روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

روضة البدر
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
روضة البدر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 

 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المواضيع الأخيرة
» فن باعواد الكبريت
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:24 pm من طرف fola

» د. شريف الصفتى عالم الكيمياء المصرى النابغة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالثلاثاء ديسمبر 06, 2016 4:05 pm من طرف هدى من الله

» قصة سيدنا عزير
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 11:15 am من طرف سجدة

» ** قصة أبيار على **
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:58 am من طرف بهيرة

» خلو المكان ومرارة الغياب !!!
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:48 am من طرف هدى من الله

» يا حلاوة اللوبيا والارز بالشعرية
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:08 am من طرف بسملة

» طريقة عمل القراقيش المقرمشة و الهشة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 10:07 am من طرف هدى من الله

» إعجاز بناء الكعبة
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:43 am من طرف روز

» صفات اليهود فى القرآن الكريم
تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 9:42 am من طرف هدى من الله

مايو 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
  12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031  

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

صفحة 10 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 6 ... 9, 10, 11 ... 15 ... 20  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء مارس 05, 2013 11:01 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآية: 13 ( وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا )


قوله تعالى: « وحنانا من لدنا » « حنانا » عطف على « الحكم » . وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما « الحنان » . وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:

ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال طرفة:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال الزمخشري: « حنانا » رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قال بن الأعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبكرة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.

قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و « حنانا » أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:

تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا

عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف


قوله تعالى: « وزكاة » « الزكاة » التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: « زكاة » صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. « وكان تقيا » أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.



الآية: 14 ( وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا )


قوله تعالى: « وبرا بوالديه » البر بمعنى البار وهو الكثير البر. « جبارا » متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.



الآية: 15 ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا )


قوله تعالى: « وسلام عليه يوم ولد » قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.

قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة « سبحان » [ الإسراء: 1 ] عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.



الآية: 16 ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا )


قوله تعالى: « واذكر في الكتاب مريم » القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. « إذ انتبذت » أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى: « فنبذوه وراء ظهورهم » . [ آل عمران: 187 ] . « من أهلها » أي ممن كان معها. و « إذ » بدل من « مريم » بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله: « مكانا شرقيا » أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: « إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا » فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في « آل عمران » والحمد لله.



الآيات: 17 - 21 ( فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا )


قوله تعالى: « فأرسلنا إليها روحنا » قيل: هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لقوله: « فتمثل لها » أي تمثل الملك لها. « بشرا » تفسير أو حال. « سويا » أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء. فـ « قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا » أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: « إن كنت تقيا » . وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام: « إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا » جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع « ليهب لك » على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى « لأهب » بالهمز محمول على المعنى؛ أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل « ليهب » بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ « قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر » أي بنكاح. « ولم أكن بغيا » أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها؛ قال ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. وقوله: « ولنجعله » متعلق بمحذوف؛ أي ونخلقه لنجعله: « آية » دلالة على قدرتنا عجيبة « ورحمة منا » لمن أمن به. « وكان أمرا مقضيا » مقدرا في اللوح مسطورا.



الآيتان: 22 - 23 ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )


قوله تعالى: « فانتبذت به مكانا قصيا » أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي:


قوله تعالى: « فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة » « أجاءها » اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم « فاجأها » من المفاجأة. وفي مصحف أبي « فلما أجاءها المخاض » . وقال زهير:

وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور « المخاض » بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. « إلى جذع النخلة » كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة. « قالت يا ليتني مت قبل هذا » تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة « يوسف » عليه السلام والحمد لله.

قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و « قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا » النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:

أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل

وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم: « نسيا منسيا » أي حيضة ملقاة. وقرئ « نسيا » بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز « نسئا » بكسر النون. وقرأ نوف البكالي « نسئا » بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب « نسا » بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله: « مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين » [ آل عمران: 39 ] وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.



الآية: 24 ( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا )


قوله تعالى: « فناداها من تحتها » قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ « من » جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقال علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم. وقوله: « ألا تحزني » تفسير النداء، « وأن » مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. « قد جعل ربك تحتك سريا » يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:

سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا

وقال لبيد:

فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها

وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس ( فناداها ملك من تحتها ) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.

هدى من الله
Admin
Admin

عدد المساهمات : 10627
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء مارس 06, 2013 11:10 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيتان: 25 - 26 ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا )



قوله تعالى: « وهزي » أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله: « بجذع » زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى: « فليمدد بسبب إلى السماء » أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. « وتساقط » أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة « تساقط » مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص « تساقط » بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ « تتساقط » بإظهار التاءين و « يساقط » بالياء وإدغام التاء « وتسقط » و « يسقط » و « تسقط » و « يسقط » بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. « رطبا » نصب بالهز؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه « رطبا جنيا » وعلى الجملة فـ « رطبا » يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. « وجنيا » معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ « تساقط عليك رطبا جنيا برنيا » . وقال مجاهد: « رطبا جنيا » قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله: « رطبا جنيا » فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا:

وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب

يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.



استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز.

الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأيتها، رزقها من غير تكسب كما قال: « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا » الآية [ آل عمران: 37 ] . فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس؟ ! ! « يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا » فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.



قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: « رطبا جنيا » الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه؛ ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الأنعام. والحمد لله. عن طلحة بن سليمان « جنيا » بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله تعالى: « فكلي واشربي وقري عينا » أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة « وقري » بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: « وقري عينا » معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و « عينا » نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.



قوله تعالى: « فإما ترين » الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار « تريين » ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:

إما تري رأسي حاكى لونه

وقول الأفوه:

إما تري رأسي أزرى به

وإنما دخلت النون هنا بتوطئة « ما » كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة « ترين » بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.



قوله تعالى: « فقولي إني نذرت » هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك « فقولي إني نذرت للرحمن صوما » أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب « إني نذرت للرحمن صوما صمتا » وروي عن أنس. وعنه أيضا « وصمتا » بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس « وصمتا » بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى « قولي » بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.

من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.

قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ) . وقال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .



الآيتان: 27 - 28 ( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا )



قوله تعالى: « فأتت به قومها تحمله » روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين: « قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا » أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه. قال مجاهد: « فريا » عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا؛ يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشيء المفترى. قال الله تعالى: « ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن » [ الممتحنة: 12 ] أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: « شيئا فريا » بسكون الراء. وقال السدي ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا: « يا مريم لقد جئت شيئا فريا » أي عظيما قال الراجز:

أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا

أي [ تعظمينه ] .



قوله تعالى: « يا أخت هارون » اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون؟ فقيل: هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا. وقيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون « يا أخت هارون » وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: ( إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ) . وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم.

قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم ) وهذا هو القول الأول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله.

قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة « النور » القول فيه إن شاء الله تعالى. وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمي ( ما كان أباك امرؤ سوء ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس مارس 07, 2013 11:04 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيات: 29 - 33 ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا )


قوله تعالى: « فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا » التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ « إني نذرت للرحمن صوما » وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ « قولي » إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير « كيف نكلم من كان في المهد صبيا » و « كان » هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو ( الآن ) . وقال أبو عبيدة: ( كان ) هنا لغو؛ كما قال:

وجيران لنا كانوا كرام

وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: « وإن كان ذو عسرة » وقد تقدم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت « صبيا » ولا أن يقال « كان » بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن « من » في معنى الجزاء و « كان » بمعنى يكن؛ التقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى « تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار » أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله. « والمهد » قيل: كان سريرا كالمهد وقيل « المهد » ههنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده « إني عبد الله » فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و « قال إني عبدالله » فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الإنجيل؛ قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح. « وجعلني مباركا أين ما كنت » أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. « وأوصاني بالصلاة والزكاة » أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح. « ما دمت حيا » في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. « وبرا بوالدتي » قال ابن عباس: لما قال « وبرا بوالدتي » ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى. « ولم يجعلني جبارا » أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط « شقيا » أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه. وقيل: لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره.


قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم.

الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: « فأشارت إليه » وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: ( كيف نكلم ) وقد مضى هذا في « آل عمران » مستوفى.



قال الكوفيون: لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه. وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس. وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. « والسلام علي » أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: « يوم ولدت » يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في « آل عمران » . « ويوم أموت » يعني في القبر « ويوم أبعث حيا » يعني في الآخرة. لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به.


الآيات: 34 - 40 ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون )


قوله تعالى: « ذلك عيسى ابن مريم » أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. « قول الحق » قال الكسائي: « قول الحق » نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم « قول الحق » وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: ( يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) [ الأحقاف: 16 ] أي الوعد والصدق. وقال: « وللدار الآخرة خير » [ الأنعام:32 ] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر « قول الحق » بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله « قال الحق » وقرأ الحسن « قول الحق » بضم القاف، وكذلك في « الأنعام » « قول الحق » والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. « الذي » من نعت عيسى. « فيه يمترون » أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: « يمترون » يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [ آل عمران:21 ] . وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول ( الذي فيه تمترون ) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.

قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.


قوله تعالى: « ما كان لله » أي ما ينبغي له ولا يجوز « أن يتخذ من ولد » « من » صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و « أن » في موضع رفع اسم « كان » أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: « سبحانه » أن يكون له « إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » تقدم. « وإن الله ربي وربكم » قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح « أن » وأهل الكوفة « وإن » بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي « كن فيكون. إن الله » بغير واو على العطف على « قال إني عبدالله » وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا « وأن المساجد لله » فـ « أن » في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: « أمرا » من قوله: « إذا قضى أمرا » والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ « أن » على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. « هذا صراط مستقيم » أي دين قويم لا اعوجاج فيه.


قوله تعالى: « فاختلف الأحزاب من بينهم » « من » زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في « النساء » وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. « فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم » أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.


قوله تعالى: « أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا » قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) [ المائدة: 116 ] . وقيل: « أسمع » بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم « لكن الظالمون اليوم » يعني في الدنيا « في ضلال مبين » وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.


قوله تعالى: « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر » روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. « إذ قضي الأمر » أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون » خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب « التذكرة » وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.


قوله تعالى: « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها » أي نميت سكانها فنرثها. « وإلينا يرجعون »

يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في « الحجر » وغيرها.



الآيات: 41 - 46 ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا )


قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا » المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في « النساء » واشتقاق الصدق في « البقرة » فلا معنى للإعادة ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟ ! وهو كما قال « ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » [ البقرة: 130 ]


قوله تعالى: « إذ قال لأبيه » وهو آزر. « يا أبت » تقدم في ( يوسف ) . « لم تعبد » أي لأي شي تعبد: « ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يريد الأصنام: » يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك « أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب » فاتبعني « إلى ما أدعوك إليه. » أهدك صراطا سويا « أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. » يا أبت لا تعبد الشيطان « أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. » إن الشيطان كان للرحمن عصيا « كان » صلة زائدة وقيل بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قال الكسائي: « يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن » أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون « أخاف » بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون « أخاف » على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. « فتكون للشيطان وليا » أي قرينا في النار. « قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم » أي أترغب عنها إلى غيرها. « لئن لم تنته لأرجمنك » قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول؛ أي لأشتمنك. ابن عباس: لأضربنك. وقيل: لأظهرن أمرك. « واهجرني مليا » قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك منى معرة؛ واختاره الطبري، فقوله: « مليا » على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد: « مليا » دهرا طويلا؛ ومنه قول المهلهل:

فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا

قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة مارس 08, 2013 11:01 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيات: 47 - 50 ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا )


قوله تعالى: « قال سلام عليك » لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها؛ كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] . وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم؛ قال الله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين » [ الممتحنة: 8 ] . وقال « قد كانت » لكم أسوة حسنة في إبراهيم « [ الممتحنة:4 ] الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه » سلام عليك « .»

قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثنا صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه ) خرجه البخار ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للأخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة ( لا تبدؤوهم بالسلام ) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علقمة: فقلت له يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ ! قال نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ قيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.

قلت: وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة ) الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله: « سأستغفر لك ربي » وارتفع السلام بالابتداء؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. « إنه كان بي حفيا » الحفي المبالغ في البر والإلطاف؛ يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: « إنه كان بي حفيا » أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته.


قوله تعالى: « وأعتزلكم » العزلة المفارقة وقد تقدم في « الكهف » بيانها. وقوله: « عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا » قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال: « فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب » أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل: « عيسى » يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل وقيل دعا لأبيه بالهداية. فـ « عسى » شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر. وقوله: « وجعلنا لهم لسان صدق عليا » أي أثنينا عليهم ثناء حسنا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدم.



الآيات: 51 - 53 ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا )


قوله تعالى: « واذكر في الكتاب موسى » أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. « إنه كان مخلصا » في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا. « وناديناه » أي كلمناه ليلة الجمعة. « من جانب الطور الأيمن » أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. « وقربناه نجيا » نصب على الحال؛ أي كلمناه من غير وحي. وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: « وقربناه نجيا » أي أدني حتى سمع صرير الأقلام. « ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا » وذلك حين سأل فقال: « واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي » [ طه: 29 ] .



الآيتان: 54 - 55 ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا )


قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إسماعيل » اختلف فيه؛ فقيل: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحاق؛ والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في « الصافات » إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.


صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في « براءة » . وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك؛ فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء؛ فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن أبى الحسماء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه؛ فقال: ( يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ) لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما؛ ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية؛ والله أعلم.


من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العدة دين ) . وفي الأثر ( وأي المؤمن واجب ) أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء؛ فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الأمم، ولقد أحسن القائل:

متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن

ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره؛ وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما. قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه.


قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري « واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد » ؛ وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. « وكان رسولا نبيا »

قيل: أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم.


قوله تعالى: « وكان يأمر أهله » قال الحسن: يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود « وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة » . « وكان عند ربه مرضيا » أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضي بناه على رضيت قالا: وأهل الحجاز يقولون: مرضو. وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضي ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى: « وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس » .



الآيتان: 56 - 57 ( واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا )


قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا » إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل لعجمة؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون؛ ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت؛ ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات؛ يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ؛ وقد تقدم في « الأعراف: بيانه وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون؛ والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بن آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم.»


قوله تعالى: « ورفعناه مكانا عليا » قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال كعب الأحبار. وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة؛ ذكره المهدوي.

قلت: ووقع في البخاري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء الرابعة؛ كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة ) . خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: ( يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس ) ؛ يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي فيه؟ فقال الله تعالى: « أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته » فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال « : » نعم « ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال » وكيف « ؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك؛ قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب؛ فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه؛ فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا؟. قال » دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس « ثم ذكر نحو حديث كعب قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة. قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله ! ولأي معنى رفعته هنا؟ قال: رفعته لأريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: » ورفعناه مكانا عليا « .»

قال وهب بن منبه: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس؛ وقال له: من أنت! قال أنا ملك الموت؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي؛ فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه؛ فقبضه ورده إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك؟ قال: لأذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة: إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة؛ فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال « كل نفس ذائقة الموت » [ آل عمران:185 ] وأنا ذقته، وقال: « وإن منكم إلا واردها » [ مريم:71 ] وقد وردتها؛ وقال: « وما هم منها بمخرجين » [ الحجر: 48 ] فكيف أخرج؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: « بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج » فهو حي هنالك فذلك قوله « ورفعناه مكانا عليا » قال النحاس: قول إدريس « وما هم منها بمخرجين » يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب بن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة بعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.



الآية: 58 ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا )


قوله تعالى: « أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم » يريد إدريس وحده. « وممن حملنا مع نوح » يريد إبراهيم وحده « ومن ذرية إبراهيم » يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. « و » من ذرية « إسرائيل » موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم، ولإبراهيم شرف القرب من نوج ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. « وممن هدينا » أي إلى الإسلام: « واجتبينا » بالإيمان. « إذا تتلى عليهم آيات الرحمن » وقرأ شبل بن عباد المكي « يتلى » بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. « خروا سجدا وبكيا »

وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] . يقال بكى يبكي بكاء وبكى بكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:

بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل

« وسجدا » نصب على الحال « وبكيا » عطف عليه.


في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) الصلاة. وقال الأصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته؛ قال الكيا: وفي هذا دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه.

احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الأنبياء الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة. قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة « الم تنزيل » قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة « سبحان » قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 09, 2013 11:27 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيات: 59 - 63 ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا، جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا )


قوله تعالى: « فخلف من بعدهم خلف » أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في « خلف » في « الأعراف » فلا معنى للإعادة. « أضاعوا الصلاة » وقرأ عبدالله والحسن « أضاعوا الصلوات » على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان؛ أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها؛ فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبدالله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولومت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل ) يعني صلبه في الركوع والسجود؛ قال: حديث حسن صحيح؛ والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود؛ قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ قال صلى الله عليه وسلم ( تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) . وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. « واتبعوا الشهوات » أي اللذات والمعاصي.


روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به؛ قلت: بلى. قال: ( إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أو نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ومن تؤخذ الأعمال على ذلك ) . قال يونس: وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زوارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال: ( ثم الزكاة مثل ذلك ) ( ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك ) . وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أومن الرواية فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك ) خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك ) قال النسائي أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس يحي بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجدل تطوع قال أ كملوا به الفريضة ) قال أبو عمر بن عبدالبر في كتاب « التمهيد » أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أولم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أونسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبدالله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم ) قال أبو عمر وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة

قلت: فينبغي للإنسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه « الحديث فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون وقد قال العلماء ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعه الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا وهذا هو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك وقد مضى هذا المعنى في » البقرة « وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو؟! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لأنه وقع على غير المطلوب والله أعلم.»


قوله تعالى: « واتبعوا الشهوات » وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: ( واتبعوا الشهوات ) هو من بنى [ المشيد ] وركب المنظور ولبس المشهور.

قلت الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه وفي الصحيح ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا

« فسوف يلقون غيا » قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقال عبدالله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل الله فسوف يلقون هذا الغي كما قال جل ذكره: « ومن يفعل ذلك يلق أثاما » [ الفرقان: 68 ] والأظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه قال كعب ( يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ « فسوف يلقون غيا » أي هلاكا وضلالا في جهنم وعنه غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البر فتسعر بها جهنم وقال ابن عباس غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه.


قوله تعالى: « إلا من تاب » أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه « وآمن »

به « وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة » قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر ( يدخلون ) بفتح الخاء وفتح الياء الباقون « ولا يظلمون شيئا » أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء إلا أنهم يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. « جنات عدن » بدلا من الجنة فانتصبت قال أبو إسحاق الزجاج ويجوز « جنات عدن » على الابتداء قال أبو حاتم ولولا الخط لكان « جنة عدن » لأن قبله « يدخلون الجنة » « التي وعد الرحمن عباده بالغيب » أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل آمنوا بالجنة ولم يروها « إنه كان وعده مأتيا » « مأتيا » مفعول من الإتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير وقال القتبي « مأتيا » بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل و « مأتيا » مهموز لأنه من يأتي ومن خفف الهمزة جعلها ألفا وقال الطبري الوعد ههنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. « لا يسمعون فيها لغوا » أي في الجنة واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول ومالا ينتفع به ومنه الحديث ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقه لغوت ) ويروى « لغيت » وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر

ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

قال ابن عباس: اللغو كل ما لم فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه « إلا سلاما » أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره والسلام اسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون قوله تعالى: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا كقوله تعالى « غدوها شهر ورواحها شهر » أي قدر شهر؛ قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما وقيل عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا قال بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت وقيل أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) كما تقول أنا أصبح وأمسي في ذكرك أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال وهذا يرجع إلى القول الأول وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم وقيل: إنما ذكر ذلك لأن صفة الغداء وهيئته [ تخلف ] عن صفة العشاء وهيئته؛ وهذا لا يعرفه إلا الملوك وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال ( وما هيجك على هذا ) قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب: « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » فقلت: الليل بين البكرة والعشي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة ) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما.



قوله تعالى: « تلك الجنة التي » أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها « نورث » بالتخفيف. وقرأ يعقوب « نورث » بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف؛ لقوله تعالى: « ثم أورثنا الكتاب » . [ فاطر: 32 ] . « من عبادنا من كان تقيا » قال ابن عباس: ( أي من اتقاني وعمل بطاعتي ) وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا.

الآية [ 64 ] في الصفحة التالية ...



الآيتان: 64 - 65 ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا )


روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ( ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ) قال: فنزلت هذه الآية: « وما نتنزل إلا بأمر ربك » إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب ورواه البخاري حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ( ما يمنعك أن مزورنا أكثر مما تزرونا فنزلت « وما نتنزل إلا بأمر ربك » الآية؛ قال كان هذا الجواب لمحمد صلى وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ( ما الذي أبطأك ) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي أحتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة فأبطأ عليه أربعين يوم وقال مجاهد اثنتي عشرة ليلة وقيل خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلي ( أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك ) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) وأنزل ( والضحى والليل إذا سجى وما ودعك ربك وما قلى ) ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم وقيل هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة به قبل وعلى ما ذكرنا من الأقوال قبل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة « وما نتنزل » أي قال الله تعالى قل يا جبريل « وما نتنزل إلا بأمر ربك » وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك الثاني إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الأمر على الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل.


قوله تعالى: « له » أي لله « ما بين أيدينا » أي علم ما بين أيدينا « وما خلفنا وما بين ذلك » قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة « وما بين ذلك » من البرزخ. وقال قتادة ومقاتل: « له ما بين أيدينا » من أمر الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من الدنيا « وما بين ذلك » ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الأخفش: « ما بين أيدينا » ما كان قبل أن نخلق « وما خلفنا » ما يكون بعد أن نموت « وما بين ذلك » ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل: « ما بين أيدينا » من الثواب والعقاب وأمور الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من أعمالنا في الدنيا ( وما بين ذلك ) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة ويحتمل خامسا « ما بين أيدينا » السماء « وما خلفنا » الأرض « و بين ذلك » أي ما بين السماء والأرض وقال ابن عباس في رواية « و ما بين أيدينا » يريد الدنيا إلى الأرض « وما خلفنا » يريد السموات وهذا على عكس ما قبله « ما بين ذلك » يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما عبر منها والحال التي نحن فيها ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قال « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » أي بين ما ذكرنا « وما كان ربك نسيا » أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها.


قوله تعالى: « رب السماوات والأرض وما بينهما » أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان. « فاعبده »

أي وحده لذلك وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقول أهل الحق وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضوع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود « واصطبر لعبادته » أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم صطام « هل تعلم له سميا » قال ابن عباس يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن وقال مجاهد مأخوذ من المساماة وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال ( هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن ) وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: ( هل تعلم له أحدا سمي الرحمن ) . قال النحاس وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله

قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة والحمد لله روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ( هل تعلم له سميا ) قال مثلا ابن المسيب عدلا قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل لا أي لا تعلم والله تعالى أعلم.



الآيتان: 66 - 67 ( ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا )


قوله تعالى: « ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » الإنسان هنا أبي بن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قال الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس واللام في « لسوف أخرج حيا » للتأكيد كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » ! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب هما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث وقرا ابن ذكوان « إذا ما مت » على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز وقرأ الحسن وأبو حيوة « لسوف اخرج حيا » قال استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث والإنسان ههنا الكافر


قوله تعالى: « أولا يذكر الإنسان » أي أو لا يذكر هذا القائل « أنا خلقناه من قبل » أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول « ولم يك شيئا » فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر « أولا يذكر » وقرأ شيبه ونافع وعاصم « أو لا يذكر » بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى « إنما يتذكر أولو الألباب » وأخواتها وفي حرف أبي « أولا يتذكر » وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف: ومعنى « يتذكر » يتفكر ومعنى « يذكر » يتنبه ويعلم قال النحاس
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد مارس 10, 2013 11:08 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيات: 68 - 70 ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا )


قوله تعالى: « فوربك لنحشرنهم » أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. « والشياطين » أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] الزمخشري والواو في « والشياطين » يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة فإن قلت هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم علا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى « وترى كل أمة جاثية » على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا خلاف الطمأنينة أولما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجسون على ركبهم جثوا وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم أن « جثيا » حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ويقال: إن معنى « ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا » أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام « وحول جهنم » يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله ( حول جهنم ) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول ويجوز أن يكون قبل الدخول و « جثيا » جمع جاث. يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما وأجثاه غيره وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر وقال ابن عباس: « جثيا » جماعات وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة:

ترى جثوتين من تراب عليها صفائح صم من صفيح منضد

وقال الحسن والضحاك جاثية الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما وقيل جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى « ثم إنكم يوم لقيامة عند ربكم تختصمون » وقال الكميت:

هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا


قوله تعالى: « ثم لننزعن من كل شيعة » أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين. « أيهم أشد على الرحمن عتيا » النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلهم يقرؤون « أيهم » بالرفع إلا هارون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه « ثم لننزعن من كل شيعة أيهم » بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق في رفع « أيهم » ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال:

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال لأنه معنى قول أهل التفسير وزعم أن معنى « ثم لننزعن من كل شيعة » ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: « لننزعن » بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع « أيهم » على الابتداء المهدوي والفعل هو « لننزعن » عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع « أيهم أشد » لا أنه ملغى. ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل « لننزعن » إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه: « أيهم » مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في « أيهم » جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في « من قبل ومن بعد » ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي « لننزعن » واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام، ولم يقع « لننزعن » على « أيهم » فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع « من كل شيعة » وقوله: « أيهم أشد » جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة « من » في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى « لننزعن » لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في « أيهم » معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال « أيهم » متعلق « بشيعة » فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و « عتيا » نصب على البيان


قوله تعالى: « ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا » أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ « ويصلى سعيرا » ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار ( بالكسر ) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى « هم أولى بها صليا » قال العجاج

والله لولا النار أن نصلاها

ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي

ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين

واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد:

وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس

وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق.



الآيتان: 71 - 72 ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا )


قوله تعالى « وإن منكم » هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية ( وإن منكم إلا واردها ) ذكره داود الطيالسي فقوله « إلا تحلة القسم » يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى « والذاريات ذروا » إلى قوله « إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والأول أشهر؛ والمعنى متقارب »

واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » أسنده أبو عمر في كتاب « التمهيد » وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ « وإن منكم إلا واردها » الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدرامي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته ) وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي ( أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك ) وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في « التذكرة » وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال ( ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط ) قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون « ثم » بفتح الثاء « ننجي الذين اتقوا » واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله: « أولئك عنها مبعدون » عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى « ثم ننجي الذين اتقوا » بضم الثاء فـ « ثم » تدل على نجاء بعد الدخول.

قلت وفي صحيح مسلم ( ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم ) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: ( دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ) الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة « ونذر الظالمين » أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى « ولما ورد ماء مدين ) أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير: »

فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم

وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية ) قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى « وإن منكم إلا واردها » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَمَهْ « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » ) أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول « هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار » ) أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله ( عن أبي صالح ) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث ( الحمى حظ المؤمن من النار ) وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر: ( إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ) الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبدالله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: ( وإن منكم إلا واردها ) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ « وإن منهم » ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله « فوربك لنحضرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منهم ) ( مريم: 68 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ ( منكم ) الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في ( منكم ) راجحة إلى الهاء في ( لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل » وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا « [ الإنسان:21 - 22 ] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر: المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام ( فتمسه النار ) لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا.»

قلت: وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فان قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في ( يونس ) .


الاستثناء في قوله عليه السلام ( إلا تحلة القسم ) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ ( إلا تحلة القسم ) أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار ) والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى


هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ماروا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار أو دخل الجنة ) فقوله عليه السلام ( لم يبلغوا الحنث ) ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل ( من ) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام ( الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه ) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: ( يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ) ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك ) فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال ( بل للمسلمين عامة ) قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » قوله « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء:101 ] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر: ( تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) .


قوله تعالى: « كان على ربك حتما مقضيا » الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. « مقضيا » أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا « ثم ننجي الذين اتقوا » أي نخلصهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة « ثم ننجي » مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى « ثمه » بفتح الثاء أي هناك و « ثم » ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين مارس 11, 2013 11:08 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة مريم
=============



الآيتان: 73 - 74 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا )


قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » [ مريم: 66 ] وقال فيهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و « بينات » معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد؛ إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى « وهو الحق مصدقا » لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة. « قال الذين كفروا » يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. « للذين آمنوا » يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين « أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « مقاما » بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون « مقاما » بالفتح؛ أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. « وأحسن نديا » أي مجلسا؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال

أنادي به آل الوليد وجعفرا

والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي [ والمنتدى ] والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري.


قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي من أمة وجماعة. « هم أحسن أثاثا ورئيا »

أي متاعا كثيرا؛ قال:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل

والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال:

تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

وقال ابن عباس: هيئة مقاتل ثيابا « ورئيا » أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة « وريا » بغير همز. وقرأ أهل الكوفة « ورئيا » بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ « وريا » بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس « هم أحسن أثاثا وزيا » بالزاي؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز « هم أحسن أثاثا وريئا » بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما: أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: ( الرئي المنظر ) فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني: أن جلودهم مرتوية من النعمة؛ فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر « ورئيا » بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف ( وريا ) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي: ويجوز أن يكون « ريئا » فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم « وريا » على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:

أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا؛ أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري « وزيا » بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( زويت لي الأرض ) أي جمعت؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به.



الآية: 75 ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا )


قوله تعالى: « قل من كان في الضلالة » أي في الكفر « فليمدد له الرحمن مدا » أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره « إنما نملي لهم ليزدادوا إثما » [ آل عمران:178 ] وقوله: « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأنعام: 110 ] ومثله كثير؛ أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر؛ فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده؛ فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ؟؟ قوله « فليمدد » خبرا. « حتى إذا رأوا ما يوعدون » قال « رأوا » لأن لفظ « من » يصلح للواحد والجمع. و « إذا » مع الماضي بمعنى المستقبل؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. « فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا »

أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) .



الآية: 76 ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا )


قوله تعالى: « ويزيد الله الذين اهتدوا هدى » أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل ويحتمل ثالثا أي « ويزيد الله الذين اهتدوا » إلى الطاعة « هدى » إلى الجنة والمعنى متقارب وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الإيمان الهدي في « آل عمران » وغيرها « والباقيات الصالحات » تقدم. « خير عند ربك ثوابا » أي جزاء « وخير مردا » أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و ( المرد ) مصدر كالرد؛ أي وخير ردا على عاملها بالثواب؛ يقال هذا أرد عليك أي أنقع لك. وقيل « خير مردا » أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.



الآيات: 77 - 80 ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول ويأتينا فردا )


قوله تعالى: « أفرأيت الذي كفر بآياتنا » روى الأئمة واللفظ لمسلم عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال: قلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت؟ ! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش؛ فنزلت هذه الآية: « أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله » ويأتينا فردا « في رواية قال كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه خرجه البخاري أيضا وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص ما عندي اليوم ما أقضيك فقال خباب لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص يا خباب ما لك؟ ! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأنا اليوم على دين الإسلام مفارق لدينك، قال أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك في الجنة - استهزاء فوالله لئن كان ما تقول حقا إني لأقضيك فيها، فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى « أفرأيت الذي كفر بآياتنا » يعني العاص بن وائل الآيات » أطلع الغيب « قال ابن عباس: ( أنظر في اللوح المحفوظ ) ؟ ! وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ ! » أم اتخذ عند الرحمن عهدا « قال قتادة والثوري أي عملا صالحا وقيل هو التوحيد وقيل هو من الوعد وقال الكلبي عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة » كلا « رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قول » كلا « وقال الحسن إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة والأول أصح لأنه مدون في الصحاح وقرأ حمزة والكسائي » وولدا « بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم وقال الحرث بن حلزة: »

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر:

فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

والثاني: أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا قال الماوردي وفي قوله تعالى « لأوتين مالا وولدا » وجهان أحدهما أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته؛ قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفيه وجهان محتملان أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لأوتين مالا وولدا الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا.

قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الأحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق سمعت خباب بن الأرت يقول جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا عنده فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا حتى تموت ثم تبعث قال وإني لميت ثم مبعوث ؟! فقلت نعم فقال إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح


قوله تعالى: « أطلع الغيب » ألفه ألف استفهام لمجيء « أم » بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أأطلع فحذفت الألف الثانية لأنها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الألف فقالوا آطلع كما قالوا « الله خير » « آلذكرين حرم » قيل له كان الأصل في هذا « أألله » « أألذكرين » فأبدلوا من الألف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله « أطلع » لأن ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام أطلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ أستغفرت؟ بفتح الألف، وتقول في الخبر: إطلع، إفترى، إصطفى، إستغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر


قوله تعالى: « كلا » ليس في النصف الأول ذكر « كلا » وإنما جاء ذكره في النصف الثاني وهو يكون بمعنيين أحدهما بمعنى حقل والثاني بمعنى لا فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ « كلا » أي حقا وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على « كلا » جائز كما في هذه الآية لأن المعنى لا ليس الأم كذا ويجوز أن تقف عليه على قوله « عهدا » وتبتدئ « كلا » أي حقا « سنكتب ما يقول » وكذا قوله تعالى « لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا » [ المؤمنون: 100 ] يجوز الوقف على « كلا » وعلى « تركت » . وقوله « ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا » الوقف على « كلا » لأن المعنى لا وليس الأمر كما تظن « فاذهبا » فليس للحق في هذا المعنى موضع وقال الفراء « كلا » بمنزلة سوف لأنها صلة وهي حرف رد فكأنها « نعم » و « لا » في الاكتفاء قال وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة؛ لا تقف على كلا لأنه بمنزلة إي ورب الكعبة قال الله تعالى « كلا والقمر » [ المدثر: 32 ] فالوقف على « كلا » قبيح لأنه صلة لليمين وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في « كلا » مثل قول الفراء وقال الأخفش معنى كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الأنباري وسمعت أبا العباس يقول لا يوقف على « كلا » جميع القرآن لأنها جواب والفائدة تقع فيما بعدها والقول الأول هو قول أهل التفسير. « سنكتب ما يقول » أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة « ونمد له من العذاب مدا » أي سنزيده عذابا فوق عذاب « ونرثه ما يقول » أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد وقال ابن عباس وغيره ( نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه ) وقيل نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين « ويأتينا فردا » أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره



الآيتان: 81 - 82 ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا )



قوله تعالى: « واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا » يعني مشركي قريش و « عزا » معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي وظاهر الكلام أن « عزا » راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى ( كلا ) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال: « تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون » [ القصص:63 ] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة « ويكونون عليهم ضدا » أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك يكونون لهم أعداء ابن زيد يكون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و « كلا » هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا « سيكفرون بعبادتهم » وقرأ أبو نهيك « كلا سيكفرون » بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي « كلا » ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها التنبيه عليه « كلا إن الإنسان ليطغى » [ العلق: 6 ] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون ( كلا ) من قوله: « كلا سيكفرون بعبادتهم » مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة « ليكونوا لهم عزا » فيوقف على هذا على « عزا » وعلى « كلا » وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون « كلا سيكفرون بعبادتهم » يعني الآلهة.

قلت: فتحصل في « كلا » أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول وقال الكسائي « لا » تنفي فحسب و « كلا » تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل أكلت تمرا قلت كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله. « ليكونوا لهم عزا » والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته ثم قيل الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة وقيل فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.



الآيات: 83 - 87 ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا، فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا )



قوله تعالى: « ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين » أي سلطانهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس « واستفزز من استطعت منهم بصوتك » [ الإسراء: 64 ] . وقيل « أرسلنا » أي خلينا يقال أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا « تؤزهم أزا » قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية وعنه تغريهم إغراء بالشر أمض أمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد الضحاك تغويهم إغواء مجاهد تشليهم إشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها والأز التهييج والأغراء قال الله تعالى « ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا » أي تغريهم على المعاصي والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. « فلا تعجل عليهم » أي تطلب العذاب لهم. « إنما نعد لهم عدا » قال الكلبي: آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب وقال الضحاك الأنفاس ابن عباس: ( أين نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم ) وقيل الخطوات وقيل اللذات وقيل اللحظات وقيل الساعات وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما روي أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وقيل في هذا المعنى:

حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منك انتقصت به جزءا

يميتك ما يحيك في ليلة ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا

ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة والله أعلم فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.



قوله تعالى: « يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا » في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله « إني ذاهب إلى ربي سيهدين » [ الصافات: 99 ] وكما في الخبر ( من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) والوفد اسم للوافدين كما يقال صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته وفي التفسير « وفدا » أي ركبانا على نجائب طاعتهم وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر ابن جريج وفدا على النجائب وقال عمرو بن قيس الملائي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا « يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا » وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول هل تعرفني فيقول لا إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك وتلا « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » [ الأنعام: 31 ] ولا يصح من قبل إسناده قاله ابن العربي في « سراج المريدين » وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعنا وقال أيضا عن ابن عباس من كان يحب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال وقال أيضا عن علي رضي الله عنه ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه يا رسول الله! إني قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أما إنهم يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبون حتى يقرعوا باب الجنة ) ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا قال ( يا علي إذا كان المنصرف من ببن يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة « سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين » [ الزمر: 73 ]

قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا ) الحديث خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة « المؤمنين » إن شاء الله تعالى وتقدم في « آل عمران » من حديث عبدالله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا والله أعلم وقال أبو هريرة « وفدا » على الإبل ابن عباس ( ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها ) وقال علي ( ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت ) وقيل يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس والله أعلم وقيل إنما قال « وفدا » لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. « ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا » السوق الحث على السير، و « وردا » عطاشا قال ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن والأخفش والفراء وابن الأعرابي: حفاة مشاة وقيل: أفواجا وقال الأزهري أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان القشيري وقوله ( وردا ) يدل على العطش لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش وفي « التفسير » مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل « وردا » أي الورود كقولك جئتك إكراما لك أي لإكرامك أي نسوقهم لورود النار.

قلت ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفواجا قال ابن عرفة الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل والورد الماء الذي يورد وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء الورد الجزء [ من القرآن ] يقال قرأت وردي والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت فظاهرة لفظ مشترك وقال الشاعر يصف قليبا

يطمو إذا الورد عليه التكا

أي الوراد الذين يريدون الماء



قوله تعالى: « لا يملكون الشفاعة » أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن « من اتخذ عند الرحمن عهدا » يشفع فـ « من » في موضع نصب على هذا وقيل هو في موضع رفع على البدل من الواو في « يملكون » أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا. و « المجرمين » في قول « ونسوق الجرمين إلى جهنم وردا » الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فانهم يملكونها بأن يشفع فيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي ) خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله. « واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا » فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الأصنام لأحد، ولا شفاعة الأصنام لأحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين « وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين لا يملك أحدا شفاعة « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال: » من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه « [ البقرة:255 ] وهذا العهد هو الذي قال » أم اتخذ عند الرحمن عهدا « وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع وقال ابن عباس العهد لا إله إلا الله وقال مقاتل وابن عباس أيضا لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة [ إلا ] لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول لأصحابه ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا ) قيل يا رسول الله وما ذاك؟ قال ( يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك ( فلا تكلني إلى نفسي ) فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة ) .»



الآيات: 88 - 95 ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا )



قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى وحمزة والكسائي وعاصم وخلف: « ولدا » بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى: لأتين مالا وولدا « [ مريم: 77 ] وقد تقدم قوله وقوله: » أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا « . وفي سورة نوح » ماله وولده « [ نوح: 21 ] ووافقهم في » نوح « خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال: »

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا

وقال آخر

وليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

وقال في معنى ذلك النابغة:

مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد

ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحد قال الجوهري الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم ومن أمثال بني أسد ولدك من دمى عقبيك وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد النحاس وفرق أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب؛ كما قال:

مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر ما من مال ومن ولد

قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم.



قوله تعالى: « لقد جئتم شيئا إدا » أي منكرا عظيما؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الإد والإدة الداهية والأمر الفظيع ومنه قوله تعالى « لقد جئتم شيئا إدا » وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الإدة إدد. وأدت فلانا داهية تؤده أدا ( بالفتح ) . والإد أيضا الشدة. [ والأد الغلبة والقوة ] قال الراجز:

نضون عني شدة وأدا من بعد ما كنت صملا جلدا

انتهى كلامه. وقرأ أبو عبدالله وأبو عبدالرحمن السلمي « أدا » بفتح الهمزة النحاس يقال أد يؤد أدا فهو آد والاسم الإد؛ إذا جاء بشيء عظيم منكر وقال الراجز

قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا

عن غير النحاس الثعلبي وفيه ثلاث لغات « إدا » بالكسر وهي قراءة العامة « وأدا » بالفتح وهى قراءة السلمي و « آد » مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية؛ وكأنها مأخوذة من الثقل [ يقال ] : آده الحمل يؤوده أودا أثقله.



قوله تعالى: « تكاد السماوات » قراءة العامة هنا وفي « الشورى » بالتاء. وقراءة نافع ويحي والكسائي « يكاد » بالياء لتقدم الفعل. « يتفطرن منه » أي يتشققن وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم بتاء بعد الياء وشد الطاء من هنا وفي « الشورى » ووافقهم حمزة وابن عامر في « الشورى » وقرأ هنا « ينفطرن » من الانفطار وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد تعالى « إذا السماء انفطرت » [ الإنفطار:1 ] وقوله: « السماء منفطر به » [ المزمل:18 ] وقوله: « وتنشق الأرض » أي تتصدع « وتخر الجبال هدا » قال ابن عباس: ( هدما أي تسقط بصوت شديد ) وفي الحديث ( اللهم إني أعوذ بك من الهد والهدة ) قال شمر قال أحسد بن غياث المروزي الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال هدني الأمر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهوري الجوهري وهد البناء يهده هدا كسره وضعفه وهدته المصيبة أي أو هنت ركنه وانهد الجبل انكسر. الأصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده إني لغير هد أي غير ضعيف وقال ابن الأعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد:

ليسوا بهدين في الحروب إذا تعقد فوق الحراقف النطق

والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول هديه ( بالكسر ) هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديه النحاس « هدا » مصدر لأن معنى « تخر » تهد وقال غيره حال أي مهدودة: « أن دعوا للرحمن ولدا » « أن » في موضع نصب عند الفراء لأن دعوا ومن أن دعوا فموضع « أن » نصب بسقوط الخافض وزعم الفراء أن الكسائي قال هي في موضع خفض بتقدير الخافض وذكر ابن المبارك: حدثنا عن واصل عن عون بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال نعم سربه ثم قرأ عبدالله « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » الآية قال أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟! قال وحدثني عوف عن غالب بن عجرد قال حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم « اتخذ الرحمن ولدا » فلما قالوها اقشعر الأرض وشاك الشجر وقال ابن عباس اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك وقال ابن عباس أيضا وكعب فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا « اتخذ الله ولدا » وقال محمد بن كعب لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى « تكاد لسموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا » قال ابن العربي وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون



قوله تعالى: « وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا » نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في « البقرة » أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد وأصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس قال

في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة ما ينبغي دونها سهل ولا جبل

« إن كل من في السماوات والأرض » « إن » نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال « و كل أتوه داخرين » [ النمل: 87 ] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا و « آتي » بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف.



وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح ( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) أخرجه مسلم فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.



ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قول عليه الصلاة والسلام ( من أعتق شركا له في عبد ) أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لأن لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى « إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا » فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبد قطعا، وتمسك إسحاق بأنه حكى عبدة في المؤنث



روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تبارك وتعالى كذبني بن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقول ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقول اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد ) وقد تقدم في « البقرة » وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.



قوله تعالى: « لقد أحصاهم » أي علم عددهم « وعدهم عدا » تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم.

قلت ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي. واشتقاق هذا الفعل يدل عليه وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في رقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال « ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير » ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى « لقد أحصاهم وعدهم عدا » يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية.



قوله تعالى: « وكلهم آتيه يوم القيامة فردا » أي واحدا لانا صر له ولا مال معه ينفعه كما قال تعالى « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم » فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال « وكلهم آتيه » على لفظ وعلى المعنى آتوه وقال القشيري وفيه إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم الأصنام الله وقال « فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم » [ الأنعام: 136 ] .



الآيات: 96 - 98 ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )


قوله تعالى « إن الذين آمنوا » أي صدقوا « وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا » أي حبا في قلوب عباده كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى « سيجعل لهم الرحمن ودا » وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض ) قال هذا حديث حسن صحيح وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين ثم تلا « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا »

واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ( قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة ) فنزلت الآية ذكره الثعلبي وقال ابن عباس نزلت في عبدالرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه وكان هرم بن حيان يقول ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة

قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحب جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام وقال إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض )



قوله تعالى: « فإنما يسرناه بلسانك » أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. « لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا » اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى « ألد الخصام » وقال الشاعر

أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا

وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحسن اللد الصم عن الحق قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شديدا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد وخصوا بإنذار لأن الذي لا عناد عنده يسهل انقياده


قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. « هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا » في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد « أو تسمع لهم ركزا » أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم وقيل حسا قال ابن زيد وقيل الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:

وتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض وقال طرفة

وصادقتا سمع التوجس للسري خفي أو لصوت مندد

وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:

إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع والندس الحاذق يقال ندس وندس كما يقال حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء مارس 12, 2013 11:34 pm

تفسير القرطبى لسورة طه
==========


مقدمة السورة

سورة طه مكية في قول الجميع نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرؤون « طه » فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ « طه » وذكره ابن إسحاق مطولا فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم بن عبدالله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ !أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال وأي أهل ببتي؟ قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما قال فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها « طه » يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض لبيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا فال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وأمنا بالله ورسول فاصنع ما بدا لك ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لها لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها « طه » فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول ( اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو الخطاب ) فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث.

مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ( إن الله تبارك وتعالى قرأ « طه » و « يس » قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا ) قال ابن فورك قوله ( إن الله تبارك وتعالى قرأ « طه » و « يس » ) أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقرأته أسماعه وأفهامه قرأته يخلقها وكتابة يحدثها وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله « فاقرؤوا ما تيسر من القرآن » « فاقرؤوا ما تيسر منه » ومن أصحابنا من قال معنى قوله قرأ ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول ذواقا بمعنى اختبرته ومنه قوله: « فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما يصنعون » أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذوقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لأن الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح قال ابن فورك وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخير لأن كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.



الآيات: 1 - 4 ( طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى )


قوله تعالى: « طه » اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه هو من الأسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي وقيل إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه وأنشد الطبري في ذلك فقال:

دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلا وقال عبدالله بن عمر يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب هو بلغة طيء وأنشد ليزيد بن المهلهل:

إن السفاهة طه من شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين

وكذلك قال الحسن معنى « طه » يا رجل وقال عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد وحكى الطبري أنه بالنبطية يا رجل وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:

إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين

وقال عكرمة أيضا هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمينية في عك وطيء وعكل أيضا وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لي عند ربي عشرة أسماء ) فذكر أن فيها « طه » و « يس » وقيل هو اسم للسورة ومفتاح لها وقيل إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسول بعلمه وقيل إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معي واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار وقال سعيد بن جبير الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي وقيل « طاء » يا طامع الشفاعة للأمة « هاء » يا هادي الخلق إلى الله وقيل الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين بيانه قوله تعالى « سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب » وقوله « وقذف في قلوبهم الرعب » وقيل الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هوان أهل النار في النار وقول سادس إن معنى « طه » طوبى لمن اهتدى قال مجاهد ومحمد بن الحنفية وقول سابع إن معنى « طه » طأ الأرض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري وذكر القاضي عياض في « الشفاء » أن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى « طه » يعني طأ الأرض يا محمد الزمخشري وعن الحسن « طه » وفسر بأنه أمر بالوطء وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ ألفا ] في ( يطأ ) فيمن قال:

... لا هناك المرتع

ثم بنى عليه هذا الأمر والهاء للسكت وقال مجاهد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام وقال مقاتل والضحاك فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى « طه » يقول: رجل « ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » أي لتتعب؛ على ما يأتي وعلى هذا القول إن « طه » ( طاها ) أي طأ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طأ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة وقرأت طائفة « طه » وأصله طأ بمعنى طأ الأرض فحذفت الهمزة أدخلت هاء السكت وقال زر بن حبيش قرأ رجل على عبدالله بن مسعود « طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » فقال له عبدالله « طه » فقال: يا أبا عبدالرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجله أو بقدميه فقال « طه » كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد الباقون بالتفخيم قال الثعلبي وهي كلها لغات صحيحة النحاس لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين إحداهما أنه ليس ههنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان.


قوله تعالى « ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى » وقرئ « ما نُزِّل عليك القرآن لتشقى » قال النحاس بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود وقال أبو جعفر وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء والشقاء يمد ويقصر وهو من ذوات الواو وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب قال الشاعر:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

فمعنى لتشقى « لتتعب » بفرط تأسفك وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى « فلعلك باخع نفسك على آثارهم » [ الكهف: 6 ] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة وروى أن أبا جهل لعنه الله تعالى والنضر بن الحرث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بان دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة


قوله تعالى: « إلا تذكرة لمن يخشى » قال أبو إسحاق الزجاج هو بدل من « تشقى » أي ما أنزلناه إلا تذكرة النحاس وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. « تنزيلا » مصدر أي نزلناه تنزيلا وقيل بدل من قوله « تذكرة » وقرأ أبو حيوة الشامي « تنزيل » بالرفع على معنى هذا تنزيل. « ممن خلق الأرض والسماوات العلا » أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقول كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله.



الآيات: 5 - 8 ( الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى )


قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » ويجوز النصب على المدح قال أبو إسحاق الخفض على البدل وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر « له ما في السماوات وما في الأرض » فلا يوقف على « استوى » وعلى البدل من المضمر في « خلق » فجوز الوقف على « استوى » وكذلك إذا خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على « العلا » وقد تقدم القول في معنى الاستواء في « الأعراف » والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما كون استواء المخلوقين وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة.


قوله تعالى: « له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى » يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة ابن عباس الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها « فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض » [ لقمان: 16 ] ؛ والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى إلا الله تعالى وقال وهب بن منبه على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرد لأحرقت جهنم كل من عليها قال وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق.


قوله تعالى: « وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى » قال ابن عباس السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسربه غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا « السر » ما أسر ابن آدم في نفسه « وأخفى » ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره « السر » ما أضمره في نفسه « وأخفى » منه ما لم يكن ولا أضمره أحد وقال ابن زيد « السر » من الخلائق « وأخفى » منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي « أخفى » ما ليس في سرا لإنسان في نفسه كما قال ابن عباس. « الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى » « الله » رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ أو على البدل من الضمير في « يعلم » وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال « الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى » وقد تقدم.



الآيتان: 9 - 10 ( وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى )


قوله تعالى: « وهل أتاك حديث موسى » قال أهل المعاني هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه؛ أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك؛ قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. « إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى » قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضي الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا، يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق « فقال لأهله امكثوا » أي أقيموا بمكانكم « إني آنست نارا » أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء؛ وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روي - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا، وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة « لأهله امكثوا » بضم الهاء، وكذا في « القصص » . قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت به يا رجل؛ فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: « امكثوا » ولم يقل أقيموا، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك « وآنست » أبصرت، قاله ابن العربي. ومنه قوله « فإن آنستم منهم رشدا » [ النساء: 6 ] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. « هدى » أي هاديا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء مارس 13, 2013 11:02 pm

تفسير القرطبى لسورة طه
==========



الآيتان: 11 - 12 ( فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى )


قوله تعالى: « فلما أتاها » يعني النار « نودي يا موسى » أي من الشجرة كما في سورة « القصص » أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي « يا موسى إني أنا ربك » .



قوله تعالى « فاخلع نعليك » روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج [ حميد - هو ابن علي الكوفي - ] منكر الحديث، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة؛ والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة « إني » بالكسر؛ أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد « أني » بفتح الألف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين؛ لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى؛ قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أم بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: ( إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك ) قال: فخلعتهما. وقول خامسك إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لأن الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه؛ كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم ( قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) [ المدثر: 2 - 3 - 4 - 5 ] والله أعلم بالمراد من ذلك.



في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبدالله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى؛ فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبدالله: تقدم أنت دارك. فتقدم وخلع نعليه؛ فقال عبدالله: أبا الوادي المقدس أنت؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين؟ قال نعم. ورواه النسائي عن عبدالله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما حملكم على إلقائكم نعالكم ) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك ( إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا ) وقال: ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) . صححه أبو محمد عبدالحق. وهو بجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: « خذوا زينتكم عند كل مسجد » [ الأعراف: 31 ] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.

فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك؛ فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه ) قال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذيهما مسلما. وما رواه عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.

فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل؛ لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة « النحل » ومضى في سورة « براءة » القول في إزالة النجاسة والحمد لله.



قوله تعالى: « إنك بالوادي المقدس طوى » المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة؛ سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض؛ كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين؛ فقد شاركه في ذلك غيره. و ( طوي ) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي. وقرأ عكرمة « طوى » . الباقون « طوى » . قال الجوهري: « طوى » اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم: « طوى » مثل « طوى » وهو الشيء المثني، وقالوا في قوله « المقدس طوى » : طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له « طوى » لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي؛ فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: ( إنك بالواد المقدس ) الذي طويته طوى؛ أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين؛ فهو مصدر من طويته طوى أيضا.



الآيتان: 13 - 14 ( وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري )


قوله تعالى: « وأنا اخترتك » أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي « وأنا اخترتك » . وقرأ حمزة « وأنَّا اخترناك » . والمعنى واحد إلا أن « وأنا اخترتك » ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام؛ لقوله عز وجل: « يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك » وعلى هذا النسق جرت المخاطبة؛ قاله النحاس.



قوله تعالى: « فاستمع لما يوحى » فيه مسألة واحدة: قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: « استمع لما يوحى » وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شمال، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا.

قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: « الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله » [ الزمر: 18 ] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: « نحن أعلم بما يستمعون به » الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: « وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون » [ الأعراف: 204 ] وقال ها هنا: « فاستمع لما يوحى » لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى؛ وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع

اختلف في تأويل قوله: « لذكري » فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى؛ أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه؛ وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمي الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: « فاسعوا إلى ذكر الله » [ الجمعة: 9 ] . وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر ( فليصلها إذا ذكرها ) . أي لا تسقط الصلاة بالنسيان.


روى مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول ( أقم الصلاة لذكري ) ) . وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأول الذي روى عنه يزيد بن زريع - قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: ( كفارتها أن يصليها إذا ذكرها ) تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة وروى الدارقطني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها ) فقوله: ( فليصلها إذا ذكرها ) دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لأنه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء.

قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال « أقم الصلاة لدلوك الشمس » الآية وغيرها من الآي. أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص؛ وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قول عليه الصلاة والسلام: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء؛ لأن القضاء بأمر متجدد وليس بالأمر الأول.



فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبدالرحمن الأشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم؛ فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: « أقيموا الصلاة » [ الأنعام: 72 ] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا قوله فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: ( من نام عن صلاة أو نسيها ) والنسيان الترك؛ قال الله تعالى: « نسوا الله فنسيهم » [ التوبة: 67 ] و « نسوا الله فأنساهم أنفسهم » [ الحشر: 19 ] سواء كان مع ذهول أو لم يكن؛ لأن الله تعالى لا ينسى وإنما معناه تركهم و « ما ننسخ من آية أو ننسها » [ البقرة: 106 ] أي نتركها وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى: « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي » وهو تعالى لا ينسى وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: ( إذا ذكرها ) أي علمها وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الإبراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روي عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالإشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ؛ كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، أو إتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه ) وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ؛ وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم؛ والحمد لله تعالى.


قوله عليه الصلاة والسلام ( من نام عن صلاة أو نسيها ) الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ) والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: ( وعن الصبي حتى يحتلم ) وإن كان ذلك جاء في أثر واحد؛ فقف على هذا الأصل.

اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث؛ إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روي عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا ذكر أحدكم صلاة في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي ) وعمر بن أبي عمر مجهول.

قلت وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبدالله أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فوالله إن صليتها ) فنزلنا البطحان فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الأشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء، وبهذا استدل العلماء على أن من فاتته صلاة، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني: يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث: يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب.

وجه الأول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة؛ قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير؛ فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الأربع فدون لحديث جابر؛ ولم يختلف المذهب أن الست كثير.


وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة؛ فإن كان وراء الإمام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به، يتمادى مع الإمام حتى يكمل صلاته. والأصل في هذا ما رواه مالك والدارقطني عن ابن عمر قال: ( إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام ) لفظ الدارقطني؛ وقال موسى بن هارون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد [ به ] ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا؛ فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الإمام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات؛ على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشي خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتيه، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك؛ لأن قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى.


روى مسلم عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: ( أمالكم في أسوة ) ثم قال: ( أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها ) وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتي؛ ويعضد هذا الظاهر ما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: ( فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها ) .

قلت وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة؛ لما رواه الدارقطني عن عمران بن حصين فال: سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة - أو قال في سرية فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة؛ فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم ) . وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقول عليه السلام: ( أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم ) ولأن الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شيء، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه.

قلت: ذكر الكيا الطبري في « أحكام القرآن » له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل؛ فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ.



الآيتان: 15 - 16 ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى )


قوله تعالى: « إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى » آية مشكلة؛ فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ « أكاد أخفيها » بفتح الهمزة؛ قال: أظهرها. « لتجزى » أي الإظهار للجزاء؛ رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد بن جبير وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد؛ حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي؛ ح - وحدثنا عبدالله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس؛ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: أنه قرأ « أكاد أخفيها » بضم الهمزة.

قلت: وأما قراءة ابن جبير « أخفيها » بفتح الهمزة بالإسناد المذكور فقال أبو بكر الأنباري قال الفراء معناه أظهرها من خفيت الشيء أخفيه إذا أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

أراد لا نظهره؟ وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون « أخفيها » بضم الهمزة معناه أظهرها لأنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته إذا أظهرته؛ فأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد النحاس: وهذا حسن؛ وقد حكاه عن أبي الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه؛ وقد روى عنه سيبويه وأنشد:

وإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال امرؤ القيس أيضا:

خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب

أي أظهرهن. وروى: « من سحاب مركب » بدل « من عشي مجلب » . وقال أبو بكر الأنباري وتفسير للآية آخر: « إن الساعة آتية أكاد » انقطع الكلام على « أكاد » وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء « أخفيها لتجزى كل نفس » قال ضابئ البرجمي:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله

أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن.

قلت: هذا الذي أختاره النحاس؛ وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفي الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف؛ قال: وقد رأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى « أخفيها » عدل إلى هذا القول، وقال معناه كمعنى « أخفيها » . قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و « أخفيها » قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، والمضمر أولى؛ ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها؛ ودل « آتية » على أتي بها؛ ثم قال: « أخفيها » على الابتداء. وهذا معنى صحيح؛ لأن الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة.

قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في « لتجزى » متعلقة بـ « أخفيها » . وقال أبو عليك هذا من باب السلب وليس من باب الأضداد، ومعنى « أخفيها » أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الأخفية [ وهي الأكسية ] والواحد خفاء بكسر الخاء [ ما تلف به ] القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداء ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الأخفش: أن « كاد » زائدة موكدة. قال: ومثله « إذا أخرج يده لم يكد يراها » [ النور: 40 ] لأن الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. وقال الشاعر:

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس

أراد فما يتنفس. وقال آخر:

وألا ألوم النفس فيما أصابني وألا أكاد بالذي نلت أنجح

معناه: وألا أنجح بالذي نلت؛ فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى « أكاد أخفيها » أي أقارب ذلك؛ لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته « فذبحوها وما كادوا يفعلون » [ البقرة: 71 ] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بـ « أكاد » . وقيل: معنى « أكاد أخفيها » أريد أخفيها. قال الأنباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي؛ وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهو محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شيء؛ قال معناه قطرب وغيره. وقال الشاعر:

أيام تصحبني هند وأخبرها ما أكتم النفس من حاجي وأسراري

فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف؛ ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي؛ وفي بعض المصاحف أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها.

قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي؛ أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي؛ ورواه طلحة بن عمر وعن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق « لتجزى » بقوله تعالى: ( وأقم الصلاة ) فيكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أقم الصلاة لتذكرني ( لتجزي كل نقس بما تسعى ) أي بسعيها ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) . والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: ( آتية ) أي إن الساعة آتية لتجزي. « فلا يصدنك عنها » أي لا يصرفنك عن الإيمان بها والتصديق لها « من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى » أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس مارس 14, 2013 11:05 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
=============



الآيتان: 17 - 18 ( وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى )


قوله تعالى: « وما تلك بيمينك » قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا؛ لأنه قال: ( فاستمع لما يوحى ) ولابد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في « ما » في قوله ( وما تلك ) فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت بـ « ـيمينك » أي ما التي بيمينك؟ وقال أيضا: « تلك » بمعنى هذه؛ ولو قال: ما ذلك لجاز؛ أي ما ذلك الشيء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي؛ ليثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحاق « عصي » على لغة هذيل؛ ومثله « يا بشرى » و « محيي » وقد تقدم. وقرأ الحسن « عصاي » بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة « وما أنتم بمصرخي » [ إبراهيم: 22 ] . وعن ابن أبي إسحاق سكون الياء.



في هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل؛ لأنه لما قال « وما تلك بيمينك يا موسى » ذكر معاني أربعة وهي إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا؛ والتوكؤ؛ والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. وفي الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) . وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال ( نعم ولك أجر ) . ومثله في الحديث كثير.


قوله تعالى: « أتوكأ عليها » أي أتحامل عليها في المشي والوقوف؛ ومنه الاتكاء « وأهش بها » « وأهش » أيضا؛ ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي، أي أخبط بها الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز:

أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأراك والبشام

يقال: هش على غنمه يهش الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي

فكبر للرؤيا وهاش فؤاده وبشر نفسا كان قبل يلومها

أي طرب. والأصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة « وأهس » بالسين غير معجمة؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف؛ فالهش بالإعجام خبط الشجر؛ والهس بغير إعجام زجر الغنم؛ ذكره الماوردي؛ وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة: « وأهس » بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم.



قوله تعالى: « ولي فيها مآرب أخرى » أي حوائج. واحدها مأربة ومأربة ومأربة. وقال: « أخرى » على صيغة الواحد؛ لأن مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع في توابع جمع ما لا يعقل الإفراد والكناية عنه بذلك؛ فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة؛ كقوله تعالى « ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها » [ الأعراف: 180 ] وكقولك « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] وقد تقدم هذا في « الأعراف » .



تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم.

وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال؛ سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوة إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب؛ وتنوب عن الرمح في الطعان؛ وعن السيف عند منازلة الأقران؛ ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى.

قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء؛ وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها؛ وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسم لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله؛ ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة. والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب - وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا - وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطاء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه.

قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم:

قد كنت أمشي على رجلين معتمدا فصرت أمشي على أخرى من الخشب

قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكؤون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام ( وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه: ( لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله ) رواه عبادة بن الصامت؛ خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( علق سوطك حيث يراه أهلك ) وقد تقدم هذا في « النساء » . ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار؛ كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض؟ قال إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر؛ فأخذه بعض الشعراء فقال:

حملت العصا لا الضعف أوجب حملها علي ولا أني تحنيت من كبر

ولكنني ألزمت نفسي حملها لأعلمها أن المقيم على سفر



الآيات: 19 - 23 ( قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى، لنريك من آياتنا الكبرى )


قوله تعالى: « قال ألقها يا موسى » لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا « فألقاها » موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة فـ « ولى مدبرا ولم يعقب » [ النمل: 10 ] . فقال الله له: « خذها ولا تخف » سنعيدها سيرتها الأولى « وذلك أنه » أوجس في نفسه خيفة « [ طه: 67 ] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الأولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضيء له الشعبتان بالليل كالشمع؛ وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الأرض فأثمرت تلك الثمرة. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم.»



قوله تعالى: « فإذا هي حية تسعى » النحاس: ويجوز « حية » يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف « حيه » بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه. وعن بعضهم: إنما خاف منه لأنه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه « لا تخف » بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. « سنعيدها سيرتها الأولى » سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل « واختار موسى قومه » [ الأعراف: 155 ] قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها.



قوله تعالى: « واضمم يدك إلى جناحك » يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل ويجوز الضم على الإتباع ويد أصلها يدي على فعل؛ يدل على ذلك أيد وتصغيرها يدية. والجناح العضد؛ قاله مجاهد. وقال: « إلى » بمعنى تحت. قطرب: « إلى جناحك » إلى جيبك؛ ومنه قول الراجز:

أضمه للصدر والجناح

وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل « إلى » بمعنى مع أي مع جناحك. « تخرج بيضاء من غير سوء » من غير برص نورا ساطعا، يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و « بيضاء » نصب على الحال، ولا ينصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لأن الهاء تفارق الاسم. و « من غير سوء » « من » صلة « بيضاء » كما تقول: ابيضت من غير سوء. « آية أخرى » سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي البصر. و « آية » منصوبة على البدل من بيضاء؛ قاله الأخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو نؤتيك؛ لأنه لما قال: « تخرج بيضاء من غير سوء » دل على أنه قد آتاه آية أخرى. « لنريك من آياتنا الكبرى » يريد العظمى. وكان حقه أن يقول الكبيرة وإنما قال « الكبرى » لوفاق رؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار؛ معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته.



الآيات: 24 - 35 ( اذهب إلى فرعون إنه طغى، قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا )



قوله تعالى: « اذهب إلى فرعون إنه طغى » لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و « طغى » معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. « قال رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي » طلب الإعانة لتبليغ الرسالة. ويقال إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن؛ فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؛ فأتاه ملك من خزان الريح فقال يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك: « رب اشرح لي صدري » أي وسعه ونوره بالإيمان والنبوة. « ويسر لي أمري » أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. « واحلل عقدة من لساني » يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الأشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت الرتة وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة؛ فقيل: زالت بدليل قوله « قد أوتيت سؤلك يا موسى » [ طه: 36 ] وقيل: لم تزل كلها؛ بدليل قوله حكاية عن فرعون: « ولا يكاد يبين » [ الزخرف: 52 ] . ولأنه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقي في لسانه شيء من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله « أوتيت سؤلك » [ طه: 36 ] وإنما قال فرعون: « ولا يكاد يبين » [ الزخرف: 52 ] لأنه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأنه لو كان ذلك لما قال فرعون: « ولا يكاد يبين » حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. « يفقهوا قولي » أي يعملون ما أقوله لهم ويفهموه. والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وأفقهتك الشيء ثم خص به الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم؛ قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالأكيل للمؤاكل؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ) . ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله ) رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال « هارون » وانتصب على البدل من قوله « وزيرا » . ويكون منصوبا بـ « اجعل » على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هارون أخي وزيرا. وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. « اشدد به أزري » أي ظهري والأزر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي؛ والأزر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى « فآزره فاستغلظ » [ الفتح: 29 ] وقال أبو طالب:

أليس أبونا هاشم شد أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

وقيل: الأزر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر:

شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه

وكان هارون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. « وأشركه في أمري » أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه؛ فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة « أخي اشدد » بوصل الألف « وأشركه » بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبدالله بن أبي إسحاق « أشد » بقطع الألف « وأشركه » أي أنا يا رب « في أمري » . قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: « أجعل لي وزيرا » وهذه القراءة شاذة بعيدة؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة؛ فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من « أخي » ابن كثير وأبو عمر. « كي نسبحك كثيرا » قيل: معنى « نسبحك » نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. « وكثيرا » نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا « ونذكرك كثيرا » . « إنك كنت بنا بصيرا » قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الأمور، فالمعنى؛ أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا كذلك يا رب.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة مارس 15, 2013 11:07 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
============



الآيات: 36 - 39 ( قال قد أوتيت سؤلك يا موسى، ولقد مننا عليك مرة أخرى، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني )


قوله تعالى: « قال قد أوتيت سؤلك يا موسى » لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة؛ فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: « ولقد مننا عليك مرة أخرى » أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله: « ذ أوحينا إلى أمك ما يوحى » قيل: « أوحينا » ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. « أن اقذفيه في التابوت » قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. « فاقذفيه في اليم » أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. « فاقذفيه » قال الفراء: « فاقذفيه في اليم » أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم » [ العنكبوت: 12 ] . « يأخذه عدو لي وعدو له » يعني فرعون؛ فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الأطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: « وألقيت عليك محبة مني » قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت في حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. « ولتصنع على عيني » قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [ القصص: 9 ] « قرة عين لي ولك » قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن فرعون قال نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق ) فقالت: هبه لي ولا تقتله؛ فوهبه لها. وقيل: « ولتصنع على عيني » أي تربى وتغذى على مرأى مني؛ قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة؛ يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى « ولتصنع على عيني » فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: « إذ تمشي أختك » على التقديم والتأخير فـ « إذ » ظرف « لتصنع » . وقيل: الواو في « ولتصنع » زائدة. وقرأ ابن القعقاع « ولتصنع » بإسكان اللام على الأمر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك « ولتصنع » بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئي وعلى عين مني. ذكره المهدوي.



الآيتان: 40 - 41 ( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى، واصطنعتك لنفسي )


قوله تعالى: « إذ تمشي أختك » العامل في « إذ تمشي » « ألقيت » أو « تصنع » . ويجوز أن يكون بدلا من « إذ أوحينا » وأخته اسمها مريم « فتقول هل أدلكم على من يكفله » وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا؛ فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس: فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: « فرجعناك إلى أمك » وفي مصحف أبي « فرددناك » « كي تقر عينها ولا تحزن » وروى عبدالحميد عن ابن عامر « كي تَقِر عينها » بكسر القاف. قال الجوهري: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في « مريم » . « ولا تحزن » أي على فقدك. « وقتلت نفسا » قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. « فنجيناك من الغم » أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. « وفتناك فتونا » أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في « النساء » .


قوله تعالى: « فلبثت سنين في أهل مدين » يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله: « ثم جئت على قدر يا موسى » قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل: « على قدر » على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر

قوله تعالى: « واصطنعتك لنفسي » قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل: « اصطنعتك » خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.



الآيات: 42 - 44 ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )


قوله تعالى: « اذهب أنت وأخوك بآياتي » قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. « ولا تنيا في ذكري » قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة؛ وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر:

فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر

والونى الضعف والفتور، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس:

مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل

ويقال: ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا يني كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة:

كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي

وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود « ولا تهنا في ذكري » وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.


قوله تعالى: « اذهبا » قال في أول الآية: « اذهب أنت وأخوك بآياتي » وقال هناك « اذهبا » فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون.


قوله تعالى: « فقولا له قولا لينا » دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: « فقولا له قولا لينا » وقال: « لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى » [ طه: 46 ] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه؛ وهذا واضح.

واختلف الناس في معنى قوله ( لينا ) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: ( أنزل أبا وهب ) فكناه. وقال لسعد: ( ألم تسمع ما يقول أبو حباب ) يعني عبدالله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين؛ على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى « فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى » [ النازعات: 18 - 19 ] . وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.

قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه؛ يقال: لان الشيء يلين لينا؛ وشيء لين ولين مخفف منه؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى « وقولوا للناس حسنا » [ البقرة: 83 ] . على ما تقدم في « البقرة » بيانه والحمد لله.


قوله تعالى: « لعله يتذكر أو يخشى » معناه: على رجائكما وطمعكما؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر؛ قال كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج: « لعل » لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل « لعل » ها هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هل يتذكر. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى؛ قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال: « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين » [ يونس: 90 ] ولكن لم ينفعه ذلك؛ قاله أبو بكر الوراق وغيره وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟ !. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل؛ بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.



الآية: 45 ( قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى )


قوله تعالى: « قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى » قال الضحاك: « يفرط » يعجل. قال: و « يطغى » يعتدي. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر؛ قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط وقراءة الجمهور « يفرط » بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط أمر أي بدر؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن « يفرط » بفتح الياء والراء؛ قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة « يفرط » بضم الياء وكسر الراء؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا؛ قال الراجز:

قد أفرط العلج علينا وعجل



الآية: 46 ( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى )


قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبدالله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له: « إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يرتقب قال رب نجني من القوم الظالمين » [ القصص: 20 - 21 ] وقال: « فأصبح في المدينة خائفا يترقب » [ القصص: 18 ] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: « فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى » [ طه: 67 - 68 ] .

قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة؛ وذلك في الله ورسوله؛ وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم [ عليه ] كاذب؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.


قوله تعالى: « إنني معكما » يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول: « أسمع وأرى » عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.



الآيتان: 47 - 48 ( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى، إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى )


قوله تعالى: « فأتياه فقولا إنا رسولا ربك » في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. « فأرسل معنا بني إسرائيل » أي خل عنهم. « ولا تعذبهم » أي بالسخرة والتعب في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد؛ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. « قد جئناك بآية من ربك » قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. « والسلام على من اتبع الهدى » قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. « إنا قد أوحي إلينا أن العذاب » يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. « على من كذب » أنبياء الله « وتولى » أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.



الآيتان: 49 - 50 ( قال فمن ربكما يا موسى، قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )


قوله تعالى: « قال فمن ربكما يا موسى » ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب؛ لأن الله تعالى قال: « أذهبا إلى فرعون » وقال: « اذهب أنت وأخوك » وقال: « فقولا له » فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: « فمن ربكما » أنه كان حاضرا مع موسى. « قال » موسى: « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه » أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا « وخلقه » أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به؛ على قول الضحاك على ما يأتي. « ثم هدى » قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شيء زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورة؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:

وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة الصورة؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع. وقيل: أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.

قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ « الذي أعطى كل شيء خلقه » بفتح اللام؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 16, 2013 11:12 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
============



الآيتان: 51 - 52 ( قال فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى )


قوله تعالى: « قال فما بال » البال الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة.


هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب؛ فقال: « علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي ) . وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: ( كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استعن بيمينك ) وأومأ إلى الخط وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قيدوا العلم بالكتابة ) . وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب؛ فروى أبو نصرة قال قيل لأبي سعيد: أنكتب حديثكم هذا؟ قال: لم تجعلونه قرآنا؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته.

قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: ( لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق ) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبدالله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والأحاديث؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم؛ قال الله تعالى « وكتبنا له في الألواح من كل شيء » [ الأعراف: 145 ] . وقال تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » [ الأنبياء: 105 ] . وقال تعالى: « واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة » [ الأعراف: 156 ] الآية. وقال تعالى: « وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر » [ القمر: 52 - 53 ] . « قال علمها عند ربي في كتاب » إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه والعمل به؛ فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه ) خرجه مسلم؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.


قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه؛ فقال لم تخفيه وتستره؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبدالله البلوى فقال:

مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفران

فهذا يليق بأثواب ذا وهذا يليق بثوب الحصانوذكر الماوردي أن عبدالله بن سليمان حكى؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران؛ وأنشد:

إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال



قوله تعالى: « لا يضل ربي ولا ينسى » اختلف في معناه على أقوال خمسة: الأول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله: « في كتاب » . وكذا قال الزجاج، وأن معنى « لا يضل » لا يهلك من قوله: « أئذا ضللنا في الأرض » [ السجدة: 10 ] . « ولا ينسى » شيئا؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني « لا يضل » لا يخطئ؛ قاله ابن عباس؛ أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث « لا يضل » لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة؛ يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال: ومعنى « لا يضل ربي ولا ينسى » أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى - أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها.

قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس: إن « لا يضل ربي ولا ينس » في موضع الصفة لـ « كتاب » أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل؛ أي غير ذاهب عنه.

« ولا ينسى » أي غير ناس له فهما نعتان لـ « كتاب » . وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على « كتاب » . تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه « لا يضل » بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد؛ يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ « لا يضل ربي » أي لا يضيع؛ هذا مذهب العرب.



الآيات: 53 - 55 ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )


قوله تعالى: « الذي جعل لكم الأرض مهادا » « الذي » في موضع نعت « لربي » أي لا يضل ربي الذي جعل ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو « الذي » . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون « مهدا » هنا وفي « الزخرف » بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون « مهادا » واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة « ألم نجعل الأرض مهادا » [ النبأ: 6 ] . النحاس: والجمع أولى لأن « مهدا » مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف؛ أي ذات مهد. المهدوي: ومن قرأ « مهدا » جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الأرض مهدا، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف؛ أي ذات مهد. ومن قرأ « مهادا » جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع « مهد » استعمل استعمال الأسماء فكسر. ومعنى « مهادا » أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. « وسلك لكم فيها سبلا » أي طرقا. نظيره « والله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا » [ نوح: 19 - 20 ] . وقال تعالى: « الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون » [ الزخرف: 10 ] « وأنزل من السماء ماء » وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى: « فأخرجنا به » وقيل: كله من كلام موسى. والمعنى « فأخرجنا به » أي بالحرث والمعالجة؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى « أزواجا » ضروبا وأشباها، أي أصنافا من النبات المختلفة الأزواج والألوان. وقال الأخفش التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى؛ فـ « شتى » يجوز أن يكون نعتا لأزواج، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و « شتى » مأخوذ من شت الشيء أي تفرق. يقال: أم شت أي متفرق. وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق؛ واستشت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا:

جاءت معا واطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا

وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاؤوا أشتاتا؛ أي متفرقين؛ واحدهم شت؛ قاله الجوهري.


قوله تعالى: « كلوا وارعوا أنعامكم » أمر إباحة. « وارعوا » من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية؛ أي أسامها وسحرها؛ لازم ومتعد. « إن في ذلك لآيات لأولي النهى » أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك؛ لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله « فمن ربكما يا موسى » . وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.


قوله تعالى: « منها خلقناكم » يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب؛ على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود وقد ذر عليه من تراب حفرته ) أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الأعلام من البصرة. وقد مضى. عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب؛ فذلك قوله تعالى « منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى » . وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيستفتحون فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل « اكتبوا لعبدي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى » فتعاد روحه في جسده ) وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب « التذكرة » وري من حديث علي رضي الله عنه؛ ذكره الثعلبي. ومعنى « وفيها نعيدكم » أي بعد الموت « ومنها نخرجكم » أي للبعث والحساب. « تارة أخرى » يرجع هذا إلى قوله: « منها خلقناكم » لا إلى « نعيدكم » . وهو كقولك اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى ؛ فالمعنى: من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد مارس 17, 2013 11:03 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
============



الآيات: 56 - 58 ( ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى، قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى )


قوله تعالى: « ولقد أريناه آياتنا كلها » أي المعجزات الدالة على نبوة موسى وقيل حجج الله الدالة على توحيده « فكذب وأبى » أي لم يؤمن وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا نظيره « وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا » [ النمل: 14 ] .

« قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى » لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر؛ والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والإيمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. « فلنأتينك بسحر مثله » أي لنعارضنك بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. « فاجعل بيننا وبينك موعدا » هو مصدر؛ أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد؛ كما قال تعالى: « وإن جهنم لموعدهم أجمعين » [ الحجر: 43 ] فالموعد ها هنا مكان. وقيل: الموعد اسم لزمان الوعد؛ كقوله تعالى: « إن موعدهم الصبح » [ هود: 81 ] فالمعنى: اجعل لنا يوما معلوما، أو مكانا معروفا. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر ولهذا قال: « لا نخلفه نحن ولا أنت » أي لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج « لا نخلفه » بالجزم جوابا لقوله « اجعل » ومن رفع فهو نعت لـ « موعد » والتقدير. موعدا غير مخلف. « مكانا سوى » قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة « سوى » بضم السين. الباقون بكسرها؛ وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو، وقد روي عن الحسن، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل: سوى هذا المكان؛ قال الكلبي. وقيل مكانا مستويا يتبين للناس ما بينا فيه؛ قال ابن زيد. ابن عباس: نصفا. مجاهد: منصفا؛ وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. قال النحاس: وأهل التفسير على أن معنى « سوى » نصف وعدل وهو قول حسن؛ قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل؛ يعني مكانا عدل؛ بين المكانين فيه النصفة؛ وأصله من قولك: جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها؛ ووسط كل شيء أعدله؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا » [ البقرة: 143 ] أي عدلا، وقال زهير:

أرونا خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء

وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين؛ وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي

وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش: « سوى » إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء؛ أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر:

وجدنا أبانا كان حل ببلدة

البيت. وقيل: « مكانا سوى » أي قصدا؛ وأنشد صاحب هذا القول:

لو تمنت حبيبتي ما عدتني أو تمنيت ما عدوت سواها

وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجمع وهم أسواء؛ وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب « مكانا » على المفعول الثاني لـ « جعل » . ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له؛ لأن الموعد قد وصف، والأسماء التي تعمل عمل الأفعال إذا وصفت أو صغرت لم يسغ أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني؛ لأن الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى: « إن موعدهم الصبح » [ هود: 81 ]



الآيات: 59 - 61 ( قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى، قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى )


قوله تعالى: « قال موعدكم يوم الزينة » واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه؛ قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها؛ وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز؛ ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون؛ وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص « يوم الزينة » بالنصب. ورويت عن أبي عمرو؛ أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. الباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. « وأن يحشر الناس ضحى » أي وجمع الناس؛ فـ « أن » في موضع رفع على قراءة « يوم » بالرفع. وعطف « وأن يحشر » يقوي قراءة الرفع؛ لأن « أن » لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج؛ لأن من قال أتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة؛ قاله النحاس. وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس؛ مقصورة تؤنث وتذكر؛ فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة؛ ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر؛ وهو ظرف غير متمكن مثل سحر؛ تقول: لقيته ضحا؛ وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وخص الضحا لأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروي عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما « وأن يحشر الناس ضحا » على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء « وأن تحشر الناس » والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا « وأن نحشر » بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم؛ ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، يكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر.


قوله تعالى: « فتولى فرعون فجمع كيده » أي حيله وسحره؛ والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. « ثم أتى » أي أتى الميعاد. « قال لهم موسى » أي قال لفرعون والسحرة « ويلكم » دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى الزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى « يا ويلنا من بعثنا » [ يس: 52 ] « لا تفتروا على الله كذبا » أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر. « فيسحتكم بعذاب » من عنده أي يستأصلكم بالإهلاك يقال فيه: سحت وأسحت بمعنى. وأصله من استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون « فيسحتكم » من أسحت، الباقون « فيسحتكم » من سحت وهذه لغة أهل الحجاز و [ الأولى لغة ] بن تميم. وانتصب على جواب النهي. وقال الفرزدق.

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف

الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. « وقد خاب من افترى » أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به.



الآيات: 62 - 64 ( فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى، قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى )


قوله تعالى: « فتنازعوا أمرهم بينهم » أي تشاوروا؛ يريد السحرة. « وأسروا النجوى » قال قتادة « قالوا » إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر؛ وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم « إن هذان لساحران » الآية قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه؛ قال الكلبي؛ دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى « ويلكم لا تفتروا على الله كذبا » [ طه: 61 ] : ما هذا بقول ساحر. و « النجوى » المنجاة يكون اسما ومصدرا؛ وقد تقدم.


قوله تعالى: « إن هذان لساحران » قرأ أبو عمرو « إن هذين لساحران » . ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه « إن هذان » بتخفيف « إن » « لساحران » وابن كثير يشدد نون « هذان » . وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرأ المدنيون والكوفيون « إن هذان » بتشديد « إن » « لساحران » فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ « إن هذان إلا ساحران » وقال الكسائي في قراءة عبدالله: « إن هذان ساحران » بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبي « إن هذان إلا ساحران » فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.

قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله أن اقرأ « إنَّ هذان » وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى « لكن الراسخون في العلم » ثم قال: « والمقيمين » وفي « المائدة » « إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون » [ المائدة: 69 ] و « إن هذان لساحران » فقالت: يا ابن أختي! هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيروه؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حرما. القول الأول من الأقوال الستة أنها لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى: « ولا أدراكم به » [ يونس: 16 ] على ما تقدم. وأنشد الفراء لرجل من بني أسد - قال: وما رأيت أفصح منه:

فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصما

ويقولونك كسرت يداه وركبت علاه؛ يديه وعليه؛ قال شاعرهم:

تزود منا بين أذناه ضربة دعته إلى هابي التراب عقيم

وقال آخر:

طاروا علاهن فطر علاها

أي عليهن وعليها.

وقال آخر:

إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها

أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما خملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضي علمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون « إن هذان » جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى « استحوذ عليهم الشيطان » [ المجادلة: 19 ] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك « إن هذان » ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها. القول الثاني أن يكون « إن » بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ « إن » بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن « إن » تأتي بمعنى أجل، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدثنا علي بن سليمان، قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالسلام النيسابوري، ثم لقيت عبدالله بن أحمد [ هذا ] فحدثني، قال حدثني عمير بن المتوكل، قال حدثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حرث بن عبدالمطلب، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: « إن الحمد لله نحمده ونستعينه » ثم يقول: « أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص » قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو « إن الحمد لله » بالنصب إلا أن العرب تجعل « إن » في معنى نعم كأنه أراد صلى الله عليه وسلم؛ نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:

قالوا غدرت فقلت إن وربما نال العلا وشفى الغليل الغادر

وقال عبدالله بن قيس الرقيات

بكر العواذل في الصبا ح يلمنني وألومنه

ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه

فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: « إن هذان ساحران » بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلبك

ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء

قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا اللام ينوي بها التقديم؛ كما قال:

خالي لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا

آخر:

أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من الشاة بعظم الرقبه

أي لخالي ولأم الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح: « هما » المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث قال الفراء أيضا: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت: « الذي » ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك القول الرابع قاله بعض الكوفيين قال الألف في « هذان » مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحاق النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب « إن » و « هذان » خبر « إن » و « ساحران » يرفعها « هما » المضمر [ والتقدير ] إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم « إن » و « هذان » رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء. القول السادس قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي؛ فقلت بقولك؛ فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال « هذا » في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحدة؛ فقال ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به؛ قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به؛ فتبسم.

قوله تعالى: « يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى » هذا من قول فرعون للسحرة؛ أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه؛ كما قال فرعون « إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد » [ غافر: 26 ] . ويقال فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب. وقيل: طريقة القوم أفضل القول؛ وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به؛ فالمعنى: ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم؛ استمالة لهم. أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الأماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الأنبياء. أيذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف. و « المثلى » تأنيث الأمثل؛ كما يقال الأفضل والفضلى. وأنث الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال. ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة. وقال الكسائي: « بطريقتكم » بسنتكم وسمتكم. و « المثلى » نعت كقولك امرأة كبرى. تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم.


قوله تعالى: « فأجمعوا كيدكم » الإجماع الإحكام والعزم على الشيء. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار « فأجمعوا » إلا أبا عمرو فإنه قرأ « فاجمعوا » بالوصل وفتح الميم. واحتج بقوله: « فجمع كيده ثم أتى » . قال النحاس وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لأنه احتج بـ « جمع » وقوله عز وجل: « فجمع كيده » قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده « فاجمعوا » ويقرب أن يكون بعده « فأجمعوا » أي اعزموا وجدوا؛ ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو « فاجمعوا » أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحاق. الثعلبي: القراءة بقطع الألف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشيء جمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشيء جعلته جميعا؛ قال أبو ذؤيب يصف حمرا:

فكأنها بالجزع بين نبايع وأولات ذي العرجاء نهب مجمع

أي مجموع. والثاني: أنه بمعنى العزم والإحكام؛ قال الشاعر:

يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع

أي محكم. « ثم ائتوا صفا » قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة؛ قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى؛ فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكي عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف؛ يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون؛ فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرئ « ثم ايتوا » بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. « وقد أفلح اليوم من استعلى » أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين مارس 18, 2013 11:10 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
=============



الآيتان: 65 - 66 ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )


قوله تعالى: « قالوا يا موسى » يريد السحرة. « إما أن تلقي » عصاك من يدك « وإما أن نكون أول من ألقى » تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. « قال بل ألقوا فإذا حبالهم » في الكلام حذف، أي فألقوا؛ دل عليه المعنى. وقرأ الحسن « وعصيهم » بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بني تميم « وعصيتم » وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي وقسي وقسي. « يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى » وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب « تخيل » بالتاء؛ وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الأرض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرئ « تخيل » بمعنى تتخيل وطريقه طريق « تخيل » ومن قرأ « يخيل » بالياء رده إلى الكيد. وقرئ « نخيل » بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل « أنها تسعى » فـ « أن » في موضع رفع؛ أي يخيل إليه سعيها؛ قال الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب؛ أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الأول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج ومن قرأ بالتاء جعل « أن » في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي، قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في « تخيل » وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و « تسعى » معناه تمشي.



الآيتان: 67 - 68 ( فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى )


قوله تعالى: « فأوجس في نفسه خيفة موسى » أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم: « ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب » التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاؤوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق بأولياء الله! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه « لا تخف إنك أنت الأعلى » أي الغالب في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة؛ للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وأصل « خيفة » خوفة الواو ياء لانكسار الخاء.



الآية: 69 ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى )


قوله تعالى: « وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا » ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها؛ أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها؛ فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و « تلقف » بالجزم جواب الأمر؛ كأنه قال: إن تلقه تتلقف؛ أي تأخذ وتبتلع. وقرأ السلمي وحفص « تلقف » ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث « تلقف » بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الأخذ بسرعة، يقال: لقفت الشيء « بالكسر » ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذف. واللقف « بالتحريك » سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. لقمت اللقمة « بالكسر » لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة وكذلك لهمه « بالكسر » إذا ابتلعه. « ما صنعوا » أي الذي صنعوه. وكذا « إنما صنعوا » أي إن الذي صنعوه « كيد سحر » بالرفع « سِحْر » بكسر السين وإسكان الحاء؛ وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكيد مضافا إلى السحر على الأتباع من غير تقدير حذف. والثاني: أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرأ الباقون « كيد » بالنصب بوقوع الصنع عليه و « ما » كافة ولا تضمر هاء « ساحر » بالإضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح « أن » على معنى لأن ما صنعوا كيد ساحر. « ولا يفلح الساحر حيث أتى » أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. وقد تقدم.



الآيتان: 70 - 71 ( فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى )



قوله تعالى: « فألقي السحرة سجدا » لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا؛ فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي؛ وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. « قالوا آمنا برب هارون وموسى » أي به؛ يقال: آمن له وآمن به؛ ومنه « فآمن له لوط » [ العنكبوت: 26 ] وفي الأعراف. « قال آمنتم له قبل أن آذن لكم » إنكار منه عليهم؛ أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. « إنه لكبيركم الذي علمكم السحر » أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. « فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل » أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل:

هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرأ ابن محيصن هنا وفي الأعراف « فلأقطعن » « ولأصلبنكم » بفتح الألف والتخفيف من قطع وصلب. « ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى » يعني أنا أم رب موسى.



الآيتان: 72 - 73 ( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى )



قوله تعالى: « قالوا » يعني السحرة « لن نؤثرك » أي لن نختارك « على ما جاءنا من البينات » قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلهذا قالوا « لن نؤثرك » . وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب، فقيل لها: غلب موسى وهارون؛ فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة فإن مضت على فولها فألقوها عليها؛ فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع؛ فقال: ما تخوفت؛ فقال: آمنت برب هارون وموسى. « والذي فطرنا » قيل: هو معطوف على « ما جاءنا من البينات » أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل: هو قسم أي والله لن نؤثرك. « فاقض ما أنت قاض » التقدير ما أنت قاضيه. وليست « ما » ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر؛ لأن تلك توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر. قال ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم؛ أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علة الساكنين. « إنما تقضي هذه الحياة الدنيا » أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و « ما » كافة لإن. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل « ما » بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت « هذه الحياة الدنيا » . « إنا آمنا بربنا » أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. « ليغفر لنا خطايانا » يريدون الشرك الذي كانوا عليه. « وما أكرهتنا عليه من السحر » « ما » في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى نافية؛ أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والأول أولى. المهدوي: وفيه بعد؛ لقولهم: « إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين » وليس هذا بقول مكرهين؛ ولأن الإكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون « ما » في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و « من السحر » على هذا القول والقول الأول يتعلق بـ « أكرهتنا » . وعلى أن « ما » نافية يتعلق بـ « خطايانا » . « والله خير وأبقى » أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف؛ قاله ابن عباس. وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا. وهو جواب قوله « ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى » وقيل: الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه.



الآيات: 74 - 76 ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى )



قوله تعالى: « إنه من يأت ربه مجرما » قيل هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن. ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر:

إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء

أراد إنه من يدخل؛ أي أن الأمر هذا؛ أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والأول أشبه؛ لقوله: « فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا » وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة « النساء » وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر:

ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى « من يأت ربه مجرما » من يأت موعد ربه. ومعنى « ومن يأته مؤمنا » أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. « قد عمل » أي وقد عمل « الصالحات » أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. « فأولئك لهم الدرجات العلا » أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله: « ومن يأته مؤمنا » على أن المراد بالمجرم المشرك.



قوله تعالى: « جنات عدن » بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الإقامة. « تجري من تحتها » أي من تحت غرفها وسررها « الأنهار » من الخمر والعسل واللبن والماء. « خالدين فيها » أي ماكثين دائمين. « وذلك جزاء من تزكى » أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون.

قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا؛ والله أعلم.



الآيات: 77 - 79 ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى )



قوله تعالى: « ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي » تقدم. « فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا »

أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. « لا تخاف دركا ولا تخشى » أي لحاقا من فرعون وجنوده. « ولا تخشى » قال ابن جريج قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى « لا تخاف دركا ولا تخشى » أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرأ حمزة « لا تخف » على أنه جواب الأمر. التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و « لا تخشى » مستأنف على تقدير: ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والألف مشبعة من فتحة؛ كقوله: « فأضلونا السبيلا » [ الأحزاب: 67 ] أو يكون على حد قول الشاعر:

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر:

هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وقال آخر

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

قال النحاس: وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر؛ وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا؛ لأن الياء والواو مخالفتان للألف؛ لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف؛ والقراءة الأولى أبين لأن بعده « ولا تخشى » مجمع عليه بلا جزم؛ وفيها ثلاث تقديرات: الأول أن يكون « لا تخاف » في موضع الحال من المخاطب، التقدير فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش. الثاني: أن يكون في موضع النعت للطريق؛ لأنه معطوف على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير لا تخاف فيه؛ فحذف الراجع من الصفة. والثالث: أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره وأنت لا تخاف



قوله تعالى: « فأتبعهم فرعون بجنوده » أي اتبعهم ومعه جنوده، وقرئ « فاتَّبعهم » بالتشديد فتكون الباء في « بجنوده » عدت الفعل إلى المفعول الثاني؛ لأن اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال: ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع « فأتبع » يتعدى إلى مفعولين: فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد. يقال: تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله: « بجنوده » في موضع الحال؛ كأنه قال: فأتبعهم سائقا جنوده. « فغشيهم من اليم ما غشيهم » أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر. « وأضل فرعون قومه وما هدى » أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة؛ لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه؛ لأن بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه اثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء « فكان كل فرق كالطود العظيم » أي الجبل الكبير؛ فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشكبي فصارت شبكات برى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، وكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل إن قوله: « وما هدى » تأكيد لإضلاله إياهم. وقيل هو جواب قول فرعون « ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد » [ غافر: 29 ] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس « وما هدى » أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه.



الآيات: 80 - 82 ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى، وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى )



قوله تعالى: « يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم » لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروا. « وواعدناكم جانب الطور الأيمن » « جانب » نصب على المفعول الثاني « لواعدنا » ولا يحسن أن ينتصب على الظرف؛ لأنه ظرف مكان غير مبهم. وإنما تتعدى الأفعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكي هذا أصل لا خلاف فيه؛ وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور؛ ثم حذف المضاف. قال النحاس: أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو « ووعدناكم » بغير ألف واختاره أبو عبيد؛ لأن الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. و « الأيمن » نصب؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ علي يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه. « ونزلنا عليكم المن والسلوى » أي في التيه وقد تقدم القول فيه. « كلوا من طيبات ما رزقناكم » أي من لذيذ الرزق. وقيل: إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. « ولا تطغوا فيه » أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا؛ لأن الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى؛ أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم. وقيل: أي ولا تستبدلوا بها شيئا أخر كما قال: « أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير » [ البقرة: 61 ] وقيل: لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليله؛ قال ابن عباس: فيتدود عليه ما ادخروه؛ ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا. « فيحل عليكم غضبي » أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله: « ولا تطغوا » . فيحل عليكم غضبى قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي « فيحُل » بضم الحاء. « ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى » قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي « ومن يحلل » بضم اللام الأولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى أبو عبيده وغيره: أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل. وكذا قال الفراء: الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب. والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى؛ لأنهم قد أجمعوا على قوله: « ويحل عليه عذاب مقيم » [ هود: 39 ] . وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه. « فقد هوى » قال الزجاج: فقد هلك؛ أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات. وذكر ابن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفي الأصبحي قال: إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه؛ قال الله تعالى: « سأرهقه صعودا » [ المدثر: 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى « ومن يحلل عليه فقد هوى » وذكر الحديث؛ وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » .



قوله تعالى: « وإني لغفار لمن تاب » أي من الشرك. « وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى » أي أقام علي إيمانه حتى مات عليه؛ قال سفيان الثوري وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: أي لم يشك في إيمانه؛ ذكره الماوردي والمهدوي. وقال سهل بن عبدالله التستري وابن عباس أيضا: أقام على السنة والجماعة؛ ذكره الثعلبي. وقال أنس: أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس. وقول خامس: أصاب العمل؛ قال ابن زيد؛ وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل؛ ذكر الأول المهدوي، والثاني الثعلبي. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن ثوابا وعليه عقابا؛ وقاله الفراء: وقول ثامن: « ثم اهتدى » في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ثابت البناني. والقول الأول أحسن هذه الأقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها. قال وكيع عن سفيان: كنا نسمع في قوله عز وجل: « وإني لغفار لمن تاب » أي من الشرك « وآمن » أي بعد الشرك « وعمل صالحا » صلى وصام « ثم اهتدى » مات على ذلك.



الآيتان: 83 - 84 ( وما أعجلك عن قومك يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى )



قوله تعالى: « وما أعجلك عن قومك يا موسى » أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل: عنى بالقوم جميع بني إسرائيل؛ فعلى هذا قيل: استخلف هارون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات فقوله: « قال هم أولاء على أثري » ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم. وقيل: لا بل كان أمر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده؛ فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى: « ما أعجلك عن قومك يا موسى » فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب وكنى عنه بقوله: « هم أولاء على أثري » وإنما سأله السبب الذي أعجله يقوله « ما » فأخبر عن مجيئهم بالأثر. « وعجلت إليك رب لترضى » فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: « وعجلت إليك رب لترضى » قال: شوقا. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك؛ رواه سفيان عن معسر عائشة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول: « إنه حديث عهد بربي » فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق؛ ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه: « طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق » . قال ابن عباس: كان الله عالما ولكن قال « وما أعجلك عن قومك » رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه: « هم أولاء على أثري » . قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون: « هم أولى » مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون « أولاء » ممدودة. وحكى الفراء « هم أولاء على أثري » وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس وهو كما قال: لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال؛ وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا؛ لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب « على إثري » بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. « وعجلت إليك رب لترضى » أ عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة؛ والعجلة خلاف البطء.



الآية: 85 ( قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري )



قوله تعالى: « قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك » أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. « وأضلهم السامري » أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها. وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل؛ ولهذا قال موسى: « إن هي إلا فتنتك » [ الأعراف: 155 ] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل: كان رجلا من القبط، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء مارس 19, 2013 11:04 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
=============



الآيات: 86 - 89 ( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا )


قوله تعالى: « فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا » حال وقد مضى في « الأعراف » . « قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا » وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه، في التوراة على لسان موسى؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله: « وإني لغفار لمن تاب وآمن » الآية. « أفطال عليكم العهد » أي أفنسيتم؛ كما قيل؛ والشيء قد ينسى لطول العهد. « أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم » « يحل » أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. « فأخلفتم موعدي » لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. « قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا » بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « بملكنا » بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف؛ كأنه قال: بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي « بملكنا » بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله: « قالوا » عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور: « ما أخلفنا موعدك بملكنا » وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف.


قوله تعالى: « ولكنا حملنا » بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلي القوم معهم وما حملوه كرها. « أوزارا » أي أثقالا « من زينة القوم » أي من حليهم؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة. « فقذفناها فكذلك ألقى السامري » أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها. وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. « فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار » قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس: لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون: يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل: خواره وصوته كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر؛ فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه؛ فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من دعوة هارون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم الحكماء. وقد تقدم. « فقالوا هذا إلهكم وإله موسى » أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه؛ إذا قالوا « اجعل لنا إلها كما لهم إله » . « الأعراف 138 » « فنسي » أي فضل موسى [ وذهب ] بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل معناه: فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل: الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل؛ قاله ابن العربي. « أفلا يرون » فقال الله تعالى محتجا عليهم: « أفلا يرون » أي يعتبرون ويتفكرون في « أنـ » ـه « لا يرجع إليهم قولا » أي لا يكلمهم. وقيل: لا يعود إلى الخوار والصوت. « ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا » فكيف يكون إلها؟ والذي يعبده موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع. « أن لا يرجع » تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت « أن » وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال

في فتية من سيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل

وقد يحذف مع التشديد؛ قال

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك.



الآيات: 90 - 93 ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن أفعصيت أمري )


قوله تعالى: « ولقد قال لهم هارون من قبل » أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم « يا قوم إنما فتنتم به » أي ابتليتم وأضللتم به؛ أي بالعجل. « وإن ربكم الرحمن » لا العجل. « فاتبعوني » في عبادته. « وأطيعوا أمري » لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و « قالوا لن نبرح عليه عاكفين » أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل. « حتى يرجع إلينا موسى » فينظر هل يعبده كما عبدناه؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و « قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا » أي أخطؤوا الطريق وكفروا. « ألا تتبعن » « لا » زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل: ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. « أفعصيت أمري » يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي؛ قال ابن عباس. وقيل: معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى: « أفعصيت أمري » قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه « وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا متبع سبيل المفسدين » [ الأعراف 142 ] ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.

مسألة: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد تقدم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه:

يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل

أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل

وفي مثل هذا نحوه. الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.



الآيات: 94 - 96 ( قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي )


قوله تعالى: « قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي » ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره؛ لأن الغيرة في الله ملكته؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة. وقد وقيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غيرا ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في « الأعراف » مستوفى. « إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل » أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لا تبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم؛ وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هارون لموسى السلام عن قوله « أفعصيت أمري » وفي الأعراف « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » [ الأعراف: 150 ] لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنى « ولم ترقب قولي » لم تعمل بوصيتي في حفظه؛ قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة: لم تنظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري فـ « قال فما خطبك يا سامري » أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم « قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة » [ الأعراف: 138 ] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. فـ « قال بصرت بما لم يبصروا به » « قال » السامري مجيبا لموسى « قال بصرت بما لم يبصروا به » بعني: رأيت ما لم يروا؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم؛ ودم فلما سألوك أن تجحل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضي الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام، إلى السماء، وأبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم. وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا من أن يقتله فرعون؛ فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في « الأعراف » . ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف « بما لم تبصروا » بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.



قوله تعالى: « فقبضت قبضة من أثر الرسول » وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة « فقبصت قبصة » بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من « قبصة » والصاد غير معجمة. الباقون: بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض؛ ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري « قبصة » بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر « القبضة » بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء؛ يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس؛ قال الكميت

لكم مسجدا الله المزوران والحصى لكم قبصه من بين أثرى وأقترى

« فنبذتها » أي طرحتها في العجل. « وكذلك سولت لي نفسي » أي زينته؛ قاله الأخفش. وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب.



الآيتان: 97 - 98 ( قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما )


قوله تعالى: « قال فاذهب » أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا « فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس » أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:

تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساسا

قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة؛ وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى: « فاذهب فإن في الحياة أن تقول لا مساس » خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه؛ كما قال الشاعر:

حمال رايات بها قناعسا حتى تقول الأزد لا مسابسا

مسألة: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده. وقال هارون القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه؛ فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحاق: لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث؛ تقول فعلت يا امرأة. قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء؛ فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين؛ كما تقول اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى امرأة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقول أحد. وقال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة « لا مساس » . « وإن لك موعدا لن تخلفه » يعني يوم القيامة. والموعد مصدر؛ أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « تخلفه » بكسر اللام وله معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلفا؛ كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودا. والثاني: على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. والباقون بفتح اللام؛ بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه.


قوله تعالى: « وانظر إلى إلهك الذي ظللت عليه عاكفا » أي دمت وأقمت عليه. « عاكفا » أي ملازما؛ وأصله ظللت؛ قال:

خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن أليه شوس

أي أحسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود « ظلت » بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت؛ فمن قال: ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا؛ ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. « لنحرقنه » قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي « لنحرقنه » بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه؛ قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبر حرقه وفي حرقه ابن مسعود « لنذبحنه ثم لنحرقنه » واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادا تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى « لننسفنه » لنطيرنه. وقر أبو رجاء « لننسفنه » بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام؛ وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه؛ يقال: اعزل النسافة وكل من الخالص. ويقال: أتانا فلان كأن لحيته منسف؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلأ ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته؛ عن أبي زيد. « إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما » لا العجل؛ أي وسع كل شيء علمه؛ يفعل الفعل عن العلم؛ ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة « وسع كل شيء علما » .



الآيات: 99 - 101 ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا )


قوله تعالى: « كذلك » الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر موسى « كذلك نقص عليك » قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق؛ ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. « وقد آتيناك من لدنا ذكرا » يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا؛ لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا؛ الذكر كان ينزل عليه. وقيل: « أتيناك من لدنا ذكرا » أي شرفا، كما قال تعالى « وإنه لذكر لك » [ الزخرف: 44 ] أي شرف وتنويه باسمك. « من أعرض عنه » أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه « فإنه يحمل يوم القيامة وزرا » أي إثما عظيما وحملا ثقيلا. « خالدين فيه » يريد مقيمين فيه؛ أي في جزائه وجزاؤه جهنم. « وساء لهم يوم القيامة حملا » يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة. وقرأ داود بن رفيع « فإنه يحمل » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء مارس 20, 2013 11:02 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
============



الآيات: 102 - 104 ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا، يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما )


قوله تعالى: « يوم ينفخ في الصور » قراءة العامة « ينفخ » بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله تعالى: « ونحشر المجرمين » بنون.

وعن ابن هرمز « ينفخ » بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. أبو عياض: « في الصُّوَرِ » . الباقون « في الصُّورِ » وقد تقدم. وقرأ طلحة بن مصرف « ويحشر » بضم الياء المجرمون رفعا بخلاف المصحف. والباقون « ونحشر المجرمين » أي المشركين. « يومئذ زرقا » حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء: « زرقا » أي عميا. وقال الأزهري: عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش؛ وقاله الزجاج؛ قال: لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل: إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال: ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس: إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف؛ قال الشاعر:

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر كما كل ضبي من اللؤم أزرق

يقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازرقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله: « ونحشر المجرمين يومئذ زرقا » وقال في موضع آخر: « ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما » [ الإسراء: 97 ] فقال: إن ليوم القيامة حالات؛ فحالة يكونون فيه زرقا، وحالة عميا. « يتخافتون بينهم » أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته. يتسارون؛ قاله مجاهد؛ أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرا. « إن لبثتم » أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل في القبور « إلا عشرا » يريد عشر ليال. وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة؛ يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة؛ ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا؛ عن قتادة؛ فالتقدير: إلا مثل يوم. وقيل: إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل: أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. « وعشرا » و « يوما » منصوبان بـ « لبثتم » .



الآيات: 105 - 107 ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا )


قوله تعالى: « ويسألونك عن الجبال » أي عن حال الجبال يوم القيامة. « فقل » جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن « قل » بغير فاء إلا هذا، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط وقد علم الله أنهم يسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال؛ فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد؛ فتفهمه. « ينسفها ربي نسفا » يطيرها. « نسفا » قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور. « فيذرها » أي يذر مواضعها « قاعا صفصفا » القاع الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء؛ قاله ابن الأعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوي من الأرض كأنه على صف واحد في استوائه؛ قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف؛ فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه

وكم دون بينك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها

و « قاعا » نصب على الحال والصفصف. و « لا ترى » في موضع الصفة. « فيها عوجا » قال ابن الأعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والأمت النبك. وقال أبو عمرو: الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك؛ أي هي أرض مستوية انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلأ فما به أمت، وملأت القربة ملئا لا أمت فيه؛ أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن عباس: « عوجا » ميلا. قال: والأمت الأثر مثل الشراك. عنه أيضا « عوجا » « ولا أمتا » رابية. وعنه أيضا: العوج [ الانخفاض ] والأمت الارتفاع. وقال قتادة: « عوجا » صدعا. « ولا أمتا » أي أكمة. وقال يمانك الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان؛ حكاه الصولي.

قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقي؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا « بالبراريق » واحدها « بروقة » ؛ تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الأعواد في مكان ندي؛ تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى.



الآيات: 108 - 110 ( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما )


قوله تعالى: « يومئذ يتبعون الداعي » يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور « لا عوج له » أي لا معدل لهم عنه؛ أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه. وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل: « لا عوج له » أي لدعائه. وقيل: يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له؛ فالمصدر مضمر؛ والمعنى: يتبعون صوت الداعي للمحشر؛ نظيره: « واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب » [ ق: 41 ] الآية. وسيأتي. « وخشعت الأصوات » أي ذلت وسكنت؛ عن ابن عباس قال: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. « للرحمن » أي من أجله. « فلا تسمع إلا همسا » الهمس الصوت الخفي؛ قاله مجاهد. عن ابن عباس: الحس الخفي. الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر؛ ومنه قول الراجز:

وهن يمشين بنا هميسا

يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. ويقال للأسد الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة؛ أي يطأ وطأ خفيا. قال رؤية يصف نفسه بالشدة:

ليث يدق الأسد الهموسا والأقهبين الفيل والجاموسا

وهمس الطعام؛ أي مضغه وفوه منضم؛ قال الراجز:

لقد رأيت عجبا مذ أمسا عجائزا مثل السعالي خمسا

يأكلن ما أصنع همسا همسا

وقيل: الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرأ أبي بن كعب « فلا ينطقون إلا همسا » . والمعنى متقارب؛ أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام. وبناء « هـ م س » أصله الخفاء كيفما تصرف؛ ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك: « حثه شخص فسكت » وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.


قوله تعالى: « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن » « من » في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول؛ أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن. « ورضي له قولا » أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل: المعنى، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي. قال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله.


قوله تعالى: « يعلم ما بين أيديهم » أي من أمر الساعة. « وما خلفهم » من أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب « وما خلفهم » ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل: الآية عامة في جميع الخلق. وقيل: المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله. « ولا يحيطون به علما » الهاء في « به » لله تعالى؛ أي أحد لا يحيط به علما؛ إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل: تعود على العلم؛ أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري الضمير في « أيديهم » و « خلقهم » و « يحيطون » يعود على الملائكة؛ أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها.



الآيتان: 111 - 112 ( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما )


قوله تعالى: « وعنت الوجوه » أي ذلت وخضعت؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه قيل للأسير عان. قال أمية بن أبي الصلت:

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقال أيضا:

وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا

قال الجوهري عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره؛ ومنه قوله تعالى: « وعنت الوجوه للحي القيوم » . ويقال أيضا: عنا فهم فلان أسيرا؛ أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الأسير. وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس: « عنت » ذلت. وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي « عنت » أي علمت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طلق بن حبيب: إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس: « وعنت الوجوه » في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس « وعنت الوجوه للحي القيوم » قال: الركوع والسجود؛ ومعنى « عنت » اللغة القهر والغلبة؛ ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة؛ قال الشاعر:

فما أخذوها عنوة عن مودة ولكن ضرب المشرفي استقالها

وقيل: هو من العناء بمعنى التعب؛ وكنى عن الناس بالوجوه؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه. « للحي القيوم » وفي القيوم ثلاث تأويلات؛ أحدهما: أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني: أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث: أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في « البقرة » . « وقد خاب من حمل ظلما » أي خسر من حمل شركا.


قوله تعالى: « ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن » لأن العمل لا يقبل من غير إيمان.

و « من » في قوله « من الصالحات » للتبعيض؛ أي شيئا من الصالحات. وقيل للجنس. « فلا يخاف » قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيص « يخف » بالجزم جوابا لقوله: « ومن يعمل » . الباقون « يخاف » رفعا على الخبر؛ أي فهو لا يخاف؛ أو فإنه لا يخاف. « ظلما » أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. « ولا هضما » بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر؛ يقال: هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذ يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه؛ قال المتوكل الليثي:

إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم

قال الجوهري ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه.


الآيتان: 113 - 114 ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما )


قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا » أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان فكذلك جعلناه « قرآنا عربيا » أي بلغة العرب. « وصرفنا فيه من الوعيد » أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. « لعلهم يتقون » أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه. « أو يحدث لهم ذكرا » أي موعظة. وقال قتادة: حذرا وورعا. وقيل: شرفا؛ فالذكر ها هنا بمعنى الشرف؛ كقول: « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف 44 ] . وقيل: أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به. وقرأ الحسن « أو نحدث » بالنون؛ وروي عنه رفع الثاء وجزمها.


قوله تعالى: « فتعالى الله الملك الحق » لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال: « فتعالى الله » أي جل الله الملك الحق؛ أي ذو الحق. « ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه » علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل « ولا تعجل بالقرآن » وهذا كقوله: « لا تحرك به لسانك لتعجل به » [ القيامة: 16 ] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله قبل أن تتبينه. وقيل: « ولا تعجل » أي لا تسل إنزاله « من قبل أن يقضى » أي يأتيك « وحيه » . وقيل: المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. « وقل رب زدني علما » قال الحسن: نزلت في رجل لطم وجه امرأته؛ فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل « الرجال قوامون على النساء » [ النساء 34 ] ولهذا قال: « وقل رب زدني علما » أي فهما؛ لأنه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرأ ابن مسعود وغيره « من قبل أن نقضي » بالنون وكسر الضاد « وحيَه » بالنصب.



الآية: 115 ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما )


قوله تعالى: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » قرأ الأعمش باختلاف عنه « فنسي » بإسكان الياء وله معنيان أحدهما: ترك؛ أي ترك الأمر والعهد؛ وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه « نسوا الله فنسيهم » . [ التوبة 67 ] . و [ وثانيهما ] قال ابن عباس « نسي » هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الإنسان منه لأنه عهد إليه فنسي. قال ابن زيد: نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى « من قبل » أي من قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم؛ أي إن نقض هؤلاء العهد فان آدم أيضا عهدنا إليه فنسي؛ حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي، ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب؛ ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ والعهد ها هنا معنى الوصية؛ « ونسي » معناه ترك؛ ونسيان الذهول لا يمكن هنا؛ لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي على المعتقد في أي شيء كان؛ وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله: « ولم نجد له عزما » فقال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة على التزام الأمر. قال النحاس وكذلك هو في اللغة؛ يقال: لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها، ومنه « فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل » [ الأحقاف: 35 ] . وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي: حفظا لما أمر به؛ أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال؛ وذلك أن إبليس قال له: أي إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد: « عزما » محافظة على أمر الله. وقال الضحاك: عزيمة أمر. ابن كيسان: إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري: والأول أقرب إلى تأويل الكلام؛ ولهذا قال قومك آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل؛ لأن الله تعالى قال: « ولم نجد له عزما » . وقال المعظم: كان الرسل أولو العزم، وفي الخبر « ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا » فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولي العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى. وقد قال أبو أمامة: أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم؛ وقد قال الله تبارك وتعالى: « ولم نجد له عزما »



الآيات: 116 - 119 ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )


قوله تعالى: « وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى » تقدم. « فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما » نهي؛ ومجازه: لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما « من الجنة » « فتشقى » يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد؛ وليقل: فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الإخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله « إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى » أي في الجنة « وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى » فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن؛ وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس؛ لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج؛ فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن؛ فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها؛ فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها؛ لأن بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقول: « فتشقى » شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل: لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة؛ فقال يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب؛ فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال: يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا.


قوله تعالى: « إن لك ألا تجوع فيها » أي في الجنة « ولا تعرى » . « وأنك لا تظمأ فيها » أي لا تعطش. والظمأ العطش. « ولا تضحى » أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت « بالكسر » ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت « بالفتح » مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا؛ قال عمر بن أبي ربيعة

رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر

في الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي: إنما هو أضح لمن أحرمت له؛ بكسر الألف وفتح الحاء من ضحيت أضحى؛ لأنه أمره بالبروز للشمس؛ ومنه قوله تعالى: « وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى » وأنشد:

ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه « وأنك » بفتح الهمزة عطفا على « ألا تجوع » . ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على « إن لك » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس مارس 21, 2013 11:14 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة طه
============



الآيات: 120 - 122 ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى )


قوله تعالى: « فوسوس إليه الشيطان » تقدم. « قال » يعني الشيطان « يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى » وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في « البقرة » . « فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة » تقدم.

وقال الفراء: « وطفقا » في العربية أقبلا؛ قال وقيل: جعل يلصقان عليهما ورق التين.


قوله تعالى: « وعصى » تقدم في « البقرة » في ذنوب الأنبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم؛ صلوات الله عليه وسلامه.


قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد منها اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له.

قلت: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » [ المائدة 64 ] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه.


روى الأئمة واللفظ [ المسلم ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى أصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى: أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا » قال المهلب قوله: « فحج آدم موسى » أي غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له، ولذلك قال آدم: أنت موسى الذي أتاك الله التوراة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فر يوم أحد؛ فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: « ولقد عفا الله عنهم » [ آل عمران 155 ] وقد قيل: إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين: « وصاحبهما في الدنيا معروفا » [ لقمان 5 1 ] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال ل أبوه وهو كافر: « لئن لم تنته لأرجمنك اهجرني مليا. قال سلام عليك » [ مريم: 46 ] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى.

وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك؛ والأمة مجمعة حلى جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه.


قوله تعالى: « فغوى » أي ففسد عليه عيشه، حكاه النقاش واختاره القشيري. وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقولك « فغوى » ففسد عيشه بنزول إلى الدنيا، والغي الفساد؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول: « فغوى » معناه ضل؛ من الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل معناه جهل موضع رشده؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها؛ والغي الجهل. وعن بعضهم « فغوى » فبشم من كثرة الأكل؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا؛ فيقول في فني وبقي وهم بنو طي تفسير خبيث.

قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال: عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو، كما أن من خاط مرة يقال له: خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل: يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر، أو الأولى، أو قبل النبوة.

قلت: هذا حسن. قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى: كان هذا من آدم قبل النبوة، « ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى » فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس والله أعلم.



الآيات: 123 - 127 ( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى )


قوله تعالى: « قال اهبطا منها جميعا » خطاب آدم وإبليس. « منها » أي من الجنة. وقد قال لإبليس: « أخرج منها مذؤوما مدحورا » [ الأعراف 18 ] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أهبط إلى الأرض. « بعضكم لبعض عدو » أي أنت عدو للحية ولإبليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قول « اهبطا » ليس خطابا لآدم وحواء؛ لأنهما ما كانا متعاديين؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. « فإما يأتينكم مني هدى » أي رشدا وقولا حقا. « فمن اتبع هداي » يعني الرسل والكتب. « فلا يضل ولا يشقى » قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية. من قرأ واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. « ومن أعرض عن ذكري » أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول؛ لأنه كان منه الذكر. « فإن له معيشة ضنكا » أي عيشا ضيقا؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمؤنث والجمع؛ قال عنترة:

إن يلحقوا أكرر وإن يستحلوا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل

وقال أيضا:

إن المنية لو مثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وقرئ « ضنكى » على وزن فعلى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا؛ كما قال الله تعالى: « فلنحيينه حياة طيبة » [ النحل 97 ] . والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح، الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة: « ضنكا » كسبا حراما. الحسن: طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبدالله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » ؛ قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك. « ونحشره يوم القيامة أعمى » قيل: أعمى في حال وبصيرا في حال؛ وقد تقدم في آخر « سبحان » [ الإسراء 1 ] وقيل: أعمى عن الحجة؛ قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشيء منها. وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. « قال رب لم حشرتني أعمى » أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. « وقد كنت بصيرا » أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد: أي « لم حشرتني أعمى » عن حجتي « وقد كنت بصيرا » أي عالما بحجتي؛ القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. « قال كذلك أتتك آياتنا » أي قال الله تعالى له « كذلك أتتك آياتنا » أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. « فنسيتها » أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. « وكذلك اليوم تنسى » أي تترك في العذاب؛ يريد جهنم. « وكذلك نجزي من أسرف » أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. « ولم يؤمن بآيات ربه » أي لم يصدق بها. « ولعذاب الآخرة أشد » أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر. « وأبقى » أي أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.



الآيات: 128 - 130 ( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى، ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى، فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى )


قوله تعالى: « أفلم يهد لهم » يريد أهل مكة؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاويه؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما « نهد لهم » بالنون وهي أبين. و « يهد » بالياء مشكل لأجل الفاعل؛ فقال الكوفيون « كم » الفاعل؛ النحاس: وهذا خطأ لأن « كم » استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج المعنى أو لم يهد لهم الأم بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة « يهد » على الهدى؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج: « كم » في موضع نصب « أهلكنا » .


قوله تعالى: « ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما » فيه تقديم وتأخير؛ أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما؛ قاله قتادة. واللزام الملازمة؛ أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. « وأجل مسمى » قال الزجاج: عطف على « كلمة » . قتادة: والمراد القيامة؛ وقاله القتبي. وقيل تأخيرهم إلى يوم بدر.


قوله تعالى: « فاصبر على ما يقولون » أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر؛ إنه كاهن؛ إنه كذاب؛ إلى غير ذلك. والمعنى لا تحفل بهم؛ فان لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا؛ إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم. « وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس » قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس « قبل طلوع الشمس » صلاة الصبح « وقبل غروبها » صلاة العصر « ومن آناء الليل فسبح » العتمة « وأطراف النهار » المغرب والظهر؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وأول طرف النهار الآخر؛ فهي في طرفين منه؛ والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان؛ فعند الزوال طرفان؛ الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر؛ فقال عن الطرفين أطرافا على نحو « فقد صغت قلوبكما » [ التحريم: 4 ] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و « آناء الليل » ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع؛ قاله الحسن. « لعلك ترضى » بفتح التاء؛ أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم « تُرضى » بضم التاء؛ أي لعلك تعطى ما يرضيك.



الآيتان: 131 - 132 ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى )


قوله تعالى: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به » وقد تقدم. « أزواجا » مفعول بـ « متعنا » . و « زهرة » نصب على الحال. وقال الزجاج: « زهرة » منصوبة بمعنى « متعنا » لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة؛ أو بفعل مضمر وهو « جعلنا » أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا؛ عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في « به » على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال؛ والعامل فيه « متعنا » قال: كما تقول مررت به المسكين؛ وقدره: متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن على المصدر مثل « صنع الله » و « وعد الله » وفيه نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة؛ كما قرئ « ولا الليل سابق النهار » بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون « الحياة » مخفوضة على البدل من « ما » في قوله: « إلى ما متعنا به » فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون « زهرة » بدلا من « ما » على الموضع في قوله: « إلى ما متعنا » لأن « لنفتنهم » متعلق و « متعنا » و « زهرة الحياة الدنيا » يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء؛ قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر « زهرة » بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون؛ يقال لكل شيء مستنيرك زاهر، وهو أحسن الألوان. « لنفتنهم فيه » أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. « ولا تمدن » أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.

مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: « والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه » ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.

قلت: وكذلك ما روي عنه عليه السلام أنه مر بابل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها [ وأبعارها ] من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل: « ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم » الآية. ثم سلاه فقال: « ورزق ربك خير وأبقى » أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.


قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول « الصلاة » . ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزل فدخله، وهو يقرأ « ولا تمدن عينك » الآية إلى قوله: « وأبقى » ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله؛ ويصلي. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية.


قوله تعالى: « لا نسألك رزقا » أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق » [ الذاريات 56 ] . « والعاقبة للتقوى » أي الجنة لأهل التقوى؛ يعني العاقبة المحمودة. وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة.



الآيات: 133 - 135 ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى، ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى، قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى )


قوله تعالى: « وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه » يريد كفار مكة؛ أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الأنبياء من قبله. « أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى » يريد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرئ « الصحف » بالتخفيف. وقيل أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. وقل: أو لم يأتهم إهلاكنا الأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص « أو لم تأتيهم » بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولأن البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي « أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى » قال: ويجوز على هذا « بينة ما في الصحف الأولى » . قال النحاس إذا نونت « بينة » ورفعت جعلت « ما » بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال؛ والمعنى أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبينا.


قوله تعالى: « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله » أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن « لقالوا » أي يوم القيامة « ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا » أي هلا أرسلت إلينا رسولا « فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى » وقرئ « نذل ونخزى » على ما لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: ( يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا « ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا » الآية ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها قال فيردها أو يدخلها من كان علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم ) . ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله فيه نظر وقد بيناه في كتاب « التذكرة » وبه احتج من قال: إن الأطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. « فنتبع » نصب بجواب التخصيص. « آياتك » يريد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم « من قبل أن نذل » أي في العذاب « ونخزي » في جهنم؛ قاله ابن عباس. وقيل: « من قبل أن نذل » في الدنيا بالعذاب « ونخزى » في الآخرة بعذابها.


قوله تعالى: « قل كل متربص » أي قل لهم يا محمد كل متربص؛ أي كل المؤمنين الكافرين منتظرين دوائر الزمان ولمن يكون النصر. « فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى » يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرئ « فسوف تعلمون » . قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الزمخشري. و « من » في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب مثل « والله يعلم المفسد من المصلح » . قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و « من » ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء؛ والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم؟. قال النحاس والفراء يذهب إلى أن معنى « من أصحاب الصراط السوي » من لم يضل وإلى أن معنى « ومن اهتدى » من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري « فسيعلمون من أصحاب الصراط السوي » بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة؛ وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى: « اهدنا الصراط المستقيم » [ الفاتحة: 6 ] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوءى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والأصل السويا. قال الزمخشري: وقرئ « السواء » بمعنى الوسط والعدل؛ أو المستوي. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل « السوءى » والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة مارس 22, 2013 11:14 pm

تفسير سورة الانبياء مقدمة السورة
==============


مقدمة السورة

الآيات: 1 - 3 ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون )


قوله تعالى: « اقترب للناس حسابهم » قال عبدالله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل « اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون » فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. « اقترب » أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. « للناس » قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: « إلا استمعوه وهم يلعبون » إلى قوله: « أفتأتون السحر وأنتم تبصرون » . وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ يدل على ذلك ما بعد من الآيات؛ ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت؛ وموت كل إنسان قيام ساعته؛ والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى « اقترب للناس حسابهم » أي عذابهم يعني أهل مكة؛ من لأنهم استبطؤوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس؛ لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. « وهم في غفلة معرضون » ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: « وهم غفلة معرضون » يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني: عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الواو عند سيبويه بمعنى « إذ » وهي التي يسميها النحويون واو الحال؛ كما قال الله تبارك وتعالى: « يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم » [ آل عمران: 154 ] .



قوله تعالى: « ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث » محدث « نعت لـ » ذكر « . وأجاز الكسائي والفراء » محدثا « بمعنى ما يأتيهم محدثا؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع » محدث « على النعت للذكر؛ لأنك لو حذفت » من « رفعت ذكرا؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزل الله تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال: » من ربهم « لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال الله تعالى: » فذكر إنما أنت مذكر « [ الغاشية: 21 ] . ويقال: فلان في مجلس الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قال الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية » هل هذا إلا بشر مثلكم « [ الأنبياء: 3 ] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: » ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين « [ القلم: 51 - 52 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: » قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا « [ الطلاق: 10 - 11 ] . » إلا استمعوه « يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. » وهم يلعبون « الواو واو الحال يدل عليه » لاهية قلوبهم « ومعنى » يلعبون « أي يلهون. وقيل: يشتغلون؛ فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله حلى الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما: بالدنيا لأنها لعب؛ كما قال الله تعالى: » إنما الحياة الدنيا لعب ولهو « [ محمد: 36 ] . الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل: يستمعون القرآن مستهزئين.»


قوله تعالى: « لاهية قلوبهم » أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و « لاهية » نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: « خاشعة أبصارهم » [ القلم: 43 ] و « ودانية عليهم ظلالها » [ الإنسان: 14 ] و « لاهية قلوبهم » قال الشاعر:

لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل

أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء « لاهية قلوبهم » بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى؛ إلا استمعوه لاهية قلوبهم. « وأسروا النجوى الذين ظلموا » أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: « الذين ظلموا » أي الذي أشركوا؛ فـ « الذين ظلموا » بدل من الواو في « أسروا » وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم؛ ولا يوقف على هذا القول على « النجوى » . قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبدالله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول؛ التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول؛ مثل « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم » [ الرعد: 23 - 24 ] . واختار هذا القول النحاس؛ قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] . وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم؛ ولا يوقف على هذا الوجه على « النجوى » ويوقف على الوجه المتقدمة الثلاثة قبله؛ فهذه خمسة أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث؛ وهو حسن؛ قال الله تعالى: « ثم عموا وصموا كثير منهم » [ المائدة: 71 ] . وقال الشاعر:

بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض

وقال آخر:

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة: « أسروا » هنا من الأضداد؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه.


قوله تعالى: « هل هذا إلا بشر مثلكم » أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون. وما علموا أن الله عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم. « أفتأتون السحر » أي إن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر، فكيف تجيؤون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به. و « السحر » في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. « وأنتم تبصرون » أنه إنسان مثلكم مثل: « وأنتم تعقلون » لأن العقل البصر بالأشياء. وقيل: المعنى؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. وقيل: المعني؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق؛ ومعنى الكلام التوبيخ.



الآيات: 4 - 6 ( قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون )


قوله تعالى: « قال ربي يعلم القول في السماء والأرض » أي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض. وفي مصاحف أهل الكوفة « قال ربي » أي قال محمد ربي يعلم القول؛ أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن القراءة الأولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم هذا؛ قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر.


قوله تعالى: « بل قالوا أضغاث أحلام » قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالأحلام المختلطة؛ أي أهاويل رآها في المنام؛ قال معناه مجاهد وقتادة؛ ومنه قول الشاعر:

كضغث حلم غرمنه حالمه

وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة؛ وفيه قول الشاعر:

أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم

وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في « يوسف » . فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل افتراه » ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل هو شاعر » أي هم متحيرون لا يستقرون على شيء قالوا ومرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال فريق إنه ساحر، وفريق إنه أضغاث أحلام؛ وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق؛ وقد تقدم. « فليأتنا بآية كما أرسل الأولون » أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها؛ ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: « ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون » [ الأنفال: 23 ] .


قوله تعالى: « ما آمنت قبلهم من قرية » قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. « أهلكناها » يريد كان في علمنا هلاكها. « أفهم يؤمنون » يريد يصدقون؛ أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا؛ لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا؛ وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن. و « من » زائدة في قوله: « من قرية » كقوله: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] .



الآيات: 7 - 10 ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين، ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون )


قوله تعالى: « وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم » هذا رد عليهم في قولهم: « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي لم يرسل قبلك إلا رجالا. « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله سفيان. وسماهم أهل الذكر؛ لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب. وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن؛ أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن؛ قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر. وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر؛ فالمعنى لا تبدؤوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر. والملك لا يسمى رجلا؛ لأن الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله: « إلا رجالا » من بني آدم. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليهم » .

مسألة: لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » أجمعوا على أن الأعمى لا بدله من تقليد غيره ممن يثق بميزة بالقبلة إذا أشكلت عليه؛ فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم.


قوله تعالى: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » الضمير في « جعلناهم » للأنبياء؛ أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب « وما كانوا خالدين » يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم: « ما هذا إلا بشر مثلكم » [ المؤمنون: 33 ] وقولهم: « ما لهذا الرسول يأكل الطعام » [ الفرقان: 7 ] . و « جسدا » اسم جنس؛ ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا؛ لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن؛ تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه الصبغ، وهو الدم أيضا؛ قاله النابغة:

وما أهريق على الأنصاب من جسد

وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. « ثم صدقناهم الوعد » يعني الأنبياء؛ أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. « فأنجيناهم ومن نشاء » أي الذين صدقوا الأنبياء. « وأهلكنا المسرفين » أي المشركين.


قوله تعالى: « لقد أنزلنا إليكم كتابا » يعني القرآن. « فيه ذكركم » رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب؛ والمراد بالذكر هنا الشرف؛ أي فيه شرفكم، مثل « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: « أفلا تعقلون » وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أم دينكم؛ وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟ ! وقال مجاهد: « فيه ذكركم » أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبدالله: العمل بما فيه حياتكم.

قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها؛ إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا عليه السلام؛ لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قول عليه السلام: ( القرآن حجة لك أو عليك ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 23, 2013 11:01 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
==============



الآيات: 11 - 15 ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين )


قوله تعالى: « وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة » يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و « كم » في موضع نصب بـ « قصمنا » . والقصم الكسر؛ يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم ( بالفاء ) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة؛ قال الشاعر:

كأنه دملج من فضه نبه في ملعب من عذاري الحي مفصوم

ومنه الحديث ( فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ) . وقوله: « كان ظالمة » أي كافرة؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.


قوله تعالى: « وأنشأنا » أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم « فلما أحسوا » أي رأوا عذابنا؛ يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش: « أحسوا » خافوا وتوقعوا. « إذا هم منها يركضون » أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض تحريك الرجل؛ ومنه قوله تعالى: « اركض برجلك » [ ص: 42 ] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.



قوله تعالى: « لا تركضوا » أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: « لا تركضوا » « وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم » أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم؛ يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: « وأترفناهم في الحياة الدنيا » [ المؤمنون: 33 ] . « لعلكم تسألون » أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم؛ استهزاء بهم؛ قاله قتادة. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. « قالوا يا ويلنا » لما قالت لهم الملائكة: « لا تركضوا » ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا « يا ويلنا إن كنا ظالمين » فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. « فما زالت تلك دعواهم » أي لم يزالوا يقولون: « يا ويلتا إنا كنا ظالمين » . « حتى جعلناهم حصيدا » أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل؛ قال مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. « خامدين » أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.



الآيات: 16 - 18 ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون )


قوله تعالى: « وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين » أي عبثا وباطلا؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.



قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » لما اعتقد قوم أن له ولدا قال: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » - فقال: اللهو الزوجة؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع.

قلت: ومنه قول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر

الجوهري: قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » قالوا امرأة، ويقال: ولدا. « لاتخذناه من لدنا » أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. « إن كنا فاعلين » قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل « إن أنت إلا نذير » [ فاطر: 23 ] أي ما أنت إلا نذير. و « إن » بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: « لاتخذناه من لدنا » . وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري.


قوله تعالى: « بل نقذف بالحق على الباطل » القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. « فيدمغه » أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. « فإذا هو زاهق » أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. « ولكم الويل » أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. « مما تصفون » أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره « سيجزيهم وصفهم » [ الأنعام: 139 ] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.



الآيات: 19 - 21 ( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون )


قوله تعالى: « وله من في السماوات والأرض » أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. « ومن عنده » يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. « لا يستكبرون » أي لا يأنفون « عن عبادته » والتذلل له. « ولا يستحسرون » أي يعيون؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب، [ يقال ] : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون؛ ذكره ابن الأعرابي؛ والمعنى واحد. « يسبحون الليل والنهار » أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. « لا يفترون » أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبدالله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبدالمطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.


قوله تعالى: « أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون » قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل: « أم » بمعنى « هل » أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون « أم » هنا بمعنى بل؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر « أم » مع الاستفهام فتكون « أم » المنقطعة فيصح المعنى؛ قاله المبرد. وقيل: « أم » عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل: « لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون » [ الأنبياء: 10 ] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون « أم » متصلة. وقرأ الجمهور « ينشرون » بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء؛ أي يحيون ولا يموتون.



الآيات: 22 - 24 ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون )


قوله تعالى: « لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا » أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: « إلا » بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير، كما قال:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء: « إلا » هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل: معنى « لفسدتا » أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. « فسبحان الله رب العرش عما يصفون » نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.


قوله تعالى: « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج: المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: « لا يسأل عمال يفعل يفعل وهم يسألون » . وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحي الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.


قوله تعالى: « أم اتخذوا من دونه آلهة » أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون « أم » بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الأول احتجاج. من حيث المعقول؛ لأنه قال: « هم ينشرون » ويحيون الموتى؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القران، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء؟ « هذا ذكر من معي » بإخلاص التوحيد في القرآن « وذكر من قبلي » في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن؛ المعنى: « هذا ذكر من معي » بما يلزمهم من الحلال والحرام « وذكر من قبلي » من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل: « ذكر من معي » بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر « وذكر من قبلي » من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ « هذا ذكر من معي وذكر من قبلي » بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. « بل أكثرهم لا يعلمون الحق » وقرأ ابن محيصن والحسن « الحق » بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على « لا يعلمون » ولا يوقف عليه على قراءة النصب. « فهم معرضون » أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.



الآية: 25 ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )


قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه » وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليه » بالنون؛ لقوله: « أرسلنا » . « أنه لا إله إلا أنا فاعبدوني » أي قلنا للجميع لا إله إلا الله؛ فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والأنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد مارس 24, 2013 11:06 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
=============



الآيات: 26 - 29 ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين )


قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه » نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: « سبحانه » تنزيها له. « بل عباد » أي بل هم عباد « مكرمون » أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان ما « لا يسبقونه بالقول » أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. « وهم بأمره يعملون » أي بطاعته وأوامره. « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا: « ما بين أيديهم » الآخرة « وما خلفهم » الدنيا؛ ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. « وهم » يعني الملائكة « من خشيته » يعني من خوفه « مشفقون » أي خائفون لا يأمنون مكره.


قوله تعالى: « ومن يقل منهم إني إله من دونه » قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل « نجزيه جهنم » وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في « البقرة » . « كذلك نجزي الظالمين » أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.



الآيات: 30 - 33 ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون )


قوله تعالى: « أولم يرى الذين كفروا » قراءة العامة « أو لم » بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « ألم تر » بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. « أو لم ير » بمعنى يعلم. « الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا » قال الأخفش: « كانتا » لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: « إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا » [ فاطر: 41 ] قال أبو إسحاق: « كانتا » لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. وقال: « رتقا » ولم يقل رتقين؛ لأنه مصدر؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن « رتقا » بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيط واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قال مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الأخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: « أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقاهما » قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، مسيرة خمسمائة عام؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [ مثلها ] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قول عز وجل: « وقودها الناس والحجارة » [ البقرة: 24 ] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين والآخر الغلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الغلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في « البقرة » أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر « الطلاق » زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قال عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله عز وجل: « والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع » [ الطارق: 11 - 12 ] . واختار هذا القول الطبري؛ لأن بعده: « وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون » .

قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية؛ ليدل على مال قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل:

يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها

ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها


قوله تعالى: « وجعلنا من الماء كل شيء حي » ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء؛ قال قتادة الثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي؛ قال قطرب. « وجعلنا » بمعنى خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء؛ قال: ( كل شيء خلق من الماء ) الحديث؛ قال أبو حاتم قول أبي هريرة: « أنبئني عن كل شيء » أراد به عن كل شيء خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقول: « وأوتيت من كل شيء » [ النمل: 23 ] وقول: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] والصحيح العموم؛ لقول عليه السلام: ( كل شي خلق من الماء ) والله أعلم. « أفلا يؤمنون » أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكون كونه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا.


قوله تعالى: « وجعلنا في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت. « أن تميد بهم » أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها؛ قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه؛ أي دار. ومضى في « النحل » مستوفى. « وجعلنا فيها فجاجا » يعني في الرواسي؛ عن ابن عباس. والفجاج ا لمسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك؛ وهو اختيار الطبري؛ لقوله: « لعلهم يهتدون » أي يهتدون إلى السير في الأرض. « سبلا » تفسير الفجاج؛ لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم.


قوله تعالى: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض؛ دليله قوله تعالى: « ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه » [ الحج: 65 ] . وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين؛ قاله الفراء. دليله قوله تعالى: « وحفظناها من كل شيطان رجيم » [ الحجر: 17 ] . وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. « وهم » يعني الكفار « عن آياتها معرضون » قال مجاهد يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا فيستحيل أن يكون له شريك.


قوله تعالى: « وهو الذي خلق الليل والنهار » ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم « والشمس والقمر » أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في « سبحان » بيانه. « كل » يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار « في فلك يسبحون » أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « والسابحات سبحا » ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفيه من النحو أنه لم يقل: يسحن ولا تسبح؛ فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في « يوسف » . وقال الكسائي: إنما قال: « يسبحون » لأنه رأس آية، كما قال الله تعالى: « نحن جميع منتصر » [ القمر: 44 ] ولم يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، والثامن فالك البروج، التاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل؛ لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار. وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والأرض. وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكتوف ومجرى الشمس والقمر فيه؛ والله أعلم.



الآيتان: 34 - 35 ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )


قوله تعالى: « وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد » أي دوام البقاء في الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان؛ فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك. « أفإن مت فهم الخالدون »

أي أفهم؛ مثل قول الشاعر:

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي أهم فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط؛ لأنه جواب قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت! قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن « هم » لا يتبين فيها الإعراب. أي إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الإماتة. وقرئ « مت » بكسر الميم وضمها لغتان. « كل نفس ذائقة الموت » تقدم. « ونبلوكم بالشر والخير فتنة » « فتنة » مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم. « وإلينا ترجعون » أي للجزاء بالأعمال.



الآية: 36 ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون )


قوله تعالى: « وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا » أي ما يتخذونك. والهزاء السخرية؛ وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة « الحجر » في قوله: « إنا كفيناك المستهزئين » [ الحجر: 95 ] . كانوا يعيبون من جاحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن؛ وهذا غاية الجهل. « أهذا الذي » أي يقولون: أهذا الذي؟ فأضمر القول وهو جواب « إذا » وقوله: « إن يتخذونك إلا هزوا » كلام معترض بين « إذا » وجوابه. « يذكر آلهتكم » أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة:

لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري. « وهم بذكر الرحمن » أي بالقرآن. « هم كافرون » « هم » الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين مارس 25, 2013 11:02 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
=============



الآيات: 37 - 40 ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون )


قوله تعالى: « خلق الإنسان من عجل » أي ركب على العجلة فخلق عجولا؛ كما قال الله تعالى: « الله الذي خلقكم من ضعف » [ الروم: 54 ] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: « خلق الإنسان من عجل » . وقيل خلق آدم يوم الجمعة. في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس؛ قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:

والنخل ينبت بين الماء والعجل

وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس؛ أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب؛ أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله؛ لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال:

كان الزناء فريضة الرجم

ونظيره هذه الآية: « وكان الإنسان عجولا » [ الإسراء: 11 ] وقد مضى في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] . « سأريكم آياتي فلا تستعجلون » هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في « الإسراء » . والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له. العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا: « متى هذا الوعد » [ يونس: 48 ] ؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقول: « إن كان هذا هو الحق » [ الأنفال: 32 ] . وقال الأخفش سعيد: معنى « خلق الإنسان من عجل » أي قيل له كن فكان، فمعنى « فلا تستعجلون » على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. « ويقولون متى هذا الوعد » أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى « الوعد » هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. « إن كنتم صادقين » يا معشر المؤمنين.


قوله تعالى: « لو يعلم الذين كفروا » العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] . وجواب « لو » محذوف، أي لو علموا الوقت الذي « لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون » وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه « بل تأتيهم بغتة » أي فجأة يعني القيامة. وقيل: العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة « فتبهتهم » قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى: « بل تأتيهم بغتة فتهتهم » وقال الفراء: « فتبهتهم » أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل: فتفجأهم. « فلا يستطيعون ردها » أي صرفها عن ظهورهم. « ولا هم ينظرون » أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.



الآية: 41 ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون )


قوله تعالى: « ولقد استهزئ برسل من قبلك » هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: « فحاق » أي أحاط ودار « بالذين » كفروا « سخروا منهم » وهزئوا بهم « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء استهزائهم.



الآيات: 42 - 44 ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون )


قوله تعالى: « قل من يكلؤكم » أي يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كلاء ( بالكسر ) أي حفظه وحرسه. يقال: اذهب في كلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:

إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها

وقال آخر:

أنخت بعيري واكتلأت بعينه

وحكى الكسائي والفراء « قل من يكْلَوكم » بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا « من يكلاكم » على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما « يكلاكم » فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة. يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته، فينقلب المعنى؛ لأن كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلاك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كليته.

ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم « بالليل » إذا نمتم « والنهار » إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. « من الرحمن » أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى: « فمن ينصرني من الله » [ هود: 63 ] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. « بل هم عن ذكر ربهم » أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. « معرضون » لاهون غافلون.


قوله تعالى: « أم لهم آلهة » المعنى: ألهم والميم صلة. « تمنعهم من دوننا » أي من عذابنا. « لا يستطيعون » يعني الذين زعم هؤلاء الكفار. أنهم ينصرونهم لا يستطيعون « نصر أنفسهم » فكيف ينصرون عابديهم. « ولا هم منا يصحبون » قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون؛ وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب. من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:

ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منها والرماح دواني

وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن قال: « ينصرون » أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم.


قوله تعالى: « بل متعنا هؤلاء وآباءهم » قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها « حتى طال عليهم العمر » في النعمة. فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج « أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في « الرعد » الكلام في هذا مستوفى. « أفهم الغالبون » يعني، كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.



الآيتان: 45 - 46 ( قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين )


قوله تعالى: « قل إنما أنذركم بالوحي » أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. « ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون » أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن السميقع « ولا يُسْمَع » بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله « الصم » رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث « ولا تسمع » بتاء مضمومة وكسر الميم « الصم » نصبا؛ أي إنك يا محمد « لا تُسمع الصم الدعاء » ؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز؛ لأنه قد عرف المعنى.


قوله تعالى: « ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك » قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شيء؛ مأخوذة من نفح المسك. قال:

وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها

ابن جريج: نصيب؛ كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:

لما أتيتك أرجو فضل نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب

أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة؛ فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب. « ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين » أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.



الآية: 47 ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )


قوله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في وكفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله؛ كما قال:

ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان

ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: ( إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقي بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ) . وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: ( صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين؛ فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا، وفي « الكهف » أيضا. وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » مستوفى والحمد لله. و « القسط » العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و « القسط » صفة الموازين ووحد لأنه مصدر؛ يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة « القصط » بالصاد. « ليوم القيامة » أي لأهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. « فلا تظلم نفس شيئا » أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. « وإن كان مثقال حبة من خردل » قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر « مثقال حبة » بالرفع هنا؛ وفي « لقمان » على معنى إن وقع أو حضر؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون « مثقال » بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. « أتينا بها » مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: « أتينا بها » . وقرأ مجاهد وعكرمة « آتينا » بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. « وكفى بنا حاسبين » أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل: « حاسبين » إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: ( يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل ) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما تقرأ كتاب الله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » ) فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.



الآيات: 48 - 50 ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون )


قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء » وحكي عن ابن عباس وعكرمة « الفرقان ضياء » بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال عز وجل: « إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا » [ الصافات: 6 - 7 ] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال: وتفسير « الفرقان » التوراة؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: « وضياء » مثل « فيه هدى ونور » وقال ابن زيد: « الفرقان » هنا هو النصر على الأعداء؛ دليله قوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان » [ الأنفال: 41 ] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية؛ لدخول الواو في الضياء؛ فيكون معنى الآية: ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. « الذين يخشون ربهم بالغيب » أي غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.

« وهم من الساعة » أي من قيامها قبل التوبة. « مشفقون » أي خائفون وجلون


قوله تعالى: « وهذا ذكر مبارك أنزلناه » يعني القرآن « أفأنتم له » يا معشر العرب « منكرون » وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء « وهذا ذكر مباركا أنزلناه » بمعنى أنزلناه مباركا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء مارس 26, 2013 11:19 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
==============



الآية: 51 ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين )


قوله تعالى: « ولقد آتينا إبراهيم رشده » قال الفراء: أي أعطياه هداه. « من قبل » أي من قبل النبوة؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل: « من قبل » أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير؛ كما قال ليحيى: « وآتيناه الحكم صبيا » [ مريم: 12 ] . وقال القرظي: رشده صلاحه. « وكنا به عالمين » أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.



الآيات: 52 - 56 ( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين )


قوله تعالى: « إذ قال لأبيه وقومه » قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله: « وكنا به عالمين » . وقيل: المعنى؛ « وكنا به عالمين إذ قال » فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: « عالمين » . « لأبيه » وهو آزر « وقومه » نمرود ومن اتبعه. « ما هذه التماثيل » أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. « التي أنتم لها عاكفون » أي مقيمون على عبادتها. « قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين » أي نعبدها تقليدا لأسلافنا. « قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين » أي في خسران بعبادتها؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. « قالوا أجئتنا بالحق » أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ « أم أنت من اللاعبين » أي لاعب مازح. « قال بل ربكم رب السماوات والأرض » أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. « الذي فطرهن » أي خلقهن وأبدعهن. « وأنا على ذلكم من الشاهدين » أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه « شهد الله » [ آل عمران: 18 ] بين الله؛ فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.



الآيتان: 57 - 58 ( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون )


قوله تعالى: « وتالله لأكيدن أصنامكم » أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في « تالله » تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:

تالله يبقي على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس

وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. « بعد أن تولوا مدبرين » أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في « والصافات » - فقال إبراهيم في نفسه: « وتالله لأكيدهم أصنامكم » . قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله « يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل » [ المنافقون: 8 ] . وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] أي ضعيف عن الحركة.


قوله تعالى: « فجعلهم جذاذا » أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن « جذاذا » بكسر الجيم؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:

جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر

الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [ مثل ] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: « فجعلهم » ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال « جذاذا » بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. « إلا كبيرا لهم » أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. « لعلهم إليه يرجعون » أي إلى إبراهيم دينه « يرجعون » إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: « لعلهم إليه » أي إلى الصنم الأكبر « يرجعون » في تكسيرها.



الآيات: 59 - 61 ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون )


قوله تعالى: « قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار: « من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » . وقيل: « من » ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره « لمن الظالمين » أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله: « سمعنا فتى يذكرهم » وهذا هو جواب « من فعل هذا » . والضمير في « قالوا » للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى « يذكرهم » يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم؛ فيكون [ خبر مبتدأ ] محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، كما تقول زيد وزن، فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شيء، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ: « سمعنا فتى يذكرهم » .


قوله تعالى: « قالوا فأتوا به على أعين الناس » فيه مسألة واحدة، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه « لعلهم يشهدون » عليه بما قال؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل: « لعلهم يشهدون » عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما « يشهدون » بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو « لعلهم يشهدون » طعنه على آلهتهم؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.

قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم؛ لقوله تعالى: « فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون » وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.



الآيتان: 62 - 63 ( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون )


قوله تعالى: « قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم » لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: « فاسألوهم إن كانوا ينطقون » . وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه: « يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر » [ مريم: 42 ] - الآية - فقال إبراهيم: « بل فعله كبيرهم هذا » ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: « هذا ربي » وهذه أختي و « إني سقيم » وبل فعله كبيرهم هذا « وقرأ ابن السميقع » بل فعله « بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله: » بل فعله « أي فعله من فعله؛ ثم يبتدئ » كبيرهم هذا « . وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا؛ والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم. »

روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله لسارة أختي وقوله « بل فعله كبيرهم » ) لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب « هذا ربي » . فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول قد نفى تلك بقوله: ( لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله: « بل فعله كبيرهم » وواحدة في شأن سارة ) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب: « هذا ربي » [ الأنعام: 78 ] كذبة وهي داخلة في الكذب؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في « الأنعام » مبينة والحمد لله.



قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: ( لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله « بل فعله كبيرهم » ولم يعد [ قوله ] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: « ألا لله الدين الخالص » [ الزمر: 3 ] . وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.


قال علماؤنا: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة ( إنما اتخذت خليلا من وراء وراء ) بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا جاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم ( من وراء من وراء ) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف؛ لأن ألفه للتأنيث؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية؛ قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود « من » فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.



الآيات: 64 - 67 ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون )


قوله تعالى: « فرجعوا إلى أنفسهم » أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجه خصمه « فقالوا إنكم أنتم الظالمون » أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. « ثم نكسوا على رؤوسهم » أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا « لقد علمت ما هؤلاء ينطقون » فـ « قال » قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون « أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم » أي النتن لكم « ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون » . وقيل: « نكسوا على رؤوسهم » أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم، وفيه نظر؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم، بفتح الكاف بل قال: « نكسوا على رؤوسهم » أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس، قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء مارس 27, 2013 11:00 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
=============



الآيتان: 68 - 69 ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم )


قوله تعالى: « قالوا حرقوه » لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي من باديتها؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قال ملكهم نمرود. « وانصروا آلهتكم » بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى: « إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه » فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: « اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل » . وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل؛ فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: « أما إليك فلا » . فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال: « حسبي من سؤالي علمه بحالي » . فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم » قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل « بردا وسلاما » لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل « على إبراهيم » لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلام. وقال علي وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: « ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار » . وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي؛ فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمرود من الصراح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.



الآيات: 70 - 73 ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )


قوله تعالى: « وأرادوا به كيدا » أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به « فجعلناهم الأخسرين » في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكوم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة.


قوله تعالى: « ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين » يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان « إبراهيم » عليه السلام عمه؛ قال ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل: الأرض المباركة مصر.


قوله تعالى: « ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة » أي زيادة؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة؛ أي زيادة على ما سأل؛ إذ قال: « رب هب لي من الصالحين » [ الصافات: 100 ] . ويقال لولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. « وكلا جعلنا صالحين » أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.


قوله تعالى: « وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى « بأمرنا » أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. « وأوحينا إليهم فعل الخيرات » أي أن يفعلوا الطاعات. « وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين » أي مطيعين.



الآيتان: 74 - 75 ( ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين )


قوله تعالى: « ولوطا آتيناه حكما وعلما » « لوطا » منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني؛ أي وآتينا لوطا آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل: « علما » فهما؛ والمعنى واحد. « ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث » يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد السراة؛ ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط؛ أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وحذف الحصي وسيأتي. « إنهم كانوا قوم سوء فاسقين » أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم. « وأدخلناه في رحمتنا » في النبوة. وقيل: في الإسلام. وقيل: الجنة. وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه « إنه من الصالحين » .



الآيتان: 76 - 77 ( ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم، ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين )


قوله تعالى: « ونوحا إذ نادى من قبل » أي واذكر نوحا إذ نادى؛ أي دعا. « من قبل » أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] وقال لما كذبوه: « أني مغلوب فانتصر » [ القمر: 10 ] . « فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم » أي من الغرق. والكرب الغم الشديد « وأهله » أي المؤمنين منهم. « ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا » قال أبو عبدة: « من » بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له « من القوم الذين كذبوا بآياتنا » . « فأغرقناهم أجمعين » أي الصغير منهم والكبير.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس مارس 28, 2013 11:44 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
==============


الآيتان: 78 - 79 ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين )


قوله تعالى: « وداود وسليمان إذ يحكمان » أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله « إذ يحكمان » الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول؛ فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما انفراده؛ وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. « في الحرث » اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا؛ قال قتادة. وقيل: كرما نبت عنا قيده؛ قال ابن مسعود وشريح. و « الحرث » يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. « إذ نفشت فيه غنم القوم » أي رعت فيه ليلا؛ والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبدالله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا؛ أي راعيا؛ حكاه الهروي. وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل. « وكنا لحكمهم شاهدين » دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه؛ فلذلك قال « لحكمهم » .


قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه، وتبقي نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم. قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس؛ قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.


قوله تعالى: « وكلا آتينا حكما وعلما » تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله: « ففهمناها سليمان » على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت؛ فأجابه الوليد « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما » . وقال قوم: كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا « ففهمناها سليمان » أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: « وكلا آتينا حكما وعلما » . هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي:



واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة؛ فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: ( اعتدي حيث شئت ) ثم قال لها: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . وقال له رجل: أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء؟ فقال: ( لا ) ثم دعاه فقال: ( إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام ) .


قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا؛ فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، قد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل [ بل ] وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس « الموطأ » ؛ فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس. قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام: ( إذا اجتهد العالم فأخطأ ) أي فأخطأ الأفضل.


روى مسلم وغيره عن عمروه بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم ( إذا حكم فاجتهد ) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس؛ فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ » [ النحل: 98 ] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى.

إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر؛ رواه أبو داود: ( القضاة ثلاثة ) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.


ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبدالله بن عمرو؛ قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا؛ قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين؛ قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة؛ وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية.


ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى؛ فقال عبدالملك ومطرف في « الواضحة » : ذلك له ما دام في ولايته؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في « المدونة » . وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك؛ وقال ابن عبدالحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه؛ وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول؛ قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه.

قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى. الله عنهما؛ رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في « الأعراف » ولم يفصل؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهوم دود، إن كان على وجه الاجتهاد؛ فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له.

قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير. وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.

قلت: وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه؛ فقال: ائتوني بالسكين أشفه بينكما؛ فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها؛ فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية؛ أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد؛ لأنه تعالى قال: « إذ يحكمان في الحرث » فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قول في الحديث: فقضى به للكبرى؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؛ فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى؛ وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا؛ فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث « حكم الحاكم بعلمه » . وترجم له أيضا « السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق » . وترجم له أيضا « نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه » . ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد؛ وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول: إن الأم تستلحق؛ وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله: « ففهمناها سليمان » .


قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة؛ فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم؛ مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا؛ إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عبدالرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة، وعن سعيد بن المسيب، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.


ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( جرح العجماء جبار ) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له؛ فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث ( العجماء جرحها جبار ) عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول.

إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع؛ لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى: « وجعلنا النهار معاشا » [ النبأ: 11 ] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه؛ كما قال الله تعالى: « من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه » [ القصص: 72 ] وقال: « وجعل الليل سكنا » [ الأنعام: 96 ] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم الأوفق الأسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين، وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم الحاستين؛ وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه؛ كما قال في « التمهيد » وفي « الاستذكار » فخالف الحديث في ( العجماء جرحها جبار ) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم. قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن؟ قال نعم! يغرم. قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح.



قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال: وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث؛ ذكره عنه ابن عبدالحكم. وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، وإن كان أضعاف ثمنها؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم.

ولا يستأني بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته.

لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به.

وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد؛ لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوب إلى قول الليث.


قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه، ولا شيء على أرباب المواشي.

المواشي على قسمين: ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.

قال أصبغ: النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ ضريت ] ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري.

ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا؛ ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح « إذ نقشت فيه غنم القوم » قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار.

قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العجماء جرحها جبار ) الحديث. وقال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: ( العجماء جرحها جبار ) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه؛ لأن الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني.

واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.


روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرجل جبار ) قال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: ( العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار ) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك روى أبو صالح السمان، وعبدالرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه ( والرجل جبار ) وهو المحفوظ عن أبي هريرة.

قوله: ( والبئر جبار ) قد روى موضعه ( والنار ) قال الدارقطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبدالرزاق: حديث أبي هريرة ( والنار جبار ) ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير؛ يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبدالرزاق ( النار جبار ) . وقال الرمادي: قال عبدالرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النار جبار ) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبدالعزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال: أحرق رجل سافي قراح له فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العجماء جبار ) وأرى أن النار جبار. وقد روي ( والسائمة جبار ) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه.


قوله تعالى: « وسخرنا مع داود الجبال يسبحن » قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق؛ ولهذا قال: « وسخرنا » أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ دليله قوله تعالى: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال قتادة: « يسبحن » يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين.



الآية: 80 ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون )


قوله تعالى: « وعلمناه صنعة لبوس لكم » يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا:

ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل

واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:

ألبس كل حالة لبوسها إما نعيمها وإما ما بوسها

وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها.


قوله تعالى: « ليحصنكم » ليحرزكم. « من بأسكم » أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس: « من بأسكم » من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح « لتحصنكم » بالتاء ردا على الصفة. وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق « لنحصنكم » بالنون لقوله: « وعلمناه » . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. « فهل أنتم شاكرون » أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل: « فهل أنتم شاكرون » بأن تطيعوا رسولي.



هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع. بها عن نفسه الضرر والباس. وفي الحديث: « إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف » . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « الفرقان » وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله.

الآية [ 81 ] في الصفحة التالية ...



الآيتان: 81 - 82 ( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين )


قوله تعالى: « ولسليمان الريح عاصفة » أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد: أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح؛ لأنها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبدالرحمن الأعرج وأبو بكر « ولسليمان الريح » برفع الحاء على القطع مما قبله؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح؛ ابتداء وخبر. « تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها » يعني الشام يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى: « تجري بأمره رخاء حيث أصاب » [ ص: 36 ] . والرخاء اللينة. « وكنا بكل شيء عالمين » أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره.


قوله تعالى: « ومن الشياطين من يغوصون له » أي وسخرنا له من يغوصون؛ يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة. « ويعملون عملا دون ذلك » أي سوي ذلك من الغوص؛ قاله الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. « وكنا لهم حافظين » أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل: « حافظين » من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.



الآيتان: 83 - 84 ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين )


قوله تعالى: « وأيوب إذ نادى ربه » أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له: « اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب » [ ص: 42 ] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في « ص » ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب: « مسني الضر » على خمسة عشر قولا:

الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: « مسني الضر » إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعا. الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: « مسني الضر » . وهذا قول جعفر بن محمد. السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم؛ قال ابن العربي. السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح « مسني الضر » فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: « مسني الضر » لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: « مسني الضر » أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: « مسني الضر » . قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه؛ فقال: « مسني الضر » . الثالث عشر: قال عبدالله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه به البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال: « مسني الضر » ثم قال: « اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني » فنادى مناد من السماء « أن صدق عبدي » وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر: أن معنى « مسني الضر » من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » [ الأعراف: 150 ] . الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: « مسني الضر » . وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.

قلت: وقول سادس عشر: ذكر ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام: « ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق » فنادى ربه « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال: « مسني الضر » لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله « مسني الضر » جزعا؛ لأن الله تعالى قال: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه « فاستجبنا له » والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال.



قوله تعالى: « فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم » قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك صحيح.

قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبدالله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية.

قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة « البقرة » في قصة « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » [ البقرة: 243 ] . وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: « وأتيناه أهله » في الآخرة « ومثلهم معهم » في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من الله! فضل. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. « رحمة من عندنا » أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. « وذكرى للعابدين » أي وتذكيرا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 30, 2013 10:29 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الانبياء
=============



الآيتان: 85 - 86 ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين )


قوله تعالى: « وإسماعيل وإدريس » وهو أخنوخ وقد تقدم. « وذا الكفل » أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل ) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [ لم أحدث به ] ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل ) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبدالرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. « كل من الصابرين » أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. « وأدخلناهم في رحمتنا » أي في الجنة.


الآيتان: 87 - 88 ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )


قوله تعالى: « وذا النون » أي واذكر « ذا النون » وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا.


قوله تعالى: « إذ ذهب مغاضبا » قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ( اشترطي لهم الولاء ) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تكن كصاحب الحوت » [ القلم: 48 ] . وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى: « فالتقمه الحوت وهو مليم » [ الصافات: 142 ] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.

قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في « والصافات » إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: « حتى إذا فشلتم » [ آل عمران: 152 ] إلى قوله: « وليمحص الله الذين آمنوا » [ آل عمران: 141 ] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت:

وأغضب أن تهجي تميم بداوم

أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه.


قوله تعالى: « فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات » قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. الحسن: هو من قوله تعالى: « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » [ الرعد: 26 ] أي يضيق. وقوله « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] .

قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: « فظن أن لن نقدر عليه » هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:

فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري: « فظن أن لن نُقدِّر عليه » بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: « أن لن يقدر عليه » بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا « يُقْدَر عليه » بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا « فظن أن لن يقدر عليه » . الباقون « نقدر » بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.

قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ( فوالله لئن قدر الله على ) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه ( لم يعمل خيرا إلا التوحيد ) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء » . [ فاطر: 28 ] . وقد قيل: إن معنى « فظن أن لن نقدر عليه » الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان « أبو » المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ « أفظن » بالألف.


قوله تعالى: « فنادى في الظلمات » اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » « فنبذناه بالعراء وهو سقيم » [ الصافات: 145 ] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال: « في غيابة الجب » [ يوسف: 10 ] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: « لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك » وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: « واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد » . وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » و « الأعراف » . « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: « ربنا ظلمنا أنفسنا » [ الأعراف: 23 ] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.


روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعاء ذي النون في بطن الحوت « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ) وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: « وكذلك ننجي المؤمنين » وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله: « إني كنت من الظالمين » فاعترف بالظلم فكان تلويحا.


قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: « فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون » [ الصافات: 143 - 144 ] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعيد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. « من الغم » أي من بطن الحوت. قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر « نجي » بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:

ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا

أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن « وذروا ما بقي من الربا » [ البقرة: 278 ] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:

خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا

سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [ فيه ] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في « من جاء بالحسنة » « مجاء بالحسنة » قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: « ولا تفرقوا » [ آل عمران: 103 ] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية « وكذلك نجى المؤمنين » أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.



الآيتان: 89 - 90 ( وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )


قوله تعالى: « وزكريا إذ نادى ربه » أي واذكر زكريا. وقد تقدم في « آل عمران » ذكره. « رب لا تذرني فردا » أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. « وأنت خير الوارثين » أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال « وأنت خير الوارثين » لما تقدم من قوله: « يرثني » [ مريم: 6 ] أي أعلم أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في « مريم » بيانه.


قوله تعالى: « فاستجبنا له » أي أجبنا دعاءه: « ووهبنا له يحيى » . تقدم. « وأصلحنا له زوجه » قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.

قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. « إنهم » يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة « إنهم كانوا يسارعون في الخيرات » وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.


قوله تعالى: « ويدعوننا رغبا ورهبا » أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية: وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.


روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في « الأعراف » الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يد بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم ) . وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و « رغبا ورهبا » منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف « ويدعونا » بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا « رغبا ورهبا » بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. « وكانوا لنا خاشعين » أي متواضعين خاضعين.



الآيات: 101 - 103 ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )


قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » أي الجنة « أولئك عنها » أي عن النار. « مبعدون » فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: « إن » ههنا بمعنى « إلا » وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن عثمان منهم ) .


قوله تعالى: « لا يسمعون حسيسها » أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: « لا يسمعون حسيسها » فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » وقوله تعالى: « فأوردهم النار » [ هود: 98 ] وقوله: « إلى جهنم وردا » [ مريم: 86 ] . ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. « وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون » أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] .


قوله تعالى: « لا يحزنهم الفزع الأكبر » وقرأ أبو جعفر وابن محيصن « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه ) . وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر ) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وتتلقاهم الملائكة » أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: « هذا يومكم الذي كنتم توعدون » وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس « هذا يومكم » أي ويقولون لهم؛ فحذف. « الذي كنتم توعدون » فيه الكرامة.



الآية: 104 ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )


قوله تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري « تُطوى » بتاء مضمومة « السماء » رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد « يطوي » على معنى يطوي الله السماء. الباقون « نطوي » بنون العظمة. وانتصاب « يوم » على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ « نعيد » من قول « كما بدأنا أول خلق نعيده » . أو بقول: « لا يحزنهم » أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: « والسموات مطويات بيمنه » [ الزمر: 67 ] . « كطي السجل للكتاب » قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى « على » . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: « السجل » ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير « كطي السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة « كطي السجل » بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: « للكتاب » . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: « والسموات مطويات بيمينه » [ الزمر: 67 ] . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: « إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت » [ التكوير: 1 - 2 ] « وإذا السماء كشطت » [ التكوير: 11 ] . « للكتاب » وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: « للكتب » جمعا ثم استأنف الكلام فقال: « كما بدأنا أول خلق نعيده » أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - « كما بدأنا أول خلق نعيده » أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ « كما بدأنا أول خلق نعيده » . وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: « يوم نطوي السماء » أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات » [ إبراهيم: 48 ] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » [ الأنعام: 94 ] وقوله عز وجل: « وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة » « وعدا » نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا « علينا » إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: « إنا كنا فاعلين » قال الزجاج: معنى « إنا كنا فاعلين » إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل « إنا كنا فاعلين » أي ما وعدناكم وهو كما قال: « كان وعده مفعولا » [ المزمل: 18 ] . وقيل: « كان » للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.



الآيتان: 105 - 106 ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين )

قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور » الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: « الزبور » التوراة والإنجيل والقرآن. « من بعد الذكر » الذي في السماء « أن الأرض » أرض الجنة « يرثها عبادي الصالحون » رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: « الزبور » زبور داود، و « الذكر » توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد « الزبور » كتب الأنبياء عليهم السلام، و « الذكر » أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: « الزبور » الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و « الذكر » التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة « في الزبور » بضم الزاي جمع زبر « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: « وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها » [ الأعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة « عبادي الصالحون » بتسكين الياء. « إن في هذا » أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن « لبلاغا لقوم عابدين » قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: « عابدين » مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.



الآيات: 107 - 109 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون )

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.


قوله تعالى: « قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » فلا يجوز الإشراك به. « فهل أنتم مسلمون » أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] أي انتهوا.


قوله تعالى: « فإن تولوا » أي إن أعرضوا عن الإسلام « فقل آذنتكم على سواء » أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. « وإن أدري » « إن » نافيه بمعنى « ما » أي وما أدري. « أقريب أم بعيد ما توعدون » يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.


الآيات: 110 - 112 ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون )


قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون » أي من الشرك وهو المجازي عليه. « وإن أدري لعله » أي لعل الإمهال « فتنة لكم » أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. « ومتاع إلى حين » قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى « وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون » « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.

قوله تعالى: « قال رب احكم بالحق » ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: « رب احكم بالحق » فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل « رب احكم بالحق » أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و « رب » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن « قل ربُّ احكم بالحق » بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب « قال ربي أَحكَم بالحق » بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري « قل ربي أحكم » على معنى أحكم الأمور بالحق. « وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون » أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي « على ما يصفون » بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 30, 2013 10:32 am

تفسير سورة الحج للقرطبى
===========


مقدمة السورة

وهي مكية، سوى ثلاث آيات: قوله تعالى: « هذان خصمان » [ الحج: 19 ] إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا ( أنهن أربع آيات ) ، قوله « عذاب الحريق » [ الحج: 22 ] وقال الضحاك وابن عباس أيضا: ( هي مدنية ) - وقاله قتادة - إلا أربع آيات: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » [ الحج: 52 ] إلى « عذاب يوم عقيم » [ الحج: 55 ] فهن مكيات. وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن « يا أيها الناس » مكي، و « يا أيها الذين آمنوا » مدني. الغزنوي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها؛ مختلف العدد.

قلت: وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: ( نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) . لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي.

واختلف أهل العلم في هذا؛ فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عمر أنهما قالا: « فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين » . وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. ورأى بعضهم أن فيها سجدة واحدة؛ وهو قول سفيان الثوري. روى الدارقطني عن عبدالله بن ثعلبة قال: رأيت عمر بن الخطاب سجد في الحج سجدتين؛ قلت في الصبح؟ قال في الصبح.



الآية: 1 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم )


روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت « يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى قوله - ولكن عذاب الله شديد » قال: أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال: ( أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسول أعلم؛ قال: ذاك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ) . فأنشأ المسلمون يبكون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية - قال - فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا؛ ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ) فكبروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه الحسن عن عمران بن حصين. وفيه: فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون؛ فقال: ( اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ) قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك - قال - يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل، حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. قال: فاشتد ذلك عليهم؛ قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ فقال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل ) . وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين. وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال « يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم - إلى - ولكن عذاب الله شديد » قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال: ( أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. فكبر ذلك على المسلمين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والأنس ) .


قوله تعالى: « يا أيها الناس اتقوا ربكم » المراد بهذا النداء المكلفون؛ أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء: الاحتراس من المكروه؛ وقد تقدم في أول « البقرة » القول فيه مستوفى، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته.


قوله تعالى: « إن زلزلة الساعة شيء عظيم » الزلزلة شدة الحركة؛ ومنه « وزلزلوا حتى يقول الرسول » [ البقرة: 214 ] . وأصل الكلمة من زل عن الموضع؛ أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه؛ أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء. وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة؛ هذا قول الجمهور. وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم.



الآية: 2 ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )


قوله تعالى: « يوم ترونها » الهاء في « ترونها » عائدة عند الجمهور على الزلزلة؛ ويقوي هذا قوله عز وجل: « تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها » والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه: ( أتدرون أي يوم ذلك... ) الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري.


قوله: « تذهل » أي تشتغل؛ قاله قطرب. وأنشد:

ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

وقيل تنسى. وقيل تلهو؛ وقيل تسلو؛ والمعنى متقارب. « عما أرضعت » قال المبرد: « ما » بمعنى المصدر؛ أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا كما قال الله عز وجل: « يوما يجعل الولدان شيبا » [ المزمل: 17 ] . وقيل: تكون مع النفخة الأولى. وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما قال تعالى: « مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » [ البقرة: 214 ] . وكما قال عليه السلام: ( اللهم اهزمهم وزلزلهم ) . وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة بـ « شيء » إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة؛ إذ اليقين يشبه الموجدات. وإما على المآل؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس؛ كما قال:


قوله تعالى: « وترى الناس سكارى » أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. « وما هم بسكارى » من الخمر. وقال أهل المعاني: وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبدالله « وترى الناس » بضم التاء؛ أي تظن ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي « سكرى » بغير ألف. الباقون « سكارى » وهما لغتان لجمع سكران؛ مثل كسلى وكسالى. والزلزلة: التحريك العنيف. والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.



الآية: 3 ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد )


قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله بغير علم » قيل: المراد النضر بن الحارث، قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا. « ويتبع » أي في قوله ذلك. « كل شيطان مريد » متمرد.



الآية: 4 ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير )


قال قتادة ومجاهد: أي من تولى الشيطان. « فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير » .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت مارس 30, 2013 11:46 pm

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآية: 5 ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج )


قوله تعالى: « إن كنتم في ريب » متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن بن أبي الحسن « البعث » بفتح العين؛ وهي لغة في « البعث » عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف « بعث » . والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. « فإنا خلقناكم » أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام « من تراب » . « ثم » خلقنا ذريته. « من نطفة » وهو المني؛ سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه؛ ومنه الحديث ( حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا ) . أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. « ثم من علقة » وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط؛ أي الطري. وقيل: الشديد الحمرة. « ثم من مضغة » وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ؛ ومنه الحديث ( ألا وإن في الجسد مضغة ) . وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: ( وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح ) ، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها؛ أربعة أشهر وعشر.


روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: « يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت؟ فيقال له انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها؛ ثم قرأ عامر » يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب « . وفي الصحيح عن أنس بن مالك - ورفع الحديث - قال: ( إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه ) . وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى... ) وذكر الحديث. وفي الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد... ) الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول؛ فإنه فيه: ( يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح ) فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ) قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبدالله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم؛ فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة. »


نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه؛ ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: « ولقد خلقناكم ثم صورناكم » [ الأعراف: 11 ] . وقال: « ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين » [ المؤمنون: 12 - 13 ] . وقال: « يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة » . وقال تعالى: « هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن » [ التغابن: 2 ] . ثم قال: « وصوركم فأحسن صوركم » [ غافر: 64 ] . وقال: « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم » [ التين: 4 ] . وقال: « خلق الإنسان من علق » [ العلق: 2 ] . إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قوله: « ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح » أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة؛ فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبعيين وغيرهم.


لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس؛ كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات؛ وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.


النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل؛ فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط؛ فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لأن العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.

قوله تعالى: « مخلقة وغير مخلقة » قال الفراء: « مخلقة » تامة الخلق، « وغير مخلقة » السقط. وقال ابن الأعرابي: « مخلقة » قد بدأ خلقها، « وغير مخلقة » لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: « ثم أنشأناه خلقا آخر » [ المؤمنون: 14 ] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من الخلق، وفيه معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق؛ ولهذا قال الله تعالى: « ثم أنشأناه خلقا آخر » [ المؤمنون: 14 ] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: « مخلقة وغير مخلقة » يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط؛ أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام. وقيل: ( المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت ) . ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط. قال.

أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء


أجمع العلماء على أن الأمة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها مضغة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم أصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه؛ فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه؛ وقال ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه ( كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم؛ فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية « فإنا خلقناكم من تراب - إلى - وغير مخلقة » . ) قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له. وقال بعض السلف: يصلى عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استهل المولود ورث ) . الاستهلال: رفع الصوت؛ فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي. وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة.


قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة. وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة. وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلاك أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.


ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » . قال القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا.

قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام: ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ) يدل على صحة ما قلناه، ولأن مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: « وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن » [ الطلاق: 4 ] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين.


روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبدالملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه [ خلفي ] ) . وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال: ( أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي ) .


« لنبين لكم » يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. « ونقر في الأرحام » قرئ بنصب « نقر » و « نخرج » ، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف. وقال الزجاج: « نقر » بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح. وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث؛ فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع « ونقر » ؛ المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرئ: « ويقر » و « يخرجكم » بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ. ابن وثاب « ما نشاء » بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين؛ فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال « ما نشاء » ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل؛ أي يقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.



قوله تعالى: « ثم نخرجكم طفلا » أي أطفالا؛ فهو اسم جنس. وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد؛ قال الشاعر:

يلحينني في حبها ويلمنني إن العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أمراء. وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ قال الله تعالى: « أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء » [ النور: 31 ] . وقال الطبري: وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: « فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا » [ النساء: 4 ] . وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، [ والجمع ] مطافل ومطافيل. والطفل ( بالفتح في الطاء ) الناعم؛ يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل ( بالتحريك ) : بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل ( أيضا ) : مطر؛ قال:

لوهد جاده طفل الثريا


قوله تعالى: « ثم لتبلغوا أشدكم » قيل: إن « ثم » زائدة كالواو في قوله « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » [ الزمر: 73 ] ؛ لأن ثم من حروف النسق كالواو. « أشدكم » كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد مضى في « الأنعام » بيانه. « ومنكم من يرد إلى أرذل العمر » أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل؛ ولهذا قال: « لكيلا يعلم من بعد علم شيئا » كما قال في سورة يس: « ومن نعمره ننكسه في الخلق » [ يس: 68 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر ) . أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى.


قوله تعالى: « وترى الأرض هامدة » ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول: « فإنا خلقناكم من تراب » فخاطب جمعا. وقال في الثاني: « وترى الأرض » فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. « هامدة » يابسة لا تنبت شيئا؛ قال ابن جريج. وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا

الهروي: « هامدة » أي جافة ذات تراب. وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر. وفي الحديث: ( حتى كاد يهمد من الجوع ) أي يهلك. يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد.


قوله تعالى: « فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت » أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة؛ يقال: هززت الشيء فاهتز؛ أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية؛ فسماه اهتزازا مجازا. وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف؛ قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:

تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. « وربت » أي ارتفعت وزادت. وقيل: انتفخت؛ والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد؛ ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس « وربأت » أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف؛ فهو رابئ وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس:

بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي

« وأنبتت » أي أخرجت. « من كل زوج » أي لون. « بهيج » أي حسن؛ عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن؛ يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج ( بالضم ) بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله: « اهتزت وربت » يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.



الآيتان: 6 - 7 ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور )


قوله تعالى: « ذلك بأن الله هو الحق » لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله: « يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث - إلى قوله - بهيج » . قال بعد ذلك: « ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير. وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور » . فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق؛ وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده؛ ولهذا قال في آخر السورة: « وأن ما يدعون من دونه هو الباطل » [ الحج: 62 ] . والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على عباده. وقيل: الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج: « ذلك » في موضع رفع؛ أي الأمر ما وصف لكم وبين. « بأن الله هو الحق » أي لأن الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون « ذلك » نصبا؛ أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. « وأنه يحيي الموتى » أي بأنه « وأنه على كل شيء قدير » أي وبأنه قادر على ما أراد. « وأن الساعة آتية » عطف على قوله: « ذلك بأن الله هو الحق » من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى؛ إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لابد من إضمار فعل يتضمنه؛ أي وليعلموا أن الساعة آتية « لا ريب فيها » أي لا شك. « وأن الله يبعث من في القبور » يريد للثواب والعقاب.



الآيات: 8 - 10 ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد )


قوله تعالى: « ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير » أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث. وقيل: في أبي جهل بن هشام؛ قال ابن عباس. ( والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم؛ كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة؛ فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير؛ ليضل عن سبيل الله ) . وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني؛ وهو تكرار مفيد؛ قال القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: « من » في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله: « ومن الناس » . « ثاني عطفه » نصب على الحال. ويتأول على معنيين: أحدهما: روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما ) . والمعنى الآخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر؛ ذكره النحاس. وقال مجاهد وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد. وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( « ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله » قال: هو صاحب البدعة. المبرد ) : العطف ما انثنى من العنق. وقال المفضل: والعطف الجانب؛ ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال: ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه؛ وهو كقوله تعالى: « ولى مستكبرا كأن لم يسمعها » [ لقمان: 7 ] . وقوله تعالى: « لووا رؤوسهم » [ المنافقون: 5 ] . وقوله: « أعرض ونأى بجانبه » [ الإسراء: 83 ] . وقوله: « ذهب إلى أهله يتمطى » [ القيامة: 33 ] . « ليضل عن سبيل الله » أي عن طاعة الله تعالى. وقرئ « ليضل » بفتح الياء. واللام لام العاقبة؛ أي يجادل فيضل؛ كقوله تعالى: « ليكون لهم عدوا وحزنا » [ القصص: 8 ] . أي فكان لهم كذلك. ونظيره « إذا فريق منكم بربهم يشركون. ليكفروا » [ النحل: 54 - 55 ] . « له في الدنيا خزي » أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة؛ كما قال: « ولا تطع كل حلاف مهين » [ القلم: 10 ] الآية. وقوله تعالى: « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] . وقيل: الخزي ههنا القتل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا؛ كما تقدم في آخر الأنفال. « ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق » أي نار جهنم. « ذلك بما قدمت يداك » أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة؛ لأن اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و « ذلك » بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الإثنين أبريل 01, 2013 12:02 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآية: 11 ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )


قوله تعالى: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » « من » في موضع رفع بالابتداء، والتمام « انقلب على وجهه » على قراءة الجمهور « خسر » . وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة. وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني! فقال: ( إن الإسلام لا يقال ) فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: ( يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب ) ؛ فأنزل الله تعالى: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » . وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( « ومن الناس من يعبد الله على حرف » قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح؛ فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء ) . وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون؛ فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث. وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى « على حرف » على شك؛ قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده؛ ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: « على حرف » أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء؛ ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف. وقيل: « على حرف » على شرط؛ وذلك أن شيبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر أمره: ادع لي ربك أن يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أومن بك وأعدل إلى دينك؛ فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى؛ ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: « ومن الناس من يعبد الله على حرف » يريد شرط. وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته؛ وبين هذا بقوله: « فإن أصابه خير » صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. « وإن أصابته فتنة » أي خلاف ذلك مما يختبر به. « انقلب على وجهه » أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. « خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين » قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق - وروي عن يعقوب - « خاسر الدنيا » بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على « وجهه » . وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.



الآية: 12 ( يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد )


قوله تعالى: « يدعو من دون الله » أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. « ذلك هو الضلال البعيد » قال الفراء: الطويل.



الآية: 13 ( يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير )


قوله تعالى: « يدعو لمن ضره أقرب من نفعه » أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه؛ أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام؛ كقوله تعالى: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] . وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا كما؛ قال الله تعالى: « ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » [ يونس: 18 ] . وقال تعالى: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » [ الزمر: 3 ] . وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير؛ أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمه في غير موضعها. و « من » في موضع نصب بـ « يدعو » واللام جواب القسم. و « ضره » مبتدأ. و « أقرب » خبره. وضعف النحاس تأخير الكلام وقال: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر؛ قال الشاعر:

خالي لأنت ومن جرير خال ينل العلاء ويكرم الأخوالا

أي لخالي أنت؛ وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف؛ والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد؛ لأنه لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال: « يدعو » بمعنى يقول. و « من » مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه.

قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: « يدعو » بمعنى يقول، و « من » مبتدأ، و « ضره » مبتدأ ثان، و « أقرب » خبره، والجملة صلة « من » ، وخبر « من » محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه؛ ومثله قول عنترة:

يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه؛ ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى: « يا أيها الساحر ادع لنا ربك » [ الزخرف: 49 ] ؛ أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون « يدعو » في موضع الحال، وفيه هاء محذوفة؛ أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه؛ ففي « يدعو » هاء مضمرة، ويوقف على هذا على « يدعو » . وقوله: « لمن ضره أقرب من نفعه » كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره « لبئس المولى » وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج: ويجوز أن يكون « ذلك » بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع « يدعو » عليه؛ أي الذي هو الضلال البعيد يدعو؛ كما قال: « وما تلك بيمنك يا موسى » أي ما الذي. ثم قوله « لمن ضره » كلام مبتدأ، و « لبئس المولى » خبر المبتدأ؛ وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد؛ قدم المفعول وهو الذي؛ كما تقول: زيدا يضرب؛ واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول؛ وأنشد:

عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق

أي والذي. وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون « يدعو » مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا؛ أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو؛ مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز « لمن ضره » بكسر اللام؛ أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: « بأن ربك أوحى لها » أي إليها. وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه؛ أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبدالله بن مسعود. « لبئس المولى » أي في التناصر « ولبئس العشير » أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن.



الآية: 14 ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد )


قوله تعالى: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار » لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين والشياطين ذكر حال المؤمنين في الآخرة أيضا. « إن الله يفعل ما يريد » أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء؛ فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله؛ لا أن فعل الرب معلل بفعل العبيد.



الآية: 15 ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ )


قوله تعالى: « من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء » قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. « فليمدد بسبب إلى السماء » أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. « ثم ليقطع » أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له « فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ » وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وكذا قال ابن عباس: ( إن الكناية في « ينصره الله » ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يجر ذكره فجميع الكلام دال عليه؛ لأن الإيمان هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين انقلاب عن الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي من كان يظن ممن يعادي محمدا صلى الله عليه وسلم ومن يعبد الله على حرف أنا لا ننصر محمدا فليفعل كذا وكذا ) . وعن ابن عباس أيضا ( أن الهاء تعود على « من » والمعنى: من كان يظن أن الله لا يرزقه فليختنق، فليقتل نفسه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله ) . والنصر على هذا القول الرزق؛ تقول العرب: من ينصرني نصره الله؛ أي من أعطاني أعطاه الله. ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة؛ أي ممطورة. قال الفقعسي:

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره

وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: « من كان يظن أن لن ينصره الله » أي لن يرزقه. وهو قول أبي عبيدة. وقيل: إن الهاء تعود على الدين؛ والمعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه. « فليمدد بسبب » أي بحبل. والسبب ما يتوصل به إلى الشيء. « إلى السماء » إلى سقف البيت. ابن زيد: هي السماء المعروفة. وقرأ الكوفيون « ثم ليقطع » بإسكان اللام. قال النحاس: وهذا بعيد في العربية؛ لأن « ثم » ليست مثل الواو والفاء، لأنها يوقف، عليها وتنفرد. وفي قراءة عبدالله « فليقطعه ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظه » . قيل: « ما » بمعنى الذي؛ أي هل يذهبن كيده الذي يغيظه، فحذف الهاء ليكون أخف. وقيل: « ما » بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده غيظه.



الآية: 16 ( وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد )


قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه آيات بينات » يعني القرآن. « وأن الله » أي وكذلك أن الله « يهدي من يريد » علق وجود الهداية بإرادته؛ فهو الهادي لا هادي سواه.



الآية: 17 ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد )


قوله تعالى: « إن الذين آمنوا » أي بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. « والذين هادوا » اليهود، وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام. « والصابئين » هم قوم يعبدون النجوم. « والنصارى » هم المنتسبون إلى ملة عيسى. « والمجوس » هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين: نور وظلمة. قال قتادة: الأديان خمسة، أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل: المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات؛ والميم والنون يتعاقبان كالغيم والغين، والأيم والأين. وقد مضى في البقرة هذا كله مستوفى. « والذين أشركوا » هم العرب عبدة الأوثان. « إن الله يفصل بينهم يوم القيامة » أي يقضي ويحكم؛ فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة. وقيل: هذا الفصل بأن يعرفهم المحق من المبطل بمعرفة ضرورية، واليوم يتميز المحق عن المبطل بالنظر والاستدلال. « إن الله على كل شيء شهيد » أي من أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم، فلا يعزب عنه شيء منها، سبحانه! وقوله « إن الله يفصل بينهم » خبر « إن » في قوله « إن الذين آمنوا » كما تقول: إن زيدا إن الخير عنده. وقال الفراء: ولا يجوز في الكلام إن زيدا إن أخاه منطلق؛ وزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة؛ أي من آمن ومن تهود أو تنصر أو صبأ يفصل بينهم، وحسابهم على الله عز وجل. ورد أبو إسحاق على الفراء هذا القول، واستقبح قوله: لا يجوز إن زيدا إن أخاه منطلق؛ قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذين، و « إن » تدخل على كل مبتدأ فتقول إن زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإن فتقول: إن زيدا إنه منطلق. وقال الشاعر:

إن الخليفة إن الله سربله سربال عز به ترجى الخواتيم



الآية: 18 ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء )


قوله تعالى: « ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض » هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في « البقرة » ، وسجود الجماد في « النحل » . « والشمس » معطوفة على « من » . وكذا « والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس » . ثم قال: « وكثير حق عليه العذاب » وهذا مشكل من الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل « والظالمين أعد لهم عذابا أليما » ؟ [ الإنسان: 31 ] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود، فيكون ابتداء وخبرا، وتم الكلام عند قوله « وكثير من الناس » . ويجوز أن يكون معطوفا، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرا حق عليه العذاب، ونحوه. وقيل: تم الكلام عند قوله « والدواب » ثم ابتدأ فقال « وكثير من الناس » في الجنة « وكثير حق عليه العذاب » . وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: ( المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب ) ؛ ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه ) . قال القشيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.

قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة « يس » عند قوله تعالى: « والشمس تجري لمستقر لها » [ يس: 38 ] . وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.


قوله تعالى: « ومن يهن الله فما له من مكرم » أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس: ( إن تهاون بعبادة الله صار إلى النار ) .


قوله تعالى: « إن الله يفعل ما يشاء » يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء « ومن يهن الله فما له من مكرم » أي إكرام.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الثلاثاء أبريل 02, 2013 12:02 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآيات: 19 - 21 ( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد )


قوله تعالى: « هذان خصمان اختصموا في ربهم » خرج مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن « هذان خصمان اختصموا في ربهم » إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس: ( نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين ) ، وسماهم، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه ) ؛ ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة: المراد بالخصمين الجنة والنار؛ اختصمتا فقالت النار: خلقني لعقوبته. وقالت الجنة خلقني لرحمته.

قلت: وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها ) . خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا: ( هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا؛ فكانت هذه خصومتهم ) ، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر « هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - عذاب الحريق » . وقرأ ابن كثير « هذان خصمان » بتشديد النون من « هذان » . وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم؛ قال: فقال « اختصموا » لأنهم جمع، قال: ولو قال « اختصما » لجاز. قال النحاس: وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع ( أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا ) ؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل: نزلت في الخصومة في البعث والجزاء؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم.


قوله تعالى: « فالذين كفروا » يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. « قطعت لهم ثياب من نار » أي خيطت وسويت؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله « قطعت » أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق؛ قال الله تعالى: « وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس » [ المائدة: 116 ] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير: « من نار » من نحاس؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في « قطران » [ إبراهيم: 50 ] وليس في الآنية شيء إذا حمي يكون أشد حرا منه. وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب؛ مثل « وجعلنا الليل لباسا » [ النبأ: 10 ] . « يصب من فوق رؤوسهم الحميم » أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ) . قال: حديث حسن صحيح غريب. « يصهر » يذاب. « به ما في بطونهم » والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه؛ يقال: صهرت الشيء فانصهر، أي أذبته فذاب، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة:

تروي لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر

أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. « والجلود » أي وتحرق الجلود، أو تشوى الجلود؛ فإن الجلود لا تذاب؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به، فهو كما تقول: أتيته فأطعمني ثريدا، إي والله ولبنا قارصا؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر:

علفتها تبنا وماء باردا

« ولهم مقامع من حديد » أي يضربون بها ويدفعون؛ الواحدة مقمعة، ومقمع أيضا كالمحجن، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت: أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث ( بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا ) . وقيل: المقامع سياط من نار، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب، أي تذلله.


الآية: 22 ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )



قوله تعالى: « كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم » أي من النار. « أعيدوا فيها » بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان: ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل: إذا اشتد غمهم فيها فروا؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع، ويقولون لهم « وذوقوا عذاب الحريق » أي المحرق؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل: الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق، والاسم الحرقة والحريق. والذوق: مماسة يحصل معها إدراك الطعم؛ وهو هنا توسع، والمراد به إدراكهم الألم.



الآية: 23 ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير )


قوله تعالى: « إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار » لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. « يحلون فيها من أساور من ذهب » « من » صلة. والأساور جمع أسورة، وأسورة واحدها سوار؛ وفيه ثلاث لغات: ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر: « من أساور من ذهب ولؤلؤا » [ فاطر: 33 ] وقال في سورة الإنسان: « وحلوا أساور من فضة » [ الإنسان: 21 ] . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) . وقيل: تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر، والقرآن يرده. « ولؤلؤا » قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة « لؤلؤا » بالنصب، على معنى ويخلون لؤلؤا؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في « فاطر » اتباعا للمصحف، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز « اللولؤ » في كل القرآن؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت.

قلت: وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري: من قرأ « ولؤلؤ » بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني: من نصب « اللؤلؤ » فالوقف الكافي « من ذهب » ؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري: وليس كما قال، لأنا إذا خفضنا « اللؤلؤ » نسقناه على لفظ الأساور، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور، وكأنا قلنا: يحلون فيها أساور ولؤلؤا، فهو في النصب بمنزلته في الخفض، فلا معنى لقطعه من الأول.



قوله تعالى: « ولباسهم فيها حرير » أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة ) . فإن قيل: قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة؛ فهل يحرمها إذا دخل الجنة؟ قلنا: نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال: إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف، فأما إذا دخل الجنة فلا؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول: ما ذكرتموه محتمل، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ) . والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ) . وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان ( وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال، ومثله لا يقال بالرأي، والله أعلم. وكذلك ( من شرب الخمر ولم يتب ) و ( من استعمل آنية الذهب والفضة ) وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى، والحمد لله، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة، وقد ذكرناه في سورة الكهف.



الآية: 24 ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )


قوله تعالى: « وهدوا إلى الطيب من القول » أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس: ( يريد لا إله إلا الله والحمد لله ) . وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى طريق الجنة.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأربعاء أبريل 03, 2013 12:02 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآية: 25 ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )



قوله تعالى: « إن الذين كفروا ويصدون » أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة « ويصدون » خبر « إن » . وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء « ويصدون » مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى: « الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله » [ الرعد: 28 ] ؛ فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر « نذقه من عذاب أليم » . قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر « إن » جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر « إن » لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.



قوله تعالى: « والمسجد الحرام » قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى: « وصدوكم عن المسجد الحرام » [ الفتح: 25 ] وقال: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام » [ الإسراء: 1 ] . وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك. « الذي جعلناه للناس » أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: « إن أول بيت وضع للناس » [ آل عمران: 96 ] . « سواء العاكف فيه والباد » العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة ( إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ) . وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.

وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة « المائدة » . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.

قلت: الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا ) . قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله: ( مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها ) . وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: ( لا، إنما هو مناخ من سبق إليه ) . وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: « الذين أخرجوا من ديارهم » الحج: 40 ] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح: ( من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) .


قرأ جمهور الناس « سواء » بالرفع، وهو على الابتداء، و « العاكف » خبره. وقيل: الخبر « سواء » وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم « سواء » بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع « العاكف » به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة « سواء » بالنصب « العاكف » بالخفض، و « البادي » عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.


قوله تعالى: « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » شرط، وجوابه « نذقه من عذاب أليم » . والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس ( « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » قال: الشرك ) . وقال عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر: ( كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه ) . وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ) . وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.



ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله.

قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة « ن والقلم » القلم: 1 ] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.


الباء في « بإلحاد » زائدة كزيادتها في قوله تعالى: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون:20 ] ؛ وعليه حملوا قول الشاعر:

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

أي رزق: وقال آخر:

ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد

أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:

بواد يمان ينبت الشث صدرة وأسفله بالمرخ والشبهان

أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.



الآية: 26 ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )


قوله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله: « لإبراهيم » صلة للتأكيد؛ كقوله: « ردف لكم » [ النمل: 72 ] ، وهذا قول الفراء. وقيل: « بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في « البقرة » . وقيل: « بوأنا » نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر:

كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا


« أن لا تشرك » هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة « أن لا يشرك » بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن « أن » مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة؛ مثل « فلما أن جاء البشير » [ يوسف: 96 ] . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قول « أن لا تشرك » لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة « التوبة » . والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.



الآية: 27 ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )


قوله تعالى: « وأذن في الناس بالحج » قرأ جمهور الناس « وأذن » بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن « وآذن » بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما « وآذن » على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على « بوأنا » . والأذان الإعلام، وقد تقدم في « التوبة » .


لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: ( أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك ) . وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله « السجود » ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال « وأذن في الناس بالحج » أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله « أن لا تشرك » مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو « أن لا تشرك بي » بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس « بالحج » بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.


قوله تعالى: « يأتوك رجالا وعلى كل ضامر » وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال « يأتوك » وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: « رجالا » جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة « رجالا » بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد « رجالى » على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. « وعلى كل ضامر يأتين » لأن معنى « ضامر » معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز « يأتي » على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: « يأتين من كل فج عميق » أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.

قال بعضهم: إنما قال « رجالا » لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول « رجالا » من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله « وعلى كل ضامر » يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: « رجالا » وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ( ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول « يأتوك رجالا » ) . وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود « يأتون » وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.


لا خلاف في جواز. الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: ( اربطوا أوساطكم بأزركم ) ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.


استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.

قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في « البقرة » بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في « الأنبياء » . والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة « يأتين » . وقرأ أصحاب عبدالله « يأتون » وهذا للركبان و « يأتين » للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين « من كل فج عميق » أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق


واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين ) . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الخميس أبريل 04, 2013 12:01 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآيتان: 28 - 29 ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق )


قوله تعالى: « ليشهدوا » أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. « منافع لهم » أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » [ البقرة: 198 ] التجارة. « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات » قد مضى في « البقرة » الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح « إن صلاتي ونسكي » [ الأنعام:162 ] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في « الأنعام » .


واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه: بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه: ( ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ) . خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ) الحديث. وقال أبو عمر بن عبدالبر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام: ( من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) .

وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » ، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.



واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: ( هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة ) ؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.

قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى: « في أيام معلومات » الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبدالبر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له. واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام » فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا. قوله تعالى: « على ما رزقهم » أي على ذبح ما رزقهم. « من بهيمة الأنعام » والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع.


قوله تعالى: « فكلوا منها » أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقول عليه السلام: ( فكلوا وادخروا وتصدقوا ) . قال الكيا: قوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا » يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه.



دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.

فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شيء عليه غيره. وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.


قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم.

هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.

فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال: ( إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس ) . وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع: لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: ( ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ) . وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو عمر: قوله عليه السلام ( ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك ) لا يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: ( خل بينها وبين الناس ) أهل رفقته وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى: « أو كفارة طعام مساكين » [ المائدة: 95 ] . وقال في فدية الأذى: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » [ البقرة: 196 ] . وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: ( أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة ) . ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله: « والبدن جعلناها لكم من شعائر الله » إلى قوله « فكلوا منها » [ الحج: 36 ] . وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه. وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.


« فكلوا منها » قال بعض العلماء: قوله تعالى: « فكلوا منها » ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله: « فكلوا منها » وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ضحى فليأكل من أضحيته ) ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.

ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال: ( يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة ) قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير » فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] فذكر ثلاثة.


المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.


اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال. روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ) ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.



الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ) . قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: « كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة ) . وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة » الكوثر « الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.»


قوله تعالى: « وأطعموا البائس الفقير » « الفقير » من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال: بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام: ( لكن البائس سعد بن خولة ) . ويقال: رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: « وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » [ الأعراف: 165 ] أي شديد. وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله: « فكلوا » ، « وأطعموا » وقيل الثلثان؛ لقوله: ( ألا فكلوا وادخروا واتجروا ) أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان. وقيل مستحبان. وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي.


قوله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم » أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: ( هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلها ) ، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجيء فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:

حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال:

قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا

الماوردي: قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.


قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: ( لا وفاء لنذر في معصية الله ) ، وقوله: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ) « وليطوفوا بالبيت العتيق » الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك. للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق » . قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبدالحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبدالحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله: « وأذن في الناس بالحج » ، وقال في سياق الآية: « وليطوفوا بالبيت العتيق » والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: « وليطوفوا بالبيت العتيق » فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب.



اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح ( أنه أول مسجد وضع في الأرض ) . وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد. وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار ) قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:

مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب

وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث. والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم.

الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...



الآيتان: 30 - 31 ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور، حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )


قوله تعالى: « ذلك » يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك. ويحتمل أن يكون في موضع نصب بتقدير: امتثلوا ذلك؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير:

هذا وليس كمن يعيا بخطته وسط الندي إذا ما قائل نطقا

والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم » ويدخل في ذلك تعظيم المواضع؛ قاله ابن زيد وغيره. ويجمع ذلك أن تقول: الحرمات امتثال الأمر من فرائضه وسننه. وقوله: « فهو خير له عند ربه » أي التعظيم خير له عند ربه من التهاون بشيء منها. وقيل: ذلك التعظيم خير من خيراته ينتفع به، وليست للتفضيل وإنما هي عدة بخير. « وأحلت لكم الأنعام » أن تأكلوها؛ وهي الإبل والبقر والغنم. « إلا ما يتلى عليكم » أي في الكتاب من المحرمات؛ وهي الميتة والموقوذة وأخواتها. ولهذا اتصال بأمر الحج؛ فإن في الحج الذبح، فبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه. وقيل: « إلا ما يتلى عليكم » غير محلي الصيد وأنتم حرم.


قوله تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » الرجس: الشيء القذر. الوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه فهو كالتمثال أيضا. وقال عدي بن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ( ألق هذا الوثن عنك ) أي الصليب؛ وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه. وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه. يريد اجتنبوا عبادة الأوثان، روي عن ابن عباس وابن جريج. وسماها رجسا لأنها سبب الرجز وهو العذاب. وقيل: وصفها بالرجس، والرجس النجس فهي نجسة حكما. وليست النجاسة وصفا ذاتيا للأعيان وإنما هي وصف شرعي من أحكام الإيمان، فلا تزال إلا بالإيمان كما لا تجوز الطهارة إلا بالماء. « من » في قوله: « من الأوثان » قيل: إنها لبيان الجنس، فيقع نهيه عن رجس الأوثان فقط، ويبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية؛ فكأنه نهاهم عن الرجس عاما ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس. ومن قال إن « من » للتبعيض، قلب معنى الآية وأفسده. « واجتنبوا قول الزور » والزور: الباطل والكذب. وسمي زورا لأنه أميل عن الحق؛ ومنه « تزاور عن كهفهم » ، [ الكهف: 17 ] ، ومدينة زوراء؛ أي مائلة. وكل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وزور. وفي الخبر أنه عليه السلام قام خطيبا فقال: ( عدلت شهادة الزور الشرك بالله ) قالها مرتين أو ثلاثا. يعني أنها قد جمعت مع عبادة الوثن في النهي عنها.



هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور، وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره وينادي عليه ليعرف لئلا يغتر بشهادته أحد. ويختلف الحكم في شهادته إذا تاب؛ فإن كان من أهل العدالة المشهور بها المبرز فيها لم تقبل؛ لأنه لا سبيل إلى علم حاله في التوبة؛ إذ لا يستطيع أن يفعل من القربات أكثر مما هو عليه. وإن كان دون ذلك فشمر في العبادة وزادت حاله في التقى قبل شهادته. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقول الزور ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.



قوله تعالى: « حنفاء لله » معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق. ولفظة « حنفاء » من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل. و « حنفاء » نصب على الحال. وقيل: « حنفاء » حجاجا؛ وهذا تخصيص لا حجة معه. « ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء » أي هو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا؛ فهو بمنزلة من خر من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه. ومعنى « فتخطفه الطير » أي تقطعه بمخالبها. وقيل: هذا عند خروج روحه وصعود الملائكة بها إلى سماء الدنيا، فلا يفتح لها فيرمى بها إلى الأرض؛ كما في حديث البراء، وقد ذكرناه في التذكرة. والسحيق: البعيد؛ ومنه قوله تعالى: « فسحقا لأصحاب السعير » [ الملك: 11 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( فسحقا فسحقا ) .
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الجمعة أبريل 05, 2013 12:02 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآيتان: 32 - 33 ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق )


قوله تعالى: « ذلك » فيه ثلاثة أوجه. قيل: يكون في موضع رفع بالابتداء، أي ذلك أمر الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي اتبعوا ذلك. « ومن يعظم شعائر الله » الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم؛ ومنه شعار القوم في الحرب؛ أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك. وقال قوم: المراد هنا تسمين البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها؛ قال ابن عباس ومجاهد وجماعة. وفيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإذا عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له عمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب. والله أعلم.


قوله تعالى: « فإنها من تقوى القلوب » الضمير في « إنها » عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام، ولو قال فإنه لجاز. وقيل إنها راجعة إلى الشعائر؛ أي فإن تعظيم الشعائر، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه، فرجعت الكناية إلى الشعائر. « فإنها من تقوى القلوب » قرئ « القلوب » بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو « تقوى » وأضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: ( التقوى هاهنا ) وأشار إلى صدره.


قوله تعالى: « لكم فيها منافع » يعني البدن من الركوب والدر والنسل والصوف وغير ذلك، إذا لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأصل المسمى؛ قال ابن عباس. فإذا صارت بدنا هديا فالمنافع فيها أيضا ركوبها عند الحاجة، وشرب لبنها بعد ري فصيلها. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رأى رجلا يسوق بدنة فقال: ( اركبها ) فقال: إنها بدنة. فقال: ( اركبها ) قال: إنها بدنة. قال: ( اركبها ويلك ) في الثانية أو الثالثة ) . وروي عن جابر بن عبدالله وسئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ) . والأجل المسمى على هذا القول نحرها؛ قاله عطاء بن أبي رباح.

ذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة لقوله عليه الصلاة والسلام: ( اركبها ) . وممن أخذ بظاهره أحمد واسحاق وأهل الظاهر. وروى ابن نافع عن مالك: لا بأس بركوب البدنة ركوبا غير فادح. والمشهور أنه لا يركبها إلا إن اضطر إليها لحديث جابر فإنه مقيد والمقيد يقضي على المطلق. وبنحو ذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل؛ قال إسماعيل القاضي. وهو الذي يدل عليه مذهب مالك، وهو خلاف ما ذكره ابن القاسم أنه لا يلزمه النزول، وحجته إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له الركوب فجاز له استصحابه. وقوله: ( إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ) يدل على صحة ما قاله الإمام الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما؛ وما حكاه إسماعيل عن مذهب مالك. وقد جاء صريحا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهد، فقال: ( اركبها ) . وقال أبو حنيفة والشافعي: إن نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك ويتصدق به.


قوله تعالى: « ثم محلها إلى البيت العتيق » يريد أنها تنتهي إلى البيت، وهو الطواف. فقول: « محلها » مأخوذ من إحلال المحرم. والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه؛ قاله مالك في الموطأ. وقال عطاء: ينتهي إلى مكة. وقال الشافعي: إلى الحرم. وهذا بناء على أن الشعائر هي البدن، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها وإلغاء خصوصية ذكر البيت. والله أعلم.



الآية: 34 ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين )


قوله تعالى: « ولكل أمة جعلنا منسكا » لما ذكر تعالى الذبائح بين أنه لم يخل منها أمة، والأمة القوم المجتمعون على مذهب واحد؛ أي ولكل جماعة مؤمنة جعلنا منسكا. والمنسك الذبح وإراقة الدم؛ قاله مجاهد. يقال: نسك إذا ذبح ينسك نسكا. والذبيحة نسيكة، وجمعها نسك؛ ومنه قوله تعالى: « أو صدقة أو نسك » [ البقرة: 196 ] . والنسك أيضا الطاعة. وقال الأزهري في قوله تعالى: « ولكل أمة جعلنا منسكا » : إنه يدل على موضع النحر في هذا الموضع، أراد مكان نسك. ويقال: منسك ومنسك، لغتان، وقرئ بهما. قرأ الكوفيون إلا عاصما بكسر السين، الباقون بفتحها. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر. وقيل مناسك الحج لترداد الناس إليها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي. وقال ابن عرفة في قوله « ولكل أمة جعلنا منسكا » : أي مذهبا من طاعة الله تعالى؛ يقال: نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم. وقيل: منسكا عيدا؛ قاله الفراء. وقيل حجا؛ قاله قتادة. والقول الأول أظهر؛ لقوله تعالى: « ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » ي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له.


قوله تعالى: « فله أسلموا » معناه لحقه ولوجهه وإنعامه آمنوا وأسلموا. ويحتمل أن يريد الاستسلام؛ أي له أطيعوا وانقادوا. « وبشر المخبتين » المخبت: المتواضع الخاشع من المؤمنين. والخبت ما انخفض من الأرض؛ أي بشرهم بالثواب الجزيل. قال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال مجاهد فيما روى عنه سفيان عن ابن أبي نجيح: المخبتون المطمئنون بأمر الله عز وجل.



الآية: 35 ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )


قوله تعالى: « وجلت قلوبهم » أي خافت وحذرت مخالفته. فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها. وروي أن هذه الآية قوله: « وبشر المخبتين » نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم. وقرأ الجمهور « الصلاة » بالخفض على الإضافة، وقرأ أبو عمرو « الصلاة » بالنصب على توهم النون، وأن حذفها للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:

الحافظو عورة العشيرة...

هذه الآية نظير قوله تعالى: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون » [ الأنفال: 2 ] ، وقوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله » [ الزمر: 23 ] . هذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ قال الله تعالى: « وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » [ المائدة: 83 ] . فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم؛ فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا؛ والجنون فنون. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: ( سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا ) فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين [ يدي ] أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وقد مضى القول في هذه المسألة بأشبع من هذا في سورة « الأنفال » والحمد لله.



الآية: 36 ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون )


قوله تعالى: « والبُدْن » وقرأ ابن أبي إسحاق « والبُدُن » لغتان، واحدتها بَدَنَة. كما يقال: ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخشُب وخشْب. وفي التنزيل « وكان له ثمر » وقرئ « ثمر » لغتان. وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة السمن. وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل. وقيل: البدن جمع « بدن » بفتح الباء والدال. ويقال: بدن الرجل ( بضم الدال ) إذا سمن. وبدن ( بتشديدها ) إذا كبر وأسن. وفي الحديث ( إني قد بدنت ) أي كبرت وأسننت. وروي ( بدنت ) وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم. يقال: بدن الرجل يبدُن بدنا وبدانة فهو بادن؛ أي ضخم.


اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعي: لا. وقال مالك وأبو حنيفة: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نذر بدنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعي وعطاء لا تجزيه. وعلى مذهب مالك تجزيه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ) الحديث. فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم. وأيضا قوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل. والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي. ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعا. وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا على سبعة كالإبل. وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعي على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ. والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة. والهدي عام في الإبل والبقر والغنم.


قوله تعالى: « من شعائر الله » نص في أنها بعض الشعائر. وقوله: « لكم فيها خير » يريد به المنافع التي تقدم ذكرها. والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة. « فاذكروا اسم الله عليها صواف » أي انحروها على اسم الله. و « صواف » أي قد صفت قوائمها. والإبل تنحر قياما معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة؛ والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري « صوافي » أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا. وعن الحسن أيضا « صواف » بكسر الفاء وتنوينها مخففة، وهي بمعنى التي قبلها، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و « صواف » قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صف يصف. وواحد صواف صافة، وواحد صوافي صافية. وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي « صوافن » بالنون جمع صافنة. ولا يكون واحدها صافنا؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. ومنه قوله تعالى: « الصافنات الجياد » [ ص: 31 ] . وقال عمرو بن كلثوم:

تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا

ويروي:

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

وقال آخر:

ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجرمي: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله. وقال الأعشى:

وكل كميت كجذع السحو ق يرنو القناء إذا ما صفن



قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف فقال: تقيدها ثم تصفها. وقال لي مالك بن أنس مثله. وكافة العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثوري فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقياما. وشذ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة. والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وجبت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زياد بن جبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبدالرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.

قال مالك: فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن ينحرها معقولة. والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها. ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب. وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخر، وآخر بخطامها. وتضجع البقر والغنم.

ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حل النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط. قال قيس بن الخطيم:

أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

وقال أوس بن حجر:

ألم تكسف الشمس والبدر وال واكب للجبل الواجب

فقوله تعالى: « فإذا وجبت جنوبها » يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة. كنى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنى عن النحر والذبح بقوله تعالى: « فاذكروا اسم الله عليها » والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح. قال الشاعر:

فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم

وقال عنترة:

وضربت قرني كبشها فتجدلا

أي سقط مقتولا إلى الجدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.



قوله تعالى: « فكلوا منها » أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوعا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه. « وأطعموا القانع والمعتر » قال مجاهد وإبراهيم والطبري: قوله « وأطعموا » أمر إباحة. و « القانع » السائل. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنع قناعة فهو قنع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمد يحمد، قناعة وقنعا وقنعانا؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ:

لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع

وقال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ « وأطعموا القنع » ومعنى هذا مخالف للأول. يقال: قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن: المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير:

على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل

وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والعتر الزائر. وروي عن الحسن أنه قرأ « والمعتري » ومعناه كمعنى المعتر. يقال: اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس.



الآية: 37 ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين )


قوله تعالى: « لن ينال الله لحومها » قال ابن عباس: ( كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ) فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه. وقال ابن عباس: لن يصعد إليه. ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولكن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه؛ ومنه الحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) . والقراءة « لن ينال الله » و « يناله » بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرا إلى اللحوم.


قوله تعالى: « كذلك سخرها لكم » من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده. « لتكبروا الله على ما هداكم » ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل: « فاذكروا اسم الله عليها » ، وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحها بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما، وسمى وكبر.

وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور: التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أولا إله إلا الله؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.

ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني؛ جائز. وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال ( باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » [ البقرة: 127 ] . وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبدالله قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين، فلما وجههما قال: ( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا - وقرأ إلى قوله: وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ) ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.



قوله تعالى: « وبشر المحسنين » روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.



الآية: 38 ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور )


روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: « كفور » . فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في « الأنفال » التشديد في الغدر؛ وأنه ( ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ) . وقيل: المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل: يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع « يدافع » « ولولا دفاع » . وقرأ أبو عمرو وابن كثير « يدفع » « ولولا دفع » . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي « يدافع » « ولولا دفع الله » . ويدافع بمعنى يدفع؛ مثل عاقبت اللص، وعافاه الله؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن « دفاعا » مصدر دفع؛ كحسب حسابا.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله السبت أبريل 06, 2013 12:06 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============



الآية: 39 ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير )


قوله تعالى: « أذن للذين يقاتلون » قيل: هذا بيان قوله « إن الله يدافع عن الذين آمنوا » أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم؛ وفيه إضمار، أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك: استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة؛ فأنزل الله « إن الله لا يحب كل خوان كفور » فلما هاجر نزلت « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا » . وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال: ( لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن؛ فأنزل الله تعالى: « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير » فقال أبو بكر: لقد علمت أنه سيكون قتال ) . فقال: هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس.


في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة؛ لأن قوله: « أذن » معناه أبيح؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » وغير موضع. وقرئ « أذن » بفتح الهمزة؛ أي أذن الله. « يقاتلون » بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ « يقاتلون » بفتح التاء؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال: « بأنهم ظلموا » أي أخرجوا من ديارهم.



الآية: 40 ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )


قوله تعالى: « الذين أخرجوا من ديارهم » هذا أحد ما ظلموا به؛ وإنما أخرجوا لقولهم: ربنا الله وحده. فقوله: « إلا أن يقولوا ربنا الله » استثناء منقطع؛ أي لكن لقولهم ربنا الله؛ قال سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض، يقدرها مردودة على الباء؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله؛ أي أخرجوا بتوحيدهم، أخرجهم أهل الأوثان. و « الذين أخرجوا » في موضع خفض بدلا من قوله: « للذين يقاتلون » .


قال ابن العربي: قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله: « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » [ الإسراء: 15 ] . فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم، وأنزل « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا - إلى قوله - الأمور » .

في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى: « إذ أخرجه الذين كفروا » [ التوبة: 40 ] والكلام فيهما واحد؛ وقد تقدم في « التوبة » والحمد لله.


قوله تعالى: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض » أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: « ولولا دفع الله الناس » الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد. « لهدمت » من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق؛ كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقال أبو الدرداء: لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.


قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قرئ « لهدمت » بتخفيف الدال وتشديدها.


قوله تعالى: « صوامع وبيع » جمع صومعة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى؛ يقال: صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل: هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبري: قيل هي كنائس اليهود؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.


قوله تعالى: « وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » قال الزجاج والحسن: هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة: الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفي « صلوات » تسع قراءات ذكرها ابن عطية: صلوات، صلوات، صلوات، صلولي على وزن فعولي، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة، [ صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ] . وذكر النحاس: وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ « وصلوب » . وروي عن الضحاك « وصلوث » بالثاء معجمة بثلاث؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها.

قلت: فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس: ( الصلوات الكنائس ) . أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد: هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم حقيقة. وقال الحسن: هدم الصلوات تركها، قطرب: هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية: والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس: « يذكر فيها اسم الله » الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون « يذكر فيها اسم الله » عائدا على المساجد لا على غيرها؛ لأن الضمير يليها. ويجوز أن يعود على « صوامع » وما بعدها؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر؛ كما أخر السابق في قوله: « فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات » [ فاطر: 32 ] .



قوله تعالى: « ولينصرن الله من ينصره » أي من ينصر دينه ونبيه. « إن الله لقوي » أي قادر. قال الخطابي: القوي يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه. « عزيز » أي جليل شريف؛ قال الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.



الآية: 41 ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )


قال الزجاج: « الذين » في موضع نصب ردا على « من » ، يعني في قوله: « ولينصرن الله من ينصره » . وقال غيره: « الذين » في موضع خفض ردا على قوله: « أذن للذين يقاتلون » ويكون « الذين إن مكناهم في الأرض » أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس: ( المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان ) . وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك؛ وهذا حسن. قال سهل بن عبدالله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.



الآيات: 42 - 44 ( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير )


هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر. « وكذب موسى » أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. « فأمليت للكافرين » أي أخرت عنهم العقوبة. « ثم أخذتهم » فعاقبتهم. « فكيف كان نكير » استفهام بمعنى التغيير؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، والمنكر واحد المناكير.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى - صفحة 10 Empty رد: تفسير القرآن الكريم .. تفسير القرطبى

مُساهمة من طرف هدى من الله الأحد أبريل 07, 2013 1:25 am

تابع تفسير القرطبى لسورة الحج
=============




الآية: 45 ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد )


قوله تعالى: « فكأين من قرية أهلكناها » أي أهلكنا أهلها. وقد مضى في « آل عمران » الكلام في كأين. « وهي ظالمة » أي بالكفر. « فهي خاوية على عروشها » تقدم في الكهف. « وبئر معطلة وقصر مشيد » قال الزجاج: « وبئر معطلة » معطوف على « من قرية » أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر. والفراء يذهب إلى أن « وبئر » معطوف على « عروشها » . وقال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب؟ فقال: إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما. وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما؛ إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. ومعنى « معطلة » متروكة؛ قاله الضحاك. وقيل: خالية من أهلها لهلاكهم. وقيل: غائرة الماء. وقيل: معطلة من دلائها وأرشيتها؛ والمعنى متقارب. « وقصر مشيد » قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. قال عدي بن زيد:

شاده مرمرا وجلله كلـ ـسا فللطير في ذراه وكور

أي رفعه. وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد: مجصص؛ من الشيد وهو الجص. قال الراجز:

لا تحسبني وإن كنت امرأ غمرا كحية الماء بين الطين والشيد

وقال امرؤ القيس:

ولا أطما إلا مشيدا بجندل

وقال ابن عباس: ( « مشيد » أي حصين ) ؛ وقال الكلبي. وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع. وقال الجوهري: والمشيد المعمول بالشيد. والشيد ( بالكسر ) : كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط، وبالفتح المصدر. تقول: شاده يشيده شيدا جصصه. والمشيد ( بالتشديد ) المطول. وقال الكسائي: « المشيد » للواحد، من قوله تعالى: « وقصر مشيد » والمشيد للجمع، من قوله تعالى: « في بروج مشيدة » . [ النساء: 78 ] . وفي الكلام مضمر محذوف تقديره: وقصر مشيد مثلها معطل. ويقال: إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته. وأصحاب القصور ملوك الحضر، وأصحاب الآبار ملوك البوادي؛ أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس، وكانت بعدن باليمن بحضرموت، في بلد يقال له حضور، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمي المكان حضرموت؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلا يقال له العلس بن جلاس بن سويد؛ فيما ذكر الغزنوي. الثعلبي: جلهس بن جلاس. وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن ( بالنون ) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس، وأخر للدواب، وأخر للبقر، وأخر للغنم. والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون، ولم يكن لهم ماء غيرها. وطال عمر الملك الذي أمروه، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم. فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم؛ ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته. فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب. وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم؛ فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر. فأصفقوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، كان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم، وأن الله لا يتمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته؛ فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر؛ فعند ذلك أصابتهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشا؛ حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك، وخلفتهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر وشوك العضاه والقتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد، نعوذ بالله من سطواته؛ ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.

قال السهيلي. وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس، وإقفاره بعد العمران، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادروا وما عدوا؛ فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة؛ نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل. وقيل: إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة « الأنبياء » في قوله: « وكم قصمنا من قرية » [ الأنبياء: 11 ] . فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم.



الآية: 46 ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )


قوله تعالى: « أفلم يسيروا في الأرض » يعني كفار مكة فيشاهدوا هذه القرى فيتعظوا، ويحذروا عقاب الله أن ينزل بهم كما نزل بمن قبلهم. « فتكون لهم قلوب يعقلون بها » أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة؛ وما أراها عنه صحيحة. « فإنها لا تعمى الأبصار » قال الفراء: الهاء عماد، ويجوز أن يقال فإنه، وهي قراءة عبدالله بن مسعود، والمعنى واحد، التذكير على الخبر، والتأنيث على الأبصار أو القصة؛ أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة. « لا تعمى الأبصار » أي أبصار العيون ثابتة لهم. « ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » أي عن درك الحق والاعتبار. وقال قتادة: البصر الناظر جعل بلغة ومنفعة، والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين؛ يعني لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت. عينا قلبه فلم يضره عماه شيئا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئا. وقال قتادة وابن جبير: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى. قال ابن عباس ومقاتل: ( لما نزل « ومن كان في هذه أعمى » [ الإسراء: 72 ] قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور » . أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار ) .



الآية: 47 ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون )


قوله تعالى: « ويستعجلونك بالعذاب » نزلت في النضر بن الحارث، وهو قوله: « فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين » [ الأعراف: 70 ] . وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » [ الأنفال: 32 ] . « ولن يخلف الله وعده » أي في إنزال العذاب. قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعملهم الله أنه لا يفوته شيء؛ وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.


قوله تعالى: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون » قال ابن عباس ومجاهد: ( يعني من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ) . عكرمة: يعني من أيام الآخرة؛ أعلمهم الله إذ استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة أنه يأتيهم به في أيام طويلة. قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة؛ أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة. وقيل: المعنى وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة؛ وكذلك يوم النعيم قياسا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « مما يعدون » بالياء المثناة تحت، واختاره أبو عبيد لقوله: « ويستعجلونك » . والباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم.



الآية: 48 ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير )


قوله تعالى: « وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة » أي أمهلتها مع عتوها. « ثم أخذتها » أي بالعذاب. « وإلي المصير » .



الآيات: 49 - 51 ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم، والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم )


قوله تعالى: « قل يا أيها الناس » يعني أهل مكة. « إنما أنا لكم نذير » أي منذر مخوف. وقد تقدم في البقرة الإنذار في أولها. « مبين » أي أبين لكم ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. « فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم » يعني الجنة. « والذين سعوا في آياتنا » أي في إبطال آياتنا. « معاجزين » أي مغالبين مشاقين؛ قال ابن عباس. ( الفراء: معاندين ) . وقال عبدالله ابن الزبير: مثبطين عن الإسلام. وقال الأخفش: معاندين مسابقين. الزجاج: أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم ظنوا أن لا بعث، وظنوا أن الله لا يقدر عليهم؛ وقاله قتادة. وكذلك معنى قراءة ابن كثير وأبي عمرو « معجزين » بلا ألف مشددا. ويجوز أن يكون معناه أنهم يعجزون المؤمنين في الإيمان بالنبي عليه السلام وبالآيات؛ قاله السدي. وقيل: أي ينسبون من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العجز؛ كقولهم: جهلته وفسقته.



الآية: 52 ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم )


قوله تعالى: « تمنى » أي قرأ وتلا. و « ألقى الشيطان في أمته » أي قراءته وتلاوته. وقد تقدم في البقرة. قال ابن عطية: وجاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث » ذكره مسلمة بن القاسم بن عبدالله، ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. قال مسلمة: فوجدنا المحدثين معتصمين بالنبوة - على قراءة ابن عباس - لأنهم تكلموا بأمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة فأصابوا فيما تكلموا وعصموا فيما نطقوا؛ كعمر بن الخطاب في قصة سارية، وما تكلم به من البراهين العالية.

قلت: وقد ذكر هذا الخبر أبو بكر الأنباري قي كتاب الرد له، وقد حدثني أبي رحمه الله حدثنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث » قال أبو بكر: فهذا حديث لا يؤخذ به على أن ذلك قرآن. والمحدث هو الذي يوحي إليه في نومه؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.


قال العلماء: إن هذه الآية مشكلة من جهتين: إحداهما: أن قوما يرون أن الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم مرسلون وفيهم غير مرسلين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال نبي حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » فأوجب للنبي صلى الله عليه وسلم الرسالة. وأن معنى « نبي » أنبأ عن الله عز وجل، ومعنى أنبأ عن الله عز وجل الإرسال بعينه. وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال المهدوي: وهذا هو الصحيح، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا قال: والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ واحتج بحديث أبي ذر، وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

والجهة الأخرى التي فيها الإشكال وهي الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح. وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضا: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان. روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم « والنجم إذا هوى » [ النجم: 1 ] فلما بلغ « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 - 20 ] سها فقال: ( إن شفاعتهم ترتجى ) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا؛ فقال: ( إن ذلك من الشيطان ) فأنزل الله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » الآية. قال النحاس: وهذا حديث منقطع وفيه هذا الأمر العظيم. وكذا حديث قتادة وزاد فيه ( وإنهن لهن الغرانيق العلا ) . وأقطع من هذا ما ذكره الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله قال: سجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة فإنه أخذ ترابا من الأرض فرفعه إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا. ويقال إنه أبو أحيحة سعيد بن العاص، حتى نزل جبريل عليه السلام فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ( ما جئتك به ) ! وأنزل الله « لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا » [ الإسراء: 74 ] . قال النحاس: وهذا حديث منكر منقطع ولا سيما من حديث الواقدي. وفي البخاري أن الذي أخذ قبضة من تراب ورفعها إلى جبهته هو أمية بن خلف. وسيأتي تمام كلام النحاس على الحديث - إن شاء الله - أخر الباب. قال ابن عطية: وهذا الحديث الذي فيه هي الغرانيق العلا وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة؛ بها وقعت الفتنة. ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ على لسانه. وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ، وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 - 20 ] وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها. وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي. وقيل: الذي ألقى شيطان الإنس؛ كقوله عز وجل: « والغوا فيه » [ فصلت: 26 ] . قتادة: هو ما تلاه ناعسا.

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا: اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ إلا ما رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( فيما أحسب، الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة... ) وذكر القصة. ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ « والنجم » بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.

وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين. والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها. ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة، وقد قال الله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي » الآية.

قلت: وهذا التأويل، أحسن ما قيل في هذا. وقد قال سليمان بن حرب: إن « في » بمعنى عنده؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله عز وجل: « ولبثت فينا » [ الشعراء: 18 ] أي عندنا. وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي، وقال قبله: إن هذه الآية نص في غرضنا، دليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه أنه قاله؛ وذلك أن الله تعالى قال: « وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته » أي في تلاوته. فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي. تقول: ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به. ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال: وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده في النظر؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوب على هذا المرمى، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد.

وأما غيره من التأويلات فما حكاه قوم أن الشيطان أكرهه حتى قال كذا فهو محال؛ إذ ليس للشيطان قدرة على سلب الإنسان الاختيار، قال الله تعالى مخبرا عنه: « وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي » [ إبراهيم: 22 ] ؛ ولو كان للشيطان هذه القدرة لما بقي لأحد من بني آدم قوة في طاعة، ومن توهم أن للشيطان هذه القوة فهو قول الثنوية والمجوس في أن الخير من الله والشر من الشيطان. ومن قال جرى ذلك على لسانه سهوا قال: لا يبعد أنه كان سمع الكلمتين من المشركين وكانتا على حفظه فجرى عند قراءة السورة ما كان في حفظه سهوا؛ وعلى هذا يجوز السهو عليهم ولا يقرون عليه، وأنزل الله عز وجل هذه الآية تمهيدا لعذره وتسليه له؛ لئلا يقال: إنه رجع عن بعض قراءته، وبين أن مثل هذا جرى على الأنبياء سهوا، والسهو إنما ينتفي عن الله تعالى، وقد قال ابن عباس: ( إن شيطانا يقال له الأبيض كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل عليه السلام وألقى في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترتجى ) . وهذا التأويل وإن كان أشبه مما قبله فالتأويل الأول عليه المعول، فلا يعدل عنه إلى غيره لاختيار العلماء المحققين إياه، وضعف الحديث مغن عن كل تأويل، والحمد لله. ومما يدل على ضعفه أيضا وتوهينه من الكتاب قوله تعالى: « وإن كادوا ليفتنونك » [ الإسراء: 73 ] الآيتين؛ فإنهما تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكان يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال عليه الصلاة والسلام: افتريت على الله وقلت ما لم يقل. وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح؛ فكيف ولا صحة له. وهذا مثل قوله تعالى: « ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء » [ النساء: 113 ] . قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعده بالإيمان به إن فعل ذلك، فما فعل! ولا كان ليفعل! قال ابن الأنباري: ما قارب الرسول ولا ركن. وقال الزجاج: أي كادوا، ودخلت إن واللام للتأكيد. وقد قيل: إن معنى « تمنى » حدث، لا « تلا » . روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( « إلا إذا تمنى » قال: إلا إذا حدث « ألقى الشيطان في أمنيته » ) قال: في حديثه « فينسخ الله ما يلقي الشيطان » قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيطة فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون؛ ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك؛ فيبطل ما يلقي الشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وحكى الكسائي والفراء جميعا « تمنى » إذا حدث نفسه؛ وهذا هو المعروف في اللغة. وحكيا أيضا « تمنى » إذا تلا. وروي عن ابن عباس أيضا وقاله مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال أبو الحسن بن مهدي: ليس هذا التمني من القرآن والوحي في شيء، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صفرت يداه من المال، ورأى ما بأصحابه من سوء الحال، تمنى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان. وذكر المهدوي عن ابن عباس أن المعنى: ( إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ) ؛ وهو اختيار الطبري.

قلت: قوله تعالى: « ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة » الآية، يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة؛ فالله أعلم. قال النحاس: ولو صح الحديث واتصل إسناده لكان المعنى فيه صحيحا، ويكون معنى سها أسقط، ويكون تقديره: أفرأيتم اللات والعزى؛ وتم الكلام، ثم أسقط ( والغرانيق العلا ) يعني الملائكة ( فإن شفاعتهم ) يعود الضمير على الملائكة. وأما من روى: فإنهن الغرانيق العلا، ففي روايته أجوبة؛ منها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا؛ لأن قبله « أفرأيتم » ويكون هذا احتجاجا عليهم؛ فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة. وقد روى في هذه القصة أنه كان مما يقرأ: أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. والغرانقة العلا. وأن شفاعتهن لترتجى. روى معناه عن مجاهد. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلا الملائكة؛ وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة. وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون [ أن ] الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله تعالى عنهم، ورد عليهم في هذه السورة بقوله « ألكم الذكر وله الأنثى » فأنكر الله كل هذا من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح؛ فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك، نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، كما نسخ كثير من القرآن؛ ورفعت تلاوته. قال القشيري: وهذا غير سديد؛ لقوله: « فينسخ الله ما يلقي الشيطان » أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة. « والله عليم حكيم » « عليم » بما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. « حكيم » في خلقه.



الآية: 53 ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد )


قوله تعالى: « ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة » أي ضلالة. « للذين في قلوبهم مرض » أي شرك ونفاق. « والقاسية قلوبهم » فلا تلين لأمر الله تعالى. قال الثعلبي: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح؛ وهو معنى قوله: « فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته » . ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما يضاف إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن ثم ينشد شعرا ويقول: غلطت وظننته قرآنا. « وإن الظالمين لفي شقاق بعيد » أي الكافرين لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في « البقرة » والحمد لله وحده.



الآية: 54 ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم )


قوله تعالى: « وليعلم الذين أوتوا العلم » أي من المؤمنين. وقيل: أهل الكتاب. « أنه » أي أن الذي أحكم من آيات القرآن هو « الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم » أي تخشع وتسكن. وقيل: تخلص. « وإن الله لهادي الذين آمنوا » قرأ أبو حيوة « وإن الله لهاد الذين آمنوا » بالتنوين. « إلى صراط مستقيم » أي يثبتهم على الهداية.



الآية: 55 ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم )


قوله تعالى: « ولا يزال الذين كفروا في مرية منه » يعني في شك من القرآن؛ قال ابن جريج. وغيره: من الدين؛ وهو الصراط المستقيم. وقيل: مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير ثم ارتد عنها. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « في مرية » بضم الميم. والكسر أعرف؛ ذكره النحاس. « حتى تأتيهم الساعة » أي القيامة. « بغتة » أي فجأة. « أو يأتيهم عذاب يوم عقيم » قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. النحاس: سمي يوم القيامة عقيما لأنه ليس يعقب بعده يوما مثله؛ وهو معنى قول الضحاك. والعقيم في اللغة عبارة عمن لا يكون له ولد؛ ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكانت الأيام تتوالى قبل وبعد، جعل الاتباع فيها بالبعدية كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد عذاب يوم بدر، ومعنى عقيم لا مثل له في عظمه؛ لأن الملائكة قاتلت فيه. ابن جريج: لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء فصار يوما لا ليلة له. وكذلك يكون معنى قول الضحاك أنه يوم القيامة؛ لأنه لا ليلة له. وقيل: لأنه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وكان عقيما من كل خير؛ ومنه قوله تعالى: « إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم » [ الذاريات: 41 ] أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر ولا رحمة.



الآيتان: 56 - 57 ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين )



قوله تعالى: « الملك يومئذ لله يحكم بينهم » يعني يوم القيامة هو لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع. والملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. ثم بين حكمه فقال: « فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين » .

قلت: وقد يحتمل أن تكون الإشارة بـ « يومئذ » ليوم بدر، وقد حكم فيه بإهلاك الكافر وسعادة المؤمن؛ وقد قال عليه السلام لعمر: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) .



الآيتان: 58 - 59 ( والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين، ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم )


أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقتلوا تفضيلا لهم وتشريفا على سائر الموتى.

وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله. وقال بعضهم: هما سواء، واحتج بالآية، وبقوله تعالى: « ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله » [ النساء: 100 ] ، وبحديث أم حرام؛ فإنها صرعت عن دابتها فماتت ولم تقتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنت من الأولين ) ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبدالله بن عتيك: ( من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المآب ) . وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غزاة بمنجنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له: تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ ثم تلا قوله تعالى: « والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا » الآية كلها. وقال سليمان بن عامر: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفي؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اقرؤوا قوله تعالى: « والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا » . كذا ذكره الثعلبي في تفسيره، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك. واحتج من قال: إن للمقتول زيادة فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الجهاد أفضل؟ قال: ( من أهريق دمه وعقر جواده ) . وإذا كان من أهريق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول. قرأ ابن عامر وأهل الشام « قتلوا » بالتشديد على التكثير. الباقون بالتخفيف. « ليدخلنهم مدخلا يرضونه » أي الجنان. قراءة أهل المدينة « مدخلا » بفتح الميم؛ أي دخولا. وضمها الباقون، وقد مضى في الإسراء. « وإن الله لعليم حليم » قال ابن عباس: عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
هدى من الله
هدى من الله
Admin
Admin

الجنس : انثى
عدد المساهمات : 10627
نقاط : 15580
تاريخ التسجيل : 24/07/2012

https://lolo1958.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 10 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 6 ... 9, 10, 11 ... 15 ... 20  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى