظهر من المذهب أنها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للأداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: « أيام في الحج » يحتمل أن يريد موضع الحج ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لأن آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لأن الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدي يوم النحر. فإن قيل: فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريف أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لأنه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقال الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول. وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدي. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله.



أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزاه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.



قوله تعالى: « وسبعة » قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد بن علي « وسبعة » بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة. « إذا رجعتم » يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال ابن العربي: إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب.

قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: ( ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: « فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم... ) [ البقرة: 196 ] الحديث وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا.»



قوله تعالى: « تلك عشرة كاملة » يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. كمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: « تلك عشرة » وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لأنه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله « تلك عشرة » ثم قال: « كاملة » . وقال الحسن: « كاملة » في الثواب كمن أهدى. وقيل: « كاملة » في البدل عن الهدي، يعني العشرة كلها بدل عن الهدي. وقيل: « كاملة » في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل: لفظها لفظ الإخبار ومعناها الأمر، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد: « عشرة » دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد، كما تقوله: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر:

ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى شمامي

فقول « خمس » تأكيد. ومثله قول الآخر:

ثلاث بالغداة فذاك حسي وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريي وشرب المرء فوق الري داء

وقوله: « كاملة » تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر.



قوله تعالى: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري « عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: ( من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ) ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: » فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم « إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء.»



اللام في قوله « لمن » بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: ( اشترطي لهم الولاء ) . وقوله تعالى: « وإن أسأتم فلها » [ الإسراء: 7 ] أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لأنه ليس بدم تمتع. وقال الشافعي: لهم دم تمتع وقران. والإشارة ترجع إلى الهدي والصيام، فلا هدي ولا صيام عليهم. وفرق عبدالملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه.



واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال - فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الأقوال مذاهب السلف في تأويل الآية.



قوله تعالى: « واتقوا الله » أي فيما فرضه عليكم. وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه.



الآية: 197 ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب )



قوله تعالى: « الحج أشهر معلومات » لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » [ البقرة: 196 ] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر. و « الحج أشهر معلومات » ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر. وقيل التقدير: الحج في أشهر. ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف. قال الفراء: الأشهر رفع، لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات. قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر. أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف.



واختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الأخير ابن حبيب، والأول ابن المنذر. وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر، لأنها في أشهر الحج. وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته.

لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيام منى ثلاثة ) . وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام. وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جمع قال أشهر، والله أعلم.



اختلف في الإهلال بالحج في غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج. وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجة ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال الأوزاعي: يحل بعمرة. وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيفة. وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج » [ البقرة: 189 ] وقد تقدم القول فيها. وما ذهب إليه الشافعي أصح، لأن تلك عامة، وهذه الآية خاصة. ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الأشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم.



قوله تعالى: « فمن فرض فيهن الحج » أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي. قال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم. وأصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل. ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقدح. وقيل: « فرض » أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. و « من » رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: « فرض » ، لأن « من » ليست بموصولة، فكأنه قال: رجل فرض. وقال: « فيهن » ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال. وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعال
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 08, 2012 7:42 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


تعالى: « إن عدة الشهور » [ التوبة: 36 ] ثم قال: « منها » .

قوله تعالى: « فلا رفث » قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لأنه يفسده. وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدي. وقال عبدالله بن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:

وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا

فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء. وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا. وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها. وقرأ ابن مسعود « فلا رفوث » على الجمع. قال ابن العربي: المراد بقوله « فلا رفث » نفيه مشروعا لا موجدا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي. وهذا كقوله تعالى: « لا يمسه إلا المطهرون » [ الواقعة: 79 ] إذا قلنا: إنه وارد في الآدميين - وهو الصحيح - أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا.



قوله تعالى: « ولا فسوق » يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر، وشبه ذلك. وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى: « أو فسقا أهل لغير الله به » [ الأنعام: 145 ] . وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قوله: « بئس الاسم الفسوق » [ الحجرات: 11 ] . وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . والقول الأول أصح، لأنه يتناول جميع الأقوال. قال صلى الله عليه وسلم: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ، ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) خرجه مسلم وغيره. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ) . وقال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه. وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله.

قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده. قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. وقيل غير هذا، وسيأتي.



قوله تعالى: « ولا جدال في الحج » قرئ « فلا رفث ولا فسوق » بالرفع والتنوين فيهما. وقرئا بالنصب بغير تنوين. وأجمعوا على الفتح في « ولا جدال » ، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولأن المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء. والأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع « لا » . وقوله « في الحج » خبر عن جميعها. ووجه قراءة الرفع أن « لا » بمعنى « ليس » فارتفع الاسم بعدها، لأنه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه « في الحج » الثاني الظاهر وهو خبر « لا جدال » . وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال.

قلت: فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: « وإن كان ذو عسرة » فلا تحتاج إلى خبر. ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا. ويجوز أن يرفع « رفث وفسوق » بالابتداء، « ولا » للنفي، والخبر محذوف أيضا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة. ورويت عن عاصم في بعض الطرق وعليه يكون « في الحج » خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون « في الحج » خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لأن خبر ليس منصوب وخبر « ولا جدال » مرفوع، لأن « ولا جدال » مقطوع من الأول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد. ويجوز « فلا رفث ولا فسوق » تعطفه على الموضع. وأنشد النحويون:

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

ويجوز في الكلام « فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج » عطفا على اللفظ على ما كان يجب في « لا » قال الفراء: ومثله:

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا

وقال أبو رجاء العطاردي: « فلا رفث ولا فسوق » بالنصب فيهما، « ولا جدال » بالرفع والتنوين. وأنشد الأخفش:

هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

وقيل: إن معنى « فلا رفث ولا فسوق » النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى « ولا جدال » النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ. قال القشيري: وفيه نظر، إذ قيل: « ولا جدال » نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما.



قوله تعالى: « ولا جدال » الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل، ومنه زمام مجدول. وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة. قال الشاعر:

قد أركب الآلة بعد الآله وأترك العاجز بالجداله

منعفرا ليست له محالة

واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال السباب. وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا. وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسيء، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك.

قلت: فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله « ولا جدال » ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض... ) الحديث، وسيأتي في « براءة » . يعني رجع أمر الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته. وقال صلى الله عليه وسلم لما حج: ( خذوا عني مناسككم ) فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه. وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الآخر مثل ذلك. وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء، والله أعلم.



قوله تعالى: « وما تفعلوا من خير يعلمه الله » شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء. وقيل: هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال. وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه.



قوله تعالى: « وتزودوا » أمر باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمر بالزاد. وقال عبدالله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: ( يا عمر زود القوم ) . وقال بعض الناس: « تزودوا » الرفيق الصالح. وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.

قلت: القول الأول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين: قال الشعبي: الزاد التمر والسويق. ابن جبير: الكعك والسويق. قال ابن العربي: « أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون. والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عز وجل أعلم » . قال أبو الفرج الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ. قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة. فقال لا، إلا معهم. قال: فعلى جرب الناس توكلت؟!



قوله تعالى: « فإن خير الزاد التقوى » أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى. وجاء قول « فإن خير الزاد التقوى » محمولا على المعنى، لأن معنى « وتزودوا » اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد: وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفف. وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. قال أهل الإشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الآخرة. قال الأعشى:

إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال آخر:

الموت بحر طامح موجه تذهب فيه حيلة السابح

يا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح

لا يصحب الإنسان في قبره غير التقى والعمل الصالح



قوله تعالى: « واتقون يا أولي الألباب » خص أولي الألباب بالخطاب - وإن كان الأمر يعم الكل - لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. والألباب جمع لب، ولب كل شيء: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب. قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا.



الآية: 198 ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين )



قوله تعالى: « جناح » أي إثم، وهو اسم ليس. « أن تبتغوا » في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال ورخص في التجارة، المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: « فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله » [ الجمعة: 10 ] . والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: ( كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » في مواسم الحج .)



إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفقراء. أما إن الحج دون تجارة أفضل، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها. روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لك حجا ) .



قوله تعالى: « فإذا أفضتم » أي اندفعتم. ويقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه. ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء. قال زهير:

وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضله

وحديث مستفيض، أي شائع.



قوله تعالى: « من عرفات » قراءة الجماعة « عرفات » بالتنوين، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات، لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقوله: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين، قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة. وأنشدوا:

تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال

والقول الأول أحسن، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون. وعرفات: اسم علم، سمي بجمع كأذرعات. وقيل: سمي بما حوله، كأرض سباسب. وقيل: سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها. وقيل: لأن آدم لما هبط وقع بالهند، وحواء بجدة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، قاله الضحاك. وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى: « وأرنا مناسكنا » [ البقرة: 128 ] . قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:

تزودت من نعمان عوذ أراكة لهند ولكن لم يبلغه هندا

وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى: « عرفها لهم » [ محمد: 6 ] أي طيبها، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء، فلذلك سميت عرفات. ويوم الوقوف، يوم عرفة. وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف. إذا كان صابرا خاشعا ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. قال:

فصبرت عارفة لذلك حرة

أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة:

عروف لما خطت عليه المقادر

أي صبور على قضاء الله، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لإقامة هذه العبادة.



أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل، إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا. وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى: « فإذا أفضتم من عرفات » ولم يخص ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جمع، فقلت يا رسول الله، جئتك من جبلي طيء أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه ) . أخرجه غير واحد من الأئمة، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو عمر: حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبدالله بن أبي السفر ومطرف، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام. وحجة مالك من السنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرجه مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأفعاله على الوجوب، لا سيما في الحج وقد قال: ( خذوا عني مناسككم ) .



واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: عليه دم. وقال الحسن البصري: عليه هدي. وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال مالك: عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل، وهو كمن فاته الحج. فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي: لا شيء عليه، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، وبه قال الطبري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس، وبذلك قال أبو ثور.



ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي، وفي حديث ابن عباس أيضا. قال جابر: ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه... ) الحديث. فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج « ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب » [ الحج: 32 ] . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك: الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما، قال: ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح.



ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام ( كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ ) قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.



ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صلى الله عليه وسلم: ( ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ) رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن مُحَسّر ) . قال ابن عبدالبر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبدالله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الإثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال أبو عمر: واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه: يهريق دما وحجه تام. وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك. وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة. وروي عن ابن عباس قال: من أفاض من عرنة فلا حج له. وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به. قال ابن عبدالبر: الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجىء مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع. وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة، حتى ( لقد قال بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل، وعرنة في الحرم. قال أبو عمر: وأما بطن محسر فذكر وكيع: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أوضع في بطن مُحَسّر ) )



ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة، تشبيها بأهل عرفة. روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة. يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة. وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.



في فضل يوم عرفة، يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية ) . أخرجه الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) . وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء ) . وفي الموطأ عن عبيدالله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر ) . قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: ( أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ) . قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبدالملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبدالقاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها؟ فقال: تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر ) . وذكر أبو عبدالغني الحسن بن علي حدثنا عبدالرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له ) . قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبدالغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام.



استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة. روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب. قال: حديث حسن صحيح. وقد روي عن ابن عمر قال: ( حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه ) والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة. وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول، وزاد في آخره: ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، حديث حسن. وذكره ابن المنذر. وقال عطاء في صوم يوم عرفة: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة. قال ابن المنذر: الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصوم بغير عرفة أحب إلي، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ( يكفر السنة الماضية والباقية ) . وقد روينا عن عطاء أنه قال: من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم.



قوله تعالى: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام. ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها، أي دنا منها، وبه سميت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها، لأنهم يزدلفون إلى الله، أي يتقربون بالوقوف فيها. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج. ووصف بالحرام لحرمته.



ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء. واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعا، فقال مالك: من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها، واستدل على ذلك بقوله لأسامة بن زيد: ( الصلاة أمامك ) . قال ابن حبيب: من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال، لقوله عليه السلام: ( الصلاة أمامك ) . وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: لا إعادة عليه، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها، وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة. واختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب. وحكي عن الشافعي أنه قال: لا يصلي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما.



ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب: لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق، لقوله عليه السلام: ( الصلاة أمامك ) ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق، فلا يجوز أن يؤتى بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه.



وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز: من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها. وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام: إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما. وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلى كل صلاة لوقتها. فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره، وراعى مالك الوقت دون المكان، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أولى.



اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين: أحدهما: الأذان والإقامة. والآخر: هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع. قال أبو عمر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ابن المنذر ابن مسعود. ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى، لأن ليس واحدة منهما تقضى، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة، وهذا بين، والله أعلم. وقال آخرون: أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة. قالوا: وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم. قالوا: وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم، وإذا أذن أقام. قالوا: فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبدالرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة، ذكره عبدالرزاق. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري. وذكر عبدالرزاق وعبدالملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة ) وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة. وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا. وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقوي. وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط. وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الأول وعليه المعول. وقال آخرون: تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما. وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبدالله والقاسم بن محمد، واحتجوا بما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا ) قال أبو عمر: والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يختلف فيه، فهو أولى، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع.



وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا ) في رواية: ( ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا ) وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع. وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة: أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته؟ فقال: أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته. وقال أشهب في كتبه: له حط رحله قبل الصلاة، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك، لما بدابته من الثقل، أو لغير ذلك من العذر. وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين وفي حديث أسامة: ولم يصل بينهما شيئا.



وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور. واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع، فقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه، لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا فرض، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت. وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة. وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري: الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. وروي ذلك عن ابن الزبير هو قول الأوزاعي. وروي عن الثوري مثل ذلك، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة. وقال حماد بن. أبي سليمان. من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا. واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقول الله تعالى: « فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام » وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له ) . ذكره ابن المنذر. وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له: يا رسول الله، هل لي من حج؟ فقال: ( من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ) . قال الشعبي: من لم يقف بجمع جعلها عمرة. وأجاب من احتج للجمهور بأن قال: أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكورا فيها، وإنما فيها مجرد الذكر. وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك. قال أبو عمر: وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع، وإن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سنة. وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثله حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ) رواه النسائي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت...، فذكره. ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) . وقوله في حديث عروة: ( من صلى صلاتنا هذه ) . فذكر الصلاة بالمزدلفة، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام. فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك. قالوا: فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة.



قوله تعالى: « واذكروه كما هداكم » كرر الأمر تأكيدا، كما تقول: ارم. ارم. وقيل: الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام. والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل: المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال: « وإن كنتم من قبله لمن الضالين » والكاف في « كما » نعت لمصدر محذوف، و « ما » مصدرية أو كافة والمعنى: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. و « إن » مخففة من الثقيلة، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سيبويه. الفراء: نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، كما قال:

ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمن

أو بمعنى قد أي قد كنتم ثلاثة أقوال والضمير في « قبله » عائد إلى الهدي. وقيل إلى القرآن، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين. وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور، والأول أظهر والله أعلم.



الآية: 199 ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم )



قوله تعالى: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و « ثم » ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة. وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بـ « الناس » إبراهيم عليه السلام، كما قال: « الذين قال لهم الناس » [ آل عمران: 173 ] وهو يريد واحدا. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجيء « ثم » على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع.

قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للأمر بالإفاضة منها، والله أعلم والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول. روى الترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: « أفيضوا من حيث أفاض الناس » رجعوا إلى عرفات. وهذا نص صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معول على غيره من الأقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير « الناسي » وتأويله آدم عليه السلام، لقوله تعالى: « فنسي ولم نجد له عزما » [ طه: 115 ] . ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد. ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة.



روى أبو داود عن علي قال: فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال: ( هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ) . فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة. وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس. وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين.



فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا. والعنق: مشي للدواب معروف لا يجهل. والنص: فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك. وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق، وقد تقدم. ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى. وروى الثوري وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم: ( أوضعوا في وادي محسر ) وقال لهم: ( خذوا عني مناسككم ) . فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصى الخذف - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يحل له كل شيء إلا النساء، وروي عن ابن عباس.

ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئه عن علي، وقال: هو الأمر عندنا.

قلت: والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: ( عليكم بالسكينة ) وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى قال: ( عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ) ، وقال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة. في رواية: والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان. وفي البخاري عن عبدالله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم وروى الدار قطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب ) . وفي البخاري عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها. وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة « الحج » إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « إن الله غفور رحيم » أي يغفر المعاصي، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.



الآية: 200 ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق )



قوله تعالى: « فإذا قضيتم مناسككم » قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: ( خذوا عني مناسككم ) . المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم. وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك « ما سلككم » لأنهما مثلان و « قضيتم » هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة » [ الجمعة:10 ] أي أديتم الجمعة. وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها.



قوله تعالى: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم » كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية هذا قول جمهور المفسرين. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم. وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم. وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما والكاف من قول « كذكركم » في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم. « أو أشد » قال الزجاج : « أو أشد » في موضع خفض عطفا عل
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 08, 2012 7:50 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
============




عطفا على ذكركم، المعنى : أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه « أفعل » صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد. و « ذكرا » نصب على البيان.



قوله تعالى: « فمن الناس من يقول ربنا » « من » في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة يقول « ربنا آتنا في الدنيا » صلة « من » والمراد المشركون. قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا فـ « ما له في الآخرة من خلاق » أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب. و « من » زائدة وقد تقدم.



الآية: 201 ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )



قوله تعالى: « ومنهم » أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة. واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين. « وقنا عذاب النار » : المرأة السوء.

قلت: وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لأن النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز. وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن « حسنة » نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع. وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم.



قوله تعالى: « وقنا عذاب النار » أصل « قنا » أو قنا حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن العرب تقول. ورم يرم، فيحذفون الواو. والمراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة. ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حولها ندندن ) خرجه أبو داود في سننه وابن ماجة أيضا.



هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون قد سألت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) . قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ما له هجيرى غيرها، ذكره أبو عبيد. وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية: « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » . وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين، فقولوا: « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين... ) الحديث. خرجه ابن ماجة في السنن، وسيأتي بكماله مسندا في « الحج ] إن شاء الله. »



الآية: 202 ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب )



قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع « أولئك » إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام: 132 ] .



قوله تعالى: « والله سريع الحساب » من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع. « الحساب » : مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد، يقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحُسبانا وحِسبانا وحسبا، أي عد وأنشد ابن الأعرابي:

يا جمل أسقاك بلا حسابه سقيا مليك حسن الربابه

قتلتني بالدل والخلابه

والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: الحسب المال والكرم التقوى ) رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابة ( بالضم ) ، مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: إن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقول الحق: « وكفى بنا حاسبين » [ الأنبياء: 47 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب ) الحديث. فالله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر ( إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ) . وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: « يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه » [ المجادلة: 6 ] . وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

قلت: والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.



قال ابن عباس في قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي ) . قال نعم. قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.



قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع « أولئك » إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: « ولكل درجات مما عملوا » [ الأنعام: 132 ] .



قوله تعالى: « والله سريع الحساب » من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع. « الحساب » : مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد، يقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحُسبانا وحِسبانا وحسبا، أي عد وأنشد ابن الأعرابي:

يا جمل أسقاك بلا حسابه سقيا مليك حسن الربابه

قتلتني بالدل والخلابه

والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: الحسب المال والكرم التقوى ) رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابة ( بالضم ) ، مثل خطب خطابة. والمعنى في الآية: إن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقول الحق: « وكفى بنا حاسبين » [ الأنبياء: 47 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب ) الحديث. فالله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه، لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: « ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة » [ لقمان: 28 ] . قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفي الخبر ( إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ) . وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: « يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه » [ المجادلة: 6 ] . وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

قلت: والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.



قال ابن عباس في قوله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي ) . قال نعم. قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: « أولئك لهم نصيب مما كسبوا » يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت. قال أبو عبدالله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.





الآية: 203 ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون )



قوله تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » : قال الكوفيون: الألف والتاء في « معدودات » لأقل العدد. وقال البصريون: هما للقليل والكثير، بدليل قوله تعالى: « وهم في الغرفات آمنون » [ سبأ: 37 ] والغرفات كثيرة. ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمي الجمار، وهي واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك. وقال الثعلبي وقال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا حكى مكي والمهدوي أن الأيام المعدودات هي أيام العشر. ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع، على ما نقله أبو عمر بن عبدالبر وغيره. قال ابن عطية: وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد النحر، وفي ذلك بعد.



أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات. خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديا فنادى: ( الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) ، أي من تعجل من الحاج في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، ويسقط عنه رمي يوم الثالث. ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام من أجل يوم النحر، واستوفى العدد في الرمي، على ما يأتي بيانه. ومن الدليل على أن أيام منى ثلاثة - مع ما ذكرناه - قول العرجي:

ما نلتقي إلا ثلاث منى حتى يفرق بيننا النفر

فأيام الرمي معدودات، وأيام النحر معلومات. وروى نافع عن ابن عمر أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهذا مذهب مالك وغيره. وإنما كان كذلك لأن الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله سبحانه تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » ولا من التي عين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أيام منى ثلاثة ) فكان معلوما، لأن الله تعالى قال: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » [ الحج:28 ] ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى: « معلومات » لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه، فصار معدودا لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه. قال ابن العربي: والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى: « واذكروا الله في أيام معدودات » . وقال أبو حنيفة والشافعي: ( الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر ) ، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس. وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال أبو يوسف: روي ذلك عن عمر وعلي، وإليه أذهب، لأنه تعالى قال: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » . وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى ويومان بعده. قال الكيا الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، لأن الله تعالى يقول: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث. وقد روي عن ابن عباس ( أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق ) ، وهو قول الجمهور.

قلت: وقال ابن زيد: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق، وفيه بعد، لما ذكرناه، وظاهر الآية يدفعه. وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله، فلا معنى للاشتغال به.



ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا؟ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد - وخصوصا في أوقات الصلوات - فكبر عند انقضاء كل صلاة - كان المصلي وحده أو في جماعة - تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم. وفي المختصر: ولا يكبر النساء دبر الصلوات، والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة.



ومن نسي التكبير بإثر صلاة كبر إن كان قريبا، وإن تباعد فلا شيء عليه، قاله ابن الجلاب. وقال مالك في المختصر: يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه وفي المدونة من قول مالك: إن نسي الإمام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا.



واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس: ( يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ) . وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر. وخالفه صاحباه فقالا بالقول الأول، قول عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء. وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا. وقال زيد بن ثابت: ( يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ) . قال ابن العربي: فأما من قال: يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر، لأن الله تعالى قال: « في أيام معدودات » وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء: يكبر في يومين، فتركوا الظاهر لغير دليل. وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال: إنه قال: « فإذا أفضتم من عرفات » [ البقرة: 198 ] ، فذكر « عرفات » داخل في ذكر الأيام، هذا كان يصح لو كان قال: يكبر من المغرب يوم عرفة، لأن وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى.



واختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، رواه زياد بن زياد عن مالك. وفي المذهب رواية: يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وفي المختصر عن مالك: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.



قوله تعالى: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون » : قوله تعالى: « فمن تعجل » التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث، لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال. وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وكذلك أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس. وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل أن يطلع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز رميها، وبه قال أحمد وإسحاق. ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت ترمي بالليل وتقول: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود. وروي هذا القول عن عطاء وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد، وبه قال الشافعي إذا كان الرمي بعد نصف الليل. وقالت طائفة: لا يرمي حتى تطلع الشمس، قاله مجاهد والنخعي والثوري. وقال أبو ثور: إن رماها قبل طلوع الشمس فإن اختلفوا فيه لم يجزه، وإن أجمعوا، أو كانت فيه سنة أجزأه. قال أبو عمر: أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال: ( خذوا عني مناسككم ) . وقال ابن المنذر: السنة ألا ترمي إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر، فإن رمى أعاد، إذ فاعله مخالف لما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته. ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه.



روى معمر قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها. قال أبو عمر: اختلف على هشام في هذا الحديث، فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا كما رواه معمر، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة بذلك مسندا، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا، وكلهم ثقات. وهو يدل على أنها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، والله أعلم. ورواه أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها. وإذا ثبت فالرمي بالليل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشمس إلى زوالها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن وقت الاختيار في رمي جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها، وأجمعوا أنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له إن ترك جمرة العقبة حتى أمسى أن يهريق دما يجيء به من الحل. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لرمي الجمرة وقتا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رماها بعد خروج وقتها، ومن فعل شيئا في الحج بعد وقته فعليه دم. وقال الشافعي: لا دم عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وبه قال أبو ثور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له السائل: يا رسول الله، رميت بعد ما أمسيت فقال: ( لا حرج ) ، قال مالك: من نسي رمي الجمار حتى يمسي فليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي أية ساعة ذكر، ولا يرمي إلا ما فاته خاصة، وإن كانت جمرة واحدة رماها، ثم يرمي ما رمى بعدها من الجمار، فإن الترتيب في الجمار واجب، فلا يجوز أن يشرع في رمي جمرة حتى يكمل رمي الجمرة الأولى كركعات الصلاة، هذا هو المشهور من المذهب. وقيل: ليس الترتيب بواجب في صحة الرمي، بل إذا كان الرمي كله في وقت الأداء أجزأه.



فإذا مضت أيام الرمي فلا رمي فإن ذكر بعد ما يصدر وهو بمكة أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة حتى خرجت أيام منى فعليه دم. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة العقبة فعليه دم. وقال الأوزاعي: يتصدق إن ترك حصاة. وقال الثوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعة فصاعدا فعليه دم. وقال الليث: في الحصاة الواحدة دم، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الآخر وهو المشهور: إن في الحصاة الواحدة مدا من طعام، وفي حصاتين مدين، وفي ثلاث حصيات دم.



ولا سبيل عند الجميع إلى رمي ما فاته من الجمار في أيام التشريق حتى غابت الشمس من آخرها، وذلك اليوم الرابع من يوم النحر، وهو الثالث من أيام التشريق، ولكن يجزئه الدم أو الإطعام على حسب ما ذكرنا.



ولا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى ليالي التشريق، فإن ذلك غير جائز عند الجميع إلا للرعاء، ولمن ولي السقاية من آل العباس. قال مالك: من ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية فعليه دم. روى البخاري عن ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. قال ابن عبدالبر: كان العباس ينظر في السقاية ويقوم بأمرها، ويسقي الحاج شرابها أيام الموسم، فلذلك أرخص له في المبيت عن منى، كما أرخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم لرعي الإبل وضرورتهم إلى الخروج بها نحو المراعي التي تبعد عن منى.

وسميت منى « منى » لما يمنى فيها من الدماء، أي يراق. وقال ابن عباس: ( إنما سميت، منى لأن جبريل قال لآدم عليه السلام: تمن. قال: أتمنى الجنة، فسميت منى. قال: وإنما سميت جمعا لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام ) ، والجمع أيضا هو المزدلفة، وهو المشعر الحرام، كما تقدم.



وأجمع الفقهاء على أن المبيت للحاج غير الذين رخص لهم ليالي منى بمنى من شعائر الحج ونسكه، والنظر يوجب على كل مسقط لنسكه دما، قياسا على سائر الحج ونسكه. وفي الموطأ: مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. والعقبة التي منع عمر أن يبيت أحد وراءها هي العقبة التي عند الجمرة التي يرميها الناس يوم النحر مما يلي مكة. رواه ابن نافع عن مالك في المبسوط، قال: وقال مالك: ومن بات وراءها ليالي منى فعليه الفدية، وذلك أنه بات بغير منى ليالي منى، وهو مبيت مشروع في الحج، فلزم الدم بتركه كالمبيت بالمزدلفة، ومعنى الفدية هنا عند مالك الهدي. قال مالك: هو هدي يساق من الحل إلى الحرم.



روى مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.

قال أبو عمر: لم يقل مالك بمقتضى هذا الحديث، وكان يقول: يرمون يوم النحر - يعني جمرة العقبة - ثم لا يرمون من الغد، فإذا كان بعد الغد وهو الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الذي يتعجل فيه النفر من يريد التعجيل أو من يجوز له التعجيل رموا اليومين لذلك اليوم ولليوم الذي قبله، لأنهم يقضون ما كان عليهم، ولا يقضي أحد عنده شيئا إلا بعد أن يجب عليه، هذا معنى ما فسر به مالك هذا الحديث في موطئه. وغيره يقول: لا بأس بذلك كله على ما في حديث مالك، لأنها أيام رمي كلها، وإنما لم يجز عند مالك للرعاء تقديم الرمي لأن غير الرعاء لا يجوز لهم أن يرموا في أيام التشريق شيئا من الجمار قبل الزوال، فإن رمى قبل الزوال أعادها، ليس لهم التقديم. وإنما رخص لهم في اليوم الثاني إلى الثالث. قال ابن عبدالبر: الذي قاله مالك في هذه المسألة موجود في رواية ابن جريج قال: أخبرني محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاء أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرمون الغد. قال علماؤنا: ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل. قال ابن أبي زمنين يرميها يوم النفر الأول حين يريد التعجيل. قال ابن المواز: يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، لأنه قد رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع. قال ابن المنذر: ويسقط رمي اليوم الثالث.



روى مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل، يقول في الزمن الأول. قال الباجي: « قوله في الزمن الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أول زمن هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل. ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا مسندا » . والله أعلم.

قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في « المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس » ، وإنما أبيح لهم الرمي بالليل لأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل، لأن الليل وقت لا ترعى فيه ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيمن فاته الرمي حتى غربت الشمس، فقال عطاء: لا رمي بالليل إلا لرعاء الإبل، فأما التجار فلا. وروي عن ابن عمر أنه قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تطلع الشمس من الغد، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك: إذا تركه نهارا رماه ليلا، وعليه دم في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في الموطأ أن عليه دما. وقال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي ولا دم عليه. وكان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلا. وقال أبو حنيفة: يرمي ولا شيء عليه، وإن لم يذكرها من الليل حتى يأتي الغد فعليه أن يرميها وعليه دم. وقال الثوري: إذا أخر الرمي إلى الليل ناسيا أو متعمدا أهرق دما.

قلت: أما من رمى من رعاء الإبل أو أهل السقاية بالليل فلا دم يجب، للحديث، وإن كان من غيرهم فالنظر يوجب الدم لكن مع العمد، والله أعلم.



ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته. واستحب مالك وغيره أن يكون الذي يرميها راكبا. وقد كان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمونها وهم مشاة، ويرمي في كل يوم من الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة، يكبر مع كل حصاة ويكون وجهه في حال رميه إلى الكعبة، ويرتب الجمرات ويجمعهن ولا يفرقهن ولا ينكسهن، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات رميا ولا يضعها وضعا، كذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، فإن طرحها طرحا جاز عند أصحاب الرأي. وقال ابن القاسم: لا تجزئ في الوجهين جميعا، وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرميها، ولا يرمي عندهم بحصاتين أو أكثر في مرة، فإن فعل عدها حصاة واحدة، فإذا فرغ منها تقدم أمامها فوقف طويلا للرعاء بما تيسر. ثم يرمي الثانية وهي الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل، ويطيل الوقوف عندها للدعاء. ثم يرمي الثالثة بموضع جمرة العقبة بسبع حصيات أيضا، يرميها من أسفلها ولا يقف عندها، ولو رماها من فوقها أجزأه، ويكبر في ذلك كله مع كل حصاة يرميها. وسنة الذكر في رمي الجمار التكبير دون غيره من الذكر، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر، وهذا كله توقيف رفعه النسائي والدارقطني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد - مسجد منى - يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف. ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه ثم يدعو. ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها. قال الزهري: سمعت سالم بن عبدالله يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان ابن عمر يفعله، لفظ الدارقطني.



وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة، ولا مما رمي به، فإن رمى بما قد رمي به لم يجزه عند مالك، وقد قال عنه ابن القاسم: إن كان ذلك في حصاة واحدة أجزأه، ونزلت بابن القاسم فأفتاه بهذا.



واستحب أهل العلم أخذها من المزدلفة لا من حصى المسجد، فإن أخذ زيادة على ما يحتاج وبقي ذلك بيده بعد الرمي دفنه ولم يطرحه، قال أحمد بن حنبل وغيره.



ولا تغسل عند الجمهور خلافا لطاوس، وقد روي أنه لو لم يغسل الجمار النجسة أو رمى بما قد رمي به أنه أساء وأجزأ عنه. قال ابن المنذر: يكره أن يرمي بما قد رمي به، ويجزئ إن رمى به، إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك الإعادة، ولا نعلم في شيء من الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل الحصى ولا أمر بغسله، وقد روينا عن طاوس، أنه كان يغسله.



ولا يجزئ في الجمار المدر ولا شيء غير الحجر، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي: يجوز بالطين اليابس، وكذلك كل شيء رماها من الأرض فهو يجزئ. وقال الثوري: من رمى بالخزف والمدر لم يعد الرمي. قال ابن المنذر: لا يجزئ الرمي إلا بالحصى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « عليكم بحصى الخذف » . وبالحصى رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.



واختلف في قدر الحصى، فقال الشافعي: يكون أصغر من الأنملة طولا وعرضا. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: بمثل حصى الخذف، وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بمثل بعر الغنم، ولا معنى لقول مالك: أكبر من ذلك أحب إلي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الرمي بمثل حصى الخذف، ويجوز أن يرمى بما وقع عليه اسم حصاة، واتباع السنة أفضل، قاله ابن المنذر.

قلت: وهو الصحيح الذي لا يجوز خلافه لمن اهتدى واقتدى. روى النسائي عن ابن عباس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: ( هات القط لي - فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال - : بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) . فدل قوله: ( وإياكم والغلو في الدين ) على كراهة الرمي بالجمار الكبار، وأن ذلك من الغلو، والله أعلم. ومن بقي في يده حصاة لا يدري من أي الجمار هي جعلها من الأولى، ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال استأنف جميعا.



قال مالك والشافعي وعبدالملك وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن قدم جمرة على جمرة: لا يجزئه إلا أن يرمي على الولاء. وقال الحسن، وعطاء وبعض الناس: يجزئه. واحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج وقال: - لا يكون هذا بأكثر من رجل اجتمعت عليه صلوات أو صيام فقضى بعضا قبل بعض ) . والأول أحوط، والله أعلم.



واختلفوا في رمي المريض والرمي عنه، فقال مالك: يرمى عن المريض والصبي اللذين لا يطيقان الرمي، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدي، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه، وعليه مع ذلك دم عند مالك. وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: يرمى عن المريض، ولم يذكروا هديا. ولا خلاف في الصبي الذي لا يقدر على الرمي أنه يرمى عنه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.



روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قلنا: يا رسول الله، هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص، فقال: ( إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال ) .

قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن لمن أراد الخروج من الحاج من منى شاخصا إلى بلده خارجا عن الحرم غير مقيم بمكة في النفر الأول أن ينفر بعد زوال الشمس إذا رمى في اليوم الذي يلي يوم النحر قبل أن يمسي، لأن الله جل ذكره قال: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، فلينفر من أراد النفر ما دام في شيء من النهار. وقد روينا عن النخعي والحسن أنهما قالا: من أدركه العصر وهو بمنى من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد. قال ابن المنذر: وقد يحتمل أن يكونا قالا ذلك استحبابا، والقول الأول به نقول، لظاهر الكتاب والسنة.



واختلفوا في أهل مكة هل ينفرون النفر الأول، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفروا في النفر الأول، إلا آل خزيمة فلا ينفرون إلا في النفر الآخر. وكان أحمد بن حنبل يقول: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة، وقال: أهل مكة أخف، وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر بن الخطاب: ( إلا آل خزيمة ) أي أنهم أهل حرم. وكان مالك يقول في أهل مكة: من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه مما هو فيه من أمر الحج فلا، فرأى التعجيل لمن بعد قطره. وقالت طائفة: الآية على العموم، والرخصة لجميع الناس، أهل مكة وغيرهم، أراد الخارج عن منى المقام بمكة أو الشخوص إلى بلده. وقال عطاء: هي للناس عامة. قال ابن المنذر: وهو يشبه مذهب، الشافعي، وبه نقول. وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: ( من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ) ، فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي أيضا: ( معنى من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له ) ، واحتجوا بقوله عليه السلام: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه ) . فقوله: « فلا إثم عليه » نفي عام وتبرئة مطلقة. وقال مجاهد أيضا: معنى الآية، من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام المقبل. وأسند في هذا القول أثر. وقال أبو العالية في الآية: لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة، أي ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي من عمره. وقال أبو صالح وغيره: معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد، وما يجب عليه تجنبه في الحج. وقال أيضا: لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا.



« من » في قوله: « فمن تعجل » رفع بالابتداء، والخبر « فلا إثم عليه » . ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم، لأن معنى « من » جماعة، كما قال جل وعز: « ومنهم من يستمعون إليك » [ يونس: 42 ] وكذا « ومن تأخر فلا إثم عليه » . واللام من قوله: « لمن اتقى » متعلقة بالغفران، التقدير المغفرة لمن اتقى، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلي. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي. وقال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى. وقال بعضهم: لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم. وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى، روي هذا عن ابن عمر. وقيل: السلامة لمن اتقى. وقيل: هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى: « واذكروا » أي الذكر لمن اتقى. وقرأ سالم بن عبدالله « فلا إثم عليه » بوصل الألف تخفيفا، والعرب قد تستعمله. قال الشاعر:

إن لم أقاتل فالبسوني برقعا

ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف.



الآية: 204 ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام )



قوله تعالى: « ومن الناس من يعجبك قوله » لما ذكر الذين قصرت همتهم على الدنيا - في قوله: « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا » [ البقرة: 200 ] - والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان وأسروا الكفر. قال السدي وغيره من المفسرين: نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبي، والأخنس لقب لُقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي في « آل عمران » بيانه. وكان رجلا حلو القول والمنظر، فجاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر. قال المهدوي: وفيه نزلت « ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم » [ ن: 10 - 11 ] و « ويل لكل همزة لمزة » [ الهمزة: 1 ] . قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم. وقال ابن عباس: ( نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع: عاصم بن ثابت، وخبيب، وغيرهم، وقالوا: ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ) ، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » [ البقرة: 207 ] . وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون، وعلي يجترئون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. ومعنى « ويٌشهد الله » أي يقول: الله يعلم أني أقول حقا. وقرأ ابن محيصن « ويشهد الله على ما في قلبه » بفتح الياء والهاء في « يشهد » « الله » بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال. دليل قوله: « والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » [ المنافقون: 1 ] . وقراءة ابن عباس: « والله يشهد على ما في قلبه » . وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه. وقرأ أبي وابن مسعود: « ويستشهد الله على ما في قلبه » وهي حجة لقراءة الجماعة.



قال علماؤنا: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا. فإن قيل: هذا يعارضه قوله عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الحديث، وقوله: ( فأقضي له على نحو ما أسمع ) فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عم الفساد فلا، قاله ابن العربي.

قلت: والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.



قوله تعالى: « وهو ألد الخصام » الألد: الشديد الخصومة، وهو رجل ألد، وامرأة لداء، وهم أهل لدد. وقد لددت - بكسر الدال - تلد - بالفتح - لددا، أي صرت ألد. ولددته - بفتح الدال - ألده - بضمها - إذا جادلته فغلبته. والألد مشتق من اللديدين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب. قال الشاعر :

وألد ذي حنق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل

وقال آخر:

إن تحت التراب عزما وحزما وخصيما ألد ذا مغلاق

و « الخصام » في الآية مصدر خاصم، قاله الخليل. وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج، ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام. والمعنى أشد المخاصمين خصومة، أي هو ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل. وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) .

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 08, 2012 8:05 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 205 ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )



قوله تعالى: « وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها » قيل: « تولى وسعى » من فعل القلب، فيجيء « تولى » بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه. و « سعى » أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله، عن ابن جريج وغيره. وقيل: هما فعل الشخص، فيجيء « تولى » بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد. و « سعى » أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، عن ابن عباس وغيره. وكلا السعيين فساد. يقال: سعى الرجل يسعى سعيا، أي عدا، وكذلك إذا عمل وكسب. وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم.



قوله تعالى: « ويُهلك » عطف على ليفسد. وفي قراءة أبي « وليهلك » . وقرأ الحسن، وقتادة « ويهلك » بالرفع، وفي رفعه أقوال: يكون معطوفا على « يعجبك » . وقال أبو حاتم: هو معطوف على « سعى » لأن معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: وهو يهلك. وروي عن ابن كثير « ويهلك » بفتح الياء وضم الكاف، « الحرث والنسل » مرفوعان بيهلك، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي حيوة وابن محيصن، ورواه عبدالوارث عن أبي عمرو. وقرأ قوم « ويهلك » بفتح الياء واللام، ورفع الحرث، لغة هَلَكَ يَهلك، مثل ركن يركن، وأبى يأبى، وسلى يسلى، وقلى يقلى، وشبهه. والمعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر، قاله الطبري. قال غيره: ولكنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل علمه استوجب تلك اللعنة والعقوبة. قال بعض العلماء: إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة. وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وقيل: الحرث النساء، والنسل الأولاد، وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، قال معناه الزجاج. والسعي في الأرض المشي بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس، والله أعلم.

وفي الحديث: ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) . وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « الحرث والنسل » الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض. والحرث: كسب المال وجمعه، وفي الحديث: ( احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ) . والحرث الزرع. والحراث الزراع. وقد حرث واحترث، مثل زرع وازدرع ويقال: احرث القرآن، أي ادرسه. وحرثت الناقة وأحرثتها، أي سرت عليها حتى هزلت وحرثت النار حركتها. والمحراث: ما يحرك به نار التنور، عن الجوهري. والنسل: ما خرج من كل أنثى من ولد. وأصله الخروج والسقوط، ومنه نسل الشعر، وريش الطائر، والمستقبل ينسل، ومنه « إلى ربهم ينسلون » [ يس: 51 ] ، « من كل حدب ينسلون » [ الأنبياء: 96 ] وقال امرؤ القيس:

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

قلت: ودلت الآية على الحرث وزراعة الأرض، وغرسها بالأشجار حملا على الزرع، وطلب النسل، وهو. نماء الحيوان، وبذلك يتم قوام الإنسان. وهو يرد على من قال بترك الأسباب، وسيأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « والله لا يحب الفساد » قال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب. وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض. وقال عطاء: إن رجلا يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعها. قال قتادة: قلت لعطاء: إنا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد.

قلت: والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قيل: معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح، أولا يحبه دينا.

ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به، والله أعلم.



الآية: 206 ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد )



هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا. وقال عبدالله: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني! والعزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه. ومنه: « وعزني في الخطاب » [ ص : 23 ] وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر:

أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر

وقيل: العزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إياه. وقال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم. وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية. ونظيره: « بل الذين كفروا في عزة وشقاق » [ ص: 2 ] وقيل: الباء في « بالإثم » بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة:

وكأن ربا أو كحيلا معقدا حش الوقود به جوانب قمقم

أي حش الوقود له وقيل: الباء بمعنى مع، أي أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلات. وذكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت، فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى: « وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد » . حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل. والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي.

وسمي جهنم مهادا لأنها مستقر الكفار. وقيل: لأنها بدل لهم من المهاد، كقوله: « فبشرهم بعذاب أليم » [ آل عمران: 21 ] ونظيره من الكلام قولهم:

تحية بينِهم ضرب وجيع



الآية: 207 ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد )



« ابتغاء » نصب على المفعول من أجله. ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين. قيل: نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، وأخذ قوسه، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وايْم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » الآية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ربح البيع أبا يحيى ) ، وتلا عليه الآية، أخرجه رزين، وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما. وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيبا فعذبوه، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان شرط عليه راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى. فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر، فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية. وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في المسلم لقي الكافر فقال له: قل لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرين نفسي لله، فتقدم فقاتل حتى قتل. وقيل: نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وعلى ذلك تأولها عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، قال علي وابن عباس: ( اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله وقاتله فاقتتلا ) . وقال أبو الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية، فقال عمر: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ) . وقيل: إن عمر سمع ابن عباس يقول: ( اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية ) ، فسأله عما قال ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر، ( لله تلادك يا ابن عباس ) ! وقيل: نزلت فيمن يقتحم القتال. حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، ومثله عن أبي أيوب. وقيل: نزلت في شهداء غزوة الرجيع. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار. وقيل: نزلت في علي رضي الله عنه حين تركه النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار، على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وقيل: الآية عامة، تتناول كل مجاهد في سبيل الله، أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر. وقد تقدم حكم من حمل على الصف، ويأتي ذكر المغير للمنكر وشروطه وأحكامه في « آل عمران » إن شاء الله تعالى.

و « يشري » معناه يبيع، ومنه « وشروه بثمن بخس » [ يوسف: 20 ] أي باعوه، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى: « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة » [ التوبة: 111 ] . ومنه قول الشاعر:

وإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدنيا بجناته الخلد

وقال آخر:

وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه

البرد هنا اسم غلام. وقال آخر:

يعطى بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبها ألا فاشر

وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله. « ابتغاء » مفعول من أجله. ووقف الكسائي على « مرضات » بالتاء، والباقون بالهاء. قال أبو علي: وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول: طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر:

بل جوزتيهاء كظهر الحجفت

وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد. والمرضاة الرضا، يقال: رضي يرضى رضا ومرضاة. وحكى قوم أنه يقال: شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال: إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله. فيستقيم اللفظ على معنى باع.



الآية: 208 ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )



لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس. ومنه قول الشاعر الكندي:

دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا

أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي، ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري. وقيل: أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم. وقال طاوس ومجاهد: ادخلوا في أمر الدين. سفيان الثوري: في أنواع البر كلها. وقرئ « السلم » بكسر السين.

قال الكسائي: السِّلم والسَّلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة. وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأههنا: « ادخلوا في السلم » وقال هو الإسلام. وقرأ التي في « الأنفال » والتي في سورة « محمد » صلى الله عليه وسلم « السلم » بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال عاصم الجحدري: السلم الإسلام، والسلم الصلح، والسلم الاستسلام. وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس، ويحتاج من فرق إلى دليل. وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم وسلم، بمعنى واحد. قال الجوهري: والسلم الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ولذلك قيل للصلح: سلم. قال زهير:

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم

ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم. وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: الإسلام ثمانية أسهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام. وقال ابن عباس: ( نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم كافة ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن، بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . و ( كافة ) معناه جميعا، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين، وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام. والكف المنع، ومنه كفة القميص - بالضم - لأنها تمنع الثوب من الانتشار، ومنه كفة الميزان - بالكسر - التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره، وكل مستدير كفة، وكل مستطيل كفة. ورجل مكفوف البصر، أي منع عن النظر، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق. « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » ( ولا تتبعوا ) نهي. ( خطوات الشيطان ) مفعول، وقد تقدم. وقال مقاتل: استأذن عبدالله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فنزلت. « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » فإن اتباع السنة أولى بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان. وقيل: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان. « إنه لكم عدو مبين » ظاهر العداوة، وقد تقدم.



الآية: 209 ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم )



« فإن زللتم » أي تنحيتم عن طريق الاستقامة. وأصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه. وقرأ أبو السمال العدوي « زللتم » بكسر اللام، وهما لغتان. وأصل الحرف، من الزلق، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق. « من بعد ما جاءتكم البينات » أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به. وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع. وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه « فاعلموا أن الله غفور رحيم » فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: « فاعلموا أن الله عزيز حكيم » فقال كعب: هكذا ينبغي. و « عزيز » لا يمتنع عليه ما يريده. « حكيم » فيما يفعله.



الآية: 210 ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور )



« هل ينظرون » يعني التاركين الدخول في السلم، و « هل » يراد به هنا الجحد، أي ما ينتظرون: « إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » . نظرته وانتظرته بمعنى. والنظر الانتظار. وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع والضحاك « في ظلال من الغمام » . وقرأ أبو جعفر « والملائكة » بالخفض عطفا على الغمام، وتقديره مع الملائكة، تقول العرب: أقبل الأمير في العسكر، أي مع العسكر. « ظلل » جمع ظلة في التكسير، كظلمة وظلم وفي التسليم ظللات، وأنشد سيبوبه:

إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها سواقط من حر وقد كان أظهرا

وظلات وظلال، جمع ظل في الكثير، والقليل أظلال. ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلة، مثل قوله: قلة وقلال، كما قال الشاعر:

ممزوجة بماء القلال



قال الأخفش سعيد: و « الملائكة » بالخفض بمعنى وفي الملائكة. قال: والرفع أجود، كما قال: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » [ الأنعام: 158 ] ، « وجاء ربك والملك صفا صفا » [ الفجر: 22 ] . قال الفراء: وفي قراءة عبدالله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام » . قال قتادة: الملائكة يعني تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال يوم القيامة، وهو أظهر. قال أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. وقيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه. وقيل: أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: « فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا » [ الحشر: 2 ] أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد. وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال: « فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] . وقال في قصة النضير: « فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب » ، وقال: « وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها » [ الأنبياء: 47 ] . وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني لأن أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا. وقيل: الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث: ( يأتيهم الله في صورة ) أي بصورة امتحانا لهم ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم، أي يستر، كما تقدم. وقرأ معاذ بن جبل: « وقضاء الأمر » . وقرأ يحيى بن يعمر « وقضي الأمور » بالجمع. والجمهور « وقضي الأمر » فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « ترجع الأمور » على بناء الفعل للفاعل، وهو الأصل، دليله « ألا إلى الله تصير الأمور » [ الشورى: 53 ] ، « إلى الله مرجعكم » [ المائدة: 48 - 105 ] . وقرأ الباقون « ترجع » على بنائه للمفعول، وهي أيضا قراءة حسنة، دليله « ثم تردون » [ التوبة: 94 ] « ثم ردوا إلى الله » [ الأنعام: 62 ] ، « ولئن رددت إلى ربي » [ الكهف: 36 ] . والقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل الأولى، وبناؤه للمفعول توسع وفرع، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد. وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين سبتمبر 10, 2012 6:58 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 211 ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب )



قوله تعالى: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة » « سل » من السؤال: بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في، « سل » وثبوتها في « واسأل » وجهين:

أحدهما - حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها.

والوجه الثاني - أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: « سل بني إسرائيل » ، وقوله: « سلهم أيهم بذلك زعيم » [ ن : 40 ] . وثبت في العطف، مثل قوله: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « واسألوا الله من فضله » [ النساء: 32 ] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه « اسأل » على الأصل. وقرأ قوم « اسل » على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الاحمر. و « كم » في موضع نصب، لأنها مفعول ثان لآتيناهم. وقيل: بفعل مضمر، تقديره كم آتينا آتيناهم. ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لأن لها صدر الكلام. « من آية » في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في آتيناهم، ويصير فيه عائد على كم، تقديره: كم آتيناهموه، ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن كما في هذه الآية، فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر:

كم بجود مقرف نال العلا وكريم بخله قد وضعه

والمراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد عليه السلام من آية معرفة به دالة عليه. قال مجاهد والحسن وغيرهما: يعني الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك. وأمر الله تعالى نبيه بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ.



قوله تعالى: « ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته » لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاللفظ منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى. وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول. ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا.



قوله تعالى: « فإن الله شديد العقاب » خبر يتضمن الوعيد. والعقاب مأخوذ من العقب، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر. فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب، وقد عاقبه بذنبه.



الآية: 212 ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب )



قوله تعالى: « زين للذين كفروا الحياة الدنيا » على ما لم يسم فاعله. والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: وهي قراءة شاذة، لأنه لم يتقدم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة: « زينت » بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي، والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا.



قوله تعالى: « ويسخرون من الذين آمنوا » إشارة إلى كفار قريش، فإنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: في طلبهم الآخرة. وقيل: لفقرهم وإقلالهم، كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، رضي الله عنهم، فنبه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله: « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » . وروى علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة ثم فضحه ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تل من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب وليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده ) . ثم قيل: معنى « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » أي في الدرجة، لأنهم في الجنة والكفار في النار. ويحتمل أن يراد بالفوق المكان، من حيث إن الجنة في السماء، والنار في أسفل السافلين. ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب مع العاص بن وائل، قال خباب: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال فقلت له: إني لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، الحديث. وسيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى. ويقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل ذلك يقال، حكاه الأخفش. والاسم السخرية والسخري والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: « ليتخذ بعضهم بعضا سخريا » [ الزخرف: 32 ] وقوله: « فاتخذتموهم سخريا » [ المؤمنون: 110 ] . ورجل سخرة. يسخر منه، وسخرة - بفتح الخاء - يسخر من الناس. وفلان سخرة يتسخر في العمل، يقال: خادمه سخرة، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة.



قوله تعالى: « والله يرزق من يشاء بغير حساب » قال الضحاك: يعني من غير تبعة في الآخرة. وقيل: هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم. وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينعد. وقيل: إن قوله: « بغير حساب » صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: « جزاء من ربك عطاء حسابا » [ النبأ: 36 ] . والله أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين، كما قال: « ويرزقه من حيث لا يحتسب » [ الطلاق: 3 ] .



الآية: 213 ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )



قوله تعالى: « كان الناس أمة واحدة » أي على دين واحد. قال أبي بن كعب، وابن زيد: المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية. وقال مجاهد: الناس آدم وحده، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل. وقيل: آدم وحواء. وقال ابن عباس وقتادة: ( المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده ) . وقال ابن أبي خيثمة: منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة. وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة. وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة، متمسكين بالدين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا. وهذا فيه نظر، لأن إدريس بعد نوح على الصحيح. وقال قوم منهم الكلبي الواقدي: المراد نوح ومن في السفينة، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا. وقال ابن عباس أيضا: ( كانوا أمة واحدة على الكفر، يريد في مدة نوح حين بعثه الله ) . وعنه أيضا: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة، كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين. فـ « كان » على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضي. وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودل على هذا الحذف: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه » أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى. وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم. ويحتمل أن تكون « كان » للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص « كان » على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: « وكان الله غفورا رحيما » [ النساء: 96، 100، 152 ] . و « أمة » مأخوذة من قولهم: أممت كذا، أي قصدته، فمعنى « أمة » مقصدهم واحد، ويقال للواحد: أمة، أي مقصده غير مقصد الناس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة: ( يحشر يوم القيامة أمة وحده ) . وكذلك قال في زيد بن عمرو بن نفيل. والأمة القامة، كأنها مقصد سائر البدن. والأمة ( بالكسر ) : النعمة، لأن الناس يقصدون قصدها. وقيل: إمام، لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل، عن النحاس. وقرأ أبي بن كعب: « كان البشر أمة واحدة » وقرأ ابن مسعود « كان الناس أمة واحدة فاختلفوا » .



قوله تعالى: « فبعث الله النبيين » وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على ما جاء في حديث أبي ذر، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي. وقيل: نوح، لحديث الشفاعة، فإن الناس يقولون له: أنت أول الرسل. وقيل: إدريس، وسيأتي بيان هذا في « الأعراف » إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « مبشرين ومنذرين » نصب على الحال. « وأنزل معهم الكتاب » اسم جنس بمعنى الكتب. وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة. و « ليحكم » مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو نصب بإضمار أن، أي لأن يحكم وهو مجاز مثل « هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق » [ الجاثية: 29 ] . وقيل: أي ليحكم كل نبي بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب. وقراءة عاصم الجحدري « ليحكم بين الناس » على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة شاذة، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب. وقيل: المعنى ليحكم الله، والضمير في « فيه » عائد على « ما » من قوله: « فيما » والضمير في « فيه » الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه. موضع « الذين » رفع بفعلهم. و « أتوه » بمعنى أعطوه. وقيل: يعود على المنزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج. أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه. « بغيا بينهم » نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي، وقد تقدم معناه. وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي واقعوه. و « هدى » معناه أرشد، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم. وقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها. وقالت طائفة: إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين، من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا. وقال ابن زيد وزيد بن أسلم: من قبلتهم، فإن اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد ) ومن صيامهم، ومن جميع ما اختلفوا فيه.

وقال ابن زيد: واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبدا لله. وقال الفراء: هو من المقلوب - واختاره الطبري - قال: وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه. قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه، لأن قوله: « فهدى » يقتضي أنهم أصابوا الحق وتم المعنى في قوله: « فيه » وتبين بقوله: « من الحق » جنس ما وقع الخلاف فيه، قال المهدوي: وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف. قال ابن عطية: وليس هذا عندي بقوي. وفي قراءة عبدالله بن مسعود « لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام. و « بإذنه » قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه. وفي قوله: « والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » رد على المعتزلة في قولهم: إن العبد يستبد بهداية نفسه.



الآية: 214 ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب )



قوله تعالى: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة » « حسبتم » معناه ظننتم. قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى: « وبلغت القلوب الحناجر » [ الأحزاب: 10 ] . وقيل: نزلت في حرب أحد، نظيرها - في آل عمران - « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم » [ آل عمران: 142 ] . وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم « أم حسبتم » . و « أم » هنا منقطعة، بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها، و « حسبتم » تطلب مفعولين، فقال النحاة: « أن تدخلوا » تسد مسد المفعولين. وقيل: المفعول الثاني محذوف: أحسبتم دخولكم الجنة واقعا. و « لما » بمعنى لم. و « مثل » معناه شبه، أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم فتصبروا كما صبروا. وحكى النضر بن شميل أن « مثل » يكون بمعنى صفة، ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من البلاء. قال وهب: وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى، كان سبب موتهم الجوع والقمل، ونظير هذه الآية « الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم » [ العنكبوت: 1 - 2 - 3 ] على ما يأتي، فاستدعاهم تعالى إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال: « ألا إن نصر الله قريب » . والزلزلة: شدة التحريك، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا - بالكسر - فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، فمعنى « زلزلوا » خوفوا وحركوا. والزلزال - بالفتح - الاسم. والزلازل: الشدائد. وقال الزجاج: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه. ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج. وقرأ نافع « حتى يقول » بالرفع، والباقون بالنصب. ومذهب سيبويه في « حتى » أن النصب فيما بعدها من جهتين والرفع من جهتين، تقول: سرت حتى أدخل المدينة - بالنصب - على أن السير والدخول جميعا قد مضيا، أي سرت إلى أن أدخلها، وهذه غاية، وعليه قراءة من قرأ بالنصب. والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها، أي كي أدخلها. والوجهان في الرفع سرت حتى أدخلها، أي سرت فأدخلها، وقد مضيا جميعا، أي كنت سرت فدخلت. ولا تعمل حتى ههنا بإضمار أن، لأن بعدها جملة، كما قال الفرزدق:

فيا عجبا حتى كليب تسبني

قال النحاس: فعلى هذا القراءة بالرفع أبين وأصح معنى، أي وزلزلوا حتى الرسول يقول، أي حتى هذه حاله، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها، والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى. والرسول هنا شعيا في قول مقاتل، وهو اليسع. وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال: متى نصر الله؟. وروي عن الضحاك قال: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وعليه يدل نزول الآية، والله أعلم. والوجه الآخر في غير الآية سرت حتى أدخلها، على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن. وحكى سيبويه: مرض حتى لا يرجونه، أي هو الآن لا يرجى، ومثله سرت حتى أدخلها لا أمنع. وبالرفع قرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن وشيبة. وبالنصب قرأ الحسن وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وشبل وغيرهم. قال مكي: وهو الاختيار، لأن جماعة القراء عليه. وقرأ الأعمش: « وزلزلوا ويقول الرسول » بالواو بدل حتى. وفي مصحف ابن مسعود: « وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول » . وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، أي بلغ الجهد بهم حتى استبطؤوا النصر، فقال الله تعالى: « ألا إن نصر الله قريب » . ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب. والرسول اسم جنس. وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان. قال ابن عطية: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. ويحتمل أن يكون « ألا إن نصر الله قريب » إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.



قوله تعالى: « متى نصر الله » رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبي العباس رفع بفعل، أي متى يقع نصر الله. و « قريب » خبر « إن » . قال النحاس: ويجوز في غير القرآن « قريبا » أي مكانا قريبا. و « قريب » لا تثنيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: « إن رحمة الله قريب من المحسنين » [ الأعراف: 56 ] . وقال الشاعر:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا بسباسة بنة يشكرا

فإن قلت: فلان قريب لي ثنيت وجمعت، فقلت: قريبون وأقرباء وقرباء.



الآية: 215 ( يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم )



قوله تعالى: « يسألونك » إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك. ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت « يسألونك ماذا ينفقون » .



قوله تعالى: « ماذا ينفقون » « ما » في موضع رفع بالابتداء، و « ذا » الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت « ما » في موضع نصب بـ « ينفقون » و « ذا » مع « ما » بمنزلة شيء واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر:

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

فإن « عسى » لا تعمل فيه، فـ « ماذا » في موضع رفع وهو مركب، إذ لا صلة لـ « ذا » .



قيل: إن السائلين هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه. قال السدي: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة. قال ابن عطية: ووهم المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك. قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام.



قوله تعالى: « قل ما أنفقتم » « ما » في موضع نصب بـ « أنفقتم » وكذا « وما تنفقوا » وهو شرط والجواب « فللوالدين » ، وكذا « وما تفعلوا من خير » شرط، وجوابه « فإن الله به عليم » وقد مضى القول في اليتيم والمسكين وابن السبيل. ونظير هذه الآية قوله تعالى « فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل » [ الروم: 38 ] . وقرأ علي بن أبي طالب « يفعلوا » بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين سبتمبر 10, 2012 7:02 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 216 ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )



قوله تعالى: « كتب » معناه فرض، وقد تقدم مثله. وقرأ قوم « كتب عليكم القتل » ، وقال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة. والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » [ الحج: 39 ] ثم أذن له في قتال المشركين عامة. واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك. وقال الجمهور من الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي. قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة « براءة » إن شاء الله تعالى. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع. قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع.



قوله تعالى: « وهو كره لكم » ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع. قال ابن عرفة: الكره، المشقة والكره - بالفتح - ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها. وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات.

قلت: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس، وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.



قوله تعالى: « وعسى أن تكرهوا شيئا » قيل: « عسى » : بمعنى قد، قاله الأصم. وقيل: هي واجبة. و « عسى » من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: « عسى ربه إن طلقكن أن يبدله » [ التحريم: 5 ] . وقال أبو عبيدة: « عسى » من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم.

قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:

رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه



الآية: 217 ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )



قوله تعالى: « يسألونك » تقدم القول فيه. وروى جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن: « يسألونك عن المحيض » ، « يسألونك عن الشهر الحرام » ، « يسألونك عن اليتامى » ، ما كانوا يسألونك إلا عما ينفعهم ) . قال ابن عبدالبر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث. وروى أبو اليسار عن جندب بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عبدالله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: ولا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: « يسألونك عن الشهر الحرام » الآية. وروى أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت الآية. والقول بأن نزولها في قصة عبدالله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رهط ، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب. قال أبو عمر - في كتاب الدرر له - : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله التميمي، وخالد بن بكير الليثي. وكتب لعبدالله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبدالله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه: ( إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم ) . فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهضوا معه، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبدالله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبدالله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبدالله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام: وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبدالله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبدالله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » [ الأنفال: 41 ] فأقر الله ورسوله فعل عبدالله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » إلى قوله: « هم فيها خالدون » . وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبدالله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين.

وقيل: إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبدالله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم، فقال عبدالله بن جحش: إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث. وتفاءلت اليهود وقالوا: واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال: لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ) فهذا سبب نزول قوله تعالى: « يسألونك عن الشهر الحرام » . وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم. وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى. قال ابن عطية: وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبدالله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.



واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح. واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] . وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام. وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم. وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل عز وجل: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » الآية، قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل: « براءة من الله ورسوله » [ التوبة: 1 ] . وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق. وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى.



قوله تعالى: « قتال فيه » « قتال » بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه. قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وقال القتبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

وقرأ عكرمة: « يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل » بغير ألف فيهما. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي. وقال الفراء: هو مخفوض على نية عن. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار. قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان: جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها. قال ابن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل. وقرأ الأعرج: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » بالرفع. قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: « يسألونك » يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس:

أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل

والمعنى: أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في « أصاح » تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر:

تروح من الحي أم تبتكر

والمعنى: أتروح، فحذف الألف لأن « أم » تدل عليها.



قوله تعالى: « قل قتال فيه كبير » ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين. والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « المائدة » إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « وصد عن سبيل الله » ابتداء « وكفر به » عطف على « صد » « والمسجد الحرام » عطف على « سبيل الله » « وإخراج أهله منه » عطف على « صد » ، وخبر الابتداء « أكبر عند الله » أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره. وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها. « وكفر به » أي بالله، وقيل: « وكفر به » أي بالحج والمسجد الحرام. « وإخراج أهله منه أكبر » أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام. وقال الفراء: « صد » عطف على « كبير » . « والمسجد » عطف على الهاء في « به » ، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: « وكفر به » أي بالله عطف أيضا على « كبير » ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله. وقال عبدالله بن جحش رضي الله عنه:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن غيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبدالله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: « قل قتال فيه كبير » منسوخ بقوله: « وقاتلوا المشركين كافة » وبقوله: « فاقتلوا المشركين » [ التوبة: 5 ] . وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم.



قوله تعالى: « والفتنة أكبر من القتل » قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك. وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام.



قوله تعالى: « ولا يزالون » ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة. قال مجاهد: يعني كفار قريش. و « يردوكم » نصب بحتى، لأنها غاية مجردة.



قوله تعالى: « ومن يرتدد » أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر « فأولئك حبطت » أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.



واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر؟ وهل يورث أم لا؟ قالت طائفة: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم: ساعة واحدة. وقال آخرون: يستتاب شهرا. وقال آخرون: يستتاب ثلاثا، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم. وقال الحسن: يستتاب مائة مرة، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير. وذكر سحنون أن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال: انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس. قال: نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره. وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب. والزنديق عندهم والمرتد سواء. وقال مالك: وتقتل الزنادقة ولا يستتابون. وقد مضى هذا أول « البقرة » . واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه. وحكى ابن عبدالحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام: ( من بدل دينه فاقتلوه ) ولم يخص مسلما من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء. والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد. واختلفوا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: ( من بدل دينه فاقتلوه ) . و « من » يصلح للذكر والأنثى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن. واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بدل دينه فاقتلوه ) ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن علي مثله. ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. واحتج الأولون بقوله عليه السلام: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان... ) فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح.



قال الشافعي: إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه، لأن عمله باق. واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: « لئن أشركت ليحبطن عملك » [ الزمر: 65 ] . قالوا: وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا. وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال: « يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين » [ الأحزاب: 30 ] وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي. وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطا ههنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات. والله أعلم.



اختلاف العلماء في ميراث المرتد: فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين. وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام: ( لا وراثة بين أهل ملتين ) يدل على بطلان قولهم. وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه قال: يرثونه.



الآية: 218 ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )



قوله تعالى: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا » الآية. قال جندب بن عبدالله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبدالله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبدالله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله: « إن الذين آمنوا » ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل. وقيل: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا » إلى آخر الآية.

والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني. والهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية. والتهاجر التقاطع. ومن قال: المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله. « وجاهد » مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. والجهاد ( بالفتح ) : الأرض الصلبة. « ويرجون » معناه يطمعون ويستقربون. وإنما قال « يرجون » وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين: أحدهما لا يدري بما يختم له. والثاني - لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء. والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة، يقال: ما أتيتك إلا رجاوة الخير. وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته:

فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا

وما لي في فلان رجية، أي ما أرجو. وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخف ولم يبال. والرجا - مقصور - : ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا. والعوام من الناس يخطئون في قولهم: يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين سبتمبر 10, 2012 7:05 am

تابع تفسير القرطيى لسورة البقرة
=============



الآية: 219 ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون )

*4*قوله تعالى: « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » فيه تسع مسائل:



قوله تعالى: « يسألونك » السائلون هم المؤمنون، كما تقدم. والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه « خمروا آنيتكم » فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر ( بفتح الميم لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر:

ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره. وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف:

في لامع العقبان لا يمشي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر

ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخمر الرأي، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر.

والخمر: ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.



والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في « المائدة والنحل » إن شاء الله تعالى.



قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر. وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: « لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى » [ النساء: 43 ] ثم قوله: « إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] ثم قوله: « إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه » [ المائدة: 90 ] على ما يأتي بيانه في « المائدة » .



قوله تعالى: « والميسر » الميسر: قمار العرب بالأزلام. قال ابن عباس: ( كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله ) فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاوس وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: ( كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق ) ، على ما يأتي. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. قال علي بن أبي طالب: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء. وسيأتي في « يونس » زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى.

والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا. والياسر: اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر:

فأعنهم وايسر بما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك. وفي الصحاح: ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. ويقال: يسر القوم إذا قامروا. ورجل يسر وياسر بمعنى. والجمع أيسار، قال النابغة:

أنى أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

وقال طرفة:

وهم أيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر

وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر:

وناجية نحرت لقوم صدق وما ناديت أيسار الجزر



روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه، لأنه عنده من باب المزابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم، ونحو ذلك. والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره. وروي عنه أن الجراد وحده صنف. وقال الشافعي وأصحابه والليث بن سعد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين، على عموم الحديث. وروي عن ابن عباس ( أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا ) . قال الشافعي: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة. قال أبو عمر: قد روي عن ابن عباس ( أنه أجاز بيع الشاة باللحم، وليس بالقوي ) . وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة. قال سفيان: ونحن لا نرى به بأسا. قال المزني: إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر. قال أبو عمر: وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو عمر: ولا أعلمه يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب الشافعي، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحا. فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع. ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس. والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب، فاعلم.



قوله تعالى: « قل فيهما » يعني الخمر والميسر « إثم كبير » إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك. روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب. وروي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال: اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول:

رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيما

قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال لا نجلدك على الخمر أبدا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا. وذكر الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره، ومكتوب على القبر « هذا قبر أبي محجن » قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله.

وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل.



قوله تعالى: « ومنافع للناس » أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماسكة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوي الضعف، وتعين على الباه، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها. وقال آخر:

فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير

ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخر كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شيء. وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين.

وسهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهي: « الفذ » وفيه علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب. الثاني: « التوأم » وفيه علامتان وله وعليه نصيبان. الثالث: « الرقيب » وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا. الرابع: « حلس » وله أربع. الخامس: « النافز » والنافس أيضا وله خمس. السادس: « المسبل » وله ست. السابع: « المعلى » وله سبع. فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي. وبقي من السهام أربعة، وهي الأغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهي: « المصدر » و « المضعف » و « المنيح » و « السفيح » . وقيل: الباقية الأغفال الثلاثة: « السفيح » و « المنيح » و « الوغد » تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا. ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء. وقيل: يجعل خلفه رقيب لئلا يحابي أحدا، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الربابة فيخرج. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ويرضي صاحبها من حقه، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه « البرم » قال متمم بن نويرة:

ولا برما تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام. قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء. والربابة ( بكسر الراء ) : شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

والربابة أيضا: العهد والميثاق، قال الشاعر:

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب

وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى:

المطعمو الضيف إذا ما شتوا والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر:

بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العفاة منيحها

و « المنيح » في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد امَّلس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح. وأما المنيح الذي هو أحد الأغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل بقوله:

ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مجالا

وفي الصحاح: « والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا » . ومن الميسر قول لبيد:

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم فواحش ينعى ذكرها بالمصايف

فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل.



قوله تعالى: « وإثمهما أكبر من نفعهما » أعلم الله جل وعز أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وقرأ حمزة والكسائي « كثير » بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها. وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام. و « كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك. وقرأ باقي القراء وجمهور الناس « كبير » بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق. وأيضا فاتفاقهم على « أكبر » حجة لـ « كبير » بالباء بواحدة. وأجمعوا على رفض « أكثر » بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبدالله بن مسعود فإن فيه « قل فيهما إثم كثير » « وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين.



قال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية، لأن الله تعالى قد قال: « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم » [ الأعراف: 33 ] فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام. قال ابن عطية: ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر.

قلت: وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل: « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم » وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول

قلت: وهذا أيضا ليس بجيد، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال: « قل فيهما إثم كبير » ولم يقل: قل هما إثم كبير. وأما آية « الأعراف » وبيت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبينا، إن شاء الله تعالى. وقد قال قتادة: إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهي آية « المائدة » وعلى هذا أكثر المفسرين.



قوله تعالى: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون » « قل العفو » قراءة الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير. وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق. قال النحاس وغيره: إن جعلت « ذا » بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب. وإن جعلت « ما » و « ذا » شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو، وجاز الرفع. وحكى النحويون: ماذا تعلمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب.



قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: « ويسألونك ماذا ينفقون » سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح - كما تقدم - فإنه لما نزل « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين » [ البقرة: 215 ] قال: كم أنفق؟ فنزل: « قل العفو » والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر:

خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: ( العفو ما فضل عن العيال ) ، ونحوه عن ابن عباس وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى وكذا قال عليه السلام: ( خير الصدقة ما أنفقت عن غنى ) وفي حديث آخر: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) . وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة. وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقيل: هي منسوخة. وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آيه الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها. وقال قوم: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة. والظاهر يدل على القول الأول.



قوله تعالى: « كذلك يبين الله لكم الآيات » قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة. « لعلكم تتفكرون » فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.





الآية: 220 ( في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم )



روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: ( لما أنزل الله تعالى: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن » [ الأنعام: 152 ] و « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما » [ النساء: 10 ] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير » الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ) ، لفظ أبي داود. والآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى. وقيل: إن السائل عبدالله بن رواحة. وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية.



لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية. فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة. لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.



تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا. واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها. وقال غيره: إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم. قال محمد بن عبدالحكم: وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا. قال ابن كنانة: وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله. قال: وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز. ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح. وسيأتي لهذا مزيد بيان في « النساء » إن شاء الله تعالى.



ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان: حالة يمكنه الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة. وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة. قال ابن خويز منداد: ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال: أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.


واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمه، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته؟ فقال مالك: ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة: إنهم ينكحونهم إنكاحهم، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في « النساء » بيانه، إن شاء الله تعالى. وأما الشراء منه فقال مالك: يشتري في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة: له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع، لأنه لم يذكر في الآية التصرف، بل قال: « إصلاح لهم خير » من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر. وأبو حنيفة يقول: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه. والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ. وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح. والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية. وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن. وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه. ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: « ويسألونك عن اليتامى » أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف.

فإن قيل: يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه، فالجواب أن ذلك لا يلزم، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها، وأما ههنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله: « والله يعلم المفسد من المصلح » وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه: إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب، وإن جاز أن يكذبن. وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ: « والله يعلم المفسد من المصلح » . وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له، ذكره البخاري. وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا. والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس. وقال محمد بن عبدالحكم: لا يشتري من التركة، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله.


قوله تعالى: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر. وقال أبو عبيد: مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.


قوله تعالى: « فإخوانكم » خبر لمبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط. وقوله تعالى: « والله يعلم المفسد من المصلح » تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده.


قوله تعالى: « ولو شاء الله لأعنتكم » روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس: « ولو شاء الله لأعنتكم » قال: ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ) . وقيل: « لأعنتكم » لأهلككم، عن الزجاج وأبي عبيدة. وقال القتبي: لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم. وقيل: أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم. والعنت: المشقة، وقد عنت وأعنته غيره. ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه: قد أعنته، فهو عنت ومعنت. وعنتت الدابة تعنت عنتا: إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري. وأكمة عنوت: شاقة المصعد. وقال ابن الأنباري: أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك. والأصل ما وصفنا.


قوله تعالى: « إن الله عزيز » أي لا يمتنع عليه شيء « حكيم » يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين سبتمبر 10, 2012 7:17 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 221 ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون )



قوله تعالى: « ولا تنكحوا » قراءة الجمهور بفتح التاء. وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه. ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها « عناق » فجاءته، فقال لها: إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهي مشركة. وسيأتي في « النور » بيانه إن شاء الله تعالى.



واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: حرم الله نكاح المشركات في سورة « البقرة » ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة « المائدة » . وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية « المائدة » ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية « المائدة » بعض العموم. وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في « البقرة » هي الناسخة، والتي في « المائدة » هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية. قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال: حدثنا محمد بن رمح، قال: حدثنا الليث عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة « البقرة » ناسخة للآية التي في سورة « المائدة » لأن « البقرة » من أول ما نزل بالمدينة، و « المائدة » من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه: ( إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام ) ، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في « المائدة » وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيدالله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: « ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم » [ البقرة: 105 ] ، وقال: « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين » [ البينة: 1 ] ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب » [ المائدة: 5 ] بعد قوله « والمحصنات من المؤمنات » نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل. فإن قيل: أراد بقوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله » [ آل عمران: 199 ] الآية. وقوله: « من أهل الكتاب أمة قائمة » [ آل عمران: 113 ] الآية. قيل له: هذا خلاف نص الآية في قوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: « أولئك يدعون إلى النار » فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار. والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » لأن المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين.

وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحل، وتلا قول الله تعالى: « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر » [ التوبة: 29 ] إلى قوله « صاغرون » . قال المحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه. وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير.



قوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال. « ولو أعجبتكم » في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره. ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها. وقال السدي: نزلت في عبداللهله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ( ما هي يا عبدالله ) قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذه مؤمنة ) . فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية. والله أعلم.



واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب. قال ابن العربي: درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال: احتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله تعالى: « ولأمة مؤمنة خير من مشركة » . ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما، لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين. والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا: لأن الله سبحانه قال: « أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا » [ الفرقان: 24 ] . وقال عمر في رسالته لأبي موسى: « الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل » . جواب آخر: قوله تعالى: « ولأمة » لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيدالله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني.


واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك. وقال ابن حنبل: لا يعجبني. وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له: طلقها. وقال ابن القصار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم. وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وكذلك الوثنيات وغيرهن من الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات، فقالا: لا بأس بذلك. وتأولا قول الله عز وجل: « ولا تنكحوا المشركات » . فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأمة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين. قال النحاس: وهذا قول شاذ، أما سبي أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهن وأما الاحتجاج بقوله تعالى: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » فغلط، لأنهم حملوا النكاح على العقد، والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطء، فلما قال: « ولا تنكحوا المشركات » حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء. وقال أبو عمر بن عبدالبر: وقال الأوزاعي: سألت الزهري عن الرجل يشتري المجوسية أيطؤها؟ فقال: إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها. وعن يونس عن ابن شهاب قال: لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. قال أبو عمر: قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تسلم هذا - وهو أعلم الناس بالمغازي والسير - دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس وطئن ولم يسلمن. روي ذلك عن طائفة منهم عطاء وعمرو بن دينار قالا: لا بأس بوطء المجوسية، وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار. وقد جاء عن الحسن البصري - وهو ممن لم يكن غزوه ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس وما وراءهم من خراسان، وليس منهم أحد أهل كتاب - ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين، قال: أخبرنا عبدالله بن محمد بن أسد، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال: قال رجل له: يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن؟ قال: كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبها أن يصيبها لم يصبها حتى يستبرئها. وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » . أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » يعني العفائف، لا من شهر زناها من المسلمات. ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة، لما في ذلك من إفساد النسب.



قوله تعالى: « ولا تنكحوا » أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. والقراء على ضم التاء من « تنكحوا » .


في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي. قال محمد بن علي بن الحسين: « النكاح بولي في كتاب الله » ، ثم قرأ « ولا تنكحوا المشركين » . قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي ) وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم: لا نكاح إلا بولي، روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وجابر بن زيد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك والشافعي وعبيدالله بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد.

قلت: وهو قول مالك رضي الله عنهم أجمعين وأبي ثور والطبري. قال أبو عمر: حجة من قال: ( لا نكاح إلا بولي ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال: ( لا نكاح إلا بولي ) . روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضا، لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة. وممن وصله إسرائيل وأبو عوانة كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإسرائيل ومن تابعه حفاظ، والحافظ تقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضدها أصول، قال الله عز وجل: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » [ البقرة: 232 ] . وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري. ولولا أن له حقا في الإنكاح ما نهي عن العضل.

قلت: ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله: « فانكحوهن بإذن أهلهن » [ النساء: 25 ] وقوله: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن. وسيأتي بيان هذا في « النور » وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام: « إني أريد أن أنكحك » على ما يأتي بيانه في سورة « القصص » . وقال تعالى: « الرجال قوامون على النساء » [ النساء: 34 ] ، فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي. قال الطبري: في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها. وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ) . قال: حديث صحيح. وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) وهذا الحديث صحيح. ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال: سألت عنه الزهري فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو ثقة إمام وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك، لأن النسيان لا يعصم منه ابن آدم، قال صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته ) . وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسي، فإذا روى الخبر ثقة فلا يضره نسيان من نسيه، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليها.

قلت: وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي في المسند الصحيح له - على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقلها - عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) . قال أبو حاتم: لم يقل أحد في خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري هذا: ( وشاهدي عدل ) إلا ثلاثة أنفس: سويد بن يحيى الأموي عن حفص بن غياث وعبدالله بن عبدالوهاب الجمحي عن خالد بن الحارث وعبدالرحمن بن يونس الرقي عن عيسى بن يونس، ولا يصح في الشاهدين غير هذا الخبر، وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بولي، فلا معنى لما خالفهما. وقد كان الزهري والشعبي يقولان: « إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز » . وكذلك كان أبو حنيفة يقول: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر. وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما. قال ابن المنذر: وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم. وبالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول. وقال أبو يوسف: لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي. وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول: يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا. ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز. وقال الأوزاعي: « إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى » ، وهذا نحو مذهب مالك على ما يأتي. وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبي حنيفة والشعبي قوله عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي ) على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام: ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) و ( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ) . واستدلوا على هذا بقوله تعالى: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » [ البقرة: 232 ] ، وقوله تعالى: « فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » [ البقرة: 234 ] ، وبما روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني؟ فقال علي: ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك. وفي الموطأ أن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها عبدالرحمن وهو غائب، الحديث. وقد رواه ابن جريج عن عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها أنكحت رجلا هو المنذر بن الزبير امرأة من بني أخيها فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت: ليس على النساء إنكاح. فالوجه في حديث مالك أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح، وتولى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها.


ذكر ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في الأولياء، من هم؟ فقال مرة: كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء كان من العصبة أو من ذوي الأرحام أو الأجانب أو الإمام أو الوصي. وقال مرة: الأولياء من العصبة، فمن وضعها منهم في منصب حسن فهو ولي. وقال أبو عمر: قال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه: إن المرأة إذا زوجها غير وليها بإذنها فإن كانت شريفة لها في الناس حال كان وليها بالخيار في فسخ النكاح وإقراره، وإن كانت دنيئة كالمعتقة والسوداء والسعاية والمسلمانية، ومن لا حال لها جاز نكاحها، ولا خيار لوليها لأن كل واحد كفء لها، وقد روي عن مالك أن الشريفة والدنيئة لا يزوجها إلا وليها أو السلطان، وهذا القول اختاره ابن المنذر، قال: وأما تفريق مالك بين المسكينة والتي لها قدر فغير جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سوى بين أحكامهم في الدماء فقال: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) . وإذا كانوا في الدماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض فقال تعالى: « والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض » [ التوبة: 71 ] والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضا، فلو أن رجلا مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولاية أقرب من ولاية، وقرابة أقرب من قرابة. وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال، لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ، لأن الأمور إذا تفاوتت لم يرد منها إلا الحرام الذي لا يشك فيه، ويشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يفسخ إلا أن يكون خطأ لا شك فيه. وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما. والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] كما قال: « فانكحوهن بإذن أهلهن » [ النساء: 25 ] ، وقال مخاطبا للأولياء: « فلا تعضلوهن » [ البقرة: 232 ] . وقال عليه السلام: ( لا نكاح إلا بولي ) . ولم يفرقوا بين دنية الحال وبين الشريفة، لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدماء، لقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) . وسائر الأحكام كذلك. وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع في كتاب ولا سنة.

واختلفوا في النكاح يقع على غير ولي ثم يجيزه الولي قبل الدخول، فقال مالك وأصحابه إلا عبدالملك: ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب، وسواء دخل أو لم يدخل. هذا إذا عقد النكاح غير ولي ولم تعقده المرأة بنفسها، فإن زوجت المرأة نفسها وعقدت عقدة النكاح من غير ولي قريب ولا بعيد من المسلمين فإن هذا النكاح لا يقر أبدا على حال وإن تطاول وولدت الأولاد، ولكنه يلحق الولد إن دخل، ويسقط الحد، ولا بد من فسخ ذلك النكاح على كل حال. وقال ابن نافع عن مالك: الفسخ فيه بغير طلاق.



واختلف العلماء في منازل الأولياء وترتيبهم، فكان مالك يقول: أولهم البنون وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأم، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأم، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه. والوصي مقدم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيا. وقال الشافعي: لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد، لأنهم كلهم آباء. والولاية بعد الجد للإخوة، ثم الأقرب. وقال المزني: قال في الجديد: من انفرد بأم كان أولى بالنكاح، كالميراث. وقال في القديم: هما سواء.

قلت: وروى المدنيون عن مالك مثل قول الشافعي، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبي حنيفة، حكاه الباجي. وروي عن المغيرة أنه قال: « الجد أولى من الإخوة » ، والمشهور من المذهب ما قدمناه. وقال أحمد: أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم. وقال إسحاق: الابن أولى من الأب، كما قاله مالك، واختاره ابن المنذر، لأن عمر ابن أم سلمة زوجها بإذنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: أخرجه النسائي عن أم سلمة وترجم له ( إنكاح الابن أمه ) .

قلت: وكثيرا ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحاح أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال: ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) . وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب: عمر بن أبي سلمة يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة. وقيل: إنه كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين.

قلت: ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون وليا، ولكن ذكر أبو عمر أن لأبي سلمة من أم سلمة ابنا آخر اسمه سلمة، وهو الذي عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمه أم سلمة، وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه عمر أخوه.


واختلفوا في الرجل يزوج المرأة الأبعد من الأولياء - كذا وقع، والأقرب عبارة أن يقال: اختلف في المرأة يزوجها من أوليائها الأبعد والأقعد حاضر، فقال الشافعي: النكاح باطل. وقال مالك: النكاح جائز. قال ابن عبدالبر: إن لم ينكر الأقعد شيئا من ذلك ولا رده نفذ، وإن أنكره وهي ثيب أو بكر بالغ يتيمة ولا وصي لها فقد اختلف قول مالك وأصحابه وجماعة من أهل المدينة في ذلك، فقال منهم قائلون: لا يرد ذلك وينفذ، لأنه نكاح انعقد بإذن ولي من الفخذ والعشيرة. ومن قال هذا منهم لا ينفذ قال: إنما جاءت الرتبة في الأولياء على الأفضل والأولى، وذلك مستحب وليس بواجب. وهذا تحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه، وإياه اختار إسماعيل بن إسحاق وأتباعه. وقيل: ينظر السلطان في ذلك ويسأل الولي الأقرب على ما ينكره، ثم إن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يرده رده. وقيل: بل للأقعد رده على كل حال، لأنه حق له. وقيل: له رده وإجازته ما لم يطل مكثها وتلد الأولاد، وهذه كلها أقاويل أهل المدينة.


فلو كان الولي الأقرب محبوسا أو سفيها زوجها من يليه من أوليائها، وعد كالميت منهم، وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة أو غيبة لا يرجى لها أوبة سريعة زوجها من يليه من الأولياء. وقد قيل: إذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها الحاكم، والأول قول مالك.


وإذا كان الوليان قد استويا في القعدد وغاب أحدهما وفوضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر لم يكن للغائب إن قدم نكرته. وإن كانا حاضرين ففوضت أمرها إلى أحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الحاكم في ذلك، وأجاز عليها رأي أحسنهما نظرا لها، رواه ابن وهب عن مالك.


وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفي من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر. قال ابن القاسم عن مالك: لو زوج ببينة، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح، لأنه نكاح سر. وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز، وأشهدا فيما يستقبلان. وروى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال: يفرق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يعاقب الشاهدان. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: إذا تزوجها بشاهدين وقال لهما: اكتما جاز النكاح. قال أبو عمر: وهذا قول يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحبنا، قال: كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر، وأظنه حكاه عن الليث بن سعد. والسر عند الشافعي والكوفيين ومن تابعهم: كل نكاح لم يشهد عليه رجلان فصاعدا، ويفسخ على كل حال.

قلت: قول الشافعي أصح للحديث الذي ذكرناه. وروى عن ابن عباس أنه قال: ( لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد ) ، ولا مخالف له من الصحابة فيما علمته. واحتج مالك لمذهبه أن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الإشهاد عند العقد، وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع. والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الأشهاد أحرى بألا يكون الإشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلان والظهور لحفظ الأنساب. والإشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أعلنوا النكاح ) . وقول مالك هذا قول ابن شهاب وأكثر أهل المدينة.


قوله تعالى: « ولعبد مؤمن » أي مملوك « خير من مشرك » أي حسيب. « ولو أعجبكم » أي حسبه وماله، حسب ما تقدم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولامرأة مؤمنة، كما بيناه. قال صلى الله عليه وسلم: ( كل رجالكم عبيدالله وكل نسائكم إماء الله ) وقال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) وقال تعالى: « نعم العبد إنه أواب » [ ص: 30، 44 ] . وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق.


قوله تعالى: « أولئك » إشارة للمشركين والمشركات. « يدعون إلى النار » أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل. « والله يدعو إلى الجنة والمغفرة » أي إلى عمل أهل الجنة. « بإذنه » أي بأمره، قاله الزجاج.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين سبتمبر 10, 2012 7:25 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 222 ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )



قوله تعالى: « ويسألونك عن المحيض » ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وفي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض » إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما. قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين.



قوله تعالى: « عن المحيض » المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد:

كحائضة يزنى بها غير طاهر

ونساء حيض وحوائض. والحيضة: المرة الواحدة. والحيضة ( بالكسر ) الاسم، والجمع الحيض. والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت حيضة ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحائض. وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض. وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:

إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي

وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد. قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة. فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة. ابن العربي: ولها ثمانية ابن العربي. ولها ثمانية أسماء: الأول: حائض. الثاني: عارك. الثالث: فارك. الرابع: طامس. الخامس: دارس. السادس: كابر. السابع: ضاحك. الثامن: طامث. قال مجاهد في قوله تعالى: « فضحكت » يعني حاضت. وقيل في قوله تعالى: « فلما رأينه أكبرنه » [ يوسف: 31 ] يعني حضن. وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.



أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك. وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء. والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: ( يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار - فقلن وبم يا رسول الله؟ قال - تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن - قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها )

وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم. فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل، على ما يأتي.



واختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء. وقال محمد بن سلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض. فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة. وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. قال ابن عبدالبر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة. وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري. وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل. قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب - من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، وفي الاستظهار، والحجة في ذلك - في « المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس » فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما. وقال مالك: لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها. علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما. ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها. أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حيت ينقطع الدم عنها. أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما. الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار.

والثاني من الدماء: دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك. وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي. وقيل غير ذلك. وطهرها عند انقطاعه. والغسل منه كالغسل من الجنابة. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه - وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة - والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق، والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن روايتان.

والثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض. روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ) . وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روي في هذا الباب، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة. وفيه أن الحائض لا تصلي، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة. وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة. ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح. ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر. ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك. وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها.



قوله تعالى: « قل هو أذى » أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة. ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » [ البقرة: 264 ] أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى: « ودع أذاهم » [ الأحزاب: 48 ] أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفي الحديث: ( وأميطوا عنه الأذى ) يعني بـ « الأذى » الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهي العقيقة. وفي حديث الإيمان: ( وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار. وقوله تعالى: « ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر » [ النساء: 102 ] وسيأتي.



استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس. وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري. واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبدالرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي. وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها. قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، وإن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب. وكان أحمد يقول: أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس في المستحاضة: ( لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها ) . وقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ) . فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبدالبر: لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء.



قوله تعالى: « فاعتزلوا النساء في المحيض » أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصود هذا النهي ترك المجامعة. وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني ( أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ) . وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء. وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال - : ( لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ) وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: ( شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك ) . وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) . وقد تقدم. وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي. وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقالت: كل شيء إلا الفرج. قال العلماء: مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق.



واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود. وروي عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتصدق بدينار أو نصف دينار ) . أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري. فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهو قول الشافعي ببغداد. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار، والطرق لهذا كله في « سنن أبي داود والدارقطني » وغيرهما. وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار ) . قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة.



قوله تعالى: « ولا تقربوهن حتى يطهرن » قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه « يطهرن » بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل « يطهرن » بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف أبي وعبدالله « يتطهرن » . وفي مصحف أنس بن مالك « ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن » . ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر. قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي.



قوله تعالى: « فإذا تطهرن » يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم. وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت - حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها. ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة. ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: « حتى يطهرن » . والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: « فإذا تطهرن » أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: « وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح » [ النساء: 6 ] الآية، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما: بلوغ المكلف النكاح. والثاني: إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء. احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: « حتى يطهرن » مخففا هو بمعنى قوله: « يطهرن » مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: « فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين » [ التوبة: 108 ] . قال الكميت:

وما كانت الأنصار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيب

وأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما. ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل. قال ابن العربي: وهذا أقوى ما لهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذا حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا فإن ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى. والله أعلم.



واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: « ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن » يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها. وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله. في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر » [ البقرة: 228 ] وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال: « لا إكراه في الدين » [ البقرة: 256 ] وبهذا كان يقول محمود بن عبدالحكم.



وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: ( لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) وفي رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: ( لا ) زاد أبو داود: ( واغمزي قرونك عند كل حفنة ) .



قوله تعالى: « فأتوهن من حيث أمركم الله » أي فجامعوهن. وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل. والله أعلم. و « من » بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: « أروني ماذا خلقوا من الأرض » [ فاطر: 40 ] أي في الأرض،: وقوله: « إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة » [ الجمعة: 9 ] أي في يوم الجمعة. وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم. وقال ابن عباس وأبو رزين: ( من قبل الطهر لا من قبل الحيض ) ، وقاله الضحاك. وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى.



قوله تعالى: « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن. ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: « أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون » [ الأعراف: 82 ] . وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات » [ الملائكة: 32 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.



الآية: 223 ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين )



قوله تعالى: « نساؤكم حرث لكم » روى الأئمة واللفظ للمسلم عن جابر بن عبدالله قال: ( كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول ) ، فنزلت الآية « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » زاد في رواية عن الزهري: إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير إن ذلك في صمام واحد. ويروى: في سمام واحد بالسين، قاله الترمذي. وروى البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يوما، فقرأ سورة « البقرة » حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت: لا، قال: نزلت في كذا وكذا، ثم مضى. وعن عبدالصمد قال: حدثني أبي قال حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » قال: يأتيها في. قال الحميدي: يعني الفرج. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: ( إن ابن عمر والله يغفر له وهِم، إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب: وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شري أمرهما ) ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: ( جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: ( وما أهلكك؟ ) قال: حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، قال: فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ) قال: هذا حديث حسن صحيح. وروى النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: قد أكثر عليك القول. إنك تقول عن ابن عمر: ( أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن ) . قال نافع: لقد كذبوا علي! ولكن سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض علي المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ: « نسائكم حرث لكم » ، قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله سبحانه: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .



هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا، ولا يباح! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم. و « حرث » تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ « الحرث » يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع. وأنشد ثعلب:

إنما الأرحام أر ضون لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات

ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث بمعنى المحترث. ووحد الحرث لأنه مصدر، كما يقال: رجل صوم، وقوم صوم.



قوله تعالى: « أنى شئتم » معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا. و « أنى » تجيء سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من « كيف » ومن « أين » ومن « متى » ، هذا هو الاستعمال العربي في « أنى » . وقد فسر الناس « أنى » في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبوبه بـ « كيف » ومن « أين » باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسرها بـ « أين » إلى أن الوطء في الدبر مباح، وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون، وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى « كتاب السر » . وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له « كتاب سر » . ووقع هذا القول في العتبية. وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب « جماع النسوان وأحكام القرآن » . وقال الكيا الطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: « أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم » [ الشعراء: 166 ] . وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكيا: وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: « فإذا تطهرن فأتوا من حيث أمركم الله » مع قوله: « فأتوا حرثكم » ما يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد.

قلت: هذا هو الحق في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر أن العلماء لم اختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك، لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: « فأتوا حرثكم » ، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم، ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرحم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده عاقدا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: « نساؤكم حرث لكم » وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: « أنى شئتم » شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه « تحريم المحل المكروه » . ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه ( إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار ) .

قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت له الدبر، فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ) . ومثله عن علي بن طلق. وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ) وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تلك اللوطية الصغرى ) يعني إتيان المرأة في دبرها. وروي عن طاوس أنه قال: كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن. قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه.



قوله تعالى: « وقدموا لأنفسكم » أي قدموا ما ينفعكم غدا، فحذف المفعول، وقد صرح به في قوله تعالى: « وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله » [ البقرة: 11 ] . فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح. وقيل ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنة. وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا. وقيل: هو تقدم الإفراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ) الحديث. وسيأتي في « مريم » إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس وعطاء: أي قدموا ذكر الله عند الجماع، كما قال عليه السلام: ( لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا ) . أخرجه مسلم.



قوله تعالى: « واتقوا الله » تحذير « واعلموا أنكم ملاقوه » خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: ( إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا ) - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « واتقوا الله وأعلموا أنكم ملاقوه » . أخرجه مسلم بمعناه. « وبشر المؤمنين » تأنيس لفاعل البر ومبتغي سنن الهدى.



الآية: 224 ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم )



قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: ( هو الرجل يحلف ألا يبر ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت ) . وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير « لا » بعد « أن » . وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب، ولهذا قال تعالى: « واحفظوا أيمانكم » [ المائدة: 89 ] . وذم من كثر اليمين فقال تعالى: « ولا تطع كل حلاف مهين » [ القلم: 10 ] . والعرب تمتدح بقلة الأيمان، حتى قال قائلهم:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن صدرت منه الألية برت

وعلى هذا « أن تبروا » معناه: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فان الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى، وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس: بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: علي يمين، وهو لم يحلف القتبي: المعنى إذا حلفتم على ألا تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين.

قلت: وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل على سبب النزول، على ما نبينه في المسألة بعد هذا.

قيل: نزلت بسبب الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح حين تكلم في عائشة رضي الله عنها، كما في حديث الإفك، وسيأتي بيانه في « النور » ، عن ابن جريج. وقيل: نزلت في الصديق أيضا حين حلف ألا يأكل مع الأضياف. وقيل نزلت في عبدالله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان وكان ختنه على أخته، والله أعلم.



قوله تعالى: « عرضة لأيمانكم » أي نصبا، عن الجوهري. وفلان عرضة ذاك، أي عرضة لذلك، أي مقرن له قوي عليه. والعرضة: الهمة. قال:

هم الأنصار عرضتها اللقاء

وفلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه. وجعلت فلانا عرضة لكذا أي نصبته له، وقيل: العرضة من الشدة والقوة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح، إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة على السفر والحرب، قال كعب بن زهير:

من كان نضاخة الذفرى إذا عرقت عرضتها طامس الأعلام مجهول

وقال عبدالله بن الزبير:

فهذي لأيام الحروب وهذه للهوي وهذي عرضة لارتحالنا

أي عدة. وقال آخر:

فلا تجعلني عرضة للوائم

وقال أوس بن حجر:

وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها لرحلي وفيها هزة وتقاذف

والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر.



قوله تعالى: « أن تبروا وتتقوا » مبتدأ وخبره محذوف، أي البر والتقوى والإصلاح أولى وأمثل، مثل « طاعة وقول معروف » [ محمد: 21 ] عن الزجاج والنحاس. وقيل: محله النصب، أي لا تمنعكم اليمين بالله عز وجل البر والتقوى والإصلاح، عن الزجاج أيضا. وقيل: مفعول من أجله. وقيل: معناه ألا تبروا، فحذف « لا » ، كقوله تعالى: « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا، قاله الطبري والنحاس. ووجه رابع من وجوه النصب: كراهة أن تبروا، ثم حذفت، ذكره النحاس والمهدوي. وقيل: هو في موضع خفض على قول الخليل والكسائي، التقدير: في أن تبروا، فأضمرت « في » وخفضت بها. و « سميع » أي لأقوال العباد. « عليم » بنياتهم.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:00 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============




الآية: 225 ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم )



قوله تعالى: « باللغو » اللغو: مصدر لغا يلغو ويلغى، ولغي يلغى لغا إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بما يلغى إثمه، وفي الحديث: ( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ) . ولغة أبي هريرة « فقد لغيت » وقال الشاعر:

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقال آخر:

ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم



واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس: ( هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين ) . قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( أيمان اللغو ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب ) . وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: ( « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » في قول الرجل: لا والله، وبلى والله ) . وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف. قال أبو هريرة: ( إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة ) ، ونحوه عن ابن عباس. وروي: أن قوما تراجعوا القول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرمون بحضرته، فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك، فقال الرجل: حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيمان الرماة لغو لا حنث فيها ولا كفارة ) . وفي الموطأ قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه، فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أن فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة، وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله، أو أن يفعله ثم لا يفعله، مثل إن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بمثل ذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. وروى عن ابن عباس - إن صح عنه - قال: ( لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) ، وقاله طاوس. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمين في غضب ) أخرجه مسلم. وقال سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، فيقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، وقاله مكحول الدمشقي، ومالك أيضا، إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقيل: هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن وعروة وعبدالله ابنا الزبير، كالذي يقسم ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم فبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وحجتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ) أخرجه ابن ماجة في سننه، وسيأتي في « المائدة » أيضا. وقال زيد بن أسلم لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر، والله لا أشتريه بكذا. النخعي: هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء ثم ينسى فيفعله. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: ( إن لغو اليمين هي المكفرة، أي إذا كفرت اليمين سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير ) . وحكى ابن عبدالبر قولا: أن اللغو أيمان المكره. قال ابن العربي: أما اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها. لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض.

قلت: ويمين المكره بمثابتها. وسيأتي حكم من حلف مكرها في « النحل » إن شاء الله تعالى. قال ابن العربي: وأما من قال إنه يمين المعصية فباطل، لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة، والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية، ويقال له: لا تفعل وكفر، فإن أقدم على الفعل أثم في إقدامه وبر في قسمه. وأما من قال: إنه دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا فينزل به كذا، فهو قول لغو، في طريق الكفارة، ولكنه منعقد في القصد، مكروه، وربما يؤاخذ به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدعون أحدكم على نفسه فربما صادف ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا إلا أعطاه إياه ) . وأما من قال إنه يمين الغضب فإنه يرده حلف النبي صلى الله عليه وسلم غاضبا ألا يحمل الأشعريين وحملهم وكفر عن يمينه. وسيأتي في « براءة » . قال ابن العربي: وأما من قال: إنه اليمين المكفرة فلا متعلق له يحكى. وضعفه ابن عطية أيضا وقال: قد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقتها لا إثم فيه ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.



قوله تعالى: « في أيمانكم » الأيمان جمع يمين، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا. وقيل: يمين فعيل من اليمن، وهو البركة، سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق. ويمين تذكر وتؤنث، وتجمع أيمان وأيمن، قال زهير:

فتجمع أيمن منا ومنكم



قوله تعالى: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » مثل قوله: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » [ المائدة: 89 ] . وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى. وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » هو في الرجل يقول: هو مشرك إن فعل، أي هذا اللغو، إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويكسبه. و « غفور حليم » صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.



الآيتان: 226 - 227 ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم )



قوله تعالى: « للذين يؤلون » « يؤلون » معناه يحلفون، والمصدر إيلاء وألية وألوة وإلوة. وقرأ أبي وابن عباس « للذين يقسمون » . ومعلوم أن « يقسمون » تفسير « يؤلون » . وقرئ « للذين آلوا » يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وائتلى ائتلاء، أي حلف، ومنه « ولا يأتل أولو الفضل منكم » ، وقال الشاعر:

فآليت لا أنفك أحدو قصيدة تكون وإياها بها مثلا بعدي

وقال آخر:

قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت

وقال ابن دريد:

ألية باليعملات يرتمي بها النجاء بين أجواز الفلا

قال عبدالله بن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي.

قلت: وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده، كذا في صحيح مسلم. وقيل: لأن زينب ردت عليه هديته، فغضب صلى الله عليه وسلم فآلى منهن، ذكره ابن ماجة.



ويلزم الإيلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الإيلاء. وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي إذا لم يكن مجبوبا، والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط. واختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى، ففي قول: لا إيلاء له. وفي قول: يصح إيلاؤه، والأول أصح وأقرب إلى الكتاب والسنة، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها، فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث بقي حكم الإيلاء. وإيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة لازم له، وكذلك الأعجمي إذا آلى من نسائه.



واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده لقوله عليه السلام: ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) . وبه قال الشافعي في الجديد. وقال ابن عباس: ( كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء ) ، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق، والشافعي في القول الآخر، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر والقاضي أبو بكر بن العربي. قال ابن عبدالبر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلا بأن يحنث فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر، فكل من حلف بالله أو بصفة من صفاته أو قال: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمته فإنه يلزمه الإيلاء. فإن قال: أقسم أو أعزم ولم يذكر بـ « الله » فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلا أن يكون أراد بـ « الله » ونواه. ومن قال إنه يمين يدخل عليه، وسيأتي بيانه في « المائدة » إن شاء الله تعالى. فإن حلف بالصيام ألا يطأ امرأته فقال: إن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول. وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة. والأصل في هذه الجملة عموم قوله تعالى: « للذين يؤلون » ولم يفرق، فإذا آلى بصدقة أو عتق عبد معين أو غير معين لزم الإيلاء.



فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى فقال: إن شاء الله فإنه يكون موليا، فإن وطئها فلا كفارة عليه في رواية ابن القاسم عن مالك. وقال ابن الماجشون في المبسوط: ليس بمول، وهو أصح لأن الاستثناء يحل اليمين ويجعل الحالف كأنه لم يحلف، وهو مذهب فقهاء الأمصار، لأنه بين بالاستثناء أنه غير عازم على الفعل. ووجه ما رواه ابن القاسم مبني على أن الاستثناء لا يحل اليمين، ولكنه يؤثر في إسقاط الكفارة، على ما يأتي بيانه في « المائدة » فلما كانت يمينه باقية منعقدة لزمه حكم الإيلاء وإن لم تجب عليه كفارة. فإن حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها، أو قال هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها، فهذا ليس بمول، قاله مالك وغيره. قال الباجي: ومعنى ذلك عندي أنه أورده على غير وجه القسم، وأما لو أورده على أنه مول بما قاله من ذلك أو غيره، ففي المبسوط: أن ابن القاسم سئل عن الرجل يقول لامرأته: لا مرحبا، يريد بذلك الإيلاء يكون موليا، قال: قال مالك: كل كلام نوي به الطلاق فهو طلاق، وهذا والطلاق سواء.



واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: ( لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا ) . وقال طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود والنخعي وابن أبي ليلى والحكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة، وبه قال إسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فان حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا، وكانت عندهم يمينا محضا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء. قال الكوفيون: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر كما جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفي العدة ثلاثة قروء، فلا تربص بعد. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء وهو الجماع في داخل المدة، والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. ووجه قول إسحاق - في قليل الأمد يكون صاحبه به موليا إذا لم يطأ - القياس على من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإنه يكون موليا، لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.



واختلفوا أن من حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة الأشهر ولم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة الأشهر طلقة رجعية. ومنهم ومن غيرهم من يقول: يلزمه طلقة بائنة بانقضاء الأربعة الأشهر. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء فيراجع امرأته بالوطء ويكفر يمينه أو يطلق، ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. والفيء: الجماع فيمن يمكن مجامعتها. قال سليمان بن يسار: كان تسعة رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء، قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر.



وأجل المولي من يوم حلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم، فإن خاصمته ولم ترض بامتناعه من الوطء ضرب له السلطان أجل أربعة أشهر من يوم حلف، فإن وطئ فقد فاء إلى حق الزوجة وكفر عن يمينه، وإن لم يفيء طلق عليه طلقة رجعية. قال مالك: فإن راجع لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة. قال الأبهري: وذلك أن الطلاق إنما وقع لدفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر باق، فلا معنى للرجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته، لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر وإنما هو من أجل العذر.



واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب، فقال ابن عباس: ( لا إيلاء إلا بغضب ) ، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء، كلهم يقولون: ( الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشادة وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها إضرارا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء ) . وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء، وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد. قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في حال الغضب والرضا كان الإيلاء كذلك.

قلت: ويدل عليه عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من وجه يلزم. والله أعلم.

قال علماؤنا: ومن امتنع من وطء امرأته بغير يمين حلفها إضرارا بها أمر بوطئها، فإن أبى وأقام على امتناعه مضرا بها فرق بينه وبينها من غير ضرب أجل. وقد قيل: يضرب أجل الإيلاء. وقد قيل: لا يدخل على الرجل الإيلاء في هجرته من زوجته وإن أقام سنين لا يغشاها، ولكنه يوعظ ويؤمر بتقوى الله تعالى في ألا يمسكها ضرارا.

واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها لئلا يمغل ولدها، ولم يرد إضرارا بها حتى ينقضي أمد الرضاع لم يكن لزوجته عند مالك مطالبة لقصد إصلاح الولد. قال مالك: وقد بلغني أن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك فلم يره إيلاء، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر يكون موليا، ولا اعتبار برضاع الولد، وبه قال أبو حنيفة.

وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يكون موليا من حلف ألا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار لأنه يجد السبيل إلى وطئها في غير ذلك المكان. قال ابن أبي ليلى وإسحاق: إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، ألا ترى أنه يوقف عند الأشهر الأربعة، فإن حلف ألا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك، وهذا إنما يكون في سفر يتكلف المؤونة والكلفة دون جنته أو مزرعته القريبة.



قوله تعالى: « من نسائهم » يدخل فيه الحرائر والذميات والإماء إذا تزوجن. والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته. قال الشافعي وأحمد وأبو ثور: إيلاؤه مثل إيلاء الحر، وحجتهم ظاهر

قوله تعالى: « للذين يؤلون من نسائهم » فكان ذلك لجميع الأزواج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران. وقال الحسن والنخعي: إيلاؤه من زوجته الأمة شهران، ومن الحرة أربعة أشهر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.

قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما. وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك: ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.

وأما الذمي فلا يصح إيلاؤه، كما لا يصح ظهاره ولا طلاقه، وذلك أن نكاح أهل الشرك ليس عندنا بنكاح صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع فتلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطء زوجته ضرارا من غير يمين.



قوله تعالى: « تربص أربعة أشهر » التربص: التأني والتأخر، مقلوب التصبر، قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها

وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى: « واهجروهن في المضاجع » [ النساء: 34 ] وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد:

ألا طال هذا الليل وأسود جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه

فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثت به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا والله أعلم يقوي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر.



قوله تعالى: « فإن فاؤوا » معناه رجعوا، ومنه « حتى تفيء إلى أمر الله » [ الحجرات: 9 ] ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء، لأنه رجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال: فاء يفيء فيئة وفيوءا. وإنه لسريع الفيئة، يعني الرجوع. قال:

ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا



قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته، فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك في المدونة والمبسوط. وقال عبدالملك: وتكون بائنا منه يوم انقضت المدة، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى، فان أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها، حمل أمره على الكذب فيها واللدد، وأمضيت الأحكام على ما كانت تجب في ذلك الوقت. وقالت طائفة: إذا شهدت بينة بفيئته في حال العذر أجزأه، قاله الحسن وعكرمة والنخعي: وبه قال الأوزاعي. وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء، أرأيت إن لم ينتشر للوطء، قال ابن عطية: ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان له عذر يفيء بقلبه، وبه قال أبو قلابة. وقال أبو حنيفة: إن لم يقدر على الجماع فيقول: قد فئت إليها. قال الكيا الطبري: أبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض وبينه وبينها مدة أربعة أشهر، وهي رتقاء أو صغيره أو هو مجبوب: إنه إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح، والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة: لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره، وكذلك قال سعيد بن جبير، قال: وكذلك إن كان في سفر أو سجن.



أوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته. وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي، قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه. وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: « فإن فاؤوا » يعني لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له قوله تعالى: « فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم » ، ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطء الزوجة معصية.

قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها ) خرجه ابن ماجة في سننه. وسيأتي لها مزيد بيان في آية الأيمان إن شاء الله تعالى. وحجة الجمهور قوله عليه السلام: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) .

إذا كفر عن يمينه سقط عنه الإيلاء، قاله علماؤنا. وفي ذلك دليل على تقديم الكفارة على الحنث في المذهب، وذلك إجماع في مسألة الإيلاء، ودليل على أبي حنيفة في مسألة الأيمان، إذ لا يرى جواز تقديم الكفارة على الحنث، قاله ابن العربي.

قلت: بهذه الآية استدل محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال: لما حكم الله تعالى للمولي بأحد الحكمين من فيء أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير فيء أو عزيمة الطلاق، لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحانث بالحنث شيء لم يكن موليا. وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب.



قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » العزيمة: تتميم العقد على الشيء، يقال: عزم عليه يعزم عزما ( بالضم ) وعزيمة وعزيما وعزمانا واعتزم اعتزاما، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت عليك. قال شمر: العزيمة والعزم ما عقدت عليه نفسك من أمر أنك فاعله. والطلاق من طلقت المرأة تطلق ( على وزن نصر ينصر ) طلاقا، فهي طالق وطالقة أيضا. قال الأعشى:

أيا جارتا بيني فإنك طالقة

ويجوز طلقت ( بضم اللام ) مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق حل عقدة النكاح، وأصله الانطلاق، والمطلقات المخليات، والطلاق: التخلية، يقال: نعجة طالق، وناقة طالق، أي مهملة قد تركت في المرعى لا قيد عليها ولا راعي، وبعير طلق ( بضم الطاء واللام ) غير مقيد، والجمع أطلاق، وحبس فلان في السجن طلقا أي بغير قيد، والطالق من الإبل: التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه. فسميت المرأة المخلى سبيلها بما سميت به النعجة أو الناقة المهمل أمرها. وقيل: إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطا لا يمنع، فسميت المرأة المخلاة طالقا لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة.



في قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » دليل على أنها لا تطلق بمضي مدة أربعة أشهر، كما قال مالك: ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال: « سميع » وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: « سمع » لإيلائه، « عليم » بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر. وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: « للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم » . وتقديرها عندهم: « للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا » فيها « فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق » بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها « فإن الله سميع عليم » . ابن العربي: وهذا احتمال متساو، ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.

قلت: وإذا تساوى الاحتمال كان قول الكوفيين أقوى قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء، إذ كل ذلك أجل ضربه الله تعالى، فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف، ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق، والله أعلم.

وفي قوله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » دليل على أن الأمة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاء، إذ لا يقع عليها طلاق، والله أعلم.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:06 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 228 ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )



قوله تعالى: « والمطلقات » لما ذكر الله تعالى الإيلاء وأن الطلاق قد يقع فيه بين تعالى حكم المرأة بعد التطليق. وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثا ) ، فنسخ ذلك وقال: « الطلاق مرتان » الآية. والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلقة قبل البناء بآية « الأحزاب » : « فما لكم عليهن من عدة تعتدونها » [ الأحزاب: 49 ] على ما يأتي. وكذلك الحامل بقوله: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] . والمقصود من الأقراء الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة. وجعل الله عدة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي قد يئست الشهور على ما يأتي. وقال قوم: إن العموم في المطلقات يتناول هؤلاء ثم نسخن، وهو ضعيف، وإنما الآية فيمن تحيض خاصة، وهو عرف النساء وعليه معظمهن.



قوله تعالى: « يتربصن » التربص الانتظار، على ما قدمناه. وهذا خبر والمراد الأمر، كقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن » [ البقرة: 233 ] وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم، هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجري. ابن العربي: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره. وقيل،: معناه ليتربصن، فحذف اللام.



قرأ جمهور الناس « قروء » على وزن فعول، اللام همزة. ويروى عن نافع « قرو » بكسر الواو وشدها من غير همز. وقرأ الحسن « قرء » بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. وقروء جمع أقرؤ وأقراء، والواحد قرء بضم القاف، قال الأصمعي. وقال أبو زيد: « قرء » بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ. وأقرأت طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت، بلا ألف. يقال: أقرأت المرأة حيضة أو حيضتين. والقرء: انقطاع الحيض. وقال بعضهم: ما بين الحيضتين وأقرأت حاجتك: دنت، عن الجوهري. وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا، ومنهم من يسمي الطهر قرءا، ومنهم من يجمعهما جميعا، فيسمي الطهر مع الحيض قرءا، ذكره النحاس.



واختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسما للطهر فلاجتماعه في البدن، والذي يحقق لك هذا الأصل في القرء الوقت، يقال: هبت الريح لقرئها وقارئها أي لوقتها، قال الشاعر:

كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح

فقيل للحيض: وقت، وللطهر وقت، لأنهما يرجعان لوقت معلوم، وقال الأعشى في الأطهار:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة تسد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة عزا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وقال آخر في الحيض:

يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

يعني أنه طعنه فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض. وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني. ويقال لاجتماع حروفه، ويقال: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمع في جوفها، وقال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا

فكأن الرحم يجمع الدم وقت الحيض، والجسم يجمعه وقت الطهر. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم: قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز.

قلت: هذا صحيح بنقل أهل اللغة: الجوهري وغيره. واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف مقصور ) . وقيل: القرء، الخروج إما من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر، وعلى هذا قال الشافعي في قول: القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرءا، ويكون معنى قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » . أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات، والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض، وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام، ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، فإذا كان الطلاق في الطهر سنيا فتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، ولكن عرفنا بدليل آخر، إن الله تعالى لم يرد الانتقال من حيض إلى طهر، فإذا خرج أحدهما عن أن يكون مرادا بقي الآخر وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات، أولها الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا كان الطلاق في حالة الطهر، ولا يكون ذلك حملا على المجاز بوجه ما. قال الكيا الطبري: وهذا نظر دقيق في غاية الاتجاه لمذهب الشافعي، ويمكن أن نذكر في ذلك سرا لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب فبحيضها علم براءة رحمها. والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فان الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمتدح العرب بحمل نسائهم في حالة الطهر، وقد مدحت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الشاعر:

ومبرأ من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغْيَل

يعني أن أمه لم تحمل به في بقية حيضها. فهذا ما للعلماء وأهل اللسان في تأويل القرء. وقالوا: قرأت المرأة إذا حاضت أو طهرت. وقرأت أيضا إذا حملت. واتفقوا على أن القرء الوقت، فإذا قلت: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها، فدليلنا قول الله تعالى: « فطلقوهن لعدتهن » [ الطلاق: 1 ] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر فيجب أن يكون هو المعتبر في العدة، فإنه قال: « فطلقوهن » يعني وقتا تعتد به، ثم قال تعالى: « وأحصوا العدة » . يريد ما تعتد به المطلقة وهو الطهر الذي تطلق فيه، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ) . أخرجه مسلم وغيره. وهو نص في أن زمن الطهر هو الذي يسمى عدة، وهو الذي تطلق فيه النساء. ولا خلاف أن من طلق في حال الحيض لم تعتد بذلك الحيض، ومن طلق في حال الطهر فإنها تعتد عند الجمهور بذلك الطهر، فكان ذلك أولى. قال أبو بكر بن عبدالرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة في ( أن الأقراء هي الأطهار ) . فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة. فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقال الزهري في امرأة طلقت في بعض طهرها: إنها تعتد بثلاثة أطهار سوى بقية ذلك الطهر. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا ممن قال: الأقراء الأطهار يقول هذا غير ابن شهاب الزهري، فإنه قال: تلغي الطهر الذي طلقت فيه ثم تعتد بثلاثة أطهار، لأن الله عز وجل يقول « ثلاثة قروء » .

قلت: فعلى قوله لا تحل المطلقة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، وقول ابن القاسم ومالك وجمهور أصحابه والشافعي وعلماء المدينة: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة، وهو مذهب زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود بن علي وأصحابه. والحجة على الزهري أن النبي صلى أذن في طلاق الطاهر من غير جماع، ولم يقل أول الطهر ولا آخره. وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض، لئلا تكون دفعة دم من غير الحيض. احتج الكوفيون بقوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش حين شكت إليه الدم: ( إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء ) . وقال تعالى: « واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر » [ الطلاق: 4 ] . فجعل المأيوس منه المحيض، فدل على أنه هو العدة، وجعل العوض منه هو الأشهر إذا كان معدوما. وقال عمر بحضرة الصحابة: ( عدة الأمة حيضتان، نصف عدة الحرة، ولو قدرت على أن أجعلها حيضة ونصفا لفعلت ) ، ولم ينكر عليه أحد. فدل على أنه إجماع منهم، وهو قول عشرة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة، وحسبك ما قالوا! وقوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » يدل على ذلك، لأن المعنى يتربصن ثلاثة أقراء، يريد كوامل، هذا لا يمكن أن يكون إلا على قولنا بأن الأقراء الحيض، لأن من يقول: إنه الطهر يجوز أن تعتد بطهرين وبعض آخر، لأنه إذا طلق حال الطهر اعتدت عنده ببقية ذلك الطهر قرءا. وعندنا تستأنف من أول الحيض حتى يصدق الاسم، فإذا طلق الرجل المرأة في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة، فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة.

قلت: هذا يرده قوله تعالى: « سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام » [ الحاقة: 7 ] فأثبت الهاء في « ثمانية أيام » ، لأن اليوم مذكر وكذلك القرء، فدل على أنه المراد. ووافقنا أبو حنيفة على أنها إذا طلقت حائضا أنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها ولا بالطهر الذي بعدها، وإنما تعتد بالحيض الذي بعد الطهر. وعندنا تعتد بالطهر، على ما بيناه. وقد استجاز أهل اللغة أن يعبروا عن البعض باسم الجميع، كما قال تعالى: « الحج أشهر معلومات » [ البقرة: 197 ] والمراد به شهران وبعض الثالث، فكذلك قوله: « ثلاثة قروء » . والله أعلم. وقال بعض من يقول بالحيض: إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة بعد الغسل وبطلت الرجعة، قال سعيد بن جبير وطاوس وابن شبرمة والأوزاعي. وقال شريك: إذا فرطت المرأة في الغسل عشرين سنة فلزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل. وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: ( إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج. إلا أنها لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل من حيضتها ) . وروى نحوه عن ابن عباس، وهو قول ضعيف بدليل قول الله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن » [ البقرة:234 ] على ما يأتي. وأما ما ذكره الشافعي من أن نفس الانتقال من الطهر إلى الحيضة يسمى قرءا ففائدته تقصير العدة على المرأة، وذلك أنه إذا طلق المرأة في آخر ساعة من طهرها فدخلت في الحيضة عدته قرءا، وبنفس الانتقال من الطهر الثالث انقطعت العصمة وحلت. والله أعلم.



والجمهور من العلماء على أن عدة الأمة التي تحيض من طلاق زوجها حيضتان. وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن تكون مضت في ذلك سنة: فإن السنة أحق أن تتبع. وقال الأصم عبدالرحمن بن كيسان وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر: إن الآيات في عدة الطلاق والوفاة بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة، فعدة الحرة والأمة سواء. واحتج الجمهور بقوله عليه السلام: ( طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ) . رواه ابن جريج عن عطاء عن مظاهر بن أسلم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ) فأضاف إليها الطلاق والعدة جميعا، إلا أن مظاهر بن أسلم انفرد بهذا الحديث وهو ضعيف. وروي عن ابن عمر: أيهما رق نقص طلاقه، وقالت به فرقة من العلماء.



قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » أي من الحيض، قاله عكرمة والزهري والنخعي. وقيل: الحمل، قاله عمر وابن عباس. وقال مجاهد: الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض. والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع إلا من جهة النساء جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك، وهو مقتضى قوله تعالى: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » . وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذ كن مؤتمنات. ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حضت، وهي لم تحض، ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحض، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل، لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. وحكي أن رجلا من أشجع أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حبلى، ولست آمن أن تتزوج فيصير ولدي لغيري فأنزل الله الآية، وردت امرأة الأشجعي عليه.

الثانية: قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم: إذا قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه. واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان. قال في المدونة: إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال شريح، وقال له علي بن أبي طالب: قالون! أي أصبت وأحسنت. وقال في كتاب محمد: لا تصدق إلا في شهر ونصف. ونحوه قول أبي ثور، قال أبو ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، وأقل الحيض يوم. وقال النعمان: لا تصدق في أقل من ستين يوما، وقال به الشافعي.



قوله تعالى: « إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر » هذا وعيد عظيم شديد لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب لأداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيه. أي فسبيل المؤمنات ألا يكتمن الحق، وليس قوله: « إن كن يؤمن بالله » على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم، لأن ذلك لا يحل لمن لا يؤمن، وإنما هو كقولك: إن كنت أخي فلا تظلمني، أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه، لأن هذا ليس من فعل أهل الإيمان.



قوله تعالى: « وبعولتهن » البعولة جمع البعل، وهو الزوج، سمي بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى: « أتدعون بعلا » [ الصافات: 125 ] أي ربا، لعلوه في الربوبية، يقال: بعل وبعولة، كما يقال في جمع الذكر: ذكر وذكورة، وفي جمع الفحل: فحل وفحولة، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، وهو شاذ لا يقاس عليه، ويعتبر فيها السماع، فلا يقال في لعب: لعوبة. وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على فعول. والبعولة أيضا مصدر البعل. وبعل الرجل يبعل ( مثل منع يمنع ) بعولة، أي صار بعلا: والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله عليه السلام لأيام التشريق: ( إنها أيام أكل وشرب وبعال ) وقد تقدم. فالرجل بعل المرأة، والمرأة بعلته. وباعل مباعلة إذا باشرها. وفلان بعل هذا، أي مالكه وربه. وله محامل كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « أحق بردهن » أي بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العدة على حديث ابن عمر. ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وإذا كان هذا فيكون في الآية دليل على تخصيص ما شمله العموم في المسميات، لأن قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه. ثم قوله: « وبعولتهن أحق » حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث. وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء. قال المهلب: وكل من راجع في العدة فإنه لا يلزمه شيء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، لقوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم » [ الطلاق: 2 ] فذكر الإشهاد في الرجعة ولم يذكره في النكاح ولا في الطلاق. قال ابن المنذر: وفيما ذكرناه من كتاب الله مع إجماع أهل العلم كفاية عن ذكر ما روي عن الأوائل في هذا الباب، والله تعالى أعلم.



واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة، فقال مالك: إذا وطئها في العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة. وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق، لقوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فإن وطئ في العدة لا ينوي الرجعة فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. قال ابن القاسم: فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في بقية مدة الاستبراء، فإن فعل فسخ نكاحه، ولا يتأبد تحريمها عليه لأن الماء ماؤه. وقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، وهكذا قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين والزهري وعطاء وطاوس والثوري. قال: ويشهد، وبه قال أصحاب الرأي والأوزاعي وابن أبي ليلى، حكاه ابن المنذر. وقال أبو عمر: وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها، ويروى ذلك عن طائفة من أصحاب مالك، وإليه ذهب الليث. ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخيار أن له وطأها في مدة الخيار، وأنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه واختار نقض البيع بفعله ذلك. وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. والله أعلم.



من قبل أو باشر ينوي بذلك الرجعة كانت رجعة، وإن لم ينو بالقبلة والمباشرة الرجعة كان آثما وليس بمراجع. والسنة أن يشهد قبل أن يطأ أو قبل أن يقبل أو يباشر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهي رجعة، وهو قول الثوري: وينبغي أن يشهد. وفي قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور لا يكون رجعة، قاله ابن المنذر. وفي « المنتقى » قال: ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، فأما بالفعل نحو الجماع والقبلة فقال القاضي أبو محمد: يصح بها وبسائر الاستمتاع للذة. قال ابن المواز: ومثل الجسة للذة، أو أن ينظر إلى فرجها أو ما قارب ذلك من محاسنها إذا أراد بذلك الرجعة، خلافا للشافعي في قوله: لا تصح الرجعة إلا بالقول، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وجابر بن زيد وأبي قلابة.

قال الشافعي: إن جامعها ينوي الرجعة، أو لا ينويها فليس برجعة، ولها عليه مهر مثلها. وقال مالك: لا شيء لها، لأنه لو ارتجعها لم يكن عليه مهر، فلا يكون الوطء دون الرجعة أولى بالمهر من الرجعة. وقال أبو عمر: ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي، وليس قوله بالقوي، لأنها في حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر المثل في وطء امرأة حكمها في أكثر أحكامها حكم الزوجة! إلا أن الشبهة في قول الشافعي قوية، لأنها عليه محرمة إلا برجعة لها. وقد أجمعوا على أن الموطوءة بشبهة يجب لها المهر، وحسبك بهذا!



واختلفوا هل يسافر بها قبل أن يرتجعها، فقال مالك والشافعي: لا يسافر بها حتى يراجعها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه روى عنه الحسن بن زياد أن له أن يسافر بها قبل الرجعة، وروى عنه عمرو بن خالد، لا يسافر بها حتى يراجع.



واختلفوا هل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها، وهل تتزين له وتتشرف، فقال مالك: لا يخلو معها، ولا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها. وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها. ولم يختلف أبو حنيفة وأصحابه في أنها تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة فإنه يستأذن عليها، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لهما إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا، ويسلم إذا دخل، ونحوه عن قتادة، ويشعرها إذا دخل بالتنخم والتنحنح. وقال الشافعي: المطلقة طلاقا يملك رجعتها محرمة على مطلقها تحريم المبتوتة حتى يراجع، ولا يراجع إلا بالكلام، على ما تقدم.



أجمع العلماء على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة: إني كنت راجعتك في العدة وأنكرت أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها، غير أن النعمان كان لا يرى يمينا في النكاح ولا في الرجعة، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وكذلك إذا كانت الزوجة أمة واختلف المولى والجارية، والزوج يدعي الرجعة في العدة بعد انقضاء العدة وأنكرت فالقول قول الزوجة الأمة وإن كذبها مولاها، هذا قول الشافعي وأبي ثور والنعمان. وقال يعقوب ومحمد: القول قول المولى وهو أحق بها.



لفظ الرد يقتضي زوال العصمة، إلا أن علماءنا قالوا: إن الرجعية محرمة الوطء، فيكون الرد عائدا إلى الحل. وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة ومن قال بقولهما - في أن الرجعة محللة الوطء: إن الطلاق فائدته تنقيص العدد الذي جعل له خاصة، وإن أحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء - قالوا: وأحكام الزوجية وإن كانت باقية فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة، فالرجعة رد عن هذه السبيل التي أخذت المرأة في سلوكها، وهذا رد مجازي، والرد الذي حكمنا به رد حقيقي، فإن هناك زوال مستنجز وهو تحريم الوطء، فوقع الرد عنه حقيقة، والله أعلم.



لفظ « أحق » يطلق عند تعارض حقين، ويترجح أحدهما، فالمعنى حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، ومثل هذا قوله عليه السلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) . وقد تقدم.



الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار وتطويل العدة والقطع بها عن الخلاص من ربقة النكاح فمحرم، لقوله تعالى: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » [ البقرة: 231 ] ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهي وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد طلقنا عليه.



قوله تعالى: « ولهن » أي لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » أي زينة من غير مأثم. وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن. وقيل: إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن. قاله الطبري: وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب. والآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية.



قول ابن عباس: ( إني لأتزين لامرأتي ) . قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه ليق به ذلك وزانه، والشاب إذا فعل ذلك سمج ومقت. لأن اللحية لم توفر بعد، فإذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي ) . وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل على اللبق والوفاق عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال. وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به. فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع. والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلي الرجال على ما يأتي بيانه في سورة « النحل » . ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجل فيعفها ويغنيها عن التطلع إلى غيره. وإن رأى الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدوية التي تزيد في باهه وتقوي شهوته حتى يعفها.



قوله تعالى: « وللرجال عليهن درجة » أي منزلة. ومدرجة الطريق: قارعته، والأصل فيه الطي، يقال: درجوا، أي طووا عمرهم، ومنها الدرجة التي يرتقى عليها. ويقال: رجل بين الرجلة، أي القوة. وهو أرجل الرجلين، أي أقواهما. وفرس رجيل، أي قوي، ومنه الرجل، لقوتها على المشي. فزيادة درجة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالدية والميراث والجهاد. وقال حميد: الدرجة اللحية، وهذا إن صح عنه فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها. قال ابن العربي: فطوبى لعبد أمسك عما لا يعلم، وخصوصا في كتاب الله تعالى! ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء، ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه. وقيل: الدرجة الصداق، قاله الشعبي. وقيل: جواز الأدب. وعلى الجملة فدرجة تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: ( ولو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) . وقال ابن عباس: ( الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه ) . قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع. قال الماوردي: يحتمل أنها في حقوق النكاح، له رفع العقد دونها، ويلزمها إجابته إلى الفراش، ولا يلزمه إجابتها.

قلت: ومن هذا قوله عليه السلام: ( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح ) . قوله تعالى: « والله عزيز » أي منيع السلطان لا معترض عليه. قوله تعالى: « حكيم » أي عالم مصيب فيما يفعل.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:10 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 229 ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )


قوله تعالى: « الطلاق مرتان » ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، ونسخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: ( المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين ) .


الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر: ( فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ) وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها، خرجه ابن ماجة. وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ابن المنذر: وليس في المنع منه خبر يثبت.


روى الدار قطني حدثني أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ) . حدثنا محمد بن موسى بن علي حدثنا حميد بن الربيع حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك اللخمي معروفا! قلت: هو جدي! قال يزيد: سررتني، الآن صار حديثا!. قال ابن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال: وبالقول الأول أقول.


قوله تعالى: « فإمساك بمعروف » ابتداء، والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف، أي فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. ويجوز في غير القرآن « فإمساكا » على المصدر. ومعنى « بإحسان » أي لا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول. والإمساك: خلاف الإطلاق. والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض. وسرح الماشية: أرسلها. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك. والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصح لوجوه ثلاثة:

أحدها: ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: « الطلاق مرتان » فلم صار ثلاثا؟ قال: ( إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - في رواية - هي الثالثة ) . ذكره ابن المنذر. الثاني: إن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ « إن عزموا السراح » .

الثالثة: أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله. وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا: حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » فأين الثالثة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) . ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله.

قلت: وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال: إنه غير ثابت من جهة النقل، ورجح قول الضحاك والسدي، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، فوجب حمل قوله: « أو تسريح بإحسان » على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالاثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: « أو تسريح بإحسان » هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » . فوجب ألا يكون معنى قوله: « أو تسريح بإحسان » الثالثة، ولو كان قوله: « أو تسريح بإحسان » بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك: « فإن طلقها » الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » هو تركها حتى تنقضي عدتها.


ترجم البخاري على هذه الآية « باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه. قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة. وقيل عنهما: لا يلزم منه شيء، وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] . وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه، وقد تقدم. وقال: « الطلاق مرتان » والثالثة « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » . ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم، إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة: أحدها: حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة. وثانيها: حديث ابن عمر على رواية من روى ( أنه طلق امرأته ثلاثا، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة ) . وثالثها: ( أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة ) . والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس ( فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج ) ، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ابن عبدالبر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي: « وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد روى عنه الأئمة: معمر وابن جريج وغيرهما، وابن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ( كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم ) . ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه ( أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة ) ، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا » .

قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها. وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فقال لي: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة. فقال الدارقطني: كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض. قال عبيدالله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبي والحسن. وأما حديث ركانة فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع، لا يستند من وجه يحتج به، رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع، وليس فيهم من يحتج به، عن عكرمة عن ابن عباس. وقال فيه: إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أرجعها ) . وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ولا يحتج بشيء من مثل هذا.

قلت: قد أخرج هذا الحديث من طرق الدارقطني في سننه، قال في بعضها: « حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وآخرون قالوا: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبدالله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله ما أردت إلا واحدة ) ؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود: هذا حديث صحيح » . فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله، والله أعلم. وقال أبو عمر: رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبدالمطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم.


فصل: ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي هذه المسألة في وثائقه فقال: الطلاق، ينقسم على ضربين: طلاق سنة، وطلاق بدعة. فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه. وطلاق البدعة نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمه واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق، فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: ( يلزمه طلقة واحدة ) ، وقاله ابن عباس، وقال: ( قوله ثلاثا لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح، ولو قرأها مره واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف فقال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله ) . وقال الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف. وروينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى ومحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبدالسلام الحسني فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم. وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز اسمه: « الطلاق مرتان » يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة. ومعنى قوله: « أو تسريح بإحسان » يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما، قال الله تعالى: « لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا » [ الطلاق: 1 ] يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة، وموقع الثلاث غير حسن، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك، من ذلك قول الإنسان: مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك. وفي الإشراف لابن المنذر: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة.

قلت: وربما اعتلوا فقالوا: غير المدخول بها لا عدة عليها، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله: أنت طالق، فيرد « ثلاثا » عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا، ولأن قوله: أنت طالق مستقل بنفسه، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده، أصله إذا قال: أنت طالق.


استدل الشافعي بقوله تعالى: « أو تسريح بإحسان » وقوله: « وسرحوهن » [ الأحزاب: 49 ] على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه، مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو الحسن: صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: « أو فارقوهن بمعروف » [ الطلاق: 2 ] وقال: « أو تسريح بإحسان » وقال: « فطلقوهن لعدتهن » [ الطلاق: 1 ] .

قلت: وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله. ثم إن عمر بن عبدالعزيز قد قال: « لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى » أخرجه مالك. وقد روى الدارقطني عن علي قال: ( الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن البتة ثلاث، من طريق فيه لين ) ، خرجه الدارقطني. وسيأتي عند قوله تعالى: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » [ البقرة: 231 ] إن شاء الله تعالى.


لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته: قد طلقتك، إنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها، فمن قال لامرأته: أنت طالق فهي واحدة إلا أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى اثنتين أو ثلاثا لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئا فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت من وثاق لم يقبل قوله ولزمه، إلا أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن، قال: أنت طالق واحدة، لا رجعة لي عليك فقوله: « لا رجعة لي عليك » باطل، وله الرجعة لقوله واحدة، لأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فإن نوى بقوله: « لا رجعة لي عليك » ثلاثا فهي ثلاث عند مالك.

واختلفوا فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو حبلك على غاربك، أو أنت علي حرام، أو الحقي بأهلك، أو قد وهبتك لأهلك، أو قد خليت سبيلك، أو لا سبيل لي عليك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هو طلاق بائن، وروى عن ابن مسعود وقال: ( إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك، أو أمرك لك، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة ) . وروي عن مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أنه من صريح الطلاق، كقوله: أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها، ويسأل ما أراد من العدد، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها. قال ابن المواز: وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلا أن ينوي أكثر، وقاله ابن القاسم وابن عبدالحكم. وقال أبو يوسف: هي ثلاث، ومثله خلعتك، أو لا ملك لي عليك. وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوى فيها قائلها، وينوى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب، لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة. وقد روى مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: له نيته في ذلك كله، فإن نوى ثلاثا فهي ثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحده بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى اثنتين فهي واحدة. وقال زفر: إن نوى اثنتين فهي اثنتان. وقال الشافعي: هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام مني طلاقا فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعيا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. وقال إسحاق: كل كلام يشبه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور: هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ابن مسعود ( أنه كان لا يرى طلاقا بائنا إلا في خلع أو إيلاء ) وهو المحفوظ عنه، قال أبو عبيد. وقد ترجم البخاري « باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته » . وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعي وإسحاق في قوله: أو ما عنى به من الطلاق « والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقا أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقول المتكلم: إنه أراد بها الطلاق فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. قال أبو عمر: واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته: اعتدي، أو قد خليتك، أو حبلك على غاربك، فقال مرة: لا ينوي فيها وهي ثلاث. وقال مرة: ينوي فيها كلها، في المدخول بها وغير المدخول بها، وبه أقول.»

قلت: ما ذهب إليه الجمهور، وما روى عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح، لما ذكرناه من الدليل، وللحديث الصحيح الذي خرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطني وغيرهم عن يزيد بن ركانة: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( الله ما أردت إلا واحدة ) ؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن ماجة: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته: أنت علي كالميتة والدم ولحم الخنزير: أراها البتة وإن لم تكن له نية، فلا تحل إلا بعد زوج. وفي قول الشافعي: إن أراد طلاقا فهو طلاق، وما أراد من عدد الطلاق، وإن لم يرد طلاقا فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر: أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - للتي تزوجها حين قالت: أعوذ بالله منك - : ( قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ) . فكان ذلك طلاقا. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها: الحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقا، فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية، وأنها لا يقضى فيها إلا بما ينوي اللافظ بها، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنى بها عن الفراق، فأكثر العلماء لا يوقعون بشيء منها طلاقا وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأي لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله كلي واشربي وقومي واقعدي، ولم يتابع مالكا على ذلك إلا أصحابه.


قوله تعالى: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » « أن » في موضع رفع بـ « يحل » . والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا، فلذلك خص بالذكر. وقد قيل: إن قوله « ولا يحل » فصل معترض بين قوله تعالى: « الطلاق مرتان » وبين قوله: « فإن طلقها » .


والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز. وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع، ولا يجبر على رد ما أخذه. قال ابن المنذر: وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شيء ثم يقابله مقابل بالخلاف نصا، فيقول: بل يجوز ذلك: ولا يجبر على رد ما أخذ. قال أبو الحسن بن بطال: وروى ابن القاسم عن مالك مثله. وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله تعالى، وخلاف حديث امرأة ثابت، وسيأتي.


قوله تعالى: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » حرم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ. والخطاب للزوجين. والضمير في « أن يخافا » لهما، و « ألا يقيما » مفعول به. و « خفت » يتعدى إلى مفعول واحد. ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظن. ثم قيل: « إلا أن يخافا » استثناء منقطع، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية. وقرأ حمزة « إلا أن يخافا » بضم الياء على ما لم يسم فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد. قال: لقوله عز وجل « فإن خفتم » قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان.

قلت: وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختياره أبي عبيد ورد، وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى. أما الإعراب فإن عبدالله بن مسعود قرأ « إلا أن يخافا » تخافوا، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلا أن يخاف. وأما اللفظ فإن كان على لفظ « يخافا » وجب أن يقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ « فإن خفتم » وجب أن يقال: إلا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخاف غيركم ولم يقل جل وعز: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي: وقد صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء.


قوله تعالى: « فإن خفتم ألا يقيما » أي على أن لا يقيما. « حدود الله » أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجميل العشرة. والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما. وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع. وقال الشعبي: « ألا يقيما حدود الله » ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال عطاء بن أبي رباح: يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم. وأخرجه ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. فيقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبدالله بن أبي، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! فقال: ( أتردين عليه حديقته ) ؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء. قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق علها ويضرها رد عليها ما أخذ منها. وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبدالله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قول الله عز وجل في كتابه: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » ؟ قال: نسخت. قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة « النساء » : « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا » [ النساء: 20 ] . قال النحاس: هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ.، لأن قوله « فإن خفتم » الآية، ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج. في « وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج » لأن هذا للرجال خاصة. وقال الطبري: الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم.


تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو داود عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكت إليه، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال: ( خذ بعض مالها وفارقها ) . قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: ( نعم ) . قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذهما وفارقها ) فأخذهما وفارقها. والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر، كما دل عليه حديث البخاري وغيره. وأما الآية فلا حجة فيها، لأن الله عز وجل لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا » [ النساء: 4 ] .



لما قال الله تعالى: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » دل على جواز الخلع بأكثرها مما أعطاها. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور: يجوز أن تفتدى منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه. وروي هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي. واحتج قبيصة بقوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( تردين عليه حديقته ويطلقك ) ؟ قالت: نعم، وأزيده. قال: ( ردي عليه حديقته وزيديه ) . وفي حديث ابن عباس: ( وإن شاء زدته ولم ينكر ) . وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها، كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعي، قال الأوزاعي: كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها، وبه قال أحمد وإسحاق. واحتجوا بما رواه ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبدالله بن أبي بن سلول، وكان أصدقها حديقة فكرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما الزيادة فلا ولكن حديقته ) ، فقالت: نعم. فأخذها له وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعه أبو الزبير من غير واحد، أخرجه الدارقطني. وروي عن عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها ) .


الخلع عند مالك رضي الله عنه على ثمرة لم يبد صلاحها وعلى جمل شارد أو عبد آبق أو جنين في بطن أمه أو نحو ذلك من وجوه الغرر جائز، بخلاف البيوع والنكاح. وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه. وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك قال: لأن عقود المعاوضات إذا تضمنت بدلا فاسدا وفاتت رجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل. وقال أبو ثور: الخلع باطل. وقال أصحاب الرأي: الخلع جائز، وله ما في بطن الأمة، وإن لم يكن فيه ولد فلا شيء له. وقال في « المبسوط » عن ابن القاسم: يجوز بما يثمره نخله العام، وما تلد غنمه العام خلافا لأبي حنيفة والشافعي، والحجة لما ذهب إليه مالك وابن القاسم عموم قوله تعالى: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . ومن جهة القياس أنه مما يملك بالهبة والوصية، فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم، وأيضا فإن الخلع طلاق، والطلاق يصح بغير عوض أصلا، فإذا صح على غير شيء فلأن يصح بفاسد العوض أولى، لأن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمسكوت عنه. ولما كان النكاح الذي هو عقد تحليل لا يفسده فاسد العوض فلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحل عقد أولى.


ولو اختلعت منه برضاع ابنها منه حولين جاز. وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدة معلومة قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول المخزومي، واختاره سحنون. والثاني: لا يجوز، رواه ابن القاسم عن مالك، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة. قال أبو عمر: من أجاز الخلع على الجمل الشارد والعبد الآبق ونحو ذلك من الغرر لزمه أن يجوز هذا. وقال غيره من القرويين: لم يمنع مالك الخلع بنفقة ما زاد على الحولين لأجل الغرر، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب، فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم، لأنها محل لها. وقد احتج مالك في « المبسوط » على هذا بقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » [ البقرة: 233 ] .


فإن وقع الخلع على الوجه المباح بنفقة الابن فمات الصبي قبل انقضاء المدة فهل للزوج الرجوع عليها ببقية النفقة، فروى ابن المواز عن مالك: لا يتبعها بشيء، وروى عنه أبو الفرج: يتبعها، لأنه حق ثبت له في ذمة الزوجة بالخلع فلا يسقط بموت الصبي، كما لو خالعها بمال متعلق بذمتها، ووجه الأول أنه لم يشترط لنفسه مالا يتموله، وإنما اشترط كفاية مؤونة ولده، فإذا مات الولد لم يكن له الرجوع عليها بشيء، كما لو تطوع رجل بالإنفاق على صبي سنة فمات الصبي لم يرجع عليه بشيء، لأنه إنما قصد بتطوعه تحمل مؤونته، والله أعلم. قال مالك: لم أر أحدا يتبع بمثل هذا، ولو اتبعه لكان له في ذلك قول. واتفقوا على أنها إن ماتت فنفقة الولد في مالها، لأنه حق ثبت فيه قبل موتها فلا يسقط بموتها.

ومن اشترط على امرأته في الخلع نفقة حملها وهي لا شيء لها فعليه النفقة إذا لم يكن لها مال تنفق منه، وإن أيسرت بعد ذلك اتبعها بما أنفق وأخذه منها. قال مالك: ومن الحق أن يكلف الرجل نفقة ولده وإن اشترط على أمه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.


واختلف العلماء في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، فروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين: هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: وأصحابه والشافعي في أحد قوليه. فمن نوى بالخلع تطليقتين أو ثلاثا لزمه ذلك عند مالك. وقال أصحاب الرأي: إن نوى الزوج ثلاثا كان ثلاثا، وإن نوى اثنتين فهو واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إن نوى بالخلع طلاقا وسماه فهو طلاق، وإن لم ينو طلاقا ولا سمى لم تقع فرقة، قاله في القديم. وقوله الأول أحب إلي. المزني: وهو الأصح عندهم. وقال أبو ثور: إذا لم يسم الطلاق فالخلع فرقة وليس بطلاق، وإن سمى تطليقة فهي تطليقة، والزوج أملك برجعتها ما دامت في العدة. وممن قال: إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد. واحتجوا بالحديث عن ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس ( أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق ) ، ذكر الله عز وجل الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء ثم قال: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » [ البقرة: 229 ] . ثم قرأ « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] . قالوا: ولأنه لو كان طلاقا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثا، وكان قوله: « فإن طلقها » بعد ذلك دالا على الطلاق الرابع، فكان يكون التحريم متعلقا بأربع تطليقات. واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة ) . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة ) . قال الترمذي: حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة. قالوا: فهذا يدل على أن الخلع فسخ لا طلاق، وذلك أن الله تعالى قال: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] ولو كانت هذه مطلقة لم يقتصر بها على قرء واحد.

قلت: فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك - كما قال ابن عباس - وإن لم تنكح زوجا غيره، لأنه ليس له غير تطليقتين والخلع لغو. ومن جعل الخلع طلاقا قال: لم يجز أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: كيف يجوز القول في رجل قالت له امرأته: طلقني على مال فطلقها إنه لا يكون طلاقا، وهو لو جعل أمرها بيدها من غير شيء فطلقت نفسها كان طلاقا!. قال وأما قوله تعالى: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » فهو معطوف. على قوله تعالى: « الطلاق مرتان » ، لأن قوله: « أو تسريح بإحسان » إنما يعني به أو تطليق. فلو كان الخلع معطوفا على التطليقتين لكان لا يجوز الخلع أصلا إلا بعد تطليقتين وهذا لا يقوله أحد. وقال غيره: ما تأولوه في الآية غلط فإن قوله: « الطلاق مرتان » أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله: « فإمساك بمعروف » ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع فعاد الخلع إلى الثنتين المتقدم ذكرهما، إذ المراد بذلك بيان الطلاق المطلق والطلاق بعوض، والطلاق الثالث بعوض كان أو بغير عوض فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.

قلت: هذا الجواب عن الآية، وأما الحديث فقال أبو داود - لما ذكر حديث ابن عباس في الحيضة - : هذا الحديث رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وحدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة عدة المطلقة. قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا.

قلت: وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأهل الكوفة. قال الترمذي: وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

قلت: وحديث ابن عباس في الحيضة مع غرابته كما ذكر الترمذي، وإرساله كما ذكر أبو داود فقد قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة ونصفا، أخرجه الدارقطني من حديث معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها ( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ونصفا ) . والراوي عن معمر هنا في الحيضة والنصف هو الراوي عنه في الحيضة الواحدة، وهو هشام بن يوسف أبو عبدالرحمن الصنعاني اليماني: خرج له البخاري وحده فالحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن، فسقط الاحتجاج به في أن الخلع فسخ، وفي أن عدة المطلقة حيضة، وبقي قوله تعالى: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » نصا في كل مطلقة مدخول بها إلا ما خص منها كما تقدم. قال الترمذي: « وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عدة المختلعة حيضة، قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قوي » قال ابن المنذر: قال عثمان بن عفان وابن عمر: ( عدتها حيضة ) ، وبه قال أبان بن عثمان وإسحاق. وقال علي بن أبي طالب: ( عدتها عدة المطلقة ) ، وبقول عثمان وابن عمر أقول، ولا يثبت حديث علي.

قلت: قد ذكرنا عن ابن عمر أنه قال: ( عدة المختلعة عدة المطلقة ) ، وهو صحيح.


واختلف قول مالك فيمن قصد إيقاع الخلع على غير عوض، فقال عبدالوهاب: هو خلع عند مالك، وكان الطلاق بائنا. وقيل عنه: لا يكون بائنا إلا بوجود العوض، قاله أشهب والشافعي، لأنه طلاق عري عن عوض واستيفاء عدد فكان رجعيا كما لو كان بلفظ الطلاق قال ابن عبدالبر: وهذا أصح قوليه عندي وعند أهل العلم في النظر. ووجه الأول أن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرجه عن مقتضاه، أصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير.


المختلعة هي التي تختلع من كل الذي لها. والمفتدية أن تفتدي ببعضه وتأخذ بعضه. والمبارئة هي التي بارأت زوجها من قبل أن يدخل بها فتقول: قد أبرأتك فبارئني، هذا هو قول مالك. وروى عيسى بن دينار عن مالك: المبارئة هي التي لا تأخذ شيئا ولا تعطي، والمختلعة هي التي تعطي ما أعطاها وتزيد من مالها، والمفتدية هي التي تفتدي ببعض ما أعطاها وتمسك بعضه، وهذا كله يكون قبل الدخول وبعده، فما كان قبل الدخول فلا عدة فيه، والمصالحة مثل المبارئة. قال القاضي أبو محمد وغيره: هذه الألفاظ الأربعة تعود إلى معنى واحد وإن اختلفت صفاتها من جهة الإيقاع، وهي طلقة بائنة سماها أو لم يسمها، لا رجعة له في العدة، وله نكاحها في العدة. وبعدها برضاها بولي وصداق وقبل زوج وبعده، خلافا لأبي ثور، لأنها إنما أعطته العوض لتملك نفسها، ولو كان طلاق الخلع رجعيا لن تملك نفسها، فكان يجتمع للزوج العوض والمعوض عنه.

وهذا مع إطلاق العقد نافذ، فلو بذلت له العوض وشرط الرجعة، ففيها روايتان رواهما ابن وهب عن مالك: إحداهما ثبوتها، وبها قال سحنون. والأخرى نفيها. قال سحنون: وجه الرواية الأولى أنهما قد اتفقا على أن يكون العوض في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق، وهذا جائز. ووجه الرواية الثانية أنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه فلم يثبت ذلك، كما لو شرط في عقد النكاح: أني لا أطأها.


قوله تعالى: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » لما بين تعالى أحكام النكاح والفراق قال: « تلك حدود الله » التي أمرت بامتثالها، كما بين تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: « تلك حدود الله فلا تقربوها » [ البقرة: 187 ] فقسم الحدود قسمين، منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: « ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:17 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 230 ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون )


احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: « الطلاق مرتان » لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله « فإن طلقها » على قوله « الطلاق مرتان » بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: « وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن » [ النساء: 23 ] فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.

وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو ( أن الطلاق لا يلزمها ) ، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام.


المراد بقوله تعالى: « فإن طلقها » الطلقة الثالثة « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » . وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.

واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف. وقال الحسن بن أبي الحسن: لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال: أما الناس فيقولون: لا تحل، للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها.

قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب « معاني القرآن » له. قال: وأهل العلم على أن النكاح ههنا الجماع، لأنه قال: « زوجا غيره » فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح ههنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.

قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: « حتى تنكح زوجا غيره » والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه ) . قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا: ويفهم من قوله عليه السلام: ( حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه ) استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.


روى النسائي عن عبدالله قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له ) . وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ) . وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يتزوجها بنكاح جديد.

قال أبو عمر بن عبدالبر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الحيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث - قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبي حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داود.

قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي. وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داود بن علي لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.


مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح، وسواء شرط ذلك أو نواه، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل: إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها، ولا يقصد به التحليل، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا: لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا مسلما. وقال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه، وسواء أدخله بيده أم بيدها، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك. قال ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز، لما خالط نكاحه من نية التحليل، ولا تحل بذلك للأول.


وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها، إذ ليس بزوج، روي عن علي بن أبي طالب، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: « حتى تنكح زوجا غيره » والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح.

في موطأ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.


روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة، فقال: تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر: وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى: مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون: ( إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين ) ، على عموم قوله عز وجل: « أو ما ملكت أيمانكم » [ النساء: 3 ] . قال أبو عمر: وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل: « أو ما ملكت أيمانكم » لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات.

إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة: الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال: « حتى تنكح زوجا غيره » والنصراني زوج. وقال مالك وربيعة: لا يحلها.


النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري. والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، كلهم يقولون: لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول: هو زوج. قال ابن المنذر: ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته.

جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) . وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالون زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه.


قوله تعالى: « فإن طلقها » يريد الزوج الثاني. « فلا جناح عليهما » أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.

واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو ( أن النكاح جديد والطلاق جديد ) ، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبدالله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال: وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبدالله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي.


قوله تعالى: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » شرط. قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه. وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال: ( دلستم علي ) .

واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان.


قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس على الزوجة خدمة، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: « فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا » [ النساء: 34 ] . وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل. وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » [ البقرة: 228 ] . وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك.


قوله تعالى: « وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون » حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع. وقد تقدم هذا مستوفى. وإنما قال: « لقوم يعلمون » لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.



الآية: 231 ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم )


قوله تعالى: « فبلغن أجلهن » معنى « بلغن » قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى.


قوله تعالى: « فأمسكوهن بمعروف » الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال: إن ذلك سنة. ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » [ البقرة: 280 ] وقال: « وأنكحوا الأيامى منكم » [ النور: 32 ] الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا معارض لها. والحجة للأول قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: ( تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ) فهذا نص في موضع الخلاف. والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله: إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولي.


قوله تعالى: « أو سرحوهن بمعروف » يعني فطلقوهن، وقد تقدم. « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه » يعظهم الله به. وقال الزجاج: « فقد ظلم نفسه » يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله. وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: « الطلاق مرتان » . فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر.


قوله تعالى: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » معناه لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته. قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول: كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام: ( من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد ) . رواه معمر قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبي الدرداء فذكره بمعناه. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي؟ فقال ابن عباس: ( طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا ) . وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن علي قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال: ( تتخذون آيات الله هزوا - أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) . إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث. وروي عن عائشة: ( أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك. قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك ) ، فنزلت: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » . قال علماؤنا: والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوا. ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية. وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه.

ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة ) . وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء كلهم قالوا: ( ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق ) . وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه.


قوله تعالى: « واذكروا نعمة الله عليكم » أي بالإسلام وبيان الأحكام. « والحكمة » هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب. « يعظكم به » أي يخوفكم. « واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم » تقدم.



الآية: 232 ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون )


قوله تعالى: « فلا تعضلوهن » روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت الآية. قال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال: ( إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح ) فقال: آمنت بالله، وزوجها منه. وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » . وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا أزوجك أبدا فأنزل الله، أو قال أنزلت: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » فكفرت عن يمين وأنكحتها إياه. في رواية للبخاري: فحمي معقل من ذلك أنفا، وقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى. وقيل: هو معقل بن سنان ( بالنون ) . قال النحاس: رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان. وقال الطحاوي: هو معقل بن سنان.

إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى: « فلا تعضلوهن » للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها. واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا: لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة: 230 ] ولم يذكر الولي. وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى. والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول. والله أعلم.


قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن » بلوغ الأجل في هذا الموضع: تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة. و « تعضلوهن » معناه تحبسوهن. وحكى الخليل: دجاجة معضل: قد احتبس بيضها. وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي. وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم: إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها. وفي حديث معاوية: ( معضلة ولا أبا حسن ) ، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج. وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس. وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي:

إذا المعضلات تصدينني كشفت حقائقها بالنظر

ويقال: أعضل الأمر إذا اشتد. وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء. وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضُلها ويعضِلها ( بالضم والكسر ) لغتان.

قوله تعالى: « ذلك يوعظ به من كان » ولم يقل « ذلكم » لأنه محمول على معنى الجمع. ولو كان « ذلكم » لجاز، مثل « ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم » أي ما لكم فيه من الصلاح. « وأنتم لا تعلمون » ذلك.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:21 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 233 ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير )



قوله تعالى: « والوالدات » ابتداء. « يرضعن أولادهن » في موضع الخبر. « حولين كاملين » ظرف زمان. ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قاله السدي والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي. وعلى هذا يشكل قوله: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » لأن المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال: الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها. وقيل: الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات. والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى: « وعلى المولود له » أي الزوج « رزقهن وكسوتهن، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط. »



قوله تعالى: « يرضعن » خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي. وقيل: هو خبر عن المشروعية كما تقدم.



واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن » ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط. وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب. وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به. فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفي كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال. وقال عبدالوهاب: هو فقير من فقراء المسلمين. وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع. وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. قال الشافعي،: لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » . يقال: رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة ( بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني ) واسم الفاعل راضع فيهما. والرضاعة: اللؤم ( مفتوح الراء لا غير ) .



قوله تعالى: « حولين » أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني. وقيل: سمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب. « كاملين » قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى: « فمن تعجل في يومين » [ البقرة:203 ] وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني. وقوله تعالى: « لمن أراد أن يتم الرضاعة » دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين. وقرأ مجاهد وابن محيصن « لمن أراد أن تتم الرضاعة » بفتح التاء ورفع « الرضاعة » على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من « الرضاعة » وهي لغة كالحضارة والحضارة. وروي عن مجاهد أنه قرأ « الرضعة » على وزن الفعلة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ « أن يكمل الرضاعة » . النحاس: لا يعرف البصريون « الرضاعة » إلا بفتح الراء، ولا « الرضاع » إلا بكسر الراء، مثل القتال. وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء.



انتزع مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة. هذا قوله في موطئه، وهي رواية محمد بن عبدالحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور. وروى ابن عبدالحكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة. عبدالملك: كالشهر ونحوه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال: ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث. وحكي عن النعمان أنه قال: وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين. وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا رضاع إلا ما كان في الحولين ) . قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ.

قلت: وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. وقد روي عن عائشة القول به. وبه يقول الليث بن سعد من بين العلماء. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير. وروي عنه الرجوع عنه. وسيأتي في سورة « النساء » مبينا إن شاء الله تعالى.

قال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل ولد. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، فان مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » [ الأحقاف: 15 ] . وعلى هذا تتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر.



قوله تعالى: « وعلى المولود له » أي وعلى الأب. ويجوز في العربية « وعلى المولود لهم » كقوله تعالى: « ومنهم من يستمعون إليك » [ يونس: 42 ] لأن المعنى وعلى الذي ولد له و « الذي » يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم.



قوله تعالى: « رزقهن وكسوتهن » الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن » [ الطلاق: 6 ] لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها.

وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من مال بغير علمه فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . والكسوة: اللباس. وقوله: « بالمعروف » أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها من غير تقدير مد ولا غيره بقوله تعالى: « لا تكلف نفس إلا وسعها » على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى: أي لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد.



في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية. وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا أبوك وهذه أمك فخذ أيهما شئت ) فأخذ بيد أمه. وفي كتاب أبي داود عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استهما عليه ) فقال زوجها: من يحاقني في ولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أحدهما شئت ) فأخذ بيد أمه فانطلقت به. ودليلنا ما رواه أبو داود عن الأوزاعي قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الأم أحق به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر: لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج.

ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأمه وفيمن هو أولى به، قال ابن المنذر: وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير.، روى أبو داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة، فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها، ابنة عمي وخالتها عندي والخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها،: ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحق بها. فقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا قال: ( وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم ) .



قال ابن المنذر: وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حق للأم في الولد إذا تزوجت.

قلت: كذا قال في كتاب الأشراف له. وذكر القاضي عبدالوهاب في شرح الرسالة له عن الحسن أنه لا يسقط حقها من الحضانة بالتزوج. وأجمع مالك والشافعي والنعمان وأبو ثور على أن الجدة أم الأم أحق بحضانة الولد. واختلفوا إذا لم يكن لها أم وكان لها جدة هي أم الأب، فقال مالك: أم الأب أحق إذا لم يكن للصبي خالة. وقال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني ذلك عنه أنه قال: الخالة أولى من الجدة أم الأب. وفي قول الشافعي والنعمان: أم الأب أحق من الخالة. وقد قيل: إن الأب أولى بابنه من الجدة أم الأب. قال أبو عمر: وهذا عندي إذا لم يكن له زوجة أجنبية. ثم الأخت بعد الأب ثم العمة. وهذا إذا كان كل واحد من هؤلاء مأمونا على الولد، وكان عنده في حرز وكفاية، فإذا لم يكن كذلك لم يكن له حق في الحضانة، وإنما ينظر في ذلك إلى من يحوط الصبي ومن يحسن إليه في حفظه وتعلمه الخير. وهذا على قول من قال إن الحضانة حق الولد، وقد روى ذلك عن مالك وقال به طائفة من أصحابه، وكذلك لا يرون حضانة لفاجرة ولا لضعيفة عاجزة عن القيام بحق الصبي لمرض أو زمانة. وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون عن مالك أن الحضانة للأم ثم الجدة للأم ثم الخالة ثم الجدة للأب ثم أخت الصبي ثم عمة الصبي ثم ابنة أخي الصبي ثم الأب. والجدة للأب أولى من الأخت والأخت أولى من العمة والعمة أولى ممن بعدها، وأولى من جميع الرجال الأولياء. وليس لابنة الخالة ولا لابنة العمة ولا لبنات أخوات الصبي من حضانته شيء. فإذا كان الحاضن لا يخاف منه على الطفل تضييع أو دخول فساد كان حاضنا له أبدا حتى يبلغ الحلم. وقد قيل: حتى يثغر، وحتى تتزوج الجارية، إلا أن يريد الأب نقلة سفر وإيطان فيكون حينئذ أحق بولده من أمه وغيرها إن لم ترد الانتقال. وإن أراد الخروج لتجارة لم يكن له ذلك. وكذلك أولياء الصبي الذين يكون مآله إذا انتقلوا للاستيطان. وليس للأم أن تنقل ولدها عن موضع سكنى الأب إلا فيما يقرب نحو المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة. ولو شرط عليها في حين انتقاله عن بلدها أنه لا يترك ولده عندها إلا أن تلتزم نفقته ومؤونته سنين معلومة فإن التزمت ذلك لزمها: فإن ماتت لم تتبع بذلك ورثتها في تركتها. وقد قيل: ذلك دين يؤخذ من تركتها، والأول أصح إن شاء الله تعالى، كما لو مات الوالد أو كما لو صالحها على نفقة الحمل والرضاع فأسقطت لم تتبع بشيء من ذلك.



إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها عند مالك. وقال الشافعي: إذا نكحت فقد انقطع حقها. فإن طلقها لم يكن لها الرجوع فيه عند مالك في الأشهر عندنا من مذهبه. وقد ذكر القاضي إسماعيل وذكره ابن خويز منداد أيضا عن مالك أنه اختلف قوله في ذلك، فقال مرة: يرد إليها. وقال مرة: لا يرد. قال ابن المنذر: فإذا خرجت الأم عن البلد الذي به ولدها ثم رجعت إليه فهي أحق بولدها في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وكذلك لو تزوجت ثم طلقت أو توفى عنها زوجها رجعت في حقها من الولد.

قلت وكذلك قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب، فإن طلقها الزوج أو مات عنها كان لها أخذه لزوال العذر الذي جاز له تركه.



فإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا لم يكن لها بعد ذلك أخذه.



واختلفوا في الزوجين يفترقان بطلاق والزوجة ذمية، فقالت طائفة: لا فرق بين الذمية والمسلمة وهي أحق بولدها، هذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وابن القاسم صاحب مالك. قال ابن المنذر: وقد روينا حديثا مرفوعا موافقا لهذا القول، وفي إسناده مقال. وفيه قول ثان أن الولد مع المسلم منهما، هذا قول مالك وسوار وعبدالله بن الحسن، وحكي ذلك عن الشافعي. وكذلك اختلفوا في الزوجين يفترقان، أحدهما حر والآخر مملوك، فقالت طائفة: الحر أولى، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: في الأب إذا كان حرا وله ولد حر والأم مملوكة: إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الأب أحق به.



قوله تعالى: « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » المعنى: لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، هذا قول جمهور المفسرين. وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي « تضار » بفتح الراء المشددة وموضعه جزم على النهي، وأصله لا تضارر على الأصل، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهكذا يفعل في المضاعف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول: عض يا رجل، وضار فلانا يا رجل. أي لا ينزع الولد منها إذا رضيت بالإرضاع وألفها الصبي. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان بن عاصم وجماعة « تضار » بالرفع عطفا على قوله: « تكلف نفس » وهو خبر والمراد به الأمر. وروى يونس عن الحسن قال يقول: لا تضار زوجها، تقول: لا أرضعه، ولا يضارها فينزعه منها وهي تقول: أنا أرضعه. ويحتمل أن يكون الأصل « تضارر » بكسر الراء الأولى، ورواها أبان عن عاصم، وهي لغة أهل الحجاز. فـ « والدة » فاعله، ويحتمل أن يكون « تضارر » فـ « والدة » مفعول ما لم يسم فاعله. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ « لا تضارر » براءين الأولى مفتوحة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع « تضار » بإسكان الراء وتخفيفها. وكذلك « لا يضار كاتب » وهذا بعيد لأن المثلين إذا اجتمعا وهما أصليان لم يجز حذف أحدهما للتخفيف، فإما الإدغام وإما الإظهار. وروي عنه الإسكان والتشديد. وروي عن ابن عباس والحسن « لا تضارر » بكسر الراء الأولى.



قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » هو معطوف على قوله: « وعلى المولود » واختلفوا في تأويل قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو وارث الصبي أن لو مات. قال بعضهم: وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع، كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، وقاله مجاهد وعطاء. وقال قتادة وغيره: هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق في كتاب « معاني القرآن » له: فأما أبو حنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث. قال أبو إسحاق: فقالوا قولا ليس في كتاب الله ولا نعلم أحدا قاله. وحكى الطبري عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: الوارث الذي يلزمه الإرضاع هو وارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره ليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء. وقيل: المراد عصبة الأب عليهم النفقة والكسوة. قال الضحاك: إن مات أبو الصبي وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبدالعزيز: الوارث هو الصبي نفسه، وتأولوا قوله: « وعلى الوارث » المولود، مثل ما على المولود له، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه. وقال سفيان: الوارث هنا هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما فإن مات الأب فعلى الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، ويشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. وقال ابن خويز منداد: ولو كان اليتيم فقيرا لا مال له، وجب على الإمام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين، الأخص به فالأخص، والأم أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به، ولا ترجع عليه ولا على أحد. والرضاع واجب والنفقة استحباب: ووجه الاستحباب قوله تعالى: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » وواجب على الأزواج القيام بهن، فإذا تعذر استيفاء الحق لهن بموت الزوج أو إعساره لم يسقط الحق عنهن، ألا ترى أن العدة واجبة عليهن والنفقة والسكنى على أزواجهن، وإذا تعذرت النفقة لهن لم تسقط العدة عنهن. وروى عبدالرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه. قال: وقول الله عز وجل: « وعلى الوارث مثل ذلك » هو منسوخ. قال النحاس: هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبدالرحمن بن القاسم، ولا علمت أن أحدا من أصحابهم بين ذلك، والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم، أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه، نسخ ذلك أيضا عن الوارث.

قلت: فعلى هذا تكون النفقة على الصبي نفسه من ماله، لا يكون على الوارث منها شيء على ما يأتي. قال ابن العربي: قوله « وعلى الوارث مثل ذلك » قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة، وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحتار فيه ألباب الشاذين، والأمر فيه قريب، وذلك أن العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم، وتحقيق القول فيه: أن قوله تعالى « وعلى الوارث مثل ذلك » إشارة إلى ما تقدم، فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن ويسند إلى عمر. وقالت طائفة من العلماء: إن معنى قوله تعالى: « وعلى الوارث مثل ذلك » لا يرجع إلى جميع ما تقدم، وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار، والمعنى: وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل.

قلت: قوله: « وهذا هو الأصل » يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو صحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبدالوهاب، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه، « ولا مولود له بولده » في أن الأم إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك، لأن الأم أرفق وأحن عليه، ولبنها خير له من لبن الأجنبية. قال ابن عطية: وقال مالك رحمه الله وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله « مثل ذلك » ألا تضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا. وقرأ يحيى بن يعمر « وعلى الورثة » بالجمع، وذلك يقتضي العموم، فإن استدلوا بقوله عليه السلام: ( لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج ) قيل لهم الرحم عموم في كل ذي رحم، محرما كان أو غير محرم، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله عليه السلام: ( اجعلها في الأقربين ) فحمل الحديث على هذا، ولا حجة فيه على ما راموه، والله أعلم. وقال النحاس: وأما قول من قال « وعلى الوارث مثل ذلك » ألا يضار فقول حسن، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شيء منها إلا بدليل قاطع. وأما قول من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب، فورثته أولى من ورثة الابن وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول: كما يرثونه يقومون به. قال النحاس: وكان محمد بن جرير يختار قول من قال: الوارث هنا الابن، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة، لأن ماله أولى به. وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع، وأن ذلك من مال الصبي. فإن قيل: قد قال الله عز وجل « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » ، قيل: هذا الضمير للمؤنث، ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها، لا يسع مسلما الخروج عنه. وأما من قال: ذلك على من بقي من الأبوين، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها. وقد ترجم البخاري على رد هذا القول [ باب - وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شيء ] وساق حديث أم سلمة وهند. والمعنى فيه: أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم مال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا. فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم: ولست بتاركتهم. وأما حديث هند فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب. فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء. وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا. قال النحاس: وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه. فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: « وعلى الوارث مثل ذلك » فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا: إذا ترك خاله وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شيء، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه.



قوله تعالى: « فإن أرادا فصالا » الضمير في « أرادا » للوالدين. و « فصالا » معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. والفصال والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه. « عن تراض منهما » أي قبل الحولين. « فلا جناح عليهما » أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما، هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان. وقال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله: « فإن أرادا فصالا » الآية. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور: استحراج الرأي، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار: متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة: هيئة الرجل، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره.



قوله تعالى: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم » أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج. قال النحاس: التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل « كالوهم أو وزنوهم » [ المطففين: 3 ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبوبه:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ولا يجوز: دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدي إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع.

قلت: وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك. وقد قال عكرمة في قوله تعالى: « لا تضار والدة » معناه الظئر، حكاه ابن عطية. والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال: لا يلزمها رضاعه. فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة. وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك. والأصل البديع فيه أن، هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقال به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا.



قوله تعالى: « إذا سلمتم » يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قاله سفيان. مجاهد: سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع. وقرأ الستة من السبعة « ما آتيتم » بمعنى ما أعطيتم. وقرأ ابن كثير « أتيتم » بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير:

وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل

قال قتادة والزهري: المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب « سلمتم » الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال. قال أبو علي: المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع. قال أبو علي: ويحتمل أن تكون « ما » مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير.





الآية: 234 ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير )



قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم » لما ذكر عز وجل عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدة الوفاة أيضا؛ لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. « والذين » أي والرجال الذين يموتون منكم. « ويذرون أزواجا » أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات « يتربصن » ؛ قال معناه الزجاج واختاره النحاس. وحذف المبتدأ في الكلام كثير؛ كقوله تعالى: « قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار » [ الحج: 72 ] أي هو النار. وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم؛ وهو كقولك: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم. وقيل: التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ فجاءت العبارة في غاية الإيجاز وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون. وقال بعض نحاة الكوفة: الخبر عن « الذين » متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن؛ وهذا اللفظ معناه الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم.



هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص. وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] . وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » [ البقرة:240 ] لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفى الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج؛ ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر وبالميراث. وقال قوم: ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول؛ كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا. وهذا غلط بين؛ لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا. وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها؛ وسيأتي.



عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين؛ واختاره سحنون من علمائنا.، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. والحجة لما روي عن على وابن عباس روم الجمع بين قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » وبين قوله: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول. وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج؛ أخرجه في الصحيح. فبين الحديث أن قوله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين؛ ويعتضد هذا بقول ابن مسعود: ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة. قال علماؤنا: وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده. والله أعلم. وإنما يعني أنها مخصصة لها؛ فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها. وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة؛ لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا، توفي بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة، وولدت بعده بنصف شهر. وقال البخاري: بأربعين ليلة. وروى مسلم من حديث عمر بن عبدالله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالت: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي. قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر؛ وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد: لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها. فاشترطوا شرطين: وضع الحمل، والطهر من دم النفاس. والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله: ( فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ) كما في صحيح مسلم وأبي داود؛ لأن ( تعلت ) وإن كان أصله، طهرت من دم نفاسها على ما قاله الخليل - فيحتمل أن يكون المراد به ههنا تعلت من آلام نفاسها؛ أي استقلت من أوجاعها. ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه؛ وإنما الحجة في قوله عليه السلام لسبيعة: ( قد حللت حين وضعت ) فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت؛ فصح ما قاله الجمهور.

ولا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها.

واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم؛ وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد؛ فعلم أن المقصود الولادة.



قوله تعالى: « يتربصن » التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا. ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى: « أسكنوهن » وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال: « يتربصن » فبينت السنة جميع ذلك. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا؛ وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ابن شهاب، وحسبك، قال الباجي: لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان. قال أبو عمر: وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر. وكان داود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات؛ ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف. قالوا: وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم؛ وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع. قال أبو عمر: أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق: وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داود؛ وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري. قال ابن عباس: إنما قال الله تعالى: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت؛ وروي عن أبي حنيفة. وذكر عبدالرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خرجت عائشة بأختها أم كلثوم - حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيدالله - إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها. قال: وحدثنا الثوري عن عبيدالله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى الناس ذلك عليها. قال: وحدثنا معمر عن الزهري قال: أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر. وفي الموطأ: أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج. وهذا من عمر رضي الله عنه اجتهاد؛ لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها؛ وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها. وقال مالك: ترد ما لم تحرم.



إذا كان الزوج يملك رقبة المسكن فإن للزوجة العدة فيه؛ وعليه أكثر الفقهاء: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لحديث الفريعة. وهل يجوز بيع الدار، إذا كانت ملكا للمتوفى وأراد ذلك الورثة؛ فالذي عليه جمهور أصحابنا أن ذلك جائز، ويشترط فيه العدة للمرأة. قال ابن القاسم: لأنها أحق بالسكنى من الغرماء. وقال محمد بن الحكم: البيع فاسد؛ لأنها قد ترتاب فتمتد عدتها. وجه قول ابن القاسم: أن الغالب السلامة، والريبة نادرة وذلك لا يؤثر في فساد العقود؛ فإن وقع البيع فيه بهذا الشرط فارتابت، قال مالك في كتاب محمد: هي أحق بالمقام حتى تنقضي الريبة، وأحب إلينا أن يكون للمشتري الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ولا يرجع بشيء؛ لأنه دخل على العدة المعتادة، ولو وقع البيع بشرط زوال الريبة كان فاسدا. وقال سحنون: لا حجة للمشترى وإن تمادت الريبة إلى خمس سنين؛ لأنه دخل على العدة والعدة قد تكون خمس سنين؛ ونحو هذا روى أبو زيد عن ابن القاسم.



فإن كان للزوج السكنى دون الرقبة، فلها السكنى في مدة العدة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي؛ لقوله عليه السلام للفريعة - وقد علم أن زوجها لا يملك رقبة المسكن - : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . لا يقال إن المنزل كان لها، فلذلك قال لها: ( امكثي في بيتك ) فإن معمرا روى عن الزهري أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قتل، وأنه تركها في مسكن ليس لها واستأذنته؛ وذكر الحديث. ولنا من جهة المعنى أنه ترك دارا يملك سكناها ملكا لا تبعة عليه فيه؛ فلزم أن تعتد الزوجة فيه؛ أصل ذلك إذا ملك رقبتها.

وهذا إذا كان قد أدى الكراء، وأما إذا كان لم يؤد الكراء فالذي في المدونة: إنه لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا؛ لأن حقها إنما يتعلق بما يملكه من السكنى ملكا تاما، وما لم ينقد عوضه لم يملكه ملكا تاما، وإنما ملك العوض الذي بيده، ولا حق في ذلك للزوجة إلا بالميراث دون السكنى؛ لأن ذلك مال وليس بسكنى. وروى محمد عن مالك أن الكراء لازم للميت في ماله.

قوله صلى الله عليه وسلم للفريعة: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) يحتمل أنه أمرها بذلك لما كان زوجها قد أدى كراء المسكن، أو كان أسكن فيه إلى وفاته، أو أن أهل المنزل أباحوا لها العدة فيه بكراء أو غير كراء، أو ما شاء الله تعالى من ذلك مما رأى به أن المقام لازم لها فيه حتى تنقضي عدتها.



واختلفوا في المرأة يأتيها نعي زوجها وهي في بيت غير بيت زوجها؛ فأمرها بالرجوع إلى مسكنه وقراره مالك بن أنس؛ وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي: تعتد حيث أتاها الخبر، لا تبرح منه حتى تنقضي العدة. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، إلا أن يكون نقلها الزوج إلى مكان فتلزم ذلك المكان.



ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل. وفي البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار ) . وفي حديث أم حبيبة: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا... ) الحديث. الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلي والكحل والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك، وليس دهن المرأة رأسها بالزيت والشيرج من الطيب في شيء. يقال: امرأة حاد ومحد. قال الأصمعي: ولم نعرف ( حدت ) . وفاعل ( لا يحل ) المصدر الذي يمكن صياغته من ( تحد ) مع ( أن ) المرادة؛ فكأنه قال: الإحداد.



وصفه عليه السلام المرأة بالإيمان يدل على صحة أحد القولين عندنا في الكتابية المتوفى عنها زوجها أنها لا إحداد عليها؛ وهو قول ابن كنانة وابن نافع، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر، وروي عن ابن القاسم أن عليها الإحداد، كالمسلمة؛ وبه قال الليث والشافعي وأبو ثور وعامة أصحابنا؛ لأنه حكم من أحكام العدة فلزمت الكتابية للمسلم كلزوم المسكن والعدة.



وفي قوله عليه السلام: ( فوق ثلاث إلا على زوج ) دليل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة الإحداد عليهم ثلاثا تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها؛ فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغته وحسبت من الليلة القابلة.



هذا الحديث بحكم عمومه يتناول الزوجات كلهن المتوفى عنهن أزواجهن، فيدخل فيه الإماء والحرائر والكبار والصغار؛ وهو مذهب الجمهور من العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا إحداد على أمة ولا على صغيرة؛ حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي. قال ابن المنذر: أما الأمة الزوجة فهي داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي؛ ولا أحفظ في ذلك عن أحد خلافا، ولا أعلمهم يختلفون في الإحداد على أم الولد إذا مات سيدها؛ لأنها ليست بزوجة، والأحاديث إنما جاءت في الأزواج. قال الباجي: الصغيرة إذا كانت ممن تعقل الأمر والنهي وتلتزم ما حد لها أمرت بذلك، وإن كانت لا تدرك شيئا من ذلك لصغرها فروى ابن مزين عن عيسى يجنبها أهلها جميع ما تجتنبه الكبيرة، وذلك لازم لها. والدليل على وجوب الإحداد على الصغيرة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة عن بنت لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا ) مرتين أو ثلاثا؛ كل ذلك يقول ( لا ) ولم يسأل عن سنها؛ ولو كان الحكم يفترق بالصغر والكبر لسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز، وأيضا فإن كل من لزمتها العدة بالوفاة لزمها الإحداد كالكبيرة.



قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا أن الخضاب داخل في جملة الزينة المنهي عنها. وأجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس الثياب المصبغة والمعصفرة، إلا ما صبغ، بالسواد فإنه رخص فيه عروة بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزهري. وقال الزهري: لا تلبس ثوب عصب، وهو خلاف الحديث. وفي المدونة قال مالك: لا تلبس رقيق عصب اليمن؛ ووسع في غليظه. قال ابن القاسم: لأن رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة وتلبس رقيق الثياب وغليظه من الحرير والكتان والقطن. قال ابن المنذر: ورخص كل من أحفظ عنه في لباس البياض؛ قال القاضي عياض: ذهب الشافعي إلى أن كل صبغ كان زينة لا تمسه الحاد رقيقا كان أو غليظا. ونحوه للقاضي عبدالوهاب قال: كل ما كان من الألوان تتزين به النساء لأزواجهن فلتمتنع منه الحاد. ومنع بعض، مشايخنا المتأخرين جيد البياض الذي يتزين به، وكذلك الرفيع من السواد. وروى ابن المواز عن مالك: لا تلبس حليا وإن كان حديدا؛ وفي الجملة أن كل ما تلبسه المرأة على وجه ما يستعمل عليه الحلي من التجمل فلا تلبسه الحاد. ولم ينص أصحابنا على الجواهر واليواقيت والزمرد وهو داخل في معنى الحلي. والله أعلم.



وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه قال: ليس بواجب؛ واحتج بما رواه عبدالله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ) . قال ابن المنذر: كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال: المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتختضبان وتصنعان ما شاءا. وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم؛ ولعل الحسن لم تبلغه، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر وهى امرأته؛ فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي. قال ابن المنذر؛ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوبه؛ وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به؛ وقاله إسحاق.



ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة. أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء. وذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأبو ثور وأبو عبيد؟؟ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس سبتمبر 13, 2012 8:27 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



ذهب مالك والشافعي إلى أن لا إحداد على مطلقة رجعية كانت أو بائنة واحدة. أو أكثر؛ وهو قول ربيعة وعطاء. وذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأبو ثور وأبو عبيد؟؟ أن المطلقة ثلاثا عليها الإحداد؛ وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم بن عيينة. قال الحكم: هو عليها أوكد وأشد منه على المتوفى عنها زوجها؛ ومن جهة المعنى أنهما جميعا في عدة يحفظ بها النسب. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) دليل على أن المطلقة ثلاثا والمطلِق حيُّ لا إحداد عليها.



أجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض؛ فقالت طائفة تعتد عدة الطلاق؛ هذا قول مالك والشافعي ويعقوب وأبي عبيد وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول؛ لأن الله تعالى جعل عدة المطلقات الأقراء، وقد أجمعوا على المطلقة ثلاثا لو ماتت لم يرثها المطلق، وذلك لأنها غير زوجة؛ وإذا كانت غير زوجة فهو غير زوج لها. وقال الثوري: تعتد بأقصى العدتين. وقال النعمان ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر تستكمل في ذلك ثلاث حيض.



واختلفوا في المرأة يبلغها وفاة زوجها أو طلاقه؛ فقالت طائفة: العدة في الطلاق والوفاة من يوم يموت أو يطلق؛ هذا قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال مسروق وعطاء وجماعة من التابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر. وفيه قول ثان وهو أن عدتها من يوم يبلغها الخبر؛ روي هذا القول عن علي، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء الخراساني وجلاس بن عمرو. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز: إن قامت بينة فعدتها من يوم مات أو طلق، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر؛ والصحيح الأول، لأنه تعالى علق العدة بالوفاة أو الطلاق، ولأنها لو علمت بموته فتركت الإحداد انقضت العدة، فإذا تركته مع عدم العلم فهو أهون؛ ألا ترى أن الصغيرة تنقضي عدتها ولا إحداد عليها. وأيضا فقد أجمع العلماء على أنها لو كانت. حاملا لا تعلم طلاق الزوج أو وفاته ثم وضعت حملها أن عدتها منقضية. ولا فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المختلف فيها. ووجه من قال بالعدة من يوم يبلغها الخبر، أن العدة عبادة بترك الزينة وذلك لا يصح إلا بقصد ونية، والقصد لا يكون إلا بعد العلم. والله أعلم.



عدة الوفاة تلزم الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت واليائسة من المحيض والكتابية - دخل بها أو لم يدخل بها إذا كانت غير حامل - وعدة جميعهن إلا الأمة أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لعموم الآية في قوله تعالى: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » . وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمس ليال. قال ابن العربي: نصف عدة الحرة إجماعا، إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى فيها بين الحرة والأمة وقد سبقه الإجماع، لكن لصممه لم يسمع. قال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين، وليس بالثابت عنه أنه قال: عدتها عدة الحرة.

قلت: قول الأصم صحيح من حيث النظر؛ فإن الآيات الواردة في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة؛ فعدة الحرة والأمة سواء على هذا النظر؛ فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وكما استوت الأمة والحرة في النكاح فكذلك تستوي معها في العدة. والله أعلم. قال ابن العربي: وروي عن مالك أن الكتابية تعتد بثلاث حيض إذ يبرأ الرحم؛ وهذا منه فاسد جدا، لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها.

قلت: وعليه بناء ما في المدونة لا عدة عليها إن كانت غير مدخول بها؛ لأنه قد علم براءة رحمها، هذا يقتضي أن تتزوج مسلما أو غيره إثر وفاته؛ لأنه إذا لم يكن عليها عدة للوفاة ولا استبراء للدخول فقد حلت للأزواج.



واختلفوا في عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها؛ فقالت طائفة: عدتها أربعة أشهر وعشر؛ قاله جماعة من التابعين منهم سعيد والزهري والحسن البصري وغيرهم، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. وروى أبو داود والدارقطني عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر؛ يعني في أم الولد؛ لفظ أبي داود. وقال الدارقطني: موقوف. وهو الصواب، وهو مرسل لأن قبيصة لم يسمع من عمرو. قال ابن المنذر: وضعف أحمد وأبو عبيد هذا الحديث. وروي عن علي وابن مسعود أن عدتها ثلاث حيض؛ وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي؛ قالوا: لأنها عدة تجب في حال الحرية، فوجب أن تكون عدة كاملة؛ أصله عدة الحرة. وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: عدتها حيضة؛ وهو قول ابن عمر. وروي عن طاوس أن عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها؛ وبه قال قتادة. قال ابن المنذر: وبقول ابن عمر أقول؛ لأنه الأقل مما قيل فيه وليس فيه سنة تتبع ولا إجماع يعتمد عليه. وذكر اختلافهم في عدتها في العتق كهو في الوفاة سواء، إلا أن الأوزاعي جعل عدتها في العتق ثلاث حيض.

قلت: أصح هذه الأقوال قول مالك، لأن الله سبحانه قال: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » [ البقرة: 228 ] فشرط في تربص الأقراء أن يكون عن طلاق؛ فانتفى بذلك أن يكون عن غيره. وقال: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » فعلق وجوب ذلك بكون المتربصة زوجة؛ فدل على أن الأمة بخلافها. وأيضا فإن هذه أمة موطوءة بملك اليمين فكان استبراؤها بحيضة؛ أصل ذلك الأمة.

إذا ثبت هذا فهل عدة أم الولد استبراء محض أو عدة؛ فالذي ذكره أبو محمد في معونته أن الحيضة استبراء وليست بعدة. وفي المدونة أن أم الولد عليها العدة، وأن عدتها حيضة كعدة الحرة ثلاث حيض. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا هي عدة فقد قال مالك: لا أحب أن تواعد أحدا ينكحها حتى تحيض حيضة. قال ابن القاسم: وبلغني عنه أنه قال: لا تبيت إلا في بيتها؛ فأثبت لمدة استبرائها حكم العدة.



أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة؛ لقوله تعالى: « وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن » [ الطلاق: 6 ] .

واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها؛ فقالت طائفة: لا نفقة لها؛ كذلك قال جابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبدالملك بن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق، وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي. وفيه قول ثان وهو أن لها النفقة من جميع المال؛ وروي هذا القول عن علي وعبدالله وبه قال ابن عمرو وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول؛ لأنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل أولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه؛ فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه. وقال القاضي أبو محمد: لأن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته، بدليل أنها تسقط عنه بالإعسار فبأن تسقط بالموت أولى وأحرى.



قوله تعالى: « أربعة أشهر وعشرا » اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا؛ فقال بعضهم: لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر، وإلا فهي مسترابة. وقال آخرون: ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة؛ لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة.



قوله تعالى: « وعشرا » روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية أنه سئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى. وقال الأصمعي: ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض. وقال غيره: أركضت فهي مركضة وأنشد:

ومركضة صريحي أبوها تهان لها الغلامة والغلام

وقال الخطابي: قوله « وعشرا » يريد - والله أعلم - الأيام بلياليها. وقال المبرد: إنما أنث العشر لأن المراد به المدة. المعنى وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر. وقيل: لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها. « وعشرا » أخف في اللفظ؛ فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة؛ تقول: صمنا خمسا من الشهر؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار. وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي. وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين. وروي عن ابن عباس أنه قرأ « أربعة أشهر وعشر ليال » .



قوله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير »

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة.

الثانية: قوله تعالى: « فلا جناح عليكم » خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء. « فيما فعلن » يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. « بالمعروف » أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم.

الثالثة: وفي هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة. وفيها رد على إسحاق في قوله: إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل. وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة؛ قال الله تعالى: « فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن » وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا؛ فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك. والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب، والله أعلم.



الآية: 235 ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم )



قوله تعالى: « ولا جناح » أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع وقيل: بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة؛ قال الشماخ:

إذا تعلو براكبها خليجا تذكر ما لديه من الجناح

وقوله تعالى: « عليكم فيما عرضتم به » المخاطبة لجميع الناس؛ والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة. والتعريض: ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه؛ كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وقيل؛ هو من قولك عرضت الرجل، أي أهديت إليه تحفة، وفي الحديث: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا؛ أي أهدوا لهما. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه.



قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: ( كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك ) . ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم. وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين: الأول: أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها. والثاني: أن يشير بذلك إليها دون واسطة؛ فيقول لها: إني أريد التزويج؛ أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيرا، إني فيك لراغب، ومن يرغب عنك، إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن. هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب. وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه؛ قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج؛ وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب. قلت، غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي، قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي. وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبى سلمة فقال: ( لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي ) كانت تلك خطبة؛ أخرجه الدارقطني. والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض؛ قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. وكره مجاهد أن يقول لها: لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا. قال القاضي أبو محمد بن عطية: وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: « من خطبة النساء » الخطبة ( بكسر الخاء ) : فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول. يقال: خطبها يخطبها خطبا وخطبة. ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة؛ ومنه قول الشاعر:

برح بالعينين خطاب الكثب يقول إني خاطب وقد كذب

وإنما يخطب عسا من حلب

والخطيب: الخاطب. والخطيبى: الخطبة؛ قال: عدي بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء:

لخطيبي التي غدرت وخانت وهن ذوات غائلة لحينا

والخطب؛ الرجل الذي يخطب المرأة؛ ويقال أيضا: هي خطبه وخطبته التي يخطبها. والخطبة فعلة كجلسة وقعدة: والخطبة ( بضم الخاء ) هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره. قال النحاس: والخطبة ما كان لها أول وآخر؛ وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة.



قوله تعالى: « أو أكننتم في أنفسكم » معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها. والإكنان: الستر والإخفاء؛ يقال: كننته وأكننته بمعنى واحد. وقيل:، كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا؛ ومنه بيض مكنون ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته. وقيل: كننت الشيء ( من الأجرام ) إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه. وأكننت الأمر في نفسي. ولم يسمع من العرب « كننته في نفسي » . ويقال: أكن البيت الإنسان؛ ونحو هذا. فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد. ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها.



استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد؛ وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا: هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف؛ والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض؛ لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.



قوله تعالى: « علم الله أنكم ستذكرونهن » أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم؛ فرخص في التعريض دون التصريح. الحسن: معناه ستخطبونهن. « ولكن لا تواعدوهن سرا » أي على سر فحذف الحرف؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر.

واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: « سرا » فقيل؛ معناه نكاحا، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني؛ بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم. « وسرا » على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسرين. وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قال معناه جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري؛ ومنه قول الأعشى:

فلا تقربن جارة إن سرها عليك حرام فأنكحن أو تأبدا

وقال الحطيئة:

ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقيل: السر الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش؛ هذا قول الشافعي. وقال امرؤ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن السر أمثالي

وقال رؤبة:

فكف عن إسرارها بعد العسق

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح، سرا كان أو جهرا، قال الأعشى:

فلن يطلبوا سرها للغنى ولن يسلموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقلة مالها. وقال ابن زيد: معنى قوله « ولكن لا تواعدوهن سرا » أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك؛ فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن؛ وهذا هو معنى القول الأول؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول؛ وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق. وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح » .



قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته. قال ابن المواز: وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه. وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إلي، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة؛ فإذا حلت خطبها مع الخطاب؛ هذه رواية ابن وهب. وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا؛ وقاله ابن القاسم. وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد. وقال الشافعي: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه لأن النكاح حادث بعد الخطبة؛ قاله ابن المنذر.



قوله تعالى: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » استثناء منقطع بمعنى لكن؛ كقوله « إلا خطأ » [ النساء: 92 ] أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة: احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة؛ فتقول هي: وأنا مثل ذلك؛ وهذا شبه المواعدة.



قوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح » قد تقدم القول في معنى العزم؛ يقال: عزم الشيء وعزم عليه. والمعنى هنا: ولا تعزموا على عقدة النكاح. ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام؛ فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته؛ وقد قال الله تعالى: « وإن عزموا الطلاق » [ البقرة: 227 ] وقال هنا: « ولا تعزموا عقدة النكاح » والمعنى: لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم. وحكى سيبويه: ضرب فلان الظهر والبطن؛ أي على. قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه. قال النحاس: ويجوز أن يكون « ولا تعقدوا عقدة النكاح » ؛ لأن معنى « تعزموا » وتعقدوا واحد. ويقال: « تعزموا » بضم الزاي.



قوله تعالى: « حتى يبلغ الكتاب أجله » يريد تمام العدة. والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة؛ سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال « كتاب الله عليكم » وكما قال: « إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا » [ النساء: 103 ] . فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله؛ « كتب عليكم الصيام » [ البقرة: 183 ] أي فرض. وقيل: ، في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله؛ فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن. وعلى الأول لا حذف فهو أولى، والله أعلم.



حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى: « ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله » وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة. وأباح التعريض في العدة بقوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » الآية. ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم. واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة؛ وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها. واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه؛ وذلك قبل الدخول وهي:

فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب؛ وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه [ ضرب أجل المفقود ] . وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول؛ ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم؛ أصله إذا بنى بها. وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهي:

فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة؛ يتأبد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم. وقال مالك: يتأبد التحريم. وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين؛ والقولان له في المدونة في طلاق السنة. وأما إن دخل في العدة، وهي:

فقال مالك والليث والأوزاعي: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين؛ مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال: لا يجتمعان أبدا. قال سعيد: ولها مهرها بما استحل من فرجها؛ أخرجه مالك في موطئه وسيأتي. وقال الثوري والكوفيون والشافعي: يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب. واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها؛ فكذلك وطؤه إياها في العدة. قالوا: وهو قول علي. ذكره عبدالرزاق. وذكر عن ابن مسعود مثله؛ وعن الحسن أيضا. وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال: لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها؛ فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد؛ وبه قال أحمد بن حنبل. وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين؛ إحداهما: أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه. والثانية: أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف؛ فثبت أنه إجماع. قال القاضي أبو محمد: وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره؛ وهذا حكم الإجماع. ووجه الرواية الثانية أن هذا وطء ممنوع فلم يتأبد تحريمه؛ كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت. وقد قال القاضي أبو الحسن: إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر. والله أعلم. وأسند أبو عمر: حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال؛ وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال: يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ فقال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ عمر فخطب الناس فقال: أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة. قال الكيا الطبري: ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد. وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد؛ إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه. واختلفوا هل تعتد منهما جميعا. وهذه مسألة العدتين وهي:



فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر؛ وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن علي كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي. وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك: إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالشهور؛ وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه؛ فدل على أنها في عدة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه. أجاب الأولون فقالوا: هذا غير لازم لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني؛ وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه. وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما؛ ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا. قال مالك: وقال سعيد بن المسيب: ولها مهرها بما استحل من فرجها. قال أبو عمر: وأما طليحة هذه فهي طليحة، بنت عبيدالله أخت طلحة بن عبيدالله التيمي، وفي بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى: طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحدا قاله.



قوله ( فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات ) يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة. وقال الزهري: فلا أدري كم بلغ ذلك الجلد. قال: وجلد عبدالملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة. قال: فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال: لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين، وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه. وقال ابن المواز: يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك؛ فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب؛ وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات. وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب. ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما. وقد قال الشيخ أبو القاسم: إنهما روايتان في التعمد؛ إحداهما يحد، والثانية يعاقب ولا يحد.



قوله تعالى: « واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه » هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه.

هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 14, 2012 8:14 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 236 ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين )



قوله تعالى: « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء » هذا أيضا من أحكام المطلقات؛ وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض؛ ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن. وقال قوم: « لا جناح عليكم » معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها. وقيل: لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل؛ فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر. وقال قوم: « لا جناح عليكم » معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض، بخلاف المدخول بها إذ غير المدخول بها لا عدة عليها.



المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر، وأن عدتها ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة « الأحزاب » أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها، وسيأتي. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » ، [ البقرة: 237 ] ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله: « فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن » [ النساء:24 ] ؛ فذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض؛ فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد؛ وقابل المسيس بالمهر الواجب.



لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين: مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسم لها دل على أن نكاح التفويض جائز وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وحكى المهدوي عن حماد بن أبي سليمان أنه إذا طلقها ولم يدخل بها ولم يكن فرض لها أجبر على نصف صداق مثلها. وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة: لا يتنصف بالطلاق لأنه لم يجب بالعقد وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » [ البقرة:237 ] وخلاف القياس أيضا؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق؛ أصله الفرض المقترن بالعقد.



إن وقع الموت قبل الفرض فذكر الترمذي عن ابن مسعود ( أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود ) . قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر: ( إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قالوا: لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة ) وهول قول الشافعي. وقال: ولو ثبت حديث بروع بنت واشق لكانت الحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويروى عن الشافعي أنه رجع بمصر بعد عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق.

قلت: اختلف في تثبيت حديث بروع؛ فقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب في شرح رسالة ابن أبي زيد: وأما حديث بروع بنت واشق فقد رده حفاظ الحديث وأئمة أهل العلم. وقال الواقدي: وقع هذا الحديث بالمدينة فلم يقبله أحد من العلماء وصححه الترمذي كما ذكرنا عنه وابن المنذر. قال ابن المنذر: وقد ثبت مثل قول عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه نقول. وذكر أنه قول أبي ثور وأصحاب الرأي. وذكر عن الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي مثل قول علي وزيد وابن عباس وابن عمر. وفي المسألة قول ثالث وهو أنه لا يكون ميراث حتى يكون مهر؛ قاله مسروق.

قلت: ومن الحجة لما ذهب إليه مالك أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق؛ أصله الطلاق لكن إذا صح الحديث فالقياس في مقابلته فاسد. وقد حكى أبو محمد عبدالحميد عن المذهب ما يوافق الحديث والحمد لله. وقال أبو عمر: حديث بروع رواه عبدالرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود الحديث. وفيه: فقام معقل بن سنان. وقال فيه ابن مهدي عن الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله فقال معقل بن يسار، والصواب عندي قول من قال: معقل بن سنان لا معقل بن يسار لأن معقل بن يسار رجل من مزينة، وهذا الحديث إنما جاء في امرأة من أشجع لا من مزينة وكذلك رواه داود عن الشعبي عن علقمة؛ وفيه: فقال ناس من أشجع ومعقل بن سنان قتل يوم الحرة وفي يوم الحرة يقول الشاعر:

ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها وأشجع تبكي معقل بن سنان



قوله تعالى: « ما لم تمسوهن » ( ما ) بمعنى الذي، أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و « تمسوهن » قرئ بفتح التاء من الثلاثي، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ حمزة والكسائي « تماسوهن » من المفاعلة؛ لأن الوطء تم بهما؛ وقد يرد في باب المفاعلة فاعل بمعنى فعل؛ نحو طارقت النعل، وعاقبت اللص. والقراءة الأولى تقتضي معنى المفاعلة في هذا الباب بالمعنى المفهوم من المس؛ ورجحها أبو علي؛ لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن، جاء: نكح وسفد وقرع ودفط وضرب الفحل؛ والقراءتان حسنتان. و « أو » في « أو تفرضوا » قيل هو بمعنى الواو؛ أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن؛ كقوله تعالى: « وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون » [ الأعراف: 4 ] أي وهم قائلون. وقوله: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] أي ويزيدون.، وقوله: « ولا تطع منهم آثما أو كفورا » [ الإنسان:24 ] أي وكفورا. وقوله: « وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط » [ النساء: 43 ] معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون. وقوله: « إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم » [ الأنعام: 146 ] وما كان مثله. ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » [ البقرة: 237 ] . فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره.



قوله تعالى: « ومتعوهن » معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن. وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبى الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب. وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب. تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر. وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: « حقا على المحسنين » و « على المتقين » ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله: « متعوهن » وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: « وللمطلقات متاع » أظهر في الوجوب منه في الندب. وقوله: « على المتقين » تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: « هدى للمتقين » .



واختلفوا في الضمير المتصل بقوله « ومتعوهن » من المراد به من النساء؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها. وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها. وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة. قال الزهري: يقضي لها بها القاضي. وقال جمهور الناس: لا يقضي بها لها.

قلت: هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة. قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد؛ مثل ملك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: « وللمطلقات متاع بالمعروف » فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها. وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة؛ لأن الزوج سبب للفراق.



قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن محيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة؛ وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » . ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا؛ قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: « متاعا بالمعروف » ويلزم منه أن، الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها؛ فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء. وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدرة » وهذا دليل على رفض التحديد؛ والله بحقائق الأمور عليم. وقد ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء » الآية، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( متعها ولو بقلنسوتك ) . وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل علي وتظهرين الشماتة، اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال: فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها. فقالت:

متاع قليل من حبيب مفارق

فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أنى سمعت جدي - أو حدثني أبي أنه سمع جدي - يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها. وفي رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) .



من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز عن ابن القاسم. وقال أصبغ: لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب، والله أعلم.



قوله تعالى: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف » دليل على وجوب المتعة وقرأ الجمهور « الموسع » بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، يقال: فلان ينفق، على قدره، أي على وسعه. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر « قدره » بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى، لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، يقول: خذ قدر كذا وقدر كذا، بمعنى. ويقرأ في كتاب الله: « فسالت أودية بقدرها » [ الرعد: 17 ] وقدرها، وقال تعالى: « وما قدروا الله حق قدره » [ الأنعام: 91 ] ولو حركت الدال لكان جائزا. و « المقتر » المقل القليل المال. و « متاعا » نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا « بالمعروف » أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد.



قوله تعالى: « حقا على المحسنين » أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله: « حقا » تأكيد للوجوب. ومعنى « على المحسنين » و « على المتقين » أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين؛ فيحسنون، بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار؛ فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين. و « حقا » صفة لقوله « متاعا » أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر؛ والله أعلم.



الآية: 237 ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير )



اختلف الناس في هذه الآية؛ فقالت فرقة منها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع؛ إذ يتناولها قوله تعالى: « ومتعوهن » . وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية الآية التي في « الأحزاب » لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.

قلت: قول سعيد وقتادة فيه نظر؛ إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن. وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: « وللمطلقات متاع بالمعروف » [ البقرة:241 ] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة « الأحزاب » فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض.



قوله تعالى: « فنصف ما فرضتم » أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع. والنصف الجزء من اثنين؛ فيقال: نصف الماء القدح أي بلغ نصفه. ونصف الإزار الساق؛ وكل شيء بلغ نصف غيره فقد نصفه. وقرأ الجمهور « فنصف » بالرفع. وقرأت فرقة « فنصف » بنصب الفاء؛ المعنى فادفعوا نصف. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت « فنصف » بضم النون في جميع القرآن وهي لغة. وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال: نصف ونصف ونصيف،، لغات ثلاث في النصف؛ وفي الحديث: ( لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أي نصفه. والنصيف أيضا القناع.



إذا أصدقها ثم طلقها قبل الدخول ونما الصداق في يدها فقال مالك: كل عرض أصدقها أو عبد فنماؤهما لهما جميعا ونقصانه بينهما، وتواه عليهما جميعا ليس على المرأة منه شيء. فإن أصدقها عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عبدا أو دارا أو اشترت به منه أو من غيره طيبا أو شوارا أو غير ذلك مما لها التصرف فيه لجهازها وصلاح شأنها في بقائها معه فذلك كله بمنزلة ما لو أصدقها إياه، ونماؤه ونقصانه بينهما. وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه، وليس عليها أن تغرم له نصف ما قبضته منه، وإن اشترت به أو منه شيئا تختص به فعليها أن تغرم له نصف صداقها الذي قبضت منه، وكذلك لو اشترت من غيره عبدا أو دارا بالألف الذي أصدقها ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألف.



لا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها وقد سمى لها أن لها ذلك المسمى كاملا والميراث، وعليها العدة.

واختلفوا في الرجل يخلو بالمرأة ولم يجامعها حتى فارقها؛ فقال الكوفيون ومالك: عليه جميع المهر، وعليها العدة؛ لخبر ابن مسعود قال: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا أن لها الميراث وعليها العدة؛ وروي مرفوعا خرجه الدارقطني وسيأتي في « النساء » . والشافعي لا يوجب مهرا كاملا، ولا عدة إذا لم يكن دخول؛ لظاهر القرآن. قال شريح: لم أسمع الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق؛ وهو مذهب ابن عباس وسيأتي ما لعلمائنا في هذا في سورة « النساء » إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: « وقد أفضى بعضكم إلى بعض » [ النساء: 21 ] .



قوله تعالى: « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » الآية. « إلا أن يعفون » استثناء منقطع؛ لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن. و « يعفون » معناه يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن. والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي، وجب لهن عند الزوج، ولم تسقط النون مع « أن » ؛ لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم، فهي ضمير وليست بعلامة إعراب فلذلك لم تسقط؛ ولأنه لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر. والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله سبحانه وتعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه؛ إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن، إذا ملكن أمر أنفسهن وكن بالغات عاقلات راشدات. وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها؛ وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز. وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا، ولا خلاف فيه فيما أعلم.



قوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده » معطوف على الأول مبني، وهذا معرب. وقرأ الحسن « أو يعفو » ساكنة الواو، كأنه استثقل الفتحة في الواو. واختلف الناس في المراد بقوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » فروى الدارقطني عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » وأنا أحق بالعفو منها. وتأول قوله تعالى: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » يعني نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، أي عقدة نكاحه؛ فلما أدخل اللام حذف الهاء كقوله: « فإن الجنة هي المأوى » [ النازعات: 41 ] أي مأواه. قال النابغة:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب

أي أحلامهم. وكذلك قوله: « عقدة النكاح » أي عقدة نكاحه. وروى الدارقطني مرفوعا من حديث قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ولي عقدة النكاح الزوج ) . وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح. قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاوس ومجاهد، والشعبي وسعيد بن جبير، زاد غيره ومجاهد والثوري؛ واختاره أبو حنيفة، وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلا للولي على شيء من صداقها؛ للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده. وأجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها. وأجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب، والله أعلم. ومنهم من قال هو الولي أسنده الدارقطني أيضا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، زاد غيره وعكرمة وطاوس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم. فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت، بلغت المحيض أم لم تبلغه. قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه على أبيها، والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال: « إلا أن يعفون » فذكر النسوان، « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » فهو ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الولي فهو المراد. قال معناه مكي وذكره ابن العربي. وأيضا فإن الله تعالى قال: « إلا أن يعفون » ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبين الله القسمين فقال: « إلا أن يعفون » أي إن كن لذلك أهلا، « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » وهو الولي؛ لأن الأمر فيه إليه. وكذلك روى ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته. وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد، ولا يجوز عفوه إذا كان سفيها. فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به؛ لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم. فالجواب - أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل أب البكر يملكه خاصة دون الزوج؛ لأن المعقود عليه هو بضع البكر، ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر؛ وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي، عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أبا أو أخا، وإن كرهت. وقرأ أبو نهيك والشعبي « أو يعفو » بإسكان الواو على التشبيه بالألف؛ ومثله قول الشاعر:

فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب



قوله تعالى: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » ابتداء وخبر، أو الأصل تعفووا أسكنت الواو الأولى لثقل حركتها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وهو خطاب للرجال والنساء في قول ابن عباس فغلب الذكور، واللام بمعنى إلى، أي أقرب إلى التقوى. وقرأ الجمهور « تعفو » بالتاء باثنتين من فوق. وقرأ أبو نهيك والشعبي « وأن يعفوا » بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح.

قلت: ولم يقرأ « وأن تعفون » بالتاء فيكون للنساء. وقرأ الجمهور « ولا تنسوا الفضل » بضم الواو؛ وكسرها يحيى بن يعمر. وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة « ولا تناسوا الفضل » وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. قال مجاهد: الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.



قوله تعالى: « إن الله بما تعملون بصير » خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 14, 2012 8:19 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============



الآية: 238 ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين )



قوله تعالى: « حافظوا » خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه. ، والوسطى تأنيث الأوسط. ووسط الشيء خيره وأعدله؛ ومنه قوله تعالى: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] وقد تقدم. وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا

ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها؛ كقوله تعالى: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] ، وقوله: « فيهما فاكهة ونخل ورمان » [ الرحمن: 68 ] . وقرأ أبو جعفر الواسطي « والصلاة الوسطى » بالنصب على الإغراء، أي وألزموا الصلاة الوسطى: وكذلك قرأ الحلواني. وقرأ قالون عن نافع « الوصطى » بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه.



واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال:

الأول: أنها الظهر؛ لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام. وممن قال أنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم. ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » بالواو. وروي أنها كانت أشق على المسلمين؛ لأنها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم. وروى أبو داود عن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. وروى مالك في موطئه وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر؛ زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير.

الثاني: إنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل. قال النحاس: وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال: وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس.

الثالث: إنها المغرب؛ قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة. والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر. وروي من حديث عائشة رضي الله عتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة - أو قال - أربعين سنة ) .

الرابع: صلاة العشاء الآخرة؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها.

الخامس: إنها الصبح؛ لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما؛ ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، أخرجه، الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبدالله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري. والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح وقد استدل من قال أنها الصبح بقوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح. قال أبو رجاء: صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين. وقال أنس: قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع؛ وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في « آل عمران » عند قوله تعالى: « ليس لك من الأمر شيء » .

السادس: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا ذكره ابن حبيب ومكي وروى مسلم عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ( لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ) .

السابع: إنها الصبح والعصر معا. قاله الشيخ أبو بكر الأبهري؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار... ) الحديث، رواه أبو هريرة. وروى جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ( أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها... ) يعني العصر والفجر: ثم قرأ جرير « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » [ ق: 39 ] . وروى عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) ، يعني الفجر والعصر. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى البردين دخل الجنة ) كله ثابت في صحيح مسلم وغيره. وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد.

الثامن: إنها العتمة والصبح. قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه: ( اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم ) قاله عمر وعثمان. وروى الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا - وقال - إنهما أشد الصلاة على المنافقين ) وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة؛ ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داود والترمذي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة ) وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم.

التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ قاله معاذ بن جبل؛ لأن قوله تعالى: « حافظوا على الصلوات » يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر.

العاشر: إنها غير معينة؛ قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات. ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: « حافظوا على الصلوات وصلاة العصر » فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم. فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم. وهذا اختيار مسلم لأنه أتى به في آخر الباب وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها والله أعلم.


وهذا الاختلاف في الصلاة الوسطى يدل على بطلان من أثبت « وصلاة العصر » المذكور في حديث أبي يونس مولى عائشة حين أمرته أن يكتب لها مصحفا قرآنا. قال علماؤنا: وإنما ذلك كالتفسير من النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك حديث عمرو بن رافع قال: ( أمرتني حفصة أن أكتب لها مصحفا... ) الحديث. وفيه: فأملت علي « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وهي العصر - وقوموا لله قانتين » وقالت: هكذا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فقولها: « وهي العصر » دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الصلاة الوسطى من كلام الله تعالى بقوله هو ( وهي العصر ) . وقد روى نافع عن حفصة « وصلاة العصر » ؛ كما روي عن عائشة وعن حفصة أيضا « صلاة العصر » بغير واو. وقال أبو بكر الأنباري: وهذا الخلاف في هذا اللفظ المزيد يدل على بطلانه وصحة ما في الإمام مصحف جماعة المسلمين. وعليه حجة أخرى وهو أن من قال: والصلاة الوسطى وصلاة العصر جعل الصلاة الوسطى غير العصر؛ وفي هذا دفع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبدالله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا... ) الحديث.


قوله تعالى: « والصلاة الوسطى » دليل على أن الوتر ليس بواجب لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة. وفي حديث الإسراء: ( هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ) .



قوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » معناه في صلاتكم. واختلف الناس في معنى قوله « قانتين » فقال الشعبي: طائعين؛ وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير.، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن فإنما يعني به الطاعة. وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون عاصين، فقيل لهذه الأمة فقوموا لله طائعين. وقال مجاهد: معنى قانتين خاشعين، والقنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح. وقال الربيع: القنوت طول القيام؛ وقاله ابن عمر وقرأ « أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما » [ الزمر: 9 ] . وقال عليه السلام. ( أفضل الصلاة طول القنوت ) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:

قانتا لله يدعو ربه وعلى عمدن من الناس اعتزل

وقد تقدم. وروي عن ابن عباس « قانتين » داعين. وفي الحديث: ( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان ) قال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طول قيامه. وقال السدي: « قانتين » ساكتين؛ دليله أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام؛ وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: ( إن في الصلاة شغلا ) . وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: « وقوموا لله قانتين » فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء. ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت.



قال أبو عمر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك. وهو قول ضعيف في النظر؛ لقول الله عز وجل: « وقوموا لله قانتين » وقال زيد بن أرقم: ( كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: « وقوموا لله قانتين » ... ) الحديث. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة ) . وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستئناف، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو مال أو ما كان بسبيل ذلك استأنف صلاته ولم يبن. هذا هو الصحيح في المسألة إن شاء الله تعالى.



واختلفوا في الكلام ساهيا فيها؛ فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الكلام فيها ساهيا لا يفسدها، غير أن مالكا قال: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها؛ وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك قال: لو أن قوما صلى بهم الإمام ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتم فأتم صلاتك؛ فالتفت إلى القوم فقال: أحق ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، قال: يصلي بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين. هذا قول ابن القاسم في كتابه المدونة وروايته عن مالك، وهو المشهور من مذهب مالك وإياه تقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن. وذكر الحارث بن مسكين قال: أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك، وغيرهم يأبونه ويقولون: إنما كان هذا في صدر الإسلام، فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها؛ وهذا هو قول العراقيين: أبي حنيفة وأصحابه والثوري فإنهم ذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان سهوا أو عمدا لصلاة كان أو لغير ذلك؛ وهو قوله إبراهيم النخعي، وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة. وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبى هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث ( من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له ) قالوا: وكان كثير الإرسال. وذكر علي بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال: سمعت مالكا يقول: يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني. قال: وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم. وقد روى سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع، فقال له رجل إلى جبنه: إنك لم تصل إلا ثلاثا؛ فالتفت إلى آخر فقال: أحق ما يقول هذا؟ قال: نعم، قال: تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا أن يلتفت إليه. قال أبو عمر: فكانوا يفرقون في هذه المسألة بين الإمام مع الجماعة والمنفرد فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة. للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد؛ وكان غير هؤلاء يحملون جواب ابن القاسم في المنفرد في هذه المسألة وفي الإمام ومن معه على اختلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين كما اختلف قول مالك في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه: من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه فإنه يبني. واختلف قول أحمد في هذه المسألة فذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت؛ وهذا هو قول مالك المشهور. وذكر الخرقي عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. واستثنى سحنون من أصحاب مالك أن من سلم من اثنتين في الرباعية فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه مالك في المشهور تمسكا بالحديث وحملا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام، وعموم الشريعة، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية إذ لا دليل عليها. فإن قال قائل: فقد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) فلم لم يسبحوا؟ فيقال: لعل في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولئن كان كما ذكرت فلم يسبحوا؛ لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت؛ وقد جاء ذلك في الحديث قال: وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ فلما يكن بد من الكلام لأجل ذلك. والله أعلم.

وقد قال بعض المخالفين: قول أبي هريرة ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو ليس منهم؛ كما روي عن النزال بن سبرة أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف وأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله ) وإنما عنى به أنه قال لقومه وهذا بعيد؛ فإنه لا يجوز أن يقول صلى بنا وهو إذ ذاك كافر ليس من أهل الصلاة ويكون ذلك كذبا، وحديث النزال هو كان من جملة القوم وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. وأما ما ادعته الحنفية من النسخ والإرسال فقد أجاب عن قولهم علماؤنا وغيرهم وأبطلوه، وخاصة الحافظ أبا عمر بن عبدالبر في كتابه المسمى بـ [ التمهيد ] وذكر أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وقدم المدينة في ذلك العام، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وشهد قصة ذي اليدين وحضرها، وأنها لم تكن قبل بدر كما زعموا، وأن ذا اليدين قتل في بدر. قال: وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكر.



القنوت: القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما ) الحديث،، أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى: « وقوموا لله قانتين » . واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام؛ فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: ( وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ) وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه قائما يصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام؛ ومعلوم أن ذلك كان منه بعد سقوطه عن فرسه؛ فعلم أن الآخر من فعله ناسخ للأول. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة الشافعي وداود بن علي، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. قال: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه ممن يعلم الناس بصلاته، وهذه الرواية غريبة عن مالك. وقال بهذا جماعة من أهل المدينة وغيرهم وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا، فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحد بعدي قاعدا ) . قال: فإن كان الإمام عليلا تمت صلاة الإمام وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة؛ هذه رواية أبي مصعب في مختصره عن مالك، وعليها فيجب على من صلى قاعدا الإعادة في الوقت وبعده. وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة، وقول محمد بن الحسن في هذا مثل قول مالك المشهور. واحتج لقوله ومذهبه بالحديث الذي ذكره أبو مصعب، أخرجه الدارقطني عن جابر عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحد بعدي جالسا ) . قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك الحديث، مرسل لا تقوم به حجة. قال أبو عمر: جابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا؟ قال محمد بن الحسن: إذا صلى الإمام المريض جالسا بقوم أصحاء ومرضى جلوسا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام صحيحة جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن حكمه القيام باطلة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة. وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم وهم يركعون ويسجدون لم تجزهم في قولهم جميعا وأجزأت الإمام صلاته. وكان زفر يقول: تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه، كما قال الشافعي.

قلت: أما ما ذكره أبو عمر وغيره من العلماء قبله وبعده من أنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت لغيرهم خلال ذلك ممن جمع طرق الأحاديث في هذا الباب، وتكلم عليها وذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر ما ذكره ملخصا حتى يتبين لك الصواب إن شاء الله تعالى. وصحة قول من قال أن صلاة المأموم الصحيح قاعدا خلف الإمام المريض جائزة، فذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فقال: ( ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم ) قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله، قال: ( ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتي ) ؟ قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتك. قال: ( فإن من طاعة الله أن تطيعوني ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا ) . في طريقه عقبة بن أبي الصهباء وهو ثقة؛ قاله يحيى بن معين. قال أبو حاتم: في هذا الخبر بيان واضح أن صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا من طاعة الله جل وعلا التي أمر الله بها عباده، وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به: جابر بن عبدالله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد، ولم يرو عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا. وبه قال جابر بن زيد والأوزاعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. وهذه السنة رواها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وعائشة وأبو هريرة وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأبو أمامة الباهلي. وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه. وأعلى شيء احتجوا به فيه شيء رواه جابر الجعفي عن الشعبي قال قال رسول الله: ( لا يؤمن أحد بعدي جالسا ) وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، ثم إن أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وما أتيته بشيء قط من رأي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه. قال أبو حاتم: وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فجاءت الأخبار فيها مجملة ومختصرة، وبعضها مفصلة مبينة؛ ففي بعضها: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر. وفي بعضها: فجلس عن يسار أبي بكر وهذا مفسر. وفيه: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدا وأبو بكر قائما. قال أبو حاتم: وأما إجمال هذا الخبر فإن عائشة حكت هذه الصلاة إلى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقعود أيضا في هذه الصلاة كما أمرهم به عند سقوطه عن فرسه؛ أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال أنبأنا يزيد بن موهب قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: ( كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ) . قال أبو حاتم: ففي هذا الخبر المفسر بيان واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد عن يسار أبي بكر وتحول أبو بكر مأموما يقتدى بصلاته ويكبر يسمع الناس التكبير ليقتدوا بصلاته، أمرهم صلى الله عليه وسلم حينئذ بالقعود حين رآهم قياما؛ ولما فرغ من صلاته أمرهم أيضا بالقعود إذا صلى إمامهم قاعدا.

وقد شهد جابر بن عبدالله صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، وكان سقوطه صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة آخر سنة خمس من الهجرة، وشهد هذه الصلاة في علته صلى الله عليه وسلم في غير هذا التاريخ فأدى كل خبر بلفظه؛ ألا تراه يذكر في هذه الصلاة: رفع أبو بكر صوته بالتكبير ليقتدي به الناس، وتلك الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عند سقوطه عن فرسه، لم يحتج إلى أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس تكبيره على صغر حجرة عائشة، وإنما كان رفعه صوته بالتكبير في المسجد الأعظم الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في علته؛ فلما صح ما وصفنا لم يجز أن نجعل بعض هذه الأخبار ناسخا لبعض؛ وهذه الصلاة كان خروجه إليها صلى الله عليه وسلم بين رجلين، وكان فيها إماما وصلى بهم قاعدا وأمرهم بالقعود. وأما الصلاة التي صلاها آخر عمره فكان خروجه إليها بين بريرة وثوبة، وكان فيها مأموما، وصلى قاعدا خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحا به. رواه أنس بن مالك قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا خلف أبي بكر فصلى عليه السلام صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة. وإن في خبر عبيدالله بن عبدالله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين. يريد أحدهما العباس والآخر عليا. وفي خبر مسروق عن عائشة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة وثوبة، إني لأنظر إلى نعليه تخطان في الحصى وأنظر إلى بطون قدميه؛ الحديث. فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة. قال أبو حاتم: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة: أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. قال أبو حاتم: خالف شعبة بن الحجاج زائدة بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى بن أبي عائشة فجعل شعبة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وجعل زائدة النبي صلى الله عليه وسلم إماما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وهما متقنان حافظان. فكيف يجوز أن يجعل إحدى الروايتين اللتين تضادتا في الظاهر في فعل واحد ناسخا لأمر مطلق متقدم، فمن جعل أحد الخبرين ناسخا لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك الآخر من غير دليل ثبت له على صحته سوغ لخصمه أخذ ما ترك من الخبرين وترك ما أخذ منهما. ونظير هذا النوع من السنن خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وخبر أبي رافع صلى نكحها وهما حلالان فتضاد الخبران في فعل واحد في الظاهر من غير أن يكون بينهما تضاد عندنا؛ فجعل جماعة من أصحاب الحديث الخبرين اللذين رويا في نكاح ميمونة متعارضين، وذهبوا إلى خبر عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) فأخذوا به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في نكاح ميمونة، وتركوا خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم؛ فمن فعل هذا لزمه أن يقول: تضاد الخبران في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته على حسب ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجيء إلى الخبر الذي فيه الأمر بصلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا فيأخذ به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته ويترك الخبر المنفرد عنهما كما فعل ذلك في نكاح ميمونة. قال أبو حاتم: زعم بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين أن قوله: ( وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ) أراد به وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعون فحرف الخبر عن عموم ما ورد الخبر فيه بغير دليل ثبت له على تأويله.



الآية: 239 ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون )



قوله تعالى: « فإن خفتم » من الخوف الذي هو الفزع. « فرجالا » أي فصلوا رجالا. « أو ركبانا » معطوف عليه. والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - ( بضم الجيم ) وهي لغة أهل الحجاز؛ يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا؛ - حكاه الطبري وغيره - ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلي ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجله ( بفتح الجيم ) وأرجلة وأراجل وأراجيل. والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال.



لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.

هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السُّموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.


واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا؛ فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل: يعيدون؛ وهو قول أبي حنيفة. قال أبو عمر: فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه. وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة « النساء » إن شاء الله تعالى. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء.


قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة؛ وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، وسيأتي هذا في « النساء » إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها، والله أعلم.


لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء؛ روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن عبدالبر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم: يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق بن راهويه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر.

وقوله تعالى: « فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم » أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد: « أمنتم » خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة؛ ورد الطبري على هذا القول. وقالت فرقة: « أمنتم » زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.


واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن؛ فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى؛ وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.

قوله تعالى: « فاذكروا الله » قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله « كما » بمعنى الشكر؛ تقول: افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. « وما » في قوله « ما لم » مفعولة بـ « علمكم » .


قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر « آل عمران » إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في « براءة » إن شاء الله تعالى.


الآية: 240 ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم )


قوله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة « النساء » قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في « البقرة » : « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - غير إخراج » قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: « غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم » . قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره: معنى قوله « وصية » أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.

قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - من معروف » قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: « غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم » إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام: ( إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول ) الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا - مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد - إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه؛ قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهن متاعا إلى الحول غير إخراج » منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق.


قوله تعالى: « وصية » قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر « وصية » بالرفع على الابتداء، وخبره « لأزواجهم » . ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله « لأزواجهم » صفة؛ قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله « لأزواجهم » صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله بن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر « وصية » بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصي، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و « لأزواجهم » على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل: المعنى أوصى الله وصية. « متاعا » أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية؛ كقوله: « أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما » [ البلد: 14 - 15 ] والمتاع ههنا نفقة سنتها.


قوله تعالى: « غير إخراج » معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و « غير » نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا. وقيل: نصب لأنه صفة المتاع وقيل: نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات. وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج.



قوله تعالى: « فإن خرجن » الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. « فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن » أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال « من معروف » وهو ما يوافق الشرع. « والله عزيز » صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. « حكيم » أي محكم لما يريد من أمور عباده.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 14, 2012 8:24 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآيتان: 241 - 242 ( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون )



اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري. قال الزهري: حتى للأمة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك: لكل مطلقه - اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله: « وللمطلقات » يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن » [ البقرة: 237 ] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: « فتعالين أمتعكن » [ الأحزاب: 28 ] محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له. وقوله: « فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن » [ الأحزاب: 49 ] محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا.



الآية: 243 ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )



قوله تعالى: « ألم تر » هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « ألم تر » بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها ( داوردان ) فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل: سبعة، والله أعلم. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: « وقاتلوا في سبيل الله » [ البقرة: 190 ] ؛ قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية.

قوله تعالى: « وهم ألوف » قال الجمهور: هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس: أربعين ألفا. أبو مالك: ثلاثين ألفا. السدي: سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: « وهم ألوف » وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد: إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس: وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم. وروي أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال: إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم.



قوله تعالى: « حذر الموت » أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له. و « موتوا » أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين « موتوا » ، والله أعلم.



أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا.

قلت: وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال ( رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه ) وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: ( بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها ) قال: حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع. وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها؛ وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ) .

قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا » ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه. فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) . وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام.

في قوله عليه السلام: ( إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) . دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم.



في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فناء أمتي بالطعن والطاعون ) قالت: الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال: ( غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط ) . قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف ) . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ) . وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( الطاعون شهادة والمطعون شهيد ) . أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم.



قال أبو عمر: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع؛ فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك:

ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان؛ فسمع حاديا يحدو خلفه:

لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار

أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري

وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها [ سكر ] . فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان. فقال له عبدالعزيز: ما اسمك ؟ فقال له: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية.



الآية: 244 ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم )



هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى: « قل هذه سبيلي » [ يوسف: 108 ] . قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا. وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله « وقاتلوا » عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس: « وقاتلوا » أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. « واعلموا أن الله سميع عليم » أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم.



الآية: 245 ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون )



قوله تعالى: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة. و « من » رفع بالابتداء، و « ذا » خبره، و « الذي » نعت لذا، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال: أخبرنا أبي إجازة قال: قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال: لما نزلت: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال: ( نعم يا أبا الدحداح ) قال: أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم: لما نزل: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال: ( نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ) . قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال: ( نعم ) قال: فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده: فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك ) قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: ( إذا يجزيك الله به الجنة ) . فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:

هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد

بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد

إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد

قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:

بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح

قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح ) .



قال ابن العربي: « انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: » لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء « [ آل عمران: 181 ] . الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره. والله أعلم. »



قوله تعالى: « قرضا حسنا » القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد:

وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل

والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية:

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ومدينا مثل ما دانا

وقال آخر:

تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيرا وبالشر شرا

وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. وأصل الكلمة القطع؛ ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها. وانقرض القوم: انقطع أثرهم وهلكوا. والقرض ههنا: اسم، ولولاه لقال ههنا إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. حسب ما يأتي بيانه في « براءة » إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: ( استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ) وكذا فيما قبل؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.



يجب على المستقرض رد القرض؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفي الخبر: ( النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر ) على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل » [ البقرة: 261 ] الآية. وقال ههنا: « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » وهذا لا نهاية له ولا حد.



ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ) . قال: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير عن قيس بن رومي قال: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال: فجاءت بها؛ فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا؛ قال: فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال: ما سمعت منك؛ قال: ما سمعت مني ؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة ) قال: كذلك أنبأني ابن مسعود.



قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثل ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه؛ لأن ذلك من باب المعروف؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر: ( إن خياركم أحسنكم قضاء ) رواه الأئمة: البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار: المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم.



ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك؛ بهذا جاءت السنة: خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال:، سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك ) .



القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك ) . وروي عن ابن عمر: أقرض من عرضك ليوم فقرك؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى، وروي عن مالك. ابن العربي: وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام... ) الحديث. وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي.



قوله تعالى: « حسنا » قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذي. وقال سهل بن عبدالله: لا يعتقد في قرضه عوضا.



قوله تعالى: « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » قرأ عاصم وغيره « فيضاعفه » بالألف ونصب الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله: « يقرض » وقيل: على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل: بإضمار « أن » والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد « أضعافا كثيرة » لأن التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي: لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى: « ويؤت من لدنه أجرا عظيما » [ النساء:40 ] . قاله أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف.



قوله تعالى: « والله يقبض ويبسط » هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في ( شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى ) . « وإليه ترجعون » وعيد فيجازي كلا بعمله.



الآية: 246 ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين )



ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل. والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج: سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط. والملأ أيضا: حسن الخلق، ومنه الحديث ( أحسنوا الملأ فكلكم سيروى ) خرجه مسلم.



قوله تعالى: « من بعد موسى » أي من بعد وفاته. « إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » قيل: هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز. ويقال فيه: شمعون، قاله السدي: وإنما قيل: ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها. ويقال له: سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته « سمعون » ، تقول: سمع الله دعائي، والسين تصير شينا بلغة العبرانية، وهو من ولد يعقوب. وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السلام. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى. وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل، والله أعلم. وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كعَّ أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله. وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا، والله أعلم.

قوله تعالى: « نقاتل » بالنون والجزم وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل، فهو في موضع الصفة للملك.



قوله تعالى: « قال هل عسيتم » و « عسيتم » بالفتح والكسر لغتان، وبالثانية قرأ نافع، والباقون بالأولى وهي الأشهر. قال أبو حاتم: وليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة. قال مكي في اسم الفاعل: عس، فهذا يدل على كسر السين في الماضي. والفتح في السين هي اللغة الفاشية. قال أبو علي: ووجه الكسر قول العرب: هو عسٍ بذلك، مثل حرٍ وشجٍ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم، وكذلك عَسَيت وعَسِيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عَسِيَ زيد، مثل رضي زيد، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى. ومعنى هذه المقالة: هل أنتم قريب من التولي والفرار؟. « إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا » قال الزجاج: « ألا تقاتلوا » في موضع نصب، أي هل عسيتم مقاتلة. « قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » قال الأخفش: « أن » زائدة. وقال الفراء: هو محمول على المعنى، أي وما منعنا، كما تقول: ما لك ألا تصلي ؟ أي ما منعك. وقيل: المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله قال النحاس: وهذا أجودها. « وأن » في موضع نصب. « وقد أخرجنا من ديارنا » تعليل، وكذلك « وأبنائنا » أي بسبب ذرارينا.



قوله تعالى: « فلما كتب عليهم القتال » أي فرض عليهم. « القتال تولوا » أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم، ربما قد تذهب « تولوا » أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها. وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فأثبتوا ) رواه الأئمة. ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة سبتمبر 14, 2012 8:28 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============




الآية: 247 ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم )



قوله تعالى: « وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » أي أجابكم إلى ما سألتم، وكان طالوت سقاء. وقيل: دباغا. وقيل: مكاريا، وكان عالما فلذلك رفعه الله على ما يأتي: وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوى، والملك في سبط يهوذا فلذلك أنكروا. قال وهب بن منبه: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بال ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث إليهم ملكا ويدله عليه؛ فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم. قال: وكان طالوت دباغا فخرج في ابتغاء دابة أضلها، فقصد شمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن على ما زعموا، قال: فقام إليه شمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت، وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى بتقديمه، ثم قال لبني إسرائيل: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . وطالوت وجالوت اسمان أعجميان معربان؛ ولذلك، لم ينصرفا، وكذلك داود، والجمع طواليت وجواليت ودوايد، ولو سميت رجلا بطاوس وراقود لصرفت وإن كان أعجميين. والفرق بين هذا والأول أنك تقول: الطاوس، فتدخل الألف واللام فيمكن في العربية ولا يمكن هذا في ذاك.



قوله تعالى: « أنى يكون له الملك علينا » أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه. جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: « أنى » أي من أي جهة، فـ « أنى » في موضع نصب على الظرف، ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قدر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: « إن الله اصطفاه » أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو مِلاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء؛ فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وإنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه؛ لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسبا. وقد مضى في أول السورة من ذكر الإمامة وشروطها ما يكفي ويغني. وهذه الآية أصل فيها. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه؛ وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل: سمى طالوت لطوله. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم؛ ألم تر إلى قول الشاعر:

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه فخلف ظنك الرجل الطرير

وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير

قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: ( أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا ) فكن يتطاولن؛ فكانت زينب أولهن موتا؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق؛ خرجه مسلم. وقال بعض المتأولين: المراد بالعلم علم الحرب، وهذا تخصيص العموم من غير دليل. وقد قيل: زيادة العلم بأن أوحى الله إليه، وعلى هذا كان طالوت نبيا، وسيأتي.



قوله تعالى: « والله يؤتي ملكه من يشاء » ذهب بعض المتأولين إلى أن هذا من قول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من قول شمويل وهو الأظهر. قال لهم ذلك لما علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد إن يتمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه فقال الله تعالى: « والله يؤتي ملكه من يشاء » . وإضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى إضافة مملوك إلى ملك. ثم قال لهم على جهة التغبيط والتنبيه من غير سؤال منهم: « إن آية ملكه » . ويحتمل أن يكونوا سألوه الدلالة على صدقه في قوله: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . قال ابن عطية: والأول أظهر بمساق الآية، والثاني أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، وإليه ذهب الطبري.



الآية: 248 ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين )



قوله تعالى: « وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت » أي إتيان التابوت، والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام، فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام، فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه في قول السدي، وسلبوا التابوت منهم.

قلت: وهذا أدل دليله على أن العصيان سبب الخذلان، وهذا بين. قال النحاس: والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين، فإذا سمعوا ذلك ساروا لحربهم،، وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. وقيل: كانوا يضعونه في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى عصوا فغلبوا وأخذ منهم التابوت وذل أمرهم؛ فلما رأوا آية الاصطلام وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى اجتمع ملؤهم أن قالوا لنبي الوقت: أبعث لنا ملكا؛ فلما قال لهم: ملككم طالوت راجعوه فيه كما أخبر الله عنهم؛ فلما قطعهم بالحجة سألوه البينة على ذلك، في قول الطبري. فلما سألوا نبيهم البينة على ما قال، دعا ربه فنزل بالقوم الذين أخذوا التابوت داء بسببه، على خلاف في ذلك. قيل: وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكوسة. وقيل: وضعوه في بيت أصنامهم تحت الصنم الكبير فأصبحوا وهو فوق الصنم، فأخذوه وشدوه إلى رجليه فأصبحوا وقد قطعت يدا الصنم ورجلاه وألقيت تحت التابوت؛ فأخذوه وجملوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم. وقيل: جعلوه في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الباسور؛ فلما عظم بلاؤهم كيفما كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بني إسرائيل فوضعوه على عجلة بين ثورين وأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، وبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت فأيقنوا بالنصر؛ وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وروي أن الملائكة جاءت به تحمله وكان يوشع بن نون قد جعله في البرية، فروي أنهم رأوا التابوت في الهواء حتى نزل بينهم؛ قال الربيع بن خيثم. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. الكلبي: وكان من عود شمسار الذي يتخذ منه الأمشاط. وقرأ زيد بن ثابت « التابوه » وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء وقد تقدم. وروي عنه « التيبوت » ذكره النحاس. وقرأ حميد بن قيس « يحمله » بالياء.



قوله تعالى: « فيه سكينة من ربكم وبقية » اختلف الناس في السكينة والبقية؛ فالسكينة فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة. فقوله « فيه سكينة » أي هو سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت؛ ونظيره « فأنزل الله سكينته عليه » [ التوبة: 40 ] أي أنزل عليه ما سكن به قلبه. وقيل: أراد أن التابوت كان سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه ولم يفروا من التابوت إذا كان معهم في الحرب. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله تتكلم، فكانوا إذا اختلفوا في أمر نطقت ببيان ما يريدون، وإذا صاحت في الحرب كان الظفر لهم. وقال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج لها رأسان. وقال مجاهد: حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع، فإذا نظر إلى الجيش انهزم. وقال ابن عباس: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء؛ وقال السدي. وقال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى.

قلت: وفي صحيح مسلم عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة « الكهف » وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ( تلك السكينة تنزلت للقرآن ) . وفي حديث أبي سعيد الخدري: أن أسيد بن الحضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث وفيه: فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: ( تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم ) خرجه البخاري ومسلم. فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة؛ فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة، وأنها تنزل أبدا مع الملائكة. وفي هذا حجة لمن قال إن السكينة روح أو شيء له روح لأنه لا يصح استماع القرآن إلا لمن يعقل، والله أعلم.



قوله تعالى: « وبقية » اختلف في البقية على أقوال، فقيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح؛ لأنها انكسرت حين ألقاها موسى، قال ابن عباس. زاد عكرمة:، التوراة. وقال أبو صالح: البقية: عصا موسى وثيابه وثياب هارون ولوحان من التوراة. وقال عطية بن سعد: وهي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح. وقاله الثوري: من الناس من يقول البقية قفيزا من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. ومعنى هذا ما روي من أن موسى لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل، ألقى الألواح غضبا فتكسرت، فنزع منها ما كان صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعله في التابوت. وقال الضحاك: البقية: الجهاد وقتال الأعداء. قال ابن عطية: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى آل موسى وآل هارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم وكلهم آل موسى وآل هارون. وآل الرجل قرابته. وقد تقدم.



الآية: 249 ( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )



قوله تعالى: « فلما فصل طالوت بالجنود » « فصل » معناه خرج بهم. فصلت الشيء فانفصل، أي قطعته فانقطع. قال وهب بن منبه: فلما فصل طالوت قالوا له أن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر. وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا. وقال وهب: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض. والابتلاء الاختبار. والنهَر والنهْر لغتان. واشتقاقه من السعة، ومنه النهار وقد تقدم. قال قتادة: النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقرأ الجمهور « بنهر » بفتح الهاء. وقرأ مجاهد وحميد الأعرج « بنهر » بإسكان الهاء. ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية، كما قال عروة:

وأحسوا قراح الماء والماء بارد

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: ( حسب المرء لقيمات يقمن صلبه ) . وقال بعض من يتعاطى غوامض المعاني: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.

قلت: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا.



استدل من قال أن طالوت كان نبيا بقوله: « إن الله مبتليكم » وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه، وجعله الإلهام ابتلاء من الله لهم. ومن قال لم يكن نبيا قال: أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب. وقد ذهب قوم إلى أن عبدالله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله علي وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم، وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « فمن شرب منه فليس مني » شرب قيل معناه كرع. ومعنى « فليس مني » أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان. قال السدي: كانوا ثمانين ألفا، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وفي الحديث ( من غشنا فليس منا ) أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا. قال:

إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني

هذا مهيع في كلام العرب؛ يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه: لست مني.



قوله تعالى: « ومن لم يطعمه فإنه مني » يقال: طعمت الشيء أي ذقته. وأطعمته الماء أي أذقته، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء.



استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم؛ ولهذه المبالغة لم يأت الكلام « ومن لم يشرب منه » .



لما قال تعالى: « ومن لم يطعمه » دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا، قال ابن العربي: وهو الصحيح من المذهب. قال أبو عمر قال مالك: لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا القول لا يجوز عنده التفاضل، وذلك عنده فيه ربا؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا.



قال ابن العربي قال أبو حنيفة: من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد. قال: وهذا فاسد؛ لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث، فاعلمه.

قلت: قول أبي حنيفة أصح، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة. قال الجوهري وغيره: وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وفيه لغة أخرى [ كرع ] بكسر الراء يكرع كرعا. والكَرَع: ماء السماء يكرع فيه. وأما السنة فذكر ابن ماجة في سننه: حدثنا واصل بن عبدالأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد ) وهذا نص. وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف.



قوله تعالى: « إلا من اغترف غرفة بيده » الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المغرفة، والغَرف مثل الاغتراف. وقرئ « غرفة » بفتح الغين وهي مصدر، ولم يقل اغترافة لأن معنى الغرف والاغتراف واحد. والغرفة المرة الواحدة. وقرئ « غرفة » بضم الغين وهي الشيء المغترف. وقال بعض المفسرين: الغَرفة بالكف الواحد والغُرفة بالكفين. وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد. وقال علي رضي الله عنه: الأكف أنظف الآنية، ومنه قول الحسن:

لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافا من الغدران بالراح

الدليف: المشي الرويد.

قلت: ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام إذا طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا ) . خرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: ( لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء... ) الحديث كما تقدم، وفي إسناده بقية بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة.



قوله تعالى: « فشربوا منه إلا قليلا منهم » قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.



قوله تعالى: « فلما جاوزه هو » الهاء تعود على النهر، و « هو » توكيد. « والذين » في موضع رفع عطفا على المضمر في « جاوزه » يقال: جاوزت المكان مجاوزة وجوازا. والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه. قال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون؛ فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » . وأكثر المفسرين: على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم فقال أولو العزم منهم: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » . قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا - وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا - وما جاز معه إلا مؤمن.



قوله تعالى: « قال الذين يظنون » والظن هنا بمعنى اليقين، ويجوز أن يكون شكا لا علما، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء، فوقع الشك في القتل.



قوله تعالى: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة » الفئة: الجماعة من الناس والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته. وفي قولهم رضي الله عنهم: « كم من فئة قليلة » الآية تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه.

قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ) . فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة. قال الله تعالى: « اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله » [ آل عمران: 200 ] وقال: « وعلى الله فتوكلوا » [ المائدة: 23 ] وقال: « إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » [ النحل: 128 ] وقال: « ولينصرن الله من ينصره » [ الحج: 40 ] وقال: « إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون » [ الأنفال: 45 ] . فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.



الآية: 250 ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين )



قوله: « برزوا » صاروا في البَراز وهو الأفيح من الأرض المتسع. وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم ظله ميل. ويقال: إن البر من من نسله، وكان فيما روي في ثلاثمائة ألف فارس. وقال عكرمة: في تسعين ألفا، ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم؛ وهذا كقوله: « وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير » [ آل عمران: 146 ] إلى قوله « وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا » [ آل عمران: 147 ] الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال: ( اللهم بك أصول وأجول ) وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقي العدو: ( اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ) ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده على ما يأتي بيانه في « آل عمران » إن شاء الله تعالى.



الآية: 251 ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )



قوله تعالى: « فهزموهم بإذن الله » أي فأنزل الله عليهم النصر « فهزموهم » : فكسروهم. والهزم: الكسر ومنه سقاء متهزم، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم: إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء. والهزم: ما تكسر من يابس الحطب.



قوله تعالى: « وقتل داود جالوت » وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده. وهو داود، بن إيشى - بكسر الهمزة، ويقال: داود بن زكريا بن رشوى، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت؛ فلما حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه: يا داود خذني فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت: من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي؛ فجاء داود عليه السلام فقال: أنا أبرز إليه وأقتله، فازدراه طالوت حين رآه لصغير سنه وقصره فرده، وكان داود أزرق قصيرا؛ ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود، فقال طالوت له: هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم؛ قال بماذا ؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده. قال طالوت: الذئب ضعيف، هل جربت نفسك في غيره ؟ قال: نعم، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما؛ أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال لا؛ وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت؛ فقال طالوت: فأركب فرسي وخذ سلاحي ففعل؛ فلما مشى قليلا رجع فقال الناس: جبن الفتى فقال داود: إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي. قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فيما ذكر الماوردي وغيره؛ فقال له جالوت: أنت يا فتى تخرج إلي قال نعم؛ قال: هكذا كما تخرج إلى الكلب قال نعم، وأنت أهون. قال: لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع؛ ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به، فأدخل داود يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله، وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه وجعله في مخلاته، وأختلط الناس وحمله أصحاب طالوت فكانت الهزيمة. وقد قيل: إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه، وقيل: عينه وخرج من قفاه، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم. وقيل: إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه؛ وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين، والله أعلم. وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود.

قلت: وفي قول طالوت: ( من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي ) معناه ثابت في شرعنا، وهو أن يقول الإمام: من جاء برأس فله كذا، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في « الأنفال » إن شاء الله تعالى. وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام؛ كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال: لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه. وحكي عنه أنه قال: لا بأس به، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه. وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه؛ هذا قول مالك. سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز ؟ فقال: ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك فيما مضى. وقال الشافعي: لا بأس بالمبارزة. قال ابن المنذر: المبارزة بإذن الإمام حسن، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه.



قوله تعالى: « وآتاه الله الملك والحكمة » قال السدي: أتاه الله ملك، طالوت ونبوة شمعون. والذي علمه هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود؛ فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ؛ وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت.



قوله تعالى: « مما يشاء » أي مما شاء، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي، وقد تقدم.



قوله تعالى: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض » كذا قراءة الجماعة، إلا نافعا فإنه قرأ « دفاع » ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال: حسبت الشيء حسابا، وآب إيابا، ولقيته لقاء؛ ومثله كتبه كتابا؛ ومنه « كتاب الله عليكم » [ النساء: 24 ] النحاس: وهذا حسن؛ فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه. وقال أبو حاتم: دافع ودفع بمعنى واحد؛ مثل طرقت النعل وطارقت؛ أي خصفت إحداهما فوق الأخرى، والخصف: الخرز. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور « ولولا دفع الله » . وأنكر أن يقرأ « دفاع » وقال: لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد. قال مكي: هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به، واسم « الله » في موضع رفع بالفعل، أي لولا أن يدفع الله. و « دفاع » مرفوع بالابتداء عند سيبويه. « الناس » مفعول، « بعضهم » بدل من الناس، « ببعض » في موضع المفعول الثاني عند سيبويه، وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فزيد في موضع مفعول فاعلمه.

واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل: هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم؛ اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق. وروي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدله الله مكانه رجلا يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء ) ذكره الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » . وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال؛ لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب، وتواضع في غير مذلة، فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس، وبهم يمطرون ومن يرزقون، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد. وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق. وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم؛ وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا. قال الثعلبي وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ) خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض. حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا ) . أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:

لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الأوجع

وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهله دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ) . وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن. وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم:، ( إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء ) . ثم قرأ ابن عمر « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » . وقيل: هذا الدفع بما شرع على السنة الرسل من الشرائع، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله. « ولكن الله ذو فضل على العالمين » . بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.



الآية: 252 ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين )



تلك: ابتداء « آيات الله » خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر « نتلوها عليك بالحق » . « وإنك لمن المرسلين » ، خبر إن أي وإنك لمرسل. نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 15, 2012 1:11 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 253 ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد )



قوله تعالى: « تلك الرسل » قال: « تلك » ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء. و « الرسل » نعته، وخبر الابتداء الجملة. وقيل: الرسل عطف بيان، و « فضلنا » الخبر. وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تخيروا بين الأنبياء ) و ( لا تفضلوا بين أنبياء الله ) رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان، وفضل، ( مشددا ) إذا قال ذلك. وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى؛ فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل. وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: « لا تخيروني على موسى » على طريق التواضع؛ كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك معنى قوله: ( لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى ) على معنى التواضع. وفي قوله تعالى: « ولا تكن كصاحب الحوت » [ القلم: 48 ] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله؛ فدل على أن قوله: ( لا تفضلوني عليه ) من طريق التواضع. ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني. وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة. قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي لما يتوهم من النقص في المفضول؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى؛ فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم.

قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: « ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا » [ الإسراء: 55 ] وقال: « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض » [ البقرة: 253 ] .

قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال: إن الله تعالى قال: « ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين » [ الأنبياء: 29 ] . وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: « إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 1 - 2 ] . قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟. قال: قال الله تعالى: « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » [ إبراهيم: 4 ] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: « وما أرسلناك إلا كافة للناس » [ سبأ: 28 ] فأرسله إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده. وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبدالحق قال: إن القرآن يقتضي التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا أكرم ولد آدم على ربي ) وقال: ( أنا سيد ولد آدم ) ولم يعين، وقال عليه السلام: ( لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ) وقال: ( لا تفضلوني على موسى ) . وقال ابن عطية: وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة. فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.

قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال: « منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات » [ البقرة: 253 ] وقال « وآتينا داود زبورا » [ الإسراء: 55 ] وقال تعالى: « وآتيناه الإنجيل » [ المائدة: 46 ] ، « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين » [ الأنبياء: 48 ] وقال تعالى: « ولقد آتينا داود وسليمان علما » [ النمل: 15 ] وقال: « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح » [ الأحزاب: 7 ] فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر.

قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق: « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار » [ الفتح: 29 ] إلى آخر السورة. وقال: « وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها » [ الفتح: 26 ] ثم قال: « لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل » [ الحديد: 10 ] وقال: « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة » [ الفتح: 18 ] فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين.



قوله تعالى: « منهم من كلم الله » المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال: ( نعم نبي مكلم ) . قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى. وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.



قوله تعالى: « ورفع بعضهم درجات » قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ( بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت، الشفاعة ) . ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي.



قوله تعالى: « وآتينا عيسى ابن مريم البينات » وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. « وأيدناه » قويناه. « بروح القدس » جبريل عليه السلام، وقد تقدم.



قوله تعالى: « ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم » أي من بعد الرسل. وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من « ولكن اختلفوا » لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:

فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

« فمنهم من آمن ومنهم من كفر » « من » في موضع رفع بالابتداء والصفة



الآية: 254 ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون )



قال الحسن: هي الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله: « والكافرون هم الظالمون » أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.

قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم وحذرهم من الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: « فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق » [ المنافقين: 10 ] . والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة بالفتح: الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة ( بالكسر ) : واحدة خلل السيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهي أيضا سيور تلبس ظهر سِيَتي القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في « النساء » اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « لا بيع فيه ولا خلة، ولا شفاعة » بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة « إبراهيم » « لا بيع فيه ولا خلال » [ إبراهيم: 31 ] وفي « الطور ] » لا لغو فيها ولا تأثيم « [ الطور: 23 ] وأنشد حسان بن ثابت: »

ألا طعان ولا فرسان عادية إلا تجشوكم عند التنانير

وألف الاستفهام غير مغيرة عمل « لا » كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:

وما صرمتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل

ويروى « وما هجرتك » فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع ؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. و « لا » مع الاسم المنفى بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر « فيه » . وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله « لا » بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع ؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس و « فيه » الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع؛ لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج:

هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

ويجوز أن تبني الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

ف « لا » زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ ووجه خامس أن ترفع الأول وتبني الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية:

فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبدا مقيم

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله. « والكافرون » ابتداء. « هم » ابتداء ثان، « الظالمون » خبر الثاني، وإن شئت كانت « هم » زائدة للفصل و « الظالمون » خبر « الكافرون » . قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: « والكافرون هم الظالمون » ولم يقل والظالمون هم الكافرون.



الآية: 255 ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم )



قوله تعالى: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها. روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت. وروى الأئمة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ) ؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ( يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ) ؟ قال قلت: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » فضرب في صدري وقال: ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) . زاد الترمذي الحكيم أبو عبدالله: ( فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) . قال أبو عبدالله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة ولية الله. يريد يدعي قارئها في ملكوت السماوات والأرض عزيزا، قال: فكان عبدالرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته. وروي عن عمر أنه صارع جنيا فصرعه عمر رضي الله عنه؛ فقال له الجني: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي.

قلت: هذا صحيح، وفي الخبر: من قرأ الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد. وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد المنبر: ( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله ) . وفي البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة وفيها: فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخيلت سبيله، قال: ( ما هي ) ؟ قلت قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » . وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ) ؟ قال: لا؛ قال: ( ذاك شيطان ) . وفي مسند الدارمي أبي محمد قال الشعبي قال عبدالله بن مسعود: لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلا شخيتا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك ؟ قال: لا والله إني منهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، قال نعم، فصرعه، قال:، تقرأ آية الكرسي: « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ؟ قال: نعم؛ قال: فإنك لا تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. أخرجه أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي. وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبدالله قال: فقيل لعبدالله: أهو عمر ؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر. قال أبو محمد الدارمي: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح. وقال أبو عبيدة: الخبج: الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حم - المؤمن - إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ) قال: حديث غريب. وقال أبو عبدالله الترمذي الحكيم: وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة. عن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطي الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت ) قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: ( إني لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي ) . وعن أبي بن كعب قال: قال الله تعالى: ( يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء ) قال أبو عبدالله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء. وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهي خمسون كلمة، وفي كل كلمة خمسون بركة، وهي تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية. و « الله » مبتدأ، و « لا إله » مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و « إلا هو » بدل من موضع لا إله. وقيل: « الله لا إله إلا هو » ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ؟ فقال: ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة.



قوله: « الحي القيوم » نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من « هو » ، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و « الحي » اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء: يا حي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم. ويقال: إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه. وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها. وقال قتادة: الحي الذي لا يموت. وقال السدي: المراد بالحي الباقي. قال لبيد:

فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر

وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. « القيوم » من قام؛ أي القائم بتدبير ما خلق؛ عن قتادة. وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها. وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول؛ قال أمية بن أبي الصلت:

لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم

قدره مهيمن قيوم والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

قال البيهقي: ورأيت في « عيون التفسير » لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام؛ وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي: « لا تأخذه سنة ولا نوم » . وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له؛ ذكره أبو بكر الأنباري. وأصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء؛ ولا يكون قيوم فعولا؛ لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي « الحي القيام » بالألف، وروي ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ؛ قال الشاعر:

إن ذا العرش للذي يرزق النا س وحي عليهم قيوم

ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما؛ قال عدي بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر:

وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم

وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب. وقال السدي: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان.

قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سِنَة وسْنَة حذفت الواو كما حذفت من يسن. والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف و « لا » توكيد.

قلت: والناس يذكرون في هذا الباب عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: ( وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كله يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي أحديهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان - قال - ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض ) ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي



قوله تعالى: « له ما في السماوات وما في الأرض » أي بالملك فهو مالك الجميع وربه وجاءت العبارة بـ « ما » وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى.



قوله تعالى: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » « من » رفع بالابتداء و « ذا » خبره؛ و « الذي » نعت لـ « ذا » ، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون « ذا » زائدة كما زيدت مع « ما » لأن « ما » مبهمة فزيدت « ذا » معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى؛ كما قال: « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » [ الأنبياء: 28 ] قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعماله صالحة. وفي البخاري في « باب بقية من أبواب الرؤية » : إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا. وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة. وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا والذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء. وأما شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في تعجيل الحساب فخاصة له.

قلت: قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب؛ فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها؛ أجارنا الله منها. فذكر من حديث أبي سعيد الخدري: ( ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم - قيل: يا رسول الله وما الجسر ؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا - وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم « إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما » [ النساء: 40 ] ( فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما ) وذكر الحديث. وذكر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك - أو قال ليس ذلك إليك - وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ) . وذكر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ( حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ) الحديث بطوله.

قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخل النار وحصل فيها، أجارنا الله منها وقول ابن عطية: « ممن لم يصل أو وصل » يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يصف الناس يوم القيامة صفوفا - وقال ابن نمير أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا ؟ فيشفع له - قال ابن نمير - ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك ؟ فيشفع له ) .

وأما شفاعات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها؛ فقيل ثلاث، وقيل اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في « سبحان » إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » والحمد لله.



قوله تعالى: « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: « له ما في السماوات وما في الأرض » . وقال مجاهد: « ما بين أيديهم » الدنيا « وما خلفهم » الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده؛ وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره.



قوله تعالى: « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته؛ وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقص علميوعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض. ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.



قوله تعالى: « وسع كرسيه السماوات والأرض » ذكر ابن عساكر في تاريخه عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله ) . وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة - وهو عاصم بن أبي النجود - عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه. يقال كُرسي وكرسي والجمع الكراسي. وقال ابن عباس: كرسيه علمه. ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم؛ ومنه قيل للعلماء: الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم؛ كما يقال: أوتاد الأرض.

قال الشاعر:

يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب

أي علماء بحوادث الأمور. وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قوله « وسع كرسيه » . قال البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله « وسع كرسيه » قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك في قوله « وسع كرسيه السماوات والأرض » قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر؛ فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسماوات، ورؤوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفي رواية أسباط عن السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله « وسع كرسيه السماوات والأرض » فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. وأهل الحق يجيزونهما؛ إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أعجب شيء رأيته ) ؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لقولها: ( لا قدست أمة - أو كيف تقدس أمة - لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ) . قال ابن عطية: في قول أبي موسى « الكرسي موضع القدمين » يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك. وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه؛ وهذا ليس بمرضي، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه. وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم ؟ قال: ( آية الكرسي - ثم قال - يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة ) . أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح. وقال مجاهد: ما السماوات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم.



و « يؤوده » معناه يثقله؛ يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي؛ وإذا كانت للكرسي؛ فهو من أمر الله تعالى. و « العلي » يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان؛ لأن الله منزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء؛ تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه قوله تعالى: « إن فرعون علا في الأرض » [ القصص: 4 ] . و « العظيم » صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام. وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:

فكأن الخمر العتيق من الإسـ ـفنط ممزوجة بماء زلال

وحكي عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم؛ إذ لا معظم له حينئذ.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 15, 2012 1:35 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============




الآية: 256 ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )



قوله تعالى: « لا إكراه في الدين » الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: « قد تبين الرشد من الغي » . والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله: « إلا من أكره » [ النحل: 106 ] . وقرأ أبو عبدالرحمن « قد تبين الرشد من الغي » وكذا روي عن الحسن والشعبي؛ يقال: رَشَد يَرْشُد رُشْداً، ورَشِدَ يرْشَد رَشَدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده؛ عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قرأ « الرشاد » بالألف. وروي عن الحسن أيضا « الرشد » بضم الراء والشين. « الغي » مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي؛ ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق.



اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:

[ الأول ] قيل إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام؛ قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين » [ التوبة: 73 ] . وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.

الثاني: ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم « يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين » . هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا « لا إكراه في الدين » .

الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » . قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: « لا إكراه في الدين » من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.

الرابع: قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت: « لا إكراه في الدين » ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: ( أبعدهما الله هما أول من كفر ) فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » [ النساء: 65 ] الآية ثم إنه نسخ « لا إكراه في الدين » فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة [ براءة ] . والصحيح في سبب قوله تعالى: « فلا وربك لا يؤمنون » حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في « النساء » بيانه إن شاء الله تعالى.

[ وقيل ] معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها؛ وهو القول الخامس.

[ وقول سادس ] وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين؛ ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة

والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك فأجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في « براءة » إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله » جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى. - وحكى الطبري يطغو - إذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبي علي أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجَبَذ وجَذَب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت؛ واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً قال الله تعالى: « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به » [ النساء: 60 ] . وقد يكون جمعا قال الله تعالى: « أولياؤهم الطاغوت » [ البقرة 257 ] والجمع الطواغيت. « ويؤمن بالله » عطف. « فقد استمسك بالعروة الوثقى » جواب الشرط، وجمع الوُثْقى الوُثْق مثل الفُضْلى والفُضْل؛ فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلف عبارة المفسرين في الشيء المشبه به؛ فقال مجاهد: العروة الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك؛ لا إله إلا الله؛ وهذه عبارات ترجع إلى معنىً واحد. ثم قال: « لا انفصام لها » قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم اسم الإيمان حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة؛ وفي صحيح الحديث ( فيفصم عنه الوحي وإن جبينه ليتفصد عرقا ) أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم؛ قال الله تعالى: لا انفصام لها « وتفصم مثله؛ قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة: »

كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من جواري الحي مفصوم

وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل « مقصوم » بالقاف فيكون بائنا باثنين. وافْصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات « سميع » من أجل النطق « عليم » من أجل المعتقد.



الآية: 257 ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )



قوله تعالى: « الله ولي الذين آمنوا » الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين؛ قال الله عز وجل « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، وقال « ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم » [ محمد: 11 ] قال قتادة: الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: قوله « الله ولي الذين آمنوا » نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات. قال ابن عطية: فكأن هذا المعتقد أحرز نوراً في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلى الله عليه وسلم الداعي المرسل فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان إذ هو معه معد وأهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم؛ عدلا منه، لا يسأل عما يفعل. وقرأ الحسن « أولياؤهم الطواغيت » يعني الشياطين، والله أعلم.



الآية: 258 ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )



قوله تعالى: « ألم تر » هذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له. وقال الفراء: « ألم تر » بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قرية، وهو النمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريح: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها؛ وهو أحد الكافرين؛ والآخر بختنصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام؛ حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح وكان ملكاً على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب بن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أثفيان؛ وفيه يقول حبيب:

وكأنه الضحاك من فتكاته في العالمين وأنت أفريدون

وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى [ كوشا ] أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر. وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحدا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. وفي قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها؛ فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون ؟ فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد ربي الذي يحيي ويميت. وقال بعضهم: إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له؛ فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: مالك لا تسجد لي قال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال له نمروذ: من ربك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. وذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون أنت؛ فيقول: ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له: من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت؛ فلما سمعها نمروذ قال: أنا أحيي وأميت؛ فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه؛ فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء؛ فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت. فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك.

قلت: وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا ؟ فقال: حنطة حمراء؛ ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا؛ فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروي في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي. وقال السدي: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك - ولم يكن قبل ذلك دخل عليه - فكلمه وقال له: من ربك ؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمروذ: أنا أحيي وأميت، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه؛ فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه « فبهت الذي كفر » أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يكذبونه.



هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: « قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين » [ البقرة: 111 ] . « إن عندكم من سلطان » [ يونس: 68 ] أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [ الأنبياء ] وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: « قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا » [ هود: 32 ] الآيات إلى قوله: « وأنا بريء مما تجرمون » [ هود: 35 ] . وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في « آل عمران » . وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل: « فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم » [ آل عمران: 66 ] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة.

قراءات - قرأ علي بن أبي طالب « ألم تر » بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم. « أن آتاه الله الملك » في موضع نصب، أي لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرأ جمهور القراء « أن أحيي » بطرح الألف التي بعد النون من « أنا » في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبي أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى: « إن أنا إلا نذير » [ الأعراف: 188 ] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل. قال النحويون: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت: أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا؛ لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، فلا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذاً في الشعر كما قال الشاعر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

قال النحاس: على أن نافعاً قد أثبت الألف فقرأ « أنا أحيي وأميت » ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين « أنا » بكماله؛ فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفاً؛ ولأن الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم « أنا » فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بني على الفتح فرقا بينه وبين « أن » التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة؛ كما قال:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميداً قد تذريت السناما

وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى « بَهَت » بفتح الباء والهاء. قال ابن جني قرأ أبو حيوة: « فبهت الذي كفر » بفتح الباء وضم الهاء، وهي لغة في « بهت » بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميقع « فبهت » بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر؛ فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بَهَت بفتحها لغة في بَهُت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة « فبهت » بكسر الهاء كغرق ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ « فبهت » بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت سبتمبر 15, 2012 1:37 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 259 ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )



قوله تعالى: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » « أو » للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية. وقال المبرد: المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، ألم تر من هو كالذي مر على قرية. فأضمر في الكلام من هو. وقرأ أبو سفيان بن حسين « أو كالذي مر » بفتح الواو، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها؛ من قولهم: قريت الماء أي جمعته، وقد تقدم. قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي مر على القرية هو عزير. وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد بن عمير وعبدالله بن بكر بن مضر: هو إرمياء وكان نبياً. وقال ابن إسحاق: إرمياء هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه. قال ابن عطية: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما؛ لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه.

قلت: إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك، على ما يأتي بيانه في سورة « الكهف » . وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح، والله أعلم. وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى. قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام. وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه. والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي. والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. قال: وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكور تين أخضر وعنب وركوة من خمر. وقيل من عصير. وقيل: قلة ماء هي شرابه. والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد. وحكى النقاش أن قوما قالوا: هي المؤتفكة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة. فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها. وقيل: إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت؛ قاله ابن زيد. وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام. قال: ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها، والإشارة بـ « ـهذه » إنما هي إلى القرية. وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة: القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي. وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها.

والعريش: سقف البيت. وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش؛ ومنه عريش الدالية؛ ومنه قوله تعالى: « ومما يعرشون » [ النحل: 68 ] . قال السدي: يقول هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها؛ واختاره الطبري. وقال غير السدي: معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة؛ وخاوية معناها خالية؛ وأصل الخواء الخلو؛ يقال: خَوَت الدار وخَوِيَتْ تخوى خواء ( ممدود ) وخُوِياً: أقْوَتْ، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى: « فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا » [ النمل: 52 ] أي خالية، ويقال ساقطة؛ كما يقال: « فهي خاوية على عروشها » أي ساقطة على سقفها. والخَواء الجوع لخلو البطن من الغذاء. وخوت المرأة وخويت أيضا خوًى أي خلا جوفها عند الولادة. وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام. والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل. وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده.



قوله تعالى: « قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها » معناه من أي طريق وبأي سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته. وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها. وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء؛ فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب ألا يتأول في الآية شك.



قوله تعالى: « فأماته الله مائة عام » « مائة » نصب على الظرف. والعام: السنة؛ يقال: سِنون عُوَّم وهو تأكيد للأول؛ كما يقال: بينهم شغل شاغل. وقال العجاج:

من مر أعوام السنين العُوَّم

وهو في التقدير جمع عائم، إلا أنه لا يفرد بالذكر؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد، قال الجوهري. وقال النقاش: العام مصدر كالعَوْم؛ سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك. والعوم كالسَّبْح؛ وقال الله تعالى: « كل في فلك يسبحون » [ الأنبياء: 33 ] . قال ابن عطية: هذا بمعنى قول النقاش، والعام على هذا كالقول والقال، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقد قيل: إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له « كوشك » فعمرها في ثلاثين سنة.



قوله تعالى: « ثم بعثه » معناه أحياه، وقد تقدم الكلام فيه.



قوله تعالى: « قال كم لبثت » اختلف في القائل له « كم لبثت » ؛ فقيل الله جل وعز؛ ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم. وقيل: سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل. وقيل: نبي. وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت.

قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله: « وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما » والله أعلم. وقرأ أهل الكوفة « كم لبثت » بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج. فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان. قال النحاس: والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء. ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير. و « كم » في موضع نصب على الظرف.



قوله تعالى: « قال لبثت يوما أو بعض يوم » إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف « قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم » [ الكهف: 19 ] وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: ( لم أقصر ولم أنْس ) . ومن الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول. فعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان. فهذا ما يتعلق بهذه الآية، والقول الأول أصح. قال ابن جريج وقتادة والربيع: أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحداً فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس فخشى أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يوم. فقيل: بل لبثت مائة عام؛ ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك.



قوله تعالى: « فانظر إلى طعامك » وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها. « وشرابك لم يتسنه » قرأ ابن مسعود « وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه » . وقرأ طلحة بن مصرف غيره « وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة » . وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء. وقرأ طلحة بن مصرف أيضا « لم يسن » « وانظر » أدغم التاء في السين؛ فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون « يتسنه » من السنة أي لم تغيره السنون. قال الجوهري: ويقال سنون، والسنة واحدة السنين، وفي نقصانها قولان: أحدهما الواو، والآخر الهاء. وأصلها سَنْهة مثل الجبهة؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون. ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى؛ وسنهاء أيضا، قال بعض الأنصار:

فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح

وأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم، وتسنيت أيضا. واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا. وفي التصغير سنية وسنيهة. قال النحاس: من قرأ « لم يتسن » و « انظر » قال في التصغير: سُنّية وحذفت الألف للجزم، ويقف على الهاء فيقول: « لم يتسنه » تكون الهاء لبيان الحركة. قال المهدوي: ويجوز أن يكون أصله من سانَيْتُه مساناة، أي عاملته سنة بعد سنة، أو من سانهت بالهاء؛ فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم؛ وأصله من الواو بدليل قولهم سنوات والهاء فيه للسكت، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل؛ وأصل سنة على هذا سنهة. وعلى القول الأول سَنَوَة. وقيل: هو من أسِنَ الماء إذا تغير، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن. أبو عمرو الشيباني: هو من قوله « حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] فالمعنى لم يتغير. الزجاج، ليس كذلك؛ لأن قوله « مسنون » ليس معناه متغير وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض. قال المهدوي: وأصله على قول الشيباني « يتسنن » فأبدلت إحدى النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت. وقال مجاهد: « لم يتسنه » لم ينتن. قال النحاس: أصح ما قيل فيه أنه من السنة، أي لم تغيره السنون. ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب؛ ومنه قوله تعالى: « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين » [ الأعراف: 130 ] وقوله عليه السلام ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) . يقال منه: أسنت القوم أي أجدبوا؛ فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب، أو لم تغيره السنون والأعوام، أي هو باق على طراوته وغضارته.



قوله تعالى: « وانظر إلى حمارك » قال وهب بن منبه وغيره: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق؛ على هذا أكثر المفسرين. وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام؛ وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه، وسائر جسده ميت، قالا: وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة.



قوله تعالى: « ولنجعلك آية للناس » قال الفراء: إنما ادخل الواو في قوله « ولنجعلك » دلالة على أنها شرط لفعل بعده، معناه « ولنجعلك آية للناس » ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جملت الواو مقحمة زائدة. وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا. عكرمة: وكان يوم مات ابن أربعين سنة. وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة. وروي عن ابن عباس قال: لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة، فقال لها: أهذا منزل عزير؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت: فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة! قال: فأنا عزير؛ قالت: إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة. قال: فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق، فادع الله يرد علي بصري؛ فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال. قالت: أشهد أنك عزير! ثم انطلقت إلى ملأ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة، وبنو بنيه شيوخ، فقالت: يا قوم، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه؛ فنظرها فإذا هو عزير. وقيل: جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا. قال ابن عطية: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كله آية غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض.



قوله تعالى: « وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما » قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء، وروى أبان عن عاصم « ننشرها » بفتح النون وضم الشين والراء، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة؛ فقيل: هما لغتان في الإحياء بمعنى؛ كما يقال رجع ورجعته، وغاض الماء وغضته، وخسرت الدابة وخسرتها؛ إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا، أي أحياهم الله فحيوا؛ قال الله تعالى: « ثم إذا شاء أنشره » ويكون نشرها مثل نشر الثوب. نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت؛ قال الأعشى:

حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر

فكأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر. وأما قراءة « ننشزها » بالزاي فمعناه نرفعها. والنشز: المرتفع من الأرض؛ قال:

ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجلل

قال مكي: المعنى: انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء؛ لأن النشز الارتفاع؛ ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها؛ ومنه قوله تعالى: « وإذا قيل انشزوا فانشزوا » [ المجادلة: 11 ] أي ارتفعوا وانضموا. وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أولى بذلك المعنى، إذ هو ، بمعنى الانضمام دون الإحياء. فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال: هذا عظم حي، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. وقرأ النخعي « ننشزها » بفتح النون وضم الشين والزاي؛ وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة. وقرأ أبي بن كعب « ننشيها » بالياء.

والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها. وقد استعاره لبيد للإسلام فقال:

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وقد تقدم أول السورة.



قوله تعالى: « فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير » بقطع الألف. وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده. قال قتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أول ما خلق الله منه ورأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك: « أعلم » بقطع الألف، أي أعلم هذا. وقال الطبري: المعنى في قوله « فلما تبين له » أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.

قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مكي رحمه الله، قال مكي: إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقرأنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ « أعلم » بقطع الألف وهم الأكثر من القراء. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

قال ابن عطية: وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر:

تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل

قال مكي: ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن. وفي حرف عبدالله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى ألزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم. وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله « انظر إلى طعامك » و « انظر إلى حمارك » و « انظر إلى العظام » فكذلك « واعلم أن الله » وقد كان ابن عباس يقرؤها « قيل اعلم » ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له: « واعلم أن الله عزيز حكيم » . فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء.



الآية: 260 ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم )



اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر. قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى. وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول.

قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ) . قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: ( هي أرجى آية ) فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك. ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله « أو لم تؤمن » أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء: ( دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ) فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ذلك محض الإيمان ) إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: « ربي الذي يحيي ويميت » [ البقرة: 258 ] فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك ؟ وكيف زيد ؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون « كيف » خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي. و « كيف » في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: « أو لم تؤمن قال بلى » فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

قلت: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الحجر: 42 ] وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: « أرني كيف » طلب مشاهدة الكيفية. وقال بعض أهل المعاني: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب، وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي، وليست الألف في قوله « أو لم تؤمن » ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا

والواو واو الحال. و « تؤمن » معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى.



قوله تعالى: « قال بلى ولكن ليطمئن قلبي » أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: ( ثم اركع حتى تطمئن راكعا ) الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء. وقال الطبري: معنى « ليطمئن قلبي » ليوقن، وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض. وقال السدي وابن جبير أيضا: أو لم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة. وقيل: دعا أن يريه كيف يحيي الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أني أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي.

واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد. وقيل: قول النمروذ: أنا أحيي وأميت. وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق،



قوله تعالى: « قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم » فقيل له: « خذ أربعة من الطير » قيل: هي الديك والطاووس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد. وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: « سعى » إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقي كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله. وقال الزجاج: المعنى ثم اجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر « جزءا » على فعل. وعن أبي جعفر أيضا « جزا » مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهي لغات، ومعناه النصيب. « يأتينك سعيا » نصب على الحال. و « صرهن » معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبي الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قاله توبة بن الحمير يصفه:

فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد سيورها

فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

أي يقطعها. والصور: القطع. وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روي عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن. وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصْور إذا كان مائل العنق. وتقول: إني إليكم لأصور، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر:

الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور

فقوله « إليك » على تأويل التقطيع متعلق بـ « خذ » ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بـ « صرهن » وفي الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم « فصرهن » بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم « فصرهن » بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جني: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وهر الحرب يَهُرها ويهِرها، ومنه بيت الأعشى:

ليعتورنك القول حتى تهره

إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جني: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد.

القراءة الخامسة « صرهن » بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله « رب أرني أنظر إليك » [ الأعراف: 143 ] ؟ فعنه جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف. الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 2 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد سبتمبر 16, 2012 5:31 am

تابع تفسير القرطبى لسورة البقرة
=============


الآية: 261 ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )


لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبي فله في جهاده الثواب العظيم. روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب زد أمتي ) فنزلت « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » [ البقرة: 245 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب زد أمتي ) فنزلت « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » [ الزمر: 10 ] . وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك. وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: « والله يضاعف لمن يشاء » يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله.


روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبدالرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) . وقال عثمان: يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما. وقيل: نزلت في نفقة التطوع. وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.


قوله تعالى: « كمثل حبة » الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس:

آليت حب العراق الدهر أطعمه والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القالب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: ( فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ) والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد.

قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله « في كل سنبلة مائة حبة » معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال: « في كل سنبلة مائة حبة » معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك. وقال أبو عمرو الداني: وقرأ بعضهم « مائة » بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة.

قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرأ بعضهم « في كل سنبلة مائة حبة » على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم « وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم » [ الملك: 6 ] على « وأعتدنا لهم عذاب السعير » [ الملك: 5 ] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « أنبتت سبع سنابل » بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو:

يا لعن الله بني السعلاة عمرو بن ميمون لئام النات

أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان.


ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله « والله يضاعف لمن يشاء » فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.

قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية. وروى ابن ماجة حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وعبدالله بن عمرو وأبي أمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم - ثم تلا هذه الآية « والله يضاعف لمن يشاء الله » ) . وقد روي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الإسناد عنه.


في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: « مثل الذين ينفقون أموالهم » الآية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة ) . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( التمسوا الرزق في خبايا الأرض ) يعني الزرع، أخرجه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم في النخل: ( هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل ) . وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقي عبدالله بن عبدالملك بن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول:

أقول لعبدالله يوم لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب فترزقا

فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا

وحكي عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.



الآية: 262 ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )



قوله تعالى: « الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله » قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال عبدالرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: ( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان ) . وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: ( يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه ) فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزلت: « الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى » الآية.


لما تقدم في الآية التي قبل ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، قال الله تعالى: « لا نريد منكم جزاء ولا شكورا » [ الإنسان: 9 ] . ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منّ بإنفاقه وآذى. وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله. وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله، كالذي حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا أتاه فقال:

يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه

وكن لنا من الزمان جنة أقسم بالله لتفعلنه

قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال:

إذاً أبا حفص لأذهبنه

قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ - قال:

تكون عن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه

وموقف المسؤول بينهنه إما إلى نار وإما جنه

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره والله لا أملك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل. فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: « ولا تمنن تستكثر » [ المدثر: 6 ] أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها. وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية إنما هي في الذين لا يخرجون في الجهاد بل ينفقون وهم قعود، وإن الآية التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم، قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين. قال ابن عطية: وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد.


قوله تعالى: « منا ولا أذى » المن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. والمن من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ) . وفي بعض طرق مسلم: ( المنان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ) . والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. وقال ابن زيد: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه. وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة. فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فمن أنفق في سبيل الله ولم يتبعه منا ولا أذى كقوله: ما أشد إلحاحك وخلصنا الله منك وأمثال هذا فقد تضمن الله له بالأجر، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته فقال: « لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » . وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى. وفيها دلالة لمن فضل الغني على الفقير حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.



الآية: 263 ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم )


قوله تعالى: « قول معروف » ابتداء والخبر محذوف، أي قول معروف أولى وأمثل، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: ويجوز أن يكون « قول معروف » خبر ابتداء محذوف، أي الذي أمرتم به قول معروف. والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شيء، لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها. قال صلى الله عليه وسلم: ( الكلمة الطيبة صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ) أخرجه مسلم. فيتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. وحكى ابن لنكك أن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة لم يقضها وظهر له منه ضجر فقال:

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسؤولا

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا

تلقى الكريم فتستدل ببشره وترى العبوس على اللئيم دليلا

واعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا

وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما خولكم الله تعالى ) .

قلت: دليله حديث أبرص وأقرع وأعمى، خرجه مسلم وغيره. وذلك أن ملكا تصور في صورة أبرص مرة وأقرع أخرى وأعمى أخرى امتحانا للمسؤول. وقال بشر بن الحارث: رأيت عليا في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به، قال: ما أحسن عطف الأنبياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله. فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولى وهو يقول:

قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتا

فاخرب بدار الفناء بيتا وابن بدار البقاء بيتا



قوله تعالى: « ومغفرة » المغفرة هنا: الستر للخلة وسوء حالة المحتاج، ومن هذا قول الأعرابي - وقد سأل قوما بكلام فصيح - فقال له قائل: ممن الرجل ؟ فقال له: اللهم غفرا! سوء الاكتساب يمنع من الانتساب. وقيل: المعنى تجاوز عن السائل إذا ألح وأغلظ وجفى خير من التصدق عليه من المن والأذى، قال معناه النقاش. وقال النحاس: هذا مشكل يبينه الإعراب. « مغفرة » رفع بالابتداء والخبر « خير من صدقة » . والمعنى والله أعلم وفعل يؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، وتقديره في العربية وفعل مغفرة. ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضل الله عليك أكبر من الصدقة التي تمن بها، أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنون بها.



قوله تعالى: « والله غني حليم » أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة العباد، وإنما أمر بها ليثيبهم، وعن حلمه بأنه لا يعاجل بالعقوبة من منّ وآذى بصدقته.



الآية: 264 ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين )


قوله تعالى: « بالمن والأذى » قد تقدم معناه. وعبر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال، والمراد الصدقة التي يمن بها ويؤذي، لا غيرها. والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات ولا تحبطها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها.

قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل. وقيل: بل قد جعل الله للملك عليها أمارة فهو لا يكتبها، وهذا حسن. والعرب تقول لما يمن به: يد سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء. ولما يعطى عن مسألة: يد خضراء. وقال بعض البلغاء: من من بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال بعض الشعراء:

وصاحب سلفت منه إلي يد أبطا عليه مكافاتي فعاداني

لما تيقن أن الدهر حاربني أبدى الندامة فيما كان أولاني

وقال آخر:

أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنان

وقال أبو بكر الوراق فأحسن:

أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن

صنيعة مربوبة خالية من المنن

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف، إذا أحصي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - « لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى » ) .


قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولى غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى. وهذا بخلاف صدقة التطوع السر، لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه لكونه في حكم من لم يفعل.


قوله تعالى: « كالذي ينفق ماله رئاء الناس » الكاف في موضع نصب، أي إبطال « كالذي » فهي نعت للمصدر المحذوف. ويجوز أن تكون موضع الحال. مثل الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء. ثم مثل هذا المنفق أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي. فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس. وقيل: المراد بالآية إبطال الفضل دون الثواب، فالقاصد بنفقته الرياء غير مثاب كالكافر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب. وخالف صاحب المن والأذى القاصد وجه الله المستحق ثوابه - وإن كرر عطاءه - وأبطل فضله. وقد قيل: إنما يبطل المن ثواب صدقته من وقت منه وإيذائه، وما قبل ذلك يكتب له ويضاعف، فإذا من وآذى انقطع التضعيف، لأن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل، فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت، فإذا جاء المن بها والأذى وقف بههناك وانقطع زيادة التضعيف عنها، والقول الأول أظهر والله أعلم. والصفوان جمع واحده صفوانة، قاله الأخفش. قال: وقال بعضهم: صفوان واحد، مثل حجر. وقال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صِفْوان وصُفِي وصِفِي، وأنكره المبرد وقال: إنما صفي جمع صفا كقفا وقفي، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا، وقد تقدم. وقرأ سعيد بن المسيب والزهري « صفوان » بتحريك الفاء، وهي لغة. وحكى قطرب صفوان. قال النحاس: صَفْوان وصَفَوان يجوز أن يكون جمعا ويجوز أن يكون واحدا، إلا أن الأولى به أن يكون واحدا لقوله عز وجل: « عليه تراب فأصابه وابل » وإن كان يجوز تذكير الجمع إلا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلا بدليل قاطع، فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس بصحيح على حقيقة النظر، ولكن صفوان جمع صفاً، وصفاً بمعنى صفوان، ونظيره ورل وورلان وأخ وإخوان وكراً وكروان، كما قال الشاعر:

لنا يوم وللكروان يوم تطير البائسات ولا نطير

والضعيف في العربية كِرْوان جمع كَرَوَان، وصُفِي وصِفِي جمع صفا مثل عصا. والوابل: المطر الشديد. وقد وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. قال الأخفش: ومنه قوله تعالى: « أخذناه أخذا وبيلا » [ المزمل: 16 ] أي شديدا. وضرب وبيل، وعذاب وبيل أي شديد. والصلد: الأملس من الحجارة. قال الكسائي: صَلِد يَصْلَدُ صَلَدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان، وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد، وأنشد الأصمعي لرؤبة:

براق أصلاد الجبين الأجله

قال النقاش: الأصلد الأجرد بلغة هذيل. ومعنى « لا يقدرون » يعني المرائي والكافر والمان « على شيء » أي على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله فعبر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب. وقيل: ضرب هذا مثلا للمرائي في إبطال ثوابه ولصاحب المن والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.



الآية: 265 ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير )


قوله تعالى: « ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم » « ابتغاء » مفعول من أجله. « وتثبيتا من أنفسهم » عطف عليه. وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية: وهو مردود، ولا يصح في « تثبيتا » أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و « ابتغاء » نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو « تثبيتا » عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و « ابتغاء » معناه طلب. و « مرضات » مصدر من رضي يرضى. « وتثبيتا » معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله مجاهد والحسن. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقه تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك. وقيل: معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة: معناه واحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم: « وتثبيتا » معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته « وتثبيتا » مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية: وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى: « والله أنبتكم من الأرض نباتا » [ نوح: 17 ] ، « وتبتل إليه تبتيلا » [ المزمل: 8 ] . وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول: أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية: هذا مهْيَعُ كلام العرب فيما علمته. وقال النحاس: لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت كتكرمت تكرما، وقول قتادة: احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال: ثبت فلانا في هذا الأمر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك. وقيل: « وتثبيتا من أنفسهم » أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب.



قوله تعالى: « كمثل جنة بربوة » الجنة البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: « زوجي كليل تهامة » . وقال السدي: « بربوة » أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية: وهذه عبارة قِلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد.

قلت: عبارة السدي ليست بشيء، لأن بناء « رَبَ و » معناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالىِ. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع. وقال الفراء في قوله تعالى: « أخذهم أخذة رابية » [ الحاقة: 10 ] أي زائدة، كقولك: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بني فلان وربيت أي نشأت فيهم. وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه. وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، لأن قوله تعالى: « أصابها وابل » إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات « ربوة » بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و « ربوة » بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن. « وربوة » بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و « رباوة » بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبدالرحمن، وقال الشاعر:

من منزلي في روضة برباوة بين النخيل إلى بقيع الغرقد؟

و « رباوة » بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء: ويقال بِرَباوة وبرِباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو.



قوله تعالى: « أصابها » يعني الربوة. « وابل » أي مطر شديد قال الشاعر:

ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها وابل هطل



قوله تعالى: « فآتت » أي أعطت. « أكلها » بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى: « تؤتي أكلها كل حين » [ إبراهيم: 25 ] . والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل. والأكلة: اللقمة، ومنه الحديث: ( فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين ) يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو « أكلها » بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أُكُلَه أو كان غير مضاف إلى شيء مثل « أكل خمط » فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال: أَكْل وأُكُل بمعنى. « ضعفين » أي أعطت ضعفي ثمر غيرها من الأرضين. وقال بعض أهل العلم: حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين.


قوله تعالى: « فإن لم يصبها وابل فطل » تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره: تقديره فطل يكفيها. وقال الزجاج: فالذي يصيبها طل. والطل: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة. وقال قوم منهم مجاهد: الطل: الندى. قال ابن عطية: وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس: وحكى أهل اللغة وَبَلَت وأوْبَلَت، وطَلّت وأَطَلّت. وفي الصحاح: الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه: طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه - وإن قل - تماسك ونفع. قال بعضهم الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين.

قلت: التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفُلُوّ والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم ) خرجه الموطأ أيضا.


قوله تعالى: « والله بما تعملون بصير » وعد ووعيد. وقرأ الزهري « يعملون » بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 20 الصفحة السابقة  1, 2, 3 ... 11 ... 20  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى